المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالثدوركايم وآراؤه في علم الاجتماع - كواشف زيوف

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌فاتِحَة الكِتَاب

- ‌خِطّةُ الكِتَابْ

- ‌القِسمُ الأوّل مِنَ الكِتَابمقدمات عامة

- ‌الباب الأولتَعريفٌ بمَنَاخِ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة

- ‌مَقَدِّمَة عَامَّة

- ‌الفصْل الأوّلمُنَاخ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة في أوربَّا

- ‌الفصْل الثانيتحرّك اليَهُود مُسْتَغلّينَ المنَاخ الملَائِمَ في أورُبَّا

- ‌الفصل الثالث: أسبَابُ تَقبّل شعُوب الأمَّةِ الإسْلاميَّة لوافدات المذاهب الفكرية المعاصرة

- ‌الباب الثانيوَسَائِل التّضليل لِتَرويج الشِّعَارَاتوالآراء والمذاهب الفكرية المزيفة

- ‌الفصْل الأوّلالخطّة العَامّة

- ‌الفصْل الثانيالمغَالَطاتُ الجَدَليّة

- ‌الفصْل الثالثلعبَة تطبيْق المنهَج العِلْميّ الخاصْ بالجَبريّاتْعلى السلوك الإرادي عند الإنسان

- ‌القِسمُ الثاني مِنَ الكِتَابعَرض لأهَمِّ الشعَارات البرّاقة المزيّفّةوَلآرَاء وَمذاهبْ فكريّة معَاصِرة جزئيّةمُنبثقة في عُلوم مختلفة مع كشف زيوفها وتعريفْ بأئِمتهَا

- ‌الباب الأولمقدِّمات حَولَ اعتِمَاد العَقْل وَالعِلْم الإنسَانيبديلاً للدِّين

- ‌الفصْل الأوّلالعَقلَانيَّة

- ‌الفصْل الثانيالعِلمَانيّة

- ‌الباب الثانيافتِراءَات ترَوَّج ضدّ الدّين وَالأخلَاقوَالقَوانين وَالنُظم المنبثقة عَنْهما

- ‌الفصْل الأوّلفريَة التّنَاقض بَيْن العَقل وَالدّينوبَينَ العلم والدّين

- ‌الفصْل الثانيمَزاعِمُ المُضلِّين لِهَدْم أسُس الأخلَاقوأبنيتها وتطبيقاتها في المجتمع

- ‌البَاب الثَالثْخِدَاع الشِّعَارَاتالتي يتولد عنها في الرأي العام مسلمات خاطئات وموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌المقدمة

- ‌الفصْل الأوّلالحُريّة

- ‌الفصْل الثانيالمُسَاوَاة

- ‌الفصْل الثالثالتقَدّميَّة والرَّجْعيَّة

- ‌الفصْل الرابعالاشتِراكيّة

- ‌الفصْل الخامِسْالوَطنيَّة وَالقَوميَّة وَالإنسَانيّةوموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌البَاب الرَّابعْأئمّة وَمَذاهِبُ جُزئيّة في عُلُوم مختَلِفَة

- ‌الفصْل الأوّلفروُيْد وَمَدرَسَتُه في عِلْم النّفْس

- ‌الفصْل الثانيدَارْوين وَمَذهَبُ التطوُّر

- ‌الفصْل الثالثدوركايْم وَآرَاؤه في علْم الاجتِمَاعِ

- ‌الفصْل الرابعبرجْسُون وَآرَاؤهُ في نَشأةِ الدّين وَالأخلَاق

- ‌الفصْل الخامِسْسَارْتر وَآراؤهُ الفَلسَفيَّة في الوُجُوديّة

- ‌الفصْل السادسمْكيافيلّي وَفِكرَة: الغاية تبرر الوسيلة

- ‌الفصْل السّابعمَارْكوز وَآرَاؤهُ الثّوريَّةلإقامة ديكتاتورية حكم الأقلية الواعية

