الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الثامِن
أوجسْت كونتْ
وَدين الإنسَانيّة
(1)
من هو "كونت"؟
هو "أوجست كونت" فيلسوف فرنسي، عاش ما بين عامي (1798م و1857م) . وُلد في مدينة "مونبلييه" الفرنسية، في أُسرة مسيحية شديدة التعلق بالكاثوليكية، رقيقة الحال.
ولما بلغ سنّ الرابعة عشرة من عمره نبذ الإيمان بمبادئ الدين. كان تلميذاً ممتازاً في الرياضيات، فالتحق بمدرسة الهندسة بباريس، في السادسة عشرة من عمره، ولم يواصل دراسته فيها لظروف سياسية.
عكف على دراسة كتب الفلسفة، معتمداً على قراءته الخاصة لا سيما كتب "هيوم" و"دي مستر" و"دي بونالد".
في سنة "1819م" تعرّف على الكاتب الفرنسي الشهير "سان سيمون" وهو من رواد المذهب الاشتراكي في القرن التاسع عشر، واتفقا على الاشتغال معاً بالعلم والسياسة، أما "سان سيمون" فقد كان شغوفاً بالسياسة وذا بصر نافذ فيها، وأما "أوجست كونت" فقد كان شغوفاً بالعلم، وغير مهتم
بالأمور السياسية، واعتبر "كونت" صديقه "سان سيمون" بمثابة أستاذ له، فقد كان كاتباً له ومعاوناً حتى سنة "1822م".
ثمّ افترق "أوجست كونت" عن أستاذه، نظراً إلى أنه كان يختلف معه في الاتجاه. وانصرف للتأليف، وبدأ بتحرير موسوعة العلوم الواقعيّة، وإلقاء المحاضرات فيها سنة "1826م" فأقبل على الاستماع إليه جمهور من العلماء.
وبعد أن ألقى ثلاثة محاضرات انتابته أزمة عقلية، فعُنِيَتْ بِهِ زَوجته، حتى عاد إليه اتزانه العقلي، فاستأنف محاضراته في سنة "1829م".
ثمّ تعرض لأزمة عقلية أخرى كان من أسبابها هيامه بسيدة تعرَّف عليها سنة "1844" وتوفيت بعد سنتين، فأخذ منها مثال الإنسانية، وكان يتوجه لها بالفكر والصلاة كل يوم، وكانت "شيطانه" الذي يحرّك هواجسه أثناء تحريره كتابه "مذهب في السياسة الواقعية".
ولم يطل به العهد بعد ذلك إذ وافته منيته سنة "1857م".
* * *
(2)
مؤلفاته
1-
رأى أن الشرط الأول للنجاح هو إعادة وحدة الاعتقاد إلى العقول، كما كان الحال في العصر الوسيط، ولكن عن طريق العلم لا عن طريق الدين، فكتب كتاباً حول هذا المعنى نشره سنة "1822م" بعنوان:"مشروع الأعمال العلمية الضرورية لإعادة تنظيم المجتمع".
2-
ثمّ نشر كتاباً بعنوان: "السياسة الواقعية" سنة "1824م" أبان فيه أن فلسفة القرن الثامن عشر القائمة على حرية الرأي وسلطة الشعب، فلسفة مفيدة في النقد والهدم، لكنها عقيمة في الإنشاء.
3-
وأخرج في سنة "1825م" كتاباً بعنوان: "أقوال فلسفية في العلم والعلماء".
4-
وأخرج في سنة "1826م" كتاباً بعنوان: "ملاحظات على السلطة الروحية الجديدة".
5-
وأخرج كتاباً في مبادئ علم الهندسة ذي الأبعاد الثلاثة.
6-
وأخرج رسالة فلسفية في علم الفلك الشعبي.
7-
وأخرج كتاباً بعنوان: "كلام عن مجمل الفلسفة الوضعية"، اختصر فيه فلسفته.
8-
وأخرج كتاباً بعنوان: "أقيسة الفلسفة الوضعية السياسية" في أربعة أجزاء، بحث فيه ما أسماه ديانة الإنسانية.
9-
وأنفق عشر سنين من عمره من سنة "1832-1842م" حتى أخرج كتابه الكبير: "دروس الفلسفة الواقعية" في ستة مجلدات، عرض فيه وقائع العلوم، وقوانينها ومناهجها عرضاً منظماً، وهذا أكبر كتبه.
10-
وأخرج كتاباً بعنوان: "مذهب في السياسة الواقعية" أو "كتاب في علم الاجتماع" الذي وضع فيه ديانة الإنسانية، نشر سنة "1854م" في أربع مجلدات. واختصره في كتاب "التعليم الديني الواقعي".
* * *
(3)
لمحة عن أسس فلسفته العامّة
(1)
تولَّى "أوجست كونت" زعامة الفلسفة الواقعية التي لا تؤمن بما لم تثبته العلوم التجريبية، وتزعم أن الفكر الإنساني لا يُدرك سوى الظواهر المدركة بالحس، والوقائع التي تثبتها التجربة، وما بينها من علاقات، أو قوانين.
لذلك أهمل "كونت" كل بحثٍ في العلل والغايات، وكل تفكير في الأسباب التي نتجت عنها مسبباتها، المدركة بالحس مباشرة، أو عن طريق العلوم التجريبية، وعلّق كلَّ ثقته وإيمانه بنتائج العلوم الطبيعية الحديثة.
* * *
(2)
زعم أن العقل البشري مر منذ تاريخه الأول حتى عصر العلوم التجريبية بحالات ثلاث:
الحالة الأولى: هي ما أسماها "الحالة اللاهوتية" التي كان دأْبُ العقل الإنساني فيها البحث عن كُنه الكائنات، وأصلها، ومصيرها، مُحاولاً إرجاع كل طائفةٍ من الظواهر إلى مبدأٍ مشتركٍ بعلل.
