الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الأوّل
الخطّة العَامّة
(1)
مقدمة:
لا بد لكل عمل ذي هدف يرمي العاملون إليه، وذي غاية يسعون لتحقيقها، من خطة ملائمة، حتى يصيب العمل هدفه، ويحقق أكبر قدر ممكن من الغاية التي يسعى إليها أصحاب العمل، ولو كانت هذه الغاية شراً محضاً لا خير فيه.
بذلك تقضي سنن الله التكوينية، وقوانينه الثابتة في هذا العالم المشهود، المسخّر للناس لابتلائهم في ظروف هذه الحياة الدنيا، سواء منهم من آمن بالله أو كفر به، أراد خيراً أو أراد شراً.
فلجند الله ودعاة الخير والهداية وسائلهم التي يحققون بها أهدافهم، وتمدهم المقادير الربانية بمعونات إضافية يُضاعف الله لهم بها من قدرات وسائلهم، ويحقق لهم بها نتائج مضاعفة مما يحبون من مطالب معجلة في الحياة الدنيا، ويدخر لهم ثواباً عظيماً ينالونه يوم الدين.
وللشياطين ودعاة الشر والضلال وسائلهم التي يحققون بها أهدافهم. ولا تقف المقادير الربّانية معطلة وسائلهم وأسبابهم، إلا في أحوال نادرة، معونة لجند الله، ودعاة الحق الصادقين المجاهدين العاملين بأحكام شريعته لهم.
أو حينما يقضي الله بإنزال عقابه المعجل على الطغاة البغاة المفسدين
في الأرض، ساعتئذٍ تتعطل وسائلهم، وتتقطع أسبابهم، ولا تغني عنهم شيئاً.
والوسائل والأسباب تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1-
فمنها ما هو حيادي تجاه الخير والشر، وصالح لأن يستخدم في الخير، ولأن يستخدم في الشر.
وهذا القسم من الوسائل والأسباب، يشترك في استخدامه أهل الخير وأهل الشر. أما أهل الخير فيستخدمونه في الخير، وأما أهل الشر فيستخدمونه في الشر.
2 -
ومنها ما هو شر في ذاته، أو لم يأذن الله باستخدامه، لأنه مما حرمه على عباده.
وهذا القسم من الوسائل والأسباب، يستخدمه الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. أما المؤمنون المسلمون فلا يستخدمونه، بل يجتنبنه طاعة لله، والتزاماً بشريعته لعباده.
3 -
ومنها ما هو خير في ذاته، أو أمر الله باستخدامه.
وهذا القسم من الوسائل والأسباب من خصائص المؤمنين المسلمين.
وقد يستخدم الشياطين وجنودهم بعض عناصر هذا القسم خداعاً ونفاقاً، ضمن خطوات مرحلية.
(2)
تفصيل الخطة العامة:
اتخذ الغزو بالمذاهب الفكرية المعاصرة خطة حركية بالغة المكر، كثيرة الدهاء.
وباستطاعة الباحث أن يتلمس كثيراً من عناصر هذه الخطة الحركية، من خلال ملاحظة أعمال الغزاة.
وفيما يلي تفصيل لعناصر هذه الخطة:
العنصر الأول:
اصطناع المناخ المناسب: لقد عرف الغزاة، أن وجود المناخ المناسب لنشأة المذاهب الغازية وانتشارها أمرٌ مساعد جداً على تحقيق الأهداف التي يرمون إليها، فعملوا بمختلف الوسائل والأسباب، لاصطناع المناخ المناسب لانتشار مذاهبهم الغازية، داخل الشعوب التي وضعوها هدفاً لغزوهم، وفي مقدمة هذه الشعوب شعوب الأمة الإسلامية، لأنها بمقتضى مواريثها الدينية أكثر الشعوب استعصاءً، وكشفاً لزيوف الأفكار والمذاهب الغازية.
من أجل ذلك حظيت قضية إيجاد المناخ المناسب لانتشار أفكار الغزاة في شعوب الأمة الإسلامية بعناية كبرى، من قِبَلِ أعداء الإسلام والمسلمين، مهما اختلفت اتجاهاتهم، وتباينت أغراضهم، وتصارعت مذاهبهم.
إن أعداء الإسلام جميعاً، يوصون عملاءهم وأجراءهم وعناصرهم بالعمل على إيجاد المناخ المناسب لبث أفكارهم ومبادئهم ومذاهبهم، وعرقلة كل تقدم من شأنه أن يفسد عليهم خططهم.
فالمنظمات الدينية المسيحية التبشيرية والاستشراقية، قد تحارب قضية الإيمان بالله واليوم الآخر، وتعمل على نشر الأفكار الإلحادية والمادية المتطرفة، وأفكار المذهب الوجودي، بين أبناء المسلمين وبناتهم، بقصد هدم الإسلام عدوها الأكبر، زاعمين أن ذلك هو التمهيد المناسب لنشر النصرانية بعدئذٍ، فإزاحة الإسلام بالفكر المادي الإلحادي، أو بأي مذهب مناقض لكل دين، سيُهيّء المناخ المناسب لتقبُّل دعوة المبشرين بالنصرانية بين أبناء المسلمين الذين ألحدوا.
