المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابعكشف زيوف أفكار الماديين وجدليتهم - كواشف زيوف

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌فاتِحَة الكِتَاب

- ‌خِطّةُ الكِتَابْ

- ‌القِسمُ الأوّل مِنَ الكِتَابمقدمات عامة

- ‌الباب الأولتَعريفٌ بمَنَاخِ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة

- ‌مَقَدِّمَة عَامَّة

- ‌الفصْل الأوّلمُنَاخ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة في أوربَّا

- ‌الفصْل الثانيتحرّك اليَهُود مُسْتَغلّينَ المنَاخ الملَائِمَ في أورُبَّا

- ‌الفصل الثالث: أسبَابُ تَقبّل شعُوب الأمَّةِ الإسْلاميَّة لوافدات المذاهب الفكرية المعاصرة

- ‌الباب الثانيوَسَائِل التّضليل لِتَرويج الشِّعَارَاتوالآراء والمذاهب الفكرية المزيفة

- ‌الفصْل الأوّلالخطّة العَامّة

- ‌الفصْل الثانيالمغَالَطاتُ الجَدَليّة

- ‌الفصْل الثالثلعبَة تطبيْق المنهَج العِلْميّ الخاصْ بالجَبريّاتْعلى السلوك الإرادي عند الإنسان

- ‌القِسمُ الثاني مِنَ الكِتَابعَرض لأهَمِّ الشعَارات البرّاقة المزيّفّةوَلآرَاء وَمذاهبْ فكريّة معَاصِرة جزئيّةمُنبثقة في عُلوم مختلفة مع كشف زيوفها وتعريفْ بأئِمتهَا

- ‌الباب الأولمقدِّمات حَولَ اعتِمَاد العَقْل وَالعِلْم الإنسَانيبديلاً للدِّين

- ‌الفصْل الأوّلالعَقلَانيَّة

- ‌الفصْل الثانيالعِلمَانيّة

- ‌الباب الثانيافتِراءَات ترَوَّج ضدّ الدّين وَالأخلَاقوَالقَوانين وَالنُظم المنبثقة عَنْهما

- ‌الفصْل الأوّلفريَة التّنَاقض بَيْن العَقل وَالدّينوبَينَ العلم والدّين

- ‌الفصْل الثانيمَزاعِمُ المُضلِّين لِهَدْم أسُس الأخلَاقوأبنيتها وتطبيقاتها في المجتمع

- ‌البَاب الثَالثْخِدَاع الشِّعَارَاتالتي يتولد عنها في الرأي العام مسلمات خاطئات وموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌المقدمة

- ‌الفصْل الأوّلالحُريّة

- ‌الفصْل الثانيالمُسَاوَاة

- ‌الفصْل الثالثالتقَدّميَّة والرَّجْعيَّة

- ‌الفصْل الرابعالاشتِراكيّة

- ‌الفصْل الخامِسْالوَطنيَّة وَالقَوميَّة وَالإنسَانيّةوموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌البَاب الرَّابعْأئمّة وَمَذاهِبُ جُزئيّة في عُلُوم مختَلِفَة

- ‌الفصْل الأوّلفروُيْد وَمَدرَسَتُه في عِلْم النّفْس

- ‌الفصْل الثانيدَارْوين وَمَذهَبُ التطوُّر

- ‌الفصْل الثالثدوركايْم وَآرَاؤه في علْم الاجتِمَاعِ

- ‌الفصْل الرابعبرجْسُون وَآرَاؤهُ في نَشأةِ الدّين وَالأخلَاق

- ‌الفصْل الخامِسْسَارْتر وَآراؤهُ الفَلسَفيَّة في الوُجُوديّة

- ‌الفصْل السادسمْكيافيلّي وَفِكرَة: الغاية تبرر الوسيلة

- ‌الفصْل السّابعمَارْكوز وَآرَاؤهُ الثّوريَّةلإقامة ديكتاتورية حكم الأقلية الواعية

- ‌الفصْل الثامِنأوجسْت كونتْوَدين الإنسَانيّة

- ‌القِسمُ الثّالِث مِنَ الكِتَابأئِمة وَمَذاهِبْ فِكريّة معَاصِرَة كَبيرَة

- ‌البَابْ الأوَّلالماديَّة الإلحاديّة وَالماديّون

- ‌الفصْل الأوّلمقدّمات عامة

- ‌الفصْل الثانيأئمّة مَادِّيّون وَنُبّذٌ مِنْ آرَائهم الفَلْسَفيَّةِ الإلحَادية

- ‌الفصل الثالثأسُسُ الفِكْر المادّي الإلحَادي

- ‌الفصل الرابعكشفُ زيُوف أفْكار المادّيّين وَجَدَليَّتِهِم

- ‌الفصل الخامسعقوبَة العَذابْ النّفسِيّ للمُلْحِدينَ

- ‌الفصل السادسالمادية الجدلية في الكون والتاريخ الإنساني

- ‌الباب الثانيالنُّظمُ الاقتِصَاديّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنظرة تاريخيَّة حَول المذاهبْ الوَضْعيَّةللنظم الاقتصادية

- ‌الفصل الثانيلمحّة مُوجَزَة حَول مَنهج دين الله

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين المذاهب الاقتصادية

- ‌الفصل الرابعنظرات متفرقة

- ‌الباب الثالثالنّظمُ السِيَاسيَّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنَظرَة تاريخيَّة حَولَ المذاهِبْ الوَضْعيَّةلِلنُظم السيَاسيّة

- ‌الفصل الثانيلمحَة مُوجَزَة حَول مَنهَجْ دين اللهِ للنّاسِفي شؤون الحكم

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين النظم السياسية

- ‌الفصل الرابعمتفرقات

الفصل: ‌الفصل الرابعكشف زيوف أفكار الماديين وجدليتهم

‌الفصل الرابع

كشفُ زيُوف أفْكار المادّيّين وَجَدَليَّتِهِم

اقتصرت في هذا الفصل على ستة كواشف رأيتها رئيسية وكافية لإسقاط أفكار الماديين الألحادية، وإسقاط جدلياتهم ومقولاتهم، وللباحث المتتبع أن يضيف إليها ما يراه من كواشف أخرى.

وفيما يلي بيانها

(1)

الكاشف الأول

حول الأسباب الصورية أو الوسطية والسبب الحقيقي

أهم أدلة الماديين محاولاتهم الرامية إلى تعليل الظواهر الكونية بالأسباب الكونية التي يكتشفونها علمياً، أو يستنتجونها استنتاجاً عقلياً، ويسمونها قوانين طبيعية، مع أن هذه الأسباب أو ما يسمونه بالقوانين الطبيعية تحتاج هي أنفسها إلى تعليل، إذْ ليس من صفاتها الذاتية صفة الأزلية، ولا صفة العلم والإرادة والاختيار الحكيم.

ولبيان مدى ضعف الأسباب المادية عن تعليل حوادث الكون، وعدم صلاحيتها لتعليلٍ حقيقيٍ مقنع، أقدم الشرح التحليلي التالي:

إن قوانين السببية المادية تعلل حدوث الظواهر الكونية بوصفها أسباباً

ص: 521

صورية أو وسيطة، تم بموجبها تنظيم تغيرات الكون وأحداثه، لا بوصفها أسباباً حقيقية.

لذلك كانت البديهة العقلية الفطرية تتطلب باستمرار متابعة حلقات سلسلة الأسباب المادية، حتى تنتهي إلى السبب الحقيقي الفعال، وهو لا بد أن يكون سبباً ذا إرادة وقدرة، ثم إذا كان العمل حكيماً، فلا بد أن يكون سبباً ذا إرادة وقدرة وعلم وحكمة، وهذه من لوازم صفة الحياة.

ومتى وصل الفكر بطريقة منطقية سليمة إلى مُسبّب ذي حياةٍ وإرادة وقدرة وعلم وحكمة، وصل إلى القناعة الكافية بأن هذا المسبب يصلح لأن يكون هو المسبب الحقيقي، الذي يتوقف الفكر عنده عن متابعة السؤال عن السبب الحقيقي.

أما الحلقات السببية التي قامت بينه وبين الظاهرة التي حدثت، فهي جميعها من قبيل الوسائل أو الأسباب الصورية أو الوسطية، ولا تصلح لأن تكون هي السبب الحقيقي الذي يورث القناعة، ولا تُنهي تساؤلات الفكر، ولا تُروي ظمأه إلى معرفة السبب الحقيقي.

قد يعض الكلب الحجر الذي رآه يتجه نحوه ليصيبه، أما الإنسان المفكر فإنه يبحث عن الذي رمى الحجر نحوه بقصد، فإذا عرفه واستبان أنه قد قصد قتله أو إيذاءه حاول أن ينتقم منه دفاعاً عن نفسه، ولم يفكر بالانتقام من الحجر مطلقاً.

