الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصْل الأوّل
مُنَاخ نَشأةِ المذَاهِب الفِكرية المعَاصِرَة في أوربَّا
باستطاعة الباحث أن يكتشف أهم العوامل التي هيأت المناخ المناسب لانتشار المذاهب الفكرية المعاصرة في أوروبا.
ويمكن إيجازها بالعوامل التالية:
العامل الأول:
التحريف في أسس الدين الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام، عقيدة وشريعة.
أ - فالإيمان بالله الواحد خالق الكون، وبأن عيسى عبد الله ورسوله، قد صار في عقيدة النصارى إيماناً بإله مثلث يتجسد، أو يحل بالإنسان، وهو ثلاثة أقانيم (الآب والابن والروح القدس) .
ب - والعبادات قد دخلت فيها أوضاع بشرية كنسية مبتدعة، وهذه المبتدعات حملها النصارى مفاهيم غيبية، وفسروها بأن لها أسراراً مقدسة، وجعلوا لها طقوسا تمارس في مناسباتها، ويجب احترامها.
جـ - والأحكام التشريعية معظمها أوامر وقرارات كنسية بابوية، ما أنزل الله بها من سلطان، وهي تحلِّل وتُحرم من غير أن يكون لها مستند من كتاب الله أو بيانات الرسول عليه السلام.
فدين من هذا القبيل مقطوع الصلة بالحق وبما أنزل الله من الحق، غير مؤهل لأن يكون له سلطان على العقول والنفوس في عصور التنور
الفكري، والتقدم الحضاري، وانتشار العلوم والمعارف المستندة إلى أدلة إثبات عقلية أو حسية تجريبية.
العامل الثاني:
الفتح الإسلامي الذي أيقظ العالم الغربي من سباته، ثمّ الفكر الإسلامي الذي امتد فأثار الإعجاب بمناهجه العقلية والعلمية القائمة على الحق، وعلى الأدلة البرهانية في القضايا النظرية، حتى في المسائل الدينية الكبرى، فضلاً عن القضايا الكونية القائمة على البحث والملاحظة والتجربة، للاستفادة مما سخر الله للناس في الكون، والتعرف على سنن الله فيه، واكتشاف القوانين الثابتة التي طبع الله كونه عليها.
العامل الثالث:
طغيان رجال الكنيسة، وفساد أحوالهم، واستغلال السلطة الدينية لتحقيق أهوائهم وإرضاء شهواتهم تحت قناع القداسة التي يضفونها على أنفسهم، ويهيمنون بها على الجماهير الأمية الساذجة. ثمّ اضطهادهم الشنيع المريع لكل من يخالف أوامرهم السنية، أو يخالف التعليمات الكنسية المرعية المبتدعة في الدين، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، حتى ولو كانت أموراً تتصل بحقائق كونية تثبتها التجارب والمشاهدات العلمية المادية.
العامل الرابع:
الاتجاه الجاد في أوروبا والغرب عامة، للأخذ بأسباب التقدم الحضاري العلمي والمادي. ولما اصطدم هذا الاتجاه بجمود الكنيسة ومقاومتها للعلماء، حاول رويداً رويداً، فكرياً ثمّ عملياً، أن يعزل الكنيسة عن شؤون السياسة، الذي صادف هوى ملوك الغرب وزعمائه السياسيين الذين لا دين لهم، ثمّ عن شؤون الحياة ووسائل العيش وأساليب السلوك العام، الذي صادف هوى الشباب والشابات، بعد تغذيتهم بنزعة الحرية العمياء، كما صادف هوى كل الذين يصانعون الدين مصانعة وهم لا يؤمنون به.
وبهذا العزل ينحصر سلطان الكنيسة في شؤون الدين الغيبية والروحية، وفي مراسيمه وطقوسه الخاصة.
* * *
(1)
تفصيل العامل الأول بإيجاز
وهو تحريف الدين عقيدة وشريعة، وتحوله إلى أوضاع بشرية مشحونة بالخرافات.
استقرت العقيدة النصرانية الرسمية المؤيدة من الكنائس الغربية والشرقية، على فكرة التثليث التي عملت دسائس اليهود منذ القرن الأول الميلادي على إدخالها في المسيحية.
كما استقرت على تحريفات أخرى دخلت في أحكامها وتطبيقاتها بعوامل شتى، منها ما كان مكراً مقصوداً من أعداء المسيحية الذين دخلوا فيها نفاقاً، ليفسدوها من داخلها، ومنها ما كان من المسيحيين أنفسهم، ومن رجال الكهنوت فيهم، استجابة لأهوائهم وشهواتهم ومصالحهم ومنافعهم الدنيوية الخاصة، أو استجابة لضغوط ذوي السلطان والجاه، من ملوكهم وزعمائهم وأغنيائهم وقادتهم العسكريين.
وفيما يلي لمحة عن تاريخ التحريف الذي دخل في المسيحية، فأفسد أصولها الربانية التي أنزلها الله عز وجل على عيسى عليه السلام.
1 -
دسائس "بولس":
من الذين احتلوا مركزاً مهماً من مراكز الصدارة في الديانة النصرانية رجل اسمه "بولس".
وبولس هذا قصته في النصرانية قصة عجيبة غريبة، إنه صاحب الشأن الخطير في تحريف الديانة النصرانية عن أصولها الربانية الصحيحة التي أنزلها الله على عيسى عليه السلام.
كان هذا الرجل يهودياً طرطوسياً من الفريسيين، وكان اسمه "شاوُل" وهو لم يرَ عيسى عليه السلام، ولا سمعه يدعو الناس ويبشر بدين الله، مع أنه قد أدرك زمانه.
وكان في أول عهده من كبار أعداء النصارى الذين آمنوا بعيسى وصدقوه واتبعوه، حتى كان ممن أنزل بهم ألواناً من الاضطهاد والقتل والتعذيب.
وبعد أن رفع الله عيسى عليه السلام إليه بمدة من الزمن أعلن "بولس = شاوُل" هذا بشكل مفاجئ دخوله في النصرانية، وأحاط دخوله فيها بادعاءات غريبة جرت له، ومشاهدات روحية خاصة ادعى فيها أن يسوع بنوره الباهر هبط عليه عندما كان قادماً من دمشق وقريباً منها. وقال له: لماذا تضطهدني؟ . فقال "بولس = شاول" وهو مرتعد ومتحير: يا رب ماذا تريد أن أفعل؟ فقال له: " قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل "وبعد أن قