المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأولفرية التناقض بين العقل والدينوبين العلم والدين - كواشف زيوف

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌فاتِحَة الكِتَاب

- ‌خِطّةُ الكِتَابْ

- ‌القِسمُ الأوّل مِنَ الكِتَابمقدمات عامة

- ‌الباب الأولتَعريفٌ بمَنَاخِ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة

- ‌مَقَدِّمَة عَامَّة

- ‌الفصْل الأوّلمُنَاخ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة في أوربَّا

- ‌الفصْل الثانيتحرّك اليَهُود مُسْتَغلّينَ المنَاخ الملَائِمَ في أورُبَّا

- ‌الفصل الثالث: أسبَابُ تَقبّل شعُوب الأمَّةِ الإسْلاميَّة لوافدات المذاهب الفكرية المعاصرة

- ‌الباب الثانيوَسَائِل التّضليل لِتَرويج الشِّعَارَاتوالآراء والمذاهب الفكرية المزيفة

- ‌الفصْل الأوّلالخطّة العَامّة

- ‌الفصْل الثانيالمغَالَطاتُ الجَدَليّة

- ‌الفصْل الثالثلعبَة تطبيْق المنهَج العِلْميّ الخاصْ بالجَبريّاتْعلى السلوك الإرادي عند الإنسان

- ‌القِسمُ الثاني مِنَ الكِتَابعَرض لأهَمِّ الشعَارات البرّاقة المزيّفّةوَلآرَاء وَمذاهبْ فكريّة معَاصِرة جزئيّةمُنبثقة في عُلوم مختلفة مع كشف زيوفها وتعريفْ بأئِمتهَا

- ‌الباب الأولمقدِّمات حَولَ اعتِمَاد العَقْل وَالعِلْم الإنسَانيبديلاً للدِّين

- ‌الفصْل الأوّلالعَقلَانيَّة

- ‌الفصْل الثانيالعِلمَانيّة

- ‌الباب الثانيافتِراءَات ترَوَّج ضدّ الدّين وَالأخلَاقوَالقَوانين وَالنُظم المنبثقة عَنْهما

- ‌الفصْل الأوّلفريَة التّنَاقض بَيْن العَقل وَالدّينوبَينَ العلم والدّين

- ‌الفصْل الثانيمَزاعِمُ المُضلِّين لِهَدْم أسُس الأخلَاقوأبنيتها وتطبيقاتها في المجتمع

- ‌البَاب الثَالثْخِدَاع الشِّعَارَاتالتي يتولد عنها في الرأي العام مسلمات خاطئات وموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌المقدمة

- ‌الفصْل الأوّلالحُريّة

- ‌الفصْل الثانيالمُسَاوَاة

- ‌الفصْل الثالثالتقَدّميَّة والرَّجْعيَّة

- ‌الفصْل الرابعالاشتِراكيّة

- ‌الفصْل الخامِسْالوَطنيَّة وَالقَوميَّة وَالإنسَانيّةوموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌البَاب الرَّابعْأئمّة وَمَذاهِبُ جُزئيّة في عُلُوم مختَلِفَة

- ‌الفصْل الأوّلفروُيْد وَمَدرَسَتُه في عِلْم النّفْس

- ‌الفصْل الثانيدَارْوين وَمَذهَبُ التطوُّر

- ‌الفصْل الثالثدوركايْم وَآرَاؤه في علْم الاجتِمَاعِ

- ‌الفصْل الرابعبرجْسُون وَآرَاؤهُ في نَشأةِ الدّين وَالأخلَاق

- ‌الفصْل الخامِسْسَارْتر وَآراؤهُ الفَلسَفيَّة في الوُجُوديّة

- ‌الفصْل السادسمْكيافيلّي وَفِكرَة: الغاية تبرر الوسيلة

- ‌الفصْل السّابعمَارْكوز وَآرَاؤهُ الثّوريَّةلإقامة ديكتاتورية حكم الأقلية الواعية

- ‌الفصْل الثامِنأوجسْت كونتْوَدين الإنسَانيّة

- ‌القِسمُ الثّالِث مِنَ الكِتَابأئِمة وَمَذاهِبْ فِكريّة معَاصِرَة كَبيرَة

- ‌البَابْ الأوَّلالماديَّة الإلحاديّة وَالماديّون

- ‌الفصْل الأوّلمقدّمات عامة

- ‌الفصْل الثانيأئمّة مَادِّيّون وَنُبّذٌ مِنْ آرَائهم الفَلْسَفيَّةِ الإلحَادية

- ‌الفصل الثالثأسُسُ الفِكْر المادّي الإلحَادي

- ‌الفصل الرابعكشفُ زيُوف أفْكار المادّيّين وَجَدَليَّتِهِم

- ‌الفصل الخامسعقوبَة العَذابْ النّفسِيّ للمُلْحِدينَ

- ‌الفصل السادسالمادية الجدلية في الكون والتاريخ الإنساني

- ‌الباب الثانيالنُّظمُ الاقتِصَاديّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنظرة تاريخيَّة حَول المذاهبْ الوَضْعيَّةللنظم الاقتصادية

- ‌الفصل الثانيلمحّة مُوجَزَة حَول مَنهج دين الله

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين المذاهب الاقتصادية

- ‌الفصل الرابعنظرات متفرقة

- ‌الباب الثالثالنّظمُ السِيَاسيَّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنَظرَة تاريخيَّة حَولَ المذاهِبْ الوَضْعيَّةلِلنُظم السيَاسيّة

- ‌الفصل الثانيلمحَة مُوجَزَة حَول مَنهَجْ دين اللهِ للنّاسِفي شؤون الحكم

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين النظم السياسية

- ‌الفصل الرابعمتفرقات

الفصل: ‌الفصل الأولفرية التناقض بين العقل والدينوبين العلم والدين

‌الفصْل الأوّل

فريَة التّنَاقض بَيْن العَقل وَالدّين

وبَينَ العلم والدّين

أ- أصل الفرية:

بغية هدم الدين ونشر الكفر بالله واليوم الآخر، وإنكار الشرائع الربّانية، ادّعى أعداء الدين دعويين:

الأولى: ادّعاؤهم وجود التناقض بين العقل والدين، وبنوا على هذا الادّعاء الباطل مقولتهم التي تتضمّن ما يلي:

بما أن العقل ميزانه صحيح يدرك الحق حقاً والباطل باطلاً، ويكشفهما، فالدين هو الذي ينبغي طرحه وعدم الاعتماد عليه، ويتجرّأ الوقحون منهم فيقولون: إن الدين خرافة وأوهام من صناعة أوهام الناس، أو من اختلاقاتهم لخدمة مصالحهم.

ثمّ أخذوا يمجدون العقل والمذهب العقلي، وراجت في هذا الاتجاه كلمة "العقلانية" كما سبق.

الثانية: ادّعاؤهم وجود التناقض بين العلم والدين ، بعد أن حصر الاصطلاح الغربي الحديث اسم "العلم" في المعارف التي تقدّمها وسائل الملاحظة والتجربة الحسيتين، والتطبيقات ونتائجها، وحصر اسم "المنهج العلمي" بهذه الوسائل.

وبنوا على هذا الادعاء الباطل مقولتهم التي تتضمن ما يلي:

بما أن الوسائل العلمية الإنسانية تكشف عن الحقائق بيقين، نظراً

ص: 171

إلى ما تشتمل عليه من المشاهدات والإدراكات الحسية، والتجارب والتطبيقات، فالدين هو الذي ينبغي طرحه وعدم الاعتماد عليه، ويجب الأخذ بالمناهج والوسائل العلمية الإنسانية. ويتجرأ الوقحون منهم فيقولون: إن الدين خرافة وأوهام من صناعة أوهام الناس، أو من اختلاقاتهم لخدمة مصالحهم.