وهنا نقول: إن الماديين الذين يقفون عند الأسباب المادية للظواهر الكونية التي يتجلى فيها القصد، ولا يبحثون عن السبب الحقيقي، مع أن هذه الأسباب تحتاج هي أنفسها إلى أسباب تفسر ظاهراتها وتعلل حدوثها، إنما يفكرون بمثل دماغ الحيوان الذي يعض الحجر الذي قُذف عليه.

ص: 522

وحين يرى العالم الباحث عظاماً قديمة في مكانٍ ما من الأرض، يعزو وجودها إلى سبب، هو كونها عظام حيوان كان حياً يوماً ما، وحين تجتمع لديه مجموعة عظام يمكن أن يتألف منها هيكل عظمي لحيوان ذي صفات خاصة، فإنه يفكر في تأليفها وتجميعها، حتى يستخرج الهيكل العظمي الكامل لذلك الحيوان.

ثم إذا رأى ظاهرة تدل على أن الحيوان تعرض لكسرٍ في جسمه، بسبب أثر سهم أو صدمة أو عضة حيوان مفترس، فإنه يفكر في البحث عن سبب موته.

ثم يتساءل أيضاً عن سبب وجود هذه العظام في المكان الذي وجدها فيه، وهكذا يتسلل مع الأسباب حتى يكتشف جملة معارف، وحتى ينتهي إلى موقف تنقطع عنده أسئلته. وهذا الموقف: إما أن يكون أمراً لا يحتاج إلى تفسير، باعتبار أن الضرورة العقلية تقضي به. وإما أن يكون أثراً لذي حياة وإرادة وغيرهما من الصفات التي تتطلبها طبيعة الظاهرة الملاحظة.

وفي الظواهر الكونية نقول:

1-

إن ينابيع الأرض تأتي من مخازن مياه فيها، وهي تجويفات في باطنها، وفي جبالها.

2-

ومخازن الأرض هذه قد تجمعت المياه فيها مما تسرب في مساربها من مياه الأمطار والثلوج.

3-

أما الأمطار والثلوج فهي من السحب، وتنزل منها على سطح الأرض بأسباب.

4-

وأما السُحب فهي تتجمع من تبخر مياه البحار وغيرها، وتأتلف وتجري في السماء بوساطة الرياح.

5-

وأما تبخر المياه فيكون بتأثير حرارة أشعة الشمس أو سبب آخر.

6-

وأما الرياح فتوجهها عوامل لها أسبابها.

ص: 523

7-

وأما الشمس فهي تدفع أشعتها بسبب النيران العظيمة الملتهبة فيها، إذ هي كتلة نارية ملتهبة.

وهكذا لا يقف الفكر عن البحث عن الأسباب، ولا يقنعه أي سبب مادي يعتبره هو السبب الأخير، بل يرى كل سبب مادي غير صالح لأن يكون سبباً ذاتياً كافياً للوقوف عنده، إذ هو في حركته السببية يحتاج أيضاً إلى سبب.

لكن متى وصل الفكر إلى فاعل ذي إرادة وقدرة وصفات تؤهله لأن يكون هو السبب الحقيقي وقف عنده واكتفى، ورأى ذلك مقنعاً وكافياً لتعليل حدوث الظاهرة، وارتوى ظمؤُهُ إلى معرفة السبب الحقيقي، أما الوسائل أو الأسباب الوسيطة التي لا تملك إرادة الفعل بذواتها فلم تكن لتروي ظمأه.

وبناءً على هذا نستطيع معرفة أن السبب ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: السبب الذي هو من قبيل الوسائل، أو الأسباب الصورية أو الوسيطة، وهو سبب غير حقيقي، إذ هو لدى التحليل سبب فاعل باستخدام غيره له، لا فاعل بذاته.

القسم الثاني: السبب الذي يفعل بذاته، ولو عن طريق استخدام الأسباب الوسيطة، وهذا هو السبب الحقيقي.

ويمكن أن نفهم هذين القسمين بوضوحٍ عن طريق المثال التالي:

إن الرصاصة التي قتلت قد كانت سبباً وسيطاً للقتل فهي سبب غير حقيقي.

والبارود الذي اشتعل في الأنبوبة النحاسية فدفع الرصاصة، قد كان سبباً وسيطاً للدفع، فهو سبب غير حقيقي.

و"الكبسولة" التي أشعلت البارود في الأنبوبة قد كانت سبباً وسيطاً للإشعال، فهي سبب غير حقيقي.

ص: 524

وضربُ إبرة المدفع للكبسولة قد كان سبباً وسيطاً لتفجيرها وإطلاق الشرارة منها، حتى يشتعل بسببها البارود، فهو سبب غير حقيقي.

والإصبع التي حركت زناد المدفع قد كانت سبباً وسيطاً لضرب الإبرة على الكبسولة، فهي سبب غير حقيقي.

أما إرادة الرجل الذي حرَّك إصبعه، وهو حرٌ مختار لم يكرهه أحد، قاصداً إطلاق الرصاصة، وإصابةَ الهدف الذي أصابته، وقتلَ من قتلته الرصاصة، فهي السبب الحقيقي الذي ينتهي الفكر عنده، فلا يسأل عن سبب آخر وراءه.

نعم. قد يسأل عن غاية الرجل القاتل من توجيه إرادته هذه، وعن هدفه، وعن مصلحته من ذلك العمل، بيد أنه لا يسأل عن سبب حقيقي وراء الإرادة المدركة المختارة، التي كانت هي السبب في توجيه الحركة لأول حلقة من حلقات سلسلة الأسباب، التي هي في حقيقتها وسائل وأسباب وسيطة غير حقيقية.

ربما تحدُث بعض الحوادث على سبيل المصادفة، في حدود مُدرَكاتِنا الظاهرة، أو يفعلها فاعل دون إرادة وقصد، ولكن يستحيل أن تتكرر على نظام واحد، وأن تبرز فيها دائماً مع التكرار آثار القصد، ثم تكون مع ذلك قد حدثت على سبيل المصادفة. هاتان قضيتان متنافرتان لا تجتمعان.

وهنا نلاحظ أن كل ما تكتشفه العلوم من أسباب للظواهر الكونية الحادثة، هي في حقيقة أمرها وسائل، أو أسباب وسيطة، أو حلقات مقترنة متتابع توهم أنها أسباب، وليست بأسباب حقيقية.

وحين نوافق على تسميتها أسباباً وعللاً، فإنما نُسمّيها بذلك تسمية مجازيّة لا حقيقية، وهو نظير قولنا: إن الرصاصة التي نفذت إلى مقتل القتيل هي التي قتلته، مع أن القتيل إنما قتله ذو الإرادة الذي أطلق عليه الرصاصة ليقتله، فكانت الرصاصة بكل شروطها وسيلة، أو سبباً وسيطاً استخدمه القاتل الحقيقي.

ص: 525

وإذ قد ظهر لدينا الفرق بين السبب الحقيقي، والأسباب التي هي في حقيقتها من قبيل الوسائل أو الأسباب الوسيطة، يحسُن بنا أن نعرف أيضاً الفرق بين السلاسل السببية الوسيطة غير الحقيقية، وبين السلاسل الاقترانية.

السلاسل السببية الوسيطة

أما السلاسل السببية الوسيطة غير الحقيقية، فهي تشبه العربات التي تجرُّها قاطرة القطار، وتشبه القاطرة نفسها.

إن كل عربة تجرها العربة المتقدمة عليها، والقاطرة تجر العربة الأولى الموصولة بها، لكن القاطرة نفسها لا تكفي لأن تكون السبب الحقيقي، فلا بُد من تجاوزها حتى نصل إلى المحرك المريد المدرك لما يفعل، فهو الذي نقتنع بأنه هو السبب الحقيقي، وقد نتجاوزه أيضاً باعتباره مأموراً، حتى نصل إلى من أمره بتسيير القطار.

فالارتباط بين القاطرات ظواهر سببية، لكنها ليست أسباباً حقيقية، إذ لو تغيرت إرادة محرك القاطرة لأوقفها، وعندئذٍ يقف كل القطار.

السلاسل الاقترانية

وأما السلاسل الاقترانية، فهي تشبه السيارات المتلاحقة في موكب عسكري أو مدني، ضمن عرض نظامي.

إنها من جهة الصورة الظاهرة تتحرك تحركاً متتابعاً يوهم أنها مترابطة، غير أنها منفكة حقيقة، وما يظهر منها ليس أكثر من اقتران فقط، ولكل سيارة منها سائقها، وإراداتُ السائقين توافقت بموجب نظامٍ عام أملاهُ واضع خطة العرض.

ولو كانت هذه السيارات تسير بشكل آلي، وتُوجَّه بموجب موجِّه ألكتروني، مرتبط بمركز توجيه عام، لكانت كلُّ سيارة منها موجَّهةً بموجب

ص: 526

إرادة المشرف العام على التوجيه مباشرة، رغم انفكاك الارتباط بين السيارات.

