الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
نظرات متفرقة
(1)
الوسط الحق المتروك
اتجه واضعو المذاهب الاقتصادية المتباينة من الناس اتجاهين متباعدين متضادين، بينهما وسط متروك هو شريعة الله للناس.
وهذا الوسط المتروك قد يلاحظ فيه أجزاء أخذ بها أصحاب هذا الاتجاه، وأجزاء أخرى أخذ بها أصحاب الاتجاه الآخر، ولكن فيه عناصر لم يأخذ بها هؤلاء ولا هؤلاء.
فالإسلام بينها كالإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، وهي كبعض الوحوش المحتالة أو الكاسرة.
وقد ظهرت الاشتراكيات في العالم الغربي بنظرتها الجماعية المسرفة في غلوها، رد فعلٍ للطغيان الفردي، الذي كان من مظاهره في التاريخ الاسترقاق فالإقطاع فالرأسمالية المسرفة الطاغية.
(2)
واقع حال المسلمين اليوم
واقع حال الأنظمة الاقتصادية في بلدان العالم الإسلامي اليوم، واقع يتخبط بين مواريثه ووافدات الأنظمة المتباينة، فهو خليط ملفّق من أنظمة
مختلفة، فيها شيء من نظام الإسلام يطبقه أفراد وبعض حكومات، وفيها أشياء وتطبيقات من الرأسماليات، وفيها أشياء وتطبيقات من الاشتراكيات.
وقد دخلت الأخلاط إلى المسلمين بتأثير:
1-
العدوى: بعد كثرة اختلاط المسلمين بالدول غير الإسلامية، وتأثرهم بأساليب معاملات شعوبها الاقتصادية.
2-
تدخل الدول الاستعمارية الغربية وفرض أنظمتها.
3-
تدخل الدول الشيوعية وحركات الأحزاب الشيوعية والاشتراكية والإمدادات السرية والعلنية لها من الدول الشرقية أو الغربية.
4-
الانقلابات العسكرية الموجهة لتطبيق الأنظمة الوضعية، وإبعاد الدين عن الحياة، وعن السياسة ونظام الحكم.
(3)
تضليلات "مكسيم رودنسون"
في كتاب "الإسلام والرأسمالية" تأليف اليهودي الماركسي الملحد "مكسيم رودنسون" ترجمة "نزيه الحكيم" يجد القارئ الخبير افتراءً على الإسلام، وتضليلاً للمسلمين.
أ- أما الافتراء: فهو يزعم في كتابه أن نظام الإسلام الاقتصادي نظام رأسمالي، أو هو يقبل ويبارك النظام الرأسمالي.
وذريعة في هذا الزعم أن الإسلام يشتمل على مفاهيم ومؤسسات اقتصادية، تشبه بعض المفاهيم والمؤسسات الاقتصادية الموجودة في النظم الرأسمالية مثل الملكية الخاصة وملكية وسائل الإنتاج ومثل التجارة واستئجار العمال في الأعمال.
كشف الزيف
من الظاهر في هذا الافتراء أنه مغالطة قائمة على استغلال التشابه الجزئي بين نظام الإسلام والرأسمالية.
وقد سبق في (الفصل الثالث: مقارنة بين المذاهب الاقتصادية) بيان أن المتباينات في هيئاتها الكلية العامة قد يوجد تشابه جزئي كثير بين عناصرها، وهذا التشابه الجزئي لا يفيد تطابقها، بل تظل متباينة، للفوارق الموجودة بين هيئاتها الكلية العامة، والسبب وجود عناصر اختلاف أساسية وجوهرية بينها.
وذلك مثل التشابه الجزئي بين الإنسان وسائر الحيوانات، مع أن كل نوع منها مباين للنوع الآخر، بسبب وجود صفات أساسية جوهرية تفصله عن سائر الأنواع، وهي التي تُسمّى عند علماء المنطق باسم "الفصل".
إن منطق "رودنسون" في طرح هذا الافتراء منطق عجيب، وبالغ السخف، إنه يوهم بطرحه الذي طرحه أن أي نظام لا يكون نظاماً ذا كيانٍ خاص قائمٍ بذاته، إلا إذا لم يكن فيه أي جزء مشابه أو مطابق لجزءٍ في نظام آخر، ومنطقه هذا شبيه بمنطق من يقول: إن الإنسان لا يمكن أن يكون غير الذئب حتى يقلع عينيه ويصم أذنيه، لأن للذئب عينين وأذنين.