وعلى سبيل المكر قد يتظاهر بعض المسيحيين بالإلحاد والاستهانة
بكل دين، وهم سراً ملتزمون بالمسيحية التزاماً شديداً، ومتعصبون لها، ومرتبطون بقادتهم الدينيين.
وكذلك يفعل ناشرو الإلحاد من اليهود، بغية استدراج أبناء المسلمين وبناتهم للإلحاد والاستهانة بالدين الإسلامي، لكن لا لتهويدهم، إنما لربطهم وهم ملحدون بالمنظمات اليهودية، أو التي يديرها ويستغلها اليهود وقادتهم المقنعون، أو المختبئون وراء السُتُر.
والمنظمات الاشتراكية والشيوعية، تحارب تطبيق نظام الإسلام في البلاد التي تريد أن تغزوها بأفكارها ومذاهبها، رغم ما فيه من عدالة اجتماعية، وإسعاد للطبقة الكادحة، من الفلاحين والعمال والحرفيين والشغيلة، لأن تطبيق نظام الإسلام في الاقتصاد على وجهه الصحيح، يحقق العدالة والرفاهية للجميع، فيمنع تسلل أفكار الاشتراكية والشيوعية المخالفة له.
من أجل ذلك، فهي تدعم من وراء الأستار التطبيقات الرأسمالية بكل ما أوتيت من قوة، ليكون ذلك مناخاً مناسباً لإقامة الصراع الطبقي، ولتتأثر الجماهير الكادحة بالأفكار الاشتراكية، حتى تفجر عوامل ثورتها بعد شحنها بأنواع الحقد والحسد والرغبة بالانتقام، وتشتعل نيران الثورة المدمرة. وقد تدعم نظاماً يطبق الرأسمالية في الواقع، ويحمل اسم نظام الإسلام في الشعار الظاهر، لتضرب الرأسمالية والإسلام معاً، مستغلة موجبا إقامة الثورة في الواقع الفاسد.
والمنظمات والمؤسسات والدول الرأسمالية في العالم تحارب أيضاً تطبيق نظام الإسلام في الاقتصاد على وجهه الصحيح، في البلاد التي تريد أن تغزوها بأفكارها ومذاهبها، وتريد استغلالها، لأن تطبيق هذا النظام تطبيقاً صحيحاً، يمنع تسلل أفكار الرأسمالية، والتطبيقات الرأسمالية، ويُحصِّن البلاد الإسلامية من الغزو الاستعماري.
وقد يجد الغزاة الرأسماليون أن مصلحتهم تقضي بأن يدعموا سراً
نظاماً اشتراكياً أو شيوعياً، أو يدفعوا عملاءهم وأجراءهم لتطبيق نظام اشتراكي أو شيوعي، ويكون لهم بذلك هدفان:
الأول: محاربة الإسلام وتطبيقاته.
الثاني: التنفير من النظم الاشتراكية والشيوعية، بعد أن ينكشف في الواقع العملي فسادها، ويظهر عدم صلاحيتها بطبيعتها لتحقيق آمال الشعوب، التي فتنت بأفكارها وشعاراتها الخلابة.
* * *
العنصر الثاني:
تسخير أو استغلال مفكرين نابغين، لوضع فلسفة مزخرفة، أو نظام فكري، بغية الإيهام بصحة الفكرة الباطلة التي يراد تزيينها للناس، وجعلها مذهباً اعتقادياً أو عملياً، فردياً أو اجتماعياً، سياسياً أو غير سياسي.
ومن أمثلة ذلك ما يلي:
1-
تسخير "ماركس" و"إنجلز" لوضع فلسفة للشيوعية، ونظام فكري لتطبيق الاشتراكية.
2-
تخسير "فرويد" لوضع أفكار في علم النفس، تدفع الأجيال للإباحة الجنسية، وكسر حدود العفة، وتحطيم ضوابطها، وتبرير الانطلاق الفاحش، بأوهام الصحة النفسية والجسدية.
3-
دَفْعُ "داروين" والداروينية، لوضع ما يسمى بنظرية التطور، وأفكار النشوء والارتقاء الذاتيين، وبذل الجهود المضنية، بحثاً عن أدلة علمية لها، أو أوهام أدلة، لأن هذا المذهب متى استطاع أن يوجد أدلة كافية للإقناع بأفكاره، ولو زوراً وبهتاناً، وخداعاً بزخرف القول، كان سنداً للإلحاد بالله، ولتعليل تطور الكائنات من مادة الكون الأولى، التي لا حياة فيها، ولا وعي، ولا إرادة، ولا أية خصائص نفسية.
