الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الأوّل
الحُريّة
في ظروف الاستبداد الدكتاتوري الذي كان سائداً في أوروبا قبل الثورة الفرنسية، وإبّان مصادرةِ حرّيّات الطبقات الضعيفة في المجتمع، وحريات الأفراد الذين لا يملكون انتزاع حقوقهم في معظم المجتمعات الغربية، انطلق دعاة الحرية ينادون بها مبدأً إنسانياً، وأخذت فئات كثيرة تروجها.
واستغلت المنظمات ذات المصالح الخاصة الرامية إلى تقويض النظم الإدارية، والمؤسسات الدينية، والنظم الاجتماعية ومؤسساتها، لتكون لها السيطرة الشاملة بعد ذلك. استغلت شعارَ الحرية، فوسعت دائرتها شيئاً فشيئاً، دون أن تشعر الجماهير بمكيدة التوسيع التعميمي المنافي لمنطق العقل، ولمبادئ الأخلاق، ولمصالح الناس أفراداً وجماعات، ولنظام الخلق وقوانين الوجود الجبرية فيما عدا الأعمال الإرادية للمخلوق، وغفل عن ذلك أيضاً كثير من أهل الفكر والعلم.
وصادمت الماسونية والمكر اليهودي فيها شعار الحرية، وجعلته أحد مبادئها، ثمّ قامت الثورة الفرنسية التي كان المكر اليهودي وراء تدبيرها والتخطيط لها، وتحريك القوى لاندلاعها، وتنظيم المنظمات لتفجيرها، والتربص لاستثمارها، واستغلالها، والانقضاض على غنائمها بعد قيامها ونجاحها، فجعلت هذه الثورة الحرية واحداً من شعارها المثلث:"الحرية - المساواة - الإخاء".
واندفعت الجماهير مفتونة بشعار الحرية، وهي لا ترى من معاني الحرية إلى مساحة محدودة مقبولة معقولة، يتحقق لها بها الخلاص من الظلم الاجتماعي الذي تعاني منه، والخلاص من الاستبداد الضاغط عليها، والقاهر لإرادتها بقوى ظالمة آثمة، طاغية غاشمة.
ونشط شياطين الإنس بقيادة المردة من يهود يروجون لشعار الحرية، ويوسعون من مساحة دلالتها شيئاً فشيئاً، حتى تشمل كل سلوك فردي أو جماعي يحقق أهداف الإفساد في الأرض، وتدمير كل القيم الدينية والخلقية، وإماتة الوازع الديني والخلقي في الأفراد، وتحطيم النظم الاجتماعية الإدارية والسياسية والاقتصادية وغيرها، بغية إضعاف البشرية، وتمكين اليهود في العالم من السيطرة التامة عليها بعد إضعافها وتفتيتها، وبثها بثاً متنافراً متبايناً متعادياً متصارعاً متقاتلاً.
ونجم عن إطلاق شعار الحرية دون أن تكون محصورة في المساحة التي تكون فيها نافعة وصالحة، انطلاق الوحش البشري مفسداً مدمراً محطماً الفضائل، والأخلاق، والقيم الدينية، والنظم الاجتماعية، ومحطّماً مبادئ الحق والعدل، ومستغلاً شعار الحرية لتبرير كل فسادٍ وإفساد، ولاستخدام القوة التي تعتمد عليها الثورات مع ما تشعله من فتن، لمصادرة حياة خصومها، وأمنهم ومالهم وحقهم، ولمحاربة كل منصف يحب الحق والعدل والفضيلة، ويطالب بسيادة هذه القيم.
وفهم المجرمون الحرية على معنى إطلاق أيديهم في ارتكاب الجرائم على ما يشتهون، قتلاً وسلباً، وظلماً وعدواناً.
وفهم الفاسقون والفاسقات الحرية على معنى أن لهم الحق الكامل في أن يفسقوا ويفجروا على ما يشتهون، دون أن يكون لأحدٍ أو جهةٍ ما حق في محاسبتهم ومعاقبتهم، أو كفهم عن فسقهم وإباحيتهم التي لا تحدها حدود.
