الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الثالث
لعبَة تطبيْق المنهَج العِلْميّ الخاصْ بالجَبريّاتْ
على السلوك الإرادي عند الإنسان
أخذ الغرب يستفيد من سبر ظاهرات الأشياء واستقرائها، وإجراء التجارب عليها لمعرفة صفاتها وخصائصها، والوصول إلى قوانينها الطبيعية التي فطرها الله عليها، ومعرفة أفضل طرق الانتفاع منها، تسخيراً، أو تنمية، أو تطويراً، أو تغييراً.
وكان ذلك منهجاً علمياً نافعاً جداً، وقد سبق إليه المسلمون أيام عصورهم العلمية الذهبية، في عمليات الاستقراء الكثيرة التي قاموا بها في مختلف مجالات العلوم التي خاضوا غمارها، وفي التجارب العلمية التي أولوها اهتماماً عظيماً في الكيمياء والميكانيكا والصناعات وغيرها. اهتداءً بهدي الإسلام.
ونَفْعُ هذا المنهج يعتمد أساساً - لدى دراسة الكائنات - على أن هذه الكائنات تخضع لقوانين فطرية ثابتة، فطرها الله عليها، وأن الخالق عز وجل إذ خلق هذه الكائنات أعطى كل شيءٍ نظام خلقه، وقوانين حركته وسكونه وتطوره وتغيره وتأثيره في غيره وتأثره بغيره. فالأشياء البسيطة والمركبة جميعها، متى اتخذت عناصرها وصفاتها الذاتية، انطبق على حركتها وسكونها وتطورها وتغيرها وتأثيرها في غيرها وتأثرها بغيرها قانون واحد.
هذه هي سنة الله في الأشياء وفطرته التي فطر الأشياء عليها، وهي
الفطرة التي نبّه موسى عليه السلام فرعون عليها، إذ قال له:"ربنا الذي أعطى كل شيءٍ خلقه ثمّ هدى" قص الله ذلك علينا في سورة (طه/20 مصحف/45 نزول) :
أي: أعطى كل شيء نظام خلقه، ثمّ هداه لأداء وظائفه في الوجود، تحركاً وسكوناً، ولقاءً وافتراقاً، وتطوراً وتغيراً، ودفاعاً وهجوماً، وزيادة ونقصاً، إلى غير ذلك مما لا يحصى، مما كشفت البحوث العلمية بعضه، ولا تزال تكتشف منه كل حين جديداً.
وقد دل على هذه الفطرة الثابتة الاستقراء الطويل، القائم على تجارب قرون مديدة، وأجيال عديدة.
وقد علمتنا التجارب الاستقرائية ثبات قوانين هذه الفطرة، ويُعبّر عن ذلك بثبات سنن الله.
والقرآن الكريم دل على ثبات هذه الفطرة، وثبات سنن الله في خلقه.
1-
ففي معرض بيان ملاءمة دين الله للناس لما فطر الله الناس عليه، فكراً، ونفساً، وجسداً، ووجداناً، ومشاعر داخلية، وحاجة في الحياة، لاغتنام الطمأنينة والسعادة القلبية الحقيقية، والسعادة النفسية الخالية من المنغصات، قال الله تعالى في سورة (الروم/30 مصحف/84 نزول) :
فقوله تعالى {لا تبديل لخق الله} يدل على ثبات الفطر التي فطر الله خلقه عليها، وثبات أنظمتها، وقوانينها، وسننها، ومن هذه الفطر واقع حال فطر الناس التي أنزل الله لها الدين الذي لا يلائمها غيره.
2-
وفي معرض بيان إحدى سننه الكونية في خلقه، وهي أن لا يحيق المكر السيء إلا بأهله، قال الله تعالى في سورة (فاطر/35 مصحف/43 نزول) :
{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلَاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ
لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}
فسنن الله الثابتة لا تبديل لها بسنن غيرها، ولا تبديل لها باستثناءات عارضة، ولا تحويل لها عن مجاريها، وطرقها، وغاياتها. ومن هذه السنن الثابتة أن لا يحيق المكر السيءُ إلا بأهله.
