المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الخامسالوطنية والقومية والإنسانيةوموقف الإسلام من كل منها - كواشف زيوف

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌فاتِحَة الكِتَاب

- ‌خِطّةُ الكِتَابْ

- ‌القِسمُ الأوّل مِنَ الكِتَابمقدمات عامة

- ‌الباب الأولتَعريفٌ بمَنَاخِ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة

- ‌مَقَدِّمَة عَامَّة

- ‌الفصْل الأوّلمُنَاخ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة في أوربَّا

- ‌الفصْل الثانيتحرّك اليَهُود مُسْتَغلّينَ المنَاخ الملَائِمَ في أورُبَّا

- ‌الفصل الثالث: أسبَابُ تَقبّل شعُوب الأمَّةِ الإسْلاميَّة لوافدات المذاهب الفكرية المعاصرة

- ‌الباب الثانيوَسَائِل التّضليل لِتَرويج الشِّعَارَاتوالآراء والمذاهب الفكرية المزيفة

- ‌الفصْل الأوّلالخطّة العَامّة

- ‌الفصْل الثانيالمغَالَطاتُ الجَدَليّة

- ‌الفصْل الثالثلعبَة تطبيْق المنهَج العِلْميّ الخاصْ بالجَبريّاتْعلى السلوك الإرادي عند الإنسان

- ‌القِسمُ الثاني مِنَ الكِتَابعَرض لأهَمِّ الشعَارات البرّاقة المزيّفّةوَلآرَاء وَمذاهبْ فكريّة معَاصِرة جزئيّةمُنبثقة في عُلوم مختلفة مع كشف زيوفها وتعريفْ بأئِمتهَا

- ‌الباب الأولمقدِّمات حَولَ اعتِمَاد العَقْل وَالعِلْم الإنسَانيبديلاً للدِّين

- ‌الفصْل الأوّلالعَقلَانيَّة

- ‌الفصْل الثانيالعِلمَانيّة

- ‌الباب الثانيافتِراءَات ترَوَّج ضدّ الدّين وَالأخلَاقوَالقَوانين وَالنُظم المنبثقة عَنْهما

- ‌الفصْل الأوّلفريَة التّنَاقض بَيْن العَقل وَالدّينوبَينَ العلم والدّين

- ‌الفصْل الثانيمَزاعِمُ المُضلِّين لِهَدْم أسُس الأخلَاقوأبنيتها وتطبيقاتها في المجتمع

- ‌البَاب الثَالثْخِدَاع الشِّعَارَاتالتي يتولد عنها في الرأي العام مسلمات خاطئات وموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌المقدمة

- ‌الفصْل الأوّلالحُريّة

- ‌الفصْل الثانيالمُسَاوَاة

- ‌الفصْل الثالثالتقَدّميَّة والرَّجْعيَّة

- ‌الفصْل الرابعالاشتِراكيّة

- ‌الفصْل الخامِسْالوَطنيَّة وَالقَوميَّة وَالإنسَانيّةوموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌البَاب الرَّابعْأئمّة وَمَذاهِبُ جُزئيّة في عُلُوم مختَلِفَة

- ‌الفصْل الأوّلفروُيْد وَمَدرَسَتُه في عِلْم النّفْس

- ‌الفصْل الثانيدَارْوين وَمَذهَبُ التطوُّر

- ‌الفصْل الثالثدوركايْم وَآرَاؤه في علْم الاجتِمَاعِ

- ‌الفصْل الرابعبرجْسُون وَآرَاؤهُ في نَشأةِ الدّين وَالأخلَاق

- ‌الفصْل الخامِسْسَارْتر وَآراؤهُ الفَلسَفيَّة في الوُجُوديّة

- ‌الفصْل السادسمْكيافيلّي وَفِكرَة: الغاية تبرر الوسيلة

- ‌الفصْل السّابعمَارْكوز وَآرَاؤهُ الثّوريَّةلإقامة ديكتاتورية حكم الأقلية الواعية

- ‌الفصْل الثامِنأوجسْت كونتْوَدين الإنسَانيّة

- ‌القِسمُ الثّالِث مِنَ الكِتَابأئِمة وَمَذاهِبْ فِكريّة معَاصِرَة كَبيرَة

- ‌البَابْ الأوَّلالماديَّة الإلحاديّة وَالماديّون

- ‌الفصْل الأوّلمقدّمات عامة

- ‌الفصْل الثانيأئمّة مَادِّيّون وَنُبّذٌ مِنْ آرَائهم الفَلْسَفيَّةِ الإلحَادية

- ‌الفصل الثالثأسُسُ الفِكْر المادّي الإلحَادي

- ‌الفصل الرابعكشفُ زيُوف أفْكار المادّيّين وَجَدَليَّتِهِم

- ‌الفصل الخامسعقوبَة العَذابْ النّفسِيّ للمُلْحِدينَ

- ‌الفصل السادسالمادية الجدلية في الكون والتاريخ الإنساني

- ‌الباب الثانيالنُّظمُ الاقتِصَاديّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنظرة تاريخيَّة حَول المذاهبْ الوَضْعيَّةللنظم الاقتصادية

- ‌الفصل الثانيلمحّة مُوجَزَة حَول مَنهج دين الله

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين المذاهب الاقتصادية

- ‌الفصل الرابعنظرات متفرقة

- ‌الباب الثالثالنّظمُ السِيَاسيَّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنَظرَة تاريخيَّة حَولَ المذاهِبْ الوَضْعيَّةلِلنُظم السيَاسيّة

- ‌الفصل الثانيلمحَة مُوجَزَة حَول مَنهَجْ دين اللهِ للنّاسِفي شؤون الحكم

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين النظم السياسية

- ‌الفصل الرابعمتفرقات

الفصل: ‌الفصل الخامسالوطنية والقومية والإنسانيةوموقف الإسلام من كل منها

‌الفصْل الخامِسْ

الوَطنيَّة وَالقَوميَّة وَالإنسَانيّة

وموقف الإسلام من كلٍّ منها

(1)

مقدمة عامة:

دعوات "الوطنية" و"القومية" و"الإنسانية" على الرغم من اختلاف دوائرها، واختلاف مفاهيمها، واختلاف عوامل الترابط بين أفراد كلّ منها، تقوم جميعها على مفاهيم خاصة ذات روابط ضعيفة، في تكوين الأمّة ذات الكيان الواحد، سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً وغير ذلك، أو ما يمكن تحقيقه من هذه الأمور في الواقع، وأدناها وحدة المشاعر، واتجاه الولاء، والتآخي والتعاون، وعدم الاعتراف النفسي بالفوارق المباينة لمضامين الدعوة.

* فدعوة "الوطنية" تقوم على الاكتفاء برباط الانتماء إلى الأرض.

* ودعوة "القومية" تقوم على الاكتفاء برباط الانتماء إلى القوم.

* ودعوة "الإنسانية" تقوم على الاكتفاء برباط الانتماء إلى النوع الإنساني، أي: الانتماء نسباً إلى الأب الأعلى لهذه المجموعة البشرية، مع الاشتراك في الصفات التي يختص بها هذا النوع.

ويلزم من الأخذ بدعوة من هذه الدعوات طرح كل عوامل الافتراق الأخرى، إذا تعارضت مع وحدة الرابط الذي تشتمل عليه الدعوة منها، ولو كانت هذه العوامل أعمق في كيان الإنسان، وألصق بذاتيته من مضامين هذه الدعوات، ولو كانت روابطها أقوى وأكثر من روابطه.

فإذا كانت العقائد الإيمانية، أو المبادئ الأخلاقية، أو مناهج السلوك

ص: 247

في الحياة، من أسباب الافتراق فيجب بمقتضى دعوة "الوطنية- أو القومية- أو الإنسانية" على الآخذ بواحد منها أن ينبذ كل سوابق العقائد الإيمانية، والمبادئ الأخلاقية، ومناهج السلوك، ويتجرد منها.

* ليكون التقاء الآخذين بمبدأ "الوطنية" خالياً من المتناقضات وعوامل التفرّق.

* وليكون التقاء الآخذين بمبدأ "القومية" خالياً من المتناقضات وعوامل التفرّق.

* وليكون التقاء الآخذين بمبدأ "الإنسانية" خالياً من المتناقضات وعوامل التفرّق.

إن دعوة "الوطنية" قد تبدو برّاقة لدى استثارة عاطفة حب الوطن. ودعوة "القومية" قد تبدو برّاقة لدى استثارة عاطفة الاعتزاز بالقوم وأمجادهم، والحرص على مكانتهم ومصالحهم. ودعوة "الإنسانية" قد تبدو برّاقة لدى استثارة العاطفة الإنسانية العامة.

لكنّ الاقتصار على رباط أيّ دائرة من دوائر هذه الدعوات لا يكفي لإقامة رباط حقيقي دائم وفعّال، دون أن يكون عرضة للانفصام، لدى وجود أي تنافر اعتقادي، أو تضاد وتباين منهجي، أو تناقض أو تضادّ مصلحي.

فمن غير الممكن في الواقع الإنساني أن يتجرّد الناس من عقولهم وأفكارهم ومفاهيمهم في الحياة، حول النشأة، والواجب، والمصير، أو يُلغوا حاجتهم إلى مناهج سلوك أخلاقية وتنظيمية، أو يتفقوا فيما بينهم على منهاج واحد، أو يتجردوا من أهوائهم، وشهواتهم، ونزعاتهم، ونزغاتهم، ومصالحهم، وأنانياتهم المختلفة الدوائر (الفردية، والأسرية، والقبلية، والقومية، والحزبية، وغيرها) .

وقد أكدت الملاحظة الفكرية، والتجربة الاجتماعية، أن أيّة دعوة من هذه الدعوات الثلاث ليست أكثر من حيلة مرحليّة، هدف الدعاة إليها سلخ

ص: 248

الناس من أديانهم، وأخلاقهم، ومناهج حياتهم القومية، وكل انتماءاتهم التابعة من عقولهم وقلوبهم وعواطفهم العميقة الراسخة في وجداناتهم.

إن الدعاة إلى هذه المبادئ أو الشعارات الخادعات، قد دلهم ذكاؤهم الشيطاني على أن الناس متى انسلخوا من أديانهم، وأخلاقهم، ونظمهم، ومناهج حياتهم القومية، وقواعد إيمانهم، وسوابق انتمائهم المبنيّة على أسس فكرية ووجدانية تفككت روابطهم الاجتماعية المتينة، وغدوا أفارداً منبثين.

