المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيأئمة ماديون ونبذ من آرائهم الفلسفية الإلحادية - كواشف زيوف

[عبد الرحمن حبنكة الميداني]

فهرس الكتاب

- ‌فاتِحَة الكِتَاب

- ‌خِطّةُ الكِتَابْ

- ‌القِسمُ الأوّل مِنَ الكِتَابمقدمات عامة

- ‌الباب الأولتَعريفٌ بمَنَاخِ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة

- ‌مَقَدِّمَة عَامَّة

- ‌الفصْل الأوّلمُنَاخ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة في أوربَّا

- ‌الفصْل الثانيتحرّك اليَهُود مُسْتَغلّينَ المنَاخ الملَائِمَ في أورُبَّا

- ‌الفصل الثالث: أسبَابُ تَقبّل شعُوب الأمَّةِ الإسْلاميَّة لوافدات المذاهب الفكرية المعاصرة

- ‌الباب الثانيوَسَائِل التّضليل لِتَرويج الشِّعَارَاتوالآراء والمذاهب الفكرية المزيفة

- ‌الفصْل الأوّلالخطّة العَامّة

- ‌الفصْل الثانيالمغَالَطاتُ الجَدَليّة

- ‌الفصْل الثالثلعبَة تطبيْق المنهَج العِلْميّ الخاصْ بالجَبريّاتْعلى السلوك الإرادي عند الإنسان

- ‌القِسمُ الثاني مِنَ الكِتَابعَرض لأهَمِّ الشعَارات البرّاقة المزيّفّةوَلآرَاء وَمذاهبْ فكريّة معَاصِرة جزئيّةمُنبثقة في عُلوم مختلفة مع كشف زيوفها وتعريفْ بأئِمتهَا

- ‌الباب الأولمقدِّمات حَولَ اعتِمَاد العَقْل وَالعِلْم الإنسَانيبديلاً للدِّين

- ‌الفصْل الأوّلالعَقلَانيَّة

- ‌الفصْل الثانيالعِلمَانيّة

- ‌الباب الثانيافتِراءَات ترَوَّج ضدّ الدّين وَالأخلَاقوَالقَوانين وَالنُظم المنبثقة عَنْهما

- ‌الفصْل الأوّلفريَة التّنَاقض بَيْن العَقل وَالدّينوبَينَ العلم والدّين

- ‌الفصْل الثانيمَزاعِمُ المُضلِّين لِهَدْم أسُس الأخلَاقوأبنيتها وتطبيقاتها في المجتمع

- ‌البَاب الثَالثْخِدَاع الشِّعَارَاتالتي يتولد عنها في الرأي العام مسلمات خاطئات وموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌المقدمة

- ‌الفصْل الأوّلالحُريّة

- ‌الفصْل الثانيالمُسَاوَاة

- ‌الفصْل الثالثالتقَدّميَّة والرَّجْعيَّة

- ‌الفصْل الرابعالاشتِراكيّة

- ‌الفصْل الخامِسْالوَطنيَّة وَالقَوميَّة وَالإنسَانيّةوموقف الإسلام من كلٍّ منها

- ‌البَاب الرَّابعْأئمّة وَمَذاهِبُ جُزئيّة في عُلُوم مختَلِفَة

- ‌الفصْل الأوّلفروُيْد وَمَدرَسَتُه في عِلْم النّفْس

- ‌الفصْل الثانيدَارْوين وَمَذهَبُ التطوُّر

- ‌الفصْل الثالثدوركايْم وَآرَاؤه في علْم الاجتِمَاعِ

- ‌الفصْل الرابعبرجْسُون وَآرَاؤهُ في نَشأةِ الدّين وَالأخلَاق

- ‌الفصْل الخامِسْسَارْتر وَآراؤهُ الفَلسَفيَّة في الوُجُوديّة

- ‌الفصْل السادسمْكيافيلّي وَفِكرَة: الغاية تبرر الوسيلة

- ‌الفصْل السّابعمَارْكوز وَآرَاؤهُ الثّوريَّةلإقامة ديكتاتورية حكم الأقلية الواعية

- ‌الفصْل الثامِنأوجسْت كونتْوَدين الإنسَانيّة

- ‌القِسمُ الثّالِث مِنَ الكِتَابأئِمة وَمَذاهِبْ فِكريّة معَاصِرَة كَبيرَة

- ‌البَابْ الأوَّلالماديَّة الإلحاديّة وَالماديّون

- ‌الفصْل الأوّلمقدّمات عامة

- ‌الفصْل الثانيأئمّة مَادِّيّون وَنُبّذٌ مِنْ آرَائهم الفَلْسَفيَّةِ الإلحَادية

- ‌الفصل الثالثأسُسُ الفِكْر المادّي الإلحَادي

- ‌الفصل الرابعكشفُ زيُوف أفْكار المادّيّين وَجَدَليَّتِهِم

- ‌الفصل الخامسعقوبَة العَذابْ النّفسِيّ للمُلْحِدينَ

- ‌الفصل السادسالمادية الجدلية في الكون والتاريخ الإنساني

- ‌الباب الثانيالنُّظمُ الاقتِصَاديّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنظرة تاريخيَّة حَول المذاهبْ الوَضْعيَّةللنظم الاقتصادية

- ‌الفصل الثانيلمحّة مُوجَزَة حَول مَنهج دين الله

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين المذاهب الاقتصادية

- ‌الفصل الرابعنظرات متفرقة

- ‌الباب الثالثالنّظمُ السِيَاسيَّة المعَاصِرَة

- ‌الفصل الأولنَظرَة تاريخيَّة حَولَ المذاهِبْ الوَضْعيَّةلِلنُظم السيَاسيّة

- ‌الفصل الثانيلمحَة مُوجَزَة حَول مَنهَجْ دين اللهِ للنّاسِفي شؤون الحكم

- ‌الفصل الثالثمقارنة بين النظم السياسية

- ‌الفصل الرابعمتفرقات

الفصل: ‌الفصل الثانيأئمة ماديون ونبذ من آرائهم الفلسفية الإلحادية

‌الفصْل الثاني

أئمّة مَادِّيّون وَنُبّذٌ مِنْ آرَائهم الفَلْسَفيَّةِ الإلحَادية

مقدمة

في هذا الفصل أقدم تعريفاً موجزاً بأبرز أئمة الإلحاد من الفلاسفة في التاريخ، منذ عهد الإغريق، حتى عصرنا الحاضر، من الذين كانت لهم آراء ظاهرة، حاولوا فيها تفسير الوجود، والكون، وظاهراته، والتغيرات التي تجري فيه، والحياة وما تستتبع من إرادة وشعور وفكر، تفسيرات تستبعد استبعاداً كلياً فكرة وجود خالق أزلي أبديّ عليم حكيم قدير، يفعل ما يشاء ويختار.

وهم بحسب ما ظهر لي في مجموعة الكتب الفلسفية التي حولي:

1-

"ديموقريطس" فيلسوف إغريقي (470 - 361 ق. م) .

2-

"أبيقور" و"الأبيقوريون".

و"أبيقور" فيلسوف إغريقي (341-270 ق. م) .

3-

"توماس هوبز" فيلسوف إنجليزي وهو أوّل المادّيين المحدَثين (1588-1679م) .

4-

"دافيد هيوم" فيلسوف اسكتلندي (1711-1776م) .

5-

"شوبنهور" فيلسوف ألماني (1877 - 1860م) .

6-

"كارل ماركس" يهودي ألماني مؤسس الشيوعية (1818-1883م) .

7-

"بخنر" فيلسوف ألماني (1824-1899م) .

ص: 443

8-

"نيتشه" فيلسوف ألماني (1844-1900م) .

9-

"سبنسر" فيلسوف إنكليزي (1820-1903م) .

10-

"برتراند رسل" فيلسوف إنكليزي (1873-1970م) .

(1)

ديموقريطس وأفكاره الإلحادية

من هو ديموقريطس؟

هو فيلسوف مادّي يوناني، عاش ما بين (470-361 ق. م) وفلسفته المادّية تقول:

إن الوجود واحد، وهو ينقسم إلى عدد غير متناهٍ من الوحدات غير المتجانسة وغير المدركة بالحسّ، والواحد منها هو الجوهر الفرد، أو الجزء الذي لا يتجزأ.

وهذه الوحدات غير المتجانسة قديمة أزلية، نظراً إلى أن الوجود لا يمكن أن يخرج من العدم الكلي المحض، وهي دائمة أبدية، إذْ لا ينتهي الوجود إلى العدم الكلي المحض (اللاوجود مطلقاً) .

وعن "ديموقريطس" وأستاذه "لوقيبوس" أخذ المادّيون بعدهما، حتى فريق المادّيين المعاصرين، فكرة أزلية المادة، وأن وجود الكون ثمرة حركة مادّة الكون الأولى، وأنه سيعود إلى مادّته الأولى، ثمّ يستأنف الكرّة، وهكذا دواليك.

والنفس عند "ديموقريطس" مادّية أيضاً، وهي مؤلفة من أدقّ الجواهر وأسرعها حركة.

فكلّ ظواهر الوجود الكوني عنده تتحكم بوجودها آلية الحركة الذاتية للوحدات غير المتجانسة التي يتألف منها الوجود كله.

ويعرف هذا في الفلسفة بالمذهب الذري.

ص: 444

ومضى "ديموقريطس" بالمذهب الآلي إلى حده الأقصى، ووضعه في صيغته النهائية، فقال: إن كلّ شيء امتداد وحركة فقط.

ولم يستثن النفس الإنسانية ولا الآلهة التي كان يعتقد بها اليونانيّون، فالآلهة في رأيه مركبة من جواهر كالبشر، إلا أن تركيبهم أدقّ، فهم لذلك أحكم وأقدر، وأطول عمراً بكثير، ولكنهم لا يخلدون.

ويقدّم "ديموقريطس" أفكاره هذه آراءً فلسفية، غير مستندة إلى أدلة تؤيدها، ويطرحها ادعاءً تصورياً بلا حجج ولا براهين.

نقد آراء ديموقريطس

لو تأمل ديموقريطس فيما عرض من أفكار ببصيرة نافذة، لكانت كفيلة بنقض مذهبه في أزلية المادية وأبديتها واعتبار أنها هي الوجود كله.

1-

أما قوله: إن العدم الكلي المحض لا يمكن أن يتحول إلى الوجود بنفسه، وأن ما هو أزلي لا بد أن يكون أبدياً، فهو قولٌ حقٌّ، برهانه عقلي.

لأن العدم الكلي المحض لا يمكن عقلاً وبداهة أن يتحوّل بنفسه إلى الوجود، فالعدم لا شيء، ويستحيل عقلاً أن يتحول اللاشيء إلى شيء.

وما هو أزلي - أي: واجب الوجود - لا يمكن أن تأتيه حالة يكون فيها ممكناً حتى يقبل فيها العدم.

لكن هذا لا يفيد أزلية المادة، إنما يهدي إلى وجود موجود أزلي هو الذي أوجد المادّة، وخلق الكون بقدرته وعلمه وحكمته واختياره المطلق.

فالمادّة بطبيعتها المتغيّرة والمتحوّلة القابلة للتحليل والتركيب، لا تصلح لأن تكون أزلية، وما ليس أزلياً فهو حادث، وما هو حادث لا بدّ له من مُحْدث.

2-

تضمْنت آراؤه أنّ النظام الكوني الرائع، كان نتيجة المصادفة

ص: 445

العمياء الجاهلة التي لا قصد فيها، ولا يوجهها علم، ولا تدبرها حكمة

وهذا يتنافى مع حقائق الفكر ويقيناته، فاليقينات الرياضية والبحوث العلمية، تثبت استحالة وجود نظام الكون البديع مصادفة، دون خطّة مدبّر عليم حكيم قدير مختار.

3-

وتضمّنت آراؤه أن الحياة، والإرادة في الأحياء، والفكرَ في الإنسان الحي، من ثمرات تطور المادة الخالية من هذه الأشياء الراقية.

فلزمه بهذا أن يقبل تحول الناقص إلى الكامل بنفسه، وهذا نظير وجود الشيء من العدم الكلي المحض، الذي وافق الآخرين على رفضه لبداهته، ومن أجل ذلك قرّر أزلية المادّة.

وهنا نلاحظ تناقضه مع نفسه، وحسبُ التناقض دليلاً على إسقاط أيّ مذهب.

وتناقضه يظهر في أنه أقرّ استحالة تحوّل العدم المطلق إلى الوجود بنفسه، ثمّ أثبت وجود عنصر الكمال في المادة بنفسه مع أنه كان عدماً محضاً، فالمادّة التي لا حياة فيها من أين جاءتها الحياة؟

* * *

(2)

أبيقور والأبيقوريون

من هو أبيقور؟

هو فيلسوف مادّي يوناني، تلميذ آراء وأفكار "ديموقريطس". عاش ما بين (341-270 ق. م) .

أخذ أسس مذهبه الذري عن أستاذه، في بضع الآراء. وتلاميذ "أبيقور" يُنسبون إليه في الفلسفة اليونانية، فيقال عنهم: أبيقوريون.

أهم مقولاتهم المادّية التي تلتقي مع الفكر الإلحادي

أولاً: أسس مذهب الأبيقوريين ترجع إلى المذهب الذري الذي قال

ص: 446

به "ديموقريطس" من قبل، لكن "أبيقور" أضاف فكرة الميل في التحرّك الآلي في الذرات، ليحصل التصادم بينها، فتتكوّن الظاهرات الكونية.

ونقض المذهب المادّي كلّه يرجع إلى براهين واحدة، منها ما سبق بيانه لدى الكلام على "ديموقريطس". وتفصيلها سيأتي إن شاء الله في فصل خاصّ، يردّ على جميع آراء المادّيين.

ثانياً: للأبيقوريين أقوال يهاجمون فيها الدين الوثني المعدد للآلهة، والذي كان منتشراً بين اليونانيين وغيرهم، في تلك العصور.

فمن أقوال "لوكرتيوس" أحد الأبيقوريين: "إن الدين شرٌّ ما بعده شرّ، وإن الواجب على الإنسان ومهمة الفلسفة الأولى أن تتخلص نهائياً من كل دين، لأن الدين هو ينبوع كل شر ".

وربما لم يكن في عهدهم ذلك صورة صحيحة عن دين رباني صحيح، وإنما لديهم أديان وثنية خرافية، لذلك شجبُوا الدين الذي رأوا نماذجه في عصورهم.

ولذلك نجد في تعبيرات الأبيقوريين: أن الذي يؤمن بالدين الشعبي المألوف ومعتقداته يرتكب خطيئة دينية في الواقع، بينما الذي لا يؤمن بها هو الذي يسلك سبيل الصواب.

وهجومهم على هذا النوع من الأديان لا شأن لنا به، وقد يكون لهم في ذلك عذر، لما عليه هذه الأديان من خرافات وأضاليل وأكاذيب.

ثالثاً: ينكر الأبيقوريون ظاهرة العناية الإلهية، التي هي إحدى أدلة المثبتين وجود الله.

وإنكارهم لها مستند إلى ملاحظة أمور يرونها في الكون شرّاً، ويرون أن وجودها ينقض بحسب تصوّرهم فكرة العناية، حتى زعموا أن فكرة العناية الربانية وهم من الأوهام، وقالوا:

* أين العناية الربانية في عالم حظّ الشرِّ فيه أكبر من حظ الخير،

ص: 447

ومصير فاعل الخير أسوأ من مصير فاعل الشر؟

* وأين العناية الربانية في عالم لا يوجد فيه مكان يصلح لسكنى الإنسان إلا جزء ضئيل منه؟

* وأين العناية الربانية التي تركت الإنسان خلواً من كلا سلاح، بل هو الحيوان الأكبر الأعزل؟

إلى نحو ذلك من تساؤلات، تعبّر عن إنكارهم لظاهرة العناية.