4-
تسخير "دوركايم" لوضع أفكار في علم الاجتماع تلغي صلة الدين بعالم الغيب، أو بقوىً وراء المادة وطبيعتها، وتجعله ظاهرة
اجتماعية، وأثراً من آثار ظروف اجتماعية عاشها الإنسان. وتثبت أن الدين من مفرزات العقل الجمعي في المجتمعات البشرية.
5-
تسخير الفيلسوف "نيتشه"، لصياغة أفكار فلسفية، تنكر وجود الخالق عز وجل، وتقدم الإلحاد في ثوب فلسفي مزخرف.
6-
تسخير "جان بول سارتر" لوضع أفكار فلسفية، وجعل "الوجودية" عنواناً لهذه الأفكار، ومن شأن هذه الأفكار إنكار الخالق عز وجل، وإقامة حجاب كثيف بين العقل وموازينه ، وقدرته على الانتقال من أمارات عالم الشهادة إلى حقائق في عالم الغيب، وتعطليه عن كل تفكير في غير ما يأتيه من عالم الحس لحظة فلحظة، مع إفساد موازينه الفطرية التي يستطيع أن يزن بها كثيراً من الحقائق.
7-
تسخير "برجسون" لوضع أفكار فلسفية، يقصد منها الإقناع بأن الدين خرافة ضرورية للحياة، وهو من ابتكارات القدرة التوهمية عند الإنسان، التي تصنع الخرافات خدمة لمسيرة الحياة، ودفاعاً ضد العقل الذي يأتي بالمثبطات وبالمعوقات
…
إلى آخرين كثيرين، عدا المنظمات، وسيأتي بعون الله تفصيل ما قدّم هؤلاء ونظراؤهم، مع كشف زيوف مذاهبهم وآرائهم.
العنصر الثالث:
إعداد الجنود المأجورين أو المخدوعين، ودفعهم بمختلف الوسائل المتاحة لتوجيه الدعاية الواسعة، للفكرة أو المذهب المراد نشرهما وفتنة الناس بهما، واستخدام كل وسائل الإعلام لذلك.
وتسخير واستئجار جملة من الكتب، والأدباء، وأساتذة الجامعات، والمدرسين في مختلف المعاهد العلمية، وكتاب القصص والتمثيليات والمسرحيات، للتمجيد بالفكرة أو المذهب، والإشادة العظيمة بصاحب الفكرة، أو إمام المذهب، والإعلان بأنه صاحب عبقرية فذة، فات فتح في
مجال العلم، أو الفلسفة، أو الإصلاح الاجتماعي، أو الإصلاح الاقتصادي
…
يضاف إلى ذلك دفعُ بعض ذوي المراكز العلمية أو السياسية أو الاجتماعية، لتكريمه في حياته، ومنحه جوائز تقديرية محلية أو عالمية، أو للتمجيد به بعد موته.
ومن وراء كل ذلك يوجّه واضعو مناهج وبرامج التعليم، لوضع أفكارهم أو مذاهبهم ضمن البرامج المقررة في الدراسة، حتى تأخذ صبغة نظريات مقررة نافعة، أو صبغة حقائق علمية ثابتة، وتلبسُ بذلك أثواب زور، ويتعلمها الدارسون ويستظهرونها، ويكدون في تحصيلها، كأنها حقائق لا يرقى إليها الشك.
وبذلك تتم اللعبة على وجهها المرسوم، فإنه متى انتشرت الفكرة في مختلف فئات الناس كان لها مثل تأثير السحر، فيقبلها من الأفراد من كان شاكاً فيها، متردداً في قبولها، أو رافضاً لها.
* * *
العنصر الرابع:
التلبيس: وهو دس الأفكار الباطلة، والمذاهب الفاسدة، ضمن حَشْد أفكار صحيحة، أو مقبولة إجمالاً ولها حظٌّ من النظر الفكري السليم، ولو كانت ظنوناً لم ترق إلى مستوى الحقائق العلمية، فالظنون الراجحة مقبولة في العلوم حتى يأتي ما هو أقوى منها، ولكنّ اللعبة الشيطانية الماكرة تتمثل في مجيء سموم الأفكار الباطلة الضالة مندسة ضمن حشد كبير من أفكار المعارف المقبولة في مناهج البحث العلمي.
وربما يكون عرض الفكرة الباطلة في أواخر عرض الأفكار الأخرى، وبذلك تتسلل الفكرة الباطلة إلى داخل النفس دون أن تجد عيوناً حذرةً تكشفها، وتبصر الزيف الذي يكتنفها ويغطيها.