عندئذٍ يأتي المخططون لنشر هذه الدعوات الزيوف، وهم في حالة تكاتف جماعي سري بينهم، فيغلبون بوحدتهم الجماعية الأشتات المنبثة من الناس. ثمّ يحزمونها حزماً سياسياً واحداً قوياً قاهراً، ثمّ يسوقونها كقطعان الأنعام، ويضعون لها النظم والقوانين التي يلزمونها بها، ويضبطون بها حركات حياتها، ضبط السادة للعبيد، وضبط راعي الغنم لغنمه.

ومروجو هذه الدعوات بين المسلمين، رغم وجود التناقض فيما بينها، هم أعداء الإسلام وأعداء وحدة المسلمين، على اختلاف نزعاتهم واتجاهاتهم، وتعارض المصالح فيما بينهم، وكأن لسان حالهم جميعأً يقول للمسلمين: خذوا أي مبدأٍ آخر غير الإسلام، إن المهم حقاً هو أن تنبذوا إسلامكم ووحدة أمتكم الإسلامية.

نظرة تحليلية حول هذه الشعارات الثلاثة:

1-

إن حب أرض الوطن عاطفة إنسانية، قد تكون قويّةً عند الإنسان، وقد تكون ضعيفة، ويختلف ذلك باختلاف الأفراد، وبحسب قوّة العناصر التي تشدّ الإنسان إلى أرض الوطن أو ضعفها، والتي سيأتي شرحها إن شاء الله في الفقرة الخاصة بالوطنية.

إن حب رسولنا محمد لمكة المكرمة قد كان عظيماً، لكن لما اقتضت منه مبادئه الهجرة منها هاجر، وتوجّه إلى الكعبة وخاطب الكعبة بقوله: "والله لإنك لأحب أرض الله إليّ، وإنك لأحب أرض الله إلى الله،

ص: 249

ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت". رواه أحمد والترمذي وصححه.

وفي رواية صحيحة الإسناد: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت" رواه الترمذي وابن ماجة عن عبد الله بن عدي.

وعن ابن عباس قال: "قال رسول الله لمكة: " ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما سكنت غيرك" رواه الترمذي بإسناد صحيح.

وتضعف عاطفة حب أرض الوطن جداً، إذا كانت روابط الإنسان الاجتماعية والمصلحية، والدينية، موصولة بأرض غيرها.

وتغذي العاطفة الوطنية مطامع الغرباء في أرض الوطن، وأعمالهم لسلبه، أو سلب خيراته، أو السيطرة عليه وعلى أهله وأصحاب الحقوق فيه.

ودائرة الوطنية قد تجمع قوميات مختلفة متنافسة، أو متعادية متصارعة فيما بينها. وقد تجمع أدياناً ومذاهب مختلفة، أتباعهما متجافون، أو متنافرون، أو متعادون متصارعون، أو متنافسون متحاسدون.

وقد يكون الوطن مسلوباً أو مجزأً، وقد يكون أهله مشتتين في غيره، ولكن قد يظل حبهم له ثابتاً، وتظل رغبتهم في استرجاعه أو العودة إليه أو توحيده في حالة حياة دائمة، ويقظة، وحركة عاملة، ما دامت عوامل التغذية مستمرّة.

* * *

2-

أما حب القوم الذين ينتمون إلى تجمع بشري يؤلف بينهم جدٌّ أعلى لهم، أو تؤلف بينهم لغة واحدة، وتاريخ واحد، ومصالح مشتركة واحدة، ونحو ذلك، فهو أيضاً عاطفة أو نزعة موجودة في الناس، برزتها الأنانية الفردية، ومنبتها المصالح الإنسانية، وبعض نزعات الاعتزاز والافتخار لديه بالعرق، وبيئتها الأنانية الأسرية، فالقبلية، وتتسع حتى تكون قومية.

ص: 250

وتغذي العاطفة القومية صراعات أعدائها من أقوام آخرين، ومطامعهم فيهم، أو في أموالهم، أو في بلدانهم، ومساكنهم.

ورغم أن العاطفة القومية أقوى في الإنسان من العاطفة الوطنية، لأنها تنبع من أنانيته الفردية، وتتسع إلى أنانيته الأسرية، فالقبلية، حتى تصل إلى دائرة القومية، إلا أنها قد تضعف حتى تضمحل أحياناً، إذا كانت روابط الإنسان الاجتماعية والمصلحية والدينية موصولة بغير قومه شركاء العرق، أو شركاء اللغة، والتاريخ.

ودائرة القومية قد تجمع أدياناً ومذاهب مختلفة، وقد يكون أتباعها متنافرين متصارعين متعادين، أو متنافسين متحاسدين، وقد تكون موزعة في أوطان كثيرة، حتى تشمل أوطان الناس جميعاً.

فبين الوطنية والقومية تلاقٍ في بعض عناصرهما وافتراق في بعض عناصرهما، كدائرتين متلاقيتين تلاقياً جزئياً، فكلٌّ منهما أعم من جهة وأخص من جهة.

فبينهما عموم وخصوص من وجه، كما يقول المناطقة، القومية أعم من جهة أن المنتمين إلى القومية الواحدة قد يكونون موزعين في أوطانٍ شتى، وأخص من جهة انحصارها في قومٍ دون غيرهم، والوطنية أعم من جهة اشتمالها على عدة قوميات، وأخص من جهة انحصارها في أرض ذات حدود معينة.

* * *

3-

وأما الإنسانية فهي نزعي ترتقي فوق النزعة القومية، بدوافع يُخيَّل

ص: 251

أنها مثالية، إلا أن قوتها في الناس أضعف من قوة النزعة القومية، نظراً إلى أن مصالح النزعة الإنسانية قد تسير في اتجاه مضاد لمصالح النزعة القومية، والإنسان بتلقائيته مشدود بقوةٍ إلى مصالح أنانيته الفردية فالأسرية فالقبلية فالقومية أولاً، ثمّ ينظر أخيراً شطر الإنسانية بوجه عام.

واتجاه شطر الإنسانية العامة، يمثل في الناس أضعف الروابط إن لم يكن مدعوماً بروابط إيمانية، وروابط خلقية ومنهجية وتنظيمية، وعلاقات مصلحية حياتية، وغائية مصيرية.

ودائرة "الإنسانية" تجمع كل أصناف الناس، على اختلاف قومياتهم وألوانهم وأجناسهم ولغاتهم وأديانهم ومذاهبهم، ولو تباينت وتناقضت، ولو كانت كتلهم متنافرة متعادية متصارعة.

وليس "للإنسانية" وطن خاص، فالأرض كلها وطن لمن أعطى كل ولائه للإنسانية.

فالإنسانية مع القومية والوطنية تمثل الدائرة الأوسع الشاملة لدائرتيهما:

تقويم روابط هذه الدائرة برؤية إسلامية:

إن خيط الارتباط الإنساني وحده دون مبادئ وروابط عقدية فكرية ووجدانية ومصلحية، يقطّعه أقل شدٍ من رابط قوميٍ في اتجاه مضادّ.

ص: 252

والرابط الوطني شبيه بالرابط الإنساني إلا أنه محصور بحدود الوطن، ومقرون بنزعة حب الأرض.

وحبل الارتباط القومي وحده دون مبادئ وروابط عقدية فكرية ووجداني ومصلحية يقطعه شدٌّ من رابط قَبَلِيّ في اتجاه مضادّ، لأن الرابط القبلي أقوى من الرابط القومي.

وحبل الارتباط القبلي وحده دون مبادئ وعقائد ومصالح، يقطّعه شدٌّ من رابط أسريّ في اتجاه مضادّ، لأن الرابط الأسري أقوى من الرابط القبلي.

وحبل الارتباط الأسري وحده دون مبادئ وعقائد ومصالح، يقطّعه شدٌّ من الأنانية الفردية.

وبالنظر الشامل إلى عناصر الإنسانية وعناصر القومية وعناصر الوطنية، نلاحظ أن دائرة الإنسانية أعم من دائرتي القومية والوطنية معاً، في جوانبهما الإيجابية، فحين تدعو القومية لمقاومة أعدائها من الأقوام الآخرين، تدعو الإنسانية نظرياً إلى التوادّ والتآخي الإنساني. وحين تدعو الوطنية إلى مقاومة أعداء وطنها، تدعو الإنسانية نظرياً إلى التواد والتآخي الإنساني، والتسامح، مع نظرة الوطنية نظرة إنسانية في حدود دائرة الوطن فقط، أي: إن نظرة الوطنية لا تعترف بالفوارق القومية والعرقية والدينية والمذهبية داخل الوطن.

ثمّ إن كل خيوط وحبال الارتباط الوطني والقومي والإنساني يقطّعها شد من رابط ديني لدين رباني صحيح، إذا كان سيره في اتجاه مضاد لاتجاهات مسيراتها.

أما إذا كانت مسيراتها في اتجاه مسيرة الدين الصحيح، أو المذهب الفكري مع مناهج السلوك ومصالح الحياة، فإنها تكون حينئذٍ قوىً موازرة ومدعّمة ومضاعفة من القوة، والإسلام لا يلغيها حينئذ، بل يعطيها من الصلة على مقاديرها بالعدل والإحسان.

فالدين الإسلامي لا يلغي أصول الارتباط الإنسانية، والقومية

ص: 253

والقبلية والأسرية (الرحمية) ، والوطنية، بل قد أمر الإسلام بصلة الرحم عموماً، وبصلة القوم وأمر بالعطف الإنساني، وحرّض على حماية أوطان المسلمين والدفاع عنها، إذا كان ذلك لا يتعارض مع عقائده، وعباداته، وأخلاقه، وأحكام شرائعه، ونظام المجتمع الإسلامي، أو كان يخدم أهداف الإسلام.

فإن شدّت هذه الارتباطات إلى ولاءات، ولقاءات وأعمال، ومناصرات، تتنافى مع عقائد الإسلام، وعباداته، وسائر الأحكام والنظم الإسلامية، ظل الارتباط الإسلامي على قوّته ومتانته، وتقطّعت هي. لأن الرابط الإسلامي أقوى منها جميعاً.