كشف بطلان هذه الفكرة

أولاً: إن هذه التساؤلات التي طرحها الأبيقوريون منذ نيّف وعشرين قرناً، ويطرح نظيرها جميع منكري العناية الربانية، تدل على نظرة قاصرة جداً، حكموا بها على الوجود، الأمر الذي يسمح لنا بأن نقول: إن هذه النظرة نظرةٌ سخيفة ومحدودة، وينبغي أن لا تصدر مطلقاً عن ذي فكر عادي، فضلاً عن باحث فيلسوف.

إن الرؤية الناقصة القاصرة المحدودة، التي تتناول جانباً جزئياً صغيراً جداً، من المجموع الكلي الكبير، والتي لا تسمح لصاحبها بأن يدرك معاني الحكمة الكلية، تجعله يصدر أحكاماً باطلة، مبنية على رؤيته هذه.

فمن لم ير من الوجود إلا ما يسوؤه جلب إلى نفسه الاكتئاب، وغدا متشائماً، وحكم على الوجود بأن الشر هو الغالب فيه. وعكسه الذي لا يرى من الوجود إلا ما يسره، فإنه يبتهج بالحياة، ويتفاءل بكل شيء، ويحكم على الوجود بأن الخير هو الغالب فيه، وقد يطغيه ذلك.

لكن النظرة الإيمانية التي منحنا إياها الفهمُ الديني الصحيح الذي بينه لنا الإسلام، تعطي المؤمنين رؤية كلية شاملة، وهذه الرؤية تشاهد حكمة الله في الخلق، بدءاً من حياة الإنسان في دار الامتحان، وهي الدار الدنيا، حتى منازل الخلود في دار الجزاء، وهي الدار الآخرة.

فالإنسان في هذه الحياة مُبتلىً ممتحن، وبديهة الفكر تقرر أن

ص: 448

الإنسان ما دام قد خلق ليمتحن، وليكسب مقادير آخرته باختياره، فإنّ الامتحان في دار الحياة الدنيا هذه يستلزم أن يكون الإنسان فيها عرضة لقسمين من أقسام الامتحان، نظراً إلى أن إحساسه الشعوري قائم على محورين، محور اللذة ومستتبعاتها، ومحور الألم ومستتبعاته.

فالقسم الأول: هو ما يلذه أو يفرحه ويسرّه من محابّ في هذه الحياة الدنيا وهي النعم المادّية أو المعنوية التي تمتعه ليختبر بها حمده وشكره، واستقامته، وعدم بطره وطغيانه، فإذا كان من الناجحين في هذا الامتحان كان من الخالدين في السعادة يوم الدين.

والقسم الثاني: ما يؤلمه ويحزنه ويسوؤه من مكاره في هذه الحياة الدنيا، وهي المصائب التي تمسّه، ليختبر بها صبره واحتماله، ورضاه عن الله فيما تجري به مقاديره، واستقامته على طاعته، وثباته على إيمانه بربه وبكمال حكمته، رغم كل ما أصابه من مكاره.

إذن: فلا بد من وجود مصائب ومكاره في هذه الحياة الدنيا، ليستوفي الامتحان شروطه اللازمة له، بذل تقضي الحكمة.

هذه الحقيقة بينها الله عز وجل لنا بقوله في سورة (الأنبياء مصحف/73 نزول) :

{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} .

وفي ظروف الحياة الدنيا قد تقضي الحكمة بمعاقبة بعض المسيئين والمجرمين، عناية بالمسيء حتى يتوب، أو تنبيهاً على قانون العدل الرباني، أو مكافأة للمظلوم وجبراً لخاطره. على أن الجزاء الأوفى مدّخر إلى يوم الدين، ونظير ذلك يكون في بعض صورة الثواب العجل.

وآلام الذين هم دون التكليف آلام إعداد وتربية، اقتضتها السنن الثابتة العامة.

فكلٌّ من النعم والمصائب في هذه الحياة الدنيا، إما أنها للامتحان

ص: 449

وهو الأصل، وإما أن تكون من معجّل الجزاء، وإما أن تكون للتربية، وكل ذلك مقرون بحكمة عظيمة.

فما زعمه منكرو العناية الإلهية باطل تماماً، وما ادّعوه من أن مصير فاعل الخير أسوأ من مصير فاعل الشر، فالفساد فيه آتٍ من وجهين:

الأول: أننا لا نجد هذه الدعوى منطبقة على الواقع الدنيوي انطباقاً كلياً، بل قد يحدث هذا وقد يحدث عكسه، وكلٌّ من الأمرين مشمول بقانون الابتلاء الرباني. هذا مع حصر النظر في ظروف الحياة الدنيا.

الثاني: أن قصة الوجود لا تنتهي بالموت في هذه الحياة الدنيا، بل الموت عبارة عن انتهاء مدة امتحان الإنسان، الموضوع موضع الامتحان في هذه الحياة.

وبعد ذلك تأتي الحياة الأخرى الخالدة، التي يكون فيها الجزاء الأوفى.

والدين الحق يكشف أن قانون الجزاء الرباني يومئذ، يتضمنه قول الله عز وجل في الدين الخاتم:

{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} .

ولا بد أن نلاحظ في هذا الموضوع أن من لوازم الامتحان المستوفي لشروطه، تمكين المجرمين من ممارسة جرائمهم في الحياة الدنيا، ليستوفوا عقابهم يوم الدين.

ويومئذٍ يكون التعويض عظيماً لمن وقعت عليهم الجرائم، إذا هم آمنوا بالله وعدله وحكمته واستقاموا على طاعته.

وليس معنى ذلك أن لا ينتصروا لأنفسهم في الحياة الدنيا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، بل ذلك من مسؤولياتهم في حدود استطاعتهم.

ولولا تمكين المجرمين من ممارسة جرائمهم في ظروف هذه الحياة الدنيا، ما استوفى الامتحان الأمثل شروطه اللازمة.

ص: 450

فإذا تركنا موضوعات النعم والمصائب وأنواع الشرور التي يمارسها الناس بإرادتهم الحرة، والتي اقتضتها في هذه الحياة الدنيا مقتضيات الامتحان الأمثل، وانتقلنا إلى كل ظواهر الوجود الأخرى، فإننا نجد عناية الله ظاهرة في كل شيء.

هل يجد الباحثون في ظواهر الكون الكبير إلا التلاؤم التام بين الأشياء، وبينها وبين حاجات الأحياء؟

أليس لكل داء دواء، ولكل مرض وعلة وسيلة شفاء؟

أليس لكل حيّ ما يناسبه في الأرض من غذاء؟

أليست العناية الربانية هي التي أتقنت كل شيءٍ خلقته، من الذرّة إلى المجرّة. من الخلية إلى جسم الكائن الحيّ كله؟

لقد كفتنا العلوم الكونية المعاصرة المتعمقة التي قام بها العلماء المادّيون، فقد أثبتت بشكل قطعي ظاهرة العناية الربّانيّة، بما لا يدع مجالاً للشك مطلقاً.

فلسنا بحاجة إلى إثباتات عقلية، أو استدلالات نعتمد فيها على الظواهر السطحيّة للكائنات بالرؤية العادية.

وأقول أخيراً:

إن قصور النظر إلى الواقع لا يغير من كمال الواقع شيئاً.

ثانياً: قولهم: أين العناية الربانية في عالم لا يوجد فيه مكان يصلح لسكنى الإنسان إلا جزء ضئيل منه؟ قول سخيف.

* هل استوعب الإنسان الأرض كلها حتى يبحث عن غيرها؟

* إن الأرض كلها لهذه الحياة الأولى ليست أكثر من مختبر، لامتحان الوافدين إليه، وليست هي الجنة المعدة للخلود. فجنات النعيم فيها كل ما يطلب أصحابها، ومزيد لا يخطر على بالهم من فيض فضل الله وجَوده العظيم.

ص: 451

إن عدم فهم الحكمة من الخلق يوقع في الأغاليط الكثيرة.

* * *

ثالثاً: قولهم: أين العناية الربانية التي تركت الإنسان خلواً من كل سلاح، بل هو الحيوان الأكبر الأعزل؟ هو قولُ ينقضه واقع حال الإنسان، الذي سلّحه الخالق العظيم بالفكر، الذي يستخدم به كل ما في الكون المسخر له بقضاء الله وقدره.

ونقول: أليس من عناية الله بالإنسان أن سخّر له كل ما في الأرض، وما في السماء أيضاً، وقد ظهر ذلك في عصرنا عصر الكشوف العلمية التي جعلت الإنسان يجوب في الآفاق ويصل إلى القمر وغيره من الكواكب؟

أليس الإنسان هو المسلط بفكره ووسائله على كل كائنا البرّ والبحر؟

لقد كان مبلغهم من الرؤية قاصراً، فكان مبلغهم من العلم قليلاً.

والحمد لله الذي هدانا للحق بدينه الخاتم، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

* * *

(3)

"توماس هوبز" وماديته

من هو "توماس هوبز"؟

هو فيلسوف إنجليزي. أيد الحكم الملكي المطلق. وهو أول الماديين المحَدثين. عاش ما بين (1588-1679م) . ألف عدة مؤلفات منها: 1- "مبادئ القانون الطبيعي والسياسي" نشره سنة (1640م) . 2- "في الجسم" نشره سنة (1655م) وهو يحتوي على المنطق والمبادئ الأساسية أو الفلسفة الأولى، ونظرية الحركات والمقادير، ونظرية الظواهر الطبيعية.

ص: 452

آراؤه المادية

ليس في آرائه المادية شيء جديد، بل هي نقل عن مادية الماديين الإغريق، "ديموقريطس" و"أبيقور" والأبيقوريين.

فلا تستحق أن تفرد بعرض ونقد.

كل ما في أمره أنه أول الماديين المحدَثين، الذين أحيوا مادّية ديموقريطس والأبيقرويين اليونانيين.

* * *

(4)

دافيد هيوم وآراؤه الإلحادية

من هو دافيد هيوم؟

هو فيلسوف اسكتلندي ملحد. عاش ما بين (1711 - 1776 م) . تخرج في جامعة "أدنبرة". عمل بالتجارة فلم يحقق النجاح الذي كان يرجوه. عين كاتماً للسر بالسفارة الإنجليزية في باريس. ثمّ وزيراً لاسكتلاندا لكنه ترك هذا المنصب بعد عام واحد، وتفرّغ للكتابة والتأليف.

من مؤلفاته: 1-"رسالة في الطبيعة البشرية". 2- "مقالات سياسية". 3- "محاورات في الدين الطبيعي". 4- "تاريخ إنكلترا". 5- "بحث في العقل البشري".

ما يُهمنا عرضه من آرائه الإلحادية

قدّم "هيوم" آراءً فلسفية بناها على إنكاره لوجود الله الرب الخالق، وإنكاره لأسس الأخلاق، فمن أفكاره ما يلي:

1-

أنكر فكرة السببيّة بين الأشياء، وقرر أن العادة هي التي توهم الإنسان بالارتباط السببي، إذ يلاحظ في العادة سبق ما يسميه سبباً على ما يسميه مُسبباً.

ص: 453

فالسببيّة وفق فكرة "هيوم" ذاتية محضة، أي: يصطنعها الإنسان اصطناعاً بمحض تخيّله، فهي غير موضوعية، وهي خدعة من الخيال الذي يميل إلى فرض رابطة بين الأشياء والحوادث، فالسببيّة ليس لها وجود إلاّ في الذهن الذي يتركها.

2-

ومن أفكاره أن العالم الخارجي عن إدراك الإنسان وهم باطل، فالإنسان لا يعلم عن العالم الخارجي إلا ما في ذهنه من مدركات حسيّة.

وهذه الأفكار وأشباهها قد انتهت بهذا الملحد إلى رفض كلّ دليل ينهض على وجود الرب الخالق.

يقول في كتابه "محاورات في الدين الطبيعي":

"إننا لا نعلم عن العلة شيئاً إلا أنها الحادثة السابقة التي نشاهدها قبل حدوث معلولها. وإذن فلا بد من مشاهدة الحادثتين معاً السابقة واللاحقة على السواء. إننا نستدل من وجود الساعة على وجود صانعها، لأننا رأينا الساعة والصانع كليهما، وإذن فوجود الكون لا يقوم دليلاً على وجود صانعه، إلا إذا رأينا الصانع والمصنوع جميعاً ".

وردّد هيوم الوسوسة الشيطانية القديمة بقوله:

" إذا كان لا بد لنا من البحث عن علة لكل شيء لوجب إذن أن نبحث عن علة للإله نفسه".

3-

ولهدم أصول الأخلاق ذكر "هيوم" أن سلوك الإنسان عمل آليٌّ محض، وأنه لا يوجد ما يُسمَّى بالإرادة الحرة.

وزعم أن الدافع الأساسي لسلوك الإنسان هو اللذة والألم فقط، وبهما يميّز الإنسان بين الخير والشر، وليس العقل هو الذي يوجّه أعمال الإنسان.

وزعم أن الفضيلة هي ما يثير في الشخص اللذة.

ص: 454

لمحة من كشف الزيف

أولاً: إن أفكار هيوم في إنكار السببية تقوم على الادعاء المجرد من أي دليل. وقد استغل فيها أن الأسباب الكونية لا تستطيع أن تفعل بذواتها مسبباتها، لعدم وجود الارتباط العقلي بينها وبين مسبّباتها، إلا أن تأثيراتها الظاهرة الصورية تنبّه على وجود السبب الحقيقيّ الفعّال، وهو الخالق البارئ المصور.

لكن "هيوم" لعب لعبة التعميم الفاسد، فاتخذ من إبطال فاعلية الأسباب الصوريّة بذواتها، وسيلة لإنكار كل سبب حقيقيٍّ، وكل علة حقيقية.

ثانياًً: ادّعاؤه أن البحث عن علة لكل شيء في هذا الكون، يجرّ إلى البحث عن علة لله نفسه، ادعاءٌ باطل.

وذلك لأن ادعاءه قائم على قياس فاسد، وهو قياس الأزلي الأبدي الذي هو واجب الوجود لذاته، ويستحيل في العقل عدمه، على الكون الحادث، الذي لم يكن ثمّ كان، ولا بد من البحثِ عن علة انتقاله من العدم إلى الوجود.

ثالثاً: ادّعاؤه أن سلوك الإنسان عمل آلي محض، ولا يخضع لإرادة حرةٍ في الإنسان، ادعاءٌ يبطله شعور الناس جميعاً بالتفريق بين العمل الإرادي والعمل الآلي في ذواتهم. ويبطلُه أن الناس قادرون على أن يسلكوا بإرادتهم أنواعاً من السلوك تخالف ما تدعوهم إليه مطالب لذاتهم، ويتحملون في ذلك آلاماً، والموجّه لهم في ذلك هو منطق العقل، ورعاية المصلحة المستقبلة.

ألا يتحمل العقلاء آلام العمليات الجراحية الطبية، ويسعون لها

ص: 455

بإرادتهم الحرة، لأن عقولهم هدتهم إلى ضرورة تحمل هذه الآلام من أجل صحتهم، ولو أنهم استجابوا لآلية الألم لما قبلوا ذلك؟

وآلاف الأمثلة في سلوك الناس من هذا القبيل.

وأفكار "هيوم" في أن سلوك الإنسان آليٌّ محضٌ خاضع لدوافع اللذة والألم، من شأنها أن تطلق الوحش البشري الشهويّ الغضبيّ من قفصه العقلي والوجداني، ليدمّر المجتمع البشري.

ولا يخفى على الباحث الخبير ما وراء أفكار "هيوم" هذه من دوافع شريرة تدميرية، وما فيها من زيف مراد ترفضه العقول السليمة، والطباع المستقيمة.

على أن أفكاره تقريرية لا تقترن بأي دليل، لا من العقل ولا من الحسّ، ولا من التجربة العلمية.

* * *

(5)

شوبنهور وآراؤه الإلحادية

من هو "شوبنهور"؟

هو "آرثر شوبنهور". فيلسوف ألماني تشاؤمي ملحد. عاش ما بين (1788-1860م) .

ما يُهمُّنا عرضه من آرائه

1-

قدّم "شوبنهور" آراءً فلسفيّةً بناها على إنكاره لوجود الرب الخالق العليم الحكيم المختار.

