المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيلمحة موجزة حول منهج دين الله للناسفي شؤون الحكم - كواشف زيوف

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌فاتِحَة الكِتَاب

- ‌خِطّةُ الكِتَابْ

- ‌القِسمُ الأوّل مِنَ الكِتَابمقدمات عامة

- ‌الباب الأولتَعريفٌ بمَنَاخِ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة

- ‌مَقَدِّمَة عَامَّة

- ‌الفصْل الأوّلمُنَاخ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة في أوربَّا

- ‌الفصْل الثانيتحرّك اليَهُود مُسْتَغلّينَ المنَاخ الملَائِمَ في أورُبَّا

- ‌الفصل الثالث: أسبَابُ تَقبّل شعُوب الأمَّةِ الإسْلاميَّة لوافدات المذاهب الفكرية المعاصرة

- ‌الباب الثانيوَسَائِل التّضليل لِتَرويج الشِّعَارَاتوالآراء والمذاهب الفكرية المزيفة

- ‌الفصْل الأوّلالخطّة العَامّة

- ‌الفصْل الثانيالمغَالَطاتُ الجَدَليّة

- ‌الفصْل الثالثلعبَة تطبيْق المنهَج العِلْميّ الخاصْ بالجَبريّاتْعلى السلوك الإرادي عند الإنسان

- ‌القِسمُ الثاني مِنَ الكِتَابعَرض لأهَمِّ الشعَارات البرّاقة المزيّفّةوَلآرَاء وَمذاهبْ فكريّة معَاصِرة جزئيّةمُنبثقة في عُلوم مختلفة مع كشف زيوفها وتعريفْ بأئِمتهَا

- ‌الباب الأولمقدِّمات حَولَ اعتِمَاد العَقْل وَالعِلْم الإنسَانيبديلاً للدِّين

- ‌الفصْل الأوّلالعَقلَانيَّة

- ‌الفصْل الثانيالعِلمَانيّة

- ‌الباب الثانيافتِراءَات ترَوَّج ضدّ الدّين وَالأخلَاقوَالقَوانين وَالنُظم المنبثقة عَنْهما

- ‌الفصْل الأوّلفريَة التّنَاقض بَيْن العَقل وَالدّينوبَينَ العلم والدّين

- ‌الفصْل الثانيمَزاعِمُ المُضلِّين لِهَدْم أسُس الأخلَاقوأبنيتها وتطبيقاتها في المجتمع

- ‌البَاب الثَالثْخِدَاع الشِّعَارَاتالتي يتولد عنها في الرأي العام مسلمات خاطئات وموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌المقدمة

- ‌الفصْل الأوّلالحُريّة

- ‌الفصْل الثانيالمُسَاوَاة

- ‌الفصْل الثالثالتقَدّميَّة والرَّجْعيَّة

- ‌الفصْل الرابعالاشتِراكيّة

- ‌الفصْل الخامِسْالوَطنيَّة وَالقَوميَّة وَالإنسَانيّةوموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌البَاب الرَّابعْأئمّة وَمَذاهِبُ جُزئيّة في عُلُوم مختَلِفَة

- ‌الفصْل الأوّلفروُيْد وَمَدرَسَتُه في عِلْم النّفْس

- ‌الفصْل الثانيدَارْوين وَمَذهَبُ التطوُّر

- ‌الفصْل الثالثدوركايْم وَآرَاؤه في علْم الاجتِمَاعِ

- ‌الفصْل الرابعبرجْسُون وَآرَاؤهُ في نَشأةِ الدّين وَالأخلَاق

- ‌الفصْل الخامِسْسَارْتر وَآراؤهُ الفَلسَفيَّة في الوُجُوديّة

- ‌الفصْل السادسمْكيافيلّي وَفِكرَة: الغاية تبرر الوسيلة

- ‌الفصْل السّابعمَارْكوز وَآرَاؤهُ الثّوريَّةلإقامة ديكتاتورية حكم الأقلية الواعية

- ‌الفصْل الثامِنأوجسْت كونتْوَدين الإنسَانيّة

- ‌القِسمُ الثّالِث مِنَ الكِتَابأئِمة وَمَذاهِبْ فِكريّة معَاصِرَة كَبيرَة

- ‌البَابْ الأوَّلالماديَّة الإلحاديّة وَالماديّون

- ‌الفصْل الأوّلمقدّمات عامة

- ‌الفصْل الثانيأئمّة مَادِّيّون وَنُبّذٌ مِنْ آرَائهم الفَلْسَفيَّةِ الإلحَادية

- ‌الفصل الثالثأسُسُ الفِكْر المادّي الإلحَادي

- ‌الفصل الرابعكشفُ زيُوف أفْكار المادّيّين وَجَدَليَّتِهِم

- ‌الفصل الخامسعقوبَة العَذابْ النّفسِيّ للمُلْحِدينَ

- ‌الفصل السادسالمادية الجدلية في الكون والتاريخ الإنساني

- ‌الباب الثانيالنُّظمُ الاقتِصَاديّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنظرة تاريخيَّة حَول المذاهبْ الوَضْعيَّةللنظم الاقتصادية

- ‌الفصل الثانيلمحّة مُوجَزَة حَول مَنهج دين الله

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين المذاهب الاقتصادية

- ‌الفصل الرابعنظرات متفرقة

- ‌الباب الثالثالنّظمُ السِيَاسيَّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنَظرَة تاريخيَّة حَولَ المذاهِبْ الوَضْعيَّةلِلنُظم السيَاسيّة

- ‌الفصل الثانيلمحَة مُوجَزَة حَول مَنهَجْ دين اللهِ للنّاسِفي شؤون الحكم

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين النظم السياسية

- ‌الفصل الرابعمتفرقات

الفصل: ‌الفصل الثانيلمحة موجزة حول منهج دين الله للناسفي شؤون الحكم

‌الفصل الثاني

لمحَة مُوجَزَة حَول مَنهَجْ دين اللهِ للنّاسِ

في شؤون الحكم

مفاهيم أساسية

لدينا مفاهيم أساسية منبثقة من العقيدة الإسلامية، وهذه المفاهيم تحدد منهج الإسلام في شؤون الحكم، ويمكن إجمالها بما يلي:

* * *

المفهوم الأول: "حول كون الحكم كله هو في الأصل لله وحده":

كل أعمال البشر المكلفين المسؤولين عن أعمالهم الفردية والجماعية أمام الله، يجب أن تكون خاضعة لحكم الله، إلزاماً بفعل أو ترك، أو ترغيباً بفعل أو ترك، أو إباحة وتخييراً، أو إذناً بتنظيم ما هو الأصلح لشؤونهم العامة.

فالناس مخلوقون لله، وهم عبيده، ويلزم من ذلك عقلاً أن يؤمنوا به ولا يجحدوه، ويسلموا لحكمه كل شؤونهم في كل حركاتهم وسكناتهم وتصرفاتهم الإدارية، وأن يطيعوه ولا يعصوه، وبذلك يحققون بإرادتهم الحرة عبوديتهم الاختيارية له، ويعبدونه بطاعتهم له، والتزامهم أحكامه واتباعهم شريعته في كل شؤون حياتهم ومنها شؤون الحكم.