فالرابط الإسلامي يجمع عناصر الارتباط الشاملة لأخطر وأهم ما في الإنسان من معاقد ترابط، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

* * *

نظرة موجزة حول بناء الأمة الإسلامية:

بناء الأمة الإسلامية يقوم على الأسس والعناصر التالية:

الأول: أعضاء الأمة الإسلامية الواحدة أعضاءٌ إنسانيون، يتلاقون من أفراد المجموعة البشرية كلها، من كل أقوامها، وشعوبها، وقبائلها، وألوانها، ولغاتها، ومواطنها.

والفوارق القومية والعرقية والعنصرية واللونية اللغوية والوطنية، فوارق مُلغاةٌ في كفاية المشاركة بالعضوية الكاملة في الأمة الإسلامية، وهي فوارق طبيعية خلقها الله في أصناف الناس، ليتعارفوا، لا ليتفاضلوا على أساسها، ولا ليتناكروا، ولا ليتخالفوا، ولا ليتفاخر بعضهم على بعض، ولا ليتقاطعوا ويتدابروا، ولا لتظهر فيهم العصبيات، فلا عصبيات في الإسلام.

الثاني: الأرض كلها أو أيّة رقعة منها تصلح لأن تكون وطناً للأمة الإسلامية كلها أو بعضها.

ص: 254

وحيث قامة أمة إسلامية ذات كيان ودولة، فأرضهم تدخل تحت عنوان:"وطن إسلامي".

الثالث: الرباط الكلي الناظم لكل أعضاء الأمة الإسلامية هو عهد الإسلام، بالدخول في هذا الدين الرباني الذي بلّغه محمد بن عبد الله، كتابُه القرآن، وكلمةُ الدخول فيه والانتماء إليه والتسليم لأوامره ونواهيه، شهادة: أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

وهذا الرباط رباط كلّي قويّ متين، شامل للروابط التفصيلية التالية المهيمنة على كل كيان الإنسان من داخله، وكل أركانه، ومعظم ما يهمّه في حياته.

إن أعظم العناصر التي يتكون منها كيان الإنسان الداخلي، وأركانه الرئيسية، النفسية والجسدية هي:

الفكر ومفاهيمه - القلب ومعتقداته وعواطفه وحركاته الإرادية - النفس وأخلاقها وأهواؤها وأمانيها وآلامها وحركاتها الإرادية - الجسد وحاجاته ومطالبه في الحياة وأنواع سلوكه الإرادي -.

وعظمة الإسلام أنه يعقد بين أفراد الأمة الإسلامية بأربطة متعددة متشابكة، تصل بين أفكارهم والمفاهيم التي تهيمن عليها، وبين قلوبهم والعقائد التي تهيمن عليها، وما يطلب منها من أعمال قلوب تتحكم بها الإرادة، وما يصدر عنها من عواطف تولّدها العقائدة، وبين نفوسهم وما تكتسبه من مشاعر مشتركة، بسبب الوحدة الفكرية، والوحدة الاعتقادية، والأنماط التربوية الواحدة التي يتولاها الإسلام بمناهجه، وبين صور سلوكهم في حركات حياتهم الظاهرة، بسبب هيمنة شرائع الإسلام وأحكامه ونظمه الشاملة لكل جوانب الحياة الإنسانية، يضاف إلى ذلك إيجاد المناخات الملائمة للمشاركة في المصالح والمنافع ومطالب الحياة.

وبنظرة تفصيلية مقسمة، نلاحظ أن الإسلام يعمل على عقد الوحدة بين الأفراد الإنسانيين، المنتمين إليه، المؤمنين بعقائده، المسلمين لأحكامه

ص: 255

وشرائعه، في أوامره ونواهيه، بالروابط التالية:

الرابط الأول: الوحدة الفكرية الاعتقادية.

الرابط الثاني: وحدة مصادر التشريع وأسس التصور لمفاهيم الحياة، التي تشمل الجوانب الإنسانية المختلفة.

الرابط الثالث: وحدة العناصر الأساسية والرئيسية لمناهج السلوك في الحياة، الداخلية الباطنة، والخارجية الظاهرة.

الرابط الرابع: التقاء المصالح والأهداف، والمشاركة في الآلام والآمال مشاركة حقيقية نابعة من عمق الوحدة الفكرية الاعتقادية، ومن عمق الوجدان.

الرابط الخامس: مشاعر التآخي والتوادّ السعيد، حتى مستوى مشاعر الجسدية الواحدة، التي حث عليها الإسلام، وجعلها أحد مظاهر المجتمع الإسلامي.

الرابط السادس: الواجب الرباني الذي يفرض وحدة الجماعة الإسلامية، لتبليغ دين الله، وإقامة العدل في الناس.

الرابط السابع: مشاعر المصير المشترك الذي تمثله الأمة الربانية الواحدة في الحياة الدنيا، وأمة السعادة في دار النعيم المقيم في الآخرة.

وفوق هذه الروابط وشائج مؤازرة كثيرة متداخلة في شبكة لا نظير لها.

أما شرح هذه الروابط والوشائج مع تفصيلات أخرى فيجدها القارئ في كتابي "الأمة الربانية الواحدة".

ص: 256

(2)

الوطنية

شعار معاصر، حاول مروجوه بين المسلمين توجيه ولاءِ سكّان أو أصحاب الوطن الواحد بصفةٍ جماعية مشتركة لأرض وطنهم ذات الحدود المعيّنة، وشحنهم بالتعصب لها انتماءً، والدفاع عنها حتى درجة فدائها بالنفس، مهما اختلفت عقائدهم، ولغاتهم، وأعراقهم، وقومياتهم.

وقد يصعب رسم حدود الوطن بصورة ثابتة دواماً، لأنها خاضعة للتبدّل والتغير بتبدل الأحداث السياسية والعسكرية، وتبدّل المشاعر النفسية أحياناً.

أما حب الأرض فهو عاطفة إنسانية قديمة، تولّدها عدة مشاعر، يبرز لنا منها بوضوح عناصر أربعة:

العنصر الأول: التملك، وحقُّ الاستيطان التاريخي، للفرد ولأسرته، ولأجداده وقومه، والأمة التي ينتمي إليها، وهو حقّ موروث، أو حق الاستيطان المكتسب للفرد ولذريته.

وقد تعارف الناس على أن من يملك حق المواطنة فهو عضوٌ من الأمة مالكة الوطن ملكاً عاماً مشاعاً، ويتولى المفوضون منها بالإدارة السياسية، إدارة هذا الملك العامّ المشاع.

بخلاف نزلاء الوطن وضيوفه والمقيمين فيه بعهد أو أمانٍ أو ذمة، فإنهم قد يملكون حق الإقامة، لكنهم لا يملكون حق المواطنة.

فمن يملك حق المواطنة فهو أحد مالكي الوطن، ولو لم يكن مالكاً فيه ملكاً شخصياً شبراً واحداً.

ومن لا يملك حق المواطنة فلا ملك له في الوطن العام المشاع، ولو كان له فيه ملك شخصي، كدار، أو حديقة، أو أرض زراعية، أو مصنع، أو متجر، أو نحو ذلك.

ص: 257

العنصر الثاني: الارتباط بالأرض بدافع ديني، ويكون ذلك إذا كان للأرض أهمية دينية في تصور الإنسان أو عقيدته.

كأن تكون الأرض قبلته في صلاته، أو محجّة، أو بلد الرسول الذي يؤمن به ويتبع شريعته، أو مهبط الوحي الذي آمن بما جاء عنه، أو قاعدة انطلاق الأمة الدينية التي ينتمي إليها.

العنصر الثالث: الذكريات الحلوة وإيلافها، فمن عاش في أرض وكان له فيها ذكريات حلوة، أحبها وتعلقت عاطفته بها، وكان له أُنْس بزيارتها من حينٍ لآخر، ويجد نفسه مدفوعة لحمايتها والدفاع عنها.

العنصر الرابع: ما يكون في الأرض من آثار تاريخية وحضارية تتصل بأمجاد الإنسان نفسه، أو أمجاد أسرته، أو قبيلته، أو قومه، أو الأمة التي ينتمي إليها.

فهذه الآثار تشد الإنسان إلى الأرض، عن طريق الوشائج التي تشده إلى أسرته أو قومه أو أمته التي ينتمي إليها، وهي وشائج عاطفية لا عقلية، فهي فرع من فروع الانتماء إلى القوم أو إلى الأمة.

وبالمفهوم المعاصر للوطنية الذي روّجه الطامعون بسلخ المسلمين من حقوقهم في السيادة على الأوطان الإسلامية، اتسع شعار الوطنية، حتى صار في المفهوم الشائع يضم كل سكان الوطن الواحد، ولو كانوا في الأصل نزلاء، أو ضيوفه، أو مقيمين فيه، بعهد أو أمان أو ذمة.

وبهذا التوسيع المقصود الذي يراد به كيد المسلمين مالكي الأوطان الحقيقيين، غدا هؤلاء النزلاء والضيوف المقيمون بعهد أو أمان أو ذمة لهم في الملكية العامة للوطن حقوق متساوية لحقوق مالكيه الأصليين.

وبمكر مدبر انطلقت عبارة: "الدين لله والوطن للجميع". وأطلق مروجو شعار الوطنية بين المسلمين حديثاً لا أصل له، نسبوه إلى النبي، وهو:"حب الوطن من الإيمان".

ص: 258

وهذا التوسيع في حق الملكية العامة المشاعة للوطن، جر إلى التسليم بحق الجميع في إدارته السياسية.

ولما كان هؤلاء الجميع مختلفي الأديان والمبادئ والعقائد، وقد صار لهم جميعاً الحق في الإدارة السياسية للوطن الواحد، بمقتضى مكيدة الزحف الانتقالي من فكرة إلى فكرة، كان لا بد من اللجوء إلى مكيدة أخرى، هي المناداة بفصل الدين عن السياسة، والمناداة بعلمانية الدولة.

ثمّ إن الأخذ بعلمانية الدولة التي تتضمن إبعاد الدين عن الإدارة السياسية لبلاد المسلمين وأوطانهم، قد مكّن الطوائف غير المسلمة فيها من الوصول إلى مراكز الإدارة السياسية، والقوة العسكرية، حتى مستوى القمة أو قريباً منها.

وتدخلت ألاعيب كيدية كثيرة خارجية وداخلية معادية للإسلام والمسلمين، في تهيئة الظروف السياسية، وتقبلت جماهير المسلمين ذلك ببراءة وغفلة وحسن نية، وكان بعض قادتهم السياسيين والعسكريين وغيرهم عملاء وأجراء لأعدائهم.