ثمّ أخذوا يمجدون العلم - وفق مصطلحهم الحديث - والمذهب العلمي التجريبي، ويرفضون الدين رفضاً كلياً، أو يعزلونه عن شؤون الحياة، ويحصرونه في دوائر صغيرة جداً، غيبية أو تعبديّة، وراجت في هذا الاتجاه كلمة "العلمانية".

ب- مغالطة لتثبيت هاتين الدعوتين:

ولتثبيت دعوى التناقض بين العقل والدين، وبين العلم والدين، والإقناع بأن ذلك واقع فعلاً استغل أعداء الدين ما يلي:

1-

أغاليط رجال الكنيسة النصرانية في مجالات العلوم الكونية، وتفسيرات ظاهرات العالم المادي، وفي المجالات الفكرية الفلسفية، والتي نسبوها إلى الدين وأضافوها إليه افتراءً أو جهلاً.

2-

أغاليط اليهود وتحريفاتهم وافتراءاتهم على دين الله.

3-

خرافات أديان أخرى محرّفة عن أصولها المنزلة.

4-

خرافات أوضاع بشرية سمت أنفسها أدياناً وهي لا تمت إلى دين رباني بصلة، لا في تحريفاتها ولا في أصولها.

5-

أغاليط مفسري وشراح النصوص الدينية، وما يجزمون بنسبته إلى الدين من دلالات نصوص دينية غير ثابتة بصفة قطعية.

حتى الإسلام خاتمة الرسالات الربانية استغل أعداء الإسلام بعض ما ينسب إليه، مع أنه لا يوجد في الإسلام نصٌّ أو تفسير أجمع عليه علماء

ص: 172

المسلمين، مما يخالف قضية عقليةً مقطوعاً بها، أو قضية ثابتة بالوسائل العلمية الإنسانية مقطوعاً بها.

ولكن قد يوجد فيما ينسب إلى الإسلام بوجه عامّ نصوص غير ثابتة بصفة قطعية، وآراء اجتهادية غير متفق عليها، قد يتناقض بعضها مع حقائق علمية، أو مع حقائق ثبتت بوسائل العلم الإنساني، ولكن هذه النصوص وهذه الآراء الاجتهادية لا تمثل فكراً دينياً ثابتاً مجمعاً عليه، وغير قابل للتعديل.

ولدى التبصر في هذه المغالطة التي تُسْتَغَلُّ فيها أغاليط الناس، لتثبيت دعوى التناقض بين الدين والعقل، ودعوى التناقض بين الدين والعلم، مع أن الدين الحق تنزيل رباني لا يصح نسبة أغاليط الناس إليه، ولا جعلها إحدى عناصره وبعض مكوّناته، لدى التبصر في هذه المغالطة ينكشف باطلها، ويظهر زيفها، فيرفضها العاقل الحصيف المنصف، وينبذها سخيفة مهما زينها المبطلون أعداء الدين الحق المنزل من عند الله، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

جـ- قصة انتشار هاتين الدعويين:

قبل النهضة العلمية المعاصرة، التي استخدمت فيها وسائل الملاحظة والتحليل والتركيب والتجربة الحسية التطبيقية على الأشياء ظهرت فكرة تمجيد العقل وقدرته على معرفة حقائق الأشياء كلها، وبدأ الترويج لفكرة وجود التناقض بين الدين والعقل من قبل أعداء الدين وأجرائهم.

وافتتن المتنورون يومئذٍ بالعقل افتتاناً عظيماً، وأعطوا لآرائه ومفاهيمه صفة العصمة عن الخطأ في كل شيء يملكه أو لا يملكه، حتى الأغاليط التي كان المفكرون والفلاسفة يقعون فيها بحكم كبوات الأفكار، أو نوازع النفوس ونوازغها، كان المتنورون يمجدونها على أنها أحكام عقلية صحيحة، وربما نظر عامتهم إليها على أنها قطعيات عقلية.

وانتشرت هذه الفتنة بالعقل وآرائه وتصوراته ولو لم تكن أحكاماً

ص: 173

صحيحة، فضلاً عن أن تكون أحكاماً لها نصيب ما من الصحة أو الرجحان.

وظهر يومئذٍ المذهب العقلي، وأطلق عليه اسم "العقلانية" أو المذهب العقلاني.

وصار المفتونون بالعقل وآرائه وأحكامه يقيسون كل مسائل الكون وشؤونه، وكل مسائل الدين والغيبيات بالعقل، مهما كان نصيبه من البصيرة بالحقائق قليلاً ضئيلاً.

د- الحقيقة بين الدين والعقل والعلم:

مسايرة للمصطلح الغربي الرائج بين أوساط المثقفين الذي خصّ اسم "العلم" وعنوان "الطريقة العلمية" بما يكتسب بالوسائل العلمية التجريبية الحسيّة، أفرّق بين الدين والعلم هنا.

مع أن الدين الحق ليس قسيماً مغايراً للعلم، بل هو علم عن طريق الوحي، فما جاءت به طرق الدين اليقينية هو من قبيل الحقائق العلمية.

وللحقائق العلمية طرق إثبات أخرى، وطرق إثبات الحقائق العلمية في الفكر الإسلامي تتلخص بما يلي:

1-

المعرفة المباشرة، وهذه تكون بالإدراك الحسي، ولو بوسائل الأجهزة والآلات والأدوات الصناعية أو الطبيعية.

2-

الاستدلال العقلي بمختلف طرقه الإستنتاجية والإستنابطية.

3-

الخبر الصادق، وهو قسمان:

* إنساني يعتمد عليه الناس في نقل الأخبار والمعارف المختلفة، بعضهم عن بعض.

* عن طريق الوحي الرباني الذي يختص الله به المصطفين من عباده، وثقة الناس بمن يبلغ من الناس عن الوحي مباشرةً، مشروطةً بأن

ص: 174

يكون مؤيداً من الله بمعجزة، فالمعجزة للنبي بمثابة الشهادة من الله له بالصدق فيما يبلغ عنه.

وعلى هذا فالمقابلة ليست بين الدين والعلم، ولكن بين طرق اكتساب العلم الذي يأتي به الدين، وطرق اكتساب العلم بالوسائل الإنسانية الحسية أو العقلية أو الخبرية.

ولا غرو أن الوسائل الإنسانية الحسية أو العقلية أو الخبرية لاكتساب المعارف، وهي منحة من الله لعباده، حتى يستخدموها في اكتساب العلوم المختلفة، ولذلك كان الإنسان مسؤولاً عنها عند الله في مجال اكتساب العلم، والدليل على ذلك قول الله عز وجل في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) :

{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}

ولا تَقْفُ: أي ولا تتّبع.

إن هذه الطرق والوسائل الإنسانية تقدّم شهادة يقينية بالحقائق التي توصلت إليها، أو شهادة ترجيحية بالمعارف التي ترجحت لديها بغلبة الظن.

كذلك الوحي الجامع لطرق اكتساب العلم الذي يأتي به الدين، هو أيضاً منحة من الله لعباده، وقد جعله الله للناس طريقاً لاكتساب طائفة من العلوم، وهي التي يطلق عليها اسم علوم الدين، ونلاحظ أن أهم ما يختص بها العلوم الغيبية التي لا تدركها الحواس الإنسانية، ولا تستطيع العقول بوسائلها إثباتها مستقلة عن أنباء الدين، وكذلك التكاليف الربانية التي يكلف الله عباده العمل بموجبها أمراً أو نهياً، إلزاماً أو ترغيباً.

ويلاحظ أن معظم التكاليف الدينية معقولة المعنى، وهي تحقّق بالتجارب العلمية مصالح العباد، وإن كان الهدف الأساسي منها امتحان طاعة العباد لبارئهم، وما لا يدرك الناس الحكمة منه فحسبه أنه طريقة

ص: 175

لامتحان طاعة الإنسان المكلف للذي له الخلق والأمر وهو على كل شيءٍ قدير.

