المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيلمحة موجزة حول منهج دين الله - كواشف زيوف

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌فاتِحَة الكِتَاب

- ‌خِطّةُ الكِتَابْ

- ‌القِسمُ الأوّل مِنَ الكِتَابمقدمات عامة

- ‌الباب الأولتَعريفٌ بمَنَاخِ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة

- ‌مَقَدِّمَة عَامَّة

- ‌الفصْل الأوّلمُنَاخ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة في أوربَّا

- ‌الفصْل الثانيتحرّك اليَهُود مُسْتَغلّينَ المنَاخ الملَائِمَ في أورُبَّا

- ‌الفصل الثالث: أسبَابُ تَقبّل شعُوب الأمَّةِ الإسْلاميَّة لوافدات المذاهب الفكرية المعاصرة

- ‌الباب الثانيوَسَائِل التّضليل لِتَرويج الشِّعَارَاتوالآراء والمذاهب الفكرية المزيفة

- ‌الفصْل الأوّلالخطّة العَامّة

- ‌الفصْل الثانيالمغَالَطاتُ الجَدَليّة

- ‌الفصْل الثالثلعبَة تطبيْق المنهَج العِلْميّ الخاصْ بالجَبريّاتْعلى السلوك الإرادي عند الإنسان

- ‌القِسمُ الثاني مِنَ الكِتَابعَرض لأهَمِّ الشعَارات البرّاقة المزيّفّةوَلآرَاء وَمذاهبْ فكريّة معَاصِرة جزئيّةمُنبثقة في عُلوم مختلفة مع كشف زيوفها وتعريفْ بأئِمتهَا

- ‌الباب الأولمقدِّمات حَولَ اعتِمَاد العَقْل وَالعِلْم الإنسَانيبديلاً للدِّين

- ‌الفصْل الأوّلالعَقلَانيَّة

- ‌الفصْل الثانيالعِلمَانيّة

- ‌الباب الثانيافتِراءَات ترَوَّج ضدّ الدّين وَالأخلَاقوَالقَوانين وَالنُظم المنبثقة عَنْهما

- ‌الفصْل الأوّلفريَة التّنَاقض بَيْن العَقل وَالدّينوبَينَ العلم والدّين

- ‌الفصْل الثانيمَزاعِمُ المُضلِّين لِهَدْم أسُس الأخلَاقوأبنيتها وتطبيقاتها في المجتمع

- ‌البَاب الثَالثْخِدَاع الشِّعَارَاتالتي يتولد عنها في الرأي العام مسلمات خاطئات وموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌المقدمة

- ‌الفصْل الأوّلالحُريّة

- ‌الفصْل الثانيالمُسَاوَاة

- ‌الفصْل الثالثالتقَدّميَّة والرَّجْعيَّة

- ‌الفصْل الرابعالاشتِراكيّة

- ‌الفصْل الخامِسْالوَطنيَّة وَالقَوميَّة وَالإنسَانيّةوموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌البَاب الرَّابعْأئمّة وَمَذاهِبُ جُزئيّة في عُلُوم مختَلِفَة

- ‌الفصْل الأوّلفروُيْد وَمَدرَسَتُه في عِلْم النّفْس

- ‌الفصْل الثانيدَارْوين وَمَذهَبُ التطوُّر

- ‌الفصْل الثالثدوركايْم وَآرَاؤه في علْم الاجتِمَاعِ

- ‌الفصْل الرابعبرجْسُون وَآرَاؤهُ في نَشأةِ الدّين وَالأخلَاق

- ‌الفصْل الخامِسْسَارْتر وَآراؤهُ الفَلسَفيَّة في الوُجُوديّة

- ‌الفصْل السادسمْكيافيلّي وَفِكرَة: الغاية تبرر الوسيلة

- ‌الفصْل السّابعمَارْكوز وَآرَاؤهُ الثّوريَّةلإقامة ديكتاتورية حكم الأقلية الواعية

- ‌الفصْل الثامِنأوجسْت كونتْوَدين الإنسَانيّة

- ‌القِسمُ الثّالِث مِنَ الكِتَابأئِمة وَمَذاهِبْ فِكريّة معَاصِرَة كَبيرَة

- ‌البَابْ الأوَّلالماديَّة الإلحاديّة وَالماديّون

- ‌الفصْل الأوّلمقدّمات عامة

- ‌الفصْل الثانيأئمّة مَادِّيّون وَنُبّذٌ مِنْ آرَائهم الفَلْسَفيَّةِ الإلحَادية

- ‌الفصل الثالثأسُسُ الفِكْر المادّي الإلحَادي

- ‌الفصل الرابعكشفُ زيُوف أفْكار المادّيّين وَجَدَليَّتِهِم

- ‌الفصل الخامسعقوبَة العَذابْ النّفسِيّ للمُلْحِدينَ

- ‌الفصل السادسالمادية الجدلية في الكون والتاريخ الإنساني

- ‌الباب الثانيالنُّظمُ الاقتِصَاديّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنظرة تاريخيَّة حَول المذاهبْ الوَضْعيَّةللنظم الاقتصادية