زعم أن هذه "الحالة اللاهوتية" تدرجت وفق ثلاث درجات:
(أ) أما الدرجة الأولى التي كانت في بَدءِ التصوّرات العقلية فيه "الفَتَشِيَّة -أو- الفِيتْشِيَّة".
وهي الإيمان بالأفتاش مفردها "فَتَش" وتُسمَّى أيضاً الْبُدُود، مُفْرَدُها "بُدّ" وعرَّفتها المعاجم بأنها الشياء التي كانت الشعوب البدائية تعتبر أن لها قدرةً سحرية، أو قدرةً غيبية غيرَ مدركة بالحواس، على حماية صاحبها، أو مساعدته.
أقول: إذن فهي كالأصنام والتمائم والأشياء الوثنية من حجارة وغيرها مما يؤمن أهل الأوثان بتأثيراتها الغيبية.
فالفَتَشِيَّةُ على هذا هي الإيمان بالأفتاش والأصنام وأشباهها، والتقرّبُ لها بالعبادة.
والعقيدة الفَتَشِيَُّ (أو الوثنية بالتعبير العربي) تَعْتَبِرُ أَفْتاشَهَا (أي: أوثانها على اخلاتف أشكالها وأنواعها) التي تَعْبُدُها كائناتٍ ماديةً من الطبيعة ذاتَ
حياةٍ روحيةٍ شبيهة بحياة الإنسان، فهي بها تحمي وتساعد، إلا أنَّ حياتها هذه لا تُدْرك للناس، فهي من الأمور الغيبية.
(ب) وأما الدرجة الثانية التي تطوَّر إليها العقل البشري في الحالة اللاهوتية فهي تعدّد الآلهة.
وفي حالة تعدّد الآلهة تَصَوَّر العقلُ التَّصَرُّفات في الظواهر الكونية على أنها آثارٌ لموجوداتٍ غير منظورة، وأن هذه الموجودات ذاتُ عَالَمٍ علوي.
والعقل في هذه الحالة يَجْعَلُ هذه الآلهة التي تَصَوَّرَها عِللاً وأسباباً خارجةً عن الكون ومفارقًة له.
(ج) وأما الدرجة الثالثة التي تطوّر إليها العقل البشري في الحالة اللاهوتية فهي التوحيد، أي: جمع الآلهة المتعدِّدة في إله واحدٍ مفارقٍ لكل الظواهر المادية الطبيعية.
وزعم "أوجست كونت" أن حالة التوحيد هذه قد اتسعت فيها الشُقَّة وازداد التضاد بين الأشياء الكونية وبين المبدأ الذي هو الأصل، والذي صدرت عنه الأشياء، والذي يُفَسَّرُ بِه وُجُودُها، وتُفَسَّرُ بِه ما يَحْدُث فيها من تَغَيُّرات، إذِ الإله الواحد هو العلّة الوحيدة المفارقة للأشياء الكونية.
وزعم "كونت" أن الحالة اللاهوتية قد بَلَغَت قِمَّتَها في المسيحيّة الكاثوليكية، التي تُعلِّلُ بها أو تُفَسِّر به وُجُودُها، وتُفَسَّرُ به ما يَحْدُثُ فيها من تَغَيُّرات، إذِ الإله الواحد هو العلة الوحيدة المفارقة للأشياء الكونية.
وزعم "كُونْت" أن الحالة اللاهوتية قد بَلَغَتْ قِمَّتها في المسيحية الكاثوليكية، التي تُعلِّلُ بها أو تُفَسَّرُ كلُّ الظواهر الطبيعية الفائقة، إذ تَجْعَلُها آثاراً لشيءٍ واحد، يتمثل بفكرة إلهٍ واحد، يُدبّر كلَّ شيءٍ بإرادته، ويتصرَّف فيه بقدرته.
وزعم "كونت" أن الحالة اللاهوتية ذاتُ خصائص نظريةٍ وعملية:
o فمن خصائصها النظرية:
(1)
أن موضوعها مطلق..
(2)
وأن تفسيراتها للظواهر الطبيعية فائقة..
(3)
وأن منهاجها خيالي.
* ومن خصائصها العملية أنها ذات أساسٍ متين مُشتَرك للحياة الخلقية والاجتماعية في الاجتماع الإنساني.
فهي بسبب ذلك مفيدة ونافعة، فاعترف هنا بفائدة الدِّين القائم على الإيمان بالإله الواحد، من الناحية العملية.
* * *
الحالة الثانية: التي مرَّ بها العقل البشري في تَطَوُّره، هي ما أسماه:"الحالة الميتافيزيقية".
وزعم "كونت" أن العقل البشري في هذه الحالة صرَف عن تصوُّره العِلَلَ المتعدِّدة وكذلك العلّة الواحدة، إذا كانت مفارقة للطبيعة، وجَعَل بدلَ ذلك عِللاً ذاتيَّة توهَّمها موجودةً في باطن الأشياء الطبيعية، من وراء المنظور منها.
وهذه العِلل ليست أكثر من معانٍ مجرَّدةٍ جَسَّمها له الخيال، فقال العقل:"العِلّة الفاعلة - القوة الفاعلة - الجوهر - الماهية - النفس - الحرية - الغاية" ونحو ذلك. واندفع العقل بمقتضى هذا التصوّر إلى أن يعتقد بوجود قُوى متعدّدة في بواطن الأشياء، من وراء المشهود منها، بعدد أقسام الظواهر الطبيعيّة وطوائفها، مثل:" القوة الكيميائية - القوة الحيوية " ونحو ذلك.
ثمّ انتقل العقل من تعدّدية هذه القوى إلى توحيدها، في قوّة كليّة أوليَّة واحدة، هي "الطبيعة".