أما الحقيقة بالنسبة إلى الأمور الوجودية (غير الاعتبارية وغير النسبية والتي ليست من قبيل تكاليف الابتلاء) فهي واحدة. والإدراك الحسي يقدم شهادة بما توصل إليه من نتائج نحوها، ويرافق الإدراك الحسي الوسائل المادية التي يستخدمها الحس، كالملاحظة والتجربة والتطبيقات المتكررة، مع الأدوات والآلات والأجهزة الصناعية والطبيعية التي تثبت صحة شهاداتها، كالمقاييس، والموازين، والكواشف المختلفة، وذوات الإحساس المادي غير الإرادي الكيميائي والفيزيائي، حتى الذري والألكتروني.

والاستنتاج أو الاستدلال العقلي يقدم أيضاً شهادة بما توصل إليه من نتائج نحوها.

ولا يمكن أن تتناقض نتائج الإدراك الحسي ونتائج الاستنتاج العقلي إلا وأحدهما أو كلاهما مصاب بالخلل، كما لا يمكن أن تتناقض الحواس الخمس فيما بينها إلا وأحدها أو أكثر مصاب بالخلل، فإذا أدرك حسُّ اللمس الشيء واحداً، وأدركه البصر اثنين فقد يكون البصر أحول، وقد يكون الغلط من اللمس. وطبيعة الحواس أن تتكامل فيما بينها، كذلك وسائل المعرفة التي منحها الله للناس ليكتسبوا معارفهم وعلومهم عن طرقها أو باستخدامها.

إنها جميعاً منح ربانية وضعها الخالق بين أيدي الناس وفي ملكهم ليعرفوا بها حقائق الأشياء، كما سخر لكل منها في كونه وسائل تساعدها على اكتشاف الحقائق، وتقدم لها شهاداتها عن مشاهداتها، أو تكشف لها عن المؤثرات التي أثرت فيها، وعن مبلغها من القوة، وغير ذلك من مقاديرها.

إن الطرق الصحيحة التي تتجه للتعرف على شيء واحد، أو تهدف

ص: 176

للوصول إلى غاية واحدة، لا بد أن تكون نتائجها متطابقة، أو متكاملة غير متناقضة.

فالشيء الواحد قد تقدم عنه العين معلومات لا تقدمها الأذن ولا يقدمها الذوق ولا يقدمها الشم، وكل حاسة تقدم معلومات لا تقدمها الحاسة الأخرى، ولكنها لا تتناقض فيما بينها بل تتكامل.

كذلك ينبغي أن تكون طرق الإدراك الحسي مع طرق الاستدلال العقلي مع طرق الخبر الإنساني مع طرق الوحي، إذ الأصل فيها أن تتكامل وتتوافق لا أن تتناقض، فإذا تناقضت فلا بد أن يكون في بعضها أو في جميعها خلل، والصحيح منها هو الذي يعطي صورة صادقة عن الحقيقة بمقدار ما يقدم من جلاء ووضوح وإثبات.

وأية وسيلة مهما كانت صادقة وصحيحة فإن الغالب في شأنها أن تكشف جزءاً من الحقيقة، وقلما تكشف كامل الحقيقة، وقد قال الله عز وجل في سورة (الإسراء/17 مصحف/50 نزول) :

{وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً}

والوحي الذي هو منحة من الله لعباده عن طريق النبوة هو طريق من طرق المعرفة الصحيحة، وهو يقدم شهادة بالحقيقة، عن الشيء أو الأمر الذي أخبر عنه. ومتى كان الخبر عن الوحي خبراً يقينياً مقطوعاً به فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يتناقض مع اليقين الذي تُوصِلُ إليه الوسائل الإنسانية الحسية أو العقلية أو الخبرية. ولو أمكن أن تتناقض لكان معنى ذلك أن الفاطر الحكيم لم يضع بين أيدينا الوسائل الصحيحة التي تكسبنا المعارف والعلوم الحقة، أو لم يصدقنا فيما أخبرنا به عن طريق الوحي، وكل من الأمرين مستحيل عقلاً وشرعاً.

إن الله عز وجل قد جعل وسائل المعرفة فينا مسؤولة في ميدان المعرفة والبحث العلمي، ومسؤوليتها هذه رهن بأنها من الطرق الموصلة إلى الحقيقة، كما جعلنا مسؤولين عن التسليم بما يخبرنا به عن طريق

ص: 177

الوحي، لأن برهان العقل قد قام لدينا بأن ما يخبرنا به الرسول عن الوحي صدقٌ وحق، والجامع بين الأمرين هو أن كلاً منهما يقدم شهادة بالحقيقة، وبما أن الحقيقة واحدة فإنه لا يمكن أن تتناقض نتائج الطرق الصحيحة الموصلة إليها. ومتى ظهر التناقض فلا بد أن يكون ذلك لخلل أصابها أو أصاب واحداً منها.

فمن الأمثلة ما يلي:

لقد أخبرنا الله أنه لا إله إلا هو، وهذا خبر جاءنا به الوحي، فقدم لنا شهادة بحقيقة وحدانية الخالق تبارك وتعالى، والبحث العقلي والبحث العلمي بالوسائل الإنسانية في هذا المجال لا بد أن يوصلا إلى هذه الحقيقة نفسها، ولذلك قال الله عز وجل في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :

{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ

*} .

فلدينا إذن حول هذه الحقيقة شهادة الله، إذ أخبرنا بوحدانيته عن طريق الوحي الذي بلغنا به الرسول المؤَيَّدُ من الله بالمعجزات الباهرات، ولدينا أيضاً شهادة أولي العلم الذين توصلوا إلى هذه الحقيقة عن طريق البحث العلمي، والدلائل العقلية البرهانية.

فمن الغفلة الكبيرة، والجهل بأصول المعرفة، إقامة الصراع والنزاع بين ما يأتي من المعارف الكونية عن طريق الدين، وما يأتي منها عن طريق الوسائل الإنسانية، مع أن هذه وتلك شواهد ربانية، أقامها الله بين يدي الإنسان ليعرف بها الحقيقة. وهل يشهد الله عز وجل شهادتين متناقضتين؟! أو يضللنا سبحانه وتعالى فيضع لنا وسيلتين تعطي كلٌّ منهما نتيجة متناقضة للأخرى في موضوع واحد؟!.

هذا أمر لا يكون في حالٍ من الأحوال، وحكمة الله العليّ العليم الحكيم القدير تأباه.

ص: 178

وواجبنا لدى البحث عن الحقيقة أن نحرر تحريراً دقيقاً ما تأتينا به الوسائل الإنسانية من المعارف، وما يصلنا من أخبار الوحي.

* * *

أسباب ما يظهر فيه التناقض:

وكل مظهر للتناقض بين ما تشهد به الوسائل الإنسانية للمعرفة، وما تشهد به النصوص المنسوبة إلى الدين، لا يعدو أحد الاحتمالات التاليات:

الاحتمال الأول: أن يكون الذي نسب إلى العقل أو العلم بالوسائل الإنسانية لم يصل إلى مرحلة الحقيقة المقطوع بها.

كالنظريات التي لم تصل إلى مستوى القضية المقطوع بها جزماً، والتي ما زالت رهن البحث والنظر، أو التي لا سبيل إلى إثباتها بأدلة علمية يقينية، وإن اعتقدها العلماء الماديون لعدم وجود ما هو أقوى منها في نظرهم المادي البحت، ولأنه لا اختيار لهم بعد ذلك إلا التسليم بما جاء به الدين، وهم يرفضون نفسيّاً هذا الأخير.

* وكالفرضيات التي لم ترق بعدُ إلى مستوى النظرية العلمية، فضلاً عن أن تكون ضمن الحقائق العلمية.

الاحتمال الثاني: أن يكون الذي نسب إلى الدين من نص لم يصل إلى درجة القطع بثبوته، بل هو ضعيف لا يحتج به، أو ظني الثبوت لا يفيد مضموناً مقطوعاً به.