- ‌الفصل الثانيلمحّة مُوجَزَة حَول مَنهج دين الله

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين المذاهب الاقتصادية

- ‌الفصل الرابعنظرات متفرقة

- ‌الباب الثالثالنّظمُ السِيَاسيَّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنَظرَة تاريخيَّة حَولَ المذاهِبْ الوَضْعيَّةلِلنُظم السيَاسيّة

- ‌الفصل الثانيلمحَة مُوجَزَة حَول مَنهَجْ دين اللهِ للنّاسِفي شؤون الحكم

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين النظم السياسية

- ‌الفصل الرابعمتفرقات

الفصل: ‌الفصل الثانيلمحة موجزة حول منهج دين الله

‌الفصل الثاني

لمحّة مُوجَزَة حَول مَنهج دين الله

(1)

الغاية من خلق الإنسان

من يُخلَق لأمر أو يُصنع لأمر، فكمال الحكمة يقتضي أن يُزوّدَ بكلّ الصفات التي تؤهّله لوظائف ذلك الأمر. وأن تُهيّأ له الظروف والأسباب والوسائل للقيام بهذه الوظائف.

وقد علمنا عقلاً وشرعاً أن الإنسان قد خلقه الله ليمتحنه، ثم ليحاسبه، ثم ليجازيه، بحسب ما قدّم في امتحانه وما أخر، مما يملك التصرف فيه.

ولا بد أن يكون الجزاء: إما بالثواب على الصالحات أو الحرمان منه للتهاون فيها. وإما بالعقاب على السيئات أو الإعفاء منه لأمور تقتضي ذلك.

ولما كانت طبيعة درجات العمل الحسن بعد النجاة من العقاب قابلة للتفاضل، بحسب التسابق في فعل الخير، كانت الحكمة تقتضي أن يكون الثواب متفاضلاً، ومناسباً لحسن العمل، فالأحسن عملاً هو الأعظم ثواباً.

ولما كانت طبيعة دركات العمل السيّءِ المقتضي للعقاب قابلةً للتنازل، والتسفّل، بحسب التوغل في فعل الشرّ والمسارعة في الإثم

ص: 603

والعدوان، كانت الحكمة تقتضي أن يكون العقاب متفاوتاً، ومناسباً لسوء العمل، فالأكثر اكتساباً للإثم والشر هو المستحق للعقاب الأكثر.

(2)

الشروط اللازمة لامتحان الإنسان

أما الشروط اللازمة لامتحان الإنسان: فالإرادة الحرة، والإدراك الواعي، والتمكين من تنفيذ المطلوب في الامتحان ومن عدم تنفيذه، والمادة التي يجري فيها الامتحان وزمانه، وعقبة الامتحان.

وقد حقق الرب الخالق للإنسان الممتَحن الشروط اللازمة لامتحانه، كلٌّ بحسبه.

فمنحه الله الإرادة الحرة، والإدراك الواعي المساوي لما يلزم لامتحانه، والتمكين من تنفيذ المطلوب منه في امتحانه ومن عدم تنفيذه، وكل ذلك ظاهر.

أما المادة التي يجري فيها امتحانه فهي عبادة ربه بالإيمان به وبطاعته، والتقيّد بأحكام الإلزام والترغيب والإباحة التي شرعها له، في كل حركات حياته وسكناتها الإرادية، الظاهر منها والباطن.

ومكان الامتحان هو هذه الأرض ومجالات انطلاقه حولها. وزمان الامتحان مدة مسؤوليته في هذه الحياة الدنيا، التي تنتهي بانتهاء أجله فيها.

وأما عقبة الامتحان: فهي تكليفه بما يخالف مطلوب نفسه أو جسده، من شهوة، أو هوى أو كبر أو طمع أو خوف أو راحة أو مشقة أو جبن أو شح أو حقد أو حسد أو حب أو كراهية أو غير ذلك من مطالب نفسه أو جسده التي تحركها غرائزه ودوافعه، ويملك بإرادته تلبيتها أو مخالفتها.

وقد من الله على عباده فجعل تكليفه إياهم مقروناً بما يحقق

ص: 604

مصالحهم وسعادتهم في الحياة الدنيا، وجعل مخالفتهم لمنهجه استجابة لمطالب نفوسهم أو أجسادهم، مما يجلب لهم المفاسد والمضار وشقاء نفوسهم وآلام أجسادهم ولو بعد حين.