وحين ننظر في هذا الكون الكبير نجد سلاسل سببية وسيطة غير حقيقية، ونجد سلاسل اقترانية.

أما السلاسل السببية الوسيطة، فإن برهان العقل يوجب أن يكون لها سبب حقيقي هون العلة الفاعلة، ويكفي أن يكون المحرك لأولها.

وأما السلاسل الاقترانية فكل حلقة منها تتطلب سبباً حقيقياً، أي: علة فاعلة.

وبهذا يظهر لنا سقوط رأي الماديين الذين يحاولون إقناع أنفسهم وغيرهم، بأن معرفة أسباب الظواهر الكونية، والتي قد يطلقون عليها قوانين طبيعية، كافٍ لتعليل الكون، ولتعليل حدوث ظاهراته، دون الحاجة إلى إثبات فاعل قدير عليم مريد يفعل ما يشاءُ ويختار.

ويتأكد لدينا بالبرهان أن الظواهر الكونية المتقنة الحكيمة تحتاج حتماً إلى فاعل أزلي أبدي قدير عليم مريد حكيم يعفل ما يشاء ويختار.

وقد جرت سنة الله عز وجل على أن يغلف أفعاله بالأسباب التي ليس لها من ذواتها قوى مؤثرة فعالة متقنة، بل هي أسباب صورية أو وسيطة منحها هو سبحانه قواها، أو هي وسائل مرت عن طريقها أفعاله المتقنة الحكيمة.

ومن الأسباب الحقيقية أو العلل الكافية عقلاً: الضرورات أو الحتميات العقلية.

فمتى كان السبب الحقيقي أو العلة ضرورة عقلية أو حتمية عقلية، كانت كافيةً للتعليل، ومورثة للاقتناع التام، وبها ينتهي العقل إلى المعرفة التي لا يتساءل بعدها عن علة للظاهرة.

1-

فمن الضرورات العقلية، أو الحتميات العقلية، أن يكون وجود

ص: 527

موجودٍ ما، هو الأصل، لا العدم الكلي العام الشامل لكل ما يخطر في الفكر وجوده.

وذلك لأنه لو كان العدم الكلي الشامل لكل ما يخطر في الفكر وجوده هو الأصل، لاستحال عقلاً وواقعاً أن يتحول العدم بنفسه إلى الوجود.

وإذا استحال أحد النقيضين كان النقيض الآخر واجب الوجود عقلاً.

إذن فقد وجب بالضرورة العقلية أو بالحتمية العقلية، أن يكون الوجود لموجودٍ ما، هو الأصل.

وما كان وجوده هو الأصل عقلاً، فإنه لا يحتاج تفسيراً ولا تعليلاً، ولا يتطلب سبباً.

هذه الضرورة العقلية، أو الحتمية العقلية، تثبت عقلاً بدليل استحالة نقيضها عقلاً.

2-

ومن الحتميات العقلية استحالة تحول العدم المطلق بنفسه إلى الوجود.

وهذه الضرورة العقلية، أو الحتمية العقلية، ثابتة بالبديهة العقلية، ولا دليل أقوى من دليل البديهة العقلية، وبها يستدل على المعارف النظرية.

3-

ومن الحتميات العقلية استحال تأثير العدم المحض في الوجود، أو فيما هو موجود، وذلك لأن العدم المحض ليس أي شيء مطلقاً.

وهذه الحتمية أو الضرورة العقلية ثابتة بالبديهة، ولا تحتاج أي برهان عقلي.

4-

ومن الحتميات العقلية، استحال توقف وجود الشيء على وجوده نفسه، واستحالة توقف عدمه على عدمِه نفسه.

وهذه الاستحالة قد جاءت من الدور المستحيل عقلاً بداهة.

ص: 528

5-

ومن الحتميات العقلية استحالة كون بعض الشيء أكبر من الشيء كله.

وهذه الاستحالة آتية من أن بعض الشيء مهما عظم فهو موجود في كله، ويزيد عليه بأشياء ليست هي في البعض.

6-

ومن الحتميات العقلية أن فاقد الشيء لا يكون قادراً على إعطاء ذلك الشيء الذي لا يملكه، ولا يملك سبباً لإعطائه.

وهذا بحكم البديهة العقلية.

7-

ومن الحتميات العقلية أن فاقد القدرة على إيجاد الشيء لا يمكن أن يوجِد ذلك الشيء.

وهذا بحكم البديهة العقلية.

8-

ومن الحتميات العقلية أن ما هو واجب الوجود لذاته لا يمكن أن يلحقه العدم بحال من الأحوال.

وذلك لأنه لو جاز أن يلحقه العدم لما كان واجب الوجود، بل ممكن الوجود والعدم، وهذا تناقض (واجب الوجود <=> ممكن الوجود والعدم) والتناقض لا يجتمع في شيءٍ واحدٍ بداهةً.

9-

ومن الحتميات العقلية أن ما هو واجب الوجود لذاته لا بد أن تكون صفاته واجبة الوجود أيضاً، فلا يتطرق لها إمكان التغير بحال من الأحوال.

وذلك لأن إمكان التغير إنما هو قابليّة انعدام الصفة وحلول صفة أخرى محلها، ولما كان واجب الوجود لا يخلو عن صفاته منذ الأزل، فصفاته مثله في الأزلية، فهي إذن واجبة الوجود.

10-

ومن الحتميات العقلية، أن الإمكان في الشيء دليل حدوثه،

ص: 529

لأنه لو لم يكن حادثاً لكان واجب الوجود، وهو ضد الإمكان فاجتماعهما في شيء واحد تناقض، وهو مستحيل عقلاً.

11-

ومن الحتميات العقلية أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، وأن الضدين لا يجتمعان، وقد يرتفعان.

وهذه من المقررات المنطقية المسلم بها عند الجميع.

12-

ومن الحتميات العقلية أن كل ممكن الوجود والعدم أصله العدم، لأنه لو كان أصله الوجود لكان واجب الوجود عقلاً، فلا يكون مع ذلك ممكن الوجود والعدم، لاستحالة التناقض.

13-

إذا استوفت القسمة العقلية جميع الاحتمالات الممكنة عقلاً لشيء من الأشياء، استحال عقلاً الزيارة عليها في ذلك الشيء نفسه، فالوقوف عند الاحتمالات الممكنة ضرورة عقلية، أو حتمية عقلية، وعدم القدرة على إيجاد احتمال زائد عليها لا يُسمّى عجزاً، وإنما هو انسجام مع أحكام العقل وحتمياته، وضرورات الحقائق وحتمياتها.

* * *

(2)

الكاشف الثاني

حول نظرية لافوازييه

يتذرع المادّيّون بنظرية "لافوازييه" في الكيمياء، التي تقول: لا يُخلق شيء من العدم المطلق، ولا يُعدمُ شيء، وإنما هي تحوّلات من مادة لمادة، أو من مادة لطاقة، أو من طاقة لطاقة، أو من طاقة لمادة.

ونحن إذا دققنا في أصول هذه النظرية التي قرّرها "لافوازييه"، وتابعه فيها علماء الكيمياء وسائر الباحثين في الطبيعة، نجد أنها تتحدث

ص: 530

عن مجال معيّنٍ ذي أبعادٍ ثلاثة، وليس في مستطاعها أن تتحدث عن كل الوجود، في كل أبعاده من الأزل إلى الأبد، وإلا كانت غير علمية وغير عقلية.

إن التحدث عن الوجود كله، بكل أبعاده من الأزل إلى الأبد، ما هو مشهود منه وما هو غير مشهود، أمرٌ لا تستطيع تقريره أية نظرية استقرائية، مهما بلغ شأنها، إلا أن يكون كلامها رجماً بالغيب، وتكهُّناً لا سند له، وطرحاً تخيليّاً محضاً.

والأبعاد الثلاثة لنظرية "لافوازييه" التي تقف فيها عند حدود لا تستطيع تجاوزها، هي ما يلي:

الأول: البعد الزماني.

الثاني: البعد المكاني.

الثالث: البعد الإدراكي.

وهنا نتساءل أربعة أسئلة، أو نطرح هذه الأسئلة الأربعة على العلماء، فنقول:

السؤال الأول: هل رصد واضع هذه النظرية العلمية، ومؤيدوها ومقرروها من بعده، أجزاء الكون وعناصره في كل الأزمان الماضية، بما فيها الأزمان السحيقة في القدم، وبناءً على هذا الرصد الشامل عرفوا أنه لم يُخلق شيء من العدم في الأزمان القديمة جداً؟.

الجواب: أنهم لم يفعلوا ذلك، لأنه لا يتسنى لهم بحالٍ من الأحوال، وهم أبناء النهضة العلمية الحديثة.