- ‌الفصْل الثامِنأوجسْت كونتْوَدين الإنسَانيّة

- ‌القِسمُ الثّالِث مِنَ الكِتَابأئِمة وَمَذاهِبْ فِكريّة معَاصِرَة كَبيرَة

- ‌البَابْ الأوَّلالماديَّة الإلحاديّة وَالماديّون

- ‌الفصْل الأوّلمقدّمات عامة

- ‌الفصْل الثانيأئمّة مَادِّيّون وَنُبّذٌ مِنْ آرَائهم الفَلْسَفيَّةِ الإلحَادية

- ‌الفصل الثالثأسُسُ الفِكْر المادّي الإلحَادي

- ‌الفصل الرابعكشفُ زيُوف أفْكار المادّيّين وَجَدَليَّتِهِم

- ‌الفصل الخامسعقوبَة العَذابْ النّفسِيّ للمُلْحِدينَ

- ‌الفصل السادسالمادية الجدلية في الكون والتاريخ الإنساني

- ‌الباب الثانيالنُّظمُ الاقتِصَاديّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنظرة تاريخيَّة حَول المذاهبْ الوَضْعيَّةللنظم الاقتصادية

- ‌الفصل الثانيلمحّة مُوجَزَة حَول مَنهج دين الله

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين المذاهب الاقتصادية

- ‌الفصل الرابعنظرات متفرقة

- ‌الباب الثالثالنّظمُ السِيَاسيَّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنَظرَة تاريخيَّة حَولَ المذاهِبْ الوَضْعيَّةلِلنُظم السيَاسيّة

- ‌الفصل الثانيلمحَة مُوجَزَة حَول مَنهَجْ دين اللهِ للنّاسِفي شؤون الحكم

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين النظم السياسية

- ‌الفصل الرابعمتفرقات

الفصل: ‌الفصل الثالثدوركايم وآراؤه في علم الاجتماع

‌الفصْل الثالث

دوركايْم وَآرَاؤه في علْم الاجتِمَاعِ

(1)

من هو دور كايم - أو دورك حاييم؟.

هو "إميل دوركايم". يهودي فرنسي. عاش ما بين عام (1858م و1917م) تَخَصَّصَ في علم الاجتماع. قالوا: وقد صار رائد علم الاجتماع بعد "كونت". كان أستاذاً بالسوربون. وتأثر اتجاهه في علم الاجتماع بفلسفة "كونت" الوضعية. وكان له أولاً تابعاً، ثمّ صار له ناقداً.

عزا إلى العقل المشترك للمجتمع (العقل الجمعي) أصل الدين والأخلاق، وكذلك بعض التصوّرات الأساسية كالزمان والمكان.

من مؤلفاته: 1- "تقسيم العمل في المجتمع" الصادر عام (1893م)

ص: 335

2-

"قواعد المنهاج الاجتماعي" الصادر عام (1895م) 3- "الانتحار" الصادر عام (1897م) 4- "الأشكال" الأولية للحياة الدينية" الصادر عام (1912م) 5- "التربية والاجتماع"

وغيرها.

(2)

دوافع آرائه في علم الاجتماع

يظهر أن حال "دوركايم" كحال "فرويد" من قبله، وأن القيادات اليهودية السرية قد دفعته لإيجاد أفكار في مجال تخصصه، وهو علم الاجتماع، من شأنها تنفيذ المخطط اليهودي العامّ الرامي إلى هدم أسس الدين والأخلاق في مختلف الأمم والشعوب.

وبوسائل مختلفة متعددة وكثيرة، دعمت الدعاية وأجهزة الإعلام اليهودية رجلها الموجّه "دوركهايم" ورفعته إلى مرتبة غير عادية، حتى صار عند المؤرخين رائد علم الاجتماع بعد "كونت" وأمسى رئيس المدرسة الاجتماعية الفرنسية.

(3)

ما يُهمنا مناقشته من آرائه وأفكاره في علم الاجتماع

أراد "دوركهايم" أن يهدم الدين والأخلاق من جذورهما، فأقام أولاً فلسفة العقل الجمعي، إذ زعم أن العقل المشترك للمجتمع هو الموجّه لكل فرد فيه، وهو المكوّن لأفكار الأفراد، ومذاهبهم، وعاداتهم، ومفاهيمهم، وذلك عن طريق إلزام المجتمع للفرد، بما يحيط به من قوة اجتماعية ضاغطة.