وإنما كان هذا الامتحان في عقبة، لأنه لا يتحقق امتحان صحيح بدون عقبة، كذلك امتحانات الناس بعضهم لبعض، ولأن النجاح والفلاح فيه، لا يتمّان إلا باقتحام عقبة من عقبات النفس الأمارة بالسوء، وذلك بمخالفة مطلوبها من الدنيا، ومخالفة النفس أمرٌ شاقٌّ يتطلب اقتحاماً، قبل أن يصبح بالعادة سجية.

ويكون ذلك في كل مجالات حركات الإنسان وسكناته الإرادية، الظاهرة والباطنة، وكل ما يملك أسبابه مما وضع الله تحت سلطة اختياره، وكل ما يملك توجيهه بإرادته.

(3)

الأدلة من النصوص

1-

قال الله عز وجل في سورة (الإنسان/76 مصحف/98 نزول) :

{إنا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً * إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً} .

أمشاج: أي أخلاط، وهي العناصر المختلفة المختلطة التي تتكون منها النطفة، التي يخلق الله منها الإنسان.

نبتليه: أي نختبره ونمتحنه، والابتلاء والبلاء في اللغة بمعنى الامتحان.

فالله خلق الإنسان ليمتحنه في ظروف هذه الحياة الدنيا وأوضاعها.

2-

وقال الله عز وجل في سورة (الملك/67 مصحف/77 نزول) :

{تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيءٍ قدير * الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور} .

ص: 605

فأبان هذا النص الغاية من خلق الناس، وهم المخاطبون به، فقال الله تعالى:{ليبلوكم} أي: ليختبركم ويمتحنكم {أيكم أحسن عملاً} أي: وما دون ذلك، حتى أدنى الدركات.

وأبان أن زمن هذا الابتلاء ينتهي بالموت الذي خلقه الله كما خلق الحياة.

وقال تعالى: {وهو العزيز} أي: الغالب القادر على معاقبة عصاتكم، ومكافأة طائعيكم ومحسنيكم "الغفور" أي: المتجاوز عن بعض عصاتكم إذا اقتضت حكمته ورحمته ذلك.

3-

قال الله عز وجل في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :

{ولكلٍ درجات مما عملوا وما ربك بغافلٍ عما يعملون} .

وقال في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول) :

{ولكلٍ درجاتٌ مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يُظلمون} .

فدل هذان النصان على تفاوت درجات الجزاء عند الله، مقابل تفاوت درجات أعمال العاملين في مدة امتحانهم في الحياة الدنيا.

4-

وقال الله عز وجل في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول) :

{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها

*} .

وقال تعالى في سورة (المزمل/73 مصحف/3 نزول) و (الإنسان/76 مصحف/98 نزول) :

{إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً}

والإنسان آية (29) .

وقال تعالى في سورة (المدثر/74 مصحف/4 نزول) :

{نذيراً للبشر * لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر * كل نفسٍ بما كسبت رهينة} .

وقال فيها أيضاً:

{كلا إنه تذكرة * فمن شاء ذكره} .

وقال تعالى في سورة (النبأ/78 مصحف/80 نزول) :

ص: 606

{ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا} .

وقال تعالى في سورة (التكوير/81 مصحف/7 نزول) :

{إن هو إلا ذكرٌ للعالمين * لمن شاء منكم أن يستقيم} .

فدلت هذه النصوص على أن الله قد منح الإنسان حرية المشيئة، الملاحقة بالمسؤولية والحساب والجزاء.

5-

وقال الله عز وجل في سورة (فصلت/41 مصحف/61 نزول) :

{اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير} .

وقال تعالى في سورة (الزمر/39 مصحف/59 نزول) :

{قل الله أعبدُ مخلصاً له ديني * فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين} .

فدل هذان النصان على التمكين القدريّ من تنفيذ المطلوب في الامتحان ومن عدم تنفيذه، هذا ما لم تقض حكمة القدر بعدم التمكين في أمر خاص.

6-

وقال الله عز وجل في سورة (الذاريات/51 مصحف/67 نزول) :

{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} .

فدلت هذه الآية على أن المطلوب في الامتحان هو عبادة الله تعالى، وعبادته عز وجل تكون بالإيمان به، وبالخضوع والتسليم له، وبطاعته في أوامره ونواهيه.

7-

وقال الله عز وجل في سورة (البلد/90 مصحف/35 نزول) في سياق الحديث عن الإنسان:

{وهدينه النجدين * فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك

ص: 607

رقبة * أو إطعامٌ في يوم ذي مسغبة * يتيماً ذا مقربة * أو مسكيناً ذا متربة * ثم كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} .

وهديناه النجدين: أي طريقي الخير والشر في سلوكِه ضمن رحلة ابتلائه.

فلا اقتحم العقبة: أي: فلم يقتحم عقبة نفسه، بمجاهدتها ومخالفة أهوائها. أو فهلا اقتحم عقبة نفسه بذلك.

