الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس
المادية الجدلية في الكون والتاريخ الإنساني
(1)
مقدمة
أقام الشيوعيون الماركسيون بنيانهم الفكري والسلوكي الشامل لكل جوانب الحياة، على عقيدة جذرية تزعم أن المادة هي كل الوجود، ولا شيء وراء المادة، ولا شيء غير المادة، وأن هذه تتحرك وتتطور مرتقية صاعدة، وفق ما أطلقوا عليه "قانون الجدلية = الديالكتيك" وزعموا أن هذا القانون هو المهيمن على حركة الوجود كله، الذي هو في نظرهم الوجود المادي فقط، وزعموا أن الحياة والفكر هما نتاج هذا الوجود المادي، فهما أيضاً خاضعان لقانون الجدلية.
إذن: فالسلوك الإنساني الفردي والجماعي خاضع بزعمهم لقانون الجدلية، وعليه فهم يقولون: إن التاريخ الإنساني يسير بموجب هذا القانون سيراً حتمياً جبرياً.
فمذهبهم يقوم على ما يسمَّى: "المادية الجدلية". فإذا أرادوا تطبيق ذلك على تغيرات الكون وأحداثه قالوا "المادية الجدلية في الكون" أو "المادية الجدلية في الطبيعة". وإذا أرادوا تطبيقه على حركة السلوك الإنساني قالوا: "المادية الجدلية في التاريخ الإنساني" أو نحو ذلك من العبارات.
وسرت كلمة الجدلية "الديالكتيك" على ألسنة كتابهم ومن يقلدهم
لتفسير حركة الفكر في السياسة، والأدب، والعلوم، وغير ذلك، كأنّ ما يزعمونه "قانون الجدلية" حقيقة مفروغ من التسليم بها.
مما سبق يتبين أن جذور المذهب الماركسي تنحل إلى عنصرين:
العنصر الأول: المادية، أي: إن الوجود كله وجود مادي، ولا شيء غير المادة، والحياة والفكر منبثقان عنها، وهما نتاجها الأعلى، وأن فكرة وجود الله من اختراع الناس فليس للكون رب خالق.
العنصر الثاني: الجدلية، وهي فكرة خاصة ذات نظام، زعم القائلون بها أنها قانون يهيمن على حركة الوجود كله.
أما المادة فقد أخذها "ماركس" ومن رافقه واتّبعه، من الفلاسفة المادّيين المنكرين لوجود الله وآخرهم "فُويَرْ باخ".
وقد سبق كشف زيوف المادية في الفصل الرابع من هذا الباب.
وأما الجدلية (=الديالكتيك) فقد أخذها "ماركس" من الفيلسوف الألماني المثالي "هيجل"، وهي المطروحة للبيان والمناقشة في هذا الفصل.
(2)
تعريف بالجدلية (=الديالكتيك)
كلمة "ديالكتيك" مأخوذة من الكلمة اليونانية "دياليغو" ومعناها المحادثة، أو المجادلة والمناظرة.
ثم صارت مصطلحاً علمياً عند فلاسفة الإغريق، يدلّ على حركة
التغير والتطور الملاحظة في أشياء هذا الكون، سواءٌ منهم من أخضع ذلك لعلل وقوى خارجة عن الكون، أو تصور أنها ناتجة عن دوافع ذاتية كامنة في ضمن هذه الأشياء، كأن عناصر الكون تتجادل فيما بينها في حركة دائمة.
و"الديالكتيك" عن "سقراط" هو الأسلوب الجدلي بين فريقين متعارضين متناظرين في موضوع ما.
واستغله "أفلاطون" أسلوباً للوصول إلى الحقيقة، من خلال بيانين متعارضين، يكشف كلٌّ منهما ما يراه في الآخر محلاً لتوجيه النقد إليه، أو الاعتراض عليه.
وارتقت المجادلة أو المناظرة عند المسلمين فصارت لها أصول وقواعد وآداب، واقتصرت على ما يكون بين فريقين يتجادلان ويتناظران حول موضوع ما.
ثم جاء الفيلسوف الألماني "جورج هيجل" فأخذ كلمة "ديالكتيك" وفق مصطلح فلاسفة الإغريق الدالة فيه على حركة التغير والتطور الملاحظة في أشياء هذا الكون، وقام في ذهنه تصور خاص لهذه الحركة الدائمة في الكون، حتى ظن هذا التصور قانوناً ثابتاً، تخضع له العمليات المنطقية الفكرية، وعلميات الكون، وحركة التاريخ الإنساني، لكنه اعتبر هذا القانون نظاماً للقوة الغيبية غير المادية، المهيمنة على الكون والمتصرفة فيه.
أما التصور الذي رآه "هيجل" فيتلخص بأن حركة التغير والتطور تسير وفق دورات لولبية صاعدة، كل دورة منها ذات ثلاث مراحل، أسماها ما يلي:
المرحلة الأولى: الطريحة. أو تدعى "أطروحة".
المرحلة الثانية: النقيضة. أو تدعى "نفياً".
المرحلة الثالثة: الجميعة. أو تُدعى "نفي النفي" أو "تركيباً".
وقد تختلف الألفاظ المعبرة عن هذه المراحل عن المعرفين بجلية "هيجل" مثل التعبير التالي: "الوضع، ونفيه، ومؤتلف الوضع ونفيه".
وبيان فكرة "هيجل" بصورة مبسطة يتلخص بما يلي:
تقوم فلسفته على ثلاثة معانٍ كبرى وهي: "الفكرة، والروح، والطبيعة" وترجع هذه المعاني الثلاثة إلى معنى واحد هو المطلق، والمطلق في تصوّره هو الذات الكلية التي تنتظم كل شيء، وكل الأشياء إنما هي تطور ونمو جدلي "=ديالكتيكي" لهذه الذات الكلية.
والحركة الجدلية في هذا المطلق الذي هو الذات الكلية، تنطوي على ثلاث مراحل في ثلاث لحظات، هي الوضع الأول، ثم انقلابه إلى نقيضه، ثم مركب الوضع ونقيضه بعد توحدهما بسقوط التناقض بينهما، وارتفاعهما بهذا التوحد إلى ما هو أسمى من الوضع ونقيضه.
وهكذا دواليك تتكرر حركة الجدلية، فيكون في الأشياء كلها تطور ونمو.
أي: إن الحالة الأولى التي يكون عليها المطلق، أو تكون عليها الفكرة، أو الروح، أو الطبيعة، أو الكائن الطبيعي، أو المجتمع الإنساني، هي الحالة التي تسمى في جدلية "هيجل":"الطريحة" أو "الأطروحة" أو "الوضع" أو نحو هذه الألفاظ.
والحالة الأولى هذه تتفاعل مع أضدادها ونقائضها، فتنقلب إلى الطرف الآخر الذي تقع فيه أضدادها أو نقائضها، وبذلك يتم التحول إلى الحالة الثانية.
والحالة الثانية هذه تسمى في جدلية "هيجل""النقيضة" أو "الطباق" أو "النفي" أو نحو ذلك من الكلمات.