ألا يدخل في حدود الإمكان العقلي أن نظام الكون بعد خلقه من العدم، قد رُسم وقُدّر له، أن يخضع لسنة التحويلات مدة بقائه، أو إلى جملة أحقابٍ زمنية، ونحن لم نشاهد إلا ما عاصرنا من هذه الأحقاب؟

هذه واحدة، توقف نظرية "لافوازييه" عند حدٍّ زمني ولا تستطيع من ورائه أن تتحدث بإيجاب ولا بسلب.

ص: 531

وقد أوقف القرآن الباحثين في الكون عند حدود ما شهدوه منه، فقال الله عز وجل في سورة (الكهف/18 مصحف/69 نزول) :

{ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً *} .

والحجة الثانية لإيقاف هذه النظرية عند حدها الزمني، تقدّمها الأدلة العلمية والعقلية، التي تثبت أن لهذا الكون بداية، وإثبات أن لهذا الكون بداية يستلزم بداهةً أنه لم يكن ثم كان، فهو إذن مخلوق من العدم، بقدرة خالق موجود أزلي واجب الوجود لذاته.

بهذا وضح لدينا أن هذه النظرية لا تتحدث عن الانطلاقة الأولى للكون، لأن أياً من الأجهزة العلمية لا تستطيع أن تسترجع الأزمان السحيقة، وترصد الكون فيها.

وكذلك لا تستطيع النظرات التحليلية الاستنتاجية، أن تحكم على ماضي الكون وانطلاقته الأولى، بالقياس على واقعه النظامي الذي نشاهده في الحاضر، لاحتمال الاختلاف الكبير بين نقطة البدء، وبين ما يأتي بعدها من حالات نظامية مستمرة، وسنن ثابتة.

إن نقطة بدء خلق الإنسان لا تشبه الحالة المستمرة له بعد أن صار سويّا يمشي على الأرض.

إذن: فنظريّة "لا فوازييه" لا تتناول بحالٍ من الأحوال الزمن الأول لبداية الكون، ومجالها ينحصر في الأزمان التي يترجّح فيها قيام النظام الكوني الذي درسته هذه النظرية.

وبهذا يتبين لنا أن التعميم الزمني فيها، الشامل لكل أزمان الماضي، تعميم غير صحيح إطلاقاً.

فاللعبة الفكرية التي يلعبها المادّيون هنا هي لعبة التعميم الفاسد، الذي لا سند له إلا الادعاء، ومعلوم بداهة أن الادعاء وحده من غير دليل

ص: 532

مقبول في ميزان الفكر، لا يثبت أية قضيّة، وهو كذب، أو محض تخيّلٍ وافتراض ذهني.

السؤال الثاني: هل رصد واضع النظرية ومؤيدوها ومقرروها من بعده، أجزاء الكون وعناصره في مستقبل ما يأتي من الأزمان، وثبت لهم من رصدهم أنه لا يمكن أن يُخلق شيءٌ من العدم، ولا يُمكن أن يُعدم شيءٌ موجود؟

ونقول: كيف يستنى لهم رصدُ المستقبل وهم لا يملكون استقدامه؟!

جل ما يملكونه هو قياس المستقبل على الحاضر وعلى الماضي، قياساً ذهنياً، بشرط استمرار نظام الكون القائم. وهم لا يستطيعون أن يحكموا على الكون بأنه لا يمكن أن يتغير نظامه الكلي، فتأتيه حالةٌ من الحالات يمسي أو يصبح فيها عدماً، أو تنعدمُ بعض أجزاءٍ منه، أو تضافُ غليه أجزاءٌ لم تكن هيئتها ولا مادتها فيه، فهذا حكم لا سبيل إليه، إنه حكم على مجهول، والحكم على المجهول باطل، هو رجم بالغيب، وقول بغير علم، وبغير ظن راجح أيضاً، إذ لا يوجد دليل ولا شبه دليل.

إذن فنظرية "لا فوازييه" تنطبق على هذا الكون بشرط استمرار نظامه القائم، وهي لا تحكم على المستقبل حكماً قاطعاً باستحالة تغيّر هذا النظام، ولكن ما دام هذا النظام قائماً، فإن ضابطه أن جميع ما يجري من تغيرات المدركات للناس فيه إنما هو من قبيل التحولات، باستثناء ظاهرة الحياة والموت، التي لم يصل العلم الإنساني إلى إدراك حقيقتها، ولا إلى معرفة سر التقاء الأرواح بالأجساد وانفصالها عنها.

وبهذا يتبين لنا أن التعميم الزمني الشامل لكل أزمان المستقبل في هذه النظرية تعميم غير صحيح إطلاقاً.

ونقول هنا أيضاً: إن لعبة المغالطة في نظرية "لا فوازييه" هي لعبة التعميم الفاسد، الذي لا سند له إلا الادعاء، وكل ادعاء لا يدعمه دليل مقبول ادعاء ساقط.

ص: 533

لقد تأكد لدينا بالبيان الشافي أن نظرية "لا فوازييه" محدودة ببعد زمني معين، لا يشمل الزمان الماضي السحيق، ولا الزمان المستقبل المجهول. وتأكد لدينا أن هذه النظرية مشروطة بوجود هذا النظام القائم للكون، ماضياً ومستقبلاً، وليس لهذا النظام طبيعة عقلية توجب أن يكون كذلك من الأزل إلى الأبد.

السؤال الثالث: هل رصد واضع هذه النظرية ومؤيّدوها ومقرّروها من بعده هذا الكون كله في كل أبعاده المكانية؟.

ألا يحتمل عقلاً وجود مكان سحيق في الكون لم يرصدوه، ولم يعرفوا ما فيه؟

أفيحكمون عليه إذاً حكماً غيابياً قياساً على ما رصدوه منه في الأمكنة التي استطاعت أن تبلغ إلى مداها أجهزتهم وملاحظاتهم؟!

إن هذا الحكم الغيابي مع جهالة الخصائص والصفات حكم باطل، وهذا لا يستلزم ضرورة مخالفة الغائب للحاضر، ولكن لا يستلزم أيضاً ضرورة موافقته.

فلا بد إذاً من تحديد مكان النظرية بالأبعاد المكانية التي كانت مجال الملاحظة والقياس بالأجهزة، مع التجاوز بصحة قياس ما شابهها عليها، مما لا يخضع للملاحظة المباشرة.

وهكذا يظهر لنا أن نظرية "لا فوازييه" محدودة ببُعْد مكاني معين، وهو أمرٌ توجبه الدراسة المنطقية الحيادية، وتوجبه الأمانة الفكرية في البحث الجادّ عن المعرفة والحقيقة.

السؤال الرابع: هل شمل رصْد واضع هذه النظرية، ورصدُ مؤيّديها ومقرّريها من بعده، كل أجزاء الكون المادي وغير المادّي، ما ظهر منه وما بطن، وما لم يصل إليه الإدراك الإنساني، مما هو موجود في الكون، ويثبته الاستنتاج الفكري، ولكن لا يزال عن أجهزة الحس غيباً، فهو غير مدرك بالحواس، لا بطريقة مباشرة، ولا بطريقة غير مباشرة؟

ص: 534

الجواب الواقعي يقول: إن الوسائل الإنسانية كلها لم تصل حتى الآن إلى رصْدِ كل ما في هذا الكون، ولا إلى إدراك جميع ما فيه، فما هو غيب عن الناس أكثر مما هو مشهود لهم.

والجواب الواقعي يقول أيضاً: إن للإدراك الإنساني بُعداً لا يستطيع تجاوزه، وإن لهذا الإدراك حدوداً هو عاجزٌ عن اختراقها.

وتحديد البُعد الإدراكي لنظرية "لا فوازييه" يتلخص بأن النظرية قد اعتمدت على ملاحظة عالم الشهادة من الكون المدرك بالحواس الإنسانية ووسائلها. أما عالم الغيب الذي لا تصل إليه الإدراكات الإنسانية المباشرة أو عن طريق الأجهزة والوسائل، فهو عالم خارج بطبيعته عن مجال النظرية.

لذلك فإن هذه النظرية لا تستطيع أن تحكم على ما هو غيب عن الإدراك الإنساني من هذا الكون، إذ حكمها عليه هو من قبيل الحكم على الغائب المجهول في ذاته وفي صفاته.

وعالم الغيب لا يصح الحكم عليه إلا بموجب الأحكام الشاملة عقلاً لعالم الشهادة وعالم الغيب معاً.

فجلّ ما تستطيعه النظريّات بالنسبة إلى عالم الغيب: هو أن تعلّق أحكامها تعليقاً كليّاً، أو تصدر أحكاماً مشروطة احتمالية غير جازمة، وهذا هو ما توجبه الدراسة العلمية المنطقية الحيادية، وتوجبه الأمانة الفكرية في البحث الجاد عن المعرفة والحقيقة.

