الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
أسُسُ الفِكْر المادّي الإلحَادي
(1)
مقدمة
مَثَلُ المادّيين والملحدين عامّة وما ارْتَدَوه من مصطلحات لفظية أسماءً لمذاهبهم التي افترقت عناوينها انسجاماً مع حدود المواقع التي وقفت عندها من المادة، كمثل مجموعة من التائهين في الفيافي، وصلوا إلى مدينة عظيمة ذات سور محيط بها، ولهذا السور أبواب.
وتفرّق هؤلاء حول سور المدينة، ولم يرد أحدٌ منهم أن يدخل باباً من أبوابها، ليشاهد داخل المدينة، بل وقف عند حدود منزله الذي نزله حول السور.
واتفق الجميع على أن المدينة هي ما يشاهدون من سورها الخارجي فقط، وأنه ليس داخل السور شيء مطلقاً، أو ليس داخل السور شيء ذو قيمة، وكل ما يُدَّعَى داخل السور إنما هو من صناعة الأوهام.
ولم يسمح واحد من هؤلاء لنفسه بأن ينظر في منظار كاشف لبعض ما في باطن السور، أو أن يرتقي سُلَّماً أو شجرةً أو برجاً ليرى شيئاً مما هو في باطن السور، ولا أن ينظر في ثقب في السور ينفذ إلى الداخل، فيطّلع على أي شيءٍ موجود فيه.
فالذين وقفوا عند حقل القرنفل الكائن ظاهر الجانب الغربي من
السور، وأخذوا يفسرون المدينة من خلال دراسة الموقع الذي هم فيه أسموا أنفسهم "القرنفلية".
والذين وقفوا عند حقل الشعير الكائن ظاهر الجانب الشرقي من السور، وأخذوا يفسرون المدينة من خلال دراسة الموقع الذي هم فيه أسموا أنفسهم "الشعيرية".
والذين وقفوا عند بركة الطحالب الكائنة ظاهر الجانب الشمالي للسور، وأخذوا يفسرون المدينة من خلال الموقع الذي هم فيه، أسموا أنفسهم "الطحالبية".
والذين وقفوا عند شجرات الزيزفون الكائنة ظاهر الجانب الجنوبي للسور، وأخذوا يفسرون المدينة من خلال الموقع الذي هم فيه، أسموا أنفسهم "الزيزفونية".
وكلُّ من اتخذ موقعاً له صفة متميزة جعل لنفسه اسماً مشتقاً من هذه الصفة.
مع أنهم جميعاً مشتركون في مذهب واحد هو رفض الدخول إلى المدينة، ورفض البحث عن حقيقتها من داخلها، وإنكار ما رفضوا البحث عنه، ومشتركون جميعاً في الإصرار على الوقوف عند السور الخارجي، ولكن منهم من صغر موقعه، ومنهم من وسعه، ومنهم من جعله لمحيط السور كله.
كذلك المادية والماديون، والإلحاد والملحدون بوجه عام، وما اتخذوه لأنفسهم من أسماء ومصطلحات ومذاهب فلسفية.
(2)
نظرة حول بعض الأسماء والمصطلحات التي اتخذها الماديون
استخدم الماديون والملحدون بشكل عام مصطلحات مختلفة، واصطنعوا منها أسماءً لمذاهبهم، وافترقوا بها إلى عدة مذاهب فلسفية.
وتحت هذه المصطلحات اللفظية والأسماء المختلفة اشتغل كلُّ فريق منهم بتبرير جانب من جوانب المادة أوقف فِكْرَهُ عنده، وأخذ يدور في فلسفته السوفسطائية حوله، ويجر وراء المصطلح اللفظي الرئيسي حشداً آخر من المصطلحات اللفظية الفرعية، ليتكامل بها هيكل المذهب المصطنع، وليغوص قُرَاؤه في دوّامة المصطلحات، ويتيهوا في أقبيتها المظلمة، وسراديبها التي لا يرى السائر فيها أي بصيص من نور.
وبعد الرحلة الطويلة في ظلمات هذه المصطلحات يخرج الخارجون منها على أقسام:
1-
قسم حسن الذاكرة منطمس البصيرة، يخرج وفي ذاكرته ألفاظ ومصطلحات كما هي، فهو يرددها في المجتمعات العلمية، والمؤسسات التعليمية، ترديداً ببغاوياً كما حفظها، ويظنُّ أنّه يحمل علماً جماً.