ثمّ لما تمكنت هذه الطوائف غير المسلمة من القوى الفعالة داخل بعض بلاد المسلمين، كشفت الأقنعة عن وجوهها التي كانت تخادع بها، وتدّعي الإخاء الوطني، وصارت تدعي أن الوطن لها، وأخذت تنبش الدفائن لتستخرج مزاعم تاريخية قديمة، سابقة للفتح الإسلامي، وهذه المزاعم لا أساس لها من الصحة.

ثمّ أخذت تفرض سلطانها بالقوة في هذه البلاد، مؤيَّدةً من الدول الكبرى المعادية للإسلام والمسلمين، وحارب الأكثرية المسلمة بضراوة وحق، وأخذت تحرمها من حقوقها في أوطانها، حتى جعلتها بمثابة أقليات مستضعفة.

ونسفت الطوائف غير المسلمة بعد تمكنها أفكار الحق الوطني

ص: 259

القائم على العلمانية نسفاً، ونسفت الإخاء الوطني، وأظهرت تعصبها الطائفي المقيت، القائم على الانتماء لأديانها وعقائدها التقليدية الموروثة.

وكانت لعبة شعار الوطنية مكيدة انخدع بها جمع غفير من المسلمين ببراءة وسلامة صدر، حتى استلّ أعداؤهم منهم معظم حقوقهم، ومعظم مقدّراتهم.

* * *

(3)

القومية

دوافع الانتماء القومي:

الاعتزاز بالقوم، والانتماء إليهم، والدفاع عنهم ظاهرة إنسانية قديمة، إذا اتفقت معها المبادئ الفكرية الاعتقادية، والمصالح والمنافع المتبادلة بين أفراد القوم وأسرهم وقبائلهم، استمرّت وتأصّلت في المجتمع، وإذا اختلفت معها المبادئ الفكرية الاعتقادية، والمصالح والمنافع، وسارت في اتجاهات معاكسة، أصاب هذه الظاهرة الخلل، وتعرّضت للانتكاسات، وظهرت في المجتمع الصراعات والتناقضات، ثمّ الانقسامات، وأنواع الانفصال.

أمّا دوافع هذه الظاهرة في النفس الإنسانية فيمكن أن نكشف منها ما يلي:

الدافع الأول: الأنانية التي تبدأ بالفرد، وتتسع مع اتساع دوائر المجتمع حتى تصل إلى دوائر القوم، الذين يجمعهم أصل واحد، ولغة واحدة، وقد يُنسى الأصل أو يُهمل بالتقادم واختلاط الأصول والأعراق، وتبقى اللغة، رابطاً يرمز إلى وحدة الأصل.

وبعض القبائل قد حافظت على أصولها وأعراقها وأنسابها، وقد يتسامح بعضها بإدخال الموالي معها، أو إدخال من تناسبه وتصاهره، كما هو الحال في كثير من القبائل داخل الجزيرة العربية.

ص: 260

لكن معظم الشعوب قد اختلطت أعراقها، فمن الصعب تجميع قومٍ متحدي الأصل العرقي القبلي، في غير الذين حافظوا على أصولهم العرقية من القبائل.

الدفاع الثاني: عاطفة الرحم الموجودة في فطرة الإنسان نحو أصوله وفروعه وسائر قرابته، وقد تمتدّ إلى كل أفراد القوم امتداداً متناقض القوة، حتى تكون في أطرافها مثل الشعيرات الدقيقة جداً، من حبلٍ منقوض مبثوث من آخره، مجموع مُبْرمٍ من أوله، فهو من أوله المبرَم رباط الرحم القريبة، وهو من آخره المنقوض المبثوث شعيرات الصلات بأفراد القوم البعيدين، ولكل من الأوساط مقدار منها بحسب قربه أو بعده، وتكاد تسقط العاطفة الرحمية حين لا يبقى من الرباط القومي إلا رمز وحدة اللغة، وتبقى حينئذٍ العاطفة الإنسانية، أو ما يزيد عليها قليلاً من قوّة الرابط اللغوي.

الدافع الثالث: مطلب الحماية وتحقيق الأمن، في مواجهة أعداء القوم وخصومهم، والطامعين بهم، أو بأرضهم وخيراتهم.

ويسقط هذا الدافع حين لا يجد الإنسان لدى قومه الحماية التي يرجوها.

الدافع الرابع: مطلب التعاون لتأمين المصالح المشتركة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها.

ويسقط هذا الدافع حين لا يجد الإنسان لدى قومه ما يحقق له المصالح التي يرجوها.

* * *

ظهور شعار القومية في أوروبا:

أما شعار "القومية" فهو شعار معاصر، ظهر في أوروبّا منذ أوائل القرن التاسع عشر الميلادي.

ص: 261

وكان ظهور القومية في أوروبا بديلاً للرابط الديني، في أعقاب سيادة الاتجاه العلماني، وضعف الرابط الديني شعبياً، وبتره سياسياً بتراً كلياً.

لقد كان لا بد من بديل للرابط الديني الذي كان أقوى في أوروبا من الرابط القومي، على الرغم من كون هذا الرابط الديني في أوروبّا قد كان رابطاً واهياً، لأن عناصره عقيدة محرفة، ومفاهيم وضيعة مليئة بالأغاليط، وعصبية موروثة.

أما وقد تقطّع الرابط بسيادة الاتجاه العلماني، فإن البديل التلقائي هو ظهور الرابط القومي، لأن له في النفس الإنسانية دوافع فطرية ومصلحية.

وساعد على إظهار الرابط القومي وبعثه من مدفنه، الذين كانوا من قبل قد حاربوا الدين والأخلاق والنظم الاجتماعية، وأقنعوا أوروبا بالاتجاه للعلمانية، والأخذ بها.

وقامت في أوروبا صراعات ذات نزعات قومية، لعبت بها كتابات موجّهة ضمن مخطط مرسوم، وقد ظهرت هذه الكتابات بأقلام طائفة من الفلاسفة، وعلماء الاجتماع، وعلماء السياسة.

وكان من آثار هذه النزعات القومية أن جمعت أشتاتاً، وفرّقت مجتمعين، وحركت مطامع استعمارية ذات دوافع قومية، وغيرت حدود أوطان على الخريطة السياسية.

ثمّ أقبل القرن العشرون الميلادي، وقامت فيه حربان عالميتان كبريان دمرتا دماراً عظيماً، وأهلكتا الحرث والنسل، وكانت دوافعهما قومية، على مستوى الشعور الجماهيري العامّ، إذ تفجّرت القومية في ألمانيا وإيطاليا، وكان لها ظهور قوي في فرنسا وبريطانيا وغيرها.

ص: 262

ثمّ خبت وقدة النزعات القومية، واتجه العالم الغربي إلى نزعات غير قومية، ضمن الاتجاه العلماني اللاديني، فمنها ما اتجه شطر الالتقاء على المصالح المشتركة الاقتصادية أو السياسية أو الدفاعية، ومنها ما كان لقاءً على وحدة فكرية عالمية، غير ذات حدود إقليمية أو وطنية أو قومية، ولم يكن باستطاعتهم أن يجتمعوا على دين، لأنهم قد أسقطوا الدين من عقائدهم ومن روابطهم السياسية، ومعظم روابطهم الاجتماعية. وبقايا الدين فيهم أمست شخصية.

ولمّا أذنت شمس القومية تتجه إلى الغروب في أوروبا والعالم الغربي كلّه، بدأت تظهر في بعض شعوب العالم الإسلامي، بمكايد مدبّرة.

* * *

ظهور شعار القوميات بين الشعوب الإسلامية في هذا العصر:

وضمن مخطّط المكايد الخطيرة التي دبّرت ضدّ الإسلام والأمّة الإسلامية قامت بين المسلمين دعوات القوميات، كالقومية العربية بين العرب، والقومية الطورانية بين الأتراك، والقومية الكردية بين الأكراد، والقومية الفارسية بين الفرس، والقومية الشركسية بين الشركس، ونحو ذلك

ومن العجيب أن أئمة دعوة القومية العربية بين العرب لم يكونوا من أصول عربية، ثمّ كان الذين حملوا شعاراتها بقوة داخل الشعوب العربية هم من الطوائف غير المسلمة، وانساق معهم مفتونون من أبناء المسلمين،

ص: 263

من الذين تأثروا بالفكر الأوروبي الحديث، وبدسائس المستشرقين والمبشرين والمستعمرين، ومن الذين حَلَا لهم التحلل من شرائع الإسلام، وأحكامه.

وبالنزعة القومية مع الاتجاه العلماني نجحت المكايد التي دبّرت لإسقاط الخلافة الإسلامية، وتمكين الدول الاستعمارية من الاستيلاء على معظم البلدان العربية وشعوبها.

ثمّ قامت التكتلات القومية، ثمّ الأحزاب والمنظمات القومية، لتحقيق الاتجاه العلماني، وإقامة الرابط القومي بدل رابط الدين الإسلامي، الذي كان هو السائد في الشعوب العربية، ونشطت هذه التكتلات والأحزاب والمنظمات القومية في أعمالها نشاطاً عظيماً، موجهاً من الدول الاستعمارية ومدعوماً من قبلها.

وانطلت حيلهم على المغفلين من أبناء المسلمين، وآمن بأفكارهم التي نشروها وزينوها مثقفون من أبناء المسلمين، علّمتهم وربّتهم المدرسة الغربية، وانسلخوا من الدين الإسلامي إلى العلمانية، آخذين بالمادية الغربية، أو المادية الشرقية.

وضمن شعار الوحدة القومية المقرون بالعلمانية، مع الدعم الاستعماري، والمكايد الدولية المدبر، أقبل المتظاهرون بالانتماء إلى العروبة والاعتزاز بها، والمتعصّبون سرّاً لطوائفهم المعادية للإسلام والمسلمين، فتسللّوا بالحيلة والمسكنة وأساليب الذكاء، إلى مراكز القوة التعليمية والإدارية والسياسية والعسكرية، حتى قبضوا على معظم نواصيها، وركبوا أقوى ظهورها.

ومن حيلهم أنهم اتخذوا الذي انسلخوا من الإسلام من أبناء المسلمين مطايا مرحلية، فاجتازوا على ظهورهم المسافة من مواقعهم في الصفوف الأخيرة، إلى مواقع الصفوف الأولى، فمنصّات القيادة، ضمن جماهير المسلمين المخدوعين بالمطايا.