هذه الحقيقة العقلية المنطقية قد بينها الله لنا في كتابه:

أ- فقال الله عز وجل في سورة (الأعراف/7 مصحف/39) :

ص: 681

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الْلَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}

ألا له الخلق والأمر: قضيتان ثانيتهما لازمة عقلاً لأولاهما، فمن له الخلق، لا بد أن يكون له الأمر.

الله هو الخالق، فهو المالك لما خلق، وهو صاحب الأمر كله فيه، وإذا كان هذا المخلوق قد وهبه الخالق إرادة حرة يتصرف فيها بالطاعة أو المعصية، فهو عبدٌ من عبيده، مملوك له، وصاحب أمر التكليف لهذا العبد هو ربه ومالكه وسيده وهو خالقه، فهوالذي له أن يأمر عده بما شاء ، وعلى العبد السمع والطاعة.

ب- ولما قال أئمة المنافقين عقب غزوة أحد، ومقتل من قتل فيها من المسلمين:"هل لنا من الأمر شيء؟ " و"لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا" مستنكرين بمقالتيهم هاتين عدم أخذ الرسول برأيهم في البقاء في المدينة، وعدم الخروج إلى عدوهم في أحد. قال الله عز وجل رداً عليهم:{قل: إن الأمر كله لله} .

فالأمر كله الشامل لأمر التكوين وأمر التكليف وأمر تحديد المنهج وأمر الإذن والإباحة والتخيير هو لله وحده إذ هو الخالق المالك لما خلق.

جـ- وفي بيان أن الحكم لله وحده، سواء أكان حكماً تكوينياً، أو حكماً تكليفياً، أو حكماً جزائياً، أو غير ذلك قال الله لرسول محمد في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :

{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قُلْ لَاّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ

ص: 682

ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ * قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} .

أي: ما الحكم الشامل لكل أنواعه إلا لله، وهو عز وجل يقص الحق، أي يتتبعه مستقصياً له، فلا يفلت منه كبيراً ولا صغيراً. وهو خير الفاصلين في أحكامه يفصل بين الحق والباطل، والخير والشر ، وبين كل المتخالفات والمتفاوتات.

وبعد هذا النص أكد الله في سورة (الأنعام) نفسها تفرُّده بالحكم الجزائي يوم الدين، فقال عز وجل:

{ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} .

أي: فلا حكم يومئذٍ إلا له استحقاقاً وتنفيذاً.

د- وأبان يوسف عليه السلام انفراد الله عز وجل بأن له الحكم التكليفي، فقال لصاحبيه في السجن {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه} أي: ما الحكم إلا لله.

قال الله عز وجل في سورة (يوسف/12 مصحف/53 نزول) حكاية لمقالة يوسف عليه السلام وإقراراً لها:

{ياصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَاّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ للَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُواْ إِلَاّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .

هـ- وأثنى الله على أحكامه التشريعية فقال عز وجل لرسوله في سورة (المائدة/5 مصحف/112 نزول) :

{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن

ص: 683

بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ* أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لقَوْمٍ يُوقِنُونَ}

* * *

المفهوم الثاني: "حول كون أمر الله التكليفي شريعة لعباده".

أمر الله التكليفي الشامل لأنواع الحكم الشرعي قد جعله الله شريعة، أي: طريقة يجب اتباعها، ولا يجوز الخروج عنها، وأنزل ذلك على رسوله محمد.

قال الله عز وجل لرسوله في سورة (الجاثية/45 مصحف/65 نزول) :

{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} .

فالرسول وكل من آمن بالله ورسوله ملزمون شرعاً باتباع هذه الشريعة الربانية. يوجبون ما أوجبته، فلا يبيحون ترك شيء مما فرضه الله، ويحرمون ما حرمته، فلا يبيحون فعل شيء مما حرمه الله، ويرغبون بفعل ما رغبت بفعله، وبترك ما رغبت بتركه، ويحلون ما أحلته، فلا يحرمون ولا يوجبون شيئاً مما أباح الله فعله وتركه، ولا يغيرون من أحكام شريعة الله شيئاً.

* * *

المفهوم الثالث: "حول الإذن للرسول بالأمر".

من أمر الله وحكمه أنه أعطى لرسوله الإذن بالأمر فيما لم ينزل عليه فيه أمراً أو حكماً أو تشريعاً خاصاً.

فالرسول مأذون من الله بتوجيه الأمر والحكم والتشريع فيما لم ينزل الله فيه أمراً أو حكماً أو تشريعاً خاصاً.

ص: 684

فأمر الرسول ملزمٌ للمؤمنين، بمقتضى إعطاء الله له الإذن بالأمر والحكم والتشريع.

وأمر الرسول وحكمه وتشريعه هو في مضمونه من أمر الله وحكمه وتشريعه، إذ لو كان لله عز وجل في ذلك أمر أو حكم أو تشريع آخر، لأنزل الوحي بتعديل أو إيقاف أمر الرسول أو حكمه أو تشريعه.

لذلك قال الله عز وجل في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ

} .

وقال فيها أيضاً:

{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ

} .

وكان حكم الرسول في المسلمين بحكم الله فيما أنزل الله عليه فيه حكماً، وبحكمه فيما أذن له أن يحكم فيه من شرعيات، وبتدابيره الإدارية فيما هو من الإدارات الزمنية للمجتمعات البشرية، والتي تخضع لحكمة التصرف في الأحداث والوقائع وحركة الدولة والدعوة الجهاد.

* * *

المفهوم الرابع: "حول إلزام المؤمنين بأحكام الإسلام كلها".

لا خيرة لمؤمن ولا مؤمنة في تغيير أمر الله ورسوله، الشامل لأحكام الشريعة الإسلامية كلها.

فما ثبت في الإسلام شريعةً مبينةً، فليس لأحد أن يغير فيه أو يبدل، سواء أكانوا أفراداً أو جماعات، حكاماً أو محكومين.

ولن يجتمع المسلمون جميعاً على مثل هذا التغيير، لأنهم لا يجتمعون على ضلالة، وسبيل المؤمنين إذا أجمعوا على أمر هو سبيل الله، فهم معصومون عن أن يجتمعوا جميعاً على الحكم بغير ما شرع الله، بدليل أن الله قد أمر باتباع سبيل المؤمنين.

أ- ففي بيان أنه لا خيرة للمؤمنين في تغيير أمر الله ورسوله، قال الله

ص: 685

عز وجل في سورة (الأحزاب/33 مصحف/90 نزول) :

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} .

ب- وفي التحذير من مخالفة أمر الرسول ولو كان أمراً إدارياً، قال الله عز وجل في سورة (النور/24 مصحف/102 نزول) :

{لَاّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

يخالفون عن أمره: أي يخالفون معرضين عن أمره، فيتركون مواقعهم متسللين خفية، دون استئذان من الرسول، وقد كان ذلك في غزوة الأحزاب.

جـ- وأبان الله أنه إذا عصت فئة من المسلمين، وكانت لها شوكة وقوة، وخرجت باغية مخالفة لأمر الله، ثم لم تصنع لحكم الله وشريعته، فعلى المسلمين أن يجتمعوا لقتالها، حتى ترجع إلى أمر الله، فقال الله عز وجل في سورة (الحجرات/49 مصحف/106 نزول) :

{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .

