المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامسسارتر وآراؤه الفلسفية في الوجودية - كواشف زيوف

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌فاتِحَة الكِتَاب

- ‌خِطّةُ الكِتَابْ

- ‌القِسمُ الأوّل مِنَ الكِتَابمقدمات عامة

- ‌الباب الأولتَعريفٌ بمَنَاخِ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة

- ‌مَقَدِّمَة عَامَّة

- ‌الفصْل الأوّلمُنَاخ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة في أوربَّا

- ‌الفصْل الثانيتحرّك اليَهُود مُسْتَغلّينَ المنَاخ الملَائِمَ في أورُبَّا

- ‌الفصل الثالث: أسبَابُ تَقبّل شعُوب الأمَّةِ الإسْلاميَّة لوافدات المذاهب الفكرية المعاصرة

- ‌الباب الثانيوَسَائِل التّضليل لِتَرويج الشِّعَارَاتوالآراء والمذاهب الفكرية المزيفة

- ‌الفصْل الأوّلالخطّة العَامّة

- ‌الفصْل الثانيالمغَالَطاتُ الجَدَليّة

- ‌الفصْل الثالثلعبَة تطبيْق المنهَج العِلْميّ الخاصْ بالجَبريّاتْعلى السلوك الإرادي عند الإنسان

- ‌القِسمُ الثاني مِنَ الكِتَابعَرض لأهَمِّ الشعَارات البرّاقة المزيّفّةوَلآرَاء وَمذاهبْ فكريّة معَاصِرة جزئيّةمُنبثقة في عُلوم مختلفة مع كشف زيوفها وتعريفْ بأئِمتهَا

- ‌الباب الأولمقدِّمات حَولَ اعتِمَاد العَقْل وَالعِلْم الإنسَانيبديلاً للدِّين

- ‌الفصْل الأوّلالعَقلَانيَّة

- ‌الفصْل الثانيالعِلمَانيّة

- ‌الباب الثانيافتِراءَات ترَوَّج ضدّ الدّين وَالأخلَاقوَالقَوانين وَالنُظم المنبثقة عَنْهما

- ‌الفصْل الأوّلفريَة التّنَاقض بَيْن العَقل وَالدّينوبَينَ العلم والدّين

- ‌الفصْل الثانيمَزاعِمُ المُضلِّين لِهَدْم أسُس الأخلَاقوأبنيتها وتطبيقاتها في المجتمع

- ‌البَاب الثَالثْخِدَاع الشِّعَارَاتالتي يتولد عنها في الرأي العام مسلمات خاطئات وموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌المقدمة

- ‌الفصْل الأوّلالحُريّة

- ‌الفصْل الثانيالمُسَاوَاة

- ‌الفصْل الثالثالتقَدّميَّة والرَّجْعيَّة

- ‌الفصْل الرابعالاشتِراكيّة

- ‌الفصْل الخامِسْالوَطنيَّة وَالقَوميَّة وَالإنسَانيّةوموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌البَاب الرَّابعْأئمّة وَمَذاهِبُ جُزئيّة في عُلُوم مختَلِفَة

- ‌الفصْل الأوّلفروُيْد وَمَدرَسَتُه في عِلْم النّفْس

- ‌الفصْل الثانيدَارْوين وَمَذهَبُ التطوُّر

- ‌الفصْل الثالثدوركايْم وَآرَاؤه في علْم الاجتِمَاعِ

- ‌الفصْل الرابعبرجْسُون وَآرَاؤهُ في نَشأةِ الدّين وَالأخلَاق

- ‌الفصْل الخامِسْسَارْتر وَآراؤهُ الفَلسَفيَّة في الوُجُوديّة

- ‌الفصْل السادسمْكيافيلّي وَفِكرَة: الغاية تبرر الوسيلة

- ‌الفصْل السّابعمَارْكوز وَآرَاؤهُ الثّوريَّةلإقامة ديكتاتورية حكم الأقلية الواعية

- ‌الفصْل الثامِنأوجسْت كونتْوَدين الإنسَانيّة

- ‌القِسمُ الثّالِث مِنَ الكِتَابأئِمة وَمَذاهِبْ فِكريّة معَاصِرَة كَبيرَة

- ‌البَابْ الأوَّلالماديَّة الإلحاديّة وَالماديّون

- ‌الفصْل الأوّلمقدّمات عامة

- ‌الفصْل الثانيأئمّة مَادِّيّون وَنُبّذٌ مِنْ آرَائهم الفَلْسَفيَّةِ الإلحَادية

- ‌الفصل الثالثأسُسُ الفِكْر المادّي الإلحَادي

- ‌الفصل الرابعكشفُ زيُوف أفْكار المادّيّين وَجَدَليَّتِهِم

- ‌الفصل الخامسعقوبَة العَذابْ النّفسِيّ للمُلْحِدينَ

- ‌الفصل السادسالمادية الجدلية في الكون والتاريخ الإنساني

- ‌الباب الثانيالنُّظمُ الاقتِصَاديّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنظرة تاريخيَّة حَول المذاهبْ الوَضْعيَّةللنظم الاقتصادية

- ‌الفصل الثانيلمحّة مُوجَزَة حَول مَنهج دين الله

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين المذاهب الاقتصادية

- ‌الفصل الرابعنظرات متفرقة

- ‌الباب الثالثالنّظمُ السِيَاسيَّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنَظرَة تاريخيَّة حَولَ المذاهِبْ الوَضْعيَّةلِلنُظم السيَاسيّة

- ‌الفصل الثانيلمحَة مُوجَزَة حَول مَنهَجْ دين اللهِ للنّاسِفي شؤون الحكم

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين النظم السياسية

- ‌الفصل الرابعمتفرقات

الفصل: ‌الفصل الخامسسارتر وآراؤه الفلسفية في الوجودية

‌الفصْل الخامِسْ

سَارْتر وَآراؤهُ الفَلسَفيَّة في الوُجُوديّة

(1)

من هو سارتر؟.