وفهم محتالو سلب الأموال الحرية على معنى إطلاق أيديهم في ألوان
الغش والاحتكارات، وحيل المضاربات، وخُدَعِ القمار، وأشباه ذلك، لسلب الناس أموالهم وهم غافلون.
وفهم العمال والصناع والأجراء الحرية على معنى استخدام تكتُّلاتهم وتنظيماتهم للوصول إلى الاستيلاء على أموال أرباب العمل، ومصانعهم، وممتلكاتهم، ونهبها وسلبها، أو استحقاق الأجور المرتفعة دون أن يقوموا بعلم يستحقون عليه الأجور التي يطالبون بتقاضيها.
وفهمت النساء الحرية على معنى انطلاقهن من ضوابط العفة، وتمردهن وانسياحهن بحسب أهوائهن، وتفلتهن من كل واجب اجتماعي، وكل ضابط خلقي.
وفهمَ المراهقون والمراهقات، والفتيان والفتيات الحرية على معنى الانفلات الأرعن، والتمرد على الرعاة من الأسرة، وعلى المربين والمعلمين.
وصار كل ضابط للسلوك من سلطة مدنية أو عسكرية أو قانونية أو دينية أو أسرية عدواً للحرية، في مفهوم حملة شعار الحرية الذين أطلقوها من حدودها المقبولة المعقولة، وعَمَّموها تعميماً مدمراً للإنسانية وكرامتها، ومخرجاً للإنسانية عن موقعه الذي وضعه الله فيه موضع الابتلاء المسْتَتْبَع بالحسابِ والجزاء، وقاذفاً به إلى مستوى الأنعام أو أضل سبيلاً.
هذا هو ما كان المفسدون في الأرض قد أرادوه وخططوا له، وأطلقوا من أجله شعار الحرية، ووسعوا من مساحتها حتى عمَّموها تعميماً فاسداً مفسداً، مصادماً للحق والخير والفضيلة والجمال والكمال.
إن الحرية مثل النار لا تستخدم إلا ضمن حدود وضوابط، وبحذر شديد، ومراقبة تامة، وإلا أكلت الأخضر واليابس، وابتلعت كل شيء أتت عليه.
إن الحرية المقبولة المعقولة في واقع الناس ذاتُ مجالٍ محدود، وهذا المجال المحدود لا يجوز تجاوزه ولا تعديه، لا في منطق العقل، ولا
في منطق مصلحة الإنسان في ذاته، ولا في منطق مصلحة المجتمع البشري.
فإذا تجاوزت حدودها كانت وحشاً مفترساً، أو ناراً هائجة ثائرة محرقة، أو سيلاً عرماً مدمراً، وكانت نذير شؤمٍ وخراب، وفوضى واضطراب، وصراعات بشرية تدمر الحضارات، وتمهد لأن تَحُلَّ بهم سنة الله في الذين خلوا من قبلهم، إهلاكٌ عامٌّ وعذاب أليم.
إن الحرية المقبولة المعقولة التي يقرها الإسلام تقع ضمن المجالات التاليات، وعلى وفق القيود المبينة فيها.
المجال الأول: حرّيّة الاعتقاد، فالإنسان المسؤول المكلف حرٌّ في هذه الحياة الدنيا في أن يؤمن بقلبه بما يشاء، من حقٍّ أو باطل، لكنه مُلاحَقٌ بالمسؤولية عند الله عز وجل عن اختياره الذي كان حُراً فيه، وكانت حريته هي مناط ابتلائه وامتحانه في الحياة الدنيا.
وهي هنا حرية الممتحن المسؤول، وليست حرية مطلقة خالية من المسؤولية والجزاء.
دل على هذه الحرية الملاحقة بالمسؤولية والجزاء عند الله عدة آيات قرآنية، منها قول الله عز وجل في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول) :
{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا
…
} .
ومنها قول الله عز وجل في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ
…
} .
