الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
عقوبَة العَذابْ النّفسِيّ للمُلْحِدينَ
(1)
مقدمة
إضافة إلى العقوبات الجسدية المعجلة التي قد يتعرض لها الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، في الحياة الدنيا، توجد عقوبات نفسية نازلة بهم لا محالة، وهي نتائج لازمة للكفر بالله واليوم الآخر، تقتضيها سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
وهذه العقوبات النفسية تشتد كلما اشتد الكفر والإنكار والجحود.
وتوجد مقادير متفاوتة من هذه العقوبات النفسية لدى بعض المؤمنين، تتناسب مع مقادير ضعف إيمانهم، أو غياب تصوراته ومفاهيمه عن أذهانهم وقلوبهم، بالنسيان، والغفلات، والانشغال الفكري والنفسي والقلبي، بأمور الحياة الدنيا.
وتظهر هذه العقوبات في صور مختلفات متفاوتات من صُور العذاب النفسي التاليات:
o القلق والاضطراب، والحرمان من طمأنينة النفس وراحة القلب.
o ضيق الصدر، والشعور بالسجن النفسي.
o تكدّر النفس.
o الغمّ والهمّ.
o الحزن والأسى.
o الرغبة بالانتحار تخلصاً من الحياة.
o إرادة الانتقام، والظمأ النفسي للتشفي من كل شيء في الوجود.
o مشاعر الكراهية والبغض.
o الخوف الشديد من الأوهام.
o الهلع الذي لا يهدأ، إذا أصابه الشر فهو جزوع، وإذا أصابه خير فهو منوع، يعاني آلام الخوف من زوال ما في ملكه من زهر الحياة الدنيا.
o شدة الحقد على كل ما لا يطاوع في تحقيق الرغائب.
o الحسد الذي يكوي القلوب بناره.
o التمزق النفسي.
o الضجر من الحياة.
o جنون العظمة، ومشاعر آلام الحرمان مما يصبو إليه منها.
o العزلة النفسية التي تولدها الأنانية المفرطة، وهذه العزلة تقترن بالوحشية المضنية المملة.
(2)
البيان القرآني
وقد جاء في البيان القرآني ما يدُلُّ على صور العذاب النفسي الذي يعاني من آلامه الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وذلك في آيات كثيرة، منها ما يلي:
1-
قول الله عز وجل في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
الحرج: أشد الضيق. والغابة المكتظة التي لا يُستطاع الدخول إليها.
فالذين يرفضون الإيمان بالحق، ويُصرون على الإنكار والجحود،
كبراً أو رغبة بالفجور، لا يستجيبون لدعوة الإسلام، ويتعالون عن قبول الحق، فإذا بلغوا إلى مستوى توجيه إرادة الله بالحكم عليهم بالضلالة نزل في صدورهم بموجب سنة الله في خلقه داء الضيق والحرج.
والضيق والحرج في الصدور عذاب نفسي شبهه الله عز وجل بحالة الاختناق التي تصيب من يصَّعَّد في السماء رويداً رويداً، فيتناقص عليه الأكسجين شيئاً فشيئاً، لأن نسبة الأكسجين تتناقص طرداً مع الارتفاع في طبقات الجو، كما أن الضغط الجوي يتناقص، فيتسبب عن تناقصه انفجارٌ في الأوعية الدموية في أجسام الأحياء.
وهذا العذاب النفسي نتيجة طبيعية للكفر بالله واليوم الآخر، مع الإصرار والعناد، وهو عقوبة ربانية تأتي الكافرين المعاندين ضمن سنن الله الكونية.
قول الله عز وجل {ومن يرد أن يضله} أي: ومن يرد الله أن يحكم عليه بالضلال، ويكتبه عنده من الضالين، بسبب استكباره وعناده وإصراره على رفض الحق، على الرغم من كل وسائل البيان والتربية الربانية {يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء} فهو بهذا الضيق والحرج يرفض الطاعة لله، والاستسلام لأوامره ونواهيه، ويشعرُ بآلام السجن النفسي الذي يرسف بقيوده، وهو مع ذلك يظل مستكبراً متعالياً يصَّعَّد إلى حيث ينتظره هلاكه.
{كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} أي: كذلك الضيق والحرج الذي تعاني من آلامه صدور الذين أصروا على الكفر عناداً واستكباراً، يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون، وهذا الرجس يتراكم عليهم بسبب ارتكابهم للمعاصي التي نهى الله عنها في شريعته، والمعاصي أرجاس وقاذروات في السلوك، لها عقوباتها الكثيرة، كل رجس منها بحسبه، وكل رجس منها له في سنة الله عقوبة من جنسه.