لقد عزل عن تصوره حقيقة الله وصفاته الجليلة، فلم يلاحظ حكمته العظيمة في تصاريفه ومقاديره في خلقه.

فتجسمت بين عينيه وتعاظمت في نفسه متاعب الحياة مشقياتها

ص: 456

وآلامها، ولم يجد بعد هذا مبرراً لوجود حياة أخرى غير هذه الحياة، مادام الوجود لا يسير وفق منهج حكيم، بحسب تصوره ذي النظر القاصر.

ولم يجد للآلام والمتاعب وأنواع الشقاء في هذه الحياة تفسيراً يبرّرها، فرفض الرأي الفلسفيّ القائل:"عن الكون عقلٌ يتصرف".

عندئذٍ بدا له أن يعلل الوجود بأنه إرادةٌ عمياء، ذات مطالب، ومن مطالبها بقاء الحياة في الأنواع دون اكتراث بالأفراد، وأن العقل أداة من أدوات الإرادة، فالإرادة العمياء تريد أولاً، ثمّ تستخدم العقل ليجد لها في منطقه مبرراته. وإرادة بقاء الحياة تستلزم أن يمرّ الأحياء على جسور الآلام والشقاء.

فحياة الناس شقاء في شقاء، وآلام في آلام.

ولذلك أعجبه من آراء الفلسفة اليونانية، أن اللذات كلها تخلص من الآلام.

ففكرته في تعليل أحداث الكون وكل ما يجري فيه قامت على أساس "أن العالم إرادة فقط" بلا علم ولا حكمة ولا عناية ولا رحمة ولا عدل. وقد ترتب على هذه الإرادة العمياء كفاح وجهاد وكدح متواصل، وهذه الأمور لا بد أن ينتج عنها بؤسٌ وشقاء.

وبالمنظار نفسه نظر إلى الدافع الجنسي، فرآه إرادةً عمياء، هدفها أن تهدم بالنسل عدوّها الذي هو الموت، وسمّى ذلك إرادة النسل، رغم ما يتضمّن التناسل من عناء وتضحية.

ورأى أن إرادة التناسل تسر في مجالها مستقلّة عن العقل سيراً أعمى. فأعضاء التناسل في تصور "شوبنهور" هي بؤرة الإرادة بعينها، وهي المركز الذي يقابله المخّ الذي يمثّل المعرفة من ناحية أخرى. وأعضاء التناسل هي أساس حفظ الحياة، لأنها تتضمّن حياة لا تنتهي، ومن أجل هذا عبدها اليونان واليهود منذ القدم.

ص: 457

ورأى "شوبنهور" أن العلاقة بين الجنسين هي في الواقع النقطة المركزية الخفيّة لكل عمل وسلوك، وهي تتجلى في كل شيء، برغم ما نحاول سترها به من الأقنعة. إنها سبب الحروب، وهي الغاية من السلام، وهي أساس الجد، وهي الغاية من المزاح، وهي الينبوع الفيّاض لمستلمح النكات، وهي مفتاح كل تلميح، ومعنى كل ما غمض من العبارات

إننا نراها لا تني في رفع نفسها لتكون سيدة العالم سيادة وراثيّة حقيقيّة

إنها لتهزأ من السيطرة عليها سيطرة تنزل بها إلى منزلة من الحياة ثانوية فرعية.

وقال "شوبنهور":

"يجب أن نعتبر الغريزة الجنسية روح شجرة النوع التي تنمو عليها حياة الفرد

ولئن أردنا أن نهزم الإرادة هزيمة منكرة لا يكون لها قيام بعدها، فلن يكون لنا هذا إلا في استئصال معين الحياة".

أي: في مقاومة إرادة النسل.

وأفاض "شوبنهور" فيما أسماه إرادة التناسل إفاضة مسرفة.

2-

وخبط "شوبنهور" في أودية الأوهام الفكرية، والخرافات التصورية، معللاً بها الوجود وأحداثه بعيداً عن قضية الإيمان بالله، فانتهى به الأمر إلى تقرير أن العالم شرٌّ، وذلك للأسباب التاليات:

السبب الأول: أن الإرادة لا تنتهي مطالبها، وبذلك يظل الإنسان في شقاء مستمر، فما يحققه اليوم لا يرضيه ولا يقنعه، إذ يتجدد لديه مطلب جديد يشقى لتحقيقه من جديد، فهو دوماً ينقل شقاء اليوم إلى الغد.

كشف علة دائه هنا

كان من الممكن أن يكون في يده مفتاح السعادة لو أراد، وأن يتحوّل

ص: 458

شقاؤه إلى ابتهاج وأمل وطمأنينة وراحة نفس، لو أنه آمن بالله واليوم الآخر.

لأنه حينئذٍ يربط كلّ مطالب إرادته المتجددة والتي لا تنتهي، بالحياة الأخرى، فيعملُ لها، ويسعد بما يعمل، وتستمرّ لديه لذّات الأمل، مع راحة نفسه، وطمأنينة قلبه، فإيمانه بالله واليوم الآخر يجعله مطمئناً بأنه سيحصل على كل ما يتصور من مطالب، وكل ما يتجدد لديه منها مهما اشتط في التخيل والتصور، مع مزيد لم يخطر على قلبه، ولا يخطر على قلب أو تصور أحد سواه من الناس.

وقد خلق الله في الإنسان هذه الطموحات الواسعة، ولم يجعل في الحياة الدنيا وسائل لتحقيقها، لتكون دافعاً له حتى يرتبط بالحياة الأخرى، ولتكون مساعداً له على تجديد إيمانه وتثبيته، والعمل الصالح الذي يظفره بتحقيق كل طموحاته المتجدّدة، وفوقها مزيد.

لكن الكفر بالله وباليوم الآخر، قد جرّه إلى ربط كلّ طموحاته المتجدّدة بالحياة الدنيا، وهي لم تتهيأْ لتحقيقها، فجرّه ذلك إلى مشاعر الشقاء التي عانى منها، ويعاني منها كل كافر بالله واليوم الآخر.

ص: 459

السبب الثاني: أن الألم هو الدافع الأساسي لهذا العالم وحقيقته الجوهرية، وليست اللذة إلا امتناعاً سلبياً للألم.

ورأى أن أرسطو قد أصاب إذْ قال: إنه لا ينبغي للحكيم أن ينشد اللذة، وحسبه أن يتخلص من الألم والشقاء.

كشف علة خطئه هنا

ترجع علة خطئه هنا إلى رؤيته الناقصة الجزئية المحدودة، التي جعلته لا يرى من المشاعر إلا مشاعر الألم والشقاء به.

وقد جرّه إلى هذه الرؤية الناقصة الجزئية، حالته النفسية المكتئبة الشقية، التي جلبها إليه في الحقيقة كفره بالله واليوم الآخر.

مع أن المشاعر التي يحسّ الناس بها جميعاً تتدرج على سلم متعدد الدرجات.

* فأوسطه الراحة والسكينة والطمأنينة، ومن أمثلتها راحة النائم حينما لا تهزّه الرؤى، وراحة الراضي عن الله فيما تجري به مقاديره، والراحة النفسية التي تجلبها صلاة الخاشع.

* وفوق الأوسط من هذا السلم درجات إيجابيات حركة اللذة، وما يصاحبها من سعادة.

* ودون الأوسط من هذا السلم دركات إيجابيات حركة الألم وما يصاحبه من شقاء. وهي دركات متنازلات، بعضها أشدّ من بعض.

* وقد تجتمع مشاعر اللذة والألم في وقت واحد باختلاف مصادرهما، كالزاني الخائف، والمريض المتألم الذي يستمتع بلذة سمع أو بصر أو لمس أو ذوق، فتخفف اللذة من شدة مشاعر الألم، ويخفف الألم من نسبة الإحساس باللذة.

والمفاهيم الإسلامية في القرآن والسنة قد أبانت هذه القسمة الثلاثية للمشاعر الإنسانية.

* فأبانت الأوسط بتعبيراتها عن السكينة والطمأنينة والراحة، منها قول الله عز وجل في سورة (النبأ مصحف/80 نزول) :

{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي: راحة.

* وأبانت إيجابيات اللذة، ومتَعها في الحياة الدنيا، ونعيمها المقيم في الآخرة.

* وأبانت إيجابيات الألم، ومسّ عذابه في الحياة الدنيا، وشدّته الكبرى لمستحقيه يوم الدين.

ووجود اللذة والألم في الحياة الدنيا ضروريان للامتحان فيها.

ص: 460

السبب الثالث: أنه كلما علا الكائن العضوي في سلم الارتقاء وارتفع، ازداد ما يعانيه من ألم، وأن زيادة معرفته لا تحل من الإشكال شيئاً.

السبب الرابع: أنه لا تكاد الحاجة والألم يسمحان للإنسان بشيء من الراحة، حتى يشعر بالسآمة على الفور، فلا يكون له غنىً عن التسلية.

وكشف علة خطئه في هذين السببين: الثالث والرابع، يستدعي إعادة بيان علة دائه التي سبق كشفها تعقيباً على السبب الأول.

السبب الخامس: أن القتال في الحياة لا ينقطع، إنها بين قاتل ومقتول، حتى إن الكائن الحي قد يقتل نفسه ليبقى النوع.

كشف خطئه هنا

يرجع خطؤه هنا أيضاً إلى رؤيته الناقصة القاصرة للوجود، وللحكمة منه.

إنه لو أبصر أن الحياة الدنيا كلها بمثابة جسر صغير أُعدّ للامتحان فقط. وأن الحياة الأخرى التي ستأتي وراء هذا الجسر، ووراء الفاصل الزمني الذي بعده وهو برزخ انتظار قبل البعث، إنما هي الحياة الأبدية الخالدة بتقدير الرب الخالق.

إنه لو أبصر ذلك لأدرك أن كل ما يجري في هذه الحياة الدنيا ضروري جداً، لاستيفاء شروط الامتحان الأمثل للإنسان.

فهل يصنع الناس امتحاناتهم ومسابقاتهم فيما بينهم دون عقبات ومتاعب، وموجبات جهادٍ وكفاح.

إنه لو أبصر ما جاءت به المفاهيم الدينية الحقة، لأدرك أن الموت لا بد منه في هذه الحياة الدنيا، وأن الحي الذي لا يموت مقتولاً يموت حتف أنفه لا محالة:"كل نفس ذائقة الموت".

ولأدرك أن تمكين القاتل من اتخاذ وسائل لقتل الحي، هو عنصر من

ص: 461

عناصر امتحان الإنسان أمام نوازع غضبه، ومطامعه، وأهوائه وشهواته.

ولما كان من أول عناصر امتحان إرادة الإنسان، امتحانها في الاعتقاد بالحق الأكبر الذي تقوم عليه الأدلة الفكرية البرهانية، وهو الله وصفاته وأسماؤه الحسنى، وحكمته في مقاديره، وحقه في طاعته وعبادته، ورجاء ثوابه وخوف عقابه، كان من لوازم هذا الامتحان، أن تكون مع الأدلة الفكرية البرهانية شبهات توضع في الوجود، لتكون بمثابة الغطاء الرقيق على اللغز الغيبي عن الحواس، الواضح للأفكار، ليصلوا إليه عقلياً ووجدانايً، فيؤمنوا به.

أما الإرادة التي لم تستجب لنوازع الكبر ورغبات الفجور، فإنها تستفتي الفكر الحَصيف، المحفوظ والمؤيّد بالفطرة النظيفة، والوجدان السليم، فتطرح الغطاء الرقيق، ولا تعتبره مشكلة في مجال الامتحان، بل تأخذ المضمون الذي هو الحقيقة، وتعتبر الغطاء التمويهي الرقيق من لوازم طبيعة الامتحان الأمثل.

أما الإرادة التي استجابت لنوازع الكبر أو رغبات الفجور في الأرض، فإنها تتخذ من هذا الغطاء الرقيق مشكلة، فتتشبث به لإنكار الحقيقة، التي هي المضمون الذي دلت عليه البراهين العقلية.

أفيترك المضمون الحق من أجل غلالة شبهة، لا تثبت أمام أي فكر باحث، قادر على إيجاد تفسير سليم لها، تجعلها متلائمة مع المضمون؟!

ويمكن أن نقول هنا: إن وجود الحيوانات القاتلة المفترسة في عالم الأحياء، هو غلالة من هذه الغلالات، التي يختبر فيها فكر الإنسان وإرادته، أمام قضية الإيمان بالله عز وجل وبحكمته.

على أن ملك الموت هو قاتل على كل حال، بمعنى أنه قابض للروح، سواء أجاء مع علة مرض، أو مع سكتة قلبية، أو مع سقوط من شاهق، أو مع ضربة سيف، أو مع عضة أنياب حيوانٍ مفترس، أو مع قبضة مخالب طير كاسر، أو في فم حوت آكل، أو مع غير ذلك من قواتل.

ص: 462

تعقيب أخير

لقد تنازعت "شوبنهور" كل هذه التخبُّطات الفكرية والنفسية، فمزّقته أشتاتاً، ورمته على جمرات الشقاء، وأشواك الآلام،، لأنه عزل عن تصوره قضية الإيمان بالرب الخالق، القدير العليم الحكيم المختار، والإيمان بحكمة الابتلاء، وما يستتبع الابتلاء من جزاء في حياة أخرى خالدة غير هذه الحياة.

لذلك رأى الحياة الدنيا تعاسةً وشقاءً وشراً، ولا غرو أن هذه المشاعر المشقية لأصحابها، هي من الجزاء المعجل الذي يُعاقب به الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.

* * *

(6)

"كارل ماركس" وآراؤه الإلحادية في مذهبه الشامل

من هو "كارل ماركس"؟

هو مؤسس الشيوعية المعاصرة (أو ما يُسمى بالاشتراكية العلمية) . والشيوعية مذهب اقتصادي اجتماعي وضع له أساس اعتقاديٌّ فكري، قائم على إنكار وجود رب خالق لهذا الكون، وأن المادة هي كل الوجود، وأن أحداثها وتغيُّراتها مع أحداث التاريخ الإنساني تخضع لقانون جبريّ مزعوم في المادة، على أنه صفة من صفاتها الذاتية، أساسه فكرة فلسفية عنوانها "الماديّة الجدلية".

وهو يهودي ألماني، عاش ما بين (1818 - 1883 م) . كان أبوه محامياً في ألمانيا، فصدر قرار بمنعه من ممارسة المحاماة بسبب يهوديته، فاعتنق المسيحية نفاقاً، وعمّد أبناءه الثمانية وقد كان "كارل" في السادسة من عمره. لم يواصل دراسته الجامعية. وكان صاحب مزاج خاص. عاش على نفقة أبيه أولاً، ثم على ما كانت تعطيه أمه وأخته المريضة. ثم على

ص: 463

ما كان يبذله له صديقه ورفيقه في تأسيس الشيوعية "إنجلز". من أساتذته الكبار الذين أثروا فيه اليهودي (موسى هس) رائد الصهيونية. تخلّى عن جنسيته الألمانية سنة 1845م.

ألف كتاب "المسألة اليهودية" وكتاب "رأس المال". تعرض من أجل بعض ما كتب لهجوم اليهود والمسيحيين عليه، لكن رائد الصهيونية "موسى هس" دافع عنه، منبهاً على أن التراث اليهودي موجود في صلب مذهبه. وهذا يدل على أن التوجيه لتأسيس الشيوعية نابع من قيادة الحركة الصهيونية الخفية.

أسس المذهب الشامل الذي طرحه "كارل ماركس"

يتناول مذهبه الشامل الذي طرحه ما يلي:

الأول: إنكار وجود الله، واعتبار المادة أزلية أبدية، وهي كل شيء في الوجود.

الثانية: تفسير حركة المادة وتغيراتها بما يُسمّى بـ"المادية الجدلية"، وهي فكرة اقتبسها "ماركس" من الفيلسوف المثالي "هيجل" وحذف منها ما ذكره "هيجل" من أن سنة الخالق في الخلق تجري وفق النظام الجدلي الذي تصوره. وزعم "ماركس" أن الإنسان هو الذي اخترع من عنده فكرة الرب الخالق.