ثم تتفاعل الحالة الثانية مع أضدادها أو نقائضها، فينشأ من ردود الأفعال تغير لها، ولكن لا إلى ذات الطرف الذي سبق أن تركته في التغير الأول، بل إلى تغير صاعد يجمع بين الطريحة والنقيضة جمعاً توفيقياً، وبهذا الجمع تسقط صفات وعناصر دنيا خسيسة، وبذلك يحصل الارتقاء، وهذه هي الحالة الثالثة في جدلية "هيجل".
والحالة الثالثة هذه تسمى: "الجميعة" أو "نفي النفي" أو "التركيب" أو "مؤتلف الوضع ونفيه" أو نحو ذلك من العبارات، ويُحذفُ التناقض في هذه الحالة إذ يتم امتصاصه في شمولٍ أعلى.
ثم تغدو الحالة الثالثة "الجميعة" من جديد "طريحة" تتغير إلى "نقيضة" جديدة، ثم إلى "جَمِعيةٍ" جديدةٍ صاعدة.
وهكذا دواليك تذهب الدورات صاعدة في تصور "هيجل".
هذا هو "الديالكتيك" عند هيجل، مع ما يكتنف فلسفته من غموض، وضغط في آرائه التي يعرضها.
ويعتبر "هيجل" من فئة المثاليين، الذين يؤمنون بالغيبي المجرد من الحسيات، لا من فئة الماديين، فهو يؤمن بإلهٍ على طريقته، والله في تصوره هو الوجود غير المتناهي، وهو المطلق، وهو الحقيقة الكاملة.
وهذا الرأي الذي قدّمه "هيجل" وحاول أن يفسر به حركة التغير في كل ما هو مشهود وغير مشهود، رأيٌ مرفوض عقلياً وواقعاً.
فرأيه من الناحية العقلية المنطقية مبني على اجتماع الأضداد أو المتناقضات، صواء في حالة اصطراعها، أو في حالة ائتلافها في الجميعة، ومنطق العقل يحكم جازماً باستحالة اجتماع الأضداد أو المتناقضات في شيء واحد وزمن واحد. إذن: فرأيه قائم على ادعاء وجود ما هو مستحيل الوجود، فهو ساقط منطقياً.
ورأيه يشتمل على أن التغيرات تذهب صاعدةً مرتقية باستمرار إلى ما
هو أسمى، ولكن الواقع لا يُصدِّق هذا الادعاء، فهو إن صدق بمثالٍ أو بعددٍ من الأمثلة، لا يصدق بأمثلة كثيرة لا تحصى، فهو إذن لا يصلح لأن يكون قانوناً شاملاً.
ولئن سلمنا بنحو مثاله الذي رأى فيه أن "البرعم" هو الطريحة مثلاً، وتنفيه "الزهرة" التي هي النقيضة، ثم تأتي "الثمرة" التي هي الجميعة، وهي أسمى من البرعم والزهرة.
فكيف نطبق الحركة التغيرية الصاعدة حسب الادعاء، على "الحي" باعتباره طريحة، ثم ينفيه "الموت" باعتباره "نقيضة" ثم يتحول "الميت" إلى متفسخات أنتانية، باعتبارها حالة ثالثة، أو إلى تراب، وهي الحالة القديمة التي كان عليها الحي، قبل أن يمر في مراحل كثيرة حتى صار كائناً حياً؟!
ولئن سلمنا في تغيرات المجتمع البشري، بأن التطرف في "الديكتاتورية" الفردية في المجتمع قد ينشأ عنه نقمة في المجتمع، ويتولد عنه -دون حتمية- رد فعلٍ عنيف، يدفع بالمجتمع إلى حرية اجتماعية سمتها الفوضى، ثم يتولد عن هذه الفوضى الاجتماعية رجعة توفيقية بين "الديكتاتورية" والحرية المسرفة، وهي أفضل منهما فمن "الطريحة" و"النقيضة" تولدت "الجميعة" ولكن من خلال وعي الناس، ودون أن تكون ضرورة حتمية.
فكيف نطبق الحركة التغيرية الصاعدة حينما تسوء حالة الجميعة التوفيقية هذه في المجتمع، فترجع إليه "الديكتاتورية" المتطرفة مرة أخرى، ثم الحرية الاجتماعية المسرفة، ثم "الديمقراطية" المعتدلة؟!
أليست هذه دورات متناظرة، وليست بصاعدة كما زعم الادعاء؟.
فجدلية هيجل ساقطة منطقياً، وواقعياً.
واستشهد "برنال" بنظرية الرغبات المكبوتة لـ"فرويد" وقال: إننا نجد الدول الديالكتيكية أبعد ما تكون عن الحتمية فيها، فالغريزة هي "الطريحة" والكبت هو "النقيضة" والتسامي هو "الجميعة". ثم يقول "برنال": هذا
جميل، ولكن افرض أن المريض أصيب بالجنون بدلاً عن كونه قد استطاع أن يتسامى. افرض أنه قتل نفسه، أين تكون إذن هذه المواءمة بين الأضداد بين الجميعة؟! أين يكون التقدم من الأدنى إلى الأعلى في هذه الحالة؟!
(3)
الجدلية الماركسية
وصاد "كارل ماركس" من "هيجل" آراءه في الجدلية "=الديالكتيك" بعد أن حذف منها نظرتها المثالية، المرتبطة بالله، وأضاف إليها نظرته المادية، فصار مذهبه الفلسفي الجذري "المادية الجدلية".
وبناء على ذلك جعل الدين، والقانون، والسياسة، والأخلاق، والنظم الاجتماعية، والفلسفة، والفن، آثاراً في الوعي الإنساني للجدلية في حركة المادة وتطورها، وجعل هذه كلها صناعة إنسانية، وجعل الإنسان نتاج المادة في حركتها الجدلية، وجعل الفكر فيه نتاجها الأعلى.
وزعم "ماركس" أنه بعمله هذا قد أوقف آراء "هيجل" على قدميها، بعد أن كانت عنده واقفة على رأسها، أي: إن "هيجل" لما اعتبر "جدليته" منطلقة من الله إلى كل الأكوان، فإنه بذلك قد عكس حقيقة الأمر، إذ حقيقة الأمر في ادعاء "ماركس" هو أن الله من اختراع الفكر الإنساني، ومن ابتكاراته التي لا تنطبق على الحقيقة والواقع.
وجعل "ماركس" نظام الجدلية أساساً لكل التغيرات في الطبيعة وفي التاريخ الإنساني بصفةٍ عامة، واعتبره أساساً تتغير على وفقه المجتمعات الإنسانية، من مجتمع "إقطاعي" إلى مجتمع "بورجوازي" إلى مجتمع "اشتراكي" وأخيراً إلى مجتمع "شيوعي" تنتهي فيه كل الطبقات، ولا حاجة فيه إلى سلطة حاكمة.
وأعطى "ماركس" هذه التغييرات التي ذكرها صفة القانون الاجتماعي الحتمي، ليقنع قطعان الجند من الشيوعيين بأن النهاية مضمونة لهم، فهم
الذين سيقبضون على ناصية الأمر في كل المجتمعات.