* * *

الخلاصة

من التحليل السابق ظهر لنا تماماً أن نظرية "لا فوازييه" لم تتناول من الكون إلا مقطعاً محدود الأبعاد الثلاثة: (البعد الزماني، والبعد المكاني، والبعد الإدراكي) وهذا المقطع المحدود هو مجال ملاحظتها.

يضاف إلى كل ذلك أن وجود الحياة في المادة لم يقترِنْ بأي دليل

ص: 535

تجريبي يثبت تحول المادة غير الحية إلى مادة حية، عن طريق التطور الذاتي، دون أن تتولد من حياة سابقة رغم كل التجارب العلمية التي قامت في عالم البحث العلمي حتى الآن، كما سبق بيانه.

وظهر لنا أيضاً أن نظرية "لا فوازييه" لا تستطيع بحال من الأحوال، إثبات أزلية المادة وأبديتها، وأنه ليس في هذه النظرية أية شبهة تشير إلى عدم حاجة الكون إلى خالق أزلي أبدي، له كل صفات الكمال، وهو منزّه عن كل صفات النقصان.

* * *

(3)

الكاشف الثالث

حول دعوى انحصار الوجود كله في الكون المادّي

يزعم الماديون أن الوجود كله منحصرٌ في الكون المادي الخاضع للإدراك الحسي، ولو عن طريق الوسائل المادية المكبرة للدقائق الصغيرة، أو التي تُحسّ بما لا تدركه الحواس الإنسانية، أو عن طريق الاستنتاج الفكري أحياناً.

وهذا الزعم لا دليل عليه مطلقاً، إنه مجرد إنكارٍ ورجم بالغيب.

ومذاهب الماديين حيال هذا الموضوع أن ينكروا بغير دليل وجود ما لم يتوصلوا إلى إدراكه أو معرفته عن طريق الحس المباشر أو غير المباشر.

لقد كان الماديون ينكرون ما لا تصل إليه الحواس الإنسانية، قبل أن يتوصل البحث العلمي إلى اكتشاف أجهزة تستطيع أن تحس بأشياء كونية كانت بالنسبة إلى الحواس البشرية أموراً من أمور الغيب، ولما اكتشفت هذه الأجهزة، وكشفت للعلماء الباحثين ما كشفت من خفايا داخل الكون، تراجع الفكر المادي عن تعنته قليلاً، فاعترف بوجود أشياء يمكن أن تدركها الأجهزة التي توصّل العلماء الباحثون إلى اكتشافها.

ص: 536

ومنها أجهزة الإحساس بالأشعة التي لا تدركها حواس الناس، وأجهزة الإحساس بالذبذبات الصوتية التي تنطلق في الأجواء، وأجهزة الإحساس بالطاقات الكهربائية والمغناطيسية والحرارية غيرها.

وكلما تقدّم العلم وتطورّت أجهزة الإحساس بموجودات كانت غيباً عن الناس قبل التوصُّل إليها، تراجع الفكر المادي عن بعض تعنتاته، ولكن ظل منكراً ما وراءه، مما لا يزال غيباً.

لقد كان الاستنتاج العقلي يثبت أموراً، وكان الفكر المادي ينكر بتعنت وعناد، وحين كشفت الأجهزة المستحدثة ما كان يثبته العقل، تجاهل الماديون إنكارهم الأول، وأخذوا يراوغون، ويوسعون مذهبهم المادي، حتى يشمل ما أثبتته الأجهزة المستحدثة وأحست به، وقدمت للعلماء شهادة بما شاهدت من خفايا كانت قبلها غيباً عن حواس الناس.

أما الماديون المعاصرون الذين يعترفون بقوانين العلوم، وما توصّلت إليه استنتاجاً عقلياً، فهم يتناقضون مع أنفسهم حين يسلمون بمقرراتٍ علمية لم يتوصل إليها العلم إلا عن طريق الاستنتاج العقلي، ويرفضون مع ذلك الاستنتاجات العقلية التي توصل إلى ضرورة الإيمان بالخالق.

ما أعجب أمر هؤلاء المادّيين!!

إنهم يرفضون الاستنتاج العقلي، حينما يُلزمهم جميع العقلاء بضرورة الإيمان بالخالق، الذي هو غيب عن الحواس بذاته، لكن ضرورة وجوده تُعلَمُ حتماً بآثار صنعته المتقنة، ثم هم يقبلون بمقررات علمية كونية كثيرة ما زالت غيباً عن الحواس، وغيباً عن الأجهزة العلمية المتقدمة جداً، مثل صفات الذرة، وحركاتها، وصفات الخلية، وتطورها. مع أن هذه المقررات يوجد في بعضها ما دل عليه الاستنتاج العقلي بأمارات ظنية، لا بأدلة قطعية.

أليس هذا منهم تناقضاً مع أنفسهم؟!

إنهم لو كانوا منسجمين مع الأدلة العلمية انسجاماً سوياً لم يتدخل

ص: 537

معه الهوى، لما كانوا متناقضين في مناهجهم، ولقبلوا على طول خط المعرفة ومكتسباتها كل الاستنتاجات العقلية القطعية، أو التي تعطي ظناً قوياً راجحاً، ولما فرّقوا بين أفرادها وهي متماثلة في قوَّة دلالتها.

لكنهم متعصبون أصحاب هوى ضد قضية الإيمان بالرب الخالق، فهم يرفضون كل دليل يثبت وجوده عز وجل، مهما كان دليلاً برهانياً قوياً، وحينما يكون لهم هوىً في أن ينتفعوا من طاقات الكون وخصائصه، يقبلون ما يقدّمه لهم الاستنتاج العقلي حول هذه الطاقات والخصائص، ولو كان استنتاجاً ظنياً، أو وهمياً أحياناً، ويخادعون بأن هذا مما تثبته الوسائل العلمية.

ويكفي لإدحاض مذهب الماديين الملحدين، ما اعترف به كبار علماء الكون المعاصرين، من تراجع العلم المعاصر عن اعتبار الكون مادة تعمل بصورة ميكانيكية، إلى إدراك أنه مظهرٌ لخطة عليم حكيم قدير مهيمن على كل شيء.

يقول العلامة الفلكي الرياضي البريطاني السير "جيمس جينز":

" إن الكون كونٌ فكري. الكون لا يقبل التفسير المادي في ضوء علم الطبيعة الجديد، وسببه - في نظري - أن التفسير المادي قد أصبح الآن فكرةً ذهنية

إذا كان الكون كوناً فكرياً فلا بد أن خلقه كان عملاً فكرياً أيضاً....

من الصحيح أن نهر العلم قد تحول إلى مجرىً جديد في الأعوام الأخيرة

لقد كنا قبل ثلاثين سنة - ونحن ننظر إلى الكون - نظن أننا أمام حقيقة من النوع الميكانيكي. وكان يبدو لنا أن الكون يشتمل على ركام من المادة المبعثرة، وقد اجتمعت أجزاؤه بالمصادفة، وأن عمل هذه المادة ينحصر في أن ترقص لبعض الوقت رقصاً لا معنى له، تحت تأثير قوى

ص: 538

عمياء لا هدف لها، وأنها بعد نهاية الرقص ستنتهي هذه المادة في صورة كونٍ ميت، وأن الحياة قد وُجدت مصادفة خلال عمل هذه القوى العمياء، وأن بقعةً صغيرةً جداً من الكون قد نعمت بهذه الحياة، أو على سبيل الاحتمال يمكن أن توجد هذه الحياة في بقاعٍ أخرى، وأن كل هذا سينتهي يوماً ما، وسيبقى الكون فاقد الروح.

ولكن توجد اليوم أدلة قوية، تضطر علم الطبيعة إلى قبول الحقيقة القائلة: بأن نهر العلم ينساب نحو حقيقة غير ميكانيكية.

إن الكون أشبه بفكر عظيم منه بماكينة عظيمة. إن "الذهن" لم يدخل إلى هذا العالم المادي كأجنبي عنه، ونحن نصل الآن إلى مكان يجدر بنا فيه استقبال "الذهن" كخالق هذا الكون وحاكمه.

إن هذا الذهن بلا شك ليس كأذهاننا البشرية، بل هو ذهن خلق الذهن الإنساني من (الذرة المادة) . وهذا كله كان موجوداً في ذلك الذهن الكوني في صورة برنامج مُعد سابقاً.

إن العلم الجديد يفرض علينا أن نعيد النظر في أفكارنا عن العالم، تلك التي كنا أقمناها على عجل. لقد اكتشفنا أن الكون يشهد بوجود قوة منظمة أو مهيمنة، وهذه القوة تشبه أذهاننا إلى حد كبير، وهذا الشبه ليس من ناحية العواطف والأحاسيس، وإنما هو شبَه يتعلق بذلك النهج الفكري الذي يمكننا تسميتُه بالذهن الرياضي". انتهى.