وفكرة "دوركهايم" في قضية "العقل الجمعي" وأن المجتمع هو الكيان الإنساني، قد قدّمت للشيوعية أساساً من أسس مذهبها الاقتصادي، إذْ تولي المجتمع الأهمية العظمى نظرياً، مضحّيةً بمصالح الأفراد وطموحاتهم، وإن كانت في تطبيقاتها تسخر النظرية أو مبادئ المذهب،

ص: 336

لخدمة المصالح الخاصة لأفراد الحزب ولقياداته، كلٌّ بحسب أهميته في الحزب.

وزعم "دوركهايم" بناءً على أفكاره وآرائه التي أعطاها زوراً وتزييفاً اسم "نظرية" أن عناصر التفكير وأسس المعرفة العقلية نفسها ما هي إلا صور ولدتها حياة الجماعة، وطبعتها على غرار النظم الاجتماعية.

ولما كانت غاية "دوركهايم" تأسيس المعرفة وكل ظواهر الوجود على مذهب الإلحاد بالله، ودعم المنظمات اليهودية، أو التي يسيطر عليها أو يوجهها اليهود، والتي من مخططاتها قيادة الجماهير، وهي معطلة أفكارها الخاصة، فقد اتجه إلى التركيز عن طريق دراساته في علم الاجتماع على عدة أمور:

1-

الإصرار على تفسير أية ظاهرة اجتماعية تفسيراً مادياً، لا يعترف بالله ولا بأية قوة غيبية، أو موجودات وراء العالم المادي.

2-

ابتكار فكرة "العقل الجمعي" الذي يسيطر على الجماعة دون إرادة منهم ولا تفكير، فهو يحرّكهم كما يحرّك راعي القطيع من الأنعام قطيعه.

وتعريف العقل الجمعي عنده: أنه شيء موجود خارج عقول الأفراد، وهو ليس مجموع عقولهم، ولا يشترط أن يكون موافقاً لعقل أحدٍ منهم، ولا لمزاجه الخاص، وهو يؤثر في عقول جميع الأفراد من خارج كيانهم، وهم لا يملكون إلا أن يطيعوه، ولو على غير إرادة منهم.

وهو دائم التغير، يُحلُّ اليوم ما كان قد حرّمه بالأمس، أو يُحرّم ما كان قد أحله، دون ضابط، ولا منطق معقول.

فلا يمكن بمقتضى سلطان "العقل الجمعي" المتغير تصوّرُ ثبات شيء من القيم إطلاقاً، فلا الدين ولا الأخلاق ولا سائر القيم لها ثبات، بل هي متغيّرات، بسلطان العقل الجمعي الذي لا سلطان للمجتمع البشري عليه، ولا حول لهم ولا قوة معه.

ص: 337

وادّعاء وجود قيم ثابتة مجردة ادعاء ليس له أساس عقلي أو علمي.

وبفكرة "العقل الجمعي" التي اخترعها "دوركايم" سلب الناس حرياتهم الفردية، وجعل سلوكهم في الحياة سلوكاً جبرياً، لا حول لهم فيه ولا قوة ولا اختيار، ولكنها جبريّةٌ ليست من قبل خالق قادر مهيمن، كما يزعم الجبريون في الدين، وإنما هي من قبل وهم غير معروف الصفات سماه "العقل الجمعي".

3-

التركيز على إلغاء الفطرة الإنسانية النزّاعة إلى الإيمان بالله وإلى عبادته، وإلى فضائل الأخلاق، وإلى بناء الحياة الاجتماعية الأولى على نظام الأسرة القائم على الزواج وضوابطه.

وفي هذا يقول:

" كان المظنون أن الدين والزواج والأسرة هي أشياء من الفطرة، ولكن التاريخ يوقفنا على أن هذه النزعات ليست فطريّة في الإنسان ".

وهكذا ألغى الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، والموجودة نوازعها فيهم قديماً وحديثاً وإلى أن ينقرض هذا النوع البشري. ولم يكلّف هذا الإلغاء "دوركايم" إلا أن يقدّم ادعاءً كاذباً يُحيله على التاريخ الذي عثر هو وحده عليه.

4-

تفسير ظاهرتي الدين والأخلاق في المجتمعات الإنسانية بأنهما وليدتا أسباب اجتماعية فقط، وليس لهما سند عقلي أو علمي، وليس لهما دوافع فطرية في النفس الإنسانية.