والإسلام في رأي "رودنسون" لا يمكن أن يكون غير الرأسمالية حتى تقلع منه الملكية الخاصة، ونجدع منه التجارة، ونستأصل منه استئجار العمال في الأعمال.
الواقع أن هذا شرط ليكون الإسلام في نظامه الاقتصادي اشتراكياً ماركسياً، وليس شرطاً ليكون مبايناً للرأسمالية، ونظاماً فذاً قائما بذاته ليس رأسمالياً وليس اشتراكياً.
ب- وأما التضليل: فهو ما اشتملت عليه دعوته في كتابه، من أنه لا خوف على العقيدة الإسلامية من الأخذ بالاشتراكية العلمية الماركسية، على اعتبار أنه يمكن فصل النظام الاقتصادي الماركسي عن قاعدته المادية
الإلحادية، عندئذٍ يمكن قبول هذا النظام الماركسي مع الاحتفاظ بالعقيدة الإسلامية.
وقد فتن بهذا التضليل كثير من أبناء المسلمين الذين استجابوا للدعوة الماركسية، وقد كان يعز عليهم أن ينبذوا العقيدة الإسلامية. لكنهم لما أخذوا بالمذهب الاقتصادي الماركسي، وجدوا أنفسهم يتجردون شيئاً فشيئاً من كل العناصر التي كانت قد بقيت لهم من العقيدة الإسلامية، حتى أمسوا ملاحدة ماركسيين، لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا بشيءٍ مما أنزل الله من كتاب، أو بعث به من نبيين.
كشف الزيف
هذا التضليل قائم على فرية حصر الدين بالعقائد الغيبية، وطقوس العبادات المحضة. وفرية أن الإسلام قابل لتطوير أحكامه وتغييرها من آنٍ لآخر، مهما كانت النصوص الدالة عليها قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وهذه الفرية الثانية تحمل شعار "تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان".
ويقول مترجم الكتاب "نزيه الحكيم" في مقدمته، مساهماً في لعبة التضليل:"عن الله واحد، والإنسان واحد، ومُثُل الأرض من طينة واحدة، خالد في تطورها متطورة في ديمومتها ".
أي: لو تحول الإسلام اشتراكياً ماركسياً أو رأسمالياً أو إقطاعياً أو أي نظام آخر، فإنه سيظل إسلاماً خالداً متطوراً له ديمومته.
ونظير ذلك: لو مسخ الإنسان قرداً أو خنزيراً أو عقربة أو أي حيوان آخر فإنه سيظل إنساناً خالداً متطوراً له ديمومته.
فاعجب ما شئت لهذه اللعبة غير الشريفة!
1-
أما حصر الدين بالعقائد الغيبية وطقوس العبادات فأمرٌ قد ينطبق على اليهودية والنصرانية والمحرفتين، ولا ينطبق على أصولهما الصحيحة، لكنهما بالتحريف فقدتا كل أحكامهما التشريعية، واحتفظ أتباعهما بالعقيدة
المحرفة، وبمجرد الانتماء إلى (موسى. وعيسى) عليهما السلام، مع التحريف في المعتقدات الخاصة بهما، والانتماء إلى (التوراة. والإنجيل) مع التحريف البالغ في نصوصهما.
بخلاف الإسلام، فقد حفظه الله بحفظ كتابه من أي تغيير أو تبديل، أو زيادة أو نقص. وحفظه أيضاً بحفظ الأصول المبينة للكتاب من سنة الرسول.
فلم تمس عقائد الإسلام الأصول تغييرات ولا تبديلات، ولم تمس أصول أحكامه وأنظمته تغييرات ولا تبديلات، أما الخلاف في بعض الأحكام الفرعية الاجتهادية فهو لا يمس أصول أحكام الإسلام وأنظمته الدستورية.
ومن ذلك أسس نظام الإسلام الاقتصادي، ففي هذه الأسس نجد ما يلي:
أولاً: إقرار الملكية الشخصية، ضمن قيود الإسلام وضوابطه، ووجوب حمايتها وصيانتها.
ثانياً: الإذن بالكسب والربح عن طريق البيع والشراء والتجارة، ضمن القيود والحدود والضوابط الإسلامية، وحقوق التملك الناتجة عن ذلك.