وزعم "كونت" أن هذه "الحالة الميتافيزيقيّة" قد بلغت أوجَها في مذهب "وحدة الوجود" الذي يجمع في "الطبيعة" جميع قوى الميتافيزيقية.
ورأى أن الفرق بين الحالة الثانية هذه وبين الحالة الأولى، هو أنّ المجرّد في الحالة الثانية يحلُّ محلّ المشخّص في الحالة الأولى، وأَنّ الاستدلال الفكري في الحالة الثانية، يحلُّ محلَّ الخيال في الحالة الأولى.
ورأى أن العقل في الحالة الثانية يضعُ "معاني" أو "قُوى" موضع الإرادات المتقلبات، فَيُضْعِف من سلطان القوى المفارقة للأشياء الطبيعية.
ورأى "أوجست كونت" أن الحياة الإنسانية بهذه الحالة الثانية قد تعرضت للانحلال، بانتشار الشك والأنانية، وبلجوء الفرد إلى أن يُقَطّع الروابط التي تربِطُهُ بالمجتمع الإنساني، وإلى أن يُثَقِّف عقله على حساب عاطفته، وأن يتصور الاجتماع البشريّ ناشئاً من التعاقد الاجتماعي الذي يكون بين الأفراد، وأن تقوم الدولة على مبدأ سلطة الشعب، وأن يحكمها القانون.
لقد كان كلّ ذلك باستبعاد فكرة الإله العليم المريد المدبّر القدير المتصرف بالظواهر الكونيّة.
وقد ظهر لكونت أن هذه الحالة لا تصلح للمجتمع البشري، بل هي مفسدة له.
* * *
الحالة الثالثة: التي مرّ بها العقل البشري في تَطَوُّره، هي ما أسماه "كونت":"الحالة الواقعية".
وقد رأى "كونت" أن العقل في هذه الحالة يُدْرِك أن الحصول على معارف مطلقة أمرٌ متعذر غير ممكن، لذلك فهو يقتصر على الاهتمام بأن يَتَعرَّف على الظواهر الكونيّة، ويَبْحَث ليكتشف قوانين هذه الظواهر، ويُرَتِّبَها من الخاص إلى العام.
ورأى أنه في هذه الحالة تَحُلُّ الملاحظة للظواهر الكونية محلّ الخيال
الذي كان في الحالة الأولى، ومحلّ الاستِدلالِ الفكريّ الذي كان في الحالة الثانية، وتأتي التجربة فتدعم الملاحظة أو تعدّلها أو تبدّلها.
وفي هذه الحالة الثالثة يجعل الفكر قوانين الطبيعة (أي: العلاقات المطردة بني الظواهر) بدل العلل والأسباب.
ويأتي العلم التجريبي ليجيب عن سؤال: "كيف؟ " لا ليجيب عن سؤال: "لِمَ؟ ".
أي: كيف حَدَثَتِ الظاهرة، مثل ظاهرة وجود الإنسان؟ ولا يجيب عن سؤال: لِمَ حدثت الظاهرة؟ مثل: لِمَ وُجدَ الإنسان؟. وما هي الغاية التي وُجِد من أجلها؟.
ورأى "كونت" أنَّ هذه الحالة الثالثة الواقعية مختلفة تماماً عن الحالتين الأولى والثانية، في الموضوع، وفي التفسير، وفي المنهج.
ورأى أن هذه الحالة هي التي أفلحت في تكوين العلم، وعلى هذا فيجب أن يحلَّ العلم محلّ الفلسفة، فكلّما أمكن أن تُعالج مسألة ما بالملاحظة والتجربة انتقلت هذه المسألة من الفلسفة إلى العلم، وبذلك يُعتبَرُ حلُّها حلاًّ نهائياً.
وزعم أن المسائل التي تقع خارج نطاق العلم ودوائر ملاحظته، وتجربته، هي أمور غير قابلة للحل.
ورأى أن هذه الحالة الثالثة تمتاز عن الحالتين الأولى والثانية بأثرها في قيام علم الاجتماع.
* * *
(4)
وفي نظرة كلّيّة جامعة لهذه الحالات الثلاثة، رأى "أوجست كونت" أنها حالات متنافرة فيما بينها، وأنَّها تتعاقب في كل إنسان:
o ففي طفولته الفكرية، يقنع بالتفسيرات اللاهوتية بسهولة.
o وفي شبابه يحاول اكتشاف عِلَلٍ ذاتيةٍ في الأشياء.
o وفي سن النضج يميل غالباً إلى اعتماد الواقع، واستبعاد العِلَل والغايات.
ورأى أيضاً أنه رغم التنافر بين هذه الحالات الثلاث، فإن الإنسان الواحد قد يجمع بينها في وقت واحد، فيقبل تفسيرات لاهوتية، أو تفسيرات ميتافيزيقية في بعض الموضوعات، مع قبوله العلم الواقعي في موضوعات أخرى هل على وجه العموم أقلّ تعقيداً.
كما أن هذه الحالات الثلاث قد تجتمع في مختلف الأفراد، وفي مختلف الشعوب في الزمن الواحد من العصر الواحد.
* * *
(4)
وانتهى الرأي لدى "أوجست كونت" إلى إثبات أن اللاهوت ينجم أولاً، ثمّ تظهر الميتافيزيقيا فتعارضه، وأخيراً يولد العلم الواقعي (أي: العلم القائم على الملاحظة والتجربة) الذي هو وحده القادر على البقاء، لأن الحالتين السابقتين حالتان قائمتان على الخيال، وبسبب ذلك كانتا دائماً مَبْعَثَ ظنونٍ جديدة، ومناقشات جديدة.