الاحتمال الثالث: أن يكون فهم النص الديني فهماً اجتهادياً ضعيفا، أو ظنياً يتطرق إليه الاحتمال، فهو غير مقطوع به، أو فهماً مجانباً للصواب أصلاً، ومردوداً بأدلة أخرى أقوى منه.

وفهم النص الديني إذا كان غير مدلولٍ عليه بصورة قطعية، وخالف حقيقة عقلية مقطوعاً بها، أو حقيقة علمية أثبتتها وسائل المعرفة الإنسانية بصورة قطعية، فإن النص الديني لا يتحمل وزر هذا الفهم الاجتهادي

ص: 179

المخطئ. بل يكون وزر هذا الفهم على صاحبه، وهو الذي يُعزى إليه الخطأ، وإن كان معذوراً بخطئه الذي وقع فيه.

كخطأ بعض أهل الاجتهاد في فهم النصوص الدينية، في مسألة كروية الأرض ودورانها حول نفسها وحول الشمس.

وأنبه هنا على أن من القواعد المقررة عند علماء المسلمين أن عموم النص الديني قد يراد به الخصوص، فلا يصح أن يُحمل عندئذٍ على إرادة العموم إذا كان لا ينطبق إلا على بعض أفراد العموم في الواقع المدرك بالحس، أو إذا كان منطق العقل الصحيح يقضي بذلك.

فذكروا من أقسام العام "العام الذي أريد به الخصوص ابتداءً"، وذكروا أن القرينة الدالة على ذلك قرينة عقلية، ومثلوا له بوصف الله عز وجل الريح التي أهلكت قوم عاد: بأنها تدمر كل شيءٍ بإذن ربها في قوله تعالى في سورة (الأحقاف/46 مصحف/66 نزول) :

{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لَا يُرَى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} .

قال علماؤنا ومنهم الإمام أحمد: وقد أتت هذه الريح على أشياء لم تدمرها، كمساكنهم والجبال التي في أرضهم، فدل ذلك بالقرينة العقلية على أن هذا اللفظ العام قد يراد به الخصوص في الاستعمال، وقالوا: إن دلالة العام على استغراق جميع أفراده دلالة ظنية.

وأهون من ذلك بلا خفاء، حمل اللفظ الذي يحتمل عدة دلالات وهو قابل لإرادة إحداها، على إرادة المعنى الذي ينطبق على الواقع المشاهد، أو تكشفه الدلائل العقلية أو الدلائل العلمية التي تستخدم فيها الوسائل الإنسانية، ولكن يشترط للجزم بذلك الوصول إلى يقين علمي، وإلا فمن الخير إبقاء اللفظ صالحاً للاحتمالات التي يمكن أن يدل عليها،

ص: 180

في انتظار ما يصل إليه البحث العلمي بيقين، هذا إذا كان مضمون النص من الأمور الكونية، والذي يمكن الوصول إلى حقيقته بالوسائل الإنسانية، أما الأمور التشريعية والغيبية الاعتقادية التي لا سبيل إلى معرفة حقيقتها بالوسائل الإنسانية فالنصوص فيها تفهم بموجب مقررات وقواعد أصول الفقه، وما يقتضيه الأرجح من دلالة اللفظ وفق أساليب الاستعمال البياني.

* * *

ورطة النصرانية:

وبهذه المناسبة نتذكر أن النصرانية لما سقطت في طائفة من المفاهيم الباطلة الدخيلة على أصل الدين، والمخالفة له، والمناقضة لأصول العقل والعلم الصحيح، حاولت أن تتخلص من ورطتها هذه بمقولتها المشهورة "الدين لا يخضع للعقل". وأطلق علماؤهم بين أتباعهم كلمتهم المأثورة:"أطفئ مصباح عقلك واعتقد وأنت أعمى". وحرموا التفكير والنظر في مسائل الدين، وفرضوا عليهم التسليم الأعمى بالإله المثلث، دون مناقشة ولا نظر، مع أن أصول العقل السليم ترفض هذا رفضاً قطعياً، ولا تسلم به النفوس إلا مع تعطيل منطق العقل، ورافق ذلك أنهم أقفلوا باب العقل والبحث العلمي نهائياً عن كل مسألة تعرضت لها نصوص دينهم، أو تفسيراتهم لها وإن كانت باطلة، أو آراؤهم وأفكارهم التي اقتبسوا بعضها من الفلاسفة أو غيرهم، وألحقوها بالدين جهلاً وغفلة، أو افتراءً على الله ودينه، حتى ما كان منها متعلقاً بواقع الكون الذي تستطيع الوسائل الإنسانية أن تصل إلى معرفته.

* * *

موقف الإسلام من العقل والعلم الصحيحين:

ولما جاء الإسلام رفض هذا التثليث الدخيل على دين الله، ونادى بالوحدانية، وقدم على ذلك شهادة من عند الله نزل بها الوحي على رسول الله محمد، وشهادة من أولي العلم، فجعل العقل العلمي شاهداً على هذه الحقيقة، وناقش مخالفيها على أساس من العقل والعلم، واعتبر

ص: 181

العقل في هذا مرجعاً وسناً يستفتى ويستشهد به، ولو كان البحث العلمي الإنساني السليم سيوصل إلى القطع بحقائق لا يوافق عليها الدين المنزل من لدن عليم خبير حكيم لما دعاه إلى تقديم شهادته بالحقيقة، ولما أرشد الله العلماء إليه، ووضع في أيديهم وسائله، ودفع بهم إليه دفعاً، وفيما يلي طائفة من النصوص القرآنية الدالة على ذلك:

1-

في دعوة الناس إلى النظر العلمي للتعرف على حقائق ما في السماوات والأرض، قال الله عز وجل في سورة (يونس/10 مصحف/51 نزول) :

{قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ

*} .

2-

وفي دعوة الناس للسير في الأرض بحثاً وتنقيباً وتأملاً، رغبة في الوصول إلى معرفة كيف بدأ الله الخلق، قال الله عز وجل في سورة (العنكبوت/29 مصحف/85 نزول) :

{قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ..*} .

3-

وفي توجيه أنظار الناس إلى آيات الله الدالة على ربوبيته ووحدانيته في الأرض وفي الأنفس، قال الله عز وجل في سورة (الذاريات/51 مصحف/67 نزول) :

{وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ*} .

4-

وفي إثبات وحدانية الله الرب الإله المعبود، ناقش الله الناس بدلائل العقل وبراهينه المنطقية، فقال عز وجل في سورة (الأنبياء/21 مصحف/73 نزول) :

{لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}

وقال عز وجل في سورة (المؤمنون/23 مصحف/74 نزول) :

{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}

5-

وفي إثبات وجود الله الخالق الأزلي الأبدي، ناقش الله الجاحدين لوجوده بالمنطق العقلي البحت، فقال الله عز وجل في سورة (الطور/52 مصحف/76 نزول) :

ص: 182

{أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} .

إلى غير ذلك من نصوص قرآنية كثيرة جداً.

* * *

الغيب ومنطق العقل:

حينما يناقش علماء النصارى في مسألة التثليث أو غيرها من المسائل التي يرفضها منطق العقل، يدافعون بأن الدين لا يخضع لمنطق العقل، إذ هو فوق مستوى العقل البشري، ويجب التسليم بكل ما جاء فيه، ولو كان العقل يرفضه رفضاً باتاً لاستحالته.

وظل رؤساء الدين عندهم يهيمنون على أتباعهم بهذه الحجة، حتى قامت الثورة العلمية المادية الحديثة، ففجرت جوانب البحث العلمي في كل مجالٍ من مجالات العلمية التي يستطيع الإنسان أن يتوصل إليها، وأيقظت الفكر النصراني من سباته الذي لازمه قرابة خمسة عشر قرناً، ثمّ امتد أثره إلى الأمم الأخرى.