هو "جان بول سارتر" يهودي فرنسي، فيلسوف وأديب. من فلاسفة القرن العشرين المعاصرين، ولد سنة (1905م) بباريس ومات سنة (1979م) بباريس. اقترنت باسمه الفلسفة الوجودية الإلحادية المعاصرة. اشتغل بالتدريس. ثمّ انخرط في الجيش، وسجنه الألمان سنة (1940م) ، وبعد أن أطلق سراحه اشترك في حركة المقاومة. أنشأ (1950م) مجلة "العصور الحديثة" التي تتضمن أبحاثاً وجودية في الأدب والسياسة. أطلق كلمة "وجودية" على فلسفته فقط، دون سائر فلسفات الوجودية، وأحرزت مؤلفاته نجاحاً جعله الممثل الأول للوجودية في فرنسا.

نشرت الصحيفة أنه اشترك في مظاهرات يهودية صهيونية في فرنسا، وحملات تبرّع لإسرائيل في الستينات، كان من شعارها: ادفع فرنكاً فرنسياً تقتل عربياً (أي: مسلماً) ، فهو على ما يبدو يهودي وصهيوني.

حين حضره الموت سأله من كان عنده: تُرى إلى أين قادك مذهبك؟. فأجاب في أسىً عميق ملؤه الندم: "إلى هزيمة كاملة".

ص: 359

استخدم الأدب لنشر أفكاره الوجودية الملحدة المسرفة في "اللامعقول". له عدة مؤلفات أهمها "الكينونة والعدم" أخرجه سنة (1943م) خاطب فيه المختصين بشؤون الفلسفة. وله روايات وقصص أدبية ومسرحيات ضمنها آراءه، منها: 1- "الغثيان" 1938 م. 2- "سبل الحرية" في ثلاثة أجزاء. 3- مسرحية "الفاضلة" 1948م. 4- مسرحية "موتي بلا دفن" 1946م. 5- مسرحية "الذباب" 1943م وهي من أشهر مسرحياته. 6- مسرحية "الأيدي القذرة" 1948م.

(2)

دوافع آرائه في الفلسفة والأدب

هو واحد من قافلة اليهود الذين حملوا رسالة تضليل الناس وإغوائهم على منهج إبليس، لتحقيق أهداف اليهود العالمية، التي رسمتها بروتوكولات مشيختهم الذين مردوا على كل إثم وشر وتضليل.

فأهدافه نظير أهداف "فرويد" و"دوركايم" و"برجسون".

(3)

تعريف بما يُسمّى في الفلسفة بالوجودية قبل سارتر

الوجودية: رأي فلسفيٌّ منتقد، عُرف من عهد فلاسفة اليونان، وفي مقدّمتهم سقراط.

ولم يكن هذا الرأي الفلسفيُّ ملازماً للإلحاد بالله، ولا قائماً عليه، ولا دعامة من دعائمه، فقد كان مذهباً لفلاسفة مؤمنين بالله، ومنهم دينيون مسيحيون.

يقول: "بول فولكييه" في كتابه: "هذه هي الوجودية":

" إن الوجوديّة الدينية أقدم تاريخاً من سائر الوجوديات".

ص: 360

ثمّ ظهر بعض الملحدين الذين رأوا في مذهب الوجودية أفكاراً يمكن أن تنسجم مع إلحادهم.

والوجودية المعاصرة مدرسة في الفلسفة ذات ثلاث شعب، والأساس المشترك بين الشعب الثلاث للوجودية، أن الوجود الإنساني هو المشكلة الكبرى، فالعقل وحده عاجز عن تفسير الكون ومشكلاته، وأن الإنسان يستبد به القلق عند مواجهته مشكلات الحياة. وأساس الأخلاق قيام الإنسان بفعل إيجابي، وبأفعاله تتحدد ماهيته، وإذن فوجودُه الفعلي يسبق ماهيته.

الشعبة الأولى: الوجودية التي قال بها المسيحي "كيركجارد" ومؤداها أن قلق الإنسان يزول بالإيمان بالله عز وجل.

الشعبة الثانية: الوجودية التي عبر عنها المسيحي "جاك ماريتان" وأقامها على فلسفة "توما الأكويني".

ص: 361

وبناءً عليها يقول:

إن الإيمان بالله يحدُّ من الرغبة في الوجود، ويحدُّ من الخوف من العدم.

وهذه الشعبة لا يعنينها بحثها هنا أيضاً.

الشعبة الثالثة: الوجودية الإلحادية.