(4)

الكاشف الرابع

حول إنكار الماديين وجود الخالق جل وعلا

أنكر الماديون وجود الخالق جل وعلا، ورفضوا الاقتناع بكل أدلة إثباته البرهانية، دون أن يقدموا أي دليل تقبله العقول يجعل لهم عذراً، في هذا الإنكار.

ص: 539

إن جميع أدلتهم تنحصر في محاولات إيهام صغار العقول وقليلي المعرفة، بأن ما لا تشاهد ذاته هو غير موجود، وتجاهلوا الأدلة العلمية، التي أثبتت بشكلٍ قطعي عجز الوسائل الإنسانية عن التوصل إلى الإحساس بموجوداتٍ كونيةٍ كثيرة يثبتها العقل، ولا تستطيع وسائل العلم الإنسانية المادية أن تنفيها، بل الأمر بالنسبة إليها يعتمد على براهين العقل ودلائله الاستنتاجية.

ولما أنكر الماديون وجود الخالق جلا وعلا، لزمهم أن يقولوا: إن المادة الأولى للكون التي هي عديمة الحياة والإحساس والإدراك والفكر، قد ارتقت بالتطور الذاتي حتى نشأت الحياة، التي هي أكمل وأرقى من مادة الكون. ثم نشأت بعد ذلك في الحياة الإحساسات الراقية، حتى مستوى الفكر، ووعي ما في الكون عن طريقه. وبذلك استطاعت المادة أن تعي ذاتها، متمثلاً ذلك في الجهاز الراقي الذي أبدعته بالتطور الذاتي، وهو الدماغ.

إن مقولة الماديين هذه مرفوضة في المنهج العلمي الذي يعتمدون عليه، ومرفوضة بالبداهة العقلية، ومرفوضة بالمسلمة التي اتفق عليها المنهج العلمي المادي، والبرهان العقلي، وهي استحال وجود المتقنات الراقية المعقدة بالمصادفة.

1-

أما المنهج العلمي المادي فقد أثبت: أن المادة التي لا حياة فيها، لا تتولد فيها الحياة بالتطور الذاتي، وأن الكائن الحي فيها لا يأتي إلا نسلاً لحي سابق عليه.

فالمادة والحياة أصلان منفصلان في هذا الكون، وليست المادة أصلاً مستقلاً للحياة، وإن كانت الحياة إنما تظهر في مُدركاتنا الحسية إذا دبت في جسد مادي مؤهل لظهور الحياة فيه.

وأثبتت الأدلة العلمية المعترف بها عند الماديين: أن وجود الحياة في

ص: 540

المادة أمرٌ حادثٌ جداً بالنسبة إلى مادة الكون الأولى.

فمن أين دبّت الحياة؟.

هل وُجدت فيها من العدم المطلق؟

هل وُجدت من المادة فاقدة الحياة، وفاقد الشيء لا يعطيه؟ هذان أمران مستحيلان عقلاً.

إذن: لم يبق إلا أن خالقاً حياً عليماً قديراً حكيماً هو الذي نفخ نسمة الحياة في المادة، وهو الذي خلق الحياة، وحين شاءت حكمته أن ينفخ نسمة الحياة في المادة، ركّب المادّة على الصورة التي قضى بحكمته أن تكون هي الشرط اللازم لاحتواء حركة الحياة.

لكن هذا اللازم العلمي والعقلي يرفضه الملاحدة الماديون، ويصرون على الاعتقاد بما هو مرفوض علمياً وعقلياً.

2-

وأما البرهان العقلي، فإنه يقرر بحكم البديهة العقلية، أن مادة الكون الأولى، التي ليس فيها مركبات متقنة، وليس فيها حياة ولا إحساس ولا وعي، لا تستطيع أن ترقى إلى الكمال ارتقاءً ذاتياً، ولا تستطيع أيضاً أن تصنع أجزاءً فيها هي أكمل منها وأرقى.

وذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وصنع الناقص لما هو أرقى منه نظير تحوّل العدم إلى الوجود تحولاً ذاتياً، لأن القيمة الزائدة قد كانت عدماً محضاً، والعدم المحض لا يخرجه إلى الوجود إلا قوة مكافئة له، أو أقوى منه.

لكن المادة العمياء الصماء الجاهلة لم تكن أقوى ولا مكافئة لمادة حيةٍ مريدة ذات وعي وإحساس، بل هي أقل قيمة منها، فهي إذن عاجزة بداهة عن إنتاج ما هو خير منها.

وهذا يدل بالاستنتاج العقلي على أنه لا بد حتماً من وجود موجود

ص: 541

أزلي هو فوق المادة العمياء الصماء الجاهلة، وهذا الموجود الأزلي هو الذي جعل المادة ترتقي في سلم الوجود، وهو الذي خلق الأحياء وما فيها من صفاتٍ وما لها من خصائص، وهو الذي أتقن كل شيءٍ صنعاً، ولا بد أن يكون هذا الموجود الأزلي متصفاً بصفات الكمال التي بها يخلق ويتقن ويبدع.

3-

وأما استحالة وجود المتقنات الراقية الدقيقة المعقدة بالمصادفة، فهي قضية من المسلمات التي اتفقت عليها الدلائل العلمية المادية، والبراهين العقلية المنطقية.

أما الدلائل العلمية المادية المستندة إلى الوسائل الإنسانية فإنها ترفض المصادفة في أي ظاهرة كونية ذات إتقان دقيق معقد، والباحثون العلميون سواء أكانوا مثاليين أو مادّيين، يبحثون باستمرار عن سبب أية ظاهرة كونية يشاهدونها، ويرفضون ادعاء المصادفة فيها رفضاً قاطعاً، لأن المناهج العلمية الاستقرائية قد أثبتت للعلماء أنه ما من ظاهرة تحدث في الكون دون أن تكون مسبوقة بسببٍ مكافيءٍ لحدوثها، وإذا كانت هذه الظاهرة من الظواهر التي تحتاج إلى صاحب علم ومهارة حتى يكون قادراً على إنتاجها، قرروا أن منتجها صاحب علم ومهارة، وهكذا.

وأما البراهين العقلية فقد استطاعت أن تقدّم للرياضيين وللمنطقيين أدلة قاطعة لا يتطرق لها أدنى شبهة، وهذه الأدلة تثبت استحالة وجود متقنات راقية معقدة التكوين - كخلق الذبابة - عن طريق المصادفة. فكيف بالكون كله وما فيه من متقنات لا حصر لها، أصغرها الذرة، وأكبرها في نظرنا المجرة، وأدناها في الأحياء التي اكتشفناها "الفيروس" وأعلاها فيما نشاهد الإنسان.

فماذا يقول الماديون وقد حاصرتهم الأدلة من كل مكان؟!

* * *

ص: 542

(5)

الكاشف الخامس

حول مزاعم أزلية المادّة

ويزعم المادّيون أزلية مادة الكون الأولى وأبديتها، وهذا الزعم أمر مرفوض بالبرهان العقلي، وبالدلائل العلمية التي تعتمد على الوسائل الإنسانية.

1-

أمّا البرهان العقلي: فيمكن تلخيصه بأن ما هو أزلي هو واجب الوجود عقلاً لذاته، وما هو واجب الوجود لذاته لا يمكن أن يكون قابلاً للتغير:

(لأن قابلية التغير إمكان، والإمكان نقيض الوجوب، سواء أكان هذا الوجوب وجوب وجود أو وجوب عدم، والنقيضان لا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد بحال من الأحوال.

* ولأن التغير هو انعدام للصفات الأولى، وحدوث للصفات الجديدة، والذي يقبل الانعدام والحدوث لا يكون واجب الوجود، بل هو ممكن الوجود وأصله العدم، وهذا مناقض للأزلية.

ولما كانت ذات الموجود ملازمة باستمرار لصفاته، فإن الحدوث في الصفات التي هي ملازمة للذاتِ يستلزم حدوث الذات، وهذا مناقض لأصل ادعاء أزلية الكون الذي هو ملازم للتغير بالمشاهدة.

2-

وأما الدلائل العلمية التي تعتمد على الوسائل الإنسانية فقد عبّر عنها طائفة من علماء الطبيعة، الذين أثبتوا عن طريق الدلائل العلمية، أن الكون صائر إلى العدم، وأن ما هو صائر إلى العدم لا يمكن أن يكون أزلياً.

واستدل بعض هؤلاء بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية.

ص: 543

(6)

الكاشف السادس

حول المقولة الشيطانية: ومن خلق الله؟

يردد الملحدون مقولة الشيطان التي يقول فيها كما أخبر الرسول:

"إذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ ".