الثالث: التفسير المادي للتاريخ الإنساني، ويتلخّص بادّعائه أن التاريخ الإنساني خاضع أيضاً لنظام "المادية الجدلية" الذي زعم أن طبيعة المادة والحياة التي هي نتاج المادة، بحسب زعمه، خاضعة له.

الرابع: "الاشتراكية العلمية" أو "الشيوعية" وهي المذهب الاقتصادي الذي يقوم على إلغاء الملكية الفردية إلغاءً كاملاً في نهاية التطبيقات الاشتراكية، وجعل الدول الممثلة للمجتمع هي المالكة لكل شيء، والقاعدة الاقتصادية التي تطبق على الجميع هي:"من كل حسب استطاعته، ولكل حسب حاجته".

ص: 464

الخامس: السبيل لإقامة الدولة الشيوعية هو سبيل الثورة المدمرة، والوقوف ضد أي إصلاح اقتصادي أو اجتماعي قبل إقامتها.

السادس: النظام الاجتماعي في الدولة الشيوعية نظام تطلق فيه الحريات الشخصية على أوسع مدى، بشرط أن لا تمس المبادئ الشيوعية أو نظام دولتها، وأوامرها. وحينما تصل الدولة الشيوعية إلى غايتها المرسومة لها، تلغى الأسرة، وتكون العلاقات والممارسات الجنسية مشاعاً، فكل الرجال لكل النساء، أما الذرية فهي للدولة الشيوعية.

السابع: الأخلاق والقيم التقليدية المتعارف عليها بين الناس تلغى، وتقوم بدلها أخلاق الطاعة للدولة الشيوعية وتنفيذ أوامرها وبرامجها، وكل ما يحقق المجتمع الشيوعي، مهما كان منافياً للأخلاق التقليدية.

الثامن: النظام السياسي والإداري الذي تقوم عليه الدولة الشيوعية، هو الديكتاتورية الاستبدادية الصارمة، التي تتولاها قيادة جماعية، تقع في رأس هرم الحزب الشيوعي، وتُسمَّى "ديكتاتورية" طبقة "البروليتاريا".

كشف الزيف

إنّ كشف الزيوف التي اشتملت عليها آراء "كارل ماركس" في المذهب الشامل الذي طرحه، يتناول موضوعات كثيرة مختلفة.

ويجد القارئ كشف زيوفها في مواضع عديدة من هذا الكتاب بحسب موضوعاتها.

على أن النقد الرئيسي الشامل لها أنها ادعاءات تقريرية، لا تعتمد مطلقاً على أي دليل عقلي أو علمي حسي تجريبي.

وكل ما قدمه دعاوى وآراء بدون بينات، أو أدلتها وهمية.

يضاف إلى ذلك أن آراءه ذاتَ الآثار التطبيقية قد كشف الواقع التطبيقي فسادها وبطلانها، وواقع الدولة الشيوعية برهان على ذلك.

* * *

ص: 465

(7)

بخنر ومادّيته الملحدة

من هو بخنر؟

هو "لودفج بخنر" طبيب وفيلسوف ألماني ملحد، عاش ما بين (1824-1899م) .

اتخذ من المادية المتطرفة مذهباً له، فقاوم الميتافيزيقا المثالية، وأنكر الغيبيّات، وأعلن الإلحاد، وتشبّث بأذيال المادة والحسيات.

كتب في آرائه الفلسفية كتباً: 1-"القوة والمادة" أصدره سنة (1864م) . 2- "الطبيعة والمؤرخ" أصدره سنة (1857م) .

أرغم بسبب آرائه المتطرفة المتعلقة بالمادة المنكرة للدين، على ترك منصبه بجامعة "توبنجن" فاشتغل بالطب والتأليف.

آراؤه المادية الإلحادية تشبه آراء سائر المادّيين الملحدين، وأحكامه فيها أحكام تقريرية ادعائية، ليس فيها تفسيرات منطقية، وغير مقترنة بأدلة عقلية أو علمية.

وهو في إنكاره للميتافيزقا، وكل ما هو غيب عن الإدراك الحسّيّ لا يقدّم غير النفي والإنكار والجحود.

* * *

(8)

"نيتشه" وأفكاره الإلحادية

من هو "نيتشه"؟

هو "فردريك نيتشه". فيلسوف ألماني ملحد. يعاني من نزعة الكبر والعجب بالنفس وعقدة العظمة إلى حد مشاعر الربوبية، عاش ما بين (1844-1900م) . وهو من سلالة قساوسة. تخرّج بجامعة "بون". وعين

ص: 466

أستاذاً بجامعة "بال" بسويسرا. ثمّ استقال من الجامعة أخيراً وتفرّغ للتأليف.

يدّعي واضعو الدستور الشيطاني اليهودي، أنه أحد وكلائهم الذين نشروا الإلحاد وعملوا على هدم الأخلاق في فكر الأميين "الجوييم".

تأثر "نيتشه" أول الأمر بفلسفة "شوبنهور". ثمّ فيسنة (1874 م) بدأ إعجابه بفلسفته يتبدد، حتى سقطت من نفسه كلياً.

ثمّ صار "نيتشه" يفقد أصدقاءه واحداً فواحداً، حتى أمسى في عزلة تامة عن كل العالم، وغدا الناس لا يحفلون به، ولا يقرؤون شيئاً مما يكتب، وغدا الناشرون لا يقبلون طبع كتبه.

وازداد إهمال الناس له، وجفاء القراء لكتبه، فزاد ذلك من آلامه، وغاظه وأثار غضبه الشديد، وكان المرض ملازماً له.

ثمّ استولى عليه جنون العظمة، حتى ظنّ نفسه الإله:"ديوزينوس". وفي سنة (1889م) حل به الجنون الحقيقي. ثم هلك في (25/8/1900م) .

أبرز آرائه وأفكاره الفلسفية

أولاً: اعتبرت فلسفة "نيتشه" العقل عاجزاً عن إدراك حقيقة الوجود.

ص: 467

فألغى مبادئ الفكر، وادّعى أنها ليست سوى أوهام، وإن كانت ضرورية لحياة الناس، لكنّها لا تعبّر عن الحقيقة.

وقال: إن العقل في حياة الإنسان لا حاجة إليه، وهو خطر.

وقال: إن الذي يمكن تصوّره عقلياً لا بد أن يكون وهماً لا حقيقة له.

وزعم أن معظم ما في الحياة يسير بدون عقل.

ثانياً: أنكر "نيتشه" عالم الظواهر، كما أنكر عالم الحقائق، وقضى عليهما معاً.

وزعم أن الوجود الحقيقي كلّه ينحصر في "الصيرورة" أي: التغيّر الدائم، و"الحياة" و"الطبيعة". وزعم أن هذه الثلاثة ذات معنى واحد.

وزعم أن "الصيرورة" التي هي الوجود، وهي الواقع الآني الراهن، ليس لها غاية تنتهي إليها، بل هي غاية في نفسها، وهي كلّ شيء، ولا شيء وراءها.

ثالثاً: وزعم أن المعرفة والوجود الحقيقي يتنافيان ويتناقضان.

إذن فلا يمكن أن تكون المعرفة الإنسانية مطابقة للحقيقة بحال من الأحوال، إذ هما دائماً متنافيان متناقضان.

رابعاً: زعم أن القوة هي الفضيلة العظمى في الوجود، بل هي الفضيلة الوحيدة، فدعا إلى القوة، وجعل القوة وحدها دون الرحمة والشفقة هي محور الأخلاق.

ومن أجل ذلك سمّيَ فيلسوف القوة.

وقال: "الخير هو كل ما يزيد الشعور بالقوة، هو إرادة القوة، هو القوة نفسها. والشر هو كل ما ينشأ عن الضعف، هو الضعف ".

خامساً: أخذ بمذهب التطوّر الذاتي الصاعد، وهو مذهب النشوء

ص: 468

والارتقاء، فزعم أن كل صنف يخلق صنفاً أرقى منه، فالحيوان في خلق كل صنف منه لصنف أعلى قد وصل في آخر الأمر لخلق الإنسان، فعلى الإنسان أن يخلق الصنف الأعلى منه، وهو "السوبرمان" أي: الإنسان الأعلى.

سادساًً: ويقول بالنسبة إلى ما بعد الموت: "أما الجزع مما بعد الموت فليس له ما يبرره، لأنه ليس بعد الموت شيء، وما بعد الموت لا يعنينا بعد".

وسيطر مفهوم القوة على كل مشاعره، حتى رأى الموت الإرادي مظهراً من مظاهر هذه القوة المجيدة، وبذلك كان من الداعين إلى الانتحار حينما يكون الوقت مناسباً لاختيار الموت، أي: متى وجد الإنسان أن الحياة لم يَعُد لها هدف لديه. فهو يقول على لسان "زرادشت":

"كثير من الناس يموتون في وقت متأخر جداً، وبعضهم يموتون في وقت مبكر جداً، ولا زال هذا القول: (مت في الوقت المناسب) يبدو غريباً".

لكنه مع رأيه هذا، ورغم أمراضه وعلله الكثيرة، وآلامه في حياته، فقد كان متفائلاً يحبّ الحياة، ويحرص عليها. وأدركه الجنون ولم ينتحر.

سابعاً: دعا إلى خلق الإنسان الأعلى "السوبر مان" وقال:

"إنني أدعوكم بدعوة الإنسان الأعلى، فإن الإنسان شيء يجب أن يُعلى عليه، فماذا عملتم من أجل العلاء عليه؟.

إن كل الكائنات حتى الآن قد خلقت شيئاً أعلى منها، فهل تريدون أنتم أن تكونوا جزراً لهذا المد العظيم، وتفضلون الرجوع إلى الحيوانية على العلاء على الإنسانية؟! ".

فالغاية من الإنسانية عنده هي خلق هذا الإنسان الأعلى.

ص: 469

وإذْ دعا الناس إلى خلق الإنسان الأعلى طالبهم بأن لا يتركوا الأمر فوضى للانتخاب الطبيعي.

لكنه رأى أن ذلك يتم بطرائق التربية التي ترفع الفرد وتسمو به، وبتحسين النسل البشري، باختيار الممتازين من الرجال والنساء للتزواج، وأن يكون الزواج أساسه اختيار الأرقى من النساء بشرياً، للأرقى من الرجال بشرياً، حتى يخلق الزوجان بإرادتيهما إنساناً أرقى منهما، وهكذا. وهاجم الزواج الذي يقوم على أساس الحب، ورأى أن من الواجب أن نجعل الحب مانعاً من الزواج، فخير الرجال لخير النساء، أما الحب فنتركه لحثالة البشر، إذ ليس الغرض من الزواج مجرّد النسل، بل يجب أن يكون وسيلة للتسامي والرقي.

وسمى هذا الزواج الذي دعا إليه: إرادة اثنين ليخلقا إنساناً يسمو على خالقيه.

ثامناً: بعد هذه الأفكار والآراء المشوشة المختلطة الفاسدة، التي هدم بها العقل وكل مبادئ الفكر بأقوال خيالية فلسفية، توصّل إلى هدفه المراد من وضع هذه الأفكار الباطلة، فزعم أنه لا بد من وضع قيم جديدة للوصول إلى خلق الإنسان الأعلى، وهذه القيم تتلخص بأن يكون الإنسان حراً، قد حطم كل القيود، وبدد ما أسماه بالأوهام الثقيلة الخطيرة، التي أتت بها المذاهب الأخلاقية، والدينية، والفلسفية. وبذلك جحد كل القيم التقليدية، ودعا إلى جحدها.

وأراد أن يرفع الإنسان الأعلى فوق الناس، والأخلاق، والقوانين، والتقويم التقليدي للأشياء.

وهذه الحال تقتضي من الإنسان ألا يظل متعلقاً بشخص ما، ولا بوطن معين، ولا بأي نوع من أنواع الشفقة والعطف ونحو ذلك.

والإنسان في الأخلاق الجديدة التي أرادها، هو فوق كل قيمة، وكل قانون، وكل ما يعتقده عامة الناس، ولا يعنيه قال الناس عن هذا الشيء:

ص: 470

إنه خير، أو قالوا عن الآخر: إنه شر. لأن مهمته الرئيسية أن يكون هو خالقاً للقيم، يضع للأشياء من القيم ما يريد، مما يؤدي إلى تحقيق الغاية من الإنسانية، فهو حرٌّ في أن يضع شرعة القيم التي يرتئيها في الأخلاق، والسياسة، والفلسفة، وغير ذلك.

وزعم أن هذا الإنسان الأعلى هو الذي يحدد معتقدات العصر بأكمله، ويعطي للحضارة صورتها، ويخلق القيم في حرية تامة، غير آبه للخير والشر، والحق والباطل، فهو كل شيء، يخلُق الأخلاق، ويحدّد الحق بإرادته، ويفرض على الناس ما يضع لهم من قيم فرضاً، وليس عليهم هم إلا أن يطيعوه، فالطاعة أولى فضائل الذين ليسوا هم من طبقة الإنسان الأعلى.

وتمنى في نفسه أن يكون ذلك الإنسان الأعلى الذي لم يولد بعد.

وربما كان يحلُم بأن يأخذ صفة الإله، فاستولى عليه جنون العظمة بعنف قاتل.

تاسعاً: تصور "نيتشه" أن مزاعمه التي طرحها في رداء فلسفي قد ألغت من أفكار الناس عقيدة الإيمان بالله عز وجل، فأعلن أن الله قد مات

نعوذ بالله من مقالته.

وقال على لسان "زرادشت":

"إذا كان هنالك آلهة، فكيف أطيق أن لا أكون إلهاً؟ وإذن فلا آلهة هناك".

وقال أيضاً:

"لقد ماتت الآلهة جميعاً، ونريد الآن أن يعيش السوبرمان

".

وقال أيضاً:

"إني أهيب بكم يا إخواني أن تخلصوا عهدكم للأرض، وأن لا تصدّقوا من يحدثونكم عن أملٍ سماوي، إنهم ينفثون فيكم السم بذلك، سواءٌ أعلموا بذلك أم لم يعلموا".

ص: 471

عاشراً: وزعم أن الوجود يسير في دورات متطابقة، فهو يكرّر نفسه باستمرار، وجعل وجود الإنسان الأعلى "السوبرمان" هو نهاية دورة الوجود، ليعود بعد ذلك إلى نقطة البداية.

وقال: "إن التكرار الأبدي موعده بعد وجود الإنسان الأعلى، فسيعود كل شيء بالتفصيل الدقيق مرة ومرة، إلى ما لا نهاية له، حتى "نيتشه" سيعود، وهذه الأمة الألمانية التي يعيش بين ظهرانيها، والتي تمجّد الدم والحديد ستعود

".

حادي عشر: ويظهر أن الغرور وجنون العظمة قد ضربا دماغ "نيتشه" بعنف، حتى تمثل الربوبية في نفسه، وأوصله ذلك إلى الجنون الحقيقي، فعاش أواخر حياته مجنوناً، ومات جنوناً.

كشف الزيف

ما أظنني بحاجة إلى كشف زيوف آرائه وأفكاره، فهي من الخبط والخلط والتخريف، وإنكار الحقائق، ما يجعل الناظر إلهيا يؤمن بفسادها وبطلانها مباشرة، ولا يحتاج من يكشف له زيوفها.

ومع ذلك فسأقتصر على ذكر كاشفين عامين:

الكاشف الأول: أن "نيتشه" قدَّم آراءه الفلسفية، وضلالاته التخريفيّة، وإنكاراته للحقائق الجليات، أقوالاً ادّعائية تقريرية، غير مقترنة بأي دليل يشهد لها.

فهي لدى التقويم الفكري لا وزن لها مطلقاً.

الكاشف الثاني: يكفي لردّ أفكاره وآرائه أن نطبق عليها ما قاله هو عن الفكر والعقل، وعن عالم الظواهر وعالم الحقائق.

ألم يلغ مبادئ الفكر وموازين العقل؟

إذن: فنصيب أفكاره من ذلك أنها ملغاة، بمقتضى حكمه هو، فهو لا يؤمن ها ابتداءً.