ورائد هذه الوجودية الإلحادية: "مارتن هيدجر" وهو فيلسوف ألماني من فلاسفة القرن العشرين، من مواليد (1889م) .

ثمّ تابعه اليهودي "جان بول سارتر" أكبر مروج للوجودية الإلحادية، حتى صارت الوجودية الإلحادية المعاصرة ملازمة لاسمه.

ووجودية "سارتر" هي الوجودية التي يعنينا بيان زيفها.

(4)

وجودية سارتر

خلاصة فلسفة سارتر في وجوديته أن ثمة نوعين من الوجود:

النوع الأول: وجود الأشياء الخارجية، وأطلق على هذا النوع من الوجود أنه وجود "في ذاته"، والشيء الموجود في الخارج هو موجود في ذاته.

قال: وكل موجود خارجي، أي: في عالم الواقع لا في التصورات

ص: 362

الذهنية وخطط الأفكار، هو كائن بالفعل لا بالقوة، وله ذاتية مستقلة كاملة، وليس فيه مجال للإمكان، أي: لا يحتمل غير الواقع الذي وجد فيه، فلا يمكن أن يكون على خلاف ذلك، إذ تمثلت فيه ماهيته كاملة.

فألغى سارتر بادعائه نفيَ الإمكانات، حقيقةً كبرى من حقائق هذا الكون الحادث، الخاضع لإمكانات لا حصر لها، والواقعُ الموجود فيه هو صورة واحدة من الصور الممكنة عقلاً، بدليل أن ما نملك القدرة على التغيير فيه، نجده يتغير وفق الصورة الممكنة التي نرسمها له ذهناً، وبهذا يخترع المخترعون، ويبتكر المبتكرون، ويصنع الصانعون.

النوع الثاني: وجود الأشياء في الشعور، وهو ما يعبّر عنه في الفلسفة القديمة "الوجود الذهني".

وأطلق سارتر على هذا النوع من الوجود عنوان "الموجود لذاته". أي: إنه موجود في الشعور ليحقق نفسه، ليحقق ذاته فقط، لا ليحقق ماهية خارجة عنه.

قال: وهذا الموجود لذاته هو أقرب إلى "مشروع وجود" منه إلى الوجود المكتمل الثابت، لأنه متغير، قوامه النزوع المستمر نحو المستقبل، والتنصّل المستمرّ من الماضي. فهو موجود له في كل لحظة حالة غير حالة اللحظة السابقة، على خلاف الأشياء المادية ذوات الذاتية الثابتة.

قال: ولما كان "الشعور" بطبيعته غير مستقر، كان محالاً أن تتحدد ماهيته، كما تتحدد ماهيّات الأشياء الخارجية. ومن هنا كانت حرية الإنسان هي صميم وجوده الشعوري القلق، فهو حرٌّ لأنه يخلق نفسه بنفسه كل لحظة.

ص: 363

ويرى "سارتر" أن قوله: "إن الإنسان حر" مرادف لقوله: "إن الله غير موجود". لأن وجود الإنسان لا يخضع لماهية أو طبيعة محددة، بل هو إمكان مستمر على الإنسان أن يحققه، فليس هناك "طبيعة بشرية" فرضت من الأزل، وليس هناك "تعريف" ثابت للإنسان كيف ينبغي أن يكون. بل إن الإنسان يوجد أولاً، ثمّ يظل يخلق ماهيته، بما يختار لنفسه من شعور، فليس الإنسان إلا ما يختار لنفسه أن يكون.

والمدقق في هذه الآراء الفلسفية لسارتر يلاحظ أنها تقع وراء دوائر ما تقبله العقول، وما يستقيم مع موازينها، وفي فقرات كشف الزيف الآتية أحاول قدر الإمكان تعريف القارئ بمنازع ومزالق ادعاءاته غير المعقولة، والتي ألغى فيها من دون أي دليل الأصول والموازين الكبرى التي فطرت عقول الناس على التسليم بها، والتحاكم إليها.

جولة في آراء سارتر التي قدمها في كتبه

1-

عرض "سارتر" الوجودية مذهباً إلحادياً، في كتابه "الكينونة والعدم" أي: الوجود والعدم. وقد خاطب في هذا الكتاب المختصين في شؤون الفلسفة.

إلا أن هؤلاء المختصين يعترفون بأنهم لم يفهموا كل ما جاء في كتابه هذا، كما أفصح عن هذه الحقيقة "بول فولكييه" في كتابه:"هذه هي الوجوديّة".

2-

زعم "سارتر" أن الإنسان بحريته الاختيارية هو الذي يخلق ماهيته، وقال:"إن الإنسان كائن أولاً، ثمّ يصير أخيراً هذا أو ذاك" أي: بحسب أفكاره الحرة التي تصنع ماهيته.

قال "بول فولكييه":

" وأفضى البحث بسارتر إلى نتائج تتناقض حتى تبلغ درجة المحال، واللامعقول".

ص: 364

3-

وزعم "سارتر" أن الإنسان هو الذي يضع مقاييس الحق والخير والجمال.

وخالف في ذلك الفلاسفة المؤمنين بالله،، ومنهم الفيلسوف "ديكارت" فهذا الفيلسوف يرى أن الله هو الذي متى أراد شيئاً وخلقه كان خيراً، وأنه لا يمكن أن ينتج عن قراره إلا الخير المطلق.