ص: 264

واستخدمت المكايد الدولية والطائفية المحلية القوميات لإشعال نيران الثورات والحروب والصراعات ذات النزعات القومية.

ولما وصلت الأقلية الطائفية غير المسلمة إلى مراكز القوة الفعلية، كشفوا الأقنعة عن وجوههم، وكشروا عن أنيابهم، ونبذوا الأكثرية المسلمة، وفرضوا عليها استعباداً وإذلالاً، وانطلقوا بجرأة تامّة، وصراحة غير متوارية، ينفذون رغبات الدول الاستعمارية، ورغبات الصهيونية، ورغبات كلّ أعداء الإسلام والمسلمين، وأعداء الشعوب العربية.

* * *

نظرة تحليلية إلى دعوة القومية:

لمّا أريد للقومية أن تكون رابطاً لتكوين أمة، بديلاً للدين أولاً وبالذات، ثمّ للوطنية، أو وحدة الدولة، أو وحدة المذهب الاجتماعي أو الاقتصادي تغطية وتلبيساً، أخذ المفكرون فيها يبحثون عن سند فكري أو نفسيّ لهذه القومية المعاصرة، فطرحت آراء متعدّدة، وقامت مناظرات وجدليّات، وبرز من الأفكار لتحديد عناصر القومية ما يلي:

1-

وحدة الأصل والعرق.

2-

وحدة اللغة.

3-

وحدة التاريخ.

4-

وحدة الثقافة.

5-

المصالح المشتركة.

6-

وحدة المشاعر حول آلام الماضي وآمال المستقبل.

وأخذو مفلسفو القومية من الجرمانيين يركّزون على عنصر وحدة العرق، وظهرت نزعة تفوّق العرق الجرماني، وانطلقت القومية الألمانية على هذا الأساس، وجرّت للعالم حروباً طاحنة، كان المخططون لنشر

ص: 265

القوميات يعرفون أنها ستجرّ إلى أمثال هذه الحروب.

وظهرت بعض قوميات عرقية أخرى، منها ما أدى إلى اجتماع متفرقات دويلات، ومنها ما أدى إلى انفصال أقوام وتكوين دول مستقلة.

ثمّ قامت في الغرب أبحاث علمية أكّدت أن وحدة الأصل والعرق من الأمور التي لا تتحقق، وعمّم هؤلاء الباحثون أحكامهم على كل الشعوب، بيد أن التعميم يفتقر إلى أدلة إثبات، وإن كان هذا لا يعنيني في هذا المجال.

ولمّا زحفت الفكرة القومية إلى الشعوب الإسلامية، أراد دعاتها أن يفصّلوا عناصرها تفصيلاً يتناسب مع خطة عزل الدين الإسلامي ومقاومته، وجمع أكبر قدر ممكن من غير المسلمين في إطار القومية التي يدعون إلهيا، وإضعاف مركز الأكثرية العرقية التي تدين بالإسلام.

لقد كان لزاماً عليهم في الدرجة الأولى استعباد عنصر وحدة الدين، لأن الهدف من إنشاء فكرة القومية الحديثة مقاومة الدين، وعزله عن السياسة والمجتمع.

ثمّ نظروا إلى الهيكل الاجتماعي الذي أرادوا أن يلبسوه لباس القومية، ففصلوا عناصر القومية على وفقه.

فحذفوا من القومية عنصر وحدة الأصل والعرق، ولو تحقق، حذفاً كليّاً، لئلا يكون داعياً إلى احتلال المعروفين بسلامة أعراقهم القومية مركز الصف الأول، وهؤلاء هم الأكثرية المسلمة، واحتلالُهم مركز الصف الأول من شأنه أن يُبقي للإسلام ثقلاً حقيقيّاً داخل نزعة القومية، وهذا أمر يعارضونه أشدّ المعارضة، ويقاومونه أعنف المقاومة، إنهم لم يأتوا بنزعة القومية إلا لقتل الإسلام بها في نفوس المسلمين.

ولما حذفوا عنصر وحدة الأصل والعرق انتقلوا إلى التأكيد على عنصر

ص: 266

وحدة اللغة، وقدم مفلسفوهم الأدلة على قوة هذا العنصر في توثيق الرابطة القومية، وتكوين الأمة القومية.

واعترضتهم مشكلة المهاجرين من بلاد عربية هم أو أجدادهم، وهم لا يحسنون اللغة العربية، وقد صارت لغتهم لغةً أخرى ويهمهم تكثير الأقليات غير المسلمة بهم في البلاد العربية، فوضعوا لهم فكرة استرجاعهم إلى الانتماء للأصل العربي، حتى يكتسبوا بهم ثقلاً للأقليات غير المسلمة، وقد جاء هذا متأخراً عن تدوين أفكار القومية.

وغدت وحدة اللغة قابلة للتمطيط، فمن كانت لغة آبائه أو أجداده العربية فهو عربي، ومن كان ينطق العربية فهو عبي، ولو لم تكن أصوله عربية، ويُغضُّ النظر عن التدقيق في عناصر القومية الأخرى.

أما العنصر الثاني الذي ركّزوا عليه، وجعلوا له دوراً مهماً في تكوين الأمة القومية، فهو عنصر "وحدة التاريخ".

قال ساطع الحصري: إن "وحدة الأصل" يجب أن تخرج من كل تعريف يتعلق بمعنى الأمة، فمن الأوفق الاستعاضة عن ذلك بـ"وحدة التاريخ" لأن وحدة التاريخ هي التي تلعب أهم الأدوار في تكوين "القرابة المعنوية"

وفي توليد "وهم وحدة الأصل" الذي يسود الأذهان هـ.

ونلاحظ أنه لدى تطبيق القوميين عنصر "وحدة التاريخ" على واقع الشعوب العربية، نجدهم يقفزون عن تاريخ العرب المسلمين، لأنه لا يمثل وحدة تاريخ بين كل العرب، مسلميهم وغير مسلميهم، فغير المسلمين من العرب قد يغيظهم جداً تاريخ العرب المسلمين، بل قد يحقدون عليه، وهم لا يعترفون بأنه تاريخ لهم، إنما هو تاريخ خصومهم أو أعدائهم، فكيف يكون أحد العناصر التي تربطهم بالأمة العربية. هؤلاء لهم تاريخ خاصّ بهم غير تاريخ العرب المسلمين، ولو عاشوا بينهم أقلية.

ص: 267

وحينما يقفزون عن تاريخ العرب المسلمين، يسقطون على تاريخ عصور الجاهلية العربية، البائدة والعاربة والمستعربة، ويجمعون مقتطفات من التاريخ العربي بعد الإسلام، بشرط أن لا يكون فيها تأثير إسلامي. ويهتمون بإظهار ما يتعلق بتاريخ غير المسلمين من العرب، وتزيينه وتحسينه، وإضفاء الألقاب الفخمة عليه، مما يجعل له في أذهان دارسيه ذكريات أمجاد، وللأقليات الطائفية النصيب الأوفى من هذا التاريخ المنتقى بعناية فائقة.

إذن: فللإيهام بصحة انطباق عنصر "وحدة التاريخ" على كل الناطقين باللغة العربية، مسح القوميون من التاريخ العربي الذي كتبوه ودرّسوه في مناهج التعليم كل ما هو إسلامي مجيد، وسلطوا الأضواء على غيره ممجدين معظمين، وإن اضطروا إلى ذكر تاريخ العرب المسلمين مرّوا عليه كالبرق الخاطف، وأبرزوا منه هنواته فقط.

ولا يهمل مفلسفو القومية العربية العناصر التالية:

o وحدة المشاعر والمنازع.

o وحدة الآلام والآمال.

o وحدة الثقافة.

ولكنهم يجعلونها نتائج طبيعية "لوحدة اللغة" و"وحدة التاريخ".

ويصرّون على حذف "وحدة الدين" وهذا في مقدمة ما يحذفون من عناصر، ثمّ يحذفون مما يذكر الناس من عناصر تكوين الأمم: وحدة الدولة، ووحدة الحياة الاقتصادية، ووحدة الأرض، أي الاشتراك في الرقعة الجغرافية، لأن هدفهم الآن نشر القومية.

يقول "ساطع الحصري" كبير مفلسفي القومية العربية، مبيناً الحقائق التي توصل إليها بعد درس وتمحيص النظريات المختلفة، وبعد استعراض واستنطاق الوقائع التاريخية:

ص: 268

" إن أسّ الأساس في تكوين الأمة، وبناء القومية، هو وحدة اللغة، ووحدة التاريخ.

لأن الوحدة في هذين الميدانين، هي التي تؤدي إلى وحدة المشاعر والمنازع، ووحدة الآلام والآمال، ووحدة الثقافة

وبكل ذلك تجعل الناس يشعرون بأنهم أبناء أمّة واحدة متميزة عن الأمم الأخرى.

ولكن: لا وحدة الدين، ولا وحدة الدولة، ولا وحدة الحياة الاقتصادية، تدخل بين مقوّمات الأمة الأساسية.

كما أنّ "الاشتراك في الرقعة الجغرافية" أيضاً، لا يمكن أن يعتبر من مقومات الأمة الأساسية.

وإذا أردنا أن نعيّن عمل كلٍّ من اللغة والتاريخ في تكوين الأمة، قلنا:

اللغة: تكوّن روح الأمة وحياتها.

التاريخ: يكوّن ذاكرة الأمة وشعورها. " انتهى.

واستناداً إلى هذه الأسس التي وضعوها، وحدّدوا بها عناصر القومية العربية، نصّوا على الأركان التي يجب على القوميّ أن يعرفها ويؤمن بها أشدّ الإيمان، وأهمّها ما يلي:

" إن كل من ينتسب إلى البلاد العربية ويتكلم باللغة العربية، هو عربي

ومهما كان اسم الدولة التي يحمل جنسيتها وتابعيتها بصورة رسمية.

ومهما كانت الديانة التي يدين بها، والمذهب الذي ينتمي إليه.

ومهما كان أصله ونسبه، وتاريخ حياة أسرته

فهو عربي.

والعروبة ليست خاصة بأبناء الجزيرة العربية، ولا مختصة بالمسلمين وحدهم.

ص: 269

بل إنها تشمل كل من ينتسب إلى البلاد العربية ويتكلم باللغة العربية.