وقد مهّد "دوركايم" لمذهبه الباطل الفاسد المفسد هذا بتقديم جملة مقدمات:

أهم هذه المقدمات أن خير وسيلة لتفسير ظاهرة معقدة، كالظاهرة الدينية، أن ندرس في بداية نشأتها، قبل أن تخالطها عناصر غريبة عنها،

ص: 338

وأن ذلك إنما يكون بدراسة بيئات الأمم "البدائية".

والأمم البدائية في نظر "دوركايم" هي تلك الأمم التي لا تتميّزُ فيها الأسر الخاصة بخاصية مستقلة، بل تقوم على نظام القبائل، والفصائل، والعشائر.

قال: ومن المعروف أن العشائر - وهي النواة الصغرى في تلك المجتمعات - قوامها وحدة اللقب المشترك بين أفرادها، وهو لقبٌ يشتقّ في الغالب من اسم حيوان، أو نبات، وفي النادر من اسم عنصر جماديّ، أو كوكب من الكواكب.

وتعتقد العشيرة أن لها بمسمى هذا الاسم صلة قديمة، حيوية أو روحية، أي:"إما على أنها تسلسلت عنه، أو أنه كان حليفاً أو حارساً لجدها الأعلى، أو نحو ذلك ".

فالعشيرة لذلك تعظمه، وترسم صورته على مساكنها، وأدواتها، وأسلحتها، وراياتها.

بل يتخذ الأفراد منه وشماً يطبعونه على أجسامهم، كأنه بطاقة شخصية لتحقيق انتساب كلٍ منهم إلى عشيرته.

هذا النظام يسمى بنظام "التوتم=الطوطم" أو اللقب الأسري. وهو

ص: 339

نظام معروف في الشعوب القديمة: "المصرية، والأثيبوبية، والعربية، واليونانية والرومانية، والغالية" وتوجد آثار منه في الأساطير الشعبيّة في أوروبا الآن، ولا يزال منتشراً في القبائل غير المتحضّرة في أمريكا وأستراليا.

ويرى "دوركايم" أن أستراليا أخصب مكان لدراسة هذه الظاهرة، لأن سكانها أقل تطوّراً، وأقرب إلى الطبيعة الأولى من غيرهم، ولذلك استمد منها الوقائع التي بنى عليها أفكاره في مسألة نشأة الدين والأخلاق.

وخلاصة هذه الوقائع أن تلك القبائل في تعظيمها لألقابها تعظّم في الوقت نفسه مسمى تلك الألقاب.

ولما كان الاسم مشتركاً بين الحيوان والجد الأعلى وأفراد العشيرة، وكانت هذه الصلة بين هذه المعاني الثلاثة في نظرها صلة تجانس تام، ترجعها إلى جوهر واحد، شمل التعظيم ثلاثتها، لكن الخط الأكبر من التعظيم يدخرونه لهذا الاسم المشترك، أو لتلك الصورة الجامعة، وهو الوسم، أو الوشم.

حتى إنهم نسبوا إلى هذه الصورة خصائص عجيبة، فزعموا أن الذي يحملها ينصر في الحرب على أعدائه، ويُوفَّق في تسديد السهم إلى رميته، وزعموا أن وضعها على القروح يُسرع في التئامها، إلى غير ذلك.

ويرى "دوركايم" أن هذا التعظيم في العادة، لا يصل إلى درجة العبادة، ولا يوحي فكرة التدين والتقديس والتأليه، ولذلك يقضون جُلَّ أوقاتهم في حياة فاترة، كلٌّ يسعى لقوته منعزلاً في الجبل للاحتطاب، أو على شاطئ البركة للصيد، وليس لهم مظهر من مظاهر التدين في هذه الأحوال العاديّة، سوى التورّع عن بعض المحظورات.

وإنما يأخذ التين حقيقته ومظهره التام عندهم في مواسم خاصة، تقام فيها الحفلات المرحة الصاخبة، التي يطلقون فيها العنان لحركاته العنيفة، وصيحاتهم المنكرة، على إيقاع الطبول، ولحن المزامير، وقد

ص: 340

ركزوا السارية التي تحمل علم العشيرة في سرّة الحفل، فينتهي بهم هذا الحماس الصاخب إلى الذهول والهذيان، بل يفضي بهم إلى انتهاك سياج المحرّمات الجنسية، التي يحترمونها في العادة أشدّ الاحترام.