ومع هذه اليقظة العلمية أخذ المثقفون منهم يفكرون في قضية التثليث، وفي قضايا مشابهة، يقال عنها: إنها من أمور الدين التي هي فوق مستوى العقل، ويجب التسليم بها، ولو كان العقل يرفضها قطعياً، ويرى أنها مستحيلة، فلم تهضمها عقولهم، وبدؤوا يتشككون في صحة ديانتهم من أساسها، وقام الصراع المعروف بين قوتين:

1-

قوة تقليدية لها مؤسسات ورياسات دينية وأنظمة حكم تدعمها.

2-

وقوة أخرى أخذت سبيلها إلى النهوض المادي عن طريق البحث العلمي، ومناقشة الأمور بالعقل والمنطق وسائر وسائل البحث الإنساني للوصول إلى المعرفة.

وانتهت معركة الصراع بمحاصرة الديانة النصرانية وحجزها داخل الكنيسة، ثمّ أخذت الأجيال النصرانية سبيلها إلى إنكار ديانتهم، والشك في صحتها من أساسها، وعاشت في فراغ فكري ونفسي خطير، ولم يبق

ص: 183

لدى بعضهم إلا الانتماء التعصبي.

وفي هذا الجو النفسي المستعد لملئه بشيء آخر نشط دعاة الإلحاد الماديون يبثون أفكارهم الإلحادية، واستغلت اليهودية العالمية هذا الواقع، أو ساهمت في التدبير له، وشحنته بما يلزم من الآراء الإلحادية، والفرضيات التي ألبسوها أثواب نظريات، ومضامينها تخدم قضية الإلحاد.

فأخذ الإلحاد ينتشر في أوروبا انتشار النار في الهشيم، وتبعتها شعوب أخرى، ودار دولاب الانهيار في الغرب والشرق متسارعاً بشكل خطير، مؤذناً بدمارٍ قريب، تتحقق فيه سنة الله في الأمم.

والمسؤول عن كل ذلك أو معظمه العلماء بالنصرانية، ورؤساء الكنيسة لأنهم لم يصححوا العقائد المزيفة، الدخيلة على أصول ديانتهم والتي كان اليهود من قبل قد عملوا على إدخالها فيها، لإفساد أصول النصرانية، ثمّ لم يعمل هؤلاء الرؤساء الدينيون لإقناع شبانهم المثقفين بالحجة والبرهان.

وهنا يتساءل الشباب المسلم المثقف فيقول:

ما موقف الإسلام من العقل، ومما تثبته وسائل المعرفة الإنسانية، تجاه ما جاء به الدين؟

ومن واجبنا أمام هذا التساؤل أن نحرر الجواب تحريراً شاملاً شافياً:

أولاً: من نعمة الله علينا في الإسلام أن أصوله وأركانه قد سَلِمت من التغيير والتحريف، فلم يصبها شيءٌ، مما أصاب أصول الأديان الأخرى من ذلك.

فليس أمامنا مشكلة دين محرف مخالف للحقيقة، أو مخالف لمنطق العقل والواقع، حتى نلفّق لدعمه الحجج الخرافية، على أن الإسلام لا يرضى ولا يقبل بحالٍ من الأحوال من المؤمنين به أن يلفقوا الحجج الباطلة، أو يختلقوا الشهادات الكاذبات، ولو كان ذلك لدعم الحق الذي جاء به، لأن قبول هذا الأسلوب سيقضي على الأدلة والحجج الحقة

ص: 184

الصادقة، وسيقضي بالتالي على الدين من أساسه، إذ قبل بمبدأ التأييد بالباطل، فالحق لا يقبل التأييد والمناصرة إلا بالحق.

ثانياً: الإسلام دين الحق، والحق لا يمكن أن تقوم الأدلة الصحيحة على إبطاله بحال من الأحوال. ولكن قد تُصنع الأدلة الباطلة وتُزيَّنُ بالمغالطات لإبطاله، في تصورات المغرورين المخدوعين أصحاب الأفكار الضيقة والعقول الصغيرة، على أن هذه الأدلة الباطلة لا تلبث حتى تنهار، وحسبها ضعفاً وقلة شأنٍ أنها أدلة باطلة في أصلها، مهما طُليت بالأصباغ وأنواع الزينة من زخرف القول.

ثالثاً: تنقسم المعارف الدينية إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول:

تكاليف عملية نفسية وجسدية إرادية، يطالب المكلفون بطاعة الله فيها، في أمرٍ بفعل، أو نهي عن فعل.

ومن نعمة الله على الناس في الإسلام الذي أنزله الله خاتمة رسالاته للناس، أن جميع التكاليف فيه مشتملة على ما يُصلح أوضاع الناس وأحوالهم، ويرتقي بهم إلى أرفع درجة حضارية إنسانية، سواء أكانت تكاليف عبادات، أو تكاليف أخلاق، أو تكاليف معاملات، أو تكاليف أخرى تدفع الناس إلى الارتقاء المجيد في سلم الحضارة الإنسانية المثلى، الخالية من عيوب الانهيار الخلقي والنفسي والسلوكي.

وبرهان هذا وتفصيله يتطلب شرحاً طويلاً.

على أن الأصل في التكاليف الدينية أنها ابتلاء للإرادة، والامتحان لا يشترط فيه بشكل لازم أن يكون موافقاً لمصالح الواقعين تحت الامتحان. لكن فضل الله كان عظيماً، إذ كان امتحانه لنا في تكاليف تضمن أحسن

ص: 185

المصالح لنا، وأوفى المنافع، وأكثر الاحتمالات دفعاً للأضرار والمخاطر، وأسلمها حلاً للمشكلات.

القسم الثاني:

أنبا عن واقع كوني باستطاعة الوسائل الإنسانية أن تصل إلى معرفتها على ما هي عليه في الواقع، ولو بعد حين من الدهر.

والغرض من هذه الأنباء تحريك الناس للبحث العملي في الكون، وأن تكون شاهداً يقدم شهاداتٍ متجددة مهما تطاول الزمن، على صحة هذا الدين، وأنه تنزيل رب العالمين، ولو كان من عند غير الله لوجدوا بينه وبين الواقع اختلافاً كثيراً.

وما جاء في الإسلام من هذا القسم لا يمكن أن يكون مخالفاً للواقع والحقيقة، إلا ضمن احتمالين اثنين لا ثالث لهما:

الاحتمال الأول: أن يكون النص المنسوب إلى الإسلام نصاً غير صحيح النسبة، كأن يكون خبراً كاذباً، أو خبراً ضعيفاً لا يصحُّ الاعتماد عليه، أو خبراً غير قطعي الثبوت، فمن الممكن دخول خطأ فيه من نقل الراوي، أو من فهمه مع حكاية ما روى بلفظ من عنده بحسب ما فهم من معنى، إذ يحتمل أنه روى المعنى الذي فهمه هو، ولم يروِ اللفظ ذاته الذي نطق به الرسول. وهذا إنما يكون في أحاديث الآحاد فقط، وهي التي لم تبلغ مبلغ التواتر اللفظي أو المعنوي.

الاحتمال الثاني: أن يكون فهم النص الإسلامي من قِبَل بعض المجتهدين أو المؤولين فهماً خاطئاً.

وحتى ينتفي هذان الاحتمالان فإننا لا نجد نبأً في الدين يخالف الحقيقة والواقع.

إنه لا يوجد نبأ إسلامي قطعي الثبوت قطعي الدلالة، يتضمن ما يخالف الحقيقة والواقع، وليس من الممكن أن يوجد قطعاً في الإسلام مثل

ص: 186

هذا النبأ، وهو الدين الحق الذي أنزل من لدن عليم خبير بالحق، ونزل على رسول الله عن طريق الوحي الجلي الصادق بالحق أيضاً، وبلغه رسول الله بالحق كما أُنزل عليه.