2-
وقسم أنهكت فكره الظلمات والمتاهات، فخرج وقد أضاع عمره، وبدد جهده، وخسر ميزانه الفكري الذي فطره الله عليه، ولم يستفد من رحلته الفلسفية شيئاً ذا قيمة حقيقية، ولم يصب فهماً سليما مستقيماً، لأي شيء أجهد فيه فكره خلال رحلته الفلسفية الطويلة.
أما الرّجّةُ الفكرية المزلزلة لثوابت الفكر وموازينه الفطرية في هذه الرحلة، فقد أوصلته إلى الهدف المقصود منها، وهو الكفر بكل القيم الحقيقية، من دين، وخلق، وحقائق فكرية ثابتة، ولكن في ثوب فيلسوف، أو عالم، أو حامل شهادة علمية عليا "وهذا في عصرنا عصر الفتنة بالألقاب العلمية".
3-
وقسم قليل جداً يخرج محافظاً على فطرته الفكرية، وملكاته المكتسبة النافعة، ذات الموازين الصحيحة، كاشفاً لأنواع وصور الزيف التي انطوت عليها هذه المذاهب.
لقد دخل حينما دخل وفي يده مصباح نقدي كشاف، وظل محافظاً عليه، غير متأثر بالأشباح التي تصطنعها الأوهام النفسية للسائرين في
الظلمات، وخرج حينما خرج وفي يده مدونة ضخمة سجل فيها حشد الأكاذيب والمغالطات والتخريفات الذي يرتدي ثوب العلم والبحث العلمي زوراً وبهتاناً وتضليلاً للناس.
صور من أسمائهم ومصطلحاتهم
أ- تشبث فريق بادعاء أن الوجود كله منحصر في الوجود المادي، وأنه ليس وراء هذا الوجود المادي وما ظهر فيه من نبات وحياة ووعي حتى الوعي الإنساني الرفيع، وجودٌ آخر لموجودٍ ذي قوة وهيمنةٍ وسلطان وعلم وحكمة وقهر فوق الخلائق.
وقد ارتدى هؤلاء الاسم العام للمادية، فأطلق عليهم أنهم "ماديون".
وأخذ فريق من هؤلاء يعللون تغيرات المادة بأنها تغيرات تحصل بأسباب ذاتية ترجع إلى طبيعة المادة، فأطلق عليهم أنهم "طبيعيون".
وأخذ فريق آخر يعللون تغيرات المادة بالآلية في حركة ذرات المادة، فأطلق عليهم أنهم أصحاب المذهب "الآلي".
وادعى فريق آخر أن المادة ترجع في أصلها إلى ذرات صغيرة جداً متجانسة متماثلة، وأن التغيرات فيها ترجع إلى شكل التأليف والتركيب بينها، فأطلق عليهم أنهم أصحاب المذهب "الذري".
ب- وأوقف فريق من الماديين أنفسهم عند حدود ما يُحسُّون به فقط، وأرادوا أن يصرفوا أذهانهم وتصوّراتهم عن غيره، فأُطلقَ عليهم أنهم "حِسّيون".
ويردّد فريق من هؤلاء كلمة الواقع المدرك بالحسّ أو الواقع المدرك، أو الواقع الملموس، وأشباه هذه العبارات، فأطلق عليهم أنهم "واقعيون". وتشبثوا بمصطلح "الواقعية" واصطنعوا من وراء ذلك أفكاراً ومصطلحا أخرى، وتبريرات لما أسموه بمذهب "الواقعية".
وبعض هؤلاء ارتدى اسم "الوضعية".
جـ- وأراد فريق إلغاء خطط الفكر السابقة لظهور الأحداث، ليوقف الأفكار عن الانتقال من الظواهر الكونية المتقنة، إلى الإيمان بالرب الخالق، فزعم أن الأشياء توجد أولاً، ثمّ تصنع الأفكار ماهياتها بأحكام ذاتية غير موضوعية، وارتدى لذلك مصطلح "الوجودية" واصطنع وراء ذك جملة أفكار ومصطلحات أخرى، وأطلق على هذا المذهب اسم "المذهب الوجودي"، وأطلق على أنصاره أنهم "وجوديون".
إلى غير ذلك مما يعثر به قارئ كتب الفلسفة من أسماء، ومصطلحات، وتتنوع المصطلحات بحسب حدود المواقف الفكرية من جهة، وبحسب وجهة النظر التي ضلّ بها أصحابها أو أرادوا التضليل بها، وتثبيت أفكار متّبعيهم ضمن دائرتها.