وربما نسبوا هذا التطور العجيب إلى حضور سر الأجداد فيهم عن طريق هذا الرمز، وعبادتهم للروح التي يرمز إليها، ظناً منهم أنها هي التي أحدثت فيهم هذا التحول الروحي الغريب.

بعد أن يعرض "دوركايم" هذا يقول: ها هنا، وها هنا فقط، تتدخّل النظرية لكشف الغشاوة عن أعينهم، وتنبههم إلى ما حدث من تحوّل شعورهم عن منبعه وهدفه الحقيقيين، وأنهم إذا كان يتوجهون بعبادتهم لمصدر هذا الأثر الجديد، فليعلموا أنه ليس هو النُّصب، ولا ما يرمز إليه النُّصب، وإنّما هو هذا الاجتماع الثائر نفسه، فإن من طبيعة هذه الاجتماعات أن تنسلخ النفوس عن مشخّصاتها الفردية، وتنمحي كلها في شخصية واحدة، هي شخصية الجماعة.

وهكذا يكون الاجتماع هو مبدأ التديّن، وغايته، وتكون الجماعة إنما تعبد نفسها من حيث لا تشعر.

(4)

كشف الزيف

أولاً: أما إصراره على تفسير أية ظاهرة اجتماعية تفسيراً مادياً قائما على إنكار الخالق جل وعلا، فلا داعي هنا لتخصيصه بمناقشة تكشف فساد مذهبه من هذه الناحية.

فقد أفردت بحثاً خاصاً في هذا السفر لمناقشة الملاحدة الماديين، فهو في المذهب المادي الذي يتبناه يدخل في عمومهم. وكشفُ زيوفهم جميعأً هو كَشْفٌ لزيف كل واحد منهم.

* * *

ثانياً: وأما اختراعه لفكرة "العقل الجمعي" فهو تخيُّلٌ خرافي مجرّد من أي دليل عقلي أو علمي.

ص: 341

وللإيهام بوجود شيء اسمه "العقل الجمعي" استغل "دوركايم" ظاهرة موجودة لدى الجماهير، حين تتحكم بها الحركة الغوغائية، لدى سيرها في موكب جماعي، أو لدى اشتراكها في عمل جماهيري، أو لدى تأثُّرها بعاطفة مشتركة أو انفعالٍ طارئ، إذْ يُعطلّ أفرادها عقولهم، اتكالاً على الجماهير المندفعة في المسيرة الغوغائية. وهكذا يفعل كل واحد منهم، فيعطل فكره، ويتكِّل على الجماهير.

أما واقع الأمر فإن مسيرة الجماهير تكون مسيرة تقليدية اتكالية تبعيّة، وقائدها الحقيقي ربما يكون رجلاً واحداً صاحب هوى، أو رجلاً انفعالياً أرعن، أو مجموعة متحزبة لها مصلحة من استغلال الجماهير المندفعة.

وحين تُسلَب الجماهير إرادتها الخاصة، وتتعطل أفكارها بإلقاء كل واحد منهم التبعة والمسؤولية على الجمع الغفير سواه، فلا بُدّ أن تكون الحصيلة أن الجميع يسيرون بلا إرادة، وبلا تفكير، وبلا عقل.

فإذا انفصل كلُّ واحد منهم عن المسيرة الغوغائية عاد إليه رشده، وعادت إليه إرادته، ونظر إلى الجماهير المندفعة اندفاع القطيع، فاستخف اندفاعها الغوغائي، وتعجّب من نفسه كيف كان واحداً من أفراد هذا الجمع المندفع.

استغلّ "دوركايم" هذه الظاهرة الجزئية، التي لا ترجع مطلقاً إلى ما أسماه "دوركايم" بالعقل الجمعي، الذي هو -كما زعم- خارج عقول الأفراد، وله سلطان جبري على الناس. وإنما ترجع إلى توهُّم كل فرد من الجماعة بأن الآخرين يُعملون عقولهم، فيتكل عليهم، فيعطّل عقله وإرادته، باعتبار أن الموضوع يتعلق بمصلحة الجميع لا بمصلحته وحده، وإذْ يدور هذا التوهم على كل الأفراد فإن حصيلة عقول الجميع وإرادتهم، تكون في الغالب صفراً أو عدداً يسيراً.