نصيب ضعفاء الإيمان
وبمقدار ضعف التصورات الإيمانية لدى المؤمنين ضعفاء الإيمان،
يأتيهم نصيب من الضيق والحرج في الصدور، ويتراكم عليهم من الرجس بحسب معاصيهم.
* * *
2-
وقول الله عز وجل في سورة (الحج/22 مصحف/103 نزول) :
{ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} .
هذه الآية تصور أحوال التمزق النفسي، والضياع، ومشاعر السقوط المنتكس إلى المهالك، ومشاعر القلق والذعر، وهي الأحوال التي تصيب المشركين على مقدار ما عندهم من شرك.
لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، ورفعه بالتكوين إلى مرتبة عبوديته له، وحرره من العبودية لمن سواه، ولكن الله عز وجل ستر أفعاله في الخلق بأستار الظواهر السببية.
فإذا اختار الإنسان بإرادته الشرك بالله، فيجعل نفسه عبداً لبعض ما خلق الله، أو لبعض من خلق الله، فقد أسقط بذلك نفسه من المرتبة العلية التي جعله الله فيها، وبهذا السقوط الهاوي إلى الحضيض لا بد أن ينتكس على رأسه، فيخر من مرتبة السمو، ويهوي إلى سحيق مهلك.
ومع هذا الوضع الذي يخر فيه، لا بد أن تتمزق نفسه من كل جانب، لأنه لا يجد الطمأنينة، ولا سعادة الحياة، بسبب ما هو فيه من شرك، ثم إذا انتهت حياته ووافته منيته، وجد نفسه مهمشاً محطماً، وأقبل عليه ما هو أدهى وأمر، وهو حسابه وعذابه عند ربه.
والعقوبات النفسية للمشركين تأتي ضمن سنن الله في كونه، لأن الإشراك بالله مما يسبب هذه النتائج داخل الأنفس، ضمن قوانين الأسباب والمسببات.
نصيب أصحاب الشرك الخفي
وأنواع الشرك الخفي، التي هي من العوارض التي قد تمس قلوب
المؤمنين ونفوسهم، تجلب لهم مقادير من هذه العقوبات النفسية، بحسب سبة الشرك الخفي الذي مسهم قوةً وضعفاً.
* * *
3-
وقول الله عز وجل لرسوله بشأن المنافقين في سورة (التوبة/9 مصحف/113 نزول) :
{فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} .
كم نلاحظ في الناس أهل أموال والأولاد يأتي إذا أتى ضمن سنن الله في كونه، وضمن مقاديره التي يصيب بها عباده.
نصيب المرائين من المؤمنين
وقد ينزل بعصاة المؤمنين المرائين نصيب من هذا العذاب، على مقدار معاصيهم ومراءتهم، وتناقص إيمانهم، وبعدهم عن أسباب السعادة الحقيقة التي يتدفق بها الإيمان الخالص الكامل في قلوب المؤمنين الصادقين.
* * *
4-
وقول الله عز وجل في سورة (طه/20 مصحف/45 نزول) :
الضنك: هو في اللغة الضيق والشدة، المذكر والمؤنث فيه سواء، يقال: رزق ضنك، ومعيشة ضنك.
فالمعيشة الضنك، وهي الضيقة الشديدة بمشكلاتها وهمومها، وبما
تحيط به الأنفس والصدور من ضواغط مؤملة مضجرة، ولو كان الإنسان موسعاً عليه في الرزق، قد تكون عقوبة من الله نازلة بالإنسان، يحس بها وبآلامها في صدره ونفسه، بسبب إعراضه الإرادي عن ذكر الله، وانشغاله الكلي بمشكلات الحياة الدنيا وزينتها، ولعبها ولهوها، والتفاخر والتكاثر فيها، الأمر الذي أنساه آيات ربه، بعد أن أتته وعلمها، ولكنه انشغل بدنياه فأعرض عنها فنسيها.
ويعاقب المعرض عن ذكر الله يوم القيامة عقاباً آخر، فيحشر أعمى، لأنه أغمض بصيرته في الدنيا، فتعامى عن تكرير مشاهدة آيات الله البينات، بعد أن أضاءت له أنوارها فرآها، ثم نسيها نسياناً كلياً بمرور الزمن، فكان كأنه أعمى لا يراها، فعوقب على ذلك يوم القيامة من جنس عمله، فحُشر أعمى.
ويبدو أن هذا المعرض هو من صنف المؤمنين، إلا أن معاصيه صرفته كلياً عن ذكر ربه.