ثالثاً: حق العامل في بذل عمله مقابلٍ أجر يأخذه عليه، وحق المحتاج إلى العمل في استئجار عامل بأجر عادل، دون إكراه ولا إلزام ولا ظلم ولا هضم لحق من حقوقه.
رابعاً: الأموال المملوكة بكسب مشروع في الإسلام لا يجوز سلبها من أصحابها، أو العدوان عليها، ولا مصادرتها من قبل ذوي الحكم والسلطان، إلا بحكم شرعي، كزكاة مفروضة لم يؤدها من وجبت عليه
طواعية، وغرامة أذن الشرع بفرضها، ودينٍ لصاحب حق، ورد مغتصب أو مسروق لأصحابه، وفريضة عامة عادلة لمصالح المسلمين، أو لقتال عدو محارب أعد لحرب المسلمين ومداهمتهم في بلادهم.
هذه الأسس من أسس نظام الإسلام الاقتصادي ونظائرها، هي من الأحكام اليقينية القطعية المعلومة من الدين بالضرورة، فالإيمان بها عقيدة، لا حرية للمؤمن في اختيار غيرها. وكل جاحد بها كافر.
قال الله عز وجل في سورة (الأحزاب/33 مصحف/90 نزول) :
وللأحكام الشرعية جانبان: جانب اعتقادي. وجانب تطبيقي.
أما الجانب الاعتقادي: فما كان منها ثابتاً بيقين فجحوده واعتقاد أن غيره خير منه كفر، وخروج عن الملة الإسلامية.
وأما الجانب التطبيقي فمخالفتها فيه - مع الإيمان بها - معصيةٌ لله عز وجل وفسقٌ وخروجٌ عن حدود الله.
2-
وأما فرية أن أحكام الإسلام قابلة للتطوير والتغيير من آنٍ لآخر، وأنها تخضع لقاعدة "تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان" فكشف الزيف فيها يتلخص بما يلي:
أ- في الإسلام أحكامٌ أصول دستورية منصوص عليها في القرآن، وفي السنة القطعية، وهذه الأحكام لا ينسخها ولا يبدل فيها إلا المشرع نفسه، وهو الله عز وجل، ورسوله المبين لكلام ربه والمبلغ عنه.
وبانقطاع الوحي ووفاة الرسول غدت ثابتة غير قابلة للنسخ ولا للتبديل، مهما تغيرت الأزمنة والأمكنة والأشخاص.
فقاعدة "تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان" لا تنطبق عليها مطلقاً، فلا محل لها هنا.
ب- وفي الإسلام أحكام اجتهادية فرعية، ليست من الأصول الدستورية، استنبطها الفقهاء باجتهاداتهم الفقهية من مصادر التشريع الإسلامي.
وهذه الأحكام قد تخضع لاختلاف الاجتهادات، وذلك بحسب الرؤية الاجتهادية لدى المجتهدين، ولدى الفقيه المجتهد نفسه من وقت لآخر، باعتبار أنها آراء اجتهادية استنباطية ظنية ترجيحية، وليست يقينية قطعية. ولكل اجتهاد منها أدلته وترجيحاته فمنها القوي ومنها الضعيف، والحق فيها واحدٌ غير متعدد، إلا أن الدليل عليه قد لا يكون من القوة بالقدر الملزم للمخالف في الرأي، أو أن الرؤية للمخالف المأذون بالاجتهاد لم تصل إلى إدراكه وترجيحه، وهو معذور في ذلك عند الله إن كان صادقاً.
وهذه الأحكام الاجتهادية - رغم وجود اختلاف الاجتهادات فيها - أحكام لا تنطبق عليها قاعدة "تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان" لأن الاختلاف فيها ليس مرجعه اختلاف الأزمان أو الأمكنة أو الأشخاص، إنما مرجعه اختلاف الرؤية في دائرة الأدلة الشرعية التي تستنبط منها الأحكام، وهي ثابتة غير متبدلة.
والاستشهاد بما كان من الإمام الشافعي في مذهبيه القديم والجديد، استشهادٌ غير صحيح، لأن ما كان من الشافعي رضي الله عنه، إنما كان اختلاف رؤية للمسائل التي اجتهد فيها، فخالف جديده قديمه فيها، بحسب ما قوي لديه من أدلة أصولية أو فرعية، ولم يكن مطلقاً اختلاف زمان ولا مكان ولا أشخاص.
جـ- وفي الإسلام أحكام هي بحكم الشرع تستند إلى الأعراف والظروف المعاشية، فالإسلام يقدم الحكم فيها بالاستناد إلى عرف الناس، في الزمان والمكان والأشخاص.