حتى تفيء إلى أمر الله: أي حتى ترجع عن بغيها إلى أمر الله.

* * *

المفهوم الخامس: "حول وظيفة الرسول في الحكم":

من أمر الله أنه عز وجل قد جعل رسوله محمداً قائد أمته في حياته وإمامهم وراعيهم وسائسهم ومدير شؤونهم مع نبوته ورسالته.

فهو نبيٌّ ورسول، وإمامٌ وقائد يسوس أمور دولة المسلمين في حياته، بأمرٍ من الله.

ص: 686

فأمره في الدين، وأمره في إمامته وقيادته واجب على المسلمين طاعته، بمقتضى أمر الله.

وقد كلف الله رسوله أن يشاور المؤمنين في القضايا لإدارية والسياسية، والحربية، ولكن ما يشيرون به عليه غير ملزم له، إذا ما أراه الله رأياً آخر غيره أحسن أو أكثر صواباً، سواءٌ أشار به أكثريتهم أو عامتهم. نظراً إلى أن أمره المستقل في كل ما لم ينزل الله به عليه حكماً أمرٌ تجب على المؤمنين طاعته.

فمشاورة الرسول للمؤمنين مشاورة تكريم، ومشاركة في النظر والرأي، لاستبانة مختلف الوجوه والآراء، وفيها أيضاً تدريب لهم على النظر في الأمور العامة السياسية، والإدارية والحربية وغيرها.

ونستدل من عمل الرسول في وقائع القضايا التي شاور فيها أصحابه وعمل برأي أكثريتهم، أنه ما كان يستعمل حقه في عدم الالتزام برأي الأكثرية إلا نادراً.

قال الله عز وجل لرسوله في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} .

أي: وشاورهم فيما جعل الله لك من أمر، وكلفهم طاعتك.

وهذه المشاورة غير الملزمة للرسول بأن يعمل بما يشيرون به عليه، هي فيما أرى من خصائص الرسول، ولست أرى من الصواب تعميمها، خلافاً لما أخذ به فريق من الفقهاء. أما أمراء المؤمنين وولاة أمروهم بعد الرسول فينطبق عليهم فيما أرى حكم قول الله عز وجل {وأمرهم شورى بينهم} وهو يدل على أن الشورى وما يصدر عنها ملزمة لهم، كما سيأتي.

* * *

ص: 687

المفهوم السادس: "حول عناصر الساحة المتروكة لاختيارات المسلمين".

توجد في الشريعة الإسلامية ساحة متروكة لاختيارات المسلمين، وهذه الساحة لها طبيعة المصالح العامة المشتركة غالباً، وهي ساحة سكت الشارع عنها، فلم ينطق فيها بحكم خاص. وهي غير الساحة التي تقع فيها أحكام الإباحة الشرعية المنصوص عليها، والتي يكتسب فيها الأفراد بحكم الشرع حقوقاً شخصية لا يجوز لأحد من الناس أن يتدخل في تعديل حكمها. إذ هي من خصوصياتهم. مثل إباحة الاستمتاع بزينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق. ومثل إباحة تعدد الزوجات إلى أربع ضمن شروط الشارع. ومنها حل البيع والتجارة ضمن حدود الشرع، إلى غير ذلك من مباحات.

أما الساحة التي سكت الشارع عنها، وتركت لاختيارات المسلمين، ولها غالباً طبيعة المصالح العامة المشتركة، ولم يبين الشارع فيها أحكاماً مفصلة، ولا تشريعاً محدداً، فنلاحظ منها في شؤون الحكم قسمين:

القسم الأول: كل ما يخضع لأسلوب التنظيم العام، مثل الأنظمة التالية:

1-

نظام الإدارات الحكومية، وتسيير المعاملات، وتسجيلها، وتدوين الدواوين.

2-

نظام السير وحركة الطرق.

3-

نظام الجيش، وتراتيب فيالقه وفصائله وكتائبه ورتبه العسكرية وغير ذلك.

4-

نظام التعليم ومراحله وأقسامه وتخصصاتها، وتقويم مستويات المتعلمين، وغير ذلك.

5-

نظام تخطيط المدن، وتسجيل الأرض، وحدود ملكياتها، وضبط الحقوق المتعلقة بها.

ص: 688

هذا القسم هو من أمر المسلمين، الذي ترك الله تنظيمه لهم، ومنحهم فيه توجيه الأمر، بشرط ألا يشتمل على شيء يخالف حكماً شرعياً، ويخضع لقاعدة الشورى المبينة في قول الله عز وجل:{وأمرهم شورى بينهم} 38/الشورى؛ وسيأتي إن شاء الله تفصيل حولها.

القسم الثاني: طريقة تطبيق قاعدة الشورى في وضع النظم الداخلة في القسم الأول، وفي تأمير المسلمين أميراً عليهم يسوسهم، ويدير شؤونهم العامة.

ولم يعين الشارع أُمراء المؤمنين بعد رسول الله، بل ترك حق الاختيار لهم، بعد أن كلفهم أن يؤمروا عليهم من ذوي الأهلية للإمارة أصلحهم لها، وأتقاهم وأقدرهم على تحمل المسؤوليات العامة، وحسن إدارة شؤونها.

* * *

المفهوم السابع: "حول الشورى في الأمر المتروك لجماعة المسلمين":

أمْرُ المسلمين الذي تركه الله لجماعتهم يخضع لقاعدة الشورى بينهم، كما سبق بيانه.

قال الله عز وجل في وصف المؤمنين في سورة (الشورى/42 مصحف/62 نزول) :

{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}

فأبان الله في هذه الآية أن ما جعله للمؤمنين من أمر، ولم يشرع لهم فيه هو ولا رسوله أحكاماً محددة، وهو مما له طبيعة المصالح العامة المشتركة، فهو شورى بينهم.

وقوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} وصف خبريّ للمؤمنين يتضمن معنى التكليف والإلزام، وهو نظير سابقه مما عُطف عليه {والذين استجابوا

ص: 689

لربهم وأقاموا الصلاة} فهما من الأوصاف الخيرية للمؤمنين، مع أن الاستجابة لله فرض وإقامة الصلاة ركن من أركان الإسلام.

فالمؤمنون مكلفون في أمورهم العامة المتروكة شرعاً لاختيارهم بتطبيق قاعدة الشورى، ومن الأمور العامة المتروكة لاختيارهم تنظيم النظم التي ليس لها أحكام شرعية مبينة كما سبق، واختيار شخص الأمير الأعلى الذي يسوسهم، ويطبق فيهم شريعة الله، ثم ما فوضوه بتطبيقه من أمورهم، فعليهم أن يؤمّروا أميرهم عاملين بقاعدة الشورى.

والأصل في الشورى أنها حق مشترك عام بالتساوي بين جميع المؤمنين والمؤمنات.

ولكن استخدام هذا الحق لا يتم إلا من قبل من هم أهل للمشورة وإبداء الرأي، أما غير الراشدين فليسوا أهلاً لذلك عقلاً وشرعاً.