ص: 472

وقد كان المفروض فيه أن لا يكون متناقضاً مع نفسه، فلا يبحث قضايا، ولا يقدم أفكاراً مجالها الفكر وتصوراته وتخيلاته.

ألم يعتبر كل ما يمكن تصوره عقلياً لا بد أن يكون وهماً لا حقيقة له؟

إذن: فأفكاره وآراؤه وهمٌ في وهم، بمقتضى حكمه هو، إنه يعتقد أنها كذلك بمقتضى حكمه هو، إنه يعتقد أنها كذلك بمقتضى مبدئه، فلماذا نناقشها، وهو نفسه يقدمها ويعتقد أنها وهم لا حقيقة له؟.

ألم ينكر عالم الظواهر وعالم الحقائق؟

إذن: فآراؤه وأفكاره لا قيمة لها مطلقاً من وجهة نظره هو، لأنها تصف بالوهم والتخريف أشياء هي: إما من عالم الظواهر، أو من عالم الحقائق، هذا هو حكمه عليها.

فما شأن الباحثين بكشف زيوف آرائه وأفكاره وكل فلسفته، ما دام هو لا يرى فيها شيئاً يصف الحقيقة؟ فهي من وجهة نظره هو -وهو صاحبها- زيوف كلها، ووهم في وهم.

ويكفي لإسقاط أقوال أي إنسان، أن نطبق عليها اعتقاده فيها.

أما إن كان يقدّم آراءه هذه معتبراً أنها مفاهيم صحيحة، فإنه بذلك يكون متناقضاً مع نفسه تماماً.

وحسب التناقض مع النفس دليلاً على بطلان أصل الادعاء.

تعليق أخير

يبدو أن أساليب أغاليطه الفكرية الكثيرة على الرغم من ذكائه الشديد، ترجع إلى رؤيته السريعة الناقصة للأشياء، وأحكامه التعميمية السريعة، المقرونتين بغروره بنفسه، وإعجابه برأيه، واعتداده بذاته اعتداداً مفرطاً، الأمر الذي سبب له جنون العظمة. ثمّ هو لا يستقر طويلاً في بحث أي موضوع يعالجه، بل يتنقل في موضوعاته الفكرية تنقلاً سريعاً، فيراها رؤى

ص: 473

ناقصة سريعة، ويصدر فيها أحكاماً تعميمية سريعة باطلة، ويقفز عنها إلى غيرها، وهكذا.

فتجد في مقولاته تعبيرات ذكية، ولكنها تشبه ذكاء الأدباء الساخرين، والشعراء الخياليين، لا الحكماء والفلاسفة العقلاء المتأنين.

* * *

(9)

"سبنسر" وآراؤه الإلحادية

من هو "سبنسر"؟

هو "هربرت سبنسر". فيلسوف إنكليزي ملحد. عاش ما بين (1820-1903م) . قيل: هو أعظم فيلسوف إنكليزي في القرن التاسع عشر. ورث نزعة الإلحاد عن أبيه وعن جده لأبيه، فقد كان أبوه يأبى أن يفسر أي شيء بما فوق الطبيعة من قوى، حتى قال عنه أحد أصدقائه: إنه لا يدين بدين، ولا يؤمن بشيء.

نشأ "سبنسر" كسولاً غير مهتم بالتعلم، وكان ينفر من مدارس العلم، حتى أمضى معظم شبابه دون أن يتعلم شيئاً ذا أهمية في معاهد العلم. وبعد الثلاثين من عمره حاول أن يقرأ ما كتبه الفيلسوف "كانت" ثمّ لم يعجبه، وحكم عليه بأنه مغفل. ولم يقرأ كتاباً واحداً من العلوم إلى آخره.

أخيراً اتجه إلى تأليف كتبه معتمداً على مواهبه الفطرية، وملاحظاته المباشرة.

سيطر عليه الفكر الإلحادي، وملأت ناظريه الأشياء المادية، وظن أنها كل شيء في الوجود.

من مؤلفاته: "المبادئ الأولى".

ص: 474

أبرز آرائه الإلحادية

أولاً: رأى في فكرة التطور الذاتي ما أغراه بأن لديها تفسير كل ظواهر الوجود، فاتجه إلى تعليل كل شيء بمبدأ التطور من السديم الغازي إلى الإنسان، ثمّ الرجعة إلى نقطة البدء، ثمّ تبدأ المسيرة ثانية وثالثة إلى ما لا نهاية له من المرات، وكل تكوين جديد لا بد أن ينتهي بالفناء والموت.

ثانياً: رأى أن الحياة، والعقل، والمجتمع، والأخلاق، خاضعة للتطور.

ورأى أن العقل قاصر عاجزٌ عن إدراك الحقيقة، فزعم أن الحقيقة مغلقة لا يمكن إدراكها، فقال في مقدمة كتابه:"المبادئ الأولى" ما يلي:

" إن كل دراسة تقصد إلى البحث في حقيقة الكون واستقصاء علته، لا بد أن تنتهي إلى مرحلة يقف حيالها العقل عاجزاً، لا يستطيع أن يدرك عندها من الحق شيئاً، سواء أسلك إلى ذلك سبيل الدين أو العلم أو ما شئت من سبل.

هذا ملحد يحاول أن يقنعك بأن العالم وجد بذاته، لم ينشأ عن علة، وليس له بدء ولا ختام، فلا يسعك إلا أن تقابل قوله هذا بالجحود والإنكار، لأن العقل لا يسيغ معلولاً بغير علة، وموجوداً سار في الحياة شوطاً لا بداية له.

ثمّ استمع إلى هذا الناسك المتدين، ها هو ذا يقص عليك علة الكون، وكيف نشأ، فخالق الكون عنده هو الله، ولكنه لم يفسر بهذا الرأي من المشلة شيئاً، ولم يزد على صاحبه سوى أن أرجعها خطوةً على الوراء.

ص: 475

وكأني بك تسائله في سذاجة الطفل: ومن أوجد الله؟ فالدين بصورتيه -الإيمان والإلحاد- لم يستطع أن يقدم تعليلاً واضحاً مقبولاً

".

ثمّ ذكر مثل ذلك عن العلم، وأنه عاجز عن شرح حقائق الكون، ثمّ قال:

" قل للعلم أن يكف عن إثبات الله وإنكاره، فليس اللاهوت ميدانه الذي يصول فيه ويجول، وقل للدين أن يكف عن مناشدة العقل، لأنه لا يستقيم مع نهجه في التفكير، تر الدين والعلم أخوين متصافحين، لكل منهما حلبةٌ ومجال

".

ثالثاً: اعترف "سبنسر" في أواخر حياته بتأثير المادية في انهيار الأخلاق، فقال للشيخ "محمد عبده" حين زاره في "إنكلترا":

" إن الإنكليز الآن دون ما كانوا عليه من عشرين سنة، فهم يرجعون القهقرى في الأخلاق، وسبب ذلك تقدم الأفكار المادية، التي أفسدت أخلاق اللاتين من قبلنا، ثمّ سرت إلينا عدواها، وستفعل ذلك في سائر شعوب أوروبا، ولا أمل في صد هذا التيار المادي، ولا بد أن يأخذ مده غاية حده

إن الحق عند أهل أوروبا الآن للقوة

".

نقد آراء سبنسر

من الملاحظ أن إلحاده لا يقوم على أي دليل، فلقد أعلن عجز العقل عن إدراك الحقيقة، واعترف بأنه لم يستطع أن يجد ما يقنعه بالإلحاد، ولا أن يجد ما يقنعه بالله تعالى. وأقول: لو أنه استهدى بهدي الأدلة التي أرشد إليها القرآن لأبصر قضية الإيمان بالله تعالى ذات أدلة مقنعة له ولغيره، ومروية لظمأ العقول والنفوس والقلوب.

أما المشكلة الساذجة التي عبّر عنها بتساؤلها: ومن أوجد الله؟ وهي الوسوسة الشيطانية القديمة.

ص: 476

فالعقدة الفكرية فيها أنه هو وأمثاله قاسوا واجب الوجود الأزلي، على الموجد الحادث المسبوق بالعدم، فواجب الوجود، أي: الذي يوجب العقل أن يكون موجوداً أزلاً وأبداً، يستحيل في العقل تصور عدمه. لأن العقل يقرر أن العدم المطلق لا يمكن أن يكون هو الأصل، ولو كان هو الأصل لم يوجد شيء مطلقاً، فالعدم لا يتحول بنفسه إلى الوجود. لكن الكون يشتمل على صفات تثبت أنه حادث، فهو إذن بحاجة إلى مُحدث خالق، وهو الله الموجود الأزلي.

* * *

(9)

"برتراندرسل" وآراؤه الإلحادية

من هو "برتراندرسل"؟

هو فيلسوف إنكليزي ملحد معاصر. وذو تأثير قوي في ميدان الدراسات الفلسفية. عاش ما بين: (1873 - 1970م) . وهو من أسرة ارستقراطية معروفة. كان جده رئيساً للوزارة الإنجليزية، على مبدأ الأحرار. وقد أثار حرباً شعواء ليظفر بحرية التجارة، وبالتعليم العام المجاني، وبتحرير طائفة اليهود.

كان "برتراندرسل" أشهر الفلاسفة الذين عرفهم الفكر الفلسفي أثناء الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.

كتب في مختلف مجالات الفكر الفلسفي، وكتب في غيرها أيضاً، وكان ذا نشاط تأليفي غير عادي، وقد ظل صاحب الخطوة الأولى لدى الذين يطلقون على أنفسهم تقدميين من المثقفين المعاصرين الملاحدة في أوروبا وذيولها.

ص: 477

وهو ذو تطرف سياسي. ومتطرف جداً في إلحاده. وقد بسط أفكاره السياسية والإلحادية المتطرفة في كتابات أدبية مؤثرة.

أثرت كتاباته السهلة على العامة، وأثرت كتاباته العميقة على الفكر الأوروبي المعاصر كله.

استعراض لأهم آرائه وأفكاره وحركة فكره الفلسفية:

أولاً: سار في فلسفته ضمن أطوار، من المثالية إلى الوضعية. وقد ركز اهتمامه أخيراً على المذهب الوضعي، فصار يرى أن المعرفة تظل مستحيلة ما لم نستعن في محاولة الوصول إليها بمناهج الطبيعة.

وواقعية "رسل" قريبة من الواقعية الملاحظة في مذهب "هيوم" التجريبي.

وقد سيطر على فلسفته مذهب الشك، حتى كاد الشك المطبق يخيم على جميع جوانب فلسفته.

وعلى الرغم من حدة ذكائه، وسعة اطلاعه، عجز عن أن يضع مذهباً فلسفياً متناسقاً، يربط بين جميع آرائه ونظرياته، وعجز أيضاً عن تحاشي الوقوع في التناقض، إذ يلمس الباحث القارئ لكتبه، ظاهرة التناقض جلية في بعض جوانب فلسفته.

لقد تبنى مواقف فكرية كان من سماتها التغير المتواصل، فلم يكن يثبت عند موقف منها. وانتهى إلى الادعاء بأنه يستحيل إدراك الواقع خارج نطاق مناهج علوم الطبيعة، فحصر المعرفة في العلوم الطبيعية وحدها، ثمّ أخذ يتشكك حتى في قيمة تلك المعرفة، وهو في ذلك يقول:

ص: 478

"حتى المعرفة التي تمدنا بها علوم الطبيعة لا تعدو أن تكون مجرد معرفة احتمالية".

ثانياً: رفض "رسل" مثالية "هيجل" كلها رفضاً قاطعأً، وادعى أن العالم الواقع يتألف من مجرد معطيات حسية تترابط فيما بينها بواسطة علاقات منطقية صرفة. وزعم أن المادة وإن كان لها وجود واقعي ملموس، فمن المستحيل إدراكها إدراكاً مباشراً.

ومضى "رسل" في بلورته لنظريته في المعرفة دون أن يخرج بها عن النظرية الأفلاطونية الكلاسيكية، بيد أنه ينتهي فيما بعد إلى التسليم بعجزه عن تقديم حلول قاطعة لمشكلة المعرفة في جملتها، نظراً إلى ما يكتنف تلك المحاولة في رأيه من صعوبات جمة، فنراه يقترب من الموقف نفسه الذي انتهت إليه الوضعية قبله.

واعترف "رسل" بأن آراءه في علم النفس قد جاءت مغرقة في نزعتها المادية، ومع ذلك فإنه لم يتبنَّ وجهة نظر مادية خالصة في هذا المجال.

ثالثاً: ذهب إلى اعتبار الإنسان جزءاً لا قيمة له بين أجزاء الطبيعة. وزعم أن العقل الإنساني خاضع للقوانين الطبيعية، إذ اعتبرها متحكمة في جميع ضروب الفكر.

وزعم أن العلم الذي يشكل المصدر الوحيد لمعرفتنا، لا يمكن أن يفسح مجالاً للاعتقاد بوجود الله، أو بخلود النفس.

وزعم أن فكرة الخلود فكرة بالغة البطلان والاستحالة، إذ لو كان

ص: 479

الخلود هو المصير الذي ينتظر النفس بعد الموت، فما السبب إذن في عجز النفس عن أن تشغل لها حيزاً إلى جانب الجسد في هذه الحياة الدنيا؟ .

رابعاً: أفرط "برتراندرسل" إفراطاً شديداً في صب هجومه على الدين قائلاً:

" إن الدين لا يقوم إلا على عوامل الترهيب والتلويح بالعقاب، وبالتالي فإن الدين يشكل ضرباً من ضروب الشر التي تملأ هذا العالم. وهذا هو السبب في أننا نجد أن أولئك الذين لم يبلغوا بعدُ درجة كافية من النضج الأخلاقي والعقلي هم وحدهم الذين ما زالوا يتمسكون بالمعايير الدينية التي تناهض بطبيعتها جميع المعايير الإنسانية الخيرة التي يجب أن تسود عالمنا الحديث.

خامساً: يرى "رسل" أن للإنسان إرادة حرة تدفعه إلى أن يقيم لنفسه في الحياة مثلاً عليا، يطمح بها إلى تحقيق حياة خيرة، تسير على هدى المعرفة والمحبة الإنسانية، ومن شأن حرية الاختيار هذه أن تغني الإنسان عن البحث عن نظريات أخلاقية لا طائل وراءها.

وإذ زعم أنه لا جدوى للنظريات الأخلاقية التجريدية لضرورات الحياة العملية، فقد بدا له أن يقدم برهاناً على ذلك مثال الأم التي تواجه مرض طفلها الصغير، فقال: إن تلك الأم لا تحتاج في سعيها وراء شفاء

ص: 480

طفلها إلى مشرعين أخلاقيين، وإنما تحتاج إلى طبيب ماهر قادر على وصف العلاج المناسب.

وللتشجيع على الإباحية الجنسية، زعم "رسل" أن القواعد الأخلاقية قد أخذت ترتكز اليوم شيئاً فشيئاً على تصورات خرافية باطلة. منها على سبيل المثال ما نشاهده من انحراف في سن التشريعات الأخلاقية الجنسية، المتمثلة اتجاه المجتمعات الحديثة إلى تحريم جميع صور الزواج الجماعي، وقصره على صورته الواحدية، وفي استهجان الزنى، ومحاربة الزانين.