سواءٌ أكان مصرياً، أو كويتياً، أم مراكشياً

وسواءً أكان مسلماً، أم مسيحياً.

وسواء أكان سنياً، أم جعفرياً، أم درزياً.

وسواءٌ أكان كاثوليكياً، أم أرثوذكسياً، أم بروتستانتياً..

فهو من أبناء العروبة، ما دام ينتسب إلى بلاد عربية، ويتكلم باللغة العربية..".

وهكذا استطاعت الفكرة القومية بحيلتها الكَيْدِيَّة، أن تسلب المسلمين العرب، وهم الكثرة الكاثرة، كثيراً من حقوقهم السياسية والإدارية، والاقتصادية، وحقوقهم في السيادة على أرضهم، وغير ذلك، لصالح الأقليات غير المسلمة، التي لم تكن تحلم بها.

وكان من شأن هذه الأقليات بعد ذلك أن استغلت فكرة القومية لصالح طوائفها، دون أن تتنازل شعرة واحدة عن عصبياتها الطائفية المضادة للإسلام والمسلمين، ووقائع الأحداث في كثير من البلاد العربية تشهد بذلك.

لقد ظهر بما لا يدع مجالاً للشك لدى التطبيق على المجتمع البشري، أن شعار القومية بكل عناصرها لم يستطع أن يوحّد بين أتباع الأديان والمذاهب والمبادئ المتناقضة المتعارضة، فثبت سقوط الفكرة من أساسها، وثبت أن عناصر القومية غير صالحة لتكوين أمة، أفرادُها يتّبعون مبادئ ومذاهب ومناهج وعقائد متباينة متناقضة متضادّة الاتجاهات.

ولا يستطيع الإنسان أن يكون خالياً على الدوام من مبدأ، وعقيدة في الحياة، ومذهب في السلوك يسير على وفقه، ولن يتفق الناس على مبدأ وعقيدة ومذهب، لأنهم لا يستطيعون توحيد أهوائهم ورغباتهم ومصالحهم، ولا يستطيعون التخلّص من أنانيتهم الضيقة أو الموسعة قليلاً.

ص: 270

وأجمع جامع للناس في هذا دين ربّاني حقّ، تدفعهم إلى الأخذ به والاجتماع عليه حَقَّيَّتُه وعدالته وكماله، ورغبةٌ بثواب عظيم، ورهبةٌ من عذاب أليم، أعدهما الربّ الخالق منزل الدين.

ولسائر الأديان ولو كانت محرّفة أو وضعيّة عوامل جمع بحسب قوة هيمنتها على العقول والقلوب والنفوس

* * *

فراغ القومية من مضمون يغني الناس عن التطلّع إلى غيرها:

ليس في الرابط اللغوي، ولا في ذكريات التاريخ، اللذان هما الأساسان العظيمان في القوميّة، ما يسدّ حاجة الإنسان إلى أفكار يعتقدها ويؤمن بها، حول سرّ وجوده، والغاية منه، وواجباته في الحياة، ومصيره الذي هو صائر إليه بعد رحلتها، وحاجة الإنسان إلى منهاج حياة يسير عليه، هو وشركاؤه في المجتمع البشري الذي يعيش ضمنه.

لقد عظّمت الدعايات الكثيرة الإعلامية والإقناعية، من حجم القوميّة الضئيل في واقع النفس الإنسانية السويّة، وكان ذلك بالنفخ الصناعيّ التمويهي الذي قام به دعاة القوميّة ومروّجوها.

o فآمن بالقومية واستجاب لدعاياتها ناشئون أغرار.

o وانضم إليها منتفعون طامعون أصحاب مصالح ومطامع.

o وقاد المسيرة أصحاب المكيدة الأصليون من أتباع الطوائف غير المسلمة.

حتى صار للمجموع ثقل عددي، وثقل كيدي، في كثير من البلاد العربية الإسلامية.

لكنّ الرابط اللغوي، وذكريات التاريخ، بطبيعة مكوّناتهما، لا يشبعان نهمة العقول إلى معرفة مفاهيم تقنعها، حول سرّ وجود الإنسان، والغاية منه، وواجباته في الحياة، ومصيره الذي هو صائر إليه بعد رحلتها، ولا

ص: 271

يشبعان حاجة الإنسان إلى منهاج حياة يسير عليه، هو وشركاؤه في المجتمع.

لقد حمل أتباع القومية شعارها المنفوخ نفخاً صناعياً، واندفعوا لتمجيدها اندفاعاً غوغائياً، مدّة من الزمن، على وهم أنهم سيجدون لديها شيئاً يشبع عقولهم وقلوبهم ونفوسهم، لكنهم حينما صحوا من ضجيج الغوغاء، وظهرت بينهم الخلافات الأنانية، رجعوا يشعرون بحاجات عقولهم وقلوبهم ونفوسهم.

تتبعوا عناصر القومية، فلم يجدوا فيها شيئاً يشبع حاجاتهم، ثمّ ألحّت عليهم الحاجات فسعَوْا يتلمَّسون في المبادئ والأفكار المطروحة في العالم ما يشبعها.

1-

فالذين كانوا قد تركوا الإسلام منهم بإصرار، ولم يجدوا من يقنعهم بالرجوع إليه، أو هم لا يريدون ذلك بعد أن استمرؤوا الإباحية والانغماس في المحرمات والكبائر الكبرى، ظلّوا على كفرهم بالإسلام:

* فريق منهم اتجه شطر الماديّة الملحدة الشرقية يأخذ منها الاشتراكية أو الشيوعية، ونظم الحياة الوضعية.

* وفريق منهم اتجه شطر المادّية الملحدة الغربية، يأخذ منها الإباحات، والنظام الرأسمالي، ونظم الحياة الوضعية.

وظهرت الصراعات والانقسامات بين هذين الفريقين.

2-

والذين صحوا من سكر فتنتهم بالقومية، وعرفوا فراغها، وخبروا مكيدتها، عادوا إلى الإسلام تائبين، لكنهم اعتزلوا معترك العمل الجماعي، وقليلٌ منهم اتجه اتجاهاً إيجابياً لنصرة الإسلام والدعوة إليه.

3-

وظهر الذين كانوا يحملون شعار القومية كيداً ونفاقاً من الطوائف غير المسلمة على حقيقتهم، فكشفوا تعصّبهم الطائفي، وأظهروا أن قوميتهم العربية التي كانوا قد ادّعوها لم تكن إلاّ قوميّة مزيفة، وأسلوباً مرحلياً

ص: 272

لتحقيق أهدافهم الطائفية، في التسلّط، والقضاء على الإسلام والمسلمين.

هذه نتائج كان لا بد من وصول القوميين إليها، وكانت معروفة لدى المخطّطين لنشر القومية، ومرادة لهم.

لقد نجحت مكيدتهم وكان المسلمون ضحيّتها، وكان الإسلام عدوّهم الأكبر.

* * *

موقف الإسلام من العصبية القومية:

لقد قاوم الإسلام العصبية القومية، واعتبرها نزعة منتنة، وأقام بين المسلمين الأخوة الإيمانية الإسلامية، ولم يلغ حق الرحم في الصلة والمصاحبة بالمعروف.

وفيما يلي طائفة من النصوص الإسلامية:

1-

قول الله عز وجل في سورة (الحجرات/49 مصحف/106 نزول) :

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .

فعقد الله بهذه الآية الأخوّة بين كلّ المؤمنين دون استثناء، فهم إخوة برابطة وحدة الإيمان.

2-

روى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله:

" مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى ".

فأبان الرسول أن الأمة الإسلامية في وحدتها وترابطها، بمثابة الجسد الواحد، الذي تحركه روح واحدة، وتوجهه مشاعر واحدة.

3-

عن ابن عمر، أن النبي طاف يوم الفتح على راحلته يستلم

ص: 273

الأركان بمحجنه، فلما خرج لم يجد مُناخاً، فنزل على أيدي الرجال، فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه، وقال:

" الحمد لله الذي أذهب عنكم عصبيّة الجاهليّة، وتكبُّرها بآبائها، الناس رجلان، برٌّ تقيٌّ كريم على الله. وفاجرٌ شقيٌّ هيّنٌ على الله. والناسُ بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب، قال الله في سورة (الحجرات/49 مصحف/106 نزول) :

{ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .

ثمّ قال: "أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم".

فأعلن الرسول في خطبته هذه يوم الفتح ذهاب العصبية الجاهلية وتكبّرها بآبائها.

4-

عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال:

" يا أيها الناس، ألا إنّ ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود، إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ألا هل بلّغت؟ ".

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: "فليبلّغ الشاهد الغائب".

5-

روى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: كنّا في غزاة، فكسع

ص: 274

رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، قال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: ياللمهاجرين. فسمع ذلك رسول الله فقال:

" ما بال دعوى جاهليّة؟! ".

قالوا: يا رسول الله، كَسَع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال:

" دعوها فإنها منتنة ".

6-

مرّ شاس بن قيس "هو حبر من أحبار يهود بني قينقاع" وكان شيخاً موغلاً في معاداة الإسلام، عظيم الكفر، شديد الحسد للمسلمين، على نفر من أصحاب رسول الله من الأوس والخزرج، فوجدهم مجتمعين متحابين، قد ألّفت بينهم الأخوة الإسلامية، فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال:" قد اجتمع مَلأ بني قَيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع مَلَؤهُم بها قرار".

فأمر فتى شاباً من يهود كان معه، فقال له:" اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثمّ اذكر يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا به من أشعار".

فأقبل هذا الشاب فجلس بين المسلمين، وتحدث معهم، ثمّ استجرهم للحديث عن يوم بُعاث، وأنشدهم ما يحفظ من الأشعار التي قيلت فيه.

ودبت الحميّة بين الأوسيين والخزرجيين، وتنادوا: السلاح السلاح.

فبلغ ذلك رسول الله، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين، حتى جاؤهم في الحرّة، وهم يستعدّون للقتال، فقال:

" يا معشر المسلمين، الله، الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم

ص: 275

بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بين قلوبكم؟! ".

فلما سمع الأوس والخزرج ذلك من رسول الله، عرفوا أنها نزغة من نزغات الشيطان، وكيد من عدوّهم، فبكَوْا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً.

وأنزل الله عز وجل قوله في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :

{ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً منَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ} .