فالمادية الجدلية: هي المبدأ الاعتقادي الجذري العام الذي اتخذه ماركس والماركسيون أساساً لكل أفكارهم ونظمهم الفرعية، فهي قاعدة الإلحاد، والشيوعية، أو ما يسمى بالاشتراكية العلمية، والحكم الديكتاتوري القائم على ديكتاتورية الطبقة الكادحة، وصراع الطبقات، والداروينية، وغير ذلك من أفكار ونظم يؤمن بها الشيوعيون الماركسيون.
وقد أطلق عليها وصف "المادية" لأن نظرتها مادية صرف، أي: لا ترى الوجود كله إلا مادة فقط، وتعلل حوادث الكون تعليلاً مادياً، وترفض أي مؤثر غيبي، أو خارج عن حدود المؤثرات المادية. وهذا الرفض قد جعل الماركسيين يلتزمون تلقائياً عدم حاجة الكون لعلم سابقٍ وحكمة واختيار وقدرة، رغم كل ظواهر الإبداع والإتقان والعناية، ورغم كل روائع الحكمة البادية فيه لكل متدبر مفكر، ورغم نظام الوحدة المسيطر عليه، والدالة على وحده المنظَّم، ورغم تصاريفه الهادفة إلى غاية مثالية عظيمة، والتي لا يلاحظ فيها أية عشوائية، أو أي تخبط على غير هدى، بخلاف حال المصادفات.
وأطلق عليها وصف "الجدلية=الديالكتيك" لأن أسلوبها في النظر إلى الحوادث الكونية والتاريخ الإنساني مأخوذ من النظام الذي ظن الفيلسوف الألماني "هيجل" أنه قد اكتشف به سراً من أسرار الحقيقة الكبرى، وأطلق عليه "ديالكتيك"، حدساً منه بأن حوادث الطبيعة تسير وفق صراع يكون بين المتناقضات أو المتضادات، فينتج عن صراعها ثالث أصلح منها وأرقى، كما ينتج بين فكرتين ذهنيتين متضادين أو متناقضين فكرة ثالثة هي أوفى منهما وأكمل وأصلح.
المادية الجدلية في الكون
فالمادية الجدلية الماركسية في الكون تقرر: أن مادة الكون الأولى قد تطورت تطوراً ذاتياً، ضمن نظام "جدلية هيجل" حتى تكامل للكون نظامه
الرائع. ثم ظهرت في ألأرض الحياة نتيجة لحركة التطور وفق "الجدلية" ثم ظهر الإنسان بالتطور الذاتي، وتدرج في كماله حتى بلغ وضعه الحالي المشاهد. وتقرر أن تطور المادة يخضع لعوامل ونظم من المادة نفسها، يفهمها الإنسان منها بعد وقوعها. وتقرر أن تطورات الكون لا تخضع مطلقاً لخطة فرضت عليها من خارج عنها مسير لها، مدبر لأمرها، بل تخضع لقوانين حركة المادة.
وبقرار تحكمي غير مستند إلى أي دليل علمي يجزم أئمة المادية الجدلية الماركسية، بأن الطبيعة تتطور نتيجة المتناقضات الموجودة فيها، والفعل المتبادل بين القوى المتضادة أو المتناقضة.
يقول "كارل ماركس":
"إن طريقتي لا تختلف عن الطريقة الهيجلية من حيث الأساس فحسب، بل هي ضدها تماماً، فالفكر في نظر هيجل سابق للوجود، وهو خالق الواقع وصانعه، فما الواقع إلا الشكل الحادثي للفكرة. أما في نظري فعلى العكس، ليست حركة الفكر سوى انعكاس الحركة الواقعية، منقولة إلى دماغ الإنسان مستقرة فيه ".
ويقول "فريدريك إنجلز" رفيق "ماركس" ومؤسس المذهب الشيوعي معه:
"إن الفهم المادي يعني بكل بساطة فهم الطبيعة كما هي، دون أية إضافة غريبة..
"إن مسألة علاقة الفكر بالكائن، وعلاقة العقل بالطبيعة، هي المسألة العليا في كل فلسفة، وكان الفلاسفة تبعاً لإجابتهم على هذه المسألة ينقسمون إلى معسكرين كبيرين:
فأولئك الذين كانوا يؤكدون تقدم العقل على الطبيعة يؤلفون معسكر المثالية.
والآخرون الذين كانوا يقررون تقدم الطبيعة، ينتمون إلى مختلف المدارس المادية.
إن العالم المادي الذي تدركه حواسنا والذي ننتمي إليه نحن أنفسنا هو الواقع الوحيد، أما إدراكنا وفكرنا، فهما مهما ظهرا رفيعين ساميين، فليسا سوى نتاج عضوي مادي جسدي هو الدماغ.
إن المادة ليست من نتاج العقل، بل إن العقل ليس سوى نتاج المادة الأعلى ".
أما لينين:
فقد عرض المفهوم المادي لدى الفيلسوف الإغريقي "هيراقليط" الذي جاء فيه: " إن العالم هو واحد، لم يخلقه أي إله أو إنسان، وقد كان ولا يزال وسيكون شعلة حيةً إلى الأبد، تشتعل وتنطفيء تبعاً لقوانين معينة".
ثم علق "لينين" على هذا القول بقوله:
"ياله من شرح رائع لمبادئ المادية الديالكتيكية".
وتقول كتب الشيوعيين:
"تقوم المادية الفلسفية الماركسية على أن المادة، والطبيعة، والكائن، هي حقيقة موضوعية موجودة خارج الإدراك، وبصورة مستقلة عنه، وإن المادة هي عنصر أولي، لأنها منبع الإحساسات والتصورات والإدراك. بينما الإدراك هو عنصر ثانٍ مشتق، لأنه انعكاس المادة، انعكاس الكائن، وإن الفكر هو نتاج المادة لما بلغت في تطورها درجة عالية من الكمال، أو بتعبير أدق: إن الفكر هو نتاج الدماغ، والدماغ هو عضو التفكير، فلا يمكن بالتالي فصل الفكر عن المادة دون الوقوع في خطأٍ كبير.."
المادية الجدلية في التاريخ الإنسانية
1-
تقرر المادية الجدلية الماركسية في التاريخ الإنساني:
أن التاريخ الإنساني يخضع في حوادثه لقانون المادية الجدلية التي
تخضع له طبيعة الكون، وتخضع له التغيرات الكونية التي لا تتدخل إرادة الإنسان فيها.
فالتاريخ الإنساني - كما تزعم الماركسية - يسير وفق نظامٍ جبري ليس بمستطاع المجتمع الإنساني التصرف فيه، ولا التغيير من نتائجه، لذلك فهي تقرر حتميات وضرورات سيتطور لها التاريخ الإنساني، ضمن قانون المادية الجدلية المزعوم.
لذلك ترى الماركسية أن الحياة الاجتماعية للناس ثمرة واقعهم المادي، وأن حياة المجتمع العقلية هي انعكاس هذا الواقع الموضوعي، وعنه تظهر الأفكار الاجتماعية والتشريعية والسياسية وغيرها، وليست الحياة الاجتماعية ثمرة أفكار سابقة للناس تحدد مفاهيمهم عن الوجود والكون والحياة والإنسان، وما هي وسائل سعادتهم ونظم تعايشهم الأفضل.