وزعم أن السعادة التي هي الغاية التي يجب أن تطمح الإنسانية إليها، لا سبيل إلى بلوغها إلا بقهر عوامل الخوف والإرهاب اللذين دأبت الأديان والشرائع الأخلاقية على التلويح بهما في وجه الإنسان، وذلك بالوقوف في وجههما بفضائل الشجاعة والإقدام، وتقويتهما عن طريق التربية، وخلع الكمالات على الإنسان بالتحلي بشتى القيم

سادساً: سئل "برتراندرسل": هل يحيا الإنسان بعد الموت؟

فأجاب بالنفي، وشرح جوابه بقوله:

"عندما ننظر إلى هذا السؤال من زاوية العلم، وليس من خلال ضباب العاطفة، نجد أنه من الصعب اكتشاف المبرر العقلي لاستمرار

ص: 481

الحياة بعد الموت، فالاعتقاد السائد بأننا نحيا بعد الموت يبدو لي بدون أي مرتكزٍ أو أساسٍ علمي. ولا أظن أنه يتسنى لمثل هذا الاعتقاد أن ينشأ وأن ينتشر لولا الصدى الانفعالي الذي يحدثه فينا الخوف من الموت. لا شك أن الاعتقاد بأننا سنلقى في العالم الآخر أولئك الذين نكن لهم الحب، يعطينا أكبر العزاء عند موتهم، ولكني لا أجد أي مبرر لافتراض أن الكون يهتم بآمالنا ورغباتنا، فليس لنا أي حق في أن نطلب من الكون تكييف نفسه وفقاً لعواطفه وآمالنا، ولا أحسب أن من الصواب والحكمة أن نعتنق آراء لا تستند إلى أدلة بينة وعلمية".

سابعاً: كتب "رسل" قصة أدبية، ذكر فيها أن السديم الحار دار عبثاً في الفضاء عصوراً لا تعد ولا تحصى دوراناً ذاتيا، ثمّ نشأت عن هذا الدوران هذه الكائنات المنظمة البديعة، بطريق المصادفة، وأن اصطداماً كبيراً سيحدث في هذا الكون، يعود به كل شيء إلى سديم، كما كان أولاً.

وعلق الملحد "صادق جلال العظم" على هذه القصة الخيالية، التي سماها قطعة أدبية جميلة فقال:

" هذا المقطع الذي كتبه "رسل" يلخص لنا بكل بساطة النظرة العلمية الطبيعية للقضايا التالية: نشوء الكون وتطوره. نشوء الحياة وتطورها. أصل الإنسان ونشأته وتطوره. نشوء الديانات والعبادات والطقوس وتطورها. وأخيراً يشدد على أن النهاية الحتمية لجميع الأشياء هي الفناء والعدم، ولا أمل لكائن بعدها بشيء، إنه من السديم وإلى السديم يعود".

ثامناً: ذكر "وحيد الدين خان"، أنه قرأ كل أعمال "برتراندرسل"

ص: 482

واستطاع بعد قراءتها أن يلتقط من أقواله ما يكشف عن النهايات الفكرية التي انتهى إليها.

إنه بعد أن درس الفيزياء، وعلم الحياة، وعلم النفس، والمنطق الرياضي، انتهى إلى أن "مذهب التشكيك في الوجود مستحيل نفسياً". ومع ذلك فإن الإنسان عاجز عن أن يحيط إلا بأقل قدر من المعرفة.

ويقول بالنسبة إلى الفلسفة:

"تدعي الفلسفة منذ القدم ادعاءات كبيرة، ولكن حصيلتها أقل بكثير بالنسبة إلى العلوم الأخرى ".

ويقول "رسل":

"عن تصورنا العلمي للكون، لا تدعمه حواسُّنا التجريبية، بل هو عالم مستنبط كلياً ".

ويبلغ به الأمر إلى أن يقول:

" إن أفكار الناس لا توجد إلا في مخيلاتهم فحسب".

أي: إن التجربة لا تستطيع أن تثبت مطابقة هذه الأفكار للواقع.

وانتهى "رسل" أيضاً إلى أن التجربة قد أعطيت لها الأهمية الكبرى، ولذلك يجب أن تخضع "التجريبية" باعتبارها فلسفةً لتحديات مهمة. يقول هذا حتى في النظريات والقوانين العلمية.

ص: 483

ومع ذلك فإنه يختار لنفسه مذهب الإلحاد، ويعتمد على افتراضات لا يمكن إخضاعها للتجربة بحال من الأحوال، وذلك بالنسبة إلى نشأة الكون والحياة. ويرجح الداروينية مع أنها من وجهة نظره فكرة استنباطية لا تدعمها التجربة، ولا تزيد على أنها فكرة في مخيلات أصحابها.

ويقول أيضاً:

" لقد وجدت معظم الفلاسفة قد أخطؤوا في فهم الشيء الذي يمكن استنباطه بالتجربة فحسب، والشيء الذي لا يمكن استنباطه بالتجربة ".

ويقول أيضاً:

" لسوء حظنا لم تعد الطبيعة النظرية تحدثنا اليوم بالثقة الرائعة نفسها التي كانت تحدثنا بها في القرن السابع عشر. لقد كانت لأعمال "نيوتن" أربعة تخيلات أساسية، هي: المكان، والزمان، والمادة، والقوة.

وقد أصبحت هذه العناصر نسياً منسياً في علم الطبيعة الحديث. فقد كان الزمان والمكان من الأشياء الجامدة والمستقلة عند "نيوتن" والآن قد تمَّ تبديلهما بما يُسمى "المكان-الزمان" والذي لا يعتبر جوهرياً أساسياً، وإنما هو نظام للروابط، وأصبحت "المادة" شكلاً لسلسلة الوقائع، وأصبحت "القوة" الآن "الطاقة". والطاقة نفسها شيء لا يمكن فصله عن المادة الباقية. والسبب كان هو الشكل الفلسفي لما كان يسميه علماء الطبيعة بالقوة، وقد أصبح هذا التصور قديماً، إن لم أقل: إنه قد مات فعلاً، إلا أن هذه الفكرة لم تعد قوية كما كانت من قبل".

ويقول "رسل" أيضاً:

"إنه قد توصل بعد دراسات استنفدت كل عمره، إلى أن الاستنباط الذي لا يمكن إيضاحه يعتبر أيضاً مقبولاً وجائزاً، وعند رفض هذا النوع من

ص: 484

الاستنباط سوف يصاب النظام الكامل للعلوم والحياة الإنسانية بالشلل".

ويقول أيضاً:

" إن العلوم تشمل كلا العالمين: الحقيقي والعالم المتخيّل وجوده. وكلما تقدم العلم ازداد فيه عنصر الاعتقاد، فبعض الأشياء في العلوم حقائق مشاهدة، ولكن الأشياء العليا تجريدات علمية يتم استنباطها بناءً على المشاهدة. والحقيقة أنه لا يمكن رفض مذهب الشك الكلي إطلاقاً، إلا أنه مع ذلك يصعب قبول التشكيك الكلي في نفس الوقت".

ويقول أيضاً:

"إنه لا يمكن الادعاء بالقطعية (في النظريات أو الآراء) على النحو الذي سار عليه الفلاسفة المتسرعون بكثرة وبدون جدوى".

ونظراً إلى واقع حال "رسل" التائه عن الحقيقة، استطاع البروفسور "ألان وود" أن يقرظه بقوله:"برتراندرسل فيلسوف بدون فلسفة".

كشف الزيف

سأقتصر على كشف أهم ما في أقوال "رسل" وفلسفته من زيوف في الكواشف التالية، عنواناً على سائر زيوفه:

الكاشف الأول: لقد اكتشفنا من أقوال "رسل" أن فلسفته تعتمد على الاعتراف بأن العلوم متى تجاوزت منطقة المدركات الحسية فإنها لا تملك معارف يقينية، ولكن مع ذلك لا بد من قبول هذه المعارف التي يتوصّل إليها بالاستنباط، وإن لم تكن يقينية، لئلا تتعطل الحياة العملية، وتقف عن الإنجاز، إذ لا سبيل إلى اليقين فيها.

فليس هو في هذا من الذين لا يقبلون إلا ما يدرك بالحس المباشر أو غير المباشر، وإنما يجعل ما يتوصل إليه من تفسيرات علمية مقبولاً بصفة ترجيحية، لضرورة العجز عن الوصول إلى اليقين.

فما الذي صدّه إذن عن الإيمان بالله عز وجل، والإيمان باليوم الآخر

ص: 485

الذي هو من لوازم حكمته وعدله، مع أن الأدلة الاستنباطية الترجيحية هنا - إن رُفِض اعتبارها يقينية- أقوى بكثير من التخيلات الأخرى، التي يفسر بها الملحدون نشأة الكون وتطوره، ونشأة الحياة وتطورها؟!

هنا تظهر عقدة الهوى والتعصب ضد الدين، عند "رسل" وعند سائر الملحدين.

وهذا التعصب لديهم، لا تدعمه أية أدلة مرجّحة لقضية الإلحاد، بل ليس للإلحاد في الحقيقة أي دليل، غير مجرد سفسطات وتخيلات تقوم في رؤوس أصحابها فقط.

إن التفسير البديل لقضية الإيمان بالخلق الربّاني إنما هو فرضية الارتقاء الذاتي، وأزلية المادة.

أما أزلية المادة فقضية مرفوضة علمياً ومنطقياً.

وأما الارتقاء الذاتي فيعبّر عنه "السير آرثر كيث" - كما سبق - بقوله:

"الارتقاء غير ثابت، ولا يمكن إثباته، ونحن نؤمن بهذه النظرية لأن البديل الوحيد هو الإيمان بالخلق الخاص المباشر، وهو أمرٌ لا يمكن حتى التفكير فيه".

لكن: لماذا لا يمكن التفكير فيه؟

والجواب الوحيد: لأنه لا يسمح له هواه بأن يعترف بالله الخالق، وبأن يخضع له بعد ذلك خضوع العبادة والطاعة.

فتمرده وتمرد نظرائه الملحدين إنما هو تمرد المستكبرين المعاندين، أو تمرد طالبي الفجور في الأرض، دون أن يشعروا بأن فوقهم رقيباً محاسباً، عزيزاً حكيماً.

ص: 486

وهم يدعون إلى الإلحاد لإضلال الجاهلين، الذين لم تكشف لهم أضواء المعرفة طريق الحق.

ما أعجب سلطان الهوى، وسلطان التعصب، وسلطان الالتزام بالمبادئ الحزبية على الناس!!.

إن هذه المؤثرات التي تجنح بهم عن سواء السبيل، تسوقهم إلى الشقاء الأبدي والعذاب الأليم، وتجعلهم يؤثرون الضلالة على الهدى، والظلمات على النور.

الكاشف الثاني: لقد سقط "رسل" في سخف استدلالي مفضوح جداً، حين احتج على عدم جدوى النظريات الأخلاقية التجريدية لضرورات الحياة العملية، على عدم الحاجة إلى مشرعين أخلاقيين، بمثال الأم التي تواجه مرض طفلها الصغير، إذ قال: إن تلك الأم لا تحتاج في سعيها وراء شفاء طفلها إلى مشرعين أخلاقيين، وإنما هي تحتاج إلى طبيب ماهر قادر على وصف العلاج المناسب.

إنه بهذا الاستدلال قد لعب لعبة التعميم الفاسد مرتين:

الأولى: حين جعل هذا المثال كافياً لإلغاء حاجة البشرية إلى التشريعات الأخلاقية.

أظن أن مثل هذا الاستدلال لا يقبله أطفال المتعلمين فضلاً عن عقلاء الناس ومثقفيهم، وذلك لأن الناس جميعاً يلاحظون أن للإنسان نوعين من السلوك:

أما أحدهما فهو يلائم هوى الإنسان وعاطفته أو شهوته، وهو مع ذلك ينطبق على المبادئ الأخلاقية، ولا يتعارض معها، ومن ذلك عاطفة الأم التي تتحرك بلهفة لشفاء طفلها المريض.

وأما الثاني فهو يلائم هوى الإنسان وعاطفته أو شهوته، لكنه يتعارض مع المبادئ الأخلاقية (الحق والواجب والفضيلة والجمال) ويدخل في هذا

ص: 487

النوع الثاني آلاف الأمثلة من السلوك الإنساني. إن أمثلة العدوان على الحقوق، وظلم الناس للناس، وجنوح الأهواء الإنسانية إلى ما يسبب الهلاك والدمار، أمور تدفع إليها الأهواء الإنسانية إلى ما يسبب الهلاك والدمار، أمور تدفع إليها الأهواء والشهوات أو العواطف الخاصة، فهي تتلاءم معها، إلا أنها تنافى مع المبادئ الأخلاقية، فهي تحتاج إلى مشرعين أخلاقيين.

فماذا يقول "رسل" وأشياعه، لو ضربنا آلاف الأمثلة التي يحتاج فيها البشر إلى تشريعات أخلاقية، وهذه الأمثلة مأخوذة من واقع سلوك المجرمين، والمنحرفين، والظالمين في الأرض، ومأخوذة من كثر من صور السلوك الإنساني التي تتكرر آلاف المرات، في كل مجتمع مهما صغر، وتكاد تكون هي الظاهرة الغالبة في كل سلوك إنساني، تدفع إليه دوافع لا تلتقي أهواؤها مع الدوافع الأخلاقية النبيلة على طريق واحد، فيلاحَظ من سلوك الناس فيها فعل الشرّ والإثم والبغي والعدوان، لا فعل الخير والحق والعدل والفيلة وما هو حسن.

إن هواه في محاربة الدين والأخلاق قد أسقطه في تفاهات فكرية لا يسقط بمثلها الصغار جداً، فضلاً عن الكبار والعلماء وأعلام الرجال الباحثين.

وكلمته التي قالها في شأن الأم التي تسعى وراء شفاء طفلها: إنها لا تحتاج إلى مشرعين أخلاقيين، وإنما تحتاج إلى طبيب ماهر قادر على وصف العلاج المناسب. نقول في مقابلها:

إن الذين يموتون على أيدي الأطباء المهرة، وفي المستشفيات المختلفة، نتيجة الإهمال والرغبة بابتزاز الأموال، لا يحتاجون إلى أطباء مهرة، وأمهات حانيات رؤومات، وإنما يحتاجون إلى تشريعات أخلاقية صارمة، ومراقبين أخلاقيين، يأخذون على أيديهم.

الثانية: حين لعب لعبة الزحف التعميمي، من النظريات الأخلاقية التجريدية التي بدأ بها كلامه، والتي قال عنها:"إنها غير ذات جدوى"،

ص: 488

إلى التشريعات الأخلاقية العملية التي أنهى بها كلامه، بعد أن احتج بمثال الأم التي تسعى وراء شفاء طفلها، واعتبر بذلك النظريات الأخلاقية التجريدية تشمل بمفهومها التشريعات الأخلاقية العملية التي تضبط سلوك الناس عن الانحراف، بتوجيه قانوني ومراقبة اجتماعية.

فهو كمن قال: نحن لا نحتاج إلى الفلسفة النظرية لأصل اللغات. إذن فنحن لا نحتاج في اللغة العربية إلى قواعد النحو وتطبيقاتها على الكلام العربي.

هذا زحف تعميمي فاسد، ينتقل به الزاحف من موضوع إلى موضوع، ومن قضية إلى قضية أخرى مباينة لها تماماً، والجسر بينها قد يكون كلمة موجودة في كل القضيتين، لكنها في إحداهما غير تماماً في الأخرى.

إن مثل "رسل" لا يخفى عليه فساد مثل هذا التعميم، لكنه إذا أراد التضليل تغابى، لعل تغابيه يكون حيلة ينخدع بها الأغبياء، فيأخذون فكرته التي طرحها بالقبول، ويعتقدونها مبدأ، وبذلك يكون قد وصل إلى هدفه من تضليلهم.

الكاشف الثالث: جاء إلى الحقيقة المهمة التي كشف عنها الدين، وأقرتها العقول الإنسانية الحصيفة، خلال التاريخ الإنساني الطويل، وهي التي تثبت تكريم الإنسان وارتفاع قيمته بالنسبة إلى سائر الكائنات المدركة بالحواس، وذلك بسبب ما لديه من خصائص علمية، وأدوات معرفة، وما لديه من صفات نفسية، وأهمها حرية الإرادة، بما لديه من قدرات فكرية ونظام جسدي يستطيع بهما السيطرة على الأرض بكل ما فيها، والانتفاع من كثير من الطاقات المنبثة في السماء والأرض.

جاء "رسل" إلى هذه الحقيقة المهمة، فألغاها بمجرد توجيه كلمة الإنكار، لقيمة هذا الإنسان وبمجرد الإعلان بأن الإنسان جزء لا قيمة له بين أجزاء الطبيعة.