واستخدام هذا الحق شرطه العادلة الشرعية، أما من سقطت عدالته الدينية بفسقه أو فجوره أو بدعته المخالفة المنحرفة عن شريعة الإسلام، فليس مأموناً على مصالح المسلمين العامة، وبذلك يسقط حقه في المشاركة بالمشورة الملزمة.

فالشورى حق جماعة المؤمنين، وهيئتهم الاجتماعية هي التي تقرر ما هو لهم من أمر قد تركه الله لاختيارهم، وفي هذه الدائرة يقع أمرهم، أما ما وراءها فهو أمر الله ورسوله، أو أمر من أمر الله بطاعة أمره، إذ لم يعطهم الله في ذلك سلطة الأمر.

ولكن ليس من حقهم أن يتركوا الأمر فوضى دون إقامة حكم إسلامي ودون تنظيم الأمور المتروكة لاختياراتهم التنظيمية.

فيجب عليهم شرعاً تأمير أمير عليهم منهم، هو أفضلهم وخيرهم لسياسة الأمة، وإدارة شؤونها وحماية الإسلام ونشر دعوته، وذلك فيما تراه أكثرية الفئة الصالحة المؤهلة للنظر في اختيار من هو الأفضل والأصلح لإمارة المؤمنين، وهم أهل الحل والعقد كما سيأتي بيانه.

ص: 690

المفهوم الثامن: "حول الحاكم فيما عليه من واجبات وماله من حقوق".

تدل النصوص الإسلامية على أن على الحاكم واجبات، وأن له حقوقاً وصلاحيات.

أولاً: يجب على الحاكم المسلم ما يلي:

1-

أن يحكم في رعيته بموجب أحكام الشريعة الإسلامية. وفقهاءُ المسلمين وعلماءُ الدين فيهم هم أولو الأمر في خصوص هذا الشأن، وهم المرجع في جماعة المسلمين لبيان حكم الشريعة الإسلامية.

ومن الخير للمسلمين أن يكون لهم مؤتمرات فقهية، يعقدونها للتعرف على الحكم الشرعي، فيما ليس هو من الأمور المجمع عليها بين المسلمين، أو المعلومة من الدين بالضرورة.

وما تقرره مؤتمراتهم أو هيئاتهم الفقهية، الموثوقة من قبل معظم فقهاء المسلمين وعلمائهم، والتي لا تخضع لمؤثرات وضغوط خارجية، من السلطات الإدارية أو غيرها، يجب على الحاكم المسلم تنفيذه والعمل بموجبه.

ب- أن يحكم في رعيته بما أمرت به جماعة المسلمين، من تنظيمات أو أوامر عامة، هي من أمرهم الجماعي، وصدرت عنهم بموجب قاعدة الشورى.

جـ- أن يحكم بين الناس بالعدل، دون تمييز ولا تفضيل ولا تخيير. وحين يقتضي العدل المساواة يساوي بينهم، وحين يقتضي العدل التفاضل يفاضل بينهم.

د- أن يحافظ على عدالته الدينية، ويكون أميناً على مصالح المسلمين العامة.

ثانياً: للحاكم المسلم من الحقوق ما يلي:

ص: 691

أ- حق تعيين وزرائه وأعوانه ونوابه والولاة والقضاة وقادة الجيش وسائر الموظفين والتفويض بما هو له. وحق إصدار الأوامر الإدارية المتحركة، التي يصرف بها شؤون الدولة والحكم، ويحقق بها مصالح الدين ومصالح المسلمين. بشرط ألا تتعارض تصرفاته مع حكم شرعي، أو تنظيم ثابت وأوامر صدرت عن جماعة المسلمين، بموجب قاعدة الشورى. وله في الأوامر التي هي من صلاحياته أن يستقل بها، لكن من الخير له أن يشاور فيها، وإن كانت المشورة هنا غير ملزمة له.

ب- حق السمع والطاعة على المسلمين، لأوامره التنفيذية لأحكام الشرع، ولأحكام النظم والأوامر العامة الصادرة عن جماعة المسلمين، بموجب قاعدة الشورى، ولأوامره الإدارية الخاصة التي من حقه أن يصدرها، ولأوامر التعيين التي يعين بها العاملين في إدارته، والسمع والطاعة لهم ضمن حدود نظام الإسلام العام.

* * *

المفهوم التاسع: "حول البيعة"

بيعة الحكم: صورة من صور إعلان والتزام ما قرره جماعة المسلمين بموجب قاعدة الشورى حول اختيار الحاكم.

وهي شكل ممتاز من أشكال تثبيت الانتخاب تثبيتاً شعبياً، لا يقبل التزوير، ولا يصح مع الإكراه الظاهر. واحتمالات الإكراه الأدبي فيه أقل من احتمالات تزوير إرادات الناس، في أية صورة من صور الانتخاب الأخرى.

وبيعةُ الحكم: عقْدٌ بين الحاكم والمحكومين على ما يلي:

فمن جهة الحاكم: أن يطيع الله والرسول فيهم، وأن يحكم فيهم بحكم الإسلام لا يحيد عنه، وأن يعمل فيما هو من أمر المسلمين العام الذي جعله الله لهم بموجب قاعدة الشورى الملزمة، وأن يحكم بينهم بالقسط والعدل وبما يراه الأصلح لأفرادهم وجماعاتهم، والأكثر خيراً وفائدة

ص: 692

للإسلام، في كل ماله فيه صلاحية إصدار أمرٍ انفراديٍّ من شؤونهم، دون مشورتهم.

ومن جهة المبايع من المحكومين: أن يسمع ويطيع فيما لا يخالف شريعة الله لعباده، أو أمر جماعة المؤمنين الذي جعله الله لهم.

* * *

المفهوم العاشر: "حول قاعدة الشورى"

الأصل في الشورى أنها مسؤولية ووظيفة عامة، كسائر المسؤوليات والوظائف العامة، ولكن لا يضطلع ولا يشارك بأعباء الوظائف والمسؤوليات العامة إلا من كان مؤهلاً لها.

ومعظم الأمور العامة تخضع لمؤهلين متخصصين، وهم أهل الأمر من المسلمين في حدود تخصصهم.

أ- فإصدار الفتاوى الدينية، واستنباط الأحكام الشرعية، موضوع عام يهم جميع المسلمين ولكن لا يقوم به إلا العلماء الفقهاء المؤهلون للاستنباط والاجتهاد في هذا الموضوع.

وتنطبق عليهم قاعدة "وأمره شورى بينهم" وهم أولو الأمر في شؤون الفتاوى واستنباط الأحكام الشرعية. أما أسلوب تطبيق قاعدة الشورى فمن القضايا التنظيمية، القابلة للتطوير والتحسين، بحسب أحوال المجتمع، واتساعه وضيقه، وقابلياته المختلفة للتطبيقات التنظيمية.

ب- والشؤون الحربية والدفاعية، موضوعٌ عامٌّ يهم جميع المسلمين، لكنه موضوع تخصصي لا يجوز أن يقوم به إلا العلماء الخبراء بشؤون الحرب والدفاع، وهم المؤهلون للاضطلاع بمهمات هذا الموضوع، وهم أولو الأمر في هذا الموضوع التخصصي.