فردّ سارتر بقوله: "إن ديكارت بوصفه حرية إلهه المطلقة، لم يقم، إلا بوصف المحتوى الضمني لفكرة الحرية، فأعطى لله ما للناس بخاصة".

هكذا عكس "سارتر" الحقيقة، لينسجم مع فكرته الإلحادية، التي أراد أن يضع لها فلسفة، فأعطى الإنسان ما هو لله وحده، تحت شبهة أن الإنسان له في حياته قسط من الحرية، وفق المنحة التي منحه الله إياها.

وخالف "سارتر" برأيه هذا الذي رآه حقاً، أو أراد أن يُريه للناس ليضلّهم، خالف منطق الواقع والحقيقة.

ولما جعل "سارتر" الإنسان هو الذي يضع مقاييس الحق والخير والجمال، لزمه أن يسقط المسؤولية، أو يقع في التناقض، وذلك لأن

ص: 365

المسؤولية إما أن تكون أمام الله، أو أمام المجتمع، أو أما ضمير ذاتي مثالي يحكم على أعمال الذات.

لكن "سارتر" أنكر الخالق فلا مسؤولية تجاهه. وأنكر أيضاً الضمير الذاتي المثالي، لأن وجوديته تقرر أن الواقع يكون أولاً، ثمّ تكون الفكرة عنه، لا أن الفكر يكون أولاً بالحكم على ما يمكن أن يكون، ثمّ يكون الواقع، إذ هو لا يعترف بشيء من الفرضيات الذهنية السابقة للوجود على أنها ذات تأثير في الوجود. وأما المجتمع فلا دخل له، ما دام الإنسان بمفرده هو الذي يضع مقاييس الحق والخير والجمال.

إذن لم يبق شيء يعتبر الإنسان مسؤولاً عنه في فلسفته الخرافية.

لكن الإنسان هو مع ذلك في نظره مسؤول، فوقع "سارتر" في التناقض المفضوح، فقال:

" نحن لا نعمل ما نريد، ونحن مع ذلك مسؤولون عما نحن كائنون، هذا هو الواقع".

قال "بول فولكييه":

"وهذا واقع متناقض، محال، لا هو مفهوم، ولا هو معقول".

لقد وقع "سارتر" برأيه هذا في الجبرية الخرافية، إذ فر من قضية الإيمان بالخالق وحكمته، وخلقه الإنسان حراً مكلفاً، ليكون مسؤولاً عن أعماله تجاهه.

ولو أنه آمن بالله حقاً، لأدرك أن الإنسان خُلقَ مختاراً، ليمتحن في حدود اختياره، ثمّ ليحاسب ويجازى يوم الدين.

وإذ زعم "سارتر" أن الإنسان هو الذي يخلق الخير والشر بنفسه،

ص: 366

وذلك بحسب أفكاره الخاصة، وأنه ليس لأحد أن يوجّه النصح له، قال يخاطب "ماتيو":

"إنك تستطيع أن تفعل ما تريد، وليس ثمة من له الحق في توجيه النصح إليك، وليس في نظرك شرٌ وخير إلا إذا خلقتهما

".

إذن: فليفعل الإنسان أية جريمة، وليرتكب أي عمل قبيح، وله بعد ذلك أن يعتبر ما فعل خيراً لا شر فيه، وليس من حق أي أحدٍ أن يحاكمه، أو يؤاخذه على ما فعل.

هل يحتاج قول "سارتر" هذا إلى تفكير عميق، أو إلى تحليل دقيق، لمعرفة دعوته إلى ارتكاب أية جريمة، وفعل أي شر، دون أن يشعر مرتكب ذلك بأي تأنيب من ضميره ووجدانه؟.

إنه يلغي بأقواله المدمرة فكرتي الخير والشر مطلقاً، إذ يجعلهما من خلق الإنسان نفسه.

وظاهرة أن كل إنسان يملك وفق هذا التضليل أن يعتبر بحسب مزاجه ومصلحته الخاصة أي أمر قبيح خيراً، وأي أمر حسن شراً، في حين قد يعكس غيره الأمر، لأن مزاجه ومصلحته الخاصة قد تلاءما مع العكس.

إذن: فلا مفهوم للخير يمكن أن يحصل اتفاقٌ عليه، ولا مفهوم للشرّ يمكن أن يحصل اتفاق عليه.

إذن: فلا شيء اسمه خير أو شر مطلقاً.

هكذا يريد "سارتر". يريد إبطال الحقائق من جذورها بعبثه الفكري، الذي زعمه مذهباً فلسفياً.

4-

ونمت الفردية الأنانية لدى "سارتر" انسجاماً مع وجوديته الملحدة، حتى جعل الحب نوعاً من أنواع سلب الناس بعضهم لبعض.

فالفرد في رأيه بحاجة إلى الحب في سبيل رفع قيمة ذاته عن طريق الآخر، وفي سبيل رفع قيمة ذاته لأنه يوجد إنسان آخر يقدّره.