بينما يقوم العلم التجريبي مستنداً إلى الواقع، فيجمع العقول على وحدة الرأي، ويحلُّ محلَّهُما تِلقائيّاً، إذ تسقطان من أنفسهما.
* * *
(5)
وأضاف "كونت" أن التجربة ستبقى محدودة دائماً بالنسبة إلى الظواهر الطبيعية التي لا يستطيع حصرها، لذلك فإن كثيراً من هذه الظواهر ستبقى خارج علومنا.
وبما أن الظواهر متباينة، فإن من المتعذر علينا أن نرُد العلوم بعضها إلى بعض، وكذلك من المتعذر أن نَرُدَّ القوانين إلى قانون واحد، لذلك فلا يمكن أن تنتهي الحالة الواقعية إلى وحدة مطلقة، مثل "الله" في الحالة اللاهوتية، ومثل "الطبيعية" في الحالة الميتافيزيقية.
فالفلسفة الواقعية هي جملة القوانين المكتسبة فعلاً بالتجربة، وليست هي كل قوانين الوجود.
غير أننا إذا لم نستطع البلوغ إلى وحدة موضوعية فبوسعنا أن نبلُغ إلى وحدة ذاتية تقوم على تطبيق منهجٍ واحدٍ بعينه في جميع ميادين المعرفة، فننتهي إلى تجانس النظريات وتوافقها، ومن ثمّ ننتهي إلى علم واحد.
فالمنهج الواقعي يحقق الوحدة في عقل الفرد، ويحقق الوحدة بين عقول الأفراد، وهكذا تصير الفلسفة الواقعية هي الأساس العقلي للاجتماع.
* * *
(6)
وتوصل "كونت" بعد رحلته الفلسفية التي استخرج بها عقد آرائه، ونظم حياته بطريقة متسلسلة من وجهة نظره، إلى أن المقابل الوحيد الممكن لمعنى (الله) ولمعنى (الطبيعة) هو (الإنسانية) فرأى أن يُؤلِّه الإنسانية، ويدعوَ إلى عبادتها.
ونظر إلى العلوم الواقعية فظهر له منها ستَّة علوم أساسية مكتسبة بالاستقراء، وهي مرتبة كما يلي من أكثرها بساطة وكليّة، إلى أقلها بساطةً وكلية، وأكثرها تركيباً وتعقيداً:
1-
علم الرياضيات: فهو أقل العلوم تعقيداً وتركيباً وأكثرها بساطة وكلية.
2-
فعلم الفلك.
3-
فعلم الطبيعة.
4-
فعلم الكيمياء.
5-
فعلم الحياة.
6-
فعلم الاجتماع الإنساني، وهو أكثر العلوم تركيباً، وأقلها كلية.
* * *
(4)
دين الإنسانية عند "كونت"
(1)
لم يظهر لدى "أوجست كونت" أن الكون يُهَيمِن عليه ربٌّ خالق مُدبِّر خَلَق الإنسان لِيَبْلُوهُ، في رحلةِ الحياة الدنيا، ثمّ ليُحَاسِبَهُ ويُجازيَهُ بالثواب أو بالعقاب إذْ يُعِيده إلى الحياة بعد الموت، في يوم آخر أبديٍّ غير يوم الحياة الدنيا القصير الذي ينتهي بالنسبة إلى الفرد بأجله المرسوم المعلوم للرب الخالق، والمبين للموكلين به من ملائكته، وينتَهي بالنسبَةِ إلى جميع هذه الحياة الدنيا بقيام الساعة ذات الأجل المرسوم المعلوم للرب الخالق فقط، إذ لم يُطلع عليه أحداً من خلقه.
لكنه رأى أن الدين نافعٌ لحياة الإنسانية وتقدُّمها، بما فيه من توحيدٍ للمبدأ والغاية، وبما فيه من استغلالِ العاطفة لخيرِ المجتمع الإنساني، وصيانته من الانحلال والأنانية والفساد.
فرأى أن يخترع ديناً يجعل فيه "الإنسانية" هي الجهة المقصودة بكل الأعمال الدينية التي رأى أنها تجمع بين الفضيلة والتأملات الفكرية والتوجهات النفسية العاطية، لتكون فكرة "الإنسانية" بدل الرب الخالق، الذي زَعَمهُ قِمَّة الحالة الثانية من الحالات التي مرَّ بها العقل البشري في أطواره.
وحين بدا له أن يخترع هذا الدين رأى أن تُوَجَّه العبادةُ بالفكر، والعاطفة والعمل، لمحبَّة الإنسانية وخيرها، وتقدُّمِها الارتقائي.
* * *
(2)
وضع "كونت" العقل في المرتبة الأولى من جهة المسؤولية، وجعله مسؤولاً عن اكتشاف قوانين الوجود، والتأثير في العاطفة، لتنجُمَ عنها الأخلاق النافعة للمجتمع الإنساني والمؤسسات الاجتماعية.
فقيمة العقل عنده تنحصر في نتائجه العملية، وهذه النتائج تتوقف على الظروف الخارجية كما رأى.
لكنه لما رأى العاطفة هي التي تمنح الرضى الباطني المباشر، ظهر له أن يقدم العاطفة، فيضعها في المرتبة الأولى من جهة القيمة، ويجعلها مسؤولةً عن هداية العقل.
وبذلك انتهى "كونت" إلى مثل الحالة اللاهوتية التي اعتبرها طُُفُولة النوع الإنساني.
وبسبب ذلك كانت تأسِرُه الموسيقى والخيالات الشعرية والفنية.
ورأى أن الإنسان هو قمة الموجودات الخاضعة للملاحظة والتجربة، وأن المجتمع الإنساني هو قمّة ما يَجِبُ توفير الرضى والسعادة له، فانتهى به الأمر إلى أن يجعل فِكرةَ "الإنسانية" أو معنى "الإنسانية" المجرّد بدل (الله) إلهاً واحداً توجّه له العبادة.