وضرب الله أمثلة للعقبة التي يقتحمها من اختار نجد الخير فقال: {فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيماً ذا مقربة. أو مسكيناً ذا متربة} إلى آخر النص.

فأبان هذا النص عقبة النفس في ساحة امتحانها.

8-

قال الله عز وجل في سورة (النازعات/79 مصحف/81 نزول) :

{وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى} .

فأبان هذا النص أن مسؤولية الإنسان موجهة لأن ينهى نفسه عن الهوى، مدفوعاً إلى ذلك بخوفه من مقام ربه.

إلى غير ذلك من نصوص كثيرة.

(4)

مجال المال تملكاً وكسباً وإنفاقاً من مجالات امتحان الإنسان

والمال أحد مجالات امتحان الإنسان في الحياة الدنيا، وحركة الإنسان في هذا المجال تكون بكسبه، وامتلاكه، وجمعه، ومنعه، وإنفاقه، وما يتعلق به من حقوق.

والامتحان في ذات المال يكون بتدخل القضاء والقدر في بسطه وتوسعته، أو تقديره وتضيقه.

ص: 608

ويمر الامتحان بالمال على طمع الإنسان وقناعته ورضاه، وعلى خوفه وجزعه، وعلى حسده وتسخطه، وعلى إسرافه وتبذيره، وعلى بخله وشحه وجوده وسخائه والعدل والظلم بسببه إلى غير ذلك من رغبات النفس.

ولا تتم هذه الصور من الامتحان إلا بجعل قاعدة التمليك أساساً من أسس شريعة الله للناس في مجال المال.

واستكمالاً لظروف الامتحان الأمثل في هذا المجال جعل الله في فطر النفوس البشرية حب التملك، فهو أحد الدوافع الأساسية في النفس الإنسانية.

وتفضيلاً لمظاهر الامتحان في مجال الأموال، يمكن التركيز على العناصر التالية:

1-

التكليف بالسعي لكسب الرزق وسائر مطالب الحياة، وأن لا يكون الإنسان كلاً على غيره ما وجد لكسب معايشه سبيلاً.

2-

إقرار مبدأ حقوق التملك المشروع بين الناس، وتكليف الناس مراعاتها، وعدم العدوان عليها والظلم فيها، وامتحان طاعتهم في ذلك.

3-

تكليف الناس التزام منهج الله في كسب المال، فلا يكسبونه بما نهى الله عنه من طرق ووسائل ووجوه، وامتحان طاعتهم في ذلك.

4-

تكليف الناس التزام منهج الله في إنفاق المال، فلا ينفقونه فيما نهى الله عنه من طرق ووسائل ووجوه، وامتحان طاعتهم في ذلك.

5-

ترتيب حقوق فيما يملك الإنسان من مال لمن تجب عليه نفقته من أسرته وأهله، وللفقراء والمساكين ونحوهم، ولمصالح المجتمع العامة، وتكليفه أداءها لمستحقيها، وامتحان طاعته في ذلك.

6-

ترغيب ذوي الأموال بالإنفاق منها في وجوه الخير الكثيرة ابتغاء مرضاة الله، وإطلاق ميدان التسابق في ذلك، ليظفروا بالأجر العظيم الذي

ص: 609

أعده الله للمتقين والأبرار والمحسنين، ينال منه كلٌّ منهم بحسب إنفاقه وإخلاصه لربه في عمله.

7-

تزهيد الناس بمتاع الحياة الدنيا وعدم الافتتان بها، وعدم استخدام الأموال في الترف والإسراف والتبذير، وامتحان إرادتهم ونفوسهم في هذا المجال.

8-

امتحان سلوك الناس النفسي أمام موجبات الصبر والشكر والقناعة والبذل، واجتناب الحسد والبخل والشح والظلم والعدوان، وكف الطمع والهلع، وضبط النفس عن المعاصي والمحرمات والتسخط على الله، وإلزام النفس بالرضا بمقاديره والتسليم له، وتمكين الإيمان بأن بسط الرزق وتضييقه كلاهما مظهران من مظاهر الامتحان في هذه الحياة الدنيا، وأن بسط الرزق قد يكون نقمة على صاحبه، وتضييقه قد يكون نعمة من نعم الله عليه.

وتحقيقاً لمقتضيات الامتحان الأمثل في مجال الأموال تمَّ بقضاء الله التكويني والتشريعي ما يلي:

الأمر الأول: تدخل القضاء والقدر بمقدار ما يصيب الإنسان من أموال، بكسبه في عمله، أو بوسائل أخرى كالإرث والهبة، وتفضيل الناس بعضهم على بعض في ذلك، لامتحان كل بما قسم الله له من معيشة في الحياة الدنيا.