(3)
مزاعم المادية في أفكارها الرئيسيّة
باستطاعتنا أن نلخص الفكر المادي بالمزاعم التاليات التي زعمها الماديون، وحاولوا أن يقرروها، ويصطنعوا لها فلسفات، ويؤيدوها بما يستطيعون من سفسطات ومغالطات وتمويهات وإيهامات وتشكيكات بآراء المخالفين.
أولاً: تزعم المادية أن الوجود كله منحصرٌ في الكون المادي الخاضع للإدراك الحسي، ولو عن طريق الوسائل المادية المكبرة للدقائق الصغيرة. أو عن طريق ما يتوصل إليه الاستنتاج الفكري من أصل للمادّة، أو قوانين لها، ويلجؤون إلى قبول ذلك اضطراراً حينما تلزمهم الأدلة العلميةُ به.
وحينما يقرر علماء البحث الكوني أن المادة طاقة تشكلت بوضع خاصّ فصارت مادة، فإن الملاحدة الماديين يقولون: وماذا في الأمر؟ ، إن ما نقوله بالنسبة إلى المادة قد انتقل إلى الطاقة التي هي أصل المادة. هكذا قال "لينين".
ثانياً: وتزعم المادية أن المادة الأولى للكون مادةٌ عديمة الحياة،
عديمة الإدراك، عديمة الفكر، عديمة الإحساس، وأنها بالتطور الذاتي ارتقت صفاتها حتى وصل الكون إلى ما هو عليه الآن.
ثالثاً: وتزعم المادية أن المادة الأولى للكون الأزلية، فهي إذن أبدية، وحين تدمغهم أدلة حدوث الكون يقولون: لا نعرف كيف وجد الكون، كما لا يعرف المؤمنون بالله كيف وُجد الخالق، ويقيسون هنا قياساً فاسداً، إذ يقيسون الأزلي الذي لا بُدَّ من وجوده عقلاً، ووجوده هو الأصل، على الحادث المسبوق بالعدم، والذي لا يصح وجوده عقلاً ما لم يوجده الأزلي.
ويقول الماديون، لا توجد علة للكون، والطبيعة بنظامها التام خرجت من العماء الصرف، أي: من العدم الكلي، ويلتزمون بهذا الادعاء قبول المستحيل العقلي البدهي الاستحالة.
فإذا سألت الماديين: كيف يُنتج العماء الصرف أو العدم الكلي شيئاً موجوداً له صفات وخصائص وأوزان وحجوم وطاقاتٌ وقوى؟. قالوا: لا ندري، لكن الأمر هكذا.
وإذا سألتهم: كيف يُنتج العماء الصرف أو العدم الكلي نظاماً بديعاً؟ . وكيف يظهر القصد الحكيم من غير ذي إرادة وعلم وحكمة؟. وكيف تتفجر الحياة من غير ذي حياة؟ . قالوا: لا ندري، لكن الأمر هكذا.
وقالوا: هو النشوء والارتقاء. وقالوا: هي طبيعة المادة متى تشكلت بوضع خاص. وقالوا: هي المصادفة.
وكذبوا في كل ذلك، والواقع يرفضه، ومنطق العقل يرفضه.
رابعاً: وتزعم المادية أن الإحساس في الحياة إلى درجة وعي الذات ووعي ما يجري حولها من الكون، حتى مستوى الفكر العالي في الإنسان، إنما كان نتيجة تطور المادة تطوراً ذاتياً ارتقائيا ًوبناءً؛ على هذا تزعم المادية أن الأفكار إنما هي انعكاس حركة المادة على الدماغ، وأن المعرفة صورة يصطنعها الدماغ بإحداث الروابط بين الصور التي تنعكس عليه من المادة.
خامساً: وتزعم المادية أن الحياة ظهرت في الكون المادية نتيجة المصادفة، دون خطة سابقة من عليم حكيم، ودون قضاء وقدر من مريد ومختار، ودون قدرة خالقة من خالقٍ قدير.
وتزعم أن الحياة ثمرة تفاعلات المادة الناتجة عن حركتها الذاتية المستمرة، فهي أثر تركيب خاص معقد للمادة.
وما زالوا يصرون على هذا الزعم، مع أن القرار العلمي الأخير الذي اتفق عليه العلماء الشرقيون، والغربيون الماديون ينص على أن العلم عاجز عن إيجاد أدنى صورة من صور الحياة، بتخليقها من المادة التي لا حياة فيها.