وتنطبق عليهم قاعدة "وأمرهم شورى بينهم" وأسلوب تطبيق هذه القاعدة من القضايا التنظيمية القابلة للتطوير والتحسين.

ص: 693

جـ- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية عامة، ووظيفة تقع على جميع المسلمين، ولكن لا يجوز أن يقوم بها من يسيء فيها ولا يحسن.

وهي ذات مستويات، فالأحكام الدينية المعروفة للجميع ينصح بها الجميع بشرط أن يكون الناصح عالماً بها حقاً، وقادراً على توجيه النصح الحكيم غير المسيء للدين أو للدعوة.

والمسائل التخصصية لا يتصدى لها إلا المتخصصون المؤهلون لتوجيه النصح فيها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وتنظيم نشاطات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحديد الأساليب التي ينبغي اتخاذها مع خصوص الأفراد أو الجماعات الذين توجّه هذه النشاطات لنصحهم، هو من خصائص أولي الأمر في هذا الشأن، وهم المؤهلون له، وتنطبق عليهم قاعدة "وأمرهم شورى بينهم" ولهم أن يستعينوا بآراء غيرهم من خبراء الدعوة والإعلام والتنظيمات الإدارية.

د- وهكذا لكل أمر مؤهلون متخصصون، والمتخصصون فيه من المسلمين الذين توافرت فيهم شروط العدالة الشرعية، والأهلية لإبداء الرأي، والمشاركة في إصدار القرارات، هم أولوا الأمر فيه، وتنطبق عليهم قاعدة "وأمرهم شورى بينهم". وما يأمرون به يجب على جميع المسلمين الخاضعين لدائرة سلطانهم تنفيذه وطاعته.

الشورى أمانة

مما سبق يتبين لنا أن الشورى ليست طعاماً مشتركاً عاماً يأكله العالم والجاهل، والصغير والكبير، بل هي أمانة، لا يحسنها إلا أهلها، ويجب أن تؤدى إليهم، عملاً بقول الله عز وجل في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ

ص: 694

وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}

والأمانات في الناس مختلفات، ولكل أمانة منها مؤهلون متخصصون، ويجب بأمر الله أداء هذه الأمانات إلى أهلها، ومنها أمانة المشاركة في الشورى، وأمانة تولي الحكم.

وكل إنسانٍ مستأمن على ما وهبه الله في حدود ما وهبه، وعليه أن لا يخون الأمانة، وكما أمر الله الذين آمنوا بأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، نهى حاملي الأمانات عن الخيانة في أماناتهم، فقال الله عز وجل في سورة (الأنفال/8 مصحف/88 نزول) :

{ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

إن مسؤولية إبداء الرأي، والمشاركة في إصدار الأمر الذي يُهم مصالح المسلمين العامة، ليست من الأمور العادية الهينة التي تصلح لها الكفاية العادية لآحاد الناس. بل هي من الأمور الكبرى التي تحتاج أهلية عالية من حصافة الرأي وواسع التجربة والخبرة بالناس والتاريخ والسياسة مع الشروط الأساسية الأولية التي يدخل فيها النضج العقلي والدين والتقوى والعدالة.

ولما كان أهل الكفاية للمشاركة في هذا الأمر الخطير، يختلفون من عصر لعصر، ومن بيئة لبيئة، ومن مجتمع لمجتمع، كماً وكيفاً، كان لا بد من ترك أمر المؤهلين لهذه المشاركة مفتوحاً، لئلا تتعطل مصالح الناس السياسية والإدارية، ولئلا يتوقف الحكم. وكان لا بد من ترك تنظيم كيفية تطبيق الشورى لأمر المسلمين، كي يطوروا ترتيباتهم الإدارية، ولئلا يتوقف الحكم. وكان لا بد من ترك تنظيم كيفية تطبيق الشورى لأمر المسلمين، كي يطوروا ترتيباتهم الإدارية على وفق تطور واقع حال المجتمعات الإسلامية، من بداوة إلى تحضر من درجة دنيا ثم إلى أعلى فأعلى

ونستطيع أن نفهم من قول الله عز وجل في النص السابق من سورة

ص: 695

(النساء) : {فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله ورسوله} أن إجماع المسلمين بعد صريح أمر الله وصريح أمر الرسول حجة شرعية. وأنهم لا يجمعون جميعاً إلا على حقٍ وخير، فهم بهيئتهم الاجتماعية العامة معصومون عن الضلال، لأن طائفة منهم لا بد أن تبقى ظاهرة على الحق، فإن حصل الإجماع العام فهذه الطائفة لا بد أن تكون ضمن المُجمِعين.

فإن تنازعوا ولم يُجمعوا وجب عليهم أن يردوا الأمر إلى أحكام الله والرسول، عن طريق قياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض. أو غير ذلك من الأدلة التي فيها معنى هذا الرد.

فإن بقي الخلاف بعد هذا الرد، فلا سبيل للترجيح إلا باعتماد رأي الأكثرية، وهي قضية عقلية، وبه تصدر الأوامر.

حملة أمانة الشورى في تخصصاتهم هم أولوا الأمر فيها

وإذ كانت الشورى أمانة يجب أداؤها إلى أهلها، فإن حملة أمانة الشورى في تخصصاتهم هم أولوا الأمر فيها، ضمن حدود تخصص كل فريق منهم، ويجب طاعتهم فيما يأمرون به، امتثالاً لأمر الله العام بقوله عز وجل في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ..} .

وقرارات وأوامر مجالس الشورى التخصصية تؤخذ بالإجماع أو بالأكثرية ولا سبيل غير ذلك.

وأوامرهم واجبة الطاعة على الجميع حاكماً ومحكومين.

تعيين مجالس الشورى

أما تعيين مجالس الشورى فمن المسائل الخاضعة للظروف الاجتماعية، وتتطور بحسب تطور الأمة ثقافياً وحضارياً.

ومن أسلم طرق تعيين مجالس الشورى في واقع دولة كبرى

ص: 696

متحضرة، دعوة المتخصصين في الموضوع المطروح للشورى الذين تتوافر فيهم العدالة الشرعية، في كل بلدٍ، دعوةً أوليةً، لتأدية أمانة هذا التخصص إلى أهله، فيصطفي أهل كل بل من يرونه أهلاً لحمل الأمانة في هذا التخصص. ثم يتم جمع المختارين من البلدان في مجمع واحد، للمداولة في الموضوع المطروح للشورى، أو للاصطفاء مرة ثانية.

وتصدر القرارات والأوامر من قبل مجالس الشورى بالإجماع أو بالأكثرية. وقراراتهم ليست مجرد توصيات لأولي الأمر التنفيذي، إنما هي أوامر واجبة الطاعة على الجميع، بمقتضى أمر الله:{أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} .

وكل مجلس شورى هم أهل الحل والعقد في حدود تخصصهم، وفي حدود دائرتهم الاجتماعية.

اختيار أمير المؤمنين

واختيار أمير المؤمنين العام، بأي اسم سميناه (أمير المؤمنين - خليفة - رئيساً للدولة - سلطاناً - ملكاً) أو غير ذلك، هو من أمر المسلمين العام، فهو خاضع لقاعدة (وأمرهم شورى بينهم) .