يقول "كارل ماركس":
"ليس إدراك الناس هو الذي يحدد معيشتهم، بل العكس من ذلك، إن معيشتهم الاجتماعية هي التي تحدد إدراكهم".
وتقول كتب الشيوعيين:
" إن الأفكار والنظريات الاجتماعية والأوضاع السياسية تتولد من المهمات العاجلة التي يصطنعها تطور الحياة المادية للمجتمع، ثم تؤثر هي نفسها فيما بعد بالمعيشة الاجتماعية، وفي حياة المجتمع المادية، وجعل تطور المجتمع إلى الأمام ممكناً ".
وتقول كتب الشيوعيين أيضاً مع تنازل جزئي عن أساس الفكرة:
" إن الأفكار والنظريات الاجتماعية الجديدة لا تبرز إلا عندما يَضَعُ تطور الحياة المادية للمجتمع مهمات جديدة أمام المجتمع، لكنها إذا ما برزت أصبحت قوة ذات أهمية من الدرجة العليا، تسهل إنجاز المهمات الجديدة التي يضعها تطور الحياة المادية للمجتمع، وتسهل رقي المجتمع، وتبدو إذ ذاك خطورة الدور الذي تقوم به الأفكار والنظريات الجديدة،
والآراء والأوضاع السياسية الجديدة، من حيث هي قوة تنظيم وتعبئة وتحويل، وفي الحقيقة، إن الأفكار والنظريات الاجتماعية الجديدة، إنما تظهر لأنها ضرورية للمجتمع، فبدون عملها المنظم والمعبأ والمحول يستحيل حل المسائل العاجلة الملحة التي يقتضيها تطور الحياة المادية للمجتمع ".
2-
وتقرر المادية التاريخية الماركسية أيضاً:
أن كل نظامٍ اجتماعي، وكل حركة اجتماعية في التاريخ لا ينبغي الحكم عليها من ناحية العدالة الأبدية، أو من ناحية أيةِ فكرة أخرى مقررة سلفاً كما يفعل المؤرخون على الغالب، بل ينبغي أن تبني الأحكام على أساس الظروف التي ولدت هذا النظام، وهذه الحركة الاجتماعية.
ويقول الماركسيون في هذا الصدد:
لما كان التطور يجري بانبثاق التناقضات الداخلية، وبالنزاع بين القوى المتضادة على أساس هذه التناقضات، وأن غاية هذا النزاع هو قهر هذه التناقضات والتغلب عليها.
فمن الواضح أن نضال "البروليتاريا " الطبقي هو حادث طبيعي تماماً، ولا مناص منه، وبالتالي لا ينبغي إخفاء تناقضات النظام الرأسمالي، بل ينبغي إبرازها وعرضها، وينبغي خلق النضال الطبقي، والقيام به حتى النهاية، ولذلك يجب اتباع سياسة "بروليتارية" طبقية حازمة، لا سياسة إصلاحية تقول: بالتناسق بين مصالح "البروليتاريا" ومصالح "البورجوازية" ولا سياسة تفاهمية تقول بدمج الرأسمالية في الاشتراكية.
ويقول الماركسيون أيضاً:
إن شروط الحياة المادية في المجتمع، التي تحدد في النهاية هيئة
المجتمع، وأفكاره وآراءه، وأوضاعه السياسية، وما إليها، هي "الطبيعة" و"الوسط الجغرافي" و"ازدياد السكان" و"أسلوب الإنتاج".
ويقولون أيضاً:
أما الطبيعة التي تحيط بالمجتمع أو الوسط الجغرافي، فإنها تؤلف أحد الشروط الضرورية الدائمة لحياة المجتمع المادية، وهي تؤثر دون شك في تطور المجتمع، ولكنها لا تكون القوة الرئيسية التي تحدد هيئة المجتمع، وتعين نظام الناس الذين يعيشون عليه، وتقرر الانتقال من نظام إلى آخر، ولم يكن تأثير الوسط الجغرافي حاسماً، لأن تطور المجتمع وتغيراته تجري بصورة أسرع بكثير من تطور الوسط الجغرافي وتغيراته.
ويقولون أيضاً:
إن نمو السكان وكثافتهم يؤلف أيضاً أحد الشروط لحياة المجتمع، وبدون حد أدنى من الناس لا يمكن أن تكون هناك أية حياة مادية للمجتمع، ولكن لا يكون القوة الأساسية التي تحدد طابع نظام المجتمع، أما أسلوب الإنتاج فهو الذي يكون القوة الأساسية لتطور المجتمع، وهو القوة التي تحدد هيئة المجتمع.
ويقول "ماركس" في البريمير الثامن عشر للوي بونابرات سنة (1852م) :
"إن الناس يصنعون تاريخهم، ولكن ليس بإرادة جماعية، ولا طبقاً لخطة جماعية حتى الآن".
ويقول "إنجلز":
"إن الناس يصنعون تاريخهم أيا كانت النتائج في ذلك التاريخ، وذلك بأن كل فرد يتبع غايته الواعية التي يرغب في تحقيقها، وحصيلة هذه الإرادات المتباينة العديدة التي تعمل في اتجاهات مختلفة، وتأثيراتها العديدة على العالم الخارجي هي بالضبط ما يشكل التاريخ".
ويرى "إنلجز": أن الأسباب التاريخية هي: "صراع الطبقات لتحرير نفسها اقتصادياً"
ومن تعاليم الماركسية الأساسية: أن الدولة لا معنى لها ولا وجود لها إلا بوصفها أداةً لسيطرة الطبقة.
(4)
خلاصة آراء الماركسية في المادية الجدلية
تتلخص آراء "الماركسية" في "المادية الجدلية" التي هي العقيدة الأساسية الجذرية للماركسيين بالمبادئ التالية:
المبدأ الأول: المادة هي أساس الوجود وجوهره، ولا شيء في الوجود غير المادة وما ينبثق عنها ويكون من نتاجها. ومن نتاج المادة في حركة تطورها الجدلي الحياة والفكر، فهما منبثقان عنها، وهما نتاجها الأعلى. وفكرة وجود الله من اختراع الناس، فليس للكون رب خالق عليم حكيم قدير مهيمن يتصرف بمقاديره، ويدبر أمره، ويُجري أحداثه.
فالمادة السابقة في الوجود على الفكر والحياة.
المبدأ الثاني: الطبيعة (أي: الموجود المادي الذي هو كل الوجود) هي كلٌّ واحد متماسك ترتبط فيه الأشياء والحوادث فيما بينها ارتباطاً تاماً، وهي سرمدية أزلية أبدية، أي: لا بداية لها ولا نهاية.
المبدأ الثالث: الطبيعة ليست ساكنة، بل هي ملازمة للحركة، وهي في تطور وتغيرٍ دائمين.
المبدأ الرابع: الوعي الذي يجمع التفكير والإدراك والإحساس والتصور والإرادة إنما هو وظيفة لمادة عالية التنظيم وهي الدماغ.