فيبسط الله الرزق لمن يشاء من عباده، ويقدر الرزق عمن يشاء، ليمتحن المبسوط له في المال بحسب ما وهبه من خصائص نفسية، وليمتحن المقدور عليه في المال بحسب ما وهبه من خصائص نفسية، وقد يقلب الله الإنسان في حياته بين التوسعة والتضييق، بحسب ما وهبه من خصائص نفسية، ليمتحنه بكل منهما.

ففي حالة التوسعة يكون امتحان مدى طاعة الإنسان لربه أمام عقبات شحه وبخله، وكبره وعجبه وتنكره لفضل بارئه عليه، وهواه في الإسراف

ص: 610

والتبذير، وهواه في استخدام ما وهبه في معاصي الله والصد عن سبيله، إلى غير ذلك مما يصعب إحصاؤه.

وفي حالة التضييق يكون امتحان مدى طاعة الإنسان لربه أمام عقبات طمعه وحسده وصبره وهواه في السعة وحبه للمال وتذمره من مقادير بارئه واستجابته لمن يغريه بالمال ليكفر بربه ويسخر نفسه في الصد عن سبيل الله أو ليعصي الله في أمر من الأمور إلى غير ذلك مما يصعب إحصاؤه.

وعند نزول المصائب في الأموال يمتحن صبر الإنسان تجاه مصائب ربه، ومدى احتماله ورضاه عن مقادير الله في ذلك.

ولم يبسط الله الرزق لكل الناس لئلا يبغوا بغياً مدمراً.

دل على هذه المقادير وعلى الغاية منها عدة نصوص قرآنية، منها النصوص التالية:

1-

قول الله عز وجل في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) :

{إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيراً بصيراً} .

ويقدر: أي ويضيق ويقلل. ويضع سبحانه كلاً من البسط والتضييق حيث يرى هو الحكمة في امتحان الإنسان، لأنه بعباده خبير بصير.

2-

وقول الله عز وجل في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول) :

{ألم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يؤمنون} .

3-

وقول الله عز وجل في سورة (العنكبوت/29 مصحف/85 نزول) :

{الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم} .

4-

وقول الله عز وجل في سورة (الفجر/89 مصحف/10 نزول) :

ص: 611

{فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا}

أي فكل من التوسعة والتضييق للابتلاء، فلا التوسعة إكرام، ولا التضييق إهانة.

5-

وقول الله عز وجل في سورة (الزخرف/43 مصحف/63 نزول) :

{نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا ورحمت ربك خيرٌ مما يجمعون * ولولا أن يكون الناس أمةً واحدةً لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون * وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة والدنيا والآخرة عند ربك للمتقين} .

أي: ولولا خشية أن يفتن الناس عن دينهم فيكونوا جميعاً أمةً واحدة كافرة، لفضل الله الكافرين على المؤمنين بمتاع الحياة الدنيا وزخارفها، لأنها في نظر الله لا تساوي جناح بعوضة.

فاقتضت حكمة الابتلاء أن تكون قسمة الله موزعة على الجميع، فيكون في المؤمنين أغنياء وفقراء، ويكون في الكافرين أغنياء وفقراء.

6-

وقول الله عز وجل في سورة (الشورى/42 مصحف/62 نزول) :

{ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدرٍ ما يشاء إنه بعباده خبيرٌ بصير} .

فما نشاهده في الأرض من قحط وجدب وجوائحٍ أحياناً إنما تجري به المقادير الربانية لحكمة كف جماح الناس عن البغي في الأرض، مع ابتلائهم بالمصائب.

إلى غير ذلك من نصوص كثيرة.

الأمر الثاني: تعرض الإنسان للمصائب المالية في الحياة الدنيا،

ص: 612

لامتحان صبره، ورضاه عن الله، وتسليمه لمقاديره.

دل على هذه الصورة من صور المقادير الربانية، وعلى الغاية منها، عدة نصوص قرآنية، منها ما يلي:

1-

قول الله عز وجل خطاباً للذين آمنوا في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :

{ولنبلونكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} .

2-

وقول الله عز وجل في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :

{لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} .

الأمر الثالث: جعل قاعدة التمسك أساساً من أسس الحقوق التي منحها الله لعباده، وهو تملك استحقاق التصرف بالإضافة إلى سائر الناس، مع بقاء الملك الحقيقي لله عز وجل، فهو المالك لعباده، والمالك لما ملكهم.

فالتملك حقٌّ منحه الله في شريعته لعباده، إذا كان سببه أمراً شرعه الله، وجعله من أسباب التملك، كالكسب المأذون به، والهبة والهدية، والميراث والزكاة والصدقة لمستحقيها.

وحق التملك أمرٌ اتفقت عليه الشرائع الربانية كلها.