ص: 367

لذلك يرى أن من ينظر إليه بحب فإنه يحاول أن يسلبه عالمه الخاص به، وفي هذا يقول:

" إننا منذ الآونة التي نشعر فيها بأن إنساناً آخر ينظر إلينا، إنما نشعر أيضاً بأن الآخر يسلبنا عالمنا على نحوٍ من الأنحاء، هذا العالم الذي كنا نمتلكه وحدنا حتى هذه اللحظة "

ويقول:

" إنني ابتداءً من الآونة التي أشعر فيها أن أحداً ينظر إلي، أشعر أنني سُلبتُ عن طريق نظر الآخر الموجّه إلي وإلى العالم.

إن العلاقة بيننا وبين الآخرين هي التي تخلق شقاءنا"1.

ويقول:

" إن الآخرين هم الجحيم".

(5)

كشف الزيف

لا تحتاج آراء "سارتر" وكذلك كل آراء الوجودية الملحدة إلى جهد كبير لتفنيدها، وبيان أخطائها، وكشف زيوفها.

فهي أقل قيمة من أن توضع بين الفلسفات التي تستحق المنقاشة والاعتراض والنقد. ولولا أنها كتبت بأيدي رجال متخصصين في دراسة الفلسفة، ثمّ قامت منظمات ذات مخططات سياسية عالمية هدامة بترويجها في أسواق الفارغين من العقول، لنشر الإلحاد بالله وتدمير الأخلاق وسائر القيم الصحيحة عن طريقها، لما كان لها شأن يذكر، ولمَا رفعها أحدٌ من مجمع قمامات الآراء، لينظر إليها، ويفحص ماهيّتها، ولمَا اشتغل بقراءة كتبها مشتغلون حريصون على أوقاتهم أن تضيع سُدى، في قراءة كلام هراء

ص: 368

متهافت سخيف، لا قيمة له لدى أهل الفكر والنظر.

لكن ماذا نعمل وقد أمست مذهباً مُضلاً، وفيما يلي كشف الزيف:

الكاشف الأول: باستطاعة الباحث أن يحدد معالم فلسفة "سارتر" الوجودية الملحدة، التي أراد أن يجعلها مذهباً، من خلال تعبيراته الفلسفية المُعَمّاة، والتي فيها كلام كثير غير معقول، بالتحليل التالي:

من المعلوم لدى كل العقلاء والفلاسفة أن أحكام العقل الأولى والكبرى، تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ممكن الوجود، وهو كل موجود حادث، وكل ما يمكن عقلاً أن يحدث، فلا يحكم العقل باستحالة وجوده، حين توجد الشروط الكافية لإخراجه من العدم إلى الوجود.

وهذا القسم ينطبق على كل ما في الكون من أشياء، وأحداث، وتغيُّرات، وكلّ ما يتصور العقل إمكان حدوثه، سواءٌ بالتغيير والتبديل فيما هو موجود حادث، أو بخلق شيء جديد لا يستحيل عقلاً وجوده، ككائنات غير كائنات هذا العالم، ومخلوقات غير المخلوقات التي فيه.

القسم الثالث: مستحيل الوجود عقلاً، وهو ما يجب عقلاً بقاؤه في العدم من الأزل إلى الأبد.

ومن المستحيلات العقلية وجود رب خالق آخر غير الله الواحد الأحد، واجتماع النقيضين وجوداً في شيء واحد وزمن واحد.

وقد أراد "سارتر" نسف هذه الأحكام العقلية الأولى والكبرى، المتفق عليها عند العقلاء.

فحذف من التصور قسم "واجب الوجود عقلاً" فلم يتعرض له مطلقاً، لأنه يريد أن يقيم فلسفته على عدم الاعتراف بوجود رب خالق أزليٍ أبدي.

ص: 369

وحذف من التصور قسم "مستحيل الوجود عقلاً" فلم يتعرض له، لأن إثبات مستحيل الوجود يجر إلى إثبات واجب الوجود حتماً.

ثمّ جاء إلى قسم "ممكن الوجود" والذي ينطبق على الكون وما يجري فيه، وكل ما يمكن عقلا أن يحدث.

فألغى من هذا القسم وصف "الإمكان". فبقي شيء اسمه "الوجود" دون وصف، وإذ قد ارتفع منه الإمكان، فقد صار أمراً واجباً لا إمكان فيه ما دام قد وُجد.

آراء تخيلها وادعاها، ولم يُقِم عليها أي دليل. وهدفه أن يحجب أفكار المستجيبين لآرائه عن كل تفكير في الإمكان القائم في الكون، حتى لا يجرهم ذلك إلى الضرورة العقلية التي تلزمهم بإثباتٍ أزلي أبدي واجب الوجود، به تحوّلت الممكنات من العدم إلى الوجود، ولولاه لكانت إمكاناتها متكافئة القوة في جانب العدم، فلم يستطع أحد منها أن يغلب أكفاءه فيظهر إلى عالم الوجود.

وحين ألغى "سارتر" صفة "الإمكان" وأبقى صفة "الوجود" وحدها، اعترضته مشكلة أفكار الناس وتصوراتهم، القادرة على تخيّل أمور ممكنة غير موجودة، وبناء عليها يحاولون اختراع أشياء وصور جديدة بالتغيير والتحويل في مادّة الكون، وذلك يجر إلى إثبات الموجود الأول بعد عدة مراحل فكرية، وهو الأزلي الأبدي الخالق، الذي يرجع إليه تخصيص الممكنات ببعض إمكاناتها، وإخراجها بإرادته وقدرته من العدم، وهذا ما يحذره في فلسفته أشد الحذر.