وقد أنفق الاتحاد السوفييتي خلال ستين عاماً من الشيوعية، ستين ملياراً على مخابر علوم الحياة، ليثبتوا ادعاء العقيدة الماركسية بأن الحياة ما هي إلا تفاعل كيماوي، فباؤوا بالخيبة. وصدر قرارهم العلمي في سنة (1969م) الذي قُدِّم إلى القيادة السوفيتية، وقد تضمن ما يلي:" ليس للعلم قدرة على أن يثبت أن الحياة نتيجة تفاعل كيماوي.. ولا نستطيع أن نوجد الحياة في الأشياء الحية من إنسان وحيوان ونبات إلا بالخلايا التي لا نستطيع أن نوجدها.."
وابتهج بهذا القرار السوفييتي علماء مخابر علوم الحياة في أمريكا، فدعوا العلماء السوفييت إلى أمريكا وعقد الفريقان اجتماعاً نتج عنه إصدار بيان مشترك جاء فيه:"العلم عاجز عن إيجاد الحياة، وعاجز عن أن يعرف إلا بعض مظاهر المادة".
سادساً: وتزعم المادية أنه لا وجود لشيء اسمه الروح على اعتبار أن هذه الروح مباينة في طبيعتها للمادة. وتزعم أن المادة حينما تكون في تركيب معين تكون الحياة من معطياتها، وكلما ارتقى هذا التركيب ارتقت معطيات
الحياة من المشاعر النفسية والإرادة واللذة والألم والأفكار.
سابعاً: وتزعم المادية أن الإنسان هو الذي اخترع بتخيله فكرة الرب الخالق القدير المهيمن العليم الحكيم العدل المعين عند الملمات، المجازي على الحسنة وعلى السيئة. الواقع أنه لا وجود لهذا الرب الخالق.
هذه هي خلاصة أصول مزاعم المادية، وهي جميعها دعاوى تقريرية لا دليل عليها مطلقاً.
وتتفرع عن هذه المزاعم الأصول مزاعم فرعية كثيرة، تتساقط من تلقاء نفسها متى ظهر تساقط هذه المزاعم الأصول.
تلخيص موقف الماديين
ويتلخص موقف الماديين بأنهم يقولون:
إن أصل الوجود كله مادة لها طاقة، أو طاقة تشكلت مادة. وهذه المادة عديمة الوعي والإرادة والتدبير، وليس وراءها عقلٌ يدبرها، ولا إرادة تهيمن عليها وتسيرها، ولا قصد يوجه مسيرتها، ولا علم يحيط بكل ذرة من ذراتها، وكل حركة من حركاتها، وليس لها علة من قبل عليم حكيم مريد قد أبدعها، ونظم حركتها، ووضع قوانينها.
ويحاول الماديون إقناع أنفسهم ومن يستجيب لهم، بأن اكتشاف العلماء لحلقات الاتصال بين ظاهرات الطبيعة كافٍ لحل كل تساؤلٍ حول مصدر المادة، وحول سر نظام عملها وإتقان صنعها، وزعموا أن هذا يغنيهم عن إثبات حاجة المادة إلى قوة غيبية عليمة حكيمة مريدة مختارة.
لقد تعلق الماديون بذيول المادة، واندفعوا وراء الوهم الخادع الذي سيطر على مشاعرهم، وعلقوا أنفسهم بسرابها، وصبروا على ظمأ أفكارهم وقلوبهم الشديد الذي لم يُرْوِهِ سراب المادة، وتظاهروا كذباً وزوراً وتزييفاً لحقيقة ما في نفوسهم بأن أسئلتهم قد انتهت عند حدود معرفة الروابط بين
الظاهرات السببية، التي هي في حقيقتها أسباب ظاهرية وليست عللاً حقيقية.
إن الروابط بين الظاهرات عاجزة عن تفسير الكون، والقوانين نفسها التي توصل إليها العلماء تحتاج إلى تفسير ما دامت لا تنتهي إلى الإرادة العليمة الحكيمة القادرة.
إنهم اتجهوا هذا الاتجاه الناقص الباطل عقلياً وعلمياً، ليفروا من الاعتراف بالحقيقة الكبرى، وهي وجود الله عز وجل، وذلك لئلا يلتزموا تبعات هذا الاعتراف.
(4)
نظرة عامة حول حجج الماديين وجدلياتهم
أ- مقدمة
1-
لا يقدم الماديون لأي دعوى من المزاعم التي زعموها أي دليلٍ عقلي أو عملي، غير محاولات الطعن بأدلة مخالفيهم في مذهبهم المقتصر على إثبات الوجود المادي وإنكار ما سواه، وإنكار الرب الخالق على أي تصور من تصورات المثبتين له، أصابوا في تصورهم أو أخطؤوا.