أ- فمِمّا قص علينا القرآن من قصص الأولين من ذلك ما يلي:

1-

قول الله عز وجل في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) : بشأن اليهود:

{فبظلمٍ من الذين هادوا حرمنا عليهم طبياتٍ أحلت لهم وبصدهم عن

ص: 613

سبيل الله كثيراً * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً} .

هذا النص يدل على أن حق الملكية مصون في شريعة موسى عليه السلام، لذلك حرم الله عليهم الربا، وأن يأكلوا أموال الناس بالباطل.

2-

وقول الله عز وجل في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) :

{يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذابٍ أليم * يوم يُحمى عليها في نار جهنم فتُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتهم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} .

3-

وقول الله عز وجل في سورة (هود/11 مصحف/52 نزول) :

{وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إلهٍ غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخيرٍ وإني أخاف عليكم عذاب يومٍ محيط * ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقيت الله خيرٌ لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظٍ} .

فحق التملك ولوازم هذا الحق في التعامل مصونة في شريعة الله التي أنزلها على رسوله شعيب عليه السلام.

4-

وقول الله عز وجل في شأن اليهود في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) :

{وترى كثيراً منهم يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون * لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} .

ص: 614

السحت: كل ما لا يحل من الأموال، ومنه الرشوة في الحكم.

5-

وقول الله عز وجل في قصة الخصمين الذين تسوروا المحراب على داود عليه السلام، واستفتوه في حق مالي بينهما، في سورة (ص/38 مصحف/38 نزول) :

{وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على دداود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلٌ ماهم

*} .

أكفلنيها: أي اجعلني كافلاً لها قائماً بشأنها، وهو عدوان على حق.

وعزني: أي وغلبني.

فدل هذا النص على أن الكفالة على الأشياء المالية مقترنة بحق في الشريعة التي كلف الله داود عليه السلام أن يحكم بها.

6-

وقول الله عز وجل في قصة حكم داود وسليمان بقضية عدوان أصحاب الغنم على أصحاب الحرث في سورة (الأنبياء/21 مصحف/73 نزول) :

{وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً..*} .

نفشت فيه غنم القوم: أي رعت فيه ليلاً. يقال لغة: نفشت الغنم إذا رعت ليلاً. وسرحت وسربت وهملت إذا رعت في النهار.

ب- ومما دل على حق التملك ولوازم هذا الحق في الإسلام ما يلي:

1-

قول الله عز وجل في سورة (النور/24 مصحف/102 نزول) في معرض الكلام عن المكاتبين:

ص: 615

{وآتوهم من مال الله الذي آتاكم

} .

فالمال في الحقيقة مال الله، وهو ملكه عز وجل، لأنه هو المالك لكل شيء، وهو الذي آتى عباده من ماله، فملكهم تمليكاً إضافياً، أي: بالإضافة إلى حقوق التعامل فيما بينهم، مع استمرار ملك الله له ولهم، وملك الله لا ينقطع بحالٍ من الأحوال.

2-

وقول الله عز وجل في سورة (يس/36 مصحف/41 نزول) :

{أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون} .

فنسب الله عز وجل ملكية هذه الأنعام إلى مالكيها من الناس، مع أنها من عمل يده عز وجل، وهي وهم ملكه، لأن له ما في السماوات وما في الأرض.

3-

وقول الله عز وجل في سورة (المنافقون/63 مصحف/104 نزول) :

{يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} .

فأضاف الله الأموال إليهم على معنى أنهم مالكوها، وهذه الإضافة كثيرة جداً في القرآن الكريم.

4-

ولما كان الناس يتداولون ملكية الأموال، فيخلف بعضهم بعضاً في ذلك بقضاء الله وقدره، قال الله عز وجل في سورة (الحديد/57 مصحف/94 نزول) :

{آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير} .

فملكية الإنسان للمال ملكية مؤقتة، وهي ملكية استخلاف، على معنى أنه كان لغير المالك، فصار له خلفاً لمالك سابق، ثم يصير لغيره بسبب ما، في حياته أو بعد مماته.

ص: 616

الأمر الرابع: جعل العمل قاعدة الكسب الكبرى لما قسم الله للإنسان من رزق في الحياة الدنيا، ولكن للعمل قيوداً حددها منهج الله لعباده.

ثم الإذن بوجوه أخرى من التملك اقتضتها مصالح اجتماعية وتربوية وتنظيمية مع حكمة الابتلاء التي هي الغاية الكبرى، كالتملك بسبب الهبة والهدية والإرث وإحياء الموات، والسبق إلى مباح عام، وإلى غير ذلك من أسباب التملك المشروع.

وقد دل على العمل الذي هو قاعدة الكسب الكبرى لتملك ما قسم الله للإنسان من أموال قول الله عز وجل في سورة (الملك/67 مصحف/77 نزول) :

{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} .

فامشوا في مناكبها: أي اعملوا بمشقة وتعب لتكسبوا من رزق الله وتأكلوا منه.