وعندئذٍ تكون نزوة البعض هي الحاكمة، أو يتسلل فيهم ذو هوى شيطان فيستغل قوتهم واندفاعهم الغوغائي، لتحقيق ما يريد هو.

ص: 342

إن "دوركايم" اليهودي، باختراعه فكرة "العقل الجمعي" وجعلها ظاهرة إنسانية، أو حقيقة من الحقائق المهيمنة على الوجود الإنساني، وقد أراد تهيئة جماهير الشعوب وهي معطلة عقولها وإرادتها، كي تستسلم تلقائياً لشياطين اليهود، حتى يلعبوا فيها كما يريدون.

فمغالطته في هذا الموضوع تعتمد على عنصرين:

الأول: تفسير الظاهرة بغير ما يصح أن تفسّر به، لخدمة أهدافه. وتفسيره هنا تفسير خرافي.

الثاني: تعميم الظاهرة الجزئية على كل السلوك الإنساني.

وهذان العنصران هما من العناصر التي تتكرّر في معظم المغالطات المندسّة في العلوم.

* * *

ثالثاً: وأما تركيزه على إلغاء الفطرة الإنسانية، النزّاعة إلى الإيمان بالله وإلى عبادته، وإلى بعض فضائل الأخلاق، ونحو ذلك، فهو يعتمد على ثلاثة عناصر:

الأول: الإنكار بدون دليل.

الثاني: إغفال أو طمس الأدلة التي تدلّ على وجود هذه الفطرة، وهي الأدلة المقتبسة من الظواهر الإنسانية، ومن استقراء مشاعر الناس، في مختلف الأمم والعصور.

الثالث: إيجاد تعليلات مخترعة تخيلية، لظواهر التدين في الناس، والظواهر الخلقية المجيدة، وإلباس هذه التعليلات رداء منجزات علمية تزويراً وتزييفاً، وادعاء أنها مما توصل إليه البحث العلمي السليم، الذي بنيت عليه أصول الحضارة الحديثة.

* * *

رابعاً: وأما تفسير "دوركايم" لظاهرتي الدين والأخلاق في المجتمعات

ص: 343

الإنسانية، بأنهما من قبيل عبادة الجماعة لنفسها، وما يلزم عن هذه العبادة.

وهو ما سبق شرحه، إذ ساق قصة القبائل البدائية، وما لديها من اللقب الأسري "الطوطم" وما يكون لدى هذه القبائل من تعظيم له حتى مستوى العبادة.

فآراؤه في هذا التفسير آراءٌ خرافية خيالية، شبيهة بالأفكار الخرافية الخيالية التي فسّر بها "فرويد" بعض الظواهر الإنسانية، بغية دعم المخطط المرسوم لهدم الدين والأخلاق ونشر الإباحية.

ولا يحتاج الباحث المتأمل جهداً كبيراً، حتى يكشف الزيف الذي اشتملت عليه آراء "دوركايم" في هذا الموضوع.

وفيما يلي كواشف زيفه:

الكاشف الأول: إن اعتباره الظاهرة الخليعة الماجنة التي وصفها ظاهرةً تدينية أمر مرفوض تماماً.

إذ هو احتمال واهٍ ضعيف جداً، والأولى اعتبارها ظاهرة قبلية أو قومية، أو لوناً من ألوان الترفيه الذي يمارسه الناس جميعاً في أفراحهم وأعيادهم ومجالس سمرهم، ومناسبةً للتنفيس عن بعض الرغبات الحبيسة، والاستمتاع بالمرح واللهو، والتخلص من القيود الاجتماعية والدينية.

الكاشف الثاني: أن تفسير "دوركايم" الظاهرة التي وصفها بأنها من قبيل عادة الجماعة لنفسها، هو تفسير توهميّ لا أساس له ولا سند، ووضع شعار القبيلة في وسط الاحتفال لا يعني أنهم يعبدون هذا الشعار الذي يرمز إلى ذواتهم بحسب تصوّره.

الكاشف الثالث: زعم "دوركايم" أن القبيلة التي وصفها ووصف أعمالها وممارساتها هي أكثر القبائل الاسترالية بدائية، فهي أصلح من غيرها لتفسير ظاهرتي الدين والأخلاق، زعم يكذبه الواقع.