ص: 489

إن الاعتراف بقيمة الإنسان في هذا الوجود ينبه الفكر الإنساني، على أن هذا الكائن لم يمنح هذه القيمة، ولم يُعط هذا التكريم، ولم يزود بجملة الخصائص الممتازة التي زود بها، إلا ليوضع موضع الامتحان في ظروف هذه الحياة.

والاستدلالات المنطقية ترشد الفكر المستنير من خلال هذا المنطلق، إلى قضيتين:

الأولى: قضية الإيمان بالرب الخالق الواهب، الذي منح الإنسان خصائصه، وفضله وكرمه.

الثانية: ما يستتبعه الامتحان من ضرورة إقرار مبدأ الجزاء، لأن الامتحان بلا جزاء عبث، والإيمان بالجزاء يشق الطريق إلى الإيمان باليوم الآخر.

ولما كان من الأهداف الرئيسية لفلسفة "رسل" والمقررة في خطته سلفاً، أن يزلزل لدى قُرّائه عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر، وما تستتبعه هذه العقيدة من مفاهيم، كان عليه أن يأتي إلى كل الجذور الفكرية التي يمكن أن تهدي العقل البشري إلى هذه العقيدة، فيقتلعها، ولكنه لا يجد حجة منطقية يقتلعها بها.

إذن: فلْيَلْبَس ثوب الفلسفة العميقة العقيمة، وليقدم آراءه الفلسفية أقوالاً تقريرية لا دليل عليها، فهذه الأقوال المزيفة سيكون لها قيمة لدى الأغرار المفتونين بزخرف الفلسفات المعاصرة، ما دام الذي يقدمها فيلسوفاً مرموقاً جداً، وصاحب مؤلفات روجتها وسائل الإعلام المغرضة المضللة ترويجاً عظيماً، وتقبّلتها الرؤوس الفارغة من الموازين الصحيحة.

كيف ينكر "رسل" قيمة هذا الإنسان، ويعتبره جزءاً لا قيمة له بين أجزاء الطبيعة؟!

إن هذا الإنكار لأمر عجيب أن يصدر من مثله علماً وفلسفة.

ص: 490

أي كائن آخر في هذا الكون المشهود لنا استطاع أن يتوصل بالملاحظة والتجربة والاستنباط إلى كوامن قوى الكون، ويستخدمها في أغراضه الخيرة والشريرة؟!

أمع كل ما وصل إليه الإنسان، من منجزات علمية وحضارية رآها فيلسوف القرن العشرين الميلادي بكل حواسه، يظل الإنسان في نظره جزءاً لا قيمة له بين أجزاء الطبيعة؟!.

إنني لا أعتقد مطلقاً أن تكون هذه عقيدته الداخلية، إنما هي أقوال يصدرها ليفتن بها الذين يثقون بفلسفته من أجيال هذا العصر، خدمة للمخطط الرامي إلى نشر الإلحاد في الأرض، وتدمير القيم الأخلاقية.

الكاشف الرابع: زعم "رسل" أن العلم - الذي يشكل المصدر الوحيد لمعرفتنا- لا يمكن أن يفسح مجالاً للاعتقاد بوجود الله، أو بخلود النفس.

ولقد عرفنا أنه حصر "العلم" بالعلم التجريبي، المستمد من الكون المادي، وما تعطيه التجربة بشكل مباشر.

وهذا يعني أنه يرفض الاستنباط والاستنتاج العقلي، مع أنه قد ناقض نفسه في هذا الموضوع بالذات، إذ قال:

" إن تصورنا العلمي للكون لا تدعمه حواسنا التجريبية، بل هو عالم متسنبط كلياً".

وإذ قال أيضاً:

" إنه قد توصل بعد دراسات استنفدت كل عمره، إلى أن الاستنباط الذي لا يمكن إيضاحه، يعتبر أيضاً مقبولاً وجائزاً، وعند رفض هذا النوع من الاستنباط سوف يصاب النظام الكامل للعلوم والحياة الإنسانية بالشلل".

وإذ قال أيضاً:

" كلما تقدم العلم ازداد فيه عنصر الاعتقاد، فبعض الأشياء في العلوم

ص: 491

حقائق مشاهدة، ولكن الأشياء العليا تجريدات علمية، يتم استنباطها بناءً على المشاهدة".

وزعم أيضاً أن الكون بدأ من السديم، ودار عبثاً في أحقاب مديدة حتى وصل إلى ما هو عليه الآن، وسوف يصطدم بعضه ببعض، ويعود بعد ذلك إلى مثل ما كان عليه أولاً.

هنا نقول له كاشِفين زيوفَه:

ترى هل فسح العلم لديه مجالاً لهذه المزاعم الخيالية، التي لا يقدم العلم شيئاً منها، بعد أن لم يفسح المجال للاعتقاد بوجود الله أو بخلود النفس بحسب زعمه؟!!

إنه يقفل أسوار العلم، ويحصره في المعطيات التجريبية المباشرة، فيبعد عنه قضايا الإيمان بالله واليوم الآخر، التي يستنبطها العقل استنباطاً، ويستنتجها استنتاجاً يقينياً، بعد مشاهدته ظواهر الطبيعة، وآيات الله في الكون، وبعد رجوعه إلى موازين الفكر الثابتة، التي تتفق عليها عقول الناس جميعاً. فيزعم أن العلم لا يمكن أن يفسح مجالاً للاعتقاد بوجود الله، أو بخلود النفس.

ثمّ يأتي في مقابل ذلك فيقدم مزاعم خيالية، دون استدلال علمي، ودون استنباط عقلي، ومن المعلوم أن العلوم التجريبية لم تثبت شيئاً من هذه المزاعم.

ثمّ يأتي أيضاً في غير قضايا الإيمان بالله واليوم الآخر، فيقرر أن التجريدات العلمية العليا التي يتم استنباطها بناءً على المشاهدة لا يجوز رفضها، وإلا فسوف يصاب النظام الكامل للعلوم والحياة الإنسانية بالشلل.

إنه هنا في هذه القضايا استطاع أن يدرك أن العلم يفسح مجالاً للتجريدات العلمية العليا، ورأى أن الاعتقاد بها أمر ضروري.

ما بالُه زعم أن العلم لا يفسح مجالاً للاعتقاد بوجود الله، أو بخلود النفس، مع أن هاتين القضيتين هما من التجريدات العلمية العليا، التي لا

ص: 492

يقتصر استنباطها على فئة العلماء، بل يتوصل إلى إدراكها معظم الناس، بل كل الناس لو وجهوا أفكارهم للبحث عنها؟

هذا تناقض منطقي سقط فيه "رسل" وما أسقطه فيه إلا هواه الموجه ضد قضية الإيمان بالله واليوم الآخر.

الكاشف الخامس: زعم "رسل" أن فكرة الخلود فكرة بالغة البطلان والاستحالة، إذ لو كان الخلود هو المصير الذي ينتصر النفس بعد الموت، فما السبب إذن في عجز النفس عن أن تشغل لها حيزاً إلى جانب الجسد في هذه الحياة الدنيا؟

ما أشد ضعف هذا الاستدلال لإبطال فكرة بقاء الروح بعد الموت، ولإبطال فكرة الحياة الآخرة والخلود فيها.

إذا كانت ظروف هذه الحياة الدنيا تستدعي كون الجسد المادي هو الوعاء أو الثوب الذي تظهر به في الماديات حركة الروح، وتظهر به نشاطاتها.

وإذا كانت خطة الخالق الحكيم القدير قضت ذلك.

فهل يفيد ذلك أن الروح قد عجزت عن أن توجد مستقلة عن الجسد؟!

إن هذا الفهم السطحي القاصر هو من لوازم الانغلاق في حدود بعض ظواهر المدركات الحسية، على أن التعمق القليل فيها يكشف أن معظم الماديات أوعية لطاقات هائلة، وهذه الطاقات ليس لها وجود مستقل في غير أوعيتها.

يضاف إلى ذلك أن البصيرة العقلية ومستنبطاتها التجريدية لا تسمح مطلقاً بالانغلاق في حدود المادة.

إن الشيء الذي لا نشاهده في الواقع الحسي لا يلزم عقلاً أن يكون غير ممكن الوجود، فعدم الوجود فعلاً لا يدل على استحالة الوجود.

ص: 493

فما بالك بالحكم على الواقع بأنه غير موجود، وبأنه مستحيل، لمجرد أننا لم نشاهده في دوائر حواسنا المحدودة جداً؟!.

إن هذه المادّية السطحيّة ذات النظر القاصر، حتى من وجهة نظر العلميين المادّيين، فضلاً عن الذين يؤمنون بأن في الوجود الكبير حقائق كبرى، لا تستطيع الوسائل العلمية التجريبية أن تتوصل إلى إدراكها وإثباتها، وإنما ثبتها العقل بتأملاته الاستنباطية، القائمة على اللوازم المنطقية، والبراهين العقلية.

أبهذا الاستدلال الواهن الواهي جداً يقرر الفيلسوف "رسل" إمام ملاحدة هذا العصر: أن فكرة خلود النفس فكرة بالغة البطلان والاستحالة؟!

إنه لسخف عجيب، ومسلك من أمثاله غريب!!

الكاشف السادس: حين سُئِل "رسل": هل يحيا الإنسان بعد الموت؟ وأجاب بالنفي، ثمّ شرح جوابه بالمقولة التي سبق ذكرها لدى عرض آرائه. لم يقدّم غير الإنكار، وادّعاء أنه من الصعب اكتشاف مبرر عقلي لهذه الحياة بعد الموت، وادعاء بأنه ليس له مرتكز أو أساس علمي.

وأكرر هنا ما كتبته في كتاب "صراع مع الملاحدة حتى العظم" فأقول:

لا بدّ أن نضع كلام "رسل" تحت مناظير البحث العلمي، لنرى قيمته من الوجهة العلمية.

ليس غريباً على "رسل" بعد أن اختار سبيل الإلحاد بالله، واعتبار الكون ظاهرة مادية بحتة، على خلاف ما قدّمته الأدلة البرهانية العقلية، والاستنباطية من الظاهرات الكونية، أن يصعب عليه - في الإطار المادي الصرف - اكتشاف المبرّر العقلي للحياة بعد الموت.

وليس غريباً عليه بعد ذلك أن لا يجد لعقيدة الحياة بعد الموت، وعقيدة الدار الآخرة للحساب والجزاء، مرتكزاً علمياً يستند إليه.

ص: 494

إن من ينكر حياة كائن ما بغير دليل، يجد من الصعب عليه أن يكتشف المبرِّر العقلي لوجود إرادة لهذا الكائن، لأن إرادته فرع لتصور حياته، وبعد إنكار الأصل يكون إنكار الفرع شيئاً طبيعياً، ومذهباً سهلاً، لكن هذا الإنكار لا يعبّر عن الواقع بحالٍ من الأحوال.

إن الإيمان بالحياة بعد الموت للحساب والجزاء، في دار غير هذه الدار، قضية تعتمد على أصلين:

الأصل الأول: الإيمان بالله الخالق وعلمه وقدرته وحكمته وعدله، فمن آمن بالله وبحكمته وعدله، وضحت له ضرورة الجزاء، بعد ظروف الامتحان في هذه الحياة الدنيا.

الأصل الثاني: الإيمان بالوحي الرباني، وما جاء عنه من أخبار على لسان المرسلين.

فمن آمن بالله وبرسله، كان لزاماً عليه أن يصدّق بالأخبار التي تأتي عنه على لسان رسله. ومنها الأخبار التي تبين وقائع المستقبل الذي قضاه الله بمقتضى حكمته، فهو آتٍ لا محالة كما قضى وكما أخبر.

إن قضية الجزاء قضية عقلية لا محالة، وهي مستندة إلى القضية العقلية الأولى، وهي الإيمان بالله وكمال صفاته، ومنها حكمته التي لزم منها أن لا يكون الامتحان في هذه الدنيا عبثاً، فلا بد بعد الامتحان من حساب وجزاء، في حياة غير هذه الحياة.

لكن الدار الآخرة وما فيها من جنة ونار قضية خبرية، تستند إلى ما اختاره الخالق، فوضعه في خطة الخلق، وجعل له زماناً يتم فيه تنفيذه. وهي ليست قضية عقلية بحتة، حتى نبحث في نطاق العقل عن دليل يدل عليها، دون الاستناد إلى خبر عن الله صاحب الخطة.

لو أن عالماً من علماء الحيوان تحدث عن وجود حيوان بري غريب رآه بعينيه، وأخذ يصف مشاهداته الحسية له، ثمّ جاء سماك فقال:

ص: 495

لا أجد المبرر العقلي لوجود هذا الحيوان الغريب الذي يتحدث عنه هذا العالم، فأنا لم أشاهد في البحر نظيره، لما كان كلامه أكثر سقوطاً من ناحية الاستدلال العلمي من كلام "برتراند رسل"، إذ أنكر وجود الحياة بعد الموت في ظروف غير ظروف هذه الحياة الدنيا، على الرغم من أن هذا الرجل فيلسوف وعالم واسع الاطلاع، إلا أن الهوى قد يحوّل العقل الفيلسوف الكبير، إلى عقل هذا السماك.

وأضرب مثلاً آخر يشابه إنكار "رسل".

لو أن شركة "مرسيدس" الألمانية، وضعت في خطتها أن تنتج سيارة بعد ربع قرن، ذات صفات معينة حددتها، ورسمتها، وقدمت فيها لعملائها بعض مصوراتها، وذكرت لهم قرارها في ذلك، وقدمت لهم عروض مبيعات رخيصة الثمن على طريقة السلف، أو السلم.

ثمّ جاء حوذي عربة نقل تجرها البغال في الأدغال، فقال: لا أجد المبرر العقلي لإمكان وجود هذا النوع من السيارات التي قررت إنتاجها شركة "مرسديس" التي لا أعرفها ولا أؤمن بوجودها.

ألا يوجد تطابق كبير بين حال هذا الحوذي في إنكاره، وحال "رسل" الفيلسوف الكبير؟.

فاعجب للهوى كيف يسقط صاحبه!!

لقد أراد "رسل" أن يخضع الدار الآخرة، والحياة الأخرى، للمقاييس التجريبية التي نخضع لها ظواهر هذا الكون المادّية، في ظروف الحياة الدنيا التي نعيش الآن فيها، مع أن الدار الآخرة، والحياة الأخرى، لا تخضعان منذ الآن لهذه المقاييس، وهما عنا وراء ستار الغيب الذي أخبر عنه خالقه وواضع خطته القدير العليم الحكيم.

إن "رسل" بقياسه هذا يشبه من يزن الضغط الجوي بميزان البقال، أو يزن الكثافة بميزان الحرارة، أو يقيس الذكاء بمساحة الجمجمة، أو يزن بحور الشعر بالسانتمتر.

ص: 496

ما هو مبلغ إنكار أي فيلسوف من الصحة، إذا هو أنكر قراراً أصدرته دولة كبيرة قادرة، بأنها ستنشئ في برنامج خطتها لربع قرن، مدينة نموذجية بديعة جداً، ولا تسكن فيها إلا الصالحين من شعبها، وسجوناً لمعاقبة الجانحين والخارجين على قوانينها وأنظمتها؟!

فإذا قال فيلسوف كبير: لا أجد مبرراً عقلياً أو علمياً يؤكد أن مَنْشَأَتين من هذا القبيل ستحدثان، أفيكون كلامه مقبولاً لدى العقلاء الذين علموا بقرار الدولة؟.

كان الأحرى به أن يبني إنكاره لقضية الحياة بعد الموت، والدار الآخرة، على إنكاره لخالق الكون، وذلك لأنه بجحوده للأساس الأول لزمه أن يجحد كل ما يلزم عنه، وعندئذٍ تكون مناقشته من مواقع هذا الأساس، لا مما يتفرع عنه ويُبنى عليه.

إن من يعتبر أن أساس الوجود مادة لا حياة فيها، ولا علم ولا إرادة ولا حكمة، لا بد أن يتصور أن الكون لا يمكن أن يهتم بآماله ورغباته وآلامه وسائر مشاعره، فيقول مقالة "رسل":

"لا أجد أي مبرر لافتراض أن الكون يهتم بآمالنا ورغباتنا، فليس لنا حق في أن نطلب من الكون تكييف نفسه وفقاً فعواطفنا وآمالنا".