مغالطة ودفعها وكشف زيفها:

ولكن قد تقع هنا مغالطة لا بد من التنبيه عليها، وهذه المغالطة تأتي من قبل ما يُنسب إلى الحقيقة العلمية، الآتية عن طريق الوسائل الإنسانية البحتة.

فكثيراً ما يدعي الماديون أن فرضية من الفرضيات أو نظرية من النظريات، قد أصبحت حقيقة علمية غير قابلة للنقض أو التعديل.

مع أن هذه الفرضية أو هذه النظرية لا تملك أدلة إثبات يقينية تجعلها حقيقة علمية، قد قال العلم فيها كلمته النهائية، وذلك بشهادة العلماء الطبيعيين أو الماديين الذين وضعوها، أو ساهموا في تدعيمها والترويج لها.

ومن أمثلة ذلك "الدارونية" بالنسبة إلى نشأة الكون، وظهور الحياة في المادة غير الحية، وخلق الإنسان، فهي فكرة لا تملك أدلة إثبات قاطعة، ولا أدلة تجعلها نظرية ذات رجحان في مقاييس العلوم الصحيحة.

لكن كثيراً من العلماء الماديين يقبلونها تسليماً اعتقادياً لا تسليماً علمياً، إذ ليس لديهم اختيار بعدها إذا لم يقبلوها إلا الإيمان بالخلق

ص: 187

الرباني، وهذا أمرٌ لا يجدون أنفسهم الآن مستعدين لقبوله، ما دام منطق الإلحاد هو المسيطر على اعتقادهم في بيئاتهم، أو على أهوائهم وشهواتهم، أو على أفكارهم المنعطفة عن موازين الحق إلى زيوف شبهات وأوهام.

ويأتي كُسورٌ من المثقفين (أنصاف - أرباع - أعشار) أو أقل من ذلك، من المتأثرين بالنزغات الإلحادية، فيدعون وجود التناقض بين الدين والحقائق العلمية، استناداً إلى وجود اختلاف بين بعض المعارف الدينية، وبعض الفرضيات أو النظريات التي لم تصبح بعدُ حقائق علمية. وهؤلاء يزعمون كذباً أو يتصورون خطأً أن هذه الفرضيات أو النظريات قد أصبحت حقائق علمية ثابتة بشكل قطعي غير قابل للنقض.

وبهذا يقعون في خطأٍ فاحشٍ جداً، ويتبع ذلك سقوطهم في ضلالٍ اعتقاديٍّ كبير تجاه الدين وأصوله ومعارفه.

مع العلم بأن طائفة من الفرضيات والأفكار في ميادين العلوم الكونية قد وضعت خِصِّيصى لدعم قضية الإلحاد والكفر بالله، على أيدي يهود أو أجراء يهود، وسميت نظريات علمية، وصِيغت لها المقدمات المزيَّنة بزخرف من القول، ووُضِعَت لها التبريرات التي ليس لها قواعد منطقية علمية صحيحة.

فالواجب إذن يتحتم علينا - أخذاً بطريق البحث العلمي السليم المحرر الذي أمرنا به الإسلام - أن نُمعن النظر فيما قدّمته شهادة العقل، ووسائل البحث العلمي الإنساني، وفيما قدمته شهادة النصوص الدينية، وأن نُخضِع هذه الشهادات للضوابط العلمية الصحيحة، المتفق عليها في أصول العقل، وفي أصول الدين.

وإني لأجزم بكل يقين أننا لن نجد مسألة واحدة يستحكم فيها الخلاف، بين شهادة النصوص الدينية اليقينية، قطعية الثبوت قطعية

ص: 188

الدلالة، وبين الشهادة القاطعة التي يقدمها العقل، أو الشهادة القاطعة التي يقدمها البحث العلمي الإنساني البحت.

بل اليقيني من كل ذلك لا بد أن يتطابق في شهادته، متى استطاع أن يصل إلى الحقيقة التي هي موضوع البحث.

فإن وصل بعضها وبعضها الآخر لم يصل، أعلن كلٌّ منها عن مبلغه من العلم قصّر في المعرفة أو استكملها، وفي هذا لا يوجد تناقض أو خلاف، ولكن يوجد بيان جزئي، وبيان أشمل وأكمل، أو بيان جزئيٌّ من جهة وبيان جزئيٌّ من جهة أخرى، وفق مَثَل العميان والفيل.

وهو مَثَلٌ أورده الإمام الغزالي وغيره، خلاصته أن عدداً من العميان قُدِّم لهم فيل ليصفوه، فوقعت يد كلٍ واحد منهم على طرفٍ أو جانب منه، ثمّ أخذ يصف الفيل عن طريق ما تَلَمَّسه منه بيده. فوصف أحدهم ملاسة الناب وقسوته، والآخر خشونة الذيل، والثالث ما تلمسه من الخرطوم، والرابع ما تلمسه من الرجل، والخامس ما تلمسه من البطن أو الظهر، وهكذا.

إن كلاًّ منهم قد يكون وصفه صحيحاً للجزء الذي وقعت يده عليه، ولكنه لم يصف الفيل كلَّ الفيل، إنما وصف طرفاً منه، أو جزءاً وقعت يده عليه منه، وأوصافهم متكاملة لا متناقضة.

كذلك وصف الباحثين لكثير من الحقائق، إذا صَدَقوا في أوصفاهم، إنها أوصاف ناقضة تناولت ما أحسوا به، وأما ما لم يُحسوا به فإنهم بالنسبة إليه عميان، لأنهم لم يملكوا الحاسة التي تعرفهم به.

القسم الثالث:

أنباء من أنباء الغيب الذي لا تستطيع الوسائل الإنسانية بقدراتها وخصائصها وهباتها، أن تصل إلى معرفته على ما هو عليه في الواقع.

وهذه الأنباء الدينية الغيبية تخبر عن بعض حقائق الوجود الأكبر،

ص: 189

فمنها ما يتعلق بخصائص الخالق جل وعلا، ومنها ما يتعلق بوصف بعض الحقائق الغيبية من واقع هذا الكون المخلوق لله عز وجل، كالملائكة والجن والعرش والكرسي، ومنها ما يحكي أحداثاً سبق أن حدثت فيما مضى من الأزمان، وليس باستطاعة الوسائل الإنسانية أن تستعيد صورتها الواقعية، كقصة خلق آدم، ومنها ما يُنبيء عن أحداث ستقع فيما يأتي من الأزمان، ضمن واقع هذا النظام الكوني القائم، كأشراط الساعة، أو سوف تقع في نظام عالم آخر وحياة أخرى، وهو ما جاء عن الآخرة، وما سوف يجري فيها، من جمع وعرض، وسؤال وحساب وجزاء بالثواب أو بالعقاب، ودار للنعيم وهي الجنة، ودار للعذاب وهي النار.

وموقف العقل ووسائل البحث العلمي الإنسانية بالنسبة إلى ما جاء في هذا القسم يتلخص بما يلي:

أولاً: تحرير صدق الخبر وصحة دلالته.

ثانياً: رفض ما خالف أحكام العقل القطعية، وهو ما يدخل في قسم المستحيلات العقلية، كالجمع بين النقيضين، وكوجود شريك الله الخالق سبحانه وتعالى.

ثالثاً: رفض ما خالف أحكام العقل القطعية، وهو ما يدخل في قسم المستحيلات العقلية، كالجمع بين النقيضين، وكوجود شريك لله الخالق سبحانه وتعالى.

فأي نبأ من أنباء الغيب يثبت شيئاً يحكم العقل قطعياً باستحالة وجوده هو خبر مرفوض عقلاً وشرعاً، وأي نبأٍ من أنباء الغيب ينفي شيئاً يحكم العقل حكماً قاطعاً بأنه واجب الوجود هو نبأ مرفوض عقلاً وشرعاً.