بدليل أن "روبرت شميث" وهو من كبار الباحثين الذين قاموا

ص: 344

بدراسات شخصية دقيقة في أستراليا، يقرر أن القبائل التي ذكرها "دوركايم" هي أحدث القبائل الأسترالية، وأكثرها تقدماً، وأن أقدم قبائل أستراليا هم سكان جنوبها الشرقي، وهؤلاء لا يعرفون نظام الألقاب الحيوانية (التوتم) وفي الوقت نفسه توجد عندهم عقيدة "الإله الأعلى" بصفة واضحة.

الكاشف الرابع: أهمل "دوركايم" المعتقدات والعبادات والأخلاق والعادات، والنظم ومنها نظام الزواج، وهي الأمور التي يتألف منها هيكل الحياة الشعبية للقبائل التي اعتمد عليها، في بناء آرائه التي قدّمها.

ثمّ أخذ الصورة الشاذة التي وصفها، وجعلها دون دليل مظهراً لحقيقة الدين عند هذه القبائل التي وصف ممارساتها، في بعض احتفالاتها النادرة.

فقد وصف "دوركايم" نفسه القبائل التي اعتمد عليها وصفاً يدل على أنها قد قطعت أشواطاً واسعاً، في نظامها المدني والاقتصادي، وذلك فيما لديها من قواعد الزواج، والنسب والملكية، وتنظيم مواسم الصيد، غيرها.

يضاف إلى هذا أن نظام التسمية وحده يحتاج في إنشائه وتثبيته إلى عصور متطاولة، لتتواضع عليه القبائل جيلاً بعد جيل. لذلك عد الباحثون نظام "الطوطم" نظاماً مدنياً، قضائياً، أكثر منه نظاماً دينياً.

بل إن الباحثين المتتبعيْن "لانج" و"فريزر" لم يريا فيه عنصراً دينياً البتة. وقررا أن فكرة الدين والألوهية تكونت في هذه القبائل بعيداً عن نظام اللقب الأسري (الطوطم) .

فمغالطة "دوركايم" قائمة على عنصرين:

ص: 345

1-

تفسير فاسد من جهة.

2-

وتعميم فاسدٍ من جهة ثانية.

الكاشف الخامس: إن "دوركايم" نفسه يعترف بأن عدداً من قبائل أستراليا قد وصلوا إلى فكرة "الإله الأعلى" أو "الإله الأحد"، وأنه كائن أزليٌّ أبديٌ تسير الشمس والقمر والنجوم بأمره، وأنه هو الذي يثير البرق، ويرسل الصواعق، وإليه يُتوَجّه في الاستسقاء وطلب الصحو، وهو الذي خلق الحيوان والنبات، وصنع الإنسان من الطين، ونفخ فيه الروح، وهو الذي علم الإنسان البيان ، وألهمه الصناعات، وشرع له العبادات، وهو الذي يقضي في الناس بعد الموت، فيميز بين المحسن والمسيء.

ثمّ يقرر "دوركايم" نفسه، أن هذه العقائد كلها ليست مقتبسة من أوروبا، كما ظن "تيلور" بل إنها قديمة في هذه القبائل، قبل أن يصل إليها المبشرون الأوروبيّون. وأنهم يعبّرون عن هذه العقائد بعبادات حقيقية، ترفع فيها الأيدي إلى السماء بالدعاء.

هنا نلاحظ أن "دوركايم" أهمل النظر إلى هذه الحقائق التي ذكرها، واعتمد على تفسيرات وهمية سماها هو عبادة، وهي ليست من العبادة في شيء، وقد فعل ذلك ليستكمل صناعة المذهب الذي اخترعه، وأحدث فيه فكرة "العقل الجمعي".

الكاشف السادس: لو افترضنا جدلاً صحة ما ادّعاه "دوركايم" فإنه لا يستلزم أن يكون الدين ظاهرة اجتماعية بحتة.

وذلك لأن الدين يشتمل على عناصر شخصية فردية تماماً، تكون بين الفرد ومعبوده، ويشتمل أيضاً على عناصر اجتماعية.