لكننا إذا تعمّقنا في دراسة نفوس الملاحدة، الذين أنكروا وجود الله جحوداً، بعد النظر في الأدلة على وجوده، نجد أنهم هم الذين يريدون أن يكيّفوا الكون وفق رغباتهم وأهوائهم، وذلك لأن الإيمان بالدار الآخرة والحياة الآخرة، إنما هو إيمان بمحكمة العدل الرباني، وما تستتبع من جزاء، والرغبات الإنسانية لو تركت وشأنها لحلا لها أن تتخلص من قانون الجزاء لكي تنطلق في فجورها دون أن تقف في طريقها حدود أو ضوابط.

فقضية الإنكار هي القضية التي تحاول إخضاع الواقع الكوني للأهواء والعواطف والرغبات والشهوات، لا قضية الإيمان باليوم الآخر.

وقد كشف القرآن هذه الحقيقة من حقائق نفوس المنكرين، فقال الله

ص: 497

عزّ وجلّ في سورة (القيامة/75 مصحف/31 نزول) :

{بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ}

بهذا التحليل تبين لنا أن الأمر على عكس ما ادّعاه "رسل" تماماً، إذ أن عقيدة الدار الآخرة عقيدة قائمة على مفهوم الجزاء والعدل، والإنسان ميال بأهوائه وشهواته إلى أن يصرف عن تصوره قانون العدل الرباني وما يتصل به، لينطلق في حياته فاجراً، دون أن تقف في طريقه تصوّرات قانون العدل.

لكن الله غر مستعد لأن يغير من سننه وأحكامه ومقاديره القائمة على أسس من علمه وحكمته وعدله ورحمته وفضله، تلبيةً لرغبات الفاجرين.

فما حاول أن يستند إليه "رسل" هو في الحقيقة دليل ضدّه، وليس دليلاً له، هذا إذا قبلنا بالمنهج الذي سلكه في الاستدلال.

الكاشف السابع: ما صبّه "رسل" من شتائم ضد الدين ، إذ زعم أن الدين لا يقوم إلا على عوامل الترهيب والتلويح بالعقاب، كلام كذب على الدين.

وذلك لأن الدين يقوم على ثلاثة عناصر أساسية:

الأول: الهداية الفكرية للتي هي أقوم، وهي تشتمل على وسائل الإقناع، والتعليم، والتربية المختلفة، وإيجاد الحافز الذاتي للفعل حباً بالخير، وابتغاء مرضاة الله.

الثاني: الترغيب بالثواب العظيم، لمن آمن واستقام، وبهذا الترغيب يمارس المؤمن الاستقامة وفعل الخير والأعمال الصالحة، مدفوعاً بحافز الأمل الكبير فيما أعد الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات، من أجر عظيم، وثواب جزيل، في جنة الخلد، دار النعيم المقيم الذي لا نهاية له.

الثالث: الترهيب من العقاب بالعدل، الذي رتبه الله للذين كفروا ويعملون السيئات.

ص: 498

وقد أعتد الله لهذا العقاب بالعدل، داراً للجزاء الأكبر، بعد ظروف هذه الحياة الدنيا.

وهذا الترهيب نفسُه مقرون بالترغيب في التوبة، والعفو، والغفران، وتكفير السيئات لمن تاب واستغفر، ما دامت ظروف الامتحان قائمة في هذه الحياة الدنيا.

وباستطاعة أي إنسان أن يستدرك أمره، فيتوب من ذنبه، ويستغفر الدين، على خلاف ما زعم "رسل".

أما وجود الجانب الترهيبي فهو ضرورة، لا تستقيم المجتمعات البشرية، ولا تتحقق، إلا به.

فهل صحيح كما زعم "رسل" أن الدين لا يقوم إلا على عوامل الترهيب والتلويح بالعقاب؟

وهل صحيح أن الدين يشكل ضرباً من ضروب الشر التي تملأ هذا العالم؟.

الواقع أن أعظم قسط من الشر في العالم، هو ما يمارسه الملاحدة الماديون الذين لا دين لهم. ومها اقترب الإنسان من الاستمساك بالعقائد والشرائع الدينية الصحيحة خفت الشرور عنده.

وأقل الناس في الدنيا شراً، وأكثرهم خيراً هم المؤمنون بالله واليوم الآخر، الملتزمون تعاليم الدين الحق، وهم يرجون ثواب الله ويخشون عقابه.

وقد عرفنا في تاريخ البشرية أن المحرومين من فضائل الأخلاق هم الذين ينفرون من الدين، لأنه يفرض عليهم الأخذ بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وكلما اشتد في الإنسان الانهيار الخلقي ابتعد عن الدين

ص: 499

حتى دركة الإلحاد والكفر بالله واليوم الآخر.

وبرهان ذلك الملاحدة الشيوعيون، من مستوى الفرد الشيوعي، حتى أكبر دولة شيوعية ملحدة، وكذلك سائر الماديين الملحدين.

أما النضج العقلي الصحيح فمن ثمراته الإيمان بالحق، ولما كان الدين الصحيح هو مجمع عناصر الحق الكبرى، التي تكشف مبدأ الإنسان وواجبه ومصيره، كان نوابغ الدهر المتمتعون بالنضج العقلي الصحيح، قمة الآخذين بالدين، والمستمسكين بتعاليمه، والداعين إليه.

وأما زعم "رسل": "أن المعايير الدينية تناهض بطبيعتها جميع المعايير الإنسانية الخيرة التي يجب أن تسود عالمنا الحديث".

فلست أدري عن أي معايير يتحدث، إنه لم يذكر لنا معياراً واحداً من معايير الدين التي يرى أنها تناهض جميع المعايير الإنسانية الخيرة، التي يجب - فيما يرى - أن تسود عالمنا الحديث؟!.

إن من أسس معايير الدين التي نعلمها، وجوب إحقاق الحق وإبطال الباطل، ووجوب إقامة العدل في الأرض، ووجوب الدعوة إلى فعل الخير وترك الشر. ونجد من أسس معايير الدين تكريم الإنسان، ونشر الإحسان في الأرض، ونجد فضائل التعاون والتآخي والنظام وإتقان العمل، ونجد محاربة الفحشاء والمنكر والبغي، ومقاومة الرذائل، لأن من شأنها جلب الشرور للإنسانية. ونجد من أسس معايير الدين العمل على إسعاد البشرية ورفاهيتها، وإزالة العداوات والبغضاء التي تولّدها أنانيات أفراداها وجماعاتها، إلى غير ذلك من معايير لا تجد البشرية أكمل منها ولا أفضل

فعن أي المعايير الدينية يتحدث، حتى نناقشه في ادّعائه بأنها تناهض جميع المعايير الإنسانية الخيرة؟!.

أهكذا تُطلَق الشتائم دون أي دليل، ودون ذكر أي مثال واحد للمدعي؟

ص: 500

ومع ذلك فإن أحكام "رسل" تأتي أحكاماً تقريرية لها صفة الشمول والعموم.

أهذا هو المنهج العلمي الرصين للفيلسوف الكبير؟!.

واعجباً!!

منطق الملحدينْ * * * منطقٌ مبتكر

من عُواءِ الكلابْ * * * أو قرون البقرْ

فاسخري يا عقولْ * * * واهزؤوا يا بَشَرْ

الكاشف الثامن: زعم "رسل" أن حرية الاختيار في الإنسان تغنيه عن البحث عن نظريات أخلاقية لا طائل وراءها، مدّعياً أن إرادته الحرة تدفعه إلى أن يقيم لنفسه مُثلاً عليا، يطمح بها إلى تحقيق حياة خيّرة تسير على هدي المعرفة والمحبة الإنسانية.

هذه الدعوى الباطلة التي قدّمها دون أي دليل، منقوضة ببرهان التحليل النفسي، وبرهان الواقع.

أما التحليل النفسي فيثبت أن الإرادة الحرة في الإنسان قوة موجهة للسلوك الإنساني حقاً، إلا أنها تقع تحت تأثير باعثين داخل نفسه: فتقع تحت تأثير العقل الهادي إلى الخير أحياناً، وتقع تحت تأثير الأهواء والشهوات والنزعات النفسية المختلفة أحياناً أخرى، وعندئذ يضعف باعث العقل أو يُغشى عليه، فتفسد رؤيته.

فو ترك الإنسان وشأنه دون ضوابط أو روادع أخلاقية تحدّ سلوكه في طرق الخير والفضيلة وكل ما هو نافع ومفيد، لكانت إرادته الحرة عرضة لمؤثرات أهوائه وشهواته وأنانياته ونزغاته الجاحنة إلى سُبل الشرّ، بنسبة أعظم بكثير من تأثرها بالمعرفة النافعة والمحبة الإنسانية.

وما من إنسان إلا يعرف هذا من نفسه، ومن كل من عرف من الناس.

وأما برهان الواقع فيقدمه واقع حال الظالمين والطغاة والبغاة

ص: 501

والمجرمين وكل العصاة في الأرض. وهؤلاء هم النسبة الأكثر في مجموعات الذين لا يخشون الله واليوم الآخر، ولا تحد من انطلاق إرادتهم الحرة ضوابط أخلاقية مقرونة برجاء ثواب، أو خوف عقاب.

الكاشف التاسع: السلوك الأفضل الذي رآه "رسل" هو الإباحية الجنسية، وصور الزواج الجماعي.

ولذلك اعتبر أن التشريعات الأخلاقية الجنسية إنما ترتكز على تصورات خرافية باطلة.

إنه يدعو إلى هذه الإباحية الفوضوية، رغم ما فيها من شرور صحية واجتماعية، وانتكاس للمجتمع البشري، ومنافاة للشروط السليمة التي تضمن سعادة الجنس البشري واستقراره وطمأنينته، وسعادة الأسر والأنسال.

على أننا نقول: إن من هان عليه أن يجحد الحقائق الكبرى، التي تتصل بمبدأ الإنسان وواجبه ومصيره، لا بد أن يجد الإباحية الجنسية أمراً سهلاً، فقد أبعد عن تصوّراته وظيفته في الحياة، وأنه عبد مخلوق ممتحن، وأن عليه إذا أراد أن يجتاز الامتحان بنجاح أن يؤمن بربّه أولاً، ثمّ يعبده ثانياً، فيطيعه ولا يعصيه، والطاعة تكون بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه.

ويلاحظ هنا أن المكر الشيطاني يعتمد على تزيين ما تستحليه النفوس، ودغدغة مواطن الشهوات، لإيقاظها وتهييجها، وتبرير انطلاقها الوقح الفاجر، وإغضاء النظر عن العواقب الوخيمة التي تنتج عن ذلك.

الكاشف العاشر: اعترف "رسل" بأن السعادة هي المطلب الأسمى للإنسان في هذا الوجود.

إلا أنه أراد أن يضلل قراءه، إذ حاول الإيهام بأن السبيل الوحيد للوصول إلى السعادة هو الانطلاق الفاجر الوقح إلى تلبية رغبات النفوس وأهوائها وشهواتها، دون اكتراث بعوامل الخوف من الجزاء.

وجعل هذا الانطلاق الفاجر الوقح من فضائل الشجاعة والإقدام،

ص: 502

وزعم أن الإنسان يقهر بهذه الشجاعة وعوامل الخوف والإرهاب، اللذين دأبت الحياة والشرائع الأخلاقية على التلويح بهما في وجه الإنسان.

ولكن ماذا سيحصل لو أن الإنسان خلع حياءه، ولم يبق لديه خوف من الجزاء، وانطلق في الحياة انطلاقاً فاجراً، تدفعه إليه أهواؤه وشهواته وأنانياته؟

إنه حتماً سيكون وحش مسعور، وبانطلاق الوحوش المسعورة من كل مكان يعم الظلم والطغيان، والفسق والفجور والعصيان، ويكثر القتل، وتنهار أبنية الحضارة.

أليس هذا هو حال المجرمين في الأرض وقطاع الطرق؟

نعم: هذه هي النتيجة التي يريدها هذا الفيلسوف وأمثاله، ومنظمات التدمير البشري التي دفعته لإطلاق قنابل التدمير الإلحادية، والإباحية غير الأخلاقية.

الكاشف الحادي عشر: من الخرافات التي تلبس ثوب العلم، خرافة دراسة الإنسان ذي العقل والإرادة الحرة، ذات الاختيارات المتناقضة في الأفراد، وفي الفرد الواحد بأزمان مختلفة، كدراسة الأشياء غير ذات الإرادات الحرة، والمسيرة بطبائعها الجبرية.

وعلى هذه الخرافة قامت أبنية الفكر الإلحادي، والفكر المادي بوجه عام.

واعتماد عليها قال "رسل":

"إن تحقيق السعادة على وجهها الأكمل للإنسان لا تتم إلا بدراسة الطبيعة، حتى في صورته الإنسانية دراسة علمية".

أي: كما تدرس في المعامل الأشياء في الطبيعة، كسلوك الذرة،

ص: 503

وسلوك الخلية، وكما يدرس النبات، وتدرس الحشرات، والأسماك والضفادع، وغير ذلك من الكائنات في الطبيعة.

هذا التوجيه الخرافي يدعو إلى إطلاق السلوك الإنساني دون أي ضابط، ثمّ إلى دراسته كما هو في الواقع، واعتبار هذا الواقع هو الصورة الكاملة الصحيحة لسلوك الناس، وبه تتحقق سعادة الإنسان، أي: ولو استشرت قوة الأقوياء، وأهلكت معظم البشرية، وظلمتهم وعذبتهم واستعبدتهم.

الكاشف الثاني عشر: كلام "رسل" عن تطور الكون من السديم الذي دار عبثاً، حتى وصل إلى ما هو عليه الآن من إتقان عجيب عن طريق المصادفة، وأنه سيعود إلى ما كان عليه عند انطلاقته الأولى، وأنه لا أمل لكائن بعد ذلك بشيء، كلام خيالي صرف، وهو لا يعبّر بحال من الأحوال عن أية حقيقة علمية.

إنه محض تخيل يجري نظيره في خيال أي كاتب لقصة خرافية.

إن مدعي الالتزام بالمناهج العلمية يزعمون أن العلم هو ما تقدمه التجربة، ويخضع للاختبار المعملي، حتى إن "رسل" قد حصر العلم - كما سبق بيانه - في العلوم الطبيعية وحدها، فما باله هنا يتجاوز حدود العلوم الطبيعية والمعارف العقلية إلى الخيال المحض، ثمّ يجعل من هذا الخيال حقيقة علمية.

وما بال الملاحدة يعتبرون مثل هذه القصة الخيالية التي تتحدّث عن الكون من الأزل إلى الأبد، هي النظرة العلمية، مع أن موضوعها لا يمكن إخضاعه لا للتجربة، ولا للملاحظة، ولا للاستنتاج العقلي.

إنهم يجعلون الاستنتاج العقلي المنطقي خارج قوس النظرة العلمية، لأن الاستنتاج العقلي المنطقي مهما كان دليله برهانياً، ليس ثمرة التجربة الحسية.

فلماذا إذن يجعلون الأوهام الخيالية الخرافية داخل قوس النظرة العلمية، وهي غير ذات قيمة مطلقاً، لا عند العقل ولا عند الحس، إنه

ص: 504

الهوى والتَعَصُّب الأعمى ضدّ قضيّة الإيمان بالله الخالق؟

ما أبعد المناهج العلمية عن القصص التقريرية الخيالية، التي تستنتجها أخيلة الكتاب والأدباء والشعراء، أو أخيلة واضعي الآراء والمذاهب الباطلة، لأغراض معينة!!

أين الأمانة الفكرية والأمانة العلمية التي يزعمونها؟!.

أهذا هو المنهج العلمي السليم لديهم؟!.

لا بد أن يكتسحهم الحق كما اكتسح الذين من قبلهم من أهل الضلال في تاريخ البشرية، ولا بد أن يقذفهم كما يقذف السيل الزبد.

{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ

*} .

{وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} .

* * *

ص: 505