* * *
(3)
ورأى "كونت" أن الدين هو الشيء الذي اختص به النوع الإنساني. وأن الدين هو المبدأ الأكبر الموحد لجميع قوى الفرد الواحد من الناس، والموحد لجميع الأفراد من الناس، في مجتمع متماسكٍ متآخٍ متحابب، وذلك بسبب أن الدين يجعل غايةً واحدةً هي الهدف لجميع أفعال القوى في الفرد، ولجميع أفعال أفراد الجماعة.
ولما كان قد رأى أن معنى "الإنسانية" هو أرفع المعاني، بعد أن حذف من تصوره وجود الله عز وجل، وكل كائنات وقوى غيبية غير مدركةٍ بوسائل العلم القائم على الملاحظة والتجربة، وبعد أن قصر كل المعرفة على ما يصل الناس إليه بالحس والتجربة المادية.
ورأى أيضاً أن معنى "الإنسانية" هو الشيء الوحيد الذي يكفُلُ وحدةَ المعرفة لكل الناس، إذ تحصل هذه الوحدة بالنظر إلى العالم من جهة علاقته بالإنسانية.
ورأى أن هذا المعنى واقعيٌّ في تاريخ البشر، فليس يوجد الفرد من الناس في الحاضر إلا بفضل الماضي، ولا يستمدُّ أسباب الحياة المادية والعقلية والخلقية إلا من الإنسانية، التي ورَّثَتْ مواريثَها للأجيال، حتَّى يصحُّ أن يُقَال: إن آثار السابقين من الناس في حياة الموجودين منهم، أكثَرُ من آثار الموجودين منهم، فكأنَّ الأموات بآثارِهم أحياءٌ في المجتمع الإنساني أكثَرُ من الأحياء أنفسهم.
لما تجمعت لدى "أوجست كونت" كل هذه الرؤى ظهر له أن معنى "الإنسانية" المجرد عن المشخصات، هو "الموجود الأعظم" الذي تشارك فيه الموجودات الماضية والحاضرة والمستقبلة، والذي تُسَاهِمُ عن طريقه الموجوداتُ في تقدُّم الناسِ وسعادةِ المجتمع البشري.
فهذا "الموجود الأعظم" وهو معنى "الإنسانية" المجرّد عن المشخّصات، هو المعنى الذي ينبغي التوجُّه له بالعبادة.
وسمَّى "كونت" مفاهيمه هذه "دين الإنسانية".
* * *
(5)
أما العبادة في هذا الدين "دين الإنسانية" الذي اخترعه "أوجست كونت" فهي عبادة تُوَجَّهُ لفكرة "الإنسانية" أو لمعنى "الإنسانية".
ورأى "كونت" أن يضع معالم لهذه العبادة، فقسَّمها إلى:
(أ) عبادة مشتركة.
(ب) عبادة فردية.
* فالعبادة المشتركة تكون في أعيادٍ تذكاريّةٍ تكريماً للمحسنين من الناس إلى "الإنسانية" وهذه الأعياد تُمْلأُ بما يَسُرُّ المشتركين فيها، وبما يُشْعر بالعرفان بالجميل، لهؤلاء الذين أحسنوا إلى "الإنسانية".
وفي خطوة عملية وضع "كونتِ" تقويماً من واقع التاريخ البشري الذي
رآه، ذكر فيه أسماء الرجال الذين امتازوا بالعمل على تقدُّم الإنسانية، مع بيان الأيام والشهور التي تُقام فيها الأعياد لذكراهم وتمجيدهم، وإشاعة الفرح والسرور على الناس بمناسبة ذكراهم.
* والعبادة الفردية تكونُ بأن يتّخذ الفرد الأشخاص الأعزاء عليه، كأبيه وأمه وأستاذه وزعيمه، أو مجموعة من أهله أو عشيرته أو قومه، نماذج للمَثَل الأعلى، فيُكرمَهم، رمزاً لتكريم "الموجود الأعظم" الذي هو "الإنسانية".
* * *
(5)
وبما أن كرامة الفرد من الناس إنما تكون باعتباره جزءاً من "الموجود الأعظم" الذي هو "الإنسانية" فإنه يجب على الفرد أن يُوَجِّه جميع أفكاره وأفعاله لصيانة هذا الموجود الأعظم، وإبلاغه حد الكمال.
وبهذا تنطوي الغيرية (أي: التوجُّهُ بالعمل لغير الأنا) على الواجب الأعظم، وعلى السعادة العظمى.
* * *
(6)
ولئلا تكون العبادة لمعنى "الإنسانية" قضيّة مطلقةً غير محدّدة المعالم، ودون ترتيبٍ ونظام، ولئلا تكون واجبات الفرد العمليّة نحو "الإنسانية" غامضة غير مبيّنة الحدود، فقد رأى "كونت" أن يعهد بتدبير أمرَيِ العبادة والتربية إلى هيئة "إكليريكيّة" أي: هيئة دينية عليا، على مثل الأنظمة الكنسية.
لكن أعضاء هذه الهيئة إنما يكونون مجموعةً مؤلفة من:
o الفلاسفة.
o والشعراء.
o والأطباء.
ومهمة هذه الهيئة العمل على اكتشاف ما يكفل خير "الموجود الأعظم" وهو معنى "الإنسانية".
* * *
(7)
وزعم "أوجست كونت" أن أفكاره هذه مستمدة من الواقع، وأن واقعيته هذه قد تحررت من الأوهام الكنسية القديمة، التي تعتمد على الموجودات الغيبية غير الواقعية.