* * *

(4)

الإنسانية

تقوم فكرة "الإنسانية" وقد تُسمّى "العالمية" أو "الأممية" على الاكتفاء برابط وحدة الأصل الإنساني، والاشتراك في الصفات العامّة التي يختص بها هذا النوع، مع نبذ أو إهمال كل الفوارق القومية، والوطنية، والدينية، وغير ذلك من اختلافٍ في المبادئ، والمذاهب، والعقائد، والمصالح، ومناهج السلوك، أو الترفُّع عنها والاستعلاء عليها، بنزعة إنسانية عالمية.

وتعرف هذه الفكرة في الغَرْب بفكرة الـ"كوزمبوليتيه".

أما الآراء والملاحظات التي تستند إليها دعوة "الإنسانية" فيمكن تلخيصها بما يلي، كما عرضها "ساطع الحصري" في معرض نقدها، ورفضها من وجهة نظر قومية.

1-

ما الفرق بين الأوطان المختلفة؟ . أليست كلها من أجزاء الأرض التي نعيش عليها؟

وما قيمة الحدود التي تفصل الأوطان بعضها عن بعض؟ . أليست

ص: 276

كلها من الأمور الاعتبارية، التي أوجدتها الوقائع الحربية، أو المناورات السياسية؟.

2-

ما الفرق بين الأمم المختلفة؟. أم تنحدر كلُّها من أصل واحد؟.

أفلا يجدر بالإنسان -والحالة هذه- أن يسمو بأفكاره وعواطفه فوق الأوطان وفوق الأمم؟.

فليعتبر الأرض كلها "وطناً". وليعتبر البشر كلهم "مواطنين".

لقد مرّ في تاريخ البشرية عهود طويلة كانت فيها الرابطة الوطنية ضيّقة محدودة، لا يتعدى نطاقها أسوار بعض المدن، وكانت فيها الرابطة القومية محدودة المدى، لا يتجاوز تأثيرها حلقات بعض القبائل.

ثمّ شهد التاريخ "العهد" الذي ارتفعت فيه الحدود من بين المدن التي كانت متخالفة، وانتفت فيه الضغائن من بين القبائل التي كانت متعادية، فتوسعت فيه فكرة الوطنية، وفكرة القومية، إلى ما وراء حدود، ونطاق القبائل.

إن سلسلة التطوّرات التي حدثت بهذه الصورة إلى الآن تدل على أن هذا التوسع سيستمر على الدوام، وسيأتي يومٌ تندمج فيه الأوطان المختلفة، فتغدو وطناً واحداً، إلى أن يصبح العالم كله هو "الوطن المشترك" لكل الناس، وتمتزج فيه الأمم المختلفة ببعضها إلى أن تصبح "الإنسانية" بمثابة "القومية المشتركة" بين جميع الناس.

وستزول النزعة "الوطنية" والنزعة "القومية" التي نعرفها الآن، بتقدّم البشر، وتسامي العواطف، وستترك محلّها إلى عاطفة إنسانية، وأخوّة شاملة.

فيجدر بالمفكرين أن يسبقوا سائر الناس، في استقبال هذا الطور الجديد، فيسموا بأنفسهم من الآن فوق الوطنيات الخاصة والقوميات، ويعملوا للإسراع بحلول عهد الإنسانية الحقّة.

ص: 277

هذه هي خلاصة الآراء والأفكار والمقترحات المتعلقة بالدعوة إلى الإنسانية.

* * *

يقول "ساطع الحصري" تعقيباً عليها:

" لا شكّ في أن هذه الآراء لا تخلو من قوة جذب وإغراء. إنها تفسح أمام الأذهان مجالاً واسعاً لأحلام الأخوة البشرية، وأماني السلم الدائم، وتلوّح أمام الخيال بعالم جديد، أرقى وأسمى من العالم الذي نعيش فيه الآن، فمن الطبيعيّ أن تستولي هذه الآراء - في الوهلة الأولى - على بعض النفوس التّواقة إلى الكمال، ولو كان في الخيال.

لقد انتشرت الفكرة فعلاً انتشاراً كبيراً بين المفكرين في النصف الأخير من القرن الثاني عشر، لا سيما في ألمانيا، حيث أصبحت النزعة السائدة في عالم الفكر والفلسفة، فكان معظم الفلاسفة والأدباء

يقولون بها، ويدعون إليها ".

والانتقادات التي وجهها "الحصري" لفكرة "الإنسانية" تتلخّص بما يلي:

1-

فكرة الإنسانية والعالمية نزعة أفلاطونية مثالية غير واقعية، بخلاف الوطنية فهي نزعة واقعية، وكذلك القومية.

2-

وهي تتفق في النتيجة مع روح الاستكانة السلبية، إذ تتطلب من الفرد عملاً سريعاً وتضحية فعليّة، فهي لذلك تكتسب قوة من ميول الأنانية الخفية، التي يرضيها الانصراف عن الأعمال الإيجابية استكانة إلى الأوضاع السلبية، بخلاف الوطنية والقومية، فهما يتطلبان تضحيات فعليّة.

واستشهد بقول "جان جاك روسّو" منتقداً فكرة "العالمية" بأسلوب لاذع، إذ قال:"إن بعض الناس يحبون أبناء الصين، لكي يتخلصوا من الواجبات الفعلية التي تترتب عليهم من جراء حب أبناء وطنهم الأقربين ".

3-

لقد أخذت البلاد الألمانية بفكرة "العالمية" خلال القرن التاسع

ص: 278

عشر فأضعفت لدى مواطنيها روح المقاومة ضدّ أعدائها الطامعين بها، فلما غزاها نابليون لم يثبتوا أمامه، غذ لم تكن لديهم روح المقاومة نتيجة تأثير انتشار فكرة "العالمية" فيهم، إن الجنود كانوا ينهزمون من ساحة القتال، تاركين أسلحتهم فيها، دون أن يحاولوا استعمالها لصد غارة العدو الزاحف إلى بلادهم.

وهذا الذي حدث وما كان بعده، قد بدّد عند الألمان أحلام "العالمية" وأماني "الإنسانية" التي كانت مستولية على نفوسهم.

4-

إن دعاة السلم العام، والأخوة البشرية الشاملة، الذين ظهروا طوال القرن التاسع عشر، وحتى أوائل القرن العشرين - حتى الحرب العالمية- كانوا يتكهنون بقرب تحقق أحلامهم وأمانيهم.

غير أن الوقائع والحوادث كانت تأتي على الدوام معاكسة لتلك الأماني والأحلام.

5-

إن النزعات القومية والوطنية كانت أقوى في الواقع من "الإنسانية"، و"العالمية" ودعوة الأخوة البشرية، إذ قامت الحروب والصراعات القومية، فاضمحلت بها فكرة "الإنسانية"، وغدت أحلاماً تراود بعض المفكرين، ولم يصبح لها تأثير على الرأي العام في أي بلد من بلدان العالم.

* * *

كشف الزيف في دعوة الإنسانية:

لا يهمني ولا يعنيني هنا التعرض لما أورده "ساطع الحصري" في انتقاده "الإنسانية" خدمة للوطنية والقومية، فكثير مما أورده لا اعتراض لي عليه، ولكن لإسقاط فكرة "الإنسانية" أو "العالمية" وفق المفهوم الذي وضع لها، لا لخدمة القومية أو الوطنية، بحسب مفهوم القوميين، أو الوطنيين، الذين يريدون الاقتصار على الرباط القومي، أو الرباط الوطني، في تكوين الأمة.

لدى كشف زيف دعوة "الإنسانية" أو "العالمية" لا بد لنا من بحث

ص: 279

عميق، لاكتشاف الشروط المثلى، لتكوين أمة من الناس، قوية الترابط، شديدة التماسك، صلبة العناصر، بنيانها مرصوص يشد بعضه بعضاً، قادرة على الصمود ضد كل عوام التفكك والانقسام والتمزق، وكل الزوابع والأعاصير التي تهدف إلى تفتيت وحدتها.

وبالبحث العميق ينكشف للباحث أن هذه الشروط المثلى، هي الشروط التي تتوافر فيها الروابط المتعددة المتشابكة، التي تتناول كل كيان الإنسان، وكل أركانه، ومعظم ما يُهمه في حياته.

وفي المرتبة الأولى من كل ذلك كيانه الذاتي وأركانه الداخلية، ثمّ تأتي مصالحه وحاجاته الوقتية وعلاقاته الخارجية.

ويبرز للباحث من ذلك ما يلي:

1-

مفاهيمه التي تهيمن على فكره.

2-

عقائده التي تهيمن على قلبه ووجدانه وجملة من مشاعره، فتكوّن إيمانه الراسخ في حياته.

3-

عواطفه التي تهيمن على نفسه، وطائفة من مشاعره.

4-

المناهج والنظم التي يطيع لها، باعتبارها نابعة من مفاهيمه وعقائده، فتكون هادية له في أخلاقه وحركة سلوكه في حياته.

5-

المصالح والمنافع التي ترضي مطالبه في الحياة بصورة عادلة، نابعة من مفاهيمه وعقائده.

وهذه لا يتحقق منها في فكرة "الإنسانية" إلا جزء يسير من أجزاء العنصر الأول من هذه العناصر الخمس.

فمن المفاهيم الكثيرة التي تهيمن على فكر الإنسان، مفهوم اشتراك الناس جميعاً في أنهم منحدرون من أصل واحد، وهم يشتركون في صفاتٍ نوعيةٍ عامة متماثلة.

وليس في مفهوم "الإنسانية" وراء ذلك شيء.

ص: 280

إن قيمة "الإنسانية" في تكوين الأمة الواحدة، كقيمة اشتراط نبات الأرض، لإعداد الغذاء الصالح للإنسان.

فهل كل نبات نجده في الأرض، نأخذه ونضعه في طبخة لغذائنا؟ ألا يمكن أن يكون ساماً قاتلاً، أو مراً لا يستساغ، أو حارّاً يلهب الأمعاء ويقرحها؟.

"الإنسانية" هي المادة الطبيعية الأولى، التي يؤخذ منها الصالح لتكوين الأمة المنشودة. فالأمة من الناس إنما تتكون من أفراد اشتركوا في العنصر الإنساني أولاً، فلا مكان فيها لجنٍّ، أو خيلٍ، أو بغال، أو حمير، أو قطعان من النعم، أو الوحوش، أو أسراب من الطير.