أي: فهو مظهر من مظاهر المادة، وأثر من آثارها.
والحياة كذلك وظيفة من وظائف المادة متى وصل تركيبها إلى وضع خاص.
والدماغ لا يؤدي وظيفته العليا إلا إذا عاش صاحبه في مجتمع إنساني، وكانت المصطلحات اللغوية سائدة فيه.
فبالاصطلاحات اللغوية تتجرد المعاني في الذهن، ويتميز فيه بعضها عن بعض، وبذلك يستطيع بناء الأحكام واستخراج النتائج، فاللغة هي روح الفكر.
المبدأ الخامس: كل الأشياء وحوادثها تحوي تناقضات داخلية، وبوساطة الصراع بين المتناقضات تحدث التغيرات الارتقائية حتماً، وفق نظام جدلية هيجل، وآراء النشوء والارتقاء الداروينية.
والصراع بين المتناقضات والأضداد يستلزم وحدتها، واجتماعها متزاحمة في الشيء الواحد والوقت الواحد، وهذا الصراع القائم بينها ضمن وحدتها يدفع بها إلى التطور، غذ هو السبيل الوحيد لحل التناقض القائم بينها.
وهكذا تسير حركة الصراع التي يتولد عنها التغير الصاعد، وفي حركة الصراع تتبادل الأسباب والنتائج مواقعهما، فما يكون في بعض الظروف سبباً يصبح في ظروف أخرى نتيجة، والعكس بالعكس.
المبدأ السادس: إن حركة التطور هي تغير ينتقل من تغيرات كمية تتراكم إلى تغيرات كيفية، بشكل سريع وفجائيّ وارتقائي من حالة أدنى
إلى حالة أعلى، وبشكل ذاتي دون حاجة إلى مؤثر خارجي عليم حكيم قدير.
ومن أمثلة ذلك تراكم درجة الحرارة في الماء حتى إذا بلغت مئة درجة تبخر بشكل سريع ومفاجئ.
المبدأ السابع: المادية الجدلية في تاريخ المجتمع البشري تظهر بالصراع بين التناقضات القائمة داخل المجتمع.
وتغيرات المجتمع، وجميع ظواهره، وأنماط حياة الناس فيه، تتعلق بأسلوب الإنتاج، وتكون نابعة منه، ومشروطة به، وحين تظهر الطبقات في المجتمع يكون الصراع بينها بمؤثرات اقتصادية تتحكم فيها وسائل الإنتاج.
وتاريخ المجتمع البشري يمر بالمراحل الست التالية:
1-
المشاعية الابتدائية.
2-
الرق.
3-
الإقطاع.
4-
الرأسمالية.
5-
الاشتراكية الممهدة للشيوعية.
6-
الشيوعية الأخير التي تلغي في الطبقات كلها.
(5)
كشف الزيف
أقدم هنا موجزاً لأهم الكواشف التي تكشف أبرز الزيوف التي تنطوي عليها جذور العقيدة الماركسية، دون دخول في التفصيلات الكثيرة، التي قد تحتاج باباً مستقلاً.
الكاشف الأول: حول المبدأ الأول من مبادئها الذي يشتمل على أن المادة هي أساس الوجود وجوهره، ولا شيء في الوجود غير المادة وما ينبثق عنها ويكون من نتاجها.... إلى آخره.
يردد الماركسيون هنا أقوال الملاحدة الماديين، التي سبق كشف زيوفها وبيان بطلانها، فلا داعي لإعادتها هنا.
وجدلياتهم هنا تعتمد على النقاط التالية:
1-
المغالطات والأكاذيب وتحوير دلالات أقوال المخالفين عن مقاصدهم.
2-
الإنكار بدون دليل لكل ما يخالف مقرراتهم التي لا دليل عليها، غير مجرد الادعاء.
3-
محاولات التشكيك بأدلة المثبتين لوجود الله، أو لكل ما يخالف آراءهم ومقرراتهم، ضمن أساليب المغالطات.
4-
تصيد أضعف الأدلة عن أوساط المتعلمين المؤمنين، وجعلها الممثل الوحيد لأدلة المثبتين، ثم توجيه المطاعن لها بقوة.
5-
تقديم أدلة من عند أنفسهم لآراء مخالفيهم، وتصويرها كما يريدون، ثم توجيه المطاعن لها بقوة.
6-
اتخاذ بعض المكتشفات العلمية ذرائع لدعم معتقداتهم زوراً وبهتاناً.
7-
تقديم مقرراتهم أحكاماً تقريرية غير مقترنة بحجج تثبتها، وإطالة النفس في الثرثرات والغوغائية، والادعاءات الباطلة بأن العلوم تؤيد مقرراتهم.
الكاشف الثاني: حول المبدأ الثاني من مبادئ الماركسية، الذي يشتمل على أن الطبيعة كل واحدٌ متماسك، وأنها سرمدية لا بداية لها ولا نهاية.
1-
إما أن الطبيعة كلٌّ واحد متماسك ترتبط فيه الأشياء والحوادث فيما بينها ارتباطاً تاماً، فظاهرة تدل على أن الخالق المصور المهيمن على الكون واحد، وهو يدبّر أمر الكون كله بنظام واحد مترابط الأسباب متشابك العناصر.
وليس من شأن هذه الظاهرة أن تدعم مقررات الماركسية المادية بأي وجه من الوجوه.
ولكن المبطلين لا بد أن يدخلوا ضمن جملة مقرراتهم ما هو حقٌّ أو مقبولٌ علمياً، لتغطية عناصر الباطل التي تشتمل عليها جملة مقرراتهم.
2-
وأما أن الطبيعة (أي الموجود المادي الذي هو كل الوجود) سرمدية أزلية أبدية لا بداية لها ولا نهاية، فهو ادّعاء منقوض ببراهين العقل ودلائل العلم، التي تثبت حدوث الكون، وتثبت مصيره إلى الفناء.
وقد سبق بيان هذا لدى كشف زيوف الماديين.
الكاشف الثالث: حول المبدأ الثالث من مبادئ الماركسية، الذي
يشتمل على أن الطبيعة ليست ساكنة، بل هي ملازمة للحركة، وهي في تطور وتغير دائمين.
هذا المبدأ الذي يعرض خاصة من خواص الكون الكبرى، هو من مقررات المؤمنين بالله، سواءٌ أكانوا أتباع دين رباني صحيح أو فلاسفة مثاليين، وهو من الأدلة التي هدتهم إلى حدوث الكون، وحاجته إلى محدثٍ خالق بارئ مصور، إذ يقولون: العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث، فالعالم لا بد له من محدث.
وهو لدى أهل الفكر والنظر يتناقض مع ادعاء أزلية الكون وأبديته، فهو لا ينفع المذهب المادي أي نفع، بل هو لدى التحقيق ينقضه ويبطله.
بيد أن الماديين لا بد لهم من إثباته، لأن كل وسائل العلم الإنساني وكل التجارب والملاحظات تثبته، فهم يثبتونه للإيهام بأنه لا يتناقض مع أساس مذهبهم المادي المنكر لوجود الله، كما أنه أحد دعائم "المادية الجدلية" وأفكار النشوء والارتقاء.