وبعد تحديده لهذه الواقعية لم يَرَ بأساً من أن يَعُودَ إلى التصوُّرِ القديم الذي كان يُضيف إلى الأشياء المادية نفساً وحياةً، باعتبار أن هذه الإضافة مَصدَرُ قُوَّةٍ للغة وللفن ولكل ما من شأنه أن يُفيد في بقاء "الموجود الأعظم" ونمائه.
* * *
(8)
واستولت فكرة الثالوث النصرانية على ذهن ونفس "أوجست كونت" فرأى أن يخترع لدين الإنسانية الذي اخترعه ثالوثاً آخر غير ثالوث النصارى.
* أما العنصر الأول من ثالوثه فهو "الإنسانية" الذي سماه "الموجود الأعظم".
* وأما العنصر الثاني من ثالوثه فهو الأرض، واعتبرها "الفَتَشَ الأَعظم" أي: الكائن المادي الأعظم، وأثبت له حياةً روحيةً ونفسيةً شبيهةً بحياة الإنسان.
* وأما العنصر الثالث من ثالوثه فهو السماء أو الهواء، وقد سمّاه "الوسط الأعظم" الذي تكونت فيه الأرض، التي هي "الفَتَشُ الأعظم".
* * *
(9)
وجعل "كونت" مجتمعه الذي تخيّله مؤلفاً من أربع طبقات:
الطبقة الأولى: طبقة الفلاسفة مع الشعراء والأطباء، الذي رأى أن تتألف من نخبة منهم الهيئة الدينية العليا، كما سبق بيانه، فهم بمثابة العقل المفكر المدبّر الموجّه في الفرد.
الطبقة الثانية: طبقة النساء اللواتي هنَّ بمثابة أعضاء العاطفة في الفرد.
ورأى أن وظيفتهن في المجتمع الإنساني التي يجب عليهن القيام بها، هي إثارة عواطف الحنان والغيرية الكفيلة باستكمال الإنسان، التي هي "الموجود الأعظم".
الطبقة الثالثة: وتأتي بعد طبقة النساء، وهي طبقة رجال الصناعة والمال، ودورهم في المجتمع الإنساني هو بمثابة دور أعضاء التغذية في الفرد.
الطبقة الرابعة: وأخيراً يأتي في نظره دور العمال الذين هم بمثابة أعضاء الحركة في الفرد.
* * *
(10)
وأخيراً تصور "أوجست كونت" بحسب ما تراءى له في فلسفته ما يلي:
(أ) أن الإنسان قمةُ الواقع، لكنه نظر إليه برؤية عامة اجتماعية جرد منها معنى "الإنسانية" ولم ينظر إليه برؤية فردية، وجعل معنى الإنسانية "الموجود الأعظم".
(ب) ورأى أن الإنسانية "موجود أعظم" ينبغي العمل على تقدُّمهِ وإسعاده.
(ج) وقد وجد أن الأخلاق تخدم الإنسانية، فجعل حماتها العلماء والكهنة.
(د) ووجد أن النظام يخدم الإنسانية، فجعل حماته السلطة الإدارية.
(هـ) ووجد أن العاطفة تخدم الإنسانية، فجعل المرأة هي الراعية لها.
(و) وبدا له أن ينبغي أن تكون السلطة المدبر لشؤون المجتمع الإنساني تدبيراً محكماً، سلطةً روحية، تجمع بين السلطات السياسية، والأمور الطبيعية، ولا توجد سلطة روحية قوية غير سلطة العلماء، الذين يتولون مهمات الحكم بالروح والسياسة استناداً إلى الواجب.
وقد جعل "كونت" شعار هذه السلطة مؤلفاً من ثلاث مبادئ:
o محبة الناس، لأنها واجبة.
o حفظ النظام والأمن، لأنهما أساس المجتمع.
o تيسير السُّبُل لتقدّم المدنيّة، لأنها هدف الإنسانية.
* * *
(5)
أثر آرائه في الناس
شايعه مستجيباً للدين الذي ابتدعه، ونصب نفسه كاهناً أكبر له، أشياعٌ من الذين رفضوا ما دخل النصرانية من تحريفاتٍ في أصل العقيدة الربانية، بالتثليث الخرافي الذي جرهم إليه محرف النصرانية الأول اليهودي "بولس"، وما دخل فيه من بدع وخرافات كنسيّة، وما دخل فيها من آراء حول الظاهرات الكونية مناقضة للحقائق العلمية.
فكان له بعض المشايعين في "فرنسا" و"إنكلترا" و"السويد" و"أمريكا الشمالية" و"أمريكا الجنوبية" وأقاموا لهم معابد، وتَبِعُوا في كل بلد كاهناً ولوه أمور هذا الدين الذي ابتدعه "أوجست كونت".
واتخذوا لهذا الدين شعاراً مثلثاً وضعه "كونت".
الأول: المحبة، باعتبارها مبدأ، وهذا المبدأ مأخوذ من النصرانية.
الثاني: النظام، باعتباره أساساً.
الثالث: التقدم، باعتباره غاية.
* * *
(6)
كشف الزيف
باستطاعة المتفكر الباحث بحثاً تفصيلياً أن يكشف زيْفَ كلّ آرائه التي قدمها في فلسفته، ويكشف تهافتها وسقوطها، باستثناء بعض أفكار جزئية هي من قضايا المعرفة الإنسانية المشتركة، التي لا يخلو من أمثالها كلُّ مذهب باطل.
أمّا مخترعاته التي أراد أن يجعلها أسس الدين الذي ابتدعه فلا تستحق أكثر مما تستحق حكايات القصاصين الخرافيين، الذين يصنعون من الأوهام حكاياتهم.