إن من طبيعة الإنسان أن يستجمع في أوائل الأمور كل ما يملك من
قدرات حذَرٍ لديه، وبها يفحص كل كبيرة وصغيرة فحصاً دقيقاً يقظاً يقظةً واعية تناسب ما لديه من قدرات، حتى إذا طال عليه الأمد في الفحص الحذر اليقظ الواعي، دون أن يعثر على ما فيه من زيف ظاهر، أو باطل مدسوس بقصد، مل من شدة الفحص والمراقبة، وبدأ النعاس يدبّ إلى مراكز المراقبة داخل نفسه، ثمّ تهدأ نفسه، ويذهب عنها التوتر الحذِر، وترتخي أعصابه، ثمّ تبدأ الطمأنينة تتسلل إلى قلبه شيئاً فشيئاً، فإذا اطمأن منح ثقته دون حذر، وقد يصل إلى حالة المستقبلِ الواثق دون نقد ولا اعتراض، ثمّ إلى وضع المستسلم استسلاماً تاماً.
وعندئذٍ تستطيع الأفكار الباطلة المندسة أن تتسلل إلى عمق النفس، وإلى مركز ثوابت الأفكار، دون أن تجد عقبة تصدّها، أو أجهزة تفتيش ومراقبة تكشف زيفها، وتستبين بطلانها، ويردد المستقبل الواثق الأفكار الباطلة دون تحرير ولا مناقشة، ثقة بحصافة كاتبها أو ممليها.
ويستغل المضلون هذه الحيلة الشيطانية استغلالاً واسعاً جداً، فيما يكتبون، وفيما ينشرون، وفيما يعرضون من مقولات وأبحاث، بمختلف وسائل التعليم والإعلام، لتتسلل زيوفهم إلى عمق النفوس، دون أن تستوقفها أجهزة تفتيش أو فحص أو مراقبة، وقد تتحول إلى مفاهيم ثابتة، ثمّ إلى عقائد راسخة، رغم بطلانها.
بهذه الحيلة الشيطانية قد تدخل النقود المزيفة على أمهر صيرفي نقاد، وقد تدخل الأفكار الباطلة على أمهر عالم فحص، فكيف بالذين لا خبرة عندهم، أو تحصيلهم من المعرفة قليل، أو ذهنهم في إدراك الزيف كليل؟؟.
والخطير في عمليات التلبيس أن يكون دس الأفكار الباطلة، والمذاهب الفاسدة، ضمن قواعد العلوم التجريبية أو الوصفية، ويلاحظ أنه غالباً ما تكون الأفكار الباطلة، والمذاهب الفاسدة، المندسة في العلوم التجريبية أو الوصفية، آراءً فلسفية ليس لها دليل تجريبي، ولا دليل حسي، والمكيدة الشيطانية تجعلها إحدى الأسس النظرية التي تدل عليها
الملاحظة، أو تثبتها التجربة، مع أن الملاحظة لا تدل عليها مطلقاً، والتجربات والتطبيقات ترفضها وتدل على خلافها.
إن أي مضلل بفكرة، أو مذهب، أو طريقة باطلة، لا يستطيع التأثير في مجموعة من الناس، ولا يستطيع أن يكون لآرائه الفاسدة مفسدة مسير في الأفكار، ما لم يدس ما يريد التضليل به ضمن مجموعة من الأفكار الصحيحة، والأفكار المقبولة إجمالاً، أو التي لها حظٌّ من النظر، ولو لم تثبت بعدُ صحتها.
إنه بعمله هذا يغطي ويستر الباطل البين الواضح الفساد، إن عرض جملة من الأفكار الصحيحة، والأفكار المقبولة إجمالاً، تجعل أذهان الناس تستسلم وتطمئن لسلامة قصد عارضها أو مقدمها، لا سيما حينما يزينها بزخرف من القول، وينضدها تنضيداً ذكياً، ويرتبها ترتيباً منطقياً.
ثمّ تأتي الأفكار المندسة محاطة من سوابقها ولواحقها بما يسترها، إذ للصحيح وللمقبول من الأفكار ظلال تسمح بمرور الباطل المندس بينها، دون أن نثير الانتباه، ودون أن تكشف الأذهان بطلانه.
وهكذا يُغشّي المبطلون بالدس الماكر وبزخرفٍ من القول زيوفهم الفكرية، فتعبُر أفكارهم المزيفة ضمن ما يعبر إلى أذهان الناس من أفكار أخرى.
ولولا ذلك لاكتشف الناس الباطل بسرعة، ولرفضوه، فالجماهير من الناس ترفض بمنطقها التلقائي ما تراه باطلاً، أو تعتقد بطلانه.
وواجب المسلم الحصيف أن يستجمع كل وعيه، ويفحص كل كبيرة وصغيرة من أفكار الناس وآرائهم ومقولاتهم ومذاهبهم، فإذا لم يكن أهلاً لذلك فعليه أن يسأل أهل العلم والمعرفة والخبرة والتخصص، من أئمة المسلمين الذين يخشون الله واليوم الآخر، وعرفوا بتقواهم وصفاء أفكارهم، وقدرتهم على النقد والفحص وتمييز الحق من الباطل، وكشف زيوف الأفكار والمذاهب.
فالشياطين كثيرون، ومكرهم عظيم، وحيلهم قد تخدع أئمة أولي الألباب.