ولئن كان يمكن للعناصر الاجتماعية أن تكون في بعض أحوالها

ص: 346

ظاهرة اجتماعية يقوم بها الفرد عن طريق الإلزام الجمعي، دون أن يكون له اختيار في تكوينها، فإن العناصر الشخصية الفردية تأبى بطبيعتها أن تكون إلزاماً جمعياً.

وهذا ما استدرك به أنصار آراء "دوركايم" عليه.

إن كل فرد متى خلا لنفسه وشعر بحاجاته وضروراته، وأعوزته الوسائل المادية، تيقظت فطرته الدينية، فلجأ إلى القوة الخالقة الغيبية، التي يرى آثار قدرتها وحكمتها، ولا يشاهد ذاتها، وهنا تكمن الفطرة الدينية في نفوس الناس.

الكاشف السابع: لو كان الدين بما اشتمل عليه في الأديان الربانية، أو الدين الرباني المنزل على الرسل، وبما فيه من سمو ومعارف عظيمة، ثمرة أسباب اجتماعية لا غير، لكانت العلوم، والفنون، والآداب، ومنجزات الحضارات الإنسانية، ثمرة أسباب اجتماعية أيضاً. ولما كان للنبوغ الفردي في أشخاص العباقرة، والمبتكرين، والمخترعين، ومكتشفي قوانين الكون، الذين اعتزلوا مجتمعاتهم للبحث والتأمل، دورٌ فيما أنجزوه، ولكانت أعمالهم ثمرة العقل الجمعي الذي ادعاه "دوركايم" مع أن الواقع بخلاف ذلك تماماً.

الكاشف الثامن: إن دراسة ظاهرة الدين بالاستناد إلى دوافع الفطرة التي تتفجر عند صفائها، وعند ضروراتها، هي الدراسة التي تكشف بحقٍّ أصول الدين في النفوس الإنسانية.

ثمّ إن دراسة ظاهرة الدين بالاستناد إلى واقع الأديان الكبرى، وما اشتملت عليه من اعتماد على ظاهرة الوحي، الذي يبلغه رجال ممتازون من الناس، متحلون بصفات تؤهلهم لأن يكونوا رسلاً مصطفين من عند الله، هي الدراسة المنهجية السديدة، التي يجب اتباعها ويقضي الإنصاف العلمي باتخاذها منهجاً.

وتفسير قضية الإيمان بالله واليوم الآخر، بأنها قضية منطق العقل

ص: 347

ودوافع الفطرة، هو التفسير الذي يتلاءم مع واقع الإنسان المزوّد بالكمالات الفكرية والوجدانية.

وهكذا تكمن المغالطة التي اعتمد عليها "دوركايم" في التفسير الفاسد لظاهرة اجتماعية شاذّة، لدى بعض القبائل التي ادعى - على خلاف الواقع - أنها أكثر القبائل بدائية، وفي التعميم الفاسد الذي اعتبر فيه بعض القبائل البدائية مستنداً للحكم على الناس أجمعين، بما فيهم الذين بلغوا أرقى مستوىً حضاري عرفته البشرية حتى يوم الناس هذا.

فهل فيما استند إليه "دوركايم" ما يصلح مستنداً لدى أي ذي فكر قويم؟.

الواقع أن "دوركايم" قد خالف كلّ أصول وقواعد منهج البحث السليم، التي يعرفها ولا يجهلها، ليدعم أفكاراً وضعها سابقاً نُصْب عينيه، وحاول أن يجد لها ما يؤيّدها، ولو كان وهماً وخرافة.

(5)

تعليق

يبدو أن الفكر اليهودي مستخِفٌّ استخفافاً مسرفاً بعقول الأمم والشعوب غير اليهودية، مهما بلغت ثقافاتُها ومعارفها.

لذلك فهو يرى أن الأوهام والتخيّلات السخيفة متى وضعت في قالب مزخرف، وسمّيت علماً، تلقفتها هذه العقول، وأخذتها بقبول حسن، واعتقدتها على أنها حقائق.

وشجّع اليهود على هذا الاستخفاف وجود من يستجيب لهم، ويتقبّل أفكارهم وخرافاتهم، ووجود من يستأجرونه ليقوم بخدمة أغراضهم، وترويج سخافاتهم وضلالاتهم.

* * *

ص: 348