المجال الثاني: حرية العبادة على وفق الاعتقاد، والحرية هنا كسابقتها هي حرية الممتحن المسؤول الملاحق عند الله بالحساب والجزاء، وليست حرية مطلقةً خالية من المسؤولية والجزاء.
دلّ على هذه الحرية الملاحقة بالمسؤولية والجزاء الرباني، قول الله عز وجل في سورة (الزمر/39 مصحف/59 نزول) :
وقول الله عز وجل في سورة (فصّلت/41 مصحف/61 نزول) :
المجال الثالث: حرّيةُ اختيار ما يُريدُ الإنسانُ ويَشْتَهِي ويهوى مما أباح الله في شريعته لعباده من عمل ظاهر أو باطن.
وهذه الحرية غير ملاحقة بالمسؤولية، ما لم ينجم عنها لدى استعمال تركُ واجب، أو فعل محرّم، أو عدوان على حقِّ الغير فرداً كان أو جماعة.
وإنما كانت الحرية في هذا المجال غير مُلاحقةٍ بالمسؤولية لأنّ الربّ الخالق سبحانه وتعالى الذي له الخلق والأمر، قد منحها ذلك، فأباح لها أن تختار ما تشتهي من أصنافٍ أو أفرادٍ داخلة في دائرة المباحات التي أباحها، وأنزل فيها إذناً شرعياً في دائرة المباحات التي أباحها بفعل أو ترك.
وما أباح الله من سلوك شخصي لا علاقة للمجتمع به، أو لا يمسّ إنساناً بضرر، فلا حق لأحدٍ أيّاً كان بأن يحرمه منه، أو يمنعه عنه.
ومن الخير للمجتمع أن يترك هذا المجال مفتوحاً للناس، يُعبّرون فيه عن حريّاتهم الخاصة، ويشعرون فيه باستقلاليتهم.
المجال الرابع: حرية تعبير الإنسان عن أفكاره وآرائه، ما لم يكن مضللاً بباطل واضح البطلان، أو داعياً لضُرٍّ أو شرٍّ أو أذى، أو مشجّعاً على إدحاض الحق ونصرة الباطل، ونشر الظلم والعدوان والفساد في الأرض.
المجال الخامس: كل ما للإنسان فيه حقٌّّ مشروع واضح للجميع ولا يحتاج إثباته إلى دعوى قضائية، فإنه يملك الحرية في الحصول عليه بوسيلة مشروعة، لا ضرر فيها ولا عدوان ولا ظلم ولا أذى، ولا مخالفة فيها لما أمر الله به أو لما نهى عنه.
وأما ما لا حق للإنسان فيه فمن حق المجتمع أن يحجر على حريته فيه.
أمثلة:
1-
من حق الإنسان العمل لكسب ما قسم الله له من رزق، لاستعماله فيما أمرالله به أو أذن فيه.
فهو إذن يملك الحرية في العمل لكسب رزقه في المجالات التي لا ضرر فيها ولا عدوان ولا ظلم ولا أذى، ولا مخالفة لما أمر الله به ولما نهى الله عنه.
وعلى المجتمع أن يتيح له فرصة السعي لكسب رزقه ضمن هذه المجالات، وأن لا يحجر على حريته تلك، ومن ذلك السعي للحصول على عمل مأجور لدى الدولة أو أيَّة مؤسسة عامة، ومستحقُّ العمل هو الأكثر كفاية للقيام به، ما دامت الشروط العامة متوافرة فيه.
2-
ومن حق الإنسان ذي الباءة أن يتزوج، فهو إذن يملك الحرية في أن يسعى في اختيار زوجة يستطيع الحصول على موافقتها وموافقة ولي أمرها، من اللواتي أذن الله في شريعته لعباده بأن يتزوج منهن.
وعلى المجتمع أن يتيح له فرصة السعي لاختيار الزوجة التي تلائمه، ضمن ما أذن الله له، وأن لا يحجر عليه حريّته في هذا المجال.