ويجدر التنبيه على أن الباطل في مجموع البناء الفكري لمذاهب المضلين قد يكون بمثابة الأساس الخفي عن الأنظار، والذي يكون كَشَفا جُرُفٍ هارٍ. وقد يكون بمثابة قضبان من الورق المقوى، مدهونة بلون الحديد، توضع بدل قضبان الحديد في سقف من الاسمنت المسلح. وقد يكون الباطل بمثابة قطرات قاتلات من السم الزعاف، مدسوسة في كأس شراب من الماء والعسل.
وحيلة التلبيس هذه من حيل اليهود وأساليبهم في المكر والتضليل، ولذلك خاطبهم الله عز وجل بقوله في سورة (البقرة/2 مصحف/87 نزول) :
{وَلَا تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
ثمّ خاطبهم أيضاً بقوله عز وجل في سورة (آل عمران/3 مصحف/89 نزول) :
ويجدر التنبيه أيضاً على أن مقاومة الباطل لا تكون بادعاء بطلان كل أجزاء المذهب الذي يضعه المبطلون، أو بطلان كل الأفكار التي يعرضها المبطلون أو يروجونها، ليستغلوها في تحقيق أغراضهم.
إنما تكون مقاومة الباطل بكشف عناصر الباطل الموجودة في المذهب، أو في الآراء المعروضة، وببيان بطلانها.
وحين لا يتيسر للباحث كشف العناصر الباطلة، فينبغي أن لا يزيد على بيان أن المذهب أو جملة الآراء المعروضة لا يجوز الأخذ بها في مجموعها الكلي، بسبب الباطل المندس فيها، والمفسد لها. نظير حكمنا على كأس شراب العسل المسموم بأنه يجب الامتناع عن تناول أي مقدار منه، لأنه قاتل.
لكننا حينما نستطيع التمييز والفصل بين الحق والباطل، في عناصر
المذهب أو جملة الآراء والأفكار المعروضة في نظام فكري يغري بالقبول، فإن اللجوء إلى هذا التمييز والفصل هو الأحق بأن يكون منهجنا، وهو المنهج الذي يتبعه رواد الحق وعشاقه، والباحثون عنه والداعون إليه.
وعلى الباحث وفق هذا المنهج أن يفصل أي موضوع ذي عناصر إلى عناصره ووحداته الجزئية، ثمّ يبحث في كل عنصر منها وفق أصول البحث العلمي، ثمّ يبني حكمه بالاستناد إلى ما وصل إليه بحثه في ذلك العنصر، وهكذا حتى يستوفي كل العناصر، ولا تغرَّنه كثرة عناصر الصواب، إذْ يكفي عنصر فاسد واحد لإفساد نظرية الموضوع كله.
بيد أن هذا المنهج هو من وظائف المتفوقين من أهل البحث والنظر العلمي، أما الجماهير التي تأخذ المذهب اتباعاً تقليدياً، فهي لا تستطيع التمييز ولا الفصل، لذلك فمن واجبها الاجتناب الكلي، خشية أن تتأثر بالباطل من حيث لا تشعر.
والسطحيون الذين يندفعون مع بادئ الرأي، أو بادي الرأي، دون تريث ولا تفكير عميق دقيق، وينخدعون بالأصباغ والألوان الظاهرة، وزخرف القول، دون فحص لما يعرض عليهم الشياطين فحصاً جزئياً مجهرياً، يسقطون في مكيدة الزيف، ويسلمون أعنتهم لجزاريهم.
هؤلاء السطحيون المغفلون، يندفعون كالقطعان إلى حتوفهم وحتوف أمتهم، وطعم قطع الحلوى التي تقدم لهم وهم يتسابقون في الطريق، يشغل ساحة التفكير بتأثير من شهواتهم الحاضرة، فلا يفكرون فيما هم إليه صائرون، وما هم إليه سائرون.
ويتسابقون وهم يتضاحكون، ومئات القتلى منهم يتساقطون على أيدي سائقيهم إلى مذابحهم، وبسذاجة تامة، وغباء مطبق، يفسرون تساقط المتساقطين منهم بكل تفسير، إلا التفسير الحقيقي الذي يكشف أنهم
منخدعون بقادتهم، وبأئمة الضلال الذين يدفعون بهم في الطريق التي هم فيها يتراكضون، وإلى هلاكهم يتسابقون.
وقد يرون أئمتهم يجلدونهم، ويذبحون رفاقهم، أو يسلطونهم على قتل رفاق طريقهم، فيعتذرون عنهم بأنهم مخدوعون من قبل أعداء المذهب، وهم في الحقيقة قادة مخلصون، ورفاق أوفياء، وهم يعملون للمبادئ المتفق عليها بصدق وتضحية.
ما أشد غباء ضحايا الزيف، ترى من زعم لهم أنه الرفيق المخلص، يجلدها، ويشحذ سكينه ليذبحها، ثمّ تظل غافلة عن مكيدته، وتصطنع له المعاذير من عند أنفسها، أو يوحي لها بهذه المعاذير الشياطين من أجراء أئمة الضلال.