ولكن كيف يتم اختياره واصطفاؤه، مع تطبيق قاعدة الشورى؟

والجواب على ذلك: أن تطبيق قاعدة الشورى هنا، هو نظير تطبيقها في القضايا التخصصية، التي سبق بيانها.

فالأصل في الشورى أنها مسؤولية ووظيفة عامة، ولكن لا يجوز أن يضطلع بها أ، يشارك فيها إلا من كان مؤهلاً لها، وهو الرشيد الحر العدل شرط المؤهل لتقديم الرأي والمشاركة في الأمر.

والمؤهلون لاختيار واصطفاء أمير المؤمنين الأعلى، وتأدية أمانة الحكم إليه، يختلفون من مجتمع لمجتمع، ومن بيئة لبيئة، ومن زمن لزمن. فتحديد هؤلاء هو من الأمور القابلة للتطور والتغير،

ص: 697

بحسب تغير أحوال الناس، وتغير مستويات ثقافاتهم، ومستوياتهم الحضارية، ومقادير مشاركاتهم الاجتماعية.

ففي البيئات القديمة - كما سبق بيانه - كان رؤساء القبائل وشيوخها والمستشارون حولهم، هم أهل الحل والعقد، وهم المؤهلين لاختيار أمير المؤمنين العام واصطفائه، وتأدية أمانة إمارة المؤمنين العامة لمن هو أصلح لها من بين جميع المؤمنين.

ثم تطور الأمر بالتطورات المدنية والحضارية، فصار أهل الحل والعقد في المدن والقرى بصورة أخرى.

وما تزال المدن الحضارية وقراها خاضعة للتطورات الاجتماعية التي تبرز فيها صورة جديدة، وبسببها يختلف تحديد أهل الحل والعقد.

فما دام الأمر متروكاً للمسلمين فهو من أمرهم، ولهم أن ينظموا الشكل الذي يؤدون به أمانة إمارة المؤمنين لمن هو أصلح المؤمنين لها، وهو أهلها.

وقد يكون ذلك بانتخاب أعيانهم وأهل الحل والعقد منهم في مواطنهم ودوائرهم، ثم يختار كل أهل بلد منهم الصفوة، ثم تجتمع مجالس الصفوة من البلدان في مجمع واحد لاصطفاء الأمير العام للمؤمنين.

واختيار أهل الحل والعقد في بلدانهم أو قراهم أو أحيائهم أو حاراتهم، يكون من قبل المؤهلين لمعرفة أهل الحل والعقد فيها، وقد يتم هذا تلقائياً باجتماعات تعقد لهذه الغاية، أو يتم بصورة أخرى.

ويمكن تنظيم مجالس شورى محلية عامة، للأمور الإدارية والسياسية، يكون أعضاؤها المختارون في قبل القاعدة الشعبية المؤهلة للاصطفاء هم أهل الحل والعقد، في القضايا الخاصة بدوائر كلمتهم المسموعة، ومشورتهم المقبولة، وعن طريق هذه المجالس مع المجالس الشورى الأخرى التخصصية يتم انتخاب أمير المؤمنين أو رئيس الدولة.

ص: 698

وتظل كل التنظيمات قابلة للتعديل والتطوير، بغية تطبيق قاعدة الشورى بصورة أفضل، وذلك بحسب واقع حال المجتمع.

وبالنظر إلى الواقع الاجتماعي المتطور المتغير، كان تطبيق قاعدة الشورى من الأمور التي ينظر فيها إلى واقع حال المجتمع، فتطبّق الصورة المتيسرة من صورها، على أن تكون هي الصورة ذات العطاء الأجدى، والأبعد عن غوائية الجاهلية وأصحاب الأهواء، بحسب حال المجتمع الذي تطبق فيه قاعدة الشورى.

لذلك ألزم الله عز وجل بالشورى، ولم يحدد صورة لتطبيقها، ليتكيّف المؤمنون في تطبيقها بحسب واقع مجتمعهم، الذي هو عرضة للتطور، كسائر المجتمعات الإنسانية.

ولا بد أن نلاحظ أيضاً أن الأهلية للمشاركة بالرأي، وإصدار القرارات، في الأمور العامة، ومنها اختيار رئيس الدولة، هي من الأمور القابلة للتطور، وليست من الأمور الثابتة التي لا تقبل التغير ولا التطور.

فالتطبيق لقاعدة الشورى يتبع المتغيرات الاجتماعية.

هل الشورى ملزمة؟

ما هو من أمر المسلمين الذي قال الله بشأنه {وأمرهم شورى بينهم} فالشورى فيه ملزمة فيما أرى.

وذلك لأن الله عز وجل لم يجعل للمسلمين في أمرهم الذي خصه بهم وجعله لهم، غير الشورى مبدأً يعملون به، فما تنتجه الشورى فإنه يكون لازماً لهم، وواجباً عليهم أن يعملوا به.

وأمر المسلمين المتروك لهم، هو غير الأمر الذي أنزل الله فيه أحكاماً بأمره، وغير الأمر الذي أمر فيه الرسول بأوامر من عنده مما له صفة التشريع، وغير التصرفات الإدارية المتحركة التي جعلها الله لذوي السلطة التنفيذية من المؤمنين، أو جعلها لهم رسوله، أو فوضهم بها المؤمنون.

ص: 699

ومتى طرح المسلمون أمراً من أمورهم للشورى فالنتيجة تكون على أحد وجهين، إما أن يتفق أهل الحل والعقد منهم، وإما أن يختلفوا.

أ- فإن اتفقوا على أمرٍ بلا خلاف، فقد أعطت الشورى أفضل صورها وأكملها، وكانت ملزمة حتماً للحاكم والمحكومين جميعاً.

ب- وإذا حصل الخلاف ردوه إلى الله والرسول بطريق القياس أو بطريق آخر مقبول شرعاً من طرق الرد، إن كان الأمر مما يمكن رده إلى حكم شرعي ثابت.

ثم إن بقي الخلاف فرأي الأكثرية هو الذي يجب المصير إليه فيما أرى. والأخذ بخلافه ترجيح من غير مرجح، وتحكم وتعنت، وإلغاء لمبدأ تساوي المؤمنين المؤهلين للمشاركة، في حقهم بإبداء الرأي الذي يرونه أنفع وأصوب وأكثر تحقيقاً لمصلحة المسلمين، وبإصدار القرار المناسب في ذلك.

إن رأي أكثرية المؤمنين المؤهلين لإبداء الرأي في الموضوع المطروح للشورى هو الرأي الراجح في نظر جماعة المؤمنين، الذين جعل الله حق إصدار الأمر، ولا سبيل للترجيح عند الاختلاف غير ذلك.

ورجحان أصوات أصحاب الأهواء مستبعد، ما دام الشرط في كل عضو من أعضاء أهل الحل والعقد: الكفاية والعدالة الشرعية والأهلية لإبداء الرأي السديد في الموضوع المطروح للشورى.

وما يمكن أن تهتم به الأكثرية من الخطأ واتباع الهوى يمكن أن تتهم به الأقلية، ولا عصمة لأحد بعد رسول الله.