أما من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه فله في الحياة الدنيا مثل هذا الضنك النفسي، وله في الآخرة عذاب أشد وأبقى، دل على هذا قول الله عز وجل: {وكذلك نجزي من أسرف ومل يؤمن بآيات ربه، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى".
(3)
شواهد من أقوال الملحدين
لقد عبر عن العذاب النفسي الذي دلت عليه نصوص من القرآن الكريم، فريق كبير من فلاسفة الملحدين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
إنهم لما أبعدوا عن تصوراتهم قضايا الإيمان بالله واليوم الآخر، وأقفلوا على أفكارهم نوافذ الرؤية التي تطل على هذه القضايا، ورفضوا كل أدلة الإيمان بالغيبيات، وجدوا أنفسهم أمام مجموعة من مشكلات الحياة القاسية على النفوس، والمثيرة للقلق فيها.
ووقعوا بسبب ذلك تحت براثن تصور أن تصاريف الوجود كله تخضع لقوة عمياء تبني وتهدم، تتطور إلى الحياة، ثم تنتهي بالموت، فيها قسوة المصيبة، وعنف الكارثة، وهي خالية من أية عاطفة، وهي باردة تجاه مشاعر الناس آلامهم وآمالهم.
وفيما يلي طائفة من أقوالهم التي عبروا فيها عن معاناتهم وشقائهم في هذه الحياة الدنيا.
1-
مع الفيلسوف الملحد "برتراند رسل".
يرى الفيلسوف الإنكليزي الملحد "برتراند رسل" أن الرجل الحر لن يعبد قوى العالم الخارجي الغشوم، التي تغزوه بمتابعة هجومها، وليست تقصد من هجومها إلى غاية معلومة، فهي تقوض له كل ما يبني من دور، وكل ما يشيد من مُدُن، ولكنه سيعبُد ما في باطنه من قوىً خلاقة مبدعة، تلك القوى التي لا تني تجاهد وتكافح أسباب الفشل، والتي تمجّد آيات الجمال التي تدور في روائع الفن من نحتٍ وتصوير.
لقد رفض هذا الفيلسوف الملحد الإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بحكمة الابتلاء في هذه الحياة الدنيا، فبدا له العالم الخارجي عنه قوى غاشمة لا هدف لها.
وفي هذا التعبير عن القلق النفسي الذي يعاني منه، والخوف الدائم من قوى الكون العمياء.
وإذا قد رفض "رسل" الإيمان بالله، ورفض عبادته، فقد بدا له أن يركز نظره حول ذاته، فيعبد ما في داخله من قوى خلاقةٍ مبدعة، وهذا لون من مشاعر الربوبية التي يشعر بها المستكبرون.
إنه ترك عبادة الله الخالق المبدع المصور الذي أتقن كل شيء صنعاً،
الربانية الصحيحة، ووضحت له تصوراتها على وفق التعاليم الإسلامية، لانحلت عنده كل الإشكالات التي ولدت لديه الفلسفة المتشائمة، ولتهدمت في نفسه كل الأبنية الوهمية، التي صورت له الحياة مجمع آلام ومتاعب وأحزان، وألوان من الشقاء لا محيص للإنسان عنها، ولا مناص له منها.
5-
مع الفيلسوف اليهودي الملحد "سارتر"
والفيلسوف اليهودي الوجودي الملحد "جان بول سارتر" رأى الوجود كله من دوائر القلق والغثيان والمتاعب الآلام.
وكتب في ذلك جملة قصص ومسرحيات ضمنها آراءه الفلسفية الوجودية التي تتقيأ المكاره، والتي أبرزه فيها تافهة حقيرة مخيفة مملوءة بالمشقيات، مشحونة بالآلام.
والسبب في كل ذلك كفره بالله واليوم الآخر، وجحوده الحق الذي أنزله الله في رسالاته للناس. بخلاف المؤمنين الذين يحيون حياة طيبة، بمشاعر الإيمان ومفاهيمه التي أنزلها الله في قرآنه.
إن مشاعر المؤمنين النفسية هي دائماً مشاعر السعادة، والأمل، والطمأنينة، مهما كانوا في ظروف من الحياة قاسيات، وفي متاعب وآلام جسدية.
إن الإيمان بالله واليوم الآخر يفرغ على المؤمنين من الرضا والتسليم وطمأنينة القلب ما لا يكون في أي شيءٍ غيره على الإطلاق.
وهذا ما بينه الرسول إذ يقول فيما رواه مسلم عن صهيب رضي الله عنه:
"عجباً لأمر المؤمن! : إن أمره كله له خير - وليس ذلك إلا للمؤمن- إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ".
* * *