* * *
العنصر الخامس:
استخدام طريقة الإقناع الجدلي، للتأثير على الناس بصحة المذهب الباطل، أو الأفكار التي يُرادُ التضليل لها.
ويكون ذلك بتزيين مقدمات قائمة على المغالطات، والكذب، والتستر بشعارات التقدم العلمي، ومنهجية البحث السليم، ومنجزات العلم والتقنيات "التكنولوجيا"، وملء الصفحات الجدلية بثرثرات قائمة على دغدعة العواطف، وإثارة الانفعالات، والتظاهر الكاذب بالرغبة الشديدة في ابتغاء الحق وخير الإنسانية، وبتخليص البشر من آلامهم ومشكلاتهم الحياتية الفردية والجماعية.
وللمغالطات الجدلية أصول كثيرة، سيأتي بعون الله بيان أهمها في الفصل الثاني من هذا الباب.
* * *
العنصر السادس:
استخدام طريقة التوجيه غير المباشر. ويكون عادة بأساليب متوارية
متسترة غير صريحة، أو فيها بعض التواري والتستر، ومن التوجيه غير المباشر الأساليب التالية:
1-
الإيحاء الخفي المتستر بموضوع غير الموضوع المقصود بالذات، ومنه دس الأفكار المقصودة في غير مجالاتها الأصلية.
2-
الإثارة نحو أمر مرغوبٍ للنفوس، أو الدفع إلى موقف يرضي الأهواء أو الشهوات أو المطامع، ثمّ استغلاله للتأثير على الفكرة والسيطرة على منطقه، واستدراجه إلى الاقتناع الذاتي.
3-
التوجيه عن طريق القدوة، أو مؤثرات البيئة، أو عن طريق الصحبة والرفقة.
4-
البث العرضي الذي يخفي معه قصد التوجيه.
5-
حديث المتكلم عن نفسه، أو حديثه عن شخص غائب، وتدخل في هذا الأسلوب الحكاية والقصة والمشهد التمثيلي
…
6-
تهيئة ما يلزم لدفع من يراد توجيهه ليقرأ بنفسه قراءة حرة في كتاب أو صحيفة أو مخطوطة أو نحو ذلك.
7-
استغلال الأغنية والنشيد لترديد الأفكار التي يراد الإقناع بها.
إلى غير ذلك من أساليب تتفتق عنها قرائح المضلين، فيتفادون فيها المواجهة الصريحة بالتوجيه المباشر، الذي قد يقابل بالمعارضة والصد، ويثير في النفوس دواعي الرفض.
* * *
العنصر السابع:
الاستدراج، ويكون باستخدام أسلوب الخطوات المتدرجة، التي تنحدر بالمستدرَج خطوة فخطوة حتى يسقط أخيراً في حبائل الفكرة.
وقد عرف هذا في لغة السياسة المعاصرة بأسلوب "خطوة خطوة".
وقد أبان الله لنا في القرآن الكريم أنه من أساليب الشيطان، إذ حذّرنا من اتباع خطواته.
أ- فقال عز وجل في سورة (الأنعام/6 مصحف/55 نزول) :
ب- وقال عز وجل في سورة (البقرة/2 مصحف 87 نزول) :
وقال تعالى فيها أيضاً:
جـ- وقال عز وجل في سورة (النور/24 ومصحف/102 نزول) :
إن اتباع خطوات الشيطان تستدرج المتبع إلى الإسراف في المباح، فإلى الوقوع في المكروهات والتهاون في المندوبات، ثمّ إلى ارتكاب الصغائر من المعاصي والمخالفات، ثمّ إلى ارتكاب كبائر الإثم والموبقات، ثمّ إلى الإدما عليها ونسيان الله، ثمّ إلى الشرك أكبر الكبائر، فالجحود والفجور الوقح.
وقد وصف الله لنا كيف استدرج الشيطان آدم وزوجه في الجنة، حتى أوقعهما في معصية الله، فجعلهما يأكلان من الشجرة التي نهاهما ربهما عنها، فقال عز وجل في سورة (الأعراف/7 مصحف/39 نزول) :
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَاّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا
لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَاّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ *} .
فدلاهما بغرور: أي أنزلهما في بئر العصية إلى قاعها، شيئاً فشيئاً، وهما مغروران بوساوسه وأكاذيبه، متلبّسان بغرور من أمرهما، يظنان أنهما سيظفران بالخلود الذي أطعمهما به، أو بأن يكونا ملكين لهما قُدسيّة الملائكة وطهارتهم.
فاستدراجهما كان على مراحل، وبأسلوب الخطوات المتتابعة، وهذه هي طريقة الشيطان في الاستهواء والإغواء.