مثل تقدير النفقة الواجبة على الزوج لزوجته، فإذا كانت النفقة الكافية والمناسبة في عصر من العصور أو في بلد من البلدان تقدر بمئة درهم
مثلاً، بحسب عرف أهل ذلك العصر، أو أصحاب البلد المعين، فإن حكم الشرع يستند إلى هذا العرف ويقرر أن مقدار النفقة الواجبة مئة درهم.
لكن إذا تبدل الزمان، وتغيرت الأحوال الاقتصادية العامة، وصارت النفقة الكافية والمناسبة تقدر بألف درهم، بحسب عرف أهل ذلك الزمان، أو أصحاب ذلك البلد المعين، فإن حكم الشرع يقرر حينئذٍ أن مقدار النفقة الواجبة ألف درهم.
في مثل هذه الأحكام التي يستند فيها حكم الشرع إلى العرف الخاضع للتبدل بحسب الظروف المعاشية، تنطبق قاعدة:"تتبدل الأحكام بتبدل الأزمان".
من هذا التحليل نلاحظ أن لعبة التضليل هنا تقوم على مغالطة التعميم الفاسد، لقاعدة تنطبق فقط على موضوع خاص.
وبهذا تنكشف لذي البصيرة زيوف "مكسيم رودنسون" ومروجوها من أجراء الماركسية اليهودية، مهما تظاهروا بالعطف على القضية الفلسطينية والفلسطينيين، أو القضايا العربية الأخرى.
إن قضايا المسلمين لا يحل مشكلاتها إلا الإسلام.
(4)
فرية ربط التخلف الصناعي بنظام الإسلام
يربط أعداء الإسلام، والمفتونون بزخرف أقوالهم، التخلف الصناعي الذي وصل إليه المسلمون في عصور الانحطاط بالإسلام نفسه.
وكشف هذه الفرية لا يصعب على ذي بصيرة يبحث في الأسباب والعلل والظواهر الاجتماعية.
ولا بد للباحث أن ينظر بعينين:
الأولى: ينظر بها إلى نصوص الإسلام وتعاليمه، وتطبيقات القرون الإسلامية الذهبية له.
الثانية: ينظر بها إلى حقيقة الأسباب والعلل التي ولدت التخلف الصناعي والزراعي والعمراني في عصور الانحطاط.
أ- أما نصوص الإسلام وتعاليمه وتطبيقات المسلمين له في عصورهم الذهبية، فإنها تكشف لكل باحثٍ مدى السبق الحضاري في كل مجال من مجالات الحياة، الذي اشتمل عليه الإسلام، إذ دفع المسلمين لكل عمران، ولكل تقدم اقتصادي، ولكل سبق في مجالات القوة، ولكل سبق علمي.
ولما طبق المسلمون في عصورهم الذهبية هذه التعاليم كانوا المثل الحضاري الأول بين شعوب الأرض، بحسب إمكانيات الناس في عصورهم.
ب- وأما الأسباب والعلل التي نجم عنها التخلف الصناعي والزراعي والعمراني في عصور الانحطاط فهي ترجع إلى ما يلي:
أولاً: هجر المسلمين لتعاليم إسلامهم، بسبب انتشار الجهل، واتساع قاعدة الأميين، وأنت خبير أن النظام المهجور لا يطبق.
وماذا يفعل النظام بمؤمنين به إيماناً إجمالياً، وهم لا يعلمون أحكامه وتفصيلاته ولا يطبقونها؟
ثانياً: تآمرت السياسة الاستعمارية تآمراً كبيراً ضد المسلمين، لفرض التخلف عليهم وتكريسه، ومنعهم من التطور والتقدم في كل الميادين الاقتصادية، لا سيما الصناعية المتقدمة المتطور.
لقد حرص الاستعماريون على أن يبقى المسلمون في بلدانهم ضمن نطاق الشعوب المُسْتَوْرِدة، التي تقدم للمستعمرين المواد الأولى من أرضها ومن كدها بالأثمان البخسة، ثم تستوردها مصنعةً بالأثمان العالية التي تحددها مصانع المستعمرين.