3-
وفي معرض بيان إحدى سنن الله التشريعية، قال الله تعالى في سورة (الأحزاب/33 مصحف/90 نزول) تهديداً للمنافقين ومرضى القلوب والمرجفين:
فمن سنن الله التشريعية تسليط الله رسله والمؤمنين، على المنافقين ومرضى القلوب بما دون النفاق والمرجفين، إذا لم ينتهوا عن مكايدهم، ومكرهم بالإسلام والمسلمين، ويكون هذا التسليط بطردهم من المجتمع الإسلامي أينما وجدوا، وبأخذهم بذنوبهم وتقتيلهم تقتيلاً انتقامياً شنيعاً مستأصلاً لهم.
وهذه السنة التشريعية من سنن الله الثابتة، فقد سبقت في الذين خلوا من قبل، وهي سنة باقية لا تبديل لها {ولن تجد لسنة الله تبديلاً} .
ولكن لم تدع الدواعي في عصر الرسول لهذا التسليط الانتقامي.
4-
وفي معرض بيان سنة الله التشريعية في الأحكام التي يخص بها أنبياءه، قال الله تعالى في سورة (الأحزاب/33 مصحف/90 نزول) :
فمن سنن الله التشريعية أن يخص أنبياءه بأحكام تشريعية، فهم
يعملون بموجبها غير متحرجين، ولو تعرضوا لاتهامات الناس، لأنهم يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً غيره.
5-
وفي معرض بيان سنة الله التكوينية في عقاب مكذبي الرسل، قال الله تعالى في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول) :
قُبُلاً: أي مقابلة ومواجهة، لا بياتاً أو في حالة قيلولتهم وغفلتهم.
6-
وفي معرض بيان سنة الله التكوينية في عقاب مخرجي الرسل من أوطانهم، قال الله تعالى لرسوله محمد في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) :
7-
وبين الله للناس سنته في معاقبة المكذبين، وأرشدهم إلى السير في الأرض للنظر في عاقبتهم، فقال تعالى في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
8-
وفي معرض بيان طائفة من الأحكام التشريعية المتعلقة بالنكاح والسفاح، قال الله تعالى في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :
فهي سنن تشريعية كانت أحكامُها منزلة على الأمم السابقة.
* * *
السنن التكوينية الجبرية إنما تنطبق على ما هو من الكون مجبور.
لكن القوانين الجبرية أو السنن الربانية الجبرية إنما تنطبق على ما هو من الكون مجبور لا اختيار له، فهي لا تنطبق على سلوك الكائنات الحية،
ذات الإرادات الحرة، في حدود دوائر سلوكها الإرادي الحر، الخاضعة فيه للمسؤولية والحساب والجزاء. أما في حدود دوائرها الجبرية من حركات وسكنات، ونمو وتطور، وتأثير في غيرها وتأثر بغيرها، وكل ما لا يخضع لإرادتها الحرة في ذواتها، فهي تخضع في كل ذلك لقوانين وسنن جبرية ثابتة، كسائر الكائنات المجبورة، لأنها في هذه الدوائر مجبورة لا اختيار لها.
وإذ منح الله الناس إراداتٍ حرة، ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، جعل سلوكهم الإرادي ضمن الحدود التي مكنهم من التحرك الإرادي فيها، خارجاً عن نطاق القوانين أو السنن الجبرية.
ولما كان لكل إنسان إرادة حرة ممكنة من اختيار ما تشاء، ومن التحرك في الحياة على ما تشاء، كان خضوع الناس جميعاً في مجالات حرية الإرادة التي رفع عنها الجبر، وفطرتها التي فطرها الله عليها، إذ أعطاها بقانون الخلق منحة التحرك والتوجه بالمشيئة الذاتية.
من أجل ذلك فإن دراسة ظاهرات السلوك الإنساني لا يستفاد منها قانون جبري عام، لأن القانون الجبري يناقض مبدأ الحرية التي منحها الله للإرادات الإنسانية، وبناءً على ذلك قال الله تعالى في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول) :
{وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ
…
*} .