وبصورة إجمالية أقدم للقارئ الكواشف التالية:
الكاشف الأول: إن "أوجست كونت" قد بهره أولاً العلم القائم على الملاحظة والتجربة، فحصر فيه كل الحقيقة، وانتهى بفلسفته التي سماها "واقعية" إلى ما انتهت إليه الفلسفة المادية البحت، على الرغم من أنه تحفظ بالنسبة إلى الغيبيات الثابتة في المفاهيم الدينية، فهو لم يثبتها ولم ينكرها، وذلك لأنه لم يجد في الأدلة المادية من العلم القائم على الملاحظة والتجربة ما يُقْنِعُه بوجودها، فسكت عنها، ولم يعوّل في أفكاره على شيءٍ منها.
واستبعد عن تصوُّره الأدلّة العقلية البرهانيَّة القواطع، متشبثاً باعتماد ما تَبُثُّه الملاحظة والتجربة العلمية فقط.
ولست أسوقُ هنا أدلة الإيمان بالله لكشف سقوط آراء "كونت" حول الغيبيات، لأنني استوفيت عرضها وتعرية آراء الملحدين في الباب الأول "المادية الإلحادية والماديون" من القسم الثالث من أقسام هذا الكتاب.
وأقول هنا: لقد كان الانبهار بالعلوم التجريبية ومنجزاتها سِمَة كثير من مثقفي القرن الثامن والتاسع عشر في أوروبا والغرب عامة، ولكن هذا الانبهار قد بدأ يتناقص ويأخذ طريقه إلى التلاشي، بعد أن تقدّمت المعرفة
الإنسانية، وظهر في عالم العلم التجريبيّ تعديلات لكثير من المفاهيم التي كانت في تصوّر الناس من الحقائق التي قدّمها هذا العلم.
واضطُرَّ العلم التجريبي إلى أن يُثْبت تعليلاتٍ وتفسيراتٍ وأسباباً غَيْرَ مدركة بوسائله، لأنها ضرورية لاستكمال حلقات المعرفة.
لقد اضطُرَّ العلم التجريبي أن يثبت ألكترونات الذرة مع أن أحداً من العلماء لم يشهدْها بوسائل العلم.
واضطُرَّ العلم التجريبي إلى أن يُثْبت قُوى الجاذبية بين الكُتَل المادّيَّة، مع أن وسائل العلم المادي لم تُدرك غير آثارها، فلا يَعْرِفُ العلم التجريبي عن حقيقتها شيئاً.
إلى غير ذلك من غيبيات اضطُرَّ العلم التجريبي أن يثبتها. وقد بدأ الإيمان بالله عز وجل، وبالغيبيات التي جاء بها الدين، يظهر من جديد، في مخابر العلوم التجريبية، وفي أروقة الجامعات العلمية الغربية الكبرى، على ألسنة كبار العلماء الماديين.
وبدأت رحلة عودة كبار علماء الطبيعة إلى الأخذ بمعارف الدين الصحيح، الخالي من التحريفات البشرية الدخيلة عليه.
وبدأ يؤمن بالإسلام كبارُ أهل الفكر والعلم في مختلف أرجاء العالم، كُلَّما استبصر بحقائقه منهم باحثٌ متأمّل منصف، يخشى عاقبة عدم استجابته للحق الذي بعث الله به رُسُله.
* * *
الكاشف الثاني: أبْعَدَ "أوجست كونت" عن تصوُّره قضيَّةَ الإيمان بالرب الخالق، لأنه من الغيبيات التي لا تثبتها العلوم التجريبية المادية، ورفض النظر إلى الأدلة العقلية البرهانية، ورفض تصديقَ الأخبار الدينية التي جاء بها رُسُل الله المؤيَّدون منه بالآيات البيِّنات، من خوارق أنظمة الطبيعة وقوانينها الثابتة.
واعتبر قضية الإيمان بالله ومَا أعدَّ لِمَنْ وَضعهم في الحياة الدنيا موضع الابتلاء، من جزاء بالثواب أو بالعقاب على حسب إيمانهم أو كفرهم، وعلى حسب أعمالهم في طاعته أو معصيته، ينالونه بعد أن يبعثهم إلى الحياة الأخرى حياة البقاء والخلود، اعتبر هذه القضية كأنها قضية لا تتعلق به، ولا بالمجتمع الإنساني الذي كان حريصاً على سعادته وتقدُّمه، وغيوراً على محبته، وحفظ النظام والأمن له.
وجازف بتعريض نفسه وتعريض الذين يستجيبون لآرائه للعقاب الأبدي في الدار التي أعدَّها الله للكفار والعصاة الرافضين أن يُسلموا له ويطيعوه في أوامره ونواهيه، وهي جهنّم ذات النار الحامية ن لمجرّد توهُّمه أن الإيمان بعالم الغيب لم ترق عنده إلى مثل المشاهدات الحسية، وما قدمته الملاحظة والتجربة في العلم الإنساني المادي.
ثمّ ادعى حالاته الثلاثة التي زعم أن العقل البشري قد مر بها حول قضية تفسير الظواهر الطبيعية، دون أن يكون لما قدم في هذا الادعاء دليلٌ من العقل، أو من التجربة العلمية، أو من الملاحظة، واكتفى بأن يستند إلى الوهم والخيال.
إذ ليس لدى العلوم التجريبية دليلٌ ما على حالاته، كما أنه ليس لدى العقل دليلٌ ما عليها.
فمن عجيب الأمر أن يرفض اليقين العقلي، ويرفض تصديق أخبار المؤيدين بالمعجزات الخارقات لقوانين الطبيعة، ثمّ يقدم بدائل من تصوراتٍ تخيلها أو توهمها دون أن تقترن بدليل من العلم التجريبي الذي اعتمده فقط، أو من منطق الفكر السليم.
ونلاحظ أنه قرّر تَسَلْسُلاً للحالات التي ذكرها مخالفاً لواقع حال التاريخ الإنساني، منذ بدء وجود الإنسان على سطح الأرض.