هذا عمل شيطان الجن، لكن شياطين الإنس أكثر مكراً وأعظم خطراً، وأشد تضليلاً، وأشد للنفوس أسراً.
* * *
العنصر الثامن:
الإيهام بأن الفكرة قد غدت من المسلمات العلمية، والحقائق التي لا تقبل النقض ولا النقد.
فتُعرض في العلوم على أنها من أهم المكتشفات العلمية، ويُستشهد بها على أنها حقائق مقطوع بها، وتُعتبر أساساً لبناء نظريات أخرى.
ولتأصيلها في أذهان الناس يوجّه النقد الشديد اللاذع ضد كل ما يناقضها ويخالفها، مع استخدام وسائل الهز والسخرية، والتندر بالذين يأخذون بالرأي المخالف، واتهماهم بالرجعية، والتخلف، والجمود، وعدم الفهم، والتعصب الأعمى للقديم، ونحو ذلك من العبارات.
ومن أمثلة ذلك قول قائلهم:
" إن نظرية التطور العضوي قد توجه البحوث العلمية في علم الحياة. ونظرية "فرويد" من أهم النتائج التي توصلت إليها البحوث العلمية في مجال الدراسات النفسية. والماركسية أو الاشتراكية العلمية أهم نظرية
شاملة صدرت في العلوم الاجتماعية والاقتصاد ".
مع أن كل هذه التي أوهم قائلها بأنها حقائق علمية، أو مقولات ذات أهمية كبرى في ميادين المعرفة المعاصرة.
* * *
العنصر التاسع:
استخدام الآداب والفنون المختلفة لتأكيد الفكرة ونشرها، كاستخدام القصص، والتمثيليات، والشعر، والتصوير، والغناء، والرقص التعبيري، والنكتة الساخرة، والمضحكات (الكوميديا) ، والرسوم التعبيرية (الكاريكاتير) ونحو ذلك.
وكل قارئ للقصص التي ندفع بها المطابع للقراء، ولدواوين الشعر التي يصدّرها أدباء التضليل الفكري، والإفساد الخلقي والسلوكي، ومروجو المذاهب الضالة، وكل مشاهد للتمثيليات التي تعرضها أجهزة نقل الصوت، أو نقل الصوت والصورة، يلاحظ ما تحمله هذه الآداب والفنون من ترويج لأفكارٍ ومذاهب مختلفة، وهذه الأفكار والمذاهب تتسلل إلى نفوس الأجيال وعقولهم فتتمكن منها، حتى تكون بمثابة عقائد راسخة، أو أمورٍ مسلم بصحتها وسلامتها، أو مُسلّمٍ بأن ضرورة التطور الاجتماعي تقتضيها.
وقد استخدم اليهودي الصهيوني "جان بول سارتر" قصصه وتمثيلياته، وما برع فيه من فنون أدبية، لبث أفكاره الفلسفية المدمّرة لكل القيم الدينية والخلقية والاجتماعية والسياسية والفكرية، والمعروفة بالفلسفة الوجودية
الملحدة، مع ما فيها من تفاهة فكرية، وسبح هائم في عالم "اللامعقول" فأثر في جماهير الشباب والمراهقين من مختلف الشعوب أيما أثر.
وقد جند المفسدون في الأرض كتاباً كثيرين، لملء برامج الإذاعة والتلفزيون وصفحات الدوريات بهذا الأدب غير الأخلاقي، بغية نشر الإباحية والأفكار والمذاهب الهدامة.
* * *
العنصر العاشر:
ستر العناصر المأجورة أو المدفوعة لوضع الفكرة أو المذهب أو الترويج لهما ونشرهما، بمختلف أنواع الستر وصوره.
فداعي الاشتراكية مثلاً يوجّه أن يبقى في ظروف مالية واجتماعية قاسية، تبرر نقمته على الرأسمالية، وتبرر وضعه أو نشره للمذهب الاشتراكي أو الشيوعي، ويُفرض عليه أن يتظاهر بكل ما يؤكد أنه غير مدفوع من قِبَل منظمة خاصة لها مصلحة بما دفعته إليه.
وقد يُستأجَرُ ذو غنى واسع لتأييد الاشتراكية أو الشيوعية، مع تطمينه بأنه سيكون محمياً من ويلاتها ونكباتها إذا وصل الحزب الاشتراكي أو الشيوعي للسلطان، ونفذ برنامجه الاقتصادي والاجتماعي، وذلك ليكون تأثير صاحب الغنى الواسع هذا أكثر في الجماهير، إذْ ترى فيه الشخص المتجرد الذي ينصر الحق ولو خالف مصلحته الخاصة، وهذه من الحيل الشيطانية البارعة.