كذلك نقول: إن المادة الطبيعية الأولى لبناء قصر عظيم، هي العناصر الصلبة المستخرجة من الأرض، ومع ذلك فإنه لا يصلح كل حجر ومدر وكدر ورمل من الأرض لإقامة هذا القصر العظيم، حتى تتحقق في العنصر الصلب المأخوذ من الأرض الشروط اللازمة، التي تجعله صالحاً ليملأ مكاناً مناسباً له في بنائه.

هكذا لا يصلح أي إنسان لتكوين الأمة المنشودة، ما لم تتحقّق فيه الشروط اللازمة لتكوينها.

وإلا ظهر الوهن والضعف، أو التنافر وعدم التلاؤم، ثمّ ظهر التصدع، ثمّ وقع الانهيار.

إن جماعة صغيرة من الناس، في موقع صغير من الأرض، لا يمكن أن يتعايشوا مدة من الزمن متلائمين متفاهمين متآخين، ما لم يتحقق في معظمهم شروط التلاؤم والتفاهم والتآخي.

وأي تباين فكري بينهم له آثار في السلوك، سيمزق جماعتهم، ويفرقهم حتماً، وقد يثير بينهم الخصام والعداء فالتقاتل، وأي تنافر عاطفيّ بينهم سيمزق جماعتهم ويفرّقهم حتماً. وكذلك أسلوب العيش المتباين بين أفرادهم هو من أسباب تمزيق جماعتهم. كذلك تعارض المصالح وتنازع

ص: 281

المنافع فيما بينهم من أسباب تمزيق جماعتهم، وعدم ثباتها.

فقضية وحدة الجماعة من الناس، أو وحدة الأمة من البشر، تكتفي برباط ضعيف واحد، أو برباطين ضعيفين، حتى تكون صالحة للدوام والاستمرار، ولا تكون عرضة للتنافر والانقسام والانهيار.

فالإنسان ليس كائناً لا يملك في ذاته إلا مقوماً واحداً، حتى يكفيه رابط واحد لهذا المقوم، وليس بهيمة حتى يكفي لجرّه مقود واحد، حتى البهيمة فإنه يجب أن يكون مقودها في رأسها أو عنقها، لا في ذيلها أو بعض شعرات من بدنها.

إن الإنسان فكر، وقلب، ووجدان، ونفس، وأهواء، وشهوات، وغرائز، ومصالح، وحاجات. والأمة المثالية هي التي يرتبط بها من كل هذه الأركان والعناصر، أو من معظمها، أو من أخطرها وأهمها وأدخلها في كيانه العميق، جُملةُ روابط، فهي تنتظمها جميعاً.

أما رابط "الإنسانية" وحده، فهو أضعف الروابط وأهونها لديه، مع أنه شرط أولي، لكنه ليس شرطاً كافياً، ودونه بمرتبة واحدة رابط "الحيوانية" بين الأحياء، ومعلوم أن رابط "الحيوانية" الأعم من رابط "الإنسانية" لا يصلح لإقامة "الأمة الحيوانية" ذات النزعة "العالمية" الأشمل.

إن "الإنسانية" هي المادة الأساسية العامة، التي يُنتقى من أفرادها من تتوافر فيهم شروط الأمة التي يراد بناؤها بناءً متماسكاً متلائماً قوياً وثابتاً.

ومن الجهل بطبائع الأشياء، والغباء المطلق، الاكتفاء بمجرّد الاشتراك في "الإنسانية" أو في "الوطن" أو في "القوم" لتكوين أمة يراد لها الثبات والدوام والتعاون والتآخي والتواد، والاشتراك في بناء حضارة صحيحة، وتحقيق عيش سعيد بين أفرادها، رغم التباين والتناقض والتنافر بين أفرادها، في أفكارهم وعقائدهم ومذاهبهم ومصالحهم وأهوائهم ومناهج سلوكهم.

فالدعوة إلى إقامة "الأمة الإنسانية" أو "الأمة العالمية" على زعم

ص: 282

الاكتفاء في تكوينها بشرط واحد، هو أن يكون العضو فيها من نوع البشر، دعوة باطلة، وفكرتها فكرة مزيفة ساقطة لا قيمة لها، سواء في الفكر السليم، أو في الواقع التطبيقي.

ولا يمكن تحقيقها حتى يتجرّد الناس من عقولهم، ومفاهيمهم، وعقائدهم، وعواطفهم، وأنانياتهم، وانتماءاتهم الدينية، أو القومية، وأن يتجردوا أيضاً من أهوائهم ونزعات نفوسهم، وهذه لا بدّ أن تتناقض أو تتباين وتتخالف في الناس.

وبعبارة أكثر اختصاراً: لا يمكن أن تتحقق "الأمة الإنسانية" الواحدة، حتى يتجرد الناس من "إنسانيتهم" وطبيعتها.

* * *

المخططون لدعوة الإنسانية وهدفهم منها:

المطالعات الكثيرة، والخبرات الطويلة المتعددة، دلت أهل البحث والتدقيق، على أن أخطر وأعتى المخططين لدعوة "الإنسانية" وأفكار السلم العالمي، وإزالة الفوارق المختلفة بين الأمم والأقوام والشعوب مهما كان شأنها، هم اليهود.

وهنا نتساءل فنقول:

هل كان المخططون لدعوة "الإنسانية" يجهلون الحقائق التي جاء إيضاحها في الفقرة السابقة؟.

إذا قلنا: نعم، فقد حكمنا على أنفسنا بعدم البصيرة، وعدم معرفتنا بشياطين التضليل في الأرض.

لا شك أن الفكرة قد تخدع ببريقها المعجلين غير المجرّبين، لكنّها لا تخدع أصحاب العقول الحصيفة، والتجارب الواعية.

ثمّ نقول: إذا كان المخططون لدعوة "الإنسانية" لا يجهلون زيفها وفسادها، وعدم صلاحيتها لتكوين أمة تستقر وتثبت، فما هو هدفهم من

ص: 283

الدعوة إليها، ونشرها بين الناس؟.

وأقول: عن الإجابة على هذا التساؤل تأتي من استشفاف مضامين دعوة "الإنسانية".

إن هذه الدعوة في مضامينها وثناياها تلح على الاكتفاء برباط الإنسانية وحده، وتحرض على نبذ كل ما يسبب الفرقة والانقسام من بعد ذلك.

أما نبذ "الوطنية" واعتبار الأرض كلها وطناً واحداً، ونبذ القومية واعتبار الناس كلهم قومية واحدة، فهما أمران معلنان في دعوة "الإنسانية" وهما من عناصرها المكشوفة.

لكن الهدف المهم والحقيقي الذي هو المقصود بالذات من دعوة "الإنسانية" إنما هو نبذ المبادئ والمذاهب والمعتقدات والنظم، التي تسبب الفرقة بين الناس، وأهم ما يجب في دعوة الإنسانية نبذه هو الدين.

وأخطر الأديان التي تقف حاجزاً أمام مخطّطي دعوة "الإنسانية" هو الدين الإسلامي، إذ هو الطود العظيم الذي يريدون دكه والإجهاز عليه.

فإذا نبذ الناس أديانهم ومبادئهم ومذاهبهم ونظمهم، تهيأت لأصحاب المكيدة الفرص المواتية للسيطرة على البشرية كلها، لأنها تكون حينئذٍ قطعاناً من السوائم البشرية، تتمتع كما تتمتع الأنعام، وتأكل كما تأكل.

ثمّ يكون رعاة هذه السوائم هم أصحاب المكيدة أنفسهم، هكذا يقدّرون، ولو قُدِّر لهم أن يصلوا على ما يحلمون به، فسيقولون يومئذ:"ليس علينا في الأميين سبيل".

أي: لنا أن نتحكّم فيهم كما نهوى ونشتهي، وأن نمتطي ظهورهم كما نشاء، وأن نستعبدهم ونذلّهم ونسخّرهم لمصالحنا وخدمة شعبنا، شعب الله المختار، وملكنا مَلِك العالم.

هل لدعوة "الإنسانية" نصيب من التطبيق لدى الذين ينادون بها؟.

تنطلق من حين لآخر دعوة "الإنسانية" على ألسنة الغربيين مرة،

ص: 284

وألسِنة الشرقيين أخرى، وعلى ألسنة اليهود حيناً، وألسنة النصارى حيناً آخر، وألسنة المجوس، والهندوك، والوثنيين، وغيرهم من شعوب الأرض.

ولكن لا أحدَ من هؤلاء أو أولئك يطبّق من مفهوم "الإنسانية" التي ينادي بها شيئاً، متى كانت عصبيته القومية، أو الوطنية، أو المذهبية، أو الدينيّة، أو آراؤه السياسية، أو الاقتصادية أو غيرها، أو مصلحته الأنانية تقتضي عدم تطبيقها.

إنه شعار لمطالبة الخصوم بتطبيق مفاهيمه، لا لمطالبة النفس بتطبيقها.

إذا تمسك المسلمون بدينهم وأحكامه، أو بحقوقهم السياسية أو الاقتصادية أو غير ذلك، توجّه الناس ضدهم قائلين لهم: هذا تعصّب لا إنساني، أو هذه أعمال تتنافى مع "الإنسانية".

أين تطبيق مفاهيم "الإنسانية" على السود في أمريكا؟ وعلى أصحاب البلاد الأصليين في جنوب أفريقية؟.

أين تطبيق مفاهيم "الإنسانية" على الأكثرية المسلمة في الحبشة وأريتريا؟. وعلى الأقلية المسلمة في الفلبين؟ . وفي الهند؟ وعلى المسلمين وغيرهم في الاتحاد السوفياتي؟ وعلى جماهير المسلمين المطالبين بحقوقهم في أفغانستان والجيش الروسي يدمّر مدنه وقراه، ويقتل الرجال والنساء والأطفال بوحشية قذرة؟.

أين تطبيق اليهود لمفاهيم "الإنسانية" على الفلسطينيين الذين سلبوا أرضهم وديارهم ويحاولون إبادتهم إبادة كلية، أو تطريدهم وتشريدهم.

لم لا يتحرّك ضمير دعاة "الإنسانية" للمطالبة بحقوق الإنسان في طول الأرض وعرضها، إلا حينما يكون المسلمون هم أصحاب الحقّ والسيادة والسلطان.

إن شعار "الإنسانية" شعار خداع، يرفع حيناً ضد بعض الناس، ويُطوى في سائر الأحيان.

* * *

ص: 285