فكان عليه أن يزعم أن الفكر مشاعر متغيرة غير ثابتة، ولا ماهيّة لها، وأن الأشياء توجد أوّلاً في الواقع، والذهن بعد ذلك يصنع ماهيتها. إلى آخر ما قدم من ادعاءات خارجة عن دوائر المعقولات التي تهضمها العقول، أو تستسيغها قبل هضمها.

ص: 370

حتى الفلاسفة الذين قد يستسيغون من غير المعقول ما هو قريب من دوائر المعقولات، لم يستسيغوا ادعاآته.

فمغالطته هنا ترجع إلى ما يلي:

1-

إهمال حقائق فكرية إهمالاً يشعر ببطلانها.

2-

ادّعاءات غير مقترنة بأي دليل عقلي أو علمي.

3-

طمس الأدلة العقلية والعلمية التي تُسقِط ادعاءاته وتخيلاته وتخريفاته، وتثبت وجود الرب الخالق وصفاته العظمى.

4-

حصر النظر بجانب جزئي واحد، هو جانب مدلول كلمة "وجود" فقط، وإقامة الحجب الكثيفة دون غير ذلك من حقائق، وإلْقَاء الغشاوات الإيهامية على أفكار من يستجيب له، حتى لا يفكر تفكيراً سليماً يهديه إلى الحق.

الكاشف الثاني: لقد ألغى الإمكان في الأشياء الموجودة، رغم أن الإمكان قائم في كل شيء من هذا العالم المشهود.

وبسبب صفة الإمكان فيه يتصرف الناس ضمن قدراتهم الذهنية والعملية بالتغيير والتبديل، والاختراع والابتكار، وكل وجوه الصناعات، والعمران والهدم. ولولا صفة الإمكان فيه لم يحدث شيء من ذلك.

لولا صفة الإمكان في قطعة الحديد الموجودة في الأرض، ما استطاع الصانع أن يصنع منها سكيناً، أو سيفاًَ، أو دولاباً في آلة، أو مسماراً، أو غير ذلك.

ولولا صفة الإمكان في الصخر، ما قطّعه الإنسان وبنى منه القصر.

هذه بدهيّة، ومع ذلك ادّعى "سارتر" نقيضها، ادعاءً فقط، بدون دليل ولا تعليل.

وزعم أن الشيء يوجد أولاً، ثمّ يصنع الشعور الإنساني له ماهيته.

ص: 371

فألغى بذلك قيمة الفكرة، حين يتخيل صورة، ويرسم حدودها، والغاية منها، ثمّ يطبق صنعها من مواد الكون، فتأتي وفق الصورة والحدود التي سبق أن رسمها.

أليس هكذا يفعل مهندسو العمران، ومهندسو السيارات والطائرات والآلات الميكانيكية وسائر الصناعات؟!.

أليس هكذا يفعل الخياط والحداد والنجار والحذاء والطباخ وكل عامل، وكل صانع؟!.

لقد ألغى كل هذا مع أنه من بدهيات الأمور، وادعى خلافه، ووضعه في قوالب ألفاظ فلسفية (وجود - إمكان - ماهية - في ذاته - لذاته - مشروع وجود - تغير مستمر - نزوع للمستقبل - تنصل من الماضي) إيهاماً وتلبيساً.

لكنّ أفكاره التخريفية لا يقبلها ذو ميزان عقلي لا يزال على فطرته التي فطره الله عليها، لم يُصب بخلل الزيوف الفلسفية القائمة على مُعَمَّيَاتٍ من مصطلحات لفظيّة يحسبها الجاهل شيئاً، كما يحسب الظمآن السراب ماءً.

إنه ذو هدف من إلغائه قيمة الفكر المخطط، لما يريد الإنسان عمله فيما يأتي، فهذه الحقيقة متى وضحت للإنسان واستقرّت في نفسه، استطاع أن يتخذ منها دليلاً هادياً، فإذا رأى صنعة متقنة هداه فكره إلى صانعها المتقن، إذ هي نتاج فكره وعمله.

لكن "سارتر" يريد أن يصرف قراءه عن ملاحظة صفة الإتقان العجيب المعجز في خلق السماوات والأرض، وما فيهما من ظاهرة الحياة العجيبة، وخلق الإنسان قمة عجائب الخلق، حتى لا يتنبه الفكر إلى أن الإتقان في هذا الكون إنما هو أثر لصفات خالق قادر عليم حكيم يتقن ما يخلق، فهو الذي قدّر وقضى، وخلق على وفق مقاديره الحكيمة، وهو سبحانه يدير كل أمر بحكمته العظيمة، وحتى لا يتنبه الفكر إلى أن هذه المتقناتِ الكونية لا يمكن أن توجد وجوداً تلقائياً من ذاتها، بعد أن كانت في طي العدم، دون

ص: 372

سابق خطة حكيمة يقدّرها عليم حكيم قادر.

لقد أراد "سارتر" أن يصرف قُرّاءه عن هذه الحقيقة ذات الدلالة البرهانية، الموصلة إلى الإيمان بالله الخالق، فوضع فكرته الخرافية المخالفة للبدهيات الأولى، والتي لا تقبلها أكثر العقول بدائية، فضلاً عن العقول المتقدمة في ميادين المعرفة.