ودل على مشروعية التملك بغير المشي في مناكب الأرض في زراعة أو صناعة أو استخراج أو جمع أو صيد أو غير ذلك نصوص كثيرة، منها ما يلي:

1-

ففي تملك ذوي الحاجات ما يبذل إليهم من حق فرضه الله لهم في أموال ذوي الأموال، قال الله عز وجل في وصف المتقين في سورة (الذاريات/51 مصحف/67 نزول) :

{وفي أموالهم حقٌ للسائل والمحروم} .

وقال أيضاً في سورة (المعارج/70 مصحف/79 نزول) :

{والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم} .

2-

وفي تملك ذوي الحاجات ما يبذل إليهم من صدقات ومعونات

ص: 617

زائدة على الزكاة المفروضة، نجد في القرآن نصوصاً كثيرة منها قول الله عز وجل في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :

{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبةٍ أنبتت سبع سنابل في كل سنبلةٍ مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم} .

3-

ومن التملك بغير سبب العمل ما يحصل عليه إمام المسلمين من الفيء الذي لم يصبه المسلمون بغزو ولا قتال، وفيه يقول الله تعالى في سورة (الحشر/59 مصحف/101 نزول) :

{ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولةً بين الأغنياء منكم..} .

4-

ومن التملك بغير سبب العمل ما يحصل عليه الإنسان من ميراث شرعي، أو وصية.

وقد فصل الله في قرآنه العظيم أحكام الميراث تفصيلاً وافياً، وأثبت به حقوقاً للوارثين، والملكية فيه تتم تلقائياً بموجب حكم الله وقسمته للمواريث. كما بين القرآن وجوب تنفيذ الوصية، وبينت السنة شروطها.

5-

ومن التملك بغير سبب العمل تملك النفقة الواجبة التي فرضها الله للزوجة على زوجها، وللأقربين العاجزين الذين لا مال لهم على من تجب عليه نفقتهم.

فمستحق النفقة على غيره يتملكها بمجرد قبضه لها، مع أنه لم يبذل في الحصول عليها أي جهد.

وقد ثبت ذلك في نصوص القرآن والسنة.

6-

ومن التملك بغير سبب العمل الهدية والعطية والمنيحة والعتق إلى غير ذلك من أسباب، والنصوص الإسلامية في ذلك كثيرة جداً.

ص: 618

العمل الفكري

ومن العمل ثمرات الجهد الفكري، والمعارف المكتسبة، فهي قيم مخزونة في أدمغة أصحابها أو قراطيسهم وكتبهم، ومن حقهم أن يعاوضوا عليها، بحسب قيمها في تقدير الناس.

فيبذل مستفيد الفكرة لمقدمها إليه مالاً يعادل ما استفاد منه، كالتعليم وكمشورة طيبة، ومشورة خبير في تجارة أو زراعة أو صناعة أو عمران، وكمشورة مهندس ووسيط بيع وشراء، إلى غير ذلك من أمور كثيرة.

التجارة

ومن أسباب التملك المشروع التجارة، ففي التجارة تختلط عدة أسباب:

* العمل الذي تجلب به السلعة لتكون في متناول راغبيها.

* والفكرة التي قد تُحسِّن اختيار الأجود والأحسن وتنصح به، والخبرة التي لا تكتسب إلا بجهد.

* وتعريض المال الذي تُشترى به السلع للمخاطرة، في احتمالات التلف، واحتمالات الخسارة إذا هبطت الأسعار وكسدت البضاعة.

لكل هذه الأسباب كان تملك الربح فيها معقولاً ومشروعاً، ولذلك قال الله عز وجل في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :

{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ بينكم..} .

الأمر الخامس: تكليف المسلم التزام المنهج الذي جاء في شريعة الله لعباده، المتعلق بالأموال، وفي هذا المنهج ما يلي:

أولاً: بيان الأسباب التي يتحقق بها التملك المشروع، وما يلزم عن التملك من أمور، وما يترتب عليه من حقوق.

ص: 619

ثانياً: بيان الطرق والوسائل والوجوه التي أذن الله بها لاكتساب الأموال، والتي حرم الله اكتساب الأموال بها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أهم هذه الطرق والوسائل والوجوه التي حرم الله اكتساب الأموال بها، وهي:

1-

السرقة، وحدها قطع اليد، قال الله عز وجل في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) :

{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم} .

2-

قطع الطريق لأخذ أموال الناس عنوةً ومحاربة، وحدّه ما جاء في قول الله عز وجل في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) :

{إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفورٌ رحيم} .

وجاء في تفسير تطبيق هذا الحد على المحاربين قطاع الطرق ما رواه الإمام الشافعي عن عبد الله بن عباس أنه قال: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا. وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض.