ولما قال الإمام الغزالي في كتابه "المقصد الأسنى شرح أسماء الله الحسنى" كلمته الحصيفة الرصينة المشتملة على نظر ثاقب عميق:

" ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور قد يظهر فيه ما لا يظهر في العقل ".

عقب عليها باستدراك خلاصته: أن ما وراء العقل قد يكون بعيداً عن تصور العقل وتوهمه بُعداً بالغ النهاية، أو بُعداً غير متناهي الحدود، لأن

ص: 190

العقل محجوب في حدوده التي لا يستطيع أن يتعداها، لكنه لا يمكن أن يكون وراء العقل أشياء يحكم العقل حكماً قاطعاً باستحالتها.

فالفرق كبير بين ما لا يدركه العقل، فهو لا يتناوله بنفي ولا إثبات، لأنه ليس من الأمور التي يتناولها بأحكامه، وبين ما يحكم العقل حكماً قاطعاً بنفيه أو إثباته.

إن من الأشياء التي لا يمكن أن يكون وضعها فيما وراء العقل على خلاف وضعها في أحكام العقل القاطعة، لأنها من المستحيلات العقلية: أن يكون لله تعالى شريك، أو أن يكون في مقدور الخالق عز وجل أن يخلق مثل ذاته سبحانه، أو أن يجعل الحادث قديماً، أو ما أشبه ذلك.

رابعاً: ما له دلائل وقرائن من العقل تؤيده فإن موقف العقل منه موقف الشاهد المؤيد والمسلم.

خامساً: التسليم التام في كل ما يقول فيه العقل: لا أدري. ويكون ذلك إذا لم يكن لدى العقل من الأدلة الظاهرة في مقاييسه ما يستطيع إثباته به، وليس لديه منها ما يستطيع نفيه به.

وهذا التسليم تصديق لشهادة النص الديني الثابت من جهة الرواية، وفق أصول تحقيق المستندات الإخبارية، وتصديق شهادة النص الديني الثابت بيقين له مستند عقلي قاطع، وذلك لأن العقل يقول:

ما جربته من أنباء الإسلام الصحيحة النسبة إليه بشكل يقيني، لم أجد فيها إلا الحق، وكل ما وجدته فيها مما أستطيع الوصول إلى حقيقته الواقعة بنفسي كان حقاً وصدقاً.

ولأن العقل يقول أيضاً:

إن من يملك تغيير سنن الكون الثابتة، بما يجريه من معجزات على أيدي أنبيائه ورسله، ليعلمني بأن الكون كله خاضع لقدرته وإرادته، وليعلمني بأن أخباره التي يبلغها أنبياؤه ورسله أخبار صادقة، لا يمكن أن

ص: 191

تكون أخباره عن الغيوب التي لا أستطيع الوصول إليها بنفسي أخباراً مخالفة لحقيقة الغيب وواقعه.

لكل ذلك فإنه يجب التسليم بها تسليماً قاطعاً لا يداخله ريب.

* * *

منهج الإسلام في المعرفة:

يقوم الأساس الأول للمعرفة في الفكر الإسلامي على قضيةٍ واحدة، وهي: أن المعرفة الصحيحة هي ما كان مطابقاً للواقع والحقيقة.

1-

فما كان مطابقاً للواقع والحقيقة فهو حقٌّ، وما كان مبايناً للواقع والحقيقة فهو باطل.

2-

وقد تكون الصورة الذهنية أو القولية مطابقة للواقع والحقيقة من بعض الوجوه، ومخالفة من بعض الوجوه، فيكون فيها من الحق على مقدار المطابقة، ومن الباطل على مقدار المخالفة.

3-

وقد تكون الصورة الذهنية أو القولية مطابقة لبعض الواقع والحقيقة فقط، دون أن يكون فيها مخالفة ما، ولم يقترن بها ادعاء المطابقة لكامل الواقع والحقيقة، فهي إذن المعرفة الناقصة مع كونها حقاً.

هذا هو الأساس الأول للمعرفة في الفكر الإسلامي، ثمّ تأتي وراءه قاعدة كلية، وهي: أن كل وسيلة صحيحة تعطينا صورة صادقة عن الواقع والحقيقة هي وسيلة يجب الاعتماد عليها والثقة بها في تحصيل المعرفة.

والمرجع الأول والأخير دائماً هو الواقع، وبالواقع تقاس النتائج، فإن اكتشفنا ولو بعد حين أن الواقع كان على خلاف ما تصورنا صححنا مفاهيمنا حتى تكون مطابقة له.

على هذا الأساس الأول وهذه القاعدة الكلية قام بناء الفكر الإسلامي، المقرر والمعتمد من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله المجتبى.

ص: 192

الوسائل:

أما وسائل المعرفة التي يجب اعتمادها في الفكر الإسلامي فتتلخص بثلاث وسائل، وهي الوسائل التالية:

الوسيلة الأولى: المعرفة المباشرة، وتكون بالإدراك الحسي، ولو عن طريق الأجهزة والأدوات.

الوسيلة الثانية: الاستدلال العقلي بمختلف طرقه الاستنتاجية والاستنباطية الصحيحة، والمؤيدة بالحجج البرهانية أو المقبولة.

الوسيلة الثالثة: الخبر الصادق، ومن الخبر الصادق الوحي الذي يتلقاه نبيٌّ من أنبياء الله مؤيد من الله بالمعجزات الباهرات، ومن الخبر الصادق قطعاً ما يبلغه عن الوحي هذا النبي.

ويعترضنا هنا سؤال، وهو:

إذا كان الهدف الأول والأساسي هو أن تكون المعرفة مطابقة للواقع والحقيقة، فماذا نصنع حينما تختلف نتائج وسائل المعرفة حول موضوع واحد، أو حول نقطة أو جزء من موضوع من موضوعات المعرفة؟.

o هل نعتمد وسيلة الإدراك الحسي ونطرح ما عداها؟.

o أو نعتمد وسيلة الاستنتاج والاستدلال العقلي؟.

o أو نعتمد وسيلة الخبر الصحيح الصادق؟.

o أو ماذا نصنع؟؟.

وبالدقة العلمية يمكن الإجابة على هذا السؤال بما يلي:

حينما يكون دليل وسيلة من هذه الوسائل هو الدليل الأقوى في الموضوع الذي هو مجال البحث، فإنه يجب اعتماده وترجيحه، حتى يأتي ما يزيد عليه قوة ورجحانا.

فإذا كان دليل الحس قائماً على مشاهدةٍ صحيحةٍ يقينيةٍ خالية من

ص: 193

احتمال الخطأ، يتوافق الحس في إدراكها، كان دليل الحس هو الذي ينبغي اعتماده.

ومن ثَمَّ يُعادُ النظر في دليل الاستدلال العقلي، إذا كان الخلاف معه. أو يُعاد النظر في دليل الخبر الصادق إذا كان الخلاف معه.

وإعادة النظر في دليل الخبر الصادق، قد لا تحتاج أكثر من تصحيح فهم النص، والنظر في فهمه ضمن قواعد فهم النصوص بما يتفق مع النتائج اليقينية التي قدمها دليل الحس.

وذلك لأن الغاية من استخدام وسائل المعرفة إنما هو الوصول إلى معرفة مطابقة للواقع، وليس من الممكن أن يتناقض الواقع مع نفسه.

وحينما يظهر خلاف أو تناقض في النتائج التي قدمتها الوسائل، فلا بُدّ أن خطأً قد دخل حتماً في بعضها أو في كلها، وعندئذ لا مناص من مراجعة الأدلة والتمحيص فيها، وإعادة النظر وزيادة التحري عن الحقيقة لاكتشاف مواقع الخطأ والخلل. وتظل المراجعة مفتوحة حتى يتم اكتشاف المخطئ منها، ثمّ ما يُثبِت منها الواقع والحقيقة بصفةٍ يقينية يكون هو الجدير بالاعتماد، ثُم يعاد النظر في غيره حتى نصححه وننتهي إلى التوافق التام في النتائج، فمن المستحيل في منطق الوجود أن تتناقض الأدلة اليقينية في معطياتها العملية، وحينما نجد التناقض في هذه المعطيات فلا بد من وجود خلل أو خطأ في بعض الأدلة أو في كلها.