وعلى الإنسان بعد ذلك أن يتحمل مسؤولية مشيئته، ويُعِدَّ نفسه
للحساب والجزاء، فمنحة الحرية غايتها الابتلاء، وثمرة الابتلاء الحساب والجزاء.
إذن: فكما لا يستفاد من دراسة ظاهرات السلوك الإنسان الإرادي قانون جبري عام، لا يستفاد منها أيضاً صحة السلوك أخلاقياً أو دينياً، ولو دل الاستقراء على أن النسبة الأعظم من الناس قد اختاروا هذا السلوك، ولو دل الاستقراء على أن معظم النجاحات في جمع الثروات، والظفر بالاستئثار بالحكم والسلطان، والوصول إلى الاستمتاع بلذات الحياة، قد كان باتخاذ سلوك معين.
فالقيمة الخلقية للسلوك تحددها النظرة المجرد إلى الحق والخير والفضيلة والجمال والكمال، والقيمة الدينية للسلوك تحددها التعاليم الربانية للناس، وهي التعاليم التي وضع الله الناس تجاهها موضع الامتحان والاختبار للحساب والجزاء، ولا تختلف القيمة الخلقية التي تحددها النظرة المجردة السليمة عن التعاليم الربانية.
فمن التناقض الذي لا يقبل به ذو عقل سليم، اعتبارُ السلوك الإنساني نفسه - ولو كان ظاهرة سلوك معظم الناس ولو حقق لهم نجاحات تسلط وغلبة ووفرة لذات - هو الذي يكشف القيمة الخلقية للسلوك أو يحددها، أو يشير إلى القانون الجبري للسلوك، فهذا السلوك إنما هو ثمرة إراداتٍ منحها الله حرية المشيئة ليمتحنها، هل تفعل خيراً أو تفعل شراً، هل تطيع خالقها أو تعصيه.
إن من التناقض المرفوض عقلاً، أن يوضع المخلوق موضع الامتحان، ليقاس سلوكه بقيم سابقة ثابتة، ثمّ يُعتبر سلوكه الفعلي هو المحدد لهذه القيم، فإذا فعل شراً بمقياس النظرة المجردة، كان هذا السلوك نفسه هو الخير بموجب هذا الاعتبار الفاسد، إذن فما علينا إلا أن نقلب حقائق الأشياء السابقة الثابتة.
إننا لا نفعل مثل ذلك في امتحاناتنا السخيفة التي نجعل فيها قيماً
رمزية نخترعها، وقد لا يكون لها قيم حقيقية في ذواتها. فكيف بالقيم الثابتة عقلياً، والقيم الأزلية، كقيم الحق والخير والفضيلة والجمال والكمال.
لعبة المضللين:
ويستخدم المضللون بالمذاهب الفكرية لعبة تطبيق المنهج العلمي، الذي يطبق على الكائنات التي تخضع في فطرتها لقوانين أو سنن جبرية ثابتة، فيطبقونه على الناس في دوائر سلوكهم الإرادي الذي وضعهم الله فيه موضع الامتحان والاختبار، ليبلوهم، ثمّ ليحاسبهم ويجازيهم، وما أكثر ما نجد هذه اللعبة الحقيرة، تزييفاً للحقيقة، لدى دراستنا للمذاهب الفكرية المعاصرة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والنفسية والاجتماعية وغيرها.
إننا بتطبيق هذا المنهج العلمي القائم على الاختبار والملاحظة والسبر والاستقراء، قد نصل إلى معرفة أحسن طريقة لصهر المعادن، والانتفاع من الأشياء المادية، وإلى أحسن طريقة لزراعة النباتات الحقلية وزراعة الأشجار، وإلى أحسن طريقة لتربية الحيوانات وتنميتها وتحسين أصنافها، والانتفاع من ثرواتها، وإلى أحسن طريقة لمعالجة الأمراض وتقويم الأجسام، وتعليم المتعلمين وتربيتهم، ونستطيع أن نستفيد من النجاحات الأكثر لاستخدام بعض الطرق أفضلية هذه الطرق، لأن قوانينها الجبرية وسنن خالقها الفطرية تقضي بذلك.