2-
كل ما يقدمه الماديون لإثبات أفكارهم لا يخرج عن ادعاءات لا دليل عليها، لا من البديهة، ولا من النظر العقلي، ولا من وسائل العلوم الطبيعية الكونية.
إنها قضايا تقريرية يحكمون بها من عند أنفسهم، دون أن يشهد لهم دليل صحيح بشيء منها، وظواهر الكون وقوانين الطبيعة التي توصلت إليها العلوم التجريبية، لا تسمح لهم مطلقاً بأن يفسروا الكون بأي زعم من المزاعم التي قدموها في تقريراتهم.
ومع ذلك يزعمون لأنفسهم العلمية، ويحتكرونها لمناهجهم على سبيل الادعاء الكاذب، ويدّعون أنهم يتقيدون بالإثباتات العلمية القائمة
على التجربة والملاحظة والمشاهدة الحسية.
3-
سبيل الماديين لتأييد أفكارهم وإدْحاض أفكار مخالفيهم - على طول خط مناظراتهم - يتلخص بالأكاذيب، وصناعة المغالطات، وترديد الدعاوى، والثرثرة بالأقوال المزخرفة، وادعاء العلمية، ومواجهة المخالفين بالنقد اللاذع، وبالهزء والسخرية، وبالشتائم، والاتهام بالرجعية والجمود والتخلف العلمي والفكري، ونحو هذه المسالك القذرة.
4-
الفلسفة الجادة، والعقول العلمية عند كل المنصفين، تدين الماديين بالسطحية، والتخلف العلمي، والمكابرة، والتعصب، والتقليد الأعمى، واتباع الهوى، والرغبة بإطلاق البهمية المفترسة المدمرة في الإنسان.
ب- اضطراب الماديين في تفسيراتهم
واضطرب الماديون في تفسيراتهم لتعليل الوجود المادي وما فيه من تغيرات وحدوثات.
وكلما اكتشف العلم حلقة سببية من حلقات أسباب الظواهر الطبيعية في الكون، قال الماديون: انتصرت المادية، وتأكدت صحة المذهب المادي، ثم يخيب أملهم حين يعجزون عن تفسير هذا السبب وإدراك ماهيته.
أمثلة من أقوالهم المضطربة
1-
قال الفلكيون منهم: يكفينا قانون الجاذبية في تعليل الكون. مع أن قانون الجاذبية نفسه غيبيٌ غير مشهود الذات، وهو نفسه يحتاج إلى تعليل، وليس هو القانون الأول الذي يمكن أن تعلل به كل الظاهرات.
2-
وقال الطبيعيون منهم: يكفينا قانون المادة والقوة عن الاعتقاد بقوة غيبية كبرى تدبر العالم، وتهيمن عليه، وترجع إليها كل تصاريفه.
3-
وقال الكيميائيون منهم: تكفينا خصائص الذرة وصفاتها، وألفة
العناصر، في معرفة نسبة التكوين المادي.
4-
وقال الميكانيكيون منهم: تكفينا سنن القوة والطاقة، لمعرفة حقيقة القوى المنبثة في الطبيعة.
5-
وحين كشف "غاليليو" من ظواهر الكون دوران الأرض حول الشمس، قال الماديون: انتصرت المادية.
وماذا في هذا الكشف غير الوصول إلى معرفة ظاهرة من الظواهر التي لا حصر لها في هذا الكون؟ ّ
6-
وحين كشف الفلكيون بوسائلهم حركة الأجرام السماوية، وضبطوا ما توصلوا إليه منها، قال الماديون: انتصرت المادية.
وماذا في هذا الكشف إلا التوسع في معرفة الظواهر التي تحتاج هي أيضاً إلى تفسير وتعليل؟!
7-
وحين علل "تشارلس داروين" في كتابه "أصل الأنواع" ظاهرة وجود الكائنات الحية، واختلاف أنواعها بفكرة النشوء والارتقاء والانتخاب الطبيعي، قال الماديون: انتصرت المادية.
مع أن هذه الفكرة لم تثبت علمياً ولا سبيل إلى إثباتها، ولو أنها ثبتت فعلاً فهي نفسها تحتاج إلى تفسير وتعليل من سبب غيرها يستند إلى إرادة وعلم وحكمة.