ويمكن عند اختلاف الصفوة المختارين لمجالس الشورى، أن تطرح وجوه الآراء التي اختلفوا فيها، على القاعدة العريضة التي انتخبتهم من الشعب، في استفتاء عام، ثم ينظر في رأي الأكثرية من جديد.

إلى غير ذلك من أمور تنظيمية، هدفها تحقيق قاعدة الشورى على أحسن وجه وأفضله.

ص: 700

ولأعضاء مجالس الشورى الإسلامية المختلفة، أن يقتبسوا من التنظيمات الإدارية التي توصل إليها غيرهم بتجاربهم، ما يرونه صالحاً ونافعاً يخدم الدين والمجتمع الإسلامي، ولا يتعارض مع أي حكم من أحكام الشرع.

وتنظيمات جماعة المسلمين قابلة للنسخ والتعديل والتبديل، عن طريق الشورى ومجالسها الإسلامية بحسب تخصصاتها.

* * *

المفهوم الحادي عشر: "حول القضاء والقضاة".

1-

لجماعة المسلمين عن طريق مجالس الشورى المتخصصة، أن يضعوا النظم الإدارية الكفيلة بسير القضاء سيراً نزيهاً بعيداً عن أية ضغوط من قِبل السلطة الإدارية أو العسكرية أو غيرها.

وأن يضعوا النظم الإدارية للقضاء وأصول المرافعات، وكل ما له سمة التنظيم الإداري، بشرط أن لا يخالف حكماً شرعياً.

فوضع مثل هذه النظم من أمرهم المتروك شرعاً لهم (وأمرهم شورى بينهم) .

2-

يتم تعيين القضاة من قبل من له السلطة الإدارية ضمن حدود أحكام الشرع، فأحكام النظُم الصادرة عن جماعة المسلمين.

ولجماعة المسلمين - فيما أرى - أن يضعوا نظاماً يحمون به السلطة القضائية من جنوح السلطة الإدارية، كأن يجعلوا اختيار القضاة إنما يتم من قبل مجالس الشورى المتخصصة بهذا الشأن، والتي يكون المسلمون بهيئتهم العامة مرجعها.

3-

يحكم القضاة ويفصلون في القضايا بسلطة مستقلة، وفق أحكام الشريعة الإسلامية، فأحكام النظم الصادرة عن جماعة المسلمين والتي هي من أمرهم المتروك شرعاً لهم، فأوامرِ السلطة الإدارية العليا بشرط عدم

ص: 701

معارضتها لأحكام الشريعة الإسلامية، وأحكام النظم الصادرة عن جماعة المسلمين.

* * *

المفهوم الثاني عشر: "حول ما لأفراد المسلمين وجماعاتهم من حقوق وما عليها من واجبات".

أولاً: جعل الله لجماعة المسلمين في نظام الحكم الإسلامي السلطات التالية:

1-

سلطة تولية أمير المؤمنين، عن طريق الشورى، والحكم فيها للأكثرية، ثم عقد البيعة معه.

2-

سلطة وضع النظم العامة، عن طريق الشورى، ضمن ما جعل الله لهم من أمر، وهو كل ما ليس له حكم شرعي في كتاب الله أو سنة رسوله، أو ما يرجع إليهما من أدلة شرعية أصول، كالإجماع والقياس.

ولهم أيضاً - فيما أرى - عن طريق الشورى أن يضعوا النظام الذي يكون لجماعة المسلمين فيه سلطة خلع الأمير من سلطانه، واصطفاء غيره بدله، بشرط عدم مخالفة هذا النظام لأي حكم شرعي، ويكون هذا النظام ملاحظاً ضمن التولية والبيعة.

3-

سلطة محاسبة ولي الأمر على تصرفاته المخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية، أو للنظم الموضوعة بصورة مشروعة، أو للحكمة والعقل، أو مصلحة الدين أو جماعة المسلمين، أو أفرادهم.

ثانياً: جعل الله لكل مسلم حق النصح برفق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ضمن حدود الشرع، وله أن يواجه بذلك الحكام والمحكومين، دون أن يكون عرضة للانتقام من أحد.

وعلى الدولة الإسلامية أن تحميه وتؤازره، ما لم يخالف منهج الله في النصيحة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ص: 702

ثالثاً: كل حق منحه الله للأفراد أو للجماعات، من الحقوق الشخصية أو العامة، حتى أحكام الإباحة المنصوص عليها، هو حقٌّ مصون، ليس للحاكم ولا لغيره ولا لمجالس شورى المسلمين، أن يغيروا فيه أو يأمروا بما يتناقض معه.

والناس أحرار في أن يختاروا ما يشاءون مما أباح الله لهم في دينه من تصرفات خاصة أو عامة، ولكن لا يتعارض مع هذه الحرية تنظيم ممارستها لحماية حق الدين، وحق جماعة المسلمين، وحق الدولة الإسلامية.

فحقوق الملكية المشروعية، وحقوق الزواج والطلاق وتعدد الزوجات والتنقل والانتفاع بالمباحات العامة وغير ذلك من حقوق كثيرة منحها الله لعباده المؤمنين بالنص هي حقوق مصونة شرعاً وعلى الدولة الإسلامية أن تحميها لأصحابها.

رابعاً: على المسلمين السمع والطاعة لأمرائهم وأولياء أمورهم، في غير معصية الله والرسول، ومخالفة أحكام الشريعة الإسلامية، ومخالفةِ الأنظمة التي هي من أمر المسلمين، والمقررة بموجب قاعدة (وأمرهم شورى بينهم) .

المفهوم الثالث عشر: "حول توزيع الاختصاصات والسلطات".

من المفاهيم السابقة يتضح لنا أن نظام الحكم الإسلامي في أسسه القابلة للتنظيمات الإدارية، والتراتيب التكاملية، قد اشتمل على توزيع الاختصاصات والصلاحيات والسلطات، مع أن الأمر والحكم هما في الأصل لله وحده.

1-

فما أمر به الله أو أمر به الرسول، وما حكم به الله أو حكم به الرسول، على أنه تشريع ثابت، فهو واجب التنفيذ دواماً، لا خيرة لأحد في تعديله أو تبديله أو نسخه ووظيفة المسلمين جميعاً حكاماً ومحكومين بالنسبة إليه السمع والطاعة.

ص: 703

2-

وما هو من أمور التشريع الديني، فالمرجع فيه فقهاء المسلمين المؤهلون لاستنباط الأحكام الشرعية، وهم ليسوا بشرعيين، وعملهم قاصر على الاجتهاد لفهم الأحكام الشرعية واستنباطها من أدلتها الشرعية.

وأمرهم واجب التنفيذ، وهو بالنسبة إلى تطبيقات الدولة يخضع لقاعدة "وأمرهم شورى بينهم" إذا كان الحكم الذي يوجهونه من الأحكام الاجتهادية الظنية، وهذه الأحكام الاجتهادية الظنية قابلة لتصحيح الاجتهاد فيها باجتهادات لاحقة، من قبل مجالس شورى فقهية مؤهلة شرعاً لاستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها.

أما الأحكام الشرعية اليقينية، فهي غير قابلة للاجتهاد وعلماء المسلمين وفقهاؤهم يعلنون أنها يقينية، ووظيفتهم لا تتعدى هذا الإعلان، والمطالبة بتطبيقها في الأفراد، والجماعات وجهاز الدولة كله من القاعدة حتى القمة.