ثالثاً: الغلول، وهو الأخذ من الغنائم أو من أموال المسلمين العامة بغير قسمة شرعية، أو عطاء مشروع من إمام المسلمين أو وكلائه المأذون لهم بذلك، والغلول خيانة للأمانة.

قال الله عز وجل بشأن الغلول في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :

ص: 620

{وما كان لنبيٍ أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون} .

وقد جاء في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس أنه قال: كان في قطيفة حمراء فقدت في غزوة بدر (أي: من الغنيمة) فقال أناس من أصحاب النبي: فلعل النبي أخذها، فأنزل الله عز وجل الآية.

وجاء في التحذير من الغلول في أموال المسلمين العامة، ما رواه الطبري بسنده عن عروة بن الزبير عن أبي حميد قال: بعث رسول الله مصدقاً (أي: جابياً للزكاة) فجاء بسوادٍ كثير. قال: فبعث رسول الله من يقبضه منه، فلما أتوه جعل يقول: هذا لي، وهذا لكم، قال: فقالوا: من أين لك هذا؟ قال: أهدي إلي.

فأتوا رسول الله فأخبروه بذلك، فخرج فخطب، فقال:

" أيها الناس، ما بالي أبعث قوماً إلى الصدقة، فيجيء أحدهم بالسواد الكثير، فغذا بعثت من يقبضه قال: هذا لي وهذا لكم، فإن كان صادقاً أفلا أهدي له وهو في بيت أبيه، أوفي بيت أمه؟ . ثم قال: أيها الناس، من بعثناه على عمل فغل شيئاً، جاء به يوم القيامة على عنقه يحمله، فاتقوا الله أن يأتي أحدكم يوم القيامة على عنقه بعير له رُغاء، أو بقرة تخور، أوشاة تثغو".

رابعاً: الرشوة، وهي ثمن خيانة الأمانة، أو هي ظلم لصاحب حق لا يمكّن من الوصول إلى حقه إلا ببذلها.

وقد جاء في الحديث النبوي قول الرسول:

"لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما".

ص: 621

خامساً: الغش، وهو سرقة بحيلة دس الرديء في باطن الجيد، أو تقديم الرديء على أنه جيد، وقبض ثمنه على اعتبار أنه جيد.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي قوله: "من غش فليس منا".

سادساً: الربا، وقد وصفه الله بأنه ظلم، وشدد في تحريمه في كتابه المجيد.

سابعاً: عقود المعارضات التي يدخل فيها الغرر، إلا ما لا يمكن الاحتراز منه في المعاملات، ويحتمله الناس عادة في معاملاتهم الدائمة.

ومن الغرر بيع مجهول بمعلوم أو مجهول بمجهول.

ثامناً: هضم الدين مع القدرة على وفائه، واستيلاء الولي على أموال من تحت ولايته كاليتامى.

وكل هذه الأنواع تدخل في عموم أكل أموال الناس بالباطل.

قال الله عز وجل في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :

{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} .

وقال الله عز وجل في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :

{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} .

فجعل الله النهي عن أكل الأموال بالباطل مقترناً بالنهي عن قتل الأنفس وسابقاً عليه، إشارة إلى أن أكل أموال الناس بالباطل قد يفضي إلى قتل الأنفس، فشر شر عظيم.

الأمر السادس: تربية النفوس على فضائل الأخلاق في مجالات حظوظ الناس من الأموال، ومختلف العلاقات المالية فيما بينهم، وامتحان سلوكهم الإداري في ذلك.

ص: 622

1-

مثل قول الله عز وجل في سورة (طه/20 مصحف/45 نزول) :

{ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى} .

أزواجاً: أي أصنافاً. لنفتنهم فيه: أي لنمتحنهم ونختبرهم.

ففي هذه الآية تحذير من الحسد، وتربية للنفس على القناعة والرضا عن الله في مقاديره والتسليم له، وتعليق طمع النفس بما ادخر الله للمتقين من أجر.

وفي قصة "قارون" الواردة في سورة "القصص" الآيات من (76 إلى 83) درس عظيم في هذا المجال.

2-

ومثل قول الله عز وجل في سورة (التغابن/64 مصحف/108 نزول) :

{وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} .

ففي هذه الآية توجيه للإنفاق لتُربَّى النفوس على التخلص من داء الشح.

3-

ومثل قول الله عز وجل في سورة (المعارج/70 مصحف/69 نزول) :

{إن الإنسان خلق هلوعاً * إذا مسه الشر جزوعاً * وإذا مسه الخير منوعاً * إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون * والذين في أموالهم حقٌ معلوم * للسائل والمحروم} .

ففي هذه الآية توجيه إلى أن أداء الصلاة على وجهها، وبذل المال لذوي الحاجات، من الوسائل التي تربي النفوس على التخلص من داء الهلع.

* * *

ص: 623