1-

فمن الذين رددوا هذه الوسوسة الشيطانية الفيلسوف "هيوم" فقال: " إذا كان لا بد لنا من البحث عن علة لكل شيء، لوجب إذن أن نبحث عن علة للإله نفسه".

2-

ومن الذين رددوها الفيلسوف "هربرت سبنسر" فقال: "استمع إلى هذا الناسك المتدين، ها هو ذا يقص عليك علة الكون، وكيف نشأ، فخالق الكون عنده هو الله، ولكنه لم يفسر بهذا الرأي من المشكلة شيئاً، ولم يزد على صاحبه (أي: المنكر للخالق) سوى أن أرجعها خطوة إلى الوراء.

وكأني بك تسائله في سذاجة الطفل: ومن أوجد الله؟ ".

3-

وأخذ الملحد العربي "صادق جلال العظم" هذه الفكرة من "سبنسر" فقال في كتابه "نقد الفكر الديني" في الصفحة (28) :

"في الواقع علينا أن نعترف بكل تواضع بجهلنا حول ما يتعلق بمشكلة المصدر الأول للكون. عندما تقول لي: إن الله هو علة وجود المادة الأولى التي يتألف منها الكون، وأسألك بدوري: وما علة وجود الله؟.

إن أقصى ما تستطيع الإجابة به: لا أعرف إلا أن وجود الله غير معلول.

ومن جهة أخرى عندما تسألني: وما علة وجود المادة الأولى؟ فإن أقصى ما أستطيع الإجابة به، لا أعرف إلا أنها غير معلولة الوجود. في

ص: 544

نهاية الأمر اعترف كلٌّ منا بجهله حيال المصدر الأول للأشياء، ولكنك اعترفت بذلك بعدي بخطوة واحدة، وأدخلت عناصر غيبية لا لزوم لها لحل المشكلة.

والخلاصة، إذا قلنا: إن المادة الأولى قديمة وغير محدثة، أو أن الله قديم وغير محدث، نكون قد اعترفنا بأننا لا نعرف، ولن نعرف كيف يكون الجواب على مشكلة المصدر الأول للأشياء، فالأفضل إذن أن نعترف بجهلنا صراحة ومباشرة، عوضاً عن الاعتراف به بطرق ملتوية، وبكلمات وعبارات رنانة. ليس من العيب أن نعترف بجهلنا، لأن الاعتراف الصريح بأننا لا نعرف من أهم مقومات التفكير العلمي". انتهى.

كشف الزيف

إن التساؤل عن علة وجود المصدر الأول، حجة يوسوس بها الشيطان للإنسان، منذ بدأ الفكر الإلحادي يدبّ إلى أذهان بعض الناس.

وهذه الحجة الشيطانية تزعم أن الإيمان بأن الله هو المصدر الأول للأشياء، والوقوف عنده، يساوي نظرياً وقوف الملحدين عند المادة الأولى للكون، التي يطلقون عليها اسم السديم، وتزعم أن كلا الفريقين لا يجد جواباً على التساؤل عن علة وجود المصدر الأول، إلا أن يقول: لا أعرف إلا أن وجود هذا الأصل غير معلول، وتزعم أن الملحد اعترف بهذا قبل المؤمن بخطوة واحدة.

وبعد هذه المزاعم يخادع مطلقوها بأن إعلان الجهل والاعتراف به من متطلبات الأمانة الفكرية، حين لا توجد أدلة وشواهد وبراهين كافيات.

ولدى البحث المنطقي الهادئ يتبين لكل ذي فكر صحيح، أن هذه الحجة ليست إلا مغالطة من المغالطات الفكرية، وهذه المغالطة قائمة على التسوية بين أمرين متباينين تبايناً كلياً، ولا يصح التسوية بينهما في الحكم.

ص: 545

وفيما يلي تعرية تامَّة لهذه المغالطة من كل التلبيسات التي سُترت بها.

إننا إذا وضعنا هذه المغالطة بعبارتها الصحيحة كانت كما يلي:

ما دام الموجود الأزلي الذي هو واجب الوجود عقلاً ولا يصح في حكم العقل عدمه بحالٍ من الأحوال غير معلول الوجود، فلمَ لا يكون الموجود الحادث غير معلول الوجود أيضاً؟!

إن كل ذي فكر صحيح سليم من الخلل، يعلم علم اليقين أنه لا يصح أن يقاس الحادث على القديم الأزلي الذي لا أول له، فلا يصح أن يشتركا بناءً على ذلك في حكم هو من خصائص أحدهما.

على هذه الطريقة من القياس الفاسد من أساسه صُنعت هذه المغالطة الجدلية.

أما أزلية الخالق، وعدم احتياج وجوده إلى علة، فبرهان ذلك يمكن إيجازه بما يلي:

إن العدم العام الشامل لكل شيء يمكن تصوره في الفكر، لا يصح في منطق العقل أن يكون هو الأصل. لأنه لو كان هو الأصل لاستحال أن يوجد شيءٌ ما.

إذن: فلا بد أن يكون وجود موجودٍ ما، هو الأصل، ومن كان وجوده هو الأصل فإن وجوده لا يحتاج عقلاً لأية علة، بل وجوده واجب عقلاً، ولا يصح في العقل تصور عدمه، وأي تساؤلٍ عن علةٍ لوجوده لا يكون إلا على أساس اعتبار أن أصله العدم ثم وُجِد، وهذا يتناقض مع الإقرار باستحالة أن يكون العدم العام الشامل هو الأصل الكلي.

ومن كان وجوده واجباً بالحتمية العقلية باعتبار أنه هو الأصل، فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يتصف بصفات تستلزم أن يكون حادثاً.

أما ادعاء أصلية الوجود للكون بصفاته المتغيرة فهو ادعاء باطل،

ص: 546

وذلك بموجب الأدلة التي تثبت أنه حادث وليس أزلياً.

إن هذا الكون يحمل دائماً وباستمرار صفات حدوثه، تشهد بهذه الحقيقة النظرات العقلية المستندة إلى المشاهدات الحسية، وتشهد بها البحوث العلمية المختلفة في كل مجال من مجالات المعرفة، والقوانين العلمية التي توصّل إليها العلماء الماديون.

وإذْ قد ثبت أن هذا الكون عالمٌ حادثٌ، له بداية وله نهاية، فلا بد له حتماً من علة تسبب له هذا الحدوث، وتخرجه من العدم إلى الوجود، وذلك لاستحالة تحوّل العدم بنفسه إلى الوجود.

أما من لا يحمل في ذاته صفات تدل على حدوثه مطلقاً، وتقضي الضرورة العقلية بوجوده، فوجوده هو الأصل.

لذلك فهو لا يحتاج أصلاً إلى موجد يوجده، وكل تساؤلٍ عن سبب وجوده تساؤل باطلٌ بالحتمية العقلية، لأنه أزليٌ واجب الوجود، ولا يمكن أن يكون غير ذلك عقلاً، وليس حادثاً حتى يتساءل الفكر عن سبب وجوده.

وهنا نقول: لو كانت صفات الكون تقتضي أزليته، لقلنا فيه أيضاً كذلك. لكن صفات الكون المشاهدة المدروسة تثبت حدوثه.

يضاف إلى هذا أن مادة الكون الأولى عاجزة بطبيعتها عن المسيرة الارتقائية التي ترتقي بها ذاتياً إلى ظاهرة الحياة، فالحياة الراقية في الإنسان.

بهذا تنكشف للبصير المنصف المغالطة الشيطانية التي يوسوس بها الشيطان، وتخطر على أذهان الناس، بمقتضى قصور رؤيتهم عن استيعاب كل جوانب الموضوع وزواياه، فهم بسبب هذا القصور في الرؤية يتساءلون: وما علة وجود الله.

إنها مغالطة تريد أن تجعل الأزلي حادثاً، وأن تجعل واجب الوجود عقً ممكن الوجود عقلاً وأن الأصل فيه العدم، ليتساءل الفكر عن علة وجوده.

ص: 547

أو تريد أن تُوهِمَ بأنَّ ما قامت الأدلة على حدوثه هو أزلي، أو هو واجب الوجود لذاته، لتسوي بين الحادث والأزلي في عدم الحاجة إلى علةٍ لوجوده.

وتريد هذه المغالطة أن تطمس الضرورة العقلية التي تقضي بأن الأصل هو وجود موجودٍ أزلي، وهذا الموجود الأزلي لا يصح عقلاً أن يُسأل عن علةٍ لوجوده مطلقاً، لتنافي هذا السؤال مع منطق العقل، وهذا الموجود الأزلي لا يمكن أن تكون له صفات تستلزم حدوثه.

أما الكون فصفاته تستلزم بالبراهين العقلية والأدلة العلمية المختلفة حدوثه، لذلك كان لا بد من السؤال عن علةٍ لوجوده، ولا تكون هذه العلة إلا من قبل الموجود الأزلي، الذي يقضي منطق العقل بضرورة وجوده، خارجاً عن حدود الزمن ذي البداية والنهاية، وخلاف ذلك مستحيل عقلاً.