فقد أثبتت كلُّ المعارف الدينية المتوارثة في أمم الأرض، أن آدم أبا البشر قد تلقَّ عن الله تعاليم الدين الحقّ، وأنه علّم ذُرّيّتَهُ أصول هذا
الدين القائم على الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى الدعوة إلى مكارم الأخلاق الفردية والاجتماعية، وعبادة الله وحده لا شريك له، والالتزام بالحق والواجب، وإقامة العدل.
ثمّ دخلت الوثنيات والانحرافات إلى شعوب الأرض، بتأثير المضلين من شياطين الإنس والجن، وبتأثير اتّباع الناس لأهوائهم وشهواتهم وغرائزهم، التي تضبطها أوامر الدين ونواهيه.
وكان لهذه الوثيات والانحرافات عن أصول الدين مظاهر كثيرة، منها تأليه الماديات التي اتُّخذت منها أوثان. ومنها تأليهُ المبادئ المعنوية التجريدية، ومنها تعدُّدُ الآلهة، ثمّ ظهر تأليه الطبيعة، من قبل بعض المفتونين بالعلوم المادية الطبيعية. ثمّ جاء "كونت" ليقترح على الناس تأليه معنى "الإنسانية" بدلاً عن الله، رغبة في إسعاد المجتمع الإنساني الذي كان مهتماً بإسعاده والارتقاء به في معارج المدنية.
إن آثار الأولين، وأحوال الشعوب البدائية جداً، كما سبق بيانه حول بعض القبائل الأسترالية، لدى كشف الزيف في آراء "دوركايم" تشهد بأن الدين الحق قد كان هو الأول في تاريخ البشرية، ثمّ انحرف الناس عنه، وهذا ما بينه الله في القرآن المجيد، بقوله عز وجل في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
أي: كان الناس أُمَّةً واحدة على الدين الحق المنزل من عند الله، والذي بلغهم إياه آدم أولاً، ثمّ أنبياء الله ورُسُله من بعده، حتى آخرهم محمد بن عبد الله، عليهم الصلاة والسلام.
فلمّا اختلف الناس عن هذا الدين الحق بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، ليردُّوهم عن ضلالاتهم وانحرافاتهم إليه.
ومن الملاحظ في تاريخ الأديان ذات الأصول الصحيحة، أن تعاليم الدين تكون في قمة التوحيد والتزام الحق والعدل، والدعوة إلى الكمالات والفضائل، إبَّانَ عُهود الرُّسُل، ثمّ يبدأ التحريف والتغيير بعد أزمانهم، إلى الوثنيات والانحرافات المختلفات، كلما بعد عهد الناس عن زمن بعثة الرسول فيهم.
* * *
الكاشف الثالث: لا نجد في فلسفة "أوجست كونت" إلا ادعاءات خرافية، لا دليل عليها من العقل، ولا من الملاحظة، ولا من وثائق التاريخ البشري، ولا من تجارب العلوم المادية التي بَهَرَتْهُ وتشبَّثَ بما تُقَدِّمه.
فواقعيته التي ادعاها واقعيةٌ خيالية وهمية، لقد قدم مقدماته عن واقعية العلوم التجريبية، وزعم أن سيَبْني أفكاره معتمداً عليها، ثمّ قدّم أفكاراً وآراءً من عنده لا تستند إلى واقعية العلوم التجريبية مطلقاً، بل جاء بتصورات وهمية، لموجود خيالي، سمّاه "الموجود الأعظم" وأضاف إلى الأرض التي نعيش عليها نفساً وحياةً، وجَعَلَها "فَتَشاً" كأفتاش البدائيين الخرافيين، ووثناً كأوثانهم، وجعل السماء أو الهواء "الوسط الأعظم" الذي يسبح فيه مقدَّساهُ الأعظمان "الإنسانية" و"الأرض" ولم يستطع أن يفلت من فكرة الثالوث النصرانية.
فآراؤه كما هو ظاهر تخيُّلاتٌ وتوهُّماتٌ، لا دليل عليها من علم تجريبي، ولا من واقعية مادية، ولا من دليل عقلي، ومع كل هذا ادعى الواقعية لآرائه.
أليس هذا تناقضاً مع الذات؟
إن فلسفته فلسفَةٌ متناقضةٌ متساقطة، ظاهرة الفساد لكل ذي نظر.
* * *
الكاشف الرابع: إن الدين الذي اخترعه "أوجست كونت" وسماه "ديانة الإنسانية" دينٌ خرافيٌ ترفُضه واقعيّةُ المجتمع البشري ولا تتقبله، بشهادة الواقع في دول العالم الغربي الذي أُعجب بفلسفته، وبعد أن اندفع لِتَقَبُّلِ دينه بعض الناس، رأوا بالتجربة الواقعية أنه دين تافه، فتلاشى هذا الاندفاع، وانطوت دعوته في الأحافير.
إن باستطاعة أي إنسان ذي خيالٍ يجول في أوهام التصورات أن يصنع ويَخترِع ديناً أفضل وأتقن من دينه لسعادة الناس وتقدُّمهم، وأن يضع له برنامج عمل أفضل وأتقَنَ من برنامجه، ونجد عند المصابين بلوثات في عقولهم أشباه هذه المخترعات وأكثر منها.
ولكن أين يكون الواقع الحقُّ الذي يرتبط به مصير الناس؟! وكيف تكون النتائج الوخيمة بترك الحق وابتداعِ صُوَرٍ من الباطل؟!
ليست المشكلة في أن نخترع ونبتدع، ولكن المشكلة في أن نهتدي إلى الحق الذي ترتبط به المصلحة والسعادة، لا سيما إذا كان الأمْرُ يتعلّق بمصير أبديٍّ خالد، مقرونٍ بنعيم، أو عذاب أليم.