3-
ومن حقّ الإنسان أن يتزوّد من العلم والمعرفة بما يشاء من كل نافع مفيد، أمر الله به أو أذن في تعلّمه.
فهو إذن يملك الحرية في أن يسعى في تحصيل العلم الذي يريد ضمن حدود الإذن الرباني.
وعلى المجتمع أن يتيح له فرصة السعي لتحصيل ما يشاء من علم مأذون به شرعاً، على مقدار ما يملك من قدراتٍ تمكّنه من ذلك التحصيل.
4-
ومن الحقوق المشروعة للإنسان حق مطالبته بحقوقه التي هي له، وحق الاعتراض على ظلم لَحِقَ به، وحق الشكوى ضد من ظلمه، وحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل ربما يكون واجباً عليه في كثير من الأحوال، فمن حقه ممارسته، وحقُّ توجيه النصح لغيره محكوماً أو حاكماً، رعيةً أو سلطاناً.
الحجر على الحرية:
إذا عرفن المجالات التي يملك فيها الإنسان الحرية الملاحقة بالمسؤولية والجزاء، والحرية غير الملاحقة بالمسؤولية، يتضح لنا ما يلي:
الأول: إنه لا حرية في ظلم ولا عدوان ولا هضم لحقوق الآخرين.
الثاني: لا حرية في مخالفة الحق والعدل الخير في كل سلوك عملي ذي أثر مادي يضر المجتمع أو يؤذيه أو يفسد نظامه.
الثالث: لا حرية لمن آمن برسالة الإسلام، وبايع على الالتزام بأحكامه وشرائعه، في أن يخالف أحكامه بترك فرائضه وارتكاب محرماته، وإلا كان عرضةً للملاحقة بالمسؤولية، وبالجزاء المقرر في أحكامه من قبل سلطة الدولة الإسلامية، إذا كانت المخالفة لها عقوبة دنيوية مقررة في الإسلام. ومما يخالف أحكام الإسلام، الانتحار، أو ارتكاب ما يضر بجسم الإنسان أو نفسه أو ملكاته الفكرية.
الرابع: من أعلن دخوله في الإسلام، فقد أعلن التزامه به وبأحكامه، فلا حرية له بعد ذلك في الردة عنه، وإلا فهو ملاحقٌ بعد استتابته
بالمسؤولية الجزائية التي عقوبتها القتل، ولا حرية له أيضاً في الاعتراض على أحكامه وشرائعه المقررة.
الخامس: لا حرية لمسلم ولا لذمي ولا لمعاهد ولا لمستأمن في دار الإسلام، في الطعن بالعقائد والشرائع والأحكام الإسلامية، المجمع عليها، أو التشكيك فيها، أو تشويهها أو تحريفها، أو القيام بما يسيء لنظام الإسلام، أو لدولته، أو لجماعة المسلمين، لأن في ذلك نقضاً لما التزم به كل منهم.
ولا حرية لأحد من هؤلاء في الدعاية لأعمال حرمها الإسلام، أو لأشياء حرم الإسلام تناولها كالخمور، أو الترويج لأفكار مناقضة لحقائق الإسلام وتعاليمه.
ولا حرية لأحد منهم في تأسيس مؤسسات عامة أو خاصة تشتمل على أعمال أو أشياء محرمة في الإسلام، كبنوك ربوية، أو بيوتٍ للقمار، أو بيوت للزنا والدعارة والفجور، أو حانات لبيع الخمور وشربها، أو مصانع لصناعتها، ولكن يسمح للنصارى بشربها وصناعتها داخل بيوتهم، دون أن يتظاهروا بذلك أمام المسلمين.
خاتمة:
وتقع في موضوعات شتى مغالطات كثيرة، بسبب كسر الحدود الفاصلة بين الحق الباطل، والعدل والظلم، والخير والشر، ومن أسباب ذلك إطلاق الحرية، والتلاعب بمفاهيمها، وعدم تحديد المساحات التي تكون فيها صالحة ومقبولة، وينجم عن ذلك شرٌّ مستطير، وفسادٌ عريض.
* * *