وتخضع النصوص الدينية لحكم هذا المنهج العلمي، لأن الحقيقة الواقعة في الوجود هي من خلق الله عز وجل، والله محيط بكل شيءٍ علماً، وحينما يخبرنا عن شيءٍ منها فلا بد أن يكون خبره مطابقاً لما عليه في الواقع، لأنه يستحيل الجهل أو الكذب عليه سبحانه وتعالى.

والمشكلة قد تأتي-كما سبق إيضاحه- من الخطأ في فهم النص الديني الثابت، وفهم النص الديني عمل اجتهادي إنساني، وهذا الفهم الإنساني للنص قد يصيب وقد يخطئ، فإذا أخطأ الاجتهاد في الفهم

ص: 194

فليس معنى خطئه أن النص هو المخطئ، ولكن المخطئ هو الإنسان غير المعصوم، الذي اجتهد في فهم معنى النص، وفي هذه الحالة علينا أن نراجع فهمنا للنص، ونعيد تدبرنا له، حتى نصل إلى المعنى اليقيني الذي تم الوصول إليه بيقين عن طريق الإدراك الحسي أو الاستدلال العقلي.

ولا يكون التعصب للاجتهاد الذي أخطأ فيه صاحبه إلا خدمة للذين يحاولون بكل ما يستطيعون من جهد أن يثبتوا التناقض بين ما يأتي به الدين، وبين الحقائق التي تأتي بها الوسائل الإنسانية للبحث العلمي، لطعن الدين من أساسه، ونسف قواعده القائمة على الحق، وإشاعة الإلحاد، والمادية التي لا تؤمن بالله.

وقد تأتي المشكلة أيضاً من كون النص الديني نصاً غير ثابت ثبوتاً قطعياً، إذ لم تتوافر له الروايات الصحيحة التي تجعله قطعي الثبوت، وبدهيٌّ في هذه الحالة أن يكون الدليل الحسيُّ اليقيني، أو الدليل العقلي اليقيني، أقوى من دليل الخبر الظني الذي لم يبلغ مبلغ القطعية، فإن أمكن فهم النص ولو تأويلاً بما يتفق مع النتائج اليقينية للأدلة الأخرى فعلنا. وإلا أخذنا بالنتائج اليقينية حتماً، وتركنا النص ودلالته، ولا يضرُّنا هذا في الدين شيئاً، لأن قبولنا له من الأساس وهو خبر ظنيٌّ لا قطعيٌّ قد كان بصفة ترجيحية، لا بصفة قطعية.

فإذا سأل سائل فقال: هل لنا أن نؤوّل النصوص الدينية أو نخصصها بدليل الحس أو بدليل العقل حتى تكون دلالتها مطابقة للواقع والحقيقة؟.

كان جوابنا بالإيجاب حتماً، وبأن هذا العمل من القواعد المقررة في علوم الشريعة الإسلامية، كما سبق بيانه.

يقول علماء أصول الفقه في أبواب تخصيص العام: " لا خلاف في جواز تخصيص العموم ".

ويقررون في أبواب تأويل الظاهر: "أنه يجوز التأويل متى كان دليله

ص: 195

أرجح من دليل العمل بالظاهر، ويجب التأويل متى كان دليله دليلاً قاطعاً لا يجوز العدول عنه".

ويذكرون من أدلة تخصيص العموم: "دليل الحس، ودليل العقل".

ونظير ذلك يكون في تأويل الظاهر، فيتمُّ التأويل بناءً على دليل الحس أو دليل العقل.

تحذير من الجنوح أو الإسراف لدى تطبيق هذا المنهج:

هذا هو منهجنا الإسلامي فيما يتعلق بالنصوص الدينية ودلالاتها على حقائق الأشياء.

ولكن يجب الحذر الشديد لدى تطبيق هذا المنهج، حتى لا يدخل علينا الدس الماكر باسم الحقائق العلمية التي توصّلت إليها نتائج البحث العلمي بالوسائل الإنسانية البحتة.

فكثيرٌ من النتائج التي تُقرر على أنها حقائق علمية عند أصحاب البحث العلمي المادي لا تعدو أنها فرضيات، أو نظريات قابلة للتعديل أو التغيير أو النقض الكلي، وليست حقائق علمية عند أصحابها، أو لدى النقاد من أئمة البحث العلمي المتجرد النزيه.

بَيْدَ أن أصحاب الأهواء، أو صغار المثقفين الذين لا يقدرون المعارف العلمية حق قدرها، وينخدعون بدعايات الترويج التجاري أو السياسي للفرضيات أو النظريات العلمية، قد يزعمون أنها حقائق ويقينيات علمية، وليست هي في الواقع كذلك، ثمّ يحملونها حمل الببغاوات، أو حَمْلَ الأجراء، ثمّ يقولون: إن بين الحقائق العلمية وبين النصوص الدينية تناقضاً، ويقصدون بالحقائق العلمية هذه الفرضيات، أو النظريات التي لم تثبت بعدُ في نظر واضعيها أو المعتقدين بها ثبوتاً يقينياً أو نهائياً، فضلاً عن أن تكون يقينيات في نظر غيرهم من المعارضين أو الناقدين الحياديين.

ص: 196

وأمام هذه الفرضيات أو النظريات، لا نجد أنفسنا ملزمين علمياً بتحديد معاني النصوص الدينية، التي تتناول الموضوع نفسه، تحديداً قاطعاً.

والخطة المثلى تسمح لنا بأن نطرح احتمالات دلالاتها طرحاً غير مقترن بترجيح ولا تثبيت.

وحينما نرى أن نرجح والحالة هذه فيجب علينا أن لا نجزم، وأن نترك الجزم لمستقبل البحث العلمي المتجرد النزيه، وننتظر إثبات الحقيقة العلمية بوسيلة يقينية، فالمضمون لا يتعلق به حكم شرعيٌ يجب العمل به، فلا ضير إذن من التريث والأناة، هذا إذا لم يكن النص الديني قاطعاً في دلالته ويقيني الثبوت.

أما إذا كان النص الديني قطعي الثبوت قطعي الدلالة، أو كان من الأمور المتعلقة بالتشريع والأحكام الدينية، أو كان مضمونه يتعلق بغيبيات اعتقادية، لا تملك الوسائل الإنسانية الوصول إليها، مهما تقدمت هذه الوسائل وتطورت مستقبلاً، فإنه يجب الأخذ بمضمونه وفق أصول الاجتهاد في فهم النصوص. فاليقيني من كل ذلك نسلم به تسليماً تاماً، وغير اليقيني نضعه في المستوى الذي تقتضيه قوة ثبوت النص وقوة دلالته، وفق قواعد فهم النصوص المقررة لدى علماء أصول الفقه واستنباط الأحكام.

خاتمة:

فليس بعد هذا التحليل لموقف العلم الإنساني والدين من الحقيقة، أن يزعم وجود التناقض بين الإسلام والعلم الإنساني، في المنهج الذي يجب اعتماده للوصول إلى معرفة الحقائق، أو في النتائج اليقينية المقطوع بها التي يقررها الدين، والأخرى التي تنتهي إليها وسائل البحث العلمي الإنساني.

إن أي مضلل لا يستطيع إثبات ادعائه وجود التناقض هذا، إلا على

ص: 197

أساس من المغالطات والأكاذيب وزخرف من القول، وصناعة الجدال بالباطل.

فمن المستحيل وجود التناقض بين الحقائق التي تأتي عن طريق الدين، والحقائق التي تأتي عن طريق وسائل المعرفة الإنسانية البحتة.

* * *

ص: 198