الكاشف الرابع: حول المبدأ الرابع من مبادئ الماركسية، الذي يشتمل على أن الوعي لمادة عالية التنظيم وهي الدماغ، وأن الحياة وظيفة من وظائف المادة متى وصل تركيبها إلى وضع خاص.
1-
تبين لنا فيما سبق من بحوث حول آراء الداروينية، وآراء الماديين في نشأة الحياة، أن آخر ما توصلت إليه العلوم الإنسانية التي قام بها الغربيون والشرقيون الماركسيون، والتي أنفقوا في سبيلها ألوف الملايين، وعشرات السنين، قد انتهت إلى قرار علمي جازم هو أنه لا تتولد الحياة إلا من الحياة، وأن وسائل العلوم الإنسانية لا تملك تحويل المادة التي لا حياة فيها، إلى أدنى وأبسط خلية حية.
2-
وبما أن الوعي مرتبط بالحياة فهو مظهر من مظاهرها وصفة من صفاتها، فلا سبيل للمادة الميتة أن يكون الوعي أحد وظائفها، مهما كانت عالية التنظيم.
فالعلوم الإنسانية، قد كفتنا مهمة إبطال هذا المبدأ من مبادئ الماركسية وسائر الماديين الملحدين.
على أن مبدأهم هذا هو في الأساس ادعاء غير مقترن بأي دليل عقلي أو علمي، وهو من لوازم مبدئهم الأول الباطل الذين يرون فيه أن المادة هي أساس الوجود وجوهره.
الكاشف الخامس: حول المبدأ الخامس من مبادئ الماركسية، الذي يشتمل على أن كل الأشياء وحوادثها تحوي تناقضات داخلية، مجتمعة متزاحمة في وحدة، يعبرون عنها بوحدة الأضداد أو وحدة المتناقضات. وهي تتصارع فيما بينها وفق نظام "جدلية هيجل" فيدفع بها الصراع إلى التطور الصاعد، إذ هو السبيل الوحيد لحل التناقض أو التضادّ القائم بينها.
إن فكرة اجتماع الأضداد، أو اجتماع المتناقضات، التي اشتمل عليها هذا المبدأ، فكرة تقع الأفكار الخرافية بالنسبة إليها في جانب الممكنات العقلية، أما هي فهي من المستحيلات العقلية، التي يرفض
العقل إمكان وجودها، فضلاً عن رفض الواقع لها.
فمن الأصول العقلية البدهية المقررة لدى الفلاسفة والمناطقة وسائر العقلاء والمفكرين من الناس ما يلي:
أ- أن النقيضين كالوجود والعدم، وكإيجاب الشيء وسلبه، لا يجتمعان في شيء واحد ووقت واحد، واجتماعهما مستحيل عقلاً. ولا يرتفعان معاً من شيء واحد في وقت واحد، وارتفاعهما معاً مستحيل عقلاً.
فلا يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد موجوداً ومعدوماً معاً، ولا موجباً وسالباً معاً من الجهة التي يكون فيها موجباً.
ولا يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد غير موجود وغير معدوم معاً، أو غير موجب وغير سالب معاً.
ب- وأن الضدين كالأبيض والأسود، وكالواجب والحرام، وكالجبر على الهداية والجبر على الضلال، لا يجتمعان معاً في شيء واحد ووقت واحد، واجتماعهما معاً مستحيل عقلاً. فلا يكون الشيء الواحد بالذات أبيض وأسود معاً من الجهة نفسها في وقت واحد ، ولا يكون حكم العمل الواحد واجباً وحراماً معاً فيوقت واحد لشخص واحد من جهة واحدة. ولا يكون المخلوق الواحد مجبوراً على الهداية ومجبوراً على الضلالة معاً، في وقت واحد ، ومن جهة واحدة.
لكن الضدين قد يرتفعان معاً في وقت واحد، فيكون الجسم لا أبيض ولا أسود معاً في وقت واحد، إذ قد يكون أحمر أو أصفر أو غير ذلك من ألوان. ويكون حكم العمل لا واجباً ولا حراماً معاً، إذ قد يكون مباحاً، فالمباح ضد ثالث وهو لا واجب ولا حرام. ويكون المخلوق غير مجبور على الهداية، وغير مجبور على الضلالة معاً، وذلك حين يكون مخيراً، فالتخيير ضد ثالث للجبر على الهداية والجبر على الضلالة.
ومن الملاحظ أن المادية الجدلية قد نسفت هذا الأصل العقلي
المنطقي نسفاً كلياً، فأقامت الوجود كله على فكرة اجتماع الأضداد أو المتناقضات واتحادها.
وفي ادعاء اتحاد الأضداد والمتناقضات استهانة بالغة بالعقل البشري، وإقامة مذهب كامل لبني الإنسان، على أمر باطل واضح البطلان.
إن اللحظة التي يكون فيها الشيء متحركاً، لا يمكن أن يكون فيها ساكنا، واللحظة التي يكون فيها ساكناً لا يمكن أن يكون فيها متحركاً.
ولكن الشيء الواحد قد تتداول عليه الحركة والسكون بلحظات متتابعات مهما صغرت ودقت هذه اللحظات، وقد ينخدع بذلك بعض أهل الفلسفة، فيظن أن السكون كامن في الحركة، فيعتبر ذلك من اجتماع النقيضين، وليس الأمر كذلك.
وقد يمثل مدعو اجتماع الضدين أو النقيضين بتماس السالب والموجب في الكهرباء، الذي ينجم عنه الظواهر الضوئية والحركية.
لكن التمثيل بهذا تمثيل باطل، فالسالب والموجب في الكهرباء ليسا ضدين ولا نقيضين منطقيين.
إن السالب المنطقي للكهرباء هو لا كهرباء، ويصدق ذلك بأي شيء غير كهرباء في الوجود، فالخشب والحجر والتراب والثلج والملح والحلاوة والملاسة والخشونة وغير ذلك كلها ليست بكهرباء.
أما السلك السالب في الكهرباء، فليس هو السالب المنطقي للكهرباء، إنما هو مشتمل على قوة أخرى منافرة للقوة الكهربائية.
فالموجب والسالب في الكهرباء قوتان متنافرتان متقابلتان، إذا تماسا تفاعلا، فأنتجا بحسب قوانين إنتاجهما ظواهر ضوئية أو حركية، كالذكر والأنثى، وما ينتج عنهما.
إن القوى المتنافرة والمتآلفة والمتفاوتة كلها إذا تلاقت أو تماست أو اجتمعت كانت ذات آثارٍ ما، وآثارها تخضع لقوانين خاصة بكل منها.
الكاشف السادس: حول المبدأ السادس من مبادئ الماركسية، الذي يشتمل على أن حركة التطور هي تغير ينتقل من تغيرات كمية تتراكم، إلى تغيرات كيفية، بشكل سريع ومفاجئ وارتقائي من حالة أدنى إلى حالة أعلى وبشكل ذاتي.