لكن سبر السلوك الإنساني القائم على الإرادات الحرة لا يصح في منطق العقل اعتبارُه أساساً لتحديد قِيَم سلوك الناس، من حق وباطل، وخير وشر، وجمال وقبح، وكمال ونقص.
فلو أن سلوك النسبة العظمى من الناس كان هو الكذب والخيانة والظلم والعدوان، لما كان هذا السلوك هو الأقوم والأفضل، والسلوك الذي يشتمل على القيمة الرفيعة النافعة، بل تظل هذه الأخلاق قبيحة وسيئة ورذيلة، ولو أجمع الناس على ممارستها.
ولو لم يصدق في الناس ولم يعترف بالحق ولم يشكر ولم يعط المعروف أحدٌ منهم، لما نقضت قيم هذه الفضائل مثقال ذرة.
ولو أن سلوك أكثر الناس كان هو التضمخ بالنجاسات، والعيش في زرائب الحيوانات، ومخالطة الخنازير والأكل معها، لما كان هذا هو السلوك الأحسن، والأكثر ذوقاً وجمالاً وكمالاً.
ولو أن واحداً من الناس فقط كان هو المتطهر رفيع الذوق في السكن والعمل والمعاشرة، لما نقضت قيمة الطهارة وجمال السكن والعمل والمعاشرة مثقال ذرة.
فالسلوك الإرادي للناس ليس هو الذي يُحَدِّد القيم الخلقية، إن القيم الخلقية قيمٌ سابقة ثابتة، والسلوك الإنساني هو الذي يُقَوَّم بها.
لو أن الإحصائيات كشفت أن أكثر الأغنياء إنما يجنون ثرواتها بطرق الكذب والغش والسرقة والسلب والنهب، فليس معنى ذلك أن أفضل وسيلة خلقية للحصول على الثروات الطائلة، ممارسةُ الكذب والغش والسرقة والسلب والنهب وأكل أموال الناس بالباطل.
إن المنهج العلمي الذي يستخدم لمعرفة القوانين الثابتة، والسنن الربانية الجبرية، لا يجوز بحال من الأحوال تطبيقه على السلوك الإرادي للناس. إن تطبيقه على هذا السلوك لعبة شيطانية خبيثة، تلبس رداء المنهجية العلمية، وترتدي قناع البحث العلمي المعترف به في العلوم زوراً وتزييفاً للحقائق. إنها تستخدم هذا المنهج العلمي في غير المحل الذي يصح أن يُسْتَخدم فيه، فشرط استخدامه خضوع الكائن لسلطان القوانين والسنن الربانية الجبرية الثابتة، التي لا تبديل لها ولا تحويل لها.
ولا بد أن نلاحظ أن القوانين والسنن الربانية الجبري الثابتة قائمة على الحق والعدل، وطرقها هي أكمل الطرق وأحسنها، لتحقيق أفضل النتائج التي ترجى منها، لأنها تقدير العزيز العليم الخالق جل وعلا.
قال الله تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ
…
} .
وقال الله تعالى في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول) :
وقال الله تعالى في سورة (إبراهيم/14 مصحف/72 نزول) :
وقال الله تعالى في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
ومن كلمات الله الخلق والتكوين، فهي كلمات صدق، والصدق حق، وهي كلمات عدل، والعدل في الخلق يكون بإعطاء كل شيءٍ حقه، وحقُّه هو ما يكون به أفضل كائن للغاية التي خلق لها، ضمن التوزيع العام لجملة الكون، منذ نشأته حتى نهاية أجله المقرر في خطة الخلق.
تحذير:
فعلينا أن نكون على بصيرة تامة، وأن نكون على حذر من أن تخدعنا هذه المغالطة، القائمة على لعبة تطبيق المنهج العلمي الخاص بالجبريات في الكون، على السلوك الإرادي عند الإنسان، الذي وضعه الخالق فيه موضع الامتحان والمسؤولية وأعطاه الشروط التامة له.
* * *