والحدوث من العدم العام الشامل، دون سببٍ من موجود سابق له مستحيلٌ عقلاً.

* * *

(7)

الكاشف السابع

حول أدلة المؤمنين بالله التي يحاول الملحدون التشكيك فيها

يحاول الملحدون التشكيك في أدلة المؤمنين بالله، وهي من القوة والكثرة بحالة لا تسمح لعاقل أو ذي فكرٍ منصف بأن يشكك فيها.

وأورد في هذه المقولة عرضاً موجزاً سريعاً لنماذج من هذه الأدلة، التي يمكن أن تكتب في تفصيلها مجلدات صخمة، وأشير إلى أن بعض هذه الأدلة قد سبق بيانه ضمن مقولات الكواشف السابقة.

وأضيف أن لكل فريق من العلماء المؤمنين بالله عز وجل عدة طرق لإثبات وجوده، وهذه الطرق قد أوصلتهم إلى الإيمان الكامل به، القائم

ص: 548

على اقتناع كافٍ بهذه الحقيقة، حتى كتب علماء الثورة العلمية المعاصرة ألوف البحوث المشتملة على الأدلة التي هدت أصحابها إلى أن وجود الله عز وجل حقيقة لا شك فيها.

وفيما يلي عرض موجز سريع لهذه الأدلة:

البرهان الأول: أثبت العلم وأثبتت الملاحظة أن الكون وحوداثه المستمرة، أمورٌ لم تكن ثم كانت، وكل شيءٍ لم يكن شيئاً مذكوراً ثم كان لا بد له حتماً من موجد أوجده، ولا بد أن يتصف هذا الموجد بالصفات التي تؤهله لعمليات الإيجاد، ولا بد أن يكون أزلياً غير حادث، وإلا احتاج هو أيضاً إلى موجد يوجده. (وهذا هو دليل السببية) .

البرهان الثاني: أثبت العلم وأثبتت الملاحظة المستمرة أن كل ما في هذا الكون أمرٌ متقن، وإتقانه ليس من ذاته حتماً، إذن فلا بد له من متقن أتقنه.

ومئات الألوف من الظواهر الكونية التي تعرض نفسها للبحث، حتى ينكشف للباحثين جوانب مدهشة من إتقانها، الأمر الذي يدل على أن متقناً محجوباً عن الأنظار، يتقن الأشياء بعلمه وحكمته، ويصرف أحداثها بقدرته. (وهذا هو دليل الإتقان في الكون) .

وفي هذا المجال يكتب العلماء المنصفون ألوف المقالات المستفيضة المثبتة لهذه الحقيقة.

البرهان الثالث: تثبت الملاحظة المستمرة في أشياء هذا الكون أن العناية إحدى الصفات البارزة فهيا. فما من حاجة لحي من الأحياء في الكون إلا لها ما يسدها، ويلبي مطالبها على أكمل وضع وأتقنه.

فما من حاجة لدى نبات أو حيوان إلى غذاء إلا لها الغذاء الملائم لها على أحسن وجه وأتقنه.

وما من حاجة لدى ذي حياة إلى كساء يدفع عنه الحر والبرد والضر،

ص: 549

إلا لها ما يحقق مطالبها على أحسن وجه وأتقنه.

وما من نزعة إلى رفاهية وترف واستمتاعٍ بجمال إلا لها في الكون ما يُلبّي رغبتها، سواءً للسائلين.

وما من داء إلا له دواء، وما من قوة إلا لها ضد مكافئ، ما لم يكن للقضاء والقدر في الحكمة العامة مرادٌ ما.

إلى غير ذلك من أمور كثيرة لا تحصى. وكل هذا من العناية، والعناية لا تكون إلا صفة لذي علم وحكمة ورحمة، وهذه صفات عليم حكيم رحيم، وهو الله عز وجل. (وهذا هو دليل العناية) .

والعناية تستلزم الإتقان في الصنع، فكل مشمولٍ بالعناية مصحوب بالإتقان. ولكن قد يكون الإتقان وحده ظاهرة لا تقترن بالعناية، حين لا يكون ذو حاجة إلى العناية موجوداً. فالكون المادي كله متقن، ولو كان في معزل عن مخلوقٍ حيٍّ يحتاج إلى العناية.

البرهان الرابع: يثبت برهان العقل أنه لا يوجد شيء في هذا الكون هو واجب الوجود لذاته، بل كلُّ ما فيه هو من الأمور الممكنة، التي لا يرى العقل مانعاً من أن تكون على صورة أخرى غير الصورة التي هو عليها.

وكل أمرٍ ممكن عقلاً فالأصل أنه كان معدوماً، ولم يوجد في الواقع إلا بمرجح رجّح وجوده ضد الإمكانات الأخرى.

ولا بد أن يكون هذا المرجح لأوائل الممكنات وجوداً واجب الوجود لذاته، وهذا لا يكون من الكون، لأن الكون كله وكل ما فيه أمور ممكنة غير واجبة الوجود عقلاً. (وهذا هو دليل الإمكان في الكون) .

البرهان الخامس: الإنسان أكمل حادث موجود في هذا الكون، بحسب ما نلاحظ ونشاهد من موجودات.

والإنسان لم يخلق نفسه حتماً، ولم يخلق أبواه، وأي شيء دونه لا يستطيع أن يخلقه، لأنه فاقد لكمالاته، وفاقد الشيء لا يعطيه.

ص: 550

إذن: فلا بد من موجود هو أكمل من الإنسان، يملك أن يخلُق في الإنسان صفات العلم والإرادة الحرة، وسائر الصفات النفسية، بعد منحة صفة الحياة.

بل لا بد أن يكون هذا الخالق ذروة الكمال كله.

ويمكن أن نسمي هذا (دليل الكمال) .

البرهان السادس: من الملاحظ في أحداث تاريخ الإنسان، أن مظاهر الجزاء العادل للأمم من السنن الثابتة في الكون.

والجزاء العادل لا يكون من مادة صماء عمياء لا تعلم من أحداث الناس ونياتهم شيئاً.

إذن: فلا بد من موجود عظيم عليم يرقب أعمال الناس، ويعلم نياتهم ومقاصدهم، ويجازيهم بعدله. وهذه الصفات لا بد أن تكون صفات موجودٍ ليس جزءاً من الكون المدروس، ولا مشبها له، لأن شيئاً منه لا يصلح لمثل هذه الصفات.

وشواهد مظاهر الجزاء العادل الذي ليس له سبب إنساني ظاهر كثيرة في تاريخ الناس.

وهذا دليل (ظاهرة العدل) .

البرهان السابع: الروح سر غير مادي من أسرار هذا الكون، وهذه الروح متى وجدت في المادة صارت المادة حية.

ولا يوجد واحد في الأحياء يعرف روح نفسه، أو يملك نفخها في المادة، أو يملك تثبيتها إذا جاء أجل مفارقتها لجسدها.

إذن: فلا بد من موجودٍ أعلى من المادة، ومن عالم الأرواح التي لا تملك لأنفسها شيئاً، وهذا الموجود الأعلى هو الذي ينفخها في المادة فتكون حية، ويقبضها من المادة ميتة لا حياة فيها.

وهو القاهر فوق عباده.

ص: 551

وهذا دليل (ظاهرة الروح) .

البرهان الثامن: وهو ما سبق شرحه في مناسبات متعدّدة، وهو ما أسميه "دليل الإلزام العقلي بين الوجود والعدم" وخلاصته:

لا بد أن يكون الوجود هو الأصل، وإلا لم يوجد شيء البتة، لأن العدم المطلق الشامل لا يمكن أن يتحول بنفسه إلى الوجود، ولا يمكن أن يوجد شيئاً غيره.

وبما أن الوجود هو الأصل فيجب أن يكون للموجود الذي هو الأصل الكمال المطلق، ويجب أن يكون كل وصف فيه واجب الوجود.

لكننا في كون ليس لعناصره صفات الكمال المطلق، إذن: فالموجود ذو الكمال المطلق غير هذا الكون، وهو الذي خلق هذا الكون، وأودع فيه من الأدلة والشواهد ما يدل عليه، ومنح الفكر للإنسان ليمتحنه في قضية الإيمان بخالقه.

* * *

هذه البراهين الأصول يمكن أن تكتب حولها تفصيلات وبحوث مستفيضة تملأ مجلدات.

فموقف الفكر الإيماني موقف من يعرض براهينه وأدلته العقلية والعلمية بقوة، ويستطيع أن يجادل بها، ويُقنِع ويُسكت كل منصف طالب معرفة الحق، غير مغالط ولا مراوغ ولا كذاب.

بخلاف موقف الفكر الإلحادي في كل ذلك.

* * *

ص: 552