إن هذا المبدأ من مبادئ الماركسية، لا يمكن أن يعتبر قانوناً عاماً ينطبق على كل حركة تطور في الطبيعة، فالعلوم المادية الإنسانية لا تقر به، وهو إن صدق ببعض الأمثلة، فإنه لا يصدق بآلاف الأمثلة الأخرى.
إن التراكم في الكم لا يقتضي دائماً التطور في الكيف، ما لم يكن نظام ذلك الشيء يقتضي ذلك.
إن الملاحظة تثبت أن لكل حالة تطور في الكون شروطاً معينة في أنظمته وسننه الثابتة، فمتى استوفيت هذه الشروط تحقق التطور.
أ- فبيضة الدجاجة الملقحة إذا وجدت ضمن حرارة ذات مقدار معين، ورطوبة ذات مقدار معين، بدأ جنينها يتكون تدريجياً حتى يتكامل داخل القشرة، وفي نهاية ثلاثة أسابيع يكون قد تكامل، وبدأ ينقر القشرة من الداخل حتى يكسرها، وعندئذٍ يخرج من غلافه إلى الهواء، ليبدأ رحلة حياته على الأرض.
لقد حصل التطور، ولكن على خلاف المدعي في المبدأ الماركسي، فلا تراكم الحرارة هو الذي أحدث ظاهرة التغير، ولا تراكم الرطوبة، بل ثبات درجة الحرارة، وثبات درجة الرطوبة، قد ساعدا على تكون جنين البيضة تكوناً تدريجياً، ضمن الوقت المخصص في نظام الكون لتكامل تكوينه.
ولو أن الحرارة تراكمت أكثر من المقدار المحدد في نظام التكوين لسلقت البيضة، ولهلكت نواة جنينها، ولو زاد هذا التراكم لاحترقت البيضة.
فنظام الكون هو نظام تحديد مقادير لكل شيء، ضمن خطط ثابتة،
وليست تغيراته ثمرة تراكمات. هذه هي الحقيقة التي تدل عليها الملاحظات والتجارب العلمية، وهي التي أعلنها قول الله عز وجل في القرآن العظيم في سورة (الرعد/13 مصحف/96 نزول) :
إن هذا المثال كافٍ لنقض فكرة التراكم المدعاة في المبدأ الماركسي الذي يعتبرونه قانوناً شاملاً لكل تطور في الوجود.
وهو أيضاً كافٍ لنقض فكرة التطور السريع المفاجئ، إذ الأمور تتطور في الغالب تطوراً تدريجياً.
ب- والكائنات الحية تبدأ حركة بنائها منذ لحظة التقاء خلية لقاح الذكر بخلية بييضة الأنثى.
ويسير بناء الكائن في نمو متدرج، حتى إذا استوفى الشروط اللازمة لظهور الحياة دبت الحياة فيه.
ثم يسير ضمن نظام نمو متدرج، حتى إذا استكمل نموه الجنيني، تمخضت عنه أمه فولدته.
ثم يسير في نمو تدريجي أيضاً حتى يبلغ، ويتدرج في النماء حتى يكون شاباً فكهلاً.
ثم يعود إلى طور الانحدار، فيصير شيخاً، فهرماً، ثم يقضي أجله المقدر له، فيموت، فيتفسخ جسمه، ويعود تراباً كما بدأ من التراب.
وقد يموت في أي مرحلة من المراحل السابقة، فينحدر ويعود إلى مثل مرحلة البدء، دون أن يمر في المراحل المعتادة للأحياء.
وتخضع كل المراحل لنظام المقادير المحددة في كل شيء، في العناصر، وفي الصفات، وفي الزمان، وفي درجة الحرارة، وفي سائر ما يلزم لتكوين الحي، وإعداده لأداء وظائفه.
وهذا المثال الثاني كافٍ أيضاً لنقض كل عناصر المبدأ السادس من مبادئ الماركسية.
ففكرة التراكم المقررة في المبدأ فكرة منقوضة، ذلك لأن الأحياء تخضع لنظام المقادير المحددة سواء في جواهرها وأعراضها، ولا تخضع لفكرة التراكم الكمي.
وفكرة التطور السريع المفاجئ المقررة في المبدأ الماركسي منقوضة أيضاً، لأن الأحياء تسير وفق نظام البناء المتدرج، لا وفق التطور السريع المفاجئ.
وفكرة الارتقاء المقررة في المبدأ الماركسي على أنها قانون شامل عام، فكرة لا تصلح لأن تكون مبدأً عاماً، فعمومها منقوض، وذلك لأن تطور الأحياء ليس حركة ارتقائية دائماً، بل قد تكون حركة إلى الأدنى أو إلى المساوي.
فالتعميم المدعى في المبدأ تعميم باطل.
وأخيراً أؤكد أن الأمثلة الناقضة لهذا المبدأ السادس من مبادئ الماركسية كثيرة جداً.
الكاشف السابع: حول المبدأ السابع من مبادئ الماركسية، المتعلق بتاريخ المجتمع البشري، والمتضمن أن تغيرات المجتمع، وجميع ظواهره، وأنماط حياة الناس فيه، تتعلق بأسلوب الإنتاج، وتكون نابعة منه، ومشروطة به، وأن تاريخ المجتمع البشري لا بد أن يمر حتماً بالمشاعية الابتدائية، فالرق، فالإقطاع، فالرأسمالية، فالاشتراكية، فالشيوعية الأخيرة التي تختفي فيها الطبقات.
في هذا المبدأ من مبادئ الماركسية مغالطتان:
المغالطة الأولى: هي في جعل تغيرات المجتمع، وجميع ظواهره وأنماط سلوكه، هي من آثار أسلوب الإنتاج. مع أن وقائع التاريخ البشري تشهد بأن أسباباً كثيرة، غير أسلوب الإنتاج، قد كان لها تأثير عظيم
في حركة تطور وتغير المجتمع البشري.
فالمذاهب الفكرية الفلسفية قد أحدثت تطورات كثيرة في المجتمعات البشرية.
والرسالات الدينية قد أحدثت تطورات كثيرة في المجتمعات البشرية. والنزعات القومية، والأنانيات الفردية، ورغبات الطامعين بالحكم والسلطان، ورغبات الحكام والملوك والسلاطين، كل ذلك قد أحدث تطورات كبيرة وكثيرة في المجتمعات البشرية.
ومن ضمن هذه المؤثرات الكثيرة، المؤثرات الاقتصادية، ومن ضمن المؤثرات الاقتصادية أساليب الإنتاج.
وقد أخذت الماركسية هذا المؤثر الذي قد يكون له دخل ما في بعض التغيرات والتطورات الاجتماعية فعممته، فجعلته هو المؤثر الوحيد أو المؤثر الأكبر في تطور المجتمعات.
فلعبة المغالطة هنا قائمة على التعميم الباطل.
المغالطة الثانية: في ادعاء حتمية تطور المجتمع البشري، من المشاعية الابتدائية، إلى الرق، فالإقطاع، فالرأسمالية، فالاشتراكية، فالشيوعية الأخيرة التي تنعدم فيها الطبقات.