فهل الواقع كما زعم "سارتر" من أنه لا يوجد فكر يخطط، وإرادة تختار من الاحتمالات الممكنة ما يراه الفكر أصلح وأحكم؟!.

وهل الواقع كما زعم "سارتر" أن الأشياء وأعمال الإنسان الإرادية الاختيارية، توجد أوّلاً ضمن طبائعها، ثمّ يأتي الفكر الإنساني فيضع للأشياء ماهياتها بحسب تصوراته لها؟!.

إذا كان يمكن للفكر الإنساني أن يستنبط ماهية شيء رآه موجوداً، ولم يكن له دخل في التخطيط السابق له، فهل يدل ذلك على أن كل ما هو موجود حادث قد وجد بنفسه، دون أن يصنعه أحد، ثمّ يصنع الفكر الإنساني له ماهيته في تصوراته؟!.

ما هذا الادعاء السخيف؟!.

إن كل العقلاء يقيسون ظاهرة الإتقان في الكون على ما يعملون بأنفسهم من أمور متقنة، فيثبتون أن المتقنات الراقية لا يمكن أن توجد من قبل أنفسها، دون أن تكون مسبوقة بخطة حكيمة، تحدد ماهياتها وصفاتها قبل وجودها.

العمارة الضخمة لا تظهر إلا مسبوقة بخطَّة مهندس وضع مخطّطها بفكره، ورسمه على ورقه، ثمّ نفذه في الواقع العملي على وفق الفكرة السابقة التي وضعها.

والمصنع الذي ينتج نوعاً من الصناعات، لا يظهر إلا مسبوقاً بخطة مهندس، وضع مخططه بفكره، ورسمه على ورقه، ثمّ نفّذه في الواقع

ص: 373

العملي على وفق الفكرة السابقة التي وضعها.

هكذا ظهرت في عالم الصناعات الإنسانية كل الصناعات، من أدناها حتى أعلاها وأرقاها وأدقها صنعاً، من صناعة الإبرة، إلى خياطة الثوب، إلى صناعة الطائرات والغواصات، والألكترونيات المعقدة جداً.

إن شيئاً منها لم يوجد قبل فكرة رسمته وخططته، ثمّ جاء إيجاده على وفق الخطة الفكرية.

لكن "سارتر" أراد أن ينسف هذه الحقائق بادعائه السخيف، فقال: الإنسان يوجد أولاً دون خطة سابقة، وأعماله الإرادية توجد أولاً دون خطة منه، ثمّ يصنع فِكْرُهُ ماهية لها يتخيلها من عند نفسه والعمليات الفكرية ليست وجوداً، إنما هي بمثابة مشروع وجود.

الكاشف الثالث: ألغى "سارتر" حقيقتي الخير والشر، بجرّة قلم، تضمّنت ادعاءً كاذباً.

وكذلك ألغى الحق والباطل، وألغى الجمال والقبح.

وجعل الشعور الإنساني التابع للهوى ونوازغ النفوس هو الذي يخلق قيم الخير والحق والجمال، وأن هذه ليست لها قيم في ذاتها.

وخالف في ذلك موازين العقول السليمة، وما تحس به الفطرة الإنسانية السوية.

لقد شطب على هذه القيم دون أي دليل، ليقول لمن يستجيب لأقواله:

انطلق: أيها الأحمق الغبي في عمل ما تريد أو تشتهي وتهوى، مهما كان ذلك في اعتبار الناس شراً، دون أن يكون لأحد عليك سلطان، فأنت الذي تصنع فكرة الخير حسب مزاجك، وأنت الذي تصنع فكرة الشر، وأنت الذي تخلق فكرة الحق وفكرة الباطل، وأنت الذي تخلق فكرة الحسن وفكرة القبيح.

ص: 374

كذلك يقول الشيطان للإنسان حين يوسوس له، لإغوائه.

لست أدري: هل العلوم الرياضية، والهندسيات، والحقائق المجردة، والقضايا المنطقية الكبرى، حتى الوجود نفسه، هي من خلق الفكر الإنساني، وهي أوهام في أوهام، في نظر "سارتر" وكل معتنقي الوجودية الملحدة؟؟!!.

هل الظلم والعدوان وكل الجرائم التي يرتكبها المجرمون، ليست في الواقع جرائم، حتى يراها الإنسان المجرم نفسه كذلك، دون أن يكون لغيره سلطان عليه في إملاء مفاهيم، ودون أن يكون في الواقع وجود لحقائق مجردة يمكن التحاكم إليها؟!!.

هكذا تقول فلسفة "سارتر" كما ظهر واضحاً من أقواله، مع ظاهر التناقض فيها.

ليس غريباً أن يُفرزه فكره مثل هذه السموم القواتل، وهو يهودي صهيوني، فهذه الأفكار وأشباهها قد عرفناها تماماً في المخططات اليهودية، الرامية إلى تدمير البشرية من الأمم غير اليهودية، وقد رأينا آثارها عند كل صانعي الأفكار المدمّرة من اليهود وأجرائهم ومنظماتهم.

الكاشف الرابع: يمثل "سارتر" في بعض ما قدّم من آراء فلسفية حضيض الأنانية والشح عند اليهود.