ثالثاً: لما تقلص ظل الاستعمار المباشر عن بعض بلدان المسلمين، أخذت شعوب هذه البلاد تتجه نحو شيءٍ من التحرر الاقتصادي، وأخذت تتدرج نحو التصنيع الآلي، لترفع عنها ذل الاستعمار الصناعي، لكنها ارتكبت بهجرها لنظام الإسلام خطيئة السير في ركب النظم الرأسمالية، ولم تحمِ نفسها بحماية من الله، فكادها الشرق والغرب كيداً كباراً، لإيقاف نشاطها الاقتصادي وتدمير مصانعها وكل مجالات اقتصادها.
فاتفق منحدر ما دون اليمين ومنحدر ما دون اليسار، على ضرب مصانع بلاد المسلمين، بالنظم الاشتراكية، وتأميم المصانع، وكان ذلك عن طريق الانقلابات العسكرية، والأحزاب القومية العلمانية، والأحزاب الاشتراكية الماركسية.
ونجم عن هذا المخطط التدميري تدمير المصانع، وتدمير المزارع وتدمير اقتصاد كل البلاد التي قامت فيها النظم الاشتراكية، وكانت اللعبة أكبر من أن تتحملها جماهير هذه الشعوب المتفتحة نحو التقدم والتي ما زالت غرة بمكايد الدول الكبرى ومؤامراتها.
وكان لمخططات التدمير أنصار كثيرون من داخل بلدان العالم الإسلامي، يجمعهم جميعاً العداء للإسلام والمسلمين، وسار في ركبهم مفتونون كثيرون وأجراء حقيرون.
رابعاً: اندفاع المفتونين من أبناء المسلمين لتطبيق النظم الاشتراكية أو الرأسمالية، معتذرين بأن نظام الإسلام الاقتصادي لا توجد دولة تطبقه حقاً.
إن الاعتذار بهذا العذر خدعة شيطانية، لتثبيط طاقات المتطلعين لحياة أفضل، ورجعة مثلى إلى دين الله، عن التجمع لعمل ما يجب عمله، من أجل نقل نظم الإسلام من حيز الفكرة والعقيدة، إلى حيز التطبيق والعمل.
وهذا الاعتذار يرجع إلى جذرٍ أساسي داخلي، هو ضعف أو انعدام
الإيمان بالله واليوم الآخر، وعدم الشعور بالمسؤولية نحو الخالق، ونحو صلاح المجتمع البشري.
على أن النظم الأخرى لم تكن موجودة مطلقاً، وبدأت فكرةً، ثم تجمع حولها مؤمنون بها، ثم صارت بالعمل والجهد حقيقة واقعة.
أما نظام الإسلام فقد كان مطبقاً، ثم انحسر المسلمون عن تطبيقه شيئاً فشيئاً، وغزتهم غازيات الأعداء، ولكن ما زالت جماهير المسلمين تؤمن به، وتتطلع إلى دولة صادقة تطبقه، أفليس هذا داعياً للعمل والجهاد والصبر والمصابرة، حتى يصل المسلمون إلى تطبيقٍ سليم وشامل لنظام الإسلام.
هيا إلى العمل الرصين الصابر والمثابر لإقامة أحكام الإسلام ونظمه يا شباب الإسلام.
(5)
على طريق العودة
1-
لا تكفي الكلمة وحدها مهما كانت ذات تأثير بياني، ما لم تكن مصحوبة بالتطبيق العملي المقنع للجماهير بمضمونها.
إن كلمة الموعظة الآسرة تعطي سحراً إقناعياً مؤقتاً، لكنها لا تلبث أن تنطق من نفس سامعها، أو يضمحل أثرها، كما انطلقت من لسان قائلها، ما لم يدعمها العمل المستمر، الذي تنفعل به الحواس الظاهرة والباطنة في الإنسان، مع مشاهدة ثمراته النافعات.
الكلمة هي النافذة التي يطل منها نظر الفكر لمشاهدة الحقيقة، ولكنها ليست هي الحقيقة.
إن الحقيقة هي الصورة الواقعية التي ترشد إليها الكلمة، فإذا أطل نظر الفكر من نافذة الكلمة فلم يشاهد الصورة الواقعية التي أرشدت إليها أقفل النافذة، وبحث عن الحقيقة بنفسه، أو من خلال كلمة أخرى.
2-
فدعواتنا التي لا نستعمل فيها إلا سلاح الكلمة العاطفية، غير المدعومة بالبيان الكافي، والمجردة عن التطبيق العملي المتدرج على مقدار الاستطاعة، دعوات تشبه الأسلحة الخلبية، التي لا تثير في الأنس إلا مثل الذي تثيره متفجرات ألعاب الزينة.