8-
وحين قدّم "آينشتاين" آراءه في النظرية النسبية، قال الماديون: انتصرت المادية.
مع أن النظرية النسبية لا تعلل وجود الكون، ولا اختلاف ظاهراته، إنما هي فقرة من فقرات نظام الكون المحكم.
تعليق على أقوال الماديين
يقول الماديون مقالاتهم بأفواههم لا بعقولهم وقلوبهم، إذ لا يوجد في أي مكتشف علمي صحيح أي دليل ينصر الفكر المادي المناقض لقضية الإيمان بالله الخالق المهيمن.
فلا دوران الأرض حول الشمس يعلل الكون وجوداً وتطوراً ونظاماً.
ولا أفكار النشوء والارتقاء والانتخاب الطبيعي لو صحت تعلل وجود الكون وتطوره ونظامه، إذ هي أيضاً بحاجة إلى تفسير وتعليل.
ولا النظرية النسبي، ولا علوم الذرة والطاقة، ولا سائر القوانين المكتشفة تصلح لتعليل وجود الكون، وتطوره، ونظامه، وإتقان صنعته، وظاهرة الحكمة المدركة من خلال كل شيءٍ فيه.
إنه لا يشفي العقول والصدور في تعليل هذا الكون إلا الإيمان بموجود أكبر أزلي أبدي، قدير عليم حكيم، يفعل ما يشاء ويختار، له كل صفات الكمال، وهو منزه عن كل صفات النقصان.
ويحاول الماديون الإقناع بصحة مذهبهم المادي، معتمدين في هذا الإقناع على أن اكتشاف النزر اليسير الذي اكتشف من السنن الكونية الجزئية التي يفسر الطبيعيون بها بعض الظاهرات الكونية، كافٍ في تعليل الكون كله، وفي تعليل ظاهرة الوجود الحادث كلها.
ويبين الربانيون أن الكون لا يمكن تعليله ببضع سنن اكتشفت من سننه، وهي أنفسها بحاجة إلى تعليل، ولا يزال العلم الإنساني بها ناقصاً وغامضاً، وغير كاشف لماهيات الأسباب والعلل، وما دامت الأسباب والعلل سنناً وقوانين لا تملك علماً ولا حكمة ولا إرادة ولا اختياراً، فإنها لن تكون كافية لتعليل تصاريف الكون المتقن المحكم الذي يتجلى فيه القصد، وتظهر فيه العناية.
إن التعليل مثلاً بالجاذبية، أو النشوء والارتقاء لو ثبت، أو بغير ذلك
من أسباب وقوانين، لا يكفي في بيان السبب الحقيقي النهائي المقنع لتساؤلات الفكر.
إن التعليل بهذه الأسباب يشبه تعليل انعقاد الأجنة في الأرحام بالاتصال الجنسي بين الذكر والأنثى، وتعليل النبات بزرع الحب في الأرض، وسقيه بالماء، وإمداده بالشروط اللازمة لظهور النبات ونمائه.
إن هذه الأسباب أسبابٌ وضعت في نظام الخلق للعملية الحقيقية
…
وبها ستر الخالق أفعاله في خلقه، ليمتحن أولي الأفكار بالإيمان به، وهو غيب عن حواسهم، ولا تصلح هذه الأسباب لأن تكون أسباباً حقيقية تعمل من ذواتها.
إن السبب الحقيقي شيء آخر غير هذه الأسباب الوسيطة حتماً، إن هذه الأسباب لا تشتمل على مقتضيات عقلية تستلزم مسبباتها، فلا بد من الانتقال منها إلى السبب الحقيقي، وهذا الانتقال يوصل حتماً إلى إثبات قضية الخلق الرباني، وبذلك تطمئن فطر العقول والقلوب والنفوس، إذ به تنتهي إلى الجواب المقنع المسكت القاطع لأي تساؤلٍ منطقي مقبول.
إن جاذبية "نيوتن" وكيمياء "لافوازيه" ونظام "لا بلاس" ونسبية "آينشتاين" وأشباهها، إنما تكشف عن أنظمةٍ وأسباب وسيطة، وضعها خالق الكون، وجعل تصاريف خلقه ضمنها، وهي بذواتها لا تصلح لتعليل وجود الكون، وتطوره، وما يجري فيه من تصاريف تعليلاً حقيقياً مقنعاً وشافياً، ولا تصلح لتفسير استمرار نظامه الدقيق، وثبات قوانينه، وما يبدو في كل جزء من أجزائه من حكمة مقصودة.
* * *