فأنانية "سارتر" أنانية عجيبة في دنيا الناس، لا توجد إلا عند الشاذين جداً.

لقد جعل الحب الذي هو أسمى الروابط الاجتماعية في الحياة، من قبيل سلب المحب لذاتية محبوبه، وتجاهل ما في الحب من عطاء وتضحية هما في مستوى القمة، ولا نظير لهما إلا في الإيمان الرفيع بالله واليوم الآخر.

هل الحب الذي تشعر به الأم في فطرتها تجاه طفلها يتضمن معنى سلب الأم لعالم طفلها وذاتيته؟!.

ص: 375

إن هذا الحب موجود في عالم الحيوان بشكل عام، وليس خاصاً في الإنسان الذي يمكن أن يفكر في مصالح نفسه مع عاطفة الحب.

حتى المحب المشبوب بشهوة الرجال للنساء هو حبٌّ فيه تبادل أخذٍ وعطاء، فالمحب لا يأخذ سعادة اللقاء بمحبوبه إلا ويعطي من نفسه عطاءً وتضحيةً هما أكثر من اللقاء الذي يأخذه.

لكن "سارتر" يريد أن يقطّع الروابط الاجتماعية كلها، وينمّي في الناس الفردية إلى أضيق حدودها، حتى تكون سبباً في تفتيت المجتمعات الإنسانية، تفتيتاً لا يبقي منها كتلة مترابطة متماسكة.

وهذا - كما نعلم - أحد مخططات شياطين اليهود، لتكون شعوب الأرض لُقماً سائغة في أفواه الثعالب والثعابين اليهودية.

فحين يرى "سارتر" أن حب الآخرين له سلبٌ لعالمه وسلبٌ لذاتيته، ويرى أن العلاقة بالناس هي التي تخلق لنا الشقاء، ويرى أن الآخرين هم الجحيم. فإنه يدعو إلى تقطيع الروابط الاجتماعية بين الناس.

هكذا يقلب حقائق الواقع الإنساني، ويصدّر أفكاراً باطلة سخيفة في ثوبٍ فلسفي، يمكن أن يفتن به بعض مراهقي قُرّاء الوافدات الفكرية (على طريقة مبتكرات الأزياء) مع سيل ما تأتي به الحضارة الغربية.

الكاشف الخامس: قدّم "سارتر" آراءه وأفكاره على شكل أحكام تقريرية، دون أن يؤيدها بأي دليل لا من الفكر، ولا من الحس، ولا من الواقع، ولا من المشاعر النفسية.

فما قيمة آراء وأفكار من هذا القبيل؟!

ص: 376

إن أي صاحب خيال يستطيع أن يقول أية فكرة تخطر في وهمه، ويزينها بصبغة كلامية، وزخرف من القول، ثمّ يطرحها في الميادين الفكرية، ويجعلها مذهباً فكرياً.

ولقد يكثر في الناس الخياليون الخرافيون، لكن المشكلة تبدو حينما يقوم بهذه العملية نفسها أناس عرفوا في الأوساط العلمية علماء باحثين، أو دارسي فلسفة، أو متتبعي معرفة، أو مكتشفي نظريات مقبولة، ولكن يكون لهم هوى، أو يكونون أعضاءً في منظمة ذات مصالح سياسية أو اجتماعية، فيستخدم مركزه العلمي، ليصدّر أفكاراً باطلة تخدم هواه، أو تخدم أهداف منظمته أو قومه، فيتداولها الناس تقديراً لمركزه العلمي، لا تقديراً للأفكار نفسها.

وكم قدّم أحكاماً تقريرية بدون أي دليل، أنكر حقائق يشعر بها الناس جميعاً بدون أي دليل أيضاً، وقلب المفاهيم بادعاءات باطلات.

وما أسهل على أي مبطل، أن ينكر بلا دليل، أو يثبت بلا دليل.

الكاشف السادس: يقول: "بوخينسكي" أستاذ الفلسفة بجامعة "فريبورج" بسويسرا، بعد عرضه آراء "سارتر" في الوجودية: "وليس في وسعنا هنا سوى الاقتصار على ذكر النتائج الأخلاقية التي ترتبت على هذه الفلسفة

والتي تمثلت في نكران كل القيم، وكل القوانين الموضوعة، وفي ادعاء عدمية - واستحالة وعدم جدوى الحياة الإنسانية، بل إن الوجودية قد أفرغت حتى ظاهرة الموت نفسها من معناها على يدي سارتر.

ومن نتائج الوجودية أيضاً، دعوتُها إلى التشكيك في جدوى قيام ما يتسم بروح الجد وطابعه، فهي فلسفة انحلالية عدمية تماماً".

ص: 377

موقف لسارتر:

حدثني الأستاذ "محمد العفيفي" أنه سمع من الشيخ الأستاذ الدكتور "علي عبد المنعم" رئيس قسم التفسير والحديث بكلية الشريعة بجامعة الكويت، أنه جلس مرة مع "سارتر" فطرح عليه عدة أسئلة، وأحرجه بها.

فسأل سارتر: من هذا؟

فقيل له: عالم أزهري.

فقال سارتر لمن عنده: أتجلسونني مع رجل من رجال "محمد" فكيف أناقشه؟

وانصرف عن المجلس

!

* * *

ص: 378