وإمعاناً في ستر أفراد التنظيم أو أجرائه وعملائه، تعمد قيادة التنظيم إلى توجيه بعض المعروفين بالانتماء إليه لمقاومة ذلك العنصر الذي يُراد ستره، ولمهاجمة أفكاره وانتقادها بصورة لا تجرح جوهر المذهب الذي يراد التبشير به وترويج مبادئه، أو لانتقاد تصرفاته الشخصية. وبذلك تضمن المنظمة توجيه الفكرتين المتصارعتين أو المذهبين المتضادين، ضمن الخطوط المرسومة لهما، فتمد أحدهما بمقدار، ثمّ تمد الآخر بمقدار،
وتقيم بينهما تمثيلية الصراع بمقدار، ويجري كل ذلك وفق خطط مرسومة تحقق أهداف المنظمة، نظير فعل الدول حين تفرض على جواسيسها سلوكاً معيناً.
فقد يعمل ضابط كبير في المخابرات خادماً في مطعم أو مقهى، أو بواباً لفندق أو سائقاً لسيارة، أو نحو ذلك.
* * *
خاتمة حول المنهج الذي يجب اتباعه تجاه المضلين:
بعد ملاحظتنا عناصر الخطة العامة للمضللين في الأرض، وواضعي المذاهب الباطلة، علينا أن نستبين المنهج الذي يجب اتباعه تجاه كل المذاهب والأفكار والآراء المشتملة على عناصر مناقضة أو مخالفة لما هو ثابت ويقيني في الإسلام.
وبالتأمل يستطيع العاقل الحصيف طالب الحق، والحذِرُ من الافتتان بالباطل والانزلاق لاعتناقه، أن يتخذ لنفسه منهجاً فيه القواعد التالية:
القاعدة الأولى: عدم قبول الأحكام التقريرية التي يقدمها مروجوها على أنها حقائق مسلمة، وإن تسترت باسم العلم، والكشوفات العلمية، ومناهج البحث المنطقي السليم، وطرائق المعرفة الحديثة، ومنجزات الحضارة، وما أشبه هذه الألفاظ. فالتستر بهذه الألفاظ من وسائل التزييف التي مهرها مروجو المذاهب الضالة.
القاعدة الثانية: الحذر من التأثر بالأقوال المزخرفة المنمقة، أو المرتبة ترتيباً متناسقاً يوحي بسلامتها من الزيف.
القاعدة الثالثة: الحذر من قبول كل المذاهب تأثراً بكثرة الصحيح المعروض فيه، فربّ ألف فكرة صحيحة تفسدها فكرة باطلة تقع منها موقع الجذر، أو أساس البناء وقاعدته الأولى.
وكم سقط أذكياء في فخ أصحاب الحيل من شياطين واضعي
المذاهب الضالة، تأثراً بأفكار صحيحة كثيرة عُرضت عليهم، حتى إذا سئموا من شدة المراقبة، وجاءتهم الغفلة، أمرَّ الشيطان الفكرة الباطلة بطريقة متسللة دون أن تثير ضجةً ولا انتباهاً، وهم عندئذ يقبلونها دون محاكمة ولا نظر.
يضاف إلى ذلك أن كثرة الصحيح تستدرج الأنفس إلى الثقة والطمأنينة، ومع الثقة والطمأنينة يكثر التسليم دون بحث ولا نظر، ودون إجهادٍ للذهن بفحص كلّ جُزَيئَة لتمييز الحق من الباطل.
القاعدة الرابعة: الحذر من المغالطات التي قد تشتمل عليها الأدلة المقدمة لإثبات المذهب الوافد، وتوجيه الانتباه من الدرجة القصوى لأصول المغالطات التي يصطنعها المضللون المغالطون للإقناع بمذاهبهم وآرائهم.
القاعدة الخامسة: اليقظة التامة لدى فحص الأفكار ومناقشتها، ويكون ذلك بتجزئة الأفكار إلى عناصرها، والبحث عن جذورها، وعدم قبولها جملة واحدة، أو رفضها جملة واحدة.
وكم من أخطاء علمية وقع فيها باحثون، بسبب عدم تفاصُل عناصر الأفكار في أذهانهم، وعدم تمايزها، فقد يعطي أحدهم بعضها حكم الآخر مع أن له حكماً غير حكمه، لمخالفته له في الحقيقة، أو في كثير من الصفات.
ومن هنا تأتي تعميمات فاسدات، يظهر زيفها متى تمايزت حقائق الأشياء في الذهن، وتفاصلت عن بعضها بهوياتها الخاصة التي لها أحكام خاصة.
فعلى الباحث أن يفصّل أي موضوع ذي عناصر إلى عناصره، ووحداته الجزئية، ثمّ يبحث في كل عنصر منها وفق أصول البحث العلمي، ثمّ يبني حكمه بالاستناد إلى ما انتهى إليه بحثه في ذلك العنصر، وهكذا حتى يستوفي كل العناصر، ولا تغرنه كثرة عناصر الصواب، فقد
يأتي عنصر واحد باطل فاسد، فيكون سبباً في إفساد نظرية الموضوع كله، ويكون هذا العنصر بمثابة السم في الدسم، بالنسبة إلى جملة المذهب، أو الآراء المعروضة.
* * *