أما النظر إلى تاريخ المجتمع البشري السابق لوضع الفكرة الماركسية، فلا شأن لنا به، وهو يقف عن طور الرأسمالية، سواءٌ أكان ادعاء مسير التاريخ وفق المراحل المذكورة صحيحاً أو غير صحيح تماماً، وهو وصف لواقع مضى.
لكن مناقشة الفكرة إنما تكون في ادعاء أن حتمية التطور تقضي بأن تتحول المجتمعات الرأسمالية إلى الاشتراكية فالشيوعية.
وهنا نقول: إن تحول الرأسمالية إلى الاشتراكية لم يتحقق في البلدان الرأسمالية الصناعية الغربية، كما كانت تزعم الماركسية، وإنما
قامت الثورة الاشتراكية في روسيا، التي لم تكن فيها صناعات كثيرة، ولا رأسمالية، فالبلاد الروسية كانت آخر البلدان الأوروبية التي يصدق عليها التطور المدعى. وكذلك الأمر في الصين، فقد ظهرت فيها الشيوعية وثورتها على خلاف مزاعم الماركسية كلياً.
ونقول أيضاً: إن الاشتراكية الروسية التي ترى الفكرة الماركسية أنها ستتحول إلى الشيوعية، قد أثبت الواقع أنها تتراجع عن كثير من تطبيقاتها الاشتراكية، فضلاً عن أن تتقدم أية خطوة في طريق التحول إلى الشيوعية، كذلك لا يوجد دليل واحد يدل على أن المجتمع الاشتراكي السوفييتي مجتمع تتراكم فيه أمور قد تدفع به يوماً ما إلى التحول إلى الشيوعية التامة.
بل إن المتراكمات قد تدفع به يوماً ما إلى العودة إلى الرأسمالية، أو إلى أي وضع غير الشيوعية، متى أتيحت له ظروف يستطيع بها التخلص من ضواغط الحكم الصارم، والتخلص من الاشتراكية المشقية له.
وأما في الصين الشيوعية فقد أعلنت الإذاعات في هذه الأيام تراجعها عن كثير من التطبيقات الاشتراكية، متجهة نحو الاقتصاد الحر.
ونقول ثالثاً: إن الماركسيين يقررون أن الفكر والوعي انعكاس صور الأشياء على الدماغ، والتفكير ليس إلا إعادة لإنتاج الواقع منسوخاً على صفحة الذهن.
فإذا كانت هذه عقيدتهم بالنسبة إلى الفكر والوعي الإنساني، فمن أين لهم أن يأتوا بفكرة الحتميات الطبيعية والتاريخية المستقبلية، دون أن تصبح هذه الفكرة بذاتها انعكاساً للواقع؟!
إن مقتضى أساس مذهبهم في المعرفة يمنع من اتخاذ قرارات كلية سابقة لاختبار الطبيعة.
فكيف يقررون حتمياتهم في وصف أحداث المستقبل، مع أن الأفكار عن المستقبل أفكار لا قيمة لها من وجهة نظرهم، لأنها ليست مأخوذة من انعكاس الواقع على الذهن؟!
هذا منهم تناقض مع أنفسهم.
وفي "الماركسية" أغاليط وزيوف أخرى كثيرة، وتخريفات مذهبية لا حصر لها، منها ما يتعلق بنظرية المعرفة لديهم، ومنها ما يتعلق بالتطبيقات الاشتراكية، ومنها ما يتعلق بأمور أخرى.
وأظن أنما سبق عرضه من كشف زيوفها كافٍ لدمغها بأنها أكبر خرافة في هذا العصر الذي نعيشه، وهذه الخرافة قد اقترنت بأكبر دعاية مشتملة على زيوف وتضليلات انخدعت بها جماهير كثيرة، وقام لها أنصار ومؤيدون أجراء، ومغفلون، وطامعون، وأتباع كل ناعق.
* * *
إضافة إلى الطبعة الثانية
لا يفوتني أن أضيف مع دفعي هذا الكتاب لطبعته الثانية ما يلي:
إن الظاهرة الجديدة التي تكشفت في صروح القلعة الأولى والعظمى من قلاع الشيوعية (الاتحاد السوفييتي) ، وهي ظاهرة تهاويها من داخلها، دون تسليط حربٍ عليها من خارجها، ظاهرة تدل على أن كل نظام يتنافى مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا بد أن ينهار ويتساقط، من داخله، أو بعوامل تنسفه من خارجه أو تساعد على نسفه.
لقد أفضت الشيوعية بالدول الآخذة بها إلى انهيار اقتصادها انهياراً مدمراً، مؤذناً بثورات عارمات تقوم بها الشعوب المحكومة بها، الأمر الذي جعل قياداتها تتراجع شيئاً فشيئاً عن النظام كله، إلى النظام الاقتصادي الحر، واللجوء إلى استجداء دول العالم الآخر لإنقاذها من أوضاعها الاقتصادية المنهارة.
وقد تتابعت سلاسل التراجع والانهيارات الداخلية في الأنظمة الشيوعية، حتى صار العالم يتوقع أن تندفع دول الاتحاد السوفييتي إلى أشد النظم الرأسمالية إسرافاً.
ومن أقوال عتاة القادة الشيوعيين، ما أعلنه رئيس بلغاريا السابق "تودور جينكوف" من أن الشيوعية قد كانت غلطة جسيمة، وأن لينين نفسه كان سيقر
ذلك لو امتد به الأجل. وأضاف في حديث لصحيفة "نيويورك تايمز" أن فكرة الاشتراكية ولدت ميتة منذ بداياتها الأولى".
وقد حركتني ظاهرة تساقط صروح الشيوعية، فقلت فيها عدة قصائد، منها القصائد التالية.
الْمُزَيّف المُخْتَالُ
سقط المختال عن صهوته *** فإذا الفارس من خمرٍ وطينْ
وإذا جبَّارُهُ أكذوبةٌ *** صِبغُ أوراقٍ على شكلِ عرينْ
ما الذي تصنعه آلته *** إن يكن قائدها هش العجينْ
لبثت بالزيف و"الفودكا" إذا *** دُعِيَت كرَّت كمسعورٍ مَهينْ
ثم لمَّا اكتَشَفَتْ واقِعَها *** خَسِئَتْ تَلْهَثُ كالجرو الحزينْ
* * *
كل ما ليس على فطرته *** عمر أكذوبته بضع سنينْ
ثم تمتد له أسطورةٌ *** حينما يقبع في حصنٍ حصينْ
همه فيه رُغاءٌ وصدىً *** وزئيرٌ في مكانٍ ذي رنينْ
وهو يعطي جنده حاجاتها *** يظل الحصنُ في الحرزِ المكينْ
فإذا الأمداد شَحَّت وَجَدوا *** سيد الحصن هو الصيد الثمينْ
ثم تعدو بينهم ثائرةٌ *** تجعلُ الحصن حديثاً للقرونْ
إن أتى السائح كي ينظُرَهُ *** لم يجد غير ذبابٍ وطَنِينْ
الدار البيضاء / المغرب / في 2 محرم 1411 هجرية.