وامتداحنا لنظام الإسلام الاقتصادي، دون محاولات تطبيق متدرج له، لا يحل مشكلة افتتان أجيالنا الناشئة بالنظم الأخرى، التي لها تطبيقات شاملة لكل جوانب الحياة، وضاغطة على المؤسسات الخاصة والعامة، ولها دول في الشرق أو في الغرب تطبقها وتحميها. ومادامت المشكلة المعاشية قائمة، فإن ذوي الحاجات سيظلون طعمة في فم الذئاب العالميين، الذين يخدعونهم ويستدرجونهم إلى أنظمتهم.
3-
وللتطبيق الفعلي شروطه ومراحله ووسائله، أرى من الخير التنبيه على مفاتيح أبوابها.
أولاً: التعريف الشافي الوافي بنظم الإسلام نقيةً صافية، بلا دخن ولا دخل.
ثانياً: تعميم هذا التعريف تعميماً يستغرق معظم القاعدة العريضة لشعوب الأمة الإسلامية.
ثالثاً: العمل المستمر على تنظيف المجتمعات الإسلامية من ويلات الانحراف عن نظام الإسلام، كمقاومة الربا، والغش، والاحتكارات، والغبن الفاحش، وكإيثار الطبقات الدنيا، ثم المتوسطة بالمنافع العامة، والتقريب بين الطبقات بالتدرج، ضمن أحكام الشريعة الإسلامية.
رابعاً: إقامة حملات منظمة وجمعيات وجماعات ولجان لتطبيق نظام الزكاة، حتى يأخذ هذا النظام أسلوباً واقعياً منظماً له مؤسساته العصرية المنضبطة وله وسائله المتقنة في الجمع والصرف واستثمار الفائض.
خامساً: إقامة مؤسسات اقتصادية تستخدم أتقن الوسائل الحديثة
لاستثمار الأموال، مع مراعاة أحكام شريعة الله والاحتراز من كل ما فيه كسب حرام. ومع مراعاة التدرج في أعمال التأسيس والبناء وإعطاء العمال حقوقهم وافية وإعطائهم حظوظاً من أرباحها ونجد لهذا فسحة عند الحنابلة لأنهم يستندون في مسائل العقود إلى الحديث الصحيح برواته، عن النبي:
"المسلمون على شروطهم".
(رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة) .
"المسلمون عند شروطهم فيما أُحِلَّ".
(رواه الطبراني عن رافع بن خديج) .
"المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق من ذلك".
(رواه الحاكم عن أنس وعن عائشة) .
وقالوا في شركة (القِرَاض=المضاربة) : يجوز فيها اشتراط نفقة العامل القابض للمال حتى يتجر فيه، إضافةً إلى ما شُرط من نسبة الربح، كالثلث أو النصف أو أكثر من ذلك أو أقل.
ونستطيع أن نقول: إن عقد العامل يمكن أن يكون مؤلفاً من عاملٍ بأجر محدد بالنسبة إلى ثلثي عمله مثلاً، وعاملٍ بنسبةٍ من الربح، على أساس شريكٍ مضارب بالنسبة إلى ثلث عمله، فيأخذ أجراً مقطوعاً على القسم الأول، وحظاً من الأرباح على القسم الثاني.
ومن السهل اتخاذ الشكليات المناسبة في صياغة العقد لتحقيق هذا الأمر، دون أية مخالفات شرعية.
سادساً: إيجاد الإخاء والتعاطف والتواد والتراحم بين المسلمين، كبارهم وصغارهم، أغنيائهم وفقرائهم، علمائهم وعامتهم، وهكذا إلى سائر أصنافهم وإيجاد الشعور العام بأنه لا طبقية في المجتمع الإسلامي، وإنما
يتفاضل الناس فيما بينهم بما لدى كل منهم من فضائل شخصية، كالعلم والبذل والجهاد والخدمات الاجتماعية ونحو ذلك.
أما الأكرم عند الله فهو الأتقى، وقد يكون أفقر الناس، وأضعفهم.
والجد والإخلاص والاستعانة بالله والعمل بدأب ومثابرة، مع الصبر والمصابرة، أمور كفيلة ببلوغ القصد إذا اتخذت الأسباب التي جعلها الله في كونه موصلة لغاياتها، وتم التقيد بمنهج الله التكويني والتشريعي.