3-

وما هو من أمور المسلمين التنظيمية العامة، وقضاياهم الكبرى، فالمرجع فيه ذوو الاختصاص من المسلمين، المؤهلون للتنظيم وإبداء الرأي وإصدار الأمر وأمرهم فيه شورى والحكم فيها للأكثرية، وهو واجب التنفيذ على الجميع حكاماً ومحكومين متى أخذ شكله النظامي وترتيبه الإداري.

4-

واختيار أمير المؤمنين وعزله من صلاحيات أهل الحل والعقد من صلاحيات أمير المؤمنين ومن يفوضهم بذلك.

ومن الخير له أن يشاور فيها، والأصل في المشورة هنا أنها غير ملزمة له. وينحصر في هذه الدائرة الصغرى احتمال استبداد الحاكم المسلم، وقد لا يستبد لأن الإسلام يحثه على العمل بقاعدة الشورى في كل تصرفاته. وقد تقيد بعض تصرفاته الإدارية التنظيمات التي هي من صلاحيات جماعة

ص: 704

المسلمين، ومن أمرهم الذي ينطبق عليه {وأمرهم شورى بينهم} .

6-

وأجهزة الحكم الإسلامي كلها تعمل ضمن حكم الله والرسول. فأحكام الشريعة الإسلامية التي توصل إلى استنباطها فقهاء المسلمين المؤهلون شرعاً لاستنباط الأحكام، وأصدرت مجالس شوراهم أوامر لوضعها موضع التنفيذ، وجرى اعتمادها من قبل الدولة الإسلامية. فأحكام التنظيمات التي تقررها مجالس الشورى التخصصية، في مختلف المجالات، مما ترك الله تنظيمه، وجعله من أمر المسلمين، الذي هو شورى بينهم. فأوامر أمير المؤمنين غير المناقضة لما سبق. فأوامر من دونه من جهاز الدولة بحسب التسلسل الوظيفي والصلاحيات الممنوحة من قبل من له حق منحها.

* * *

المفهوم الرابع عشر: "حول قيام نظام الحكم في الإسلام على الحق والعدل".

الحق:

أما الحق فهو يشمل ما يلي:

أولاً: حق الله على عباده، وهو يشمل حقه في أن يؤمنوا به رباً وإلهاً واحداً، ويعبدوه وحده ولا يشركوا به شيئاً، وحقه في أن يلتزموا طاعته على مقدار الاستطاعة، في كل ما أمر به وكل ما نهى عنه، ويأخذوا بوصايا الشريعة التي أنزلها لهم، وأن يحافظوا على كل ما هو من شؤون الدنيا وحقوقه.

ثانياً: حق الرسول على أمته، وهو يشمل حقه في أن يؤمنوا به

ص: 705

رسولاً، ويتبعوه، ويطيعوه في أوامره ونواهيه، التي هي في الحقيقة تابعة لأوامر الله ونواهيه.

ثالثاً: حق الأفراد بعضهم على بعض وعلى الجماعة وعلى الدولة الإسلامية.

فكل ما أعطى الله للفرد فيه حقاً، فيجب على الأفراد والجماعات والدولة أن يصونوه له، ويؤدوه إياه، كحق الحياة ما لم يرتكب ما يوجب قتله، وحق السلامة، ما لم يرتكب ما يوجب غير ذلك، وحق الرزق، وحق السعي في اكتسابه، وحق إتاحة الفرصة له فيه دون تفضيل ولا تمييز، وحق التملك ضمن الوسائل المشروعة، وحق الحرية الشخصية في كل ما حكم الله فيه للفرد بحق الحرية، وهي المباحات بحكم الشرع، وحق المشاركة في أمور المسلمين العامة، بشرط أن يكون مؤهلاً شرعاً لهذه المشاركة، إلى غير ذلك من حقوقٍ فردية مقررة في أحكام الإسلام.

رابعاً: حق الجماعة على الأفراد وعلى الدولة، فكل ماله صفة الحق الجماعي، فعلى الجميع صيانته وحمايته والمحافظة عليه والالتزام بحقوقه، وعدم العدوان عليها.

كالمؤسسات العامة، والطرق، والمساجد، والجسور، والحدائق العامة، والممتلكات العامة، والأمن الداخلي والخارجين، ومراقبة المندسين والمتسللين والجواسيس من الأعداء.

وكحق الجماعة في اختيار أمير المؤمنين، ووضع النظم الإدارية التي ترك الله تنظيمها لجماعة المسلمين، كما سبق بيانه.

خامساً: حق الدولة الإسلامية على رعاياها، وهو يشمل حقها في الإدارة والتصرف، ضمن أحكام الشرع، وأحكام النظم المقررة من قبل جماعة المسلمين، ويشمل حقها في إصدار الأوامر الإدارية، وعلى جماعة المسلمين وأفرادهم طاعتها في غير معصية الله، وفيما لا مخالفة فيه للنظم المقررة من قبل جماعة المسلمين المتقيدة بحدود ما أذن الله لها فيه.

ص: 706

العدل:

وأما العدل فهو يشمل ما يلي:

أولاً: العدل في توزيع الحقوق الطبيعية والتكليفية بين الجماعة والدولة، فيما لكل وما عليه.

وعلى هذا قامت أحكام الشريعة الإسلامية، ثم على جماعة المسلمين أن تلتزم بمبدأ العدل لدى وضع النظم الإدارية المتروكة لها. وعلى الدولة الإسلامية أن تلتزم بمبدأ العدل لدى إصدار الأوامر الإدارية التي يمن حقها أن تصدرها.

ولدى حدوث التعارض في الحق بين حق الأفراد وحق الجماعة، فالإسلام يأمر بالتوفيق بين الحقين بالعدل، حتى لا يطغى حق الأفراد على حق الجماعة، ولا يطغى حق الجماعة على حق الأفراد.

ثالثاً: العدل في توزيع الحقوق الطبيعية والتكليفية بين الدولة والأفراد، فيما لكل وما عليه.

ولدى حدوث التعارض في الحق بين حق الأفراد وحق الدولة، فالإسلام يأمر بالتوفيق بين الحقين بالعدل، حتى لا يطغى حق الأفراد على حق الدولة، ولا يطغى حق الدولة على حق الأفراد.

ص: 707

وهذه المفاهيم حول الحق والعدل في الحكم قد دلت عليها نصوص كثيرة في القرآن العظيم، وفي بيانات الرسول الكريم، ومنها ما يلي:

1-

قول الله عز وجل في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ

} .

2-

وقول الله عز وجل لرسوله في سورة (النساء/4 مصحف/92 نزول) :

{إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً}

3-

وقول الله عز وجل في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :

{إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ للَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} .

ولما كان الحكم بالعدل أساسه الحق قال الله عز وجل في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) :

{وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}

{وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}

4-

وقول الله عز وجل لرسوله في سورة (الشورى/42 مصحف/62 نزول) :

{وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ..ْ} .

5-

وقول الله عز وجل في سورة (النحل/16 مصحف/70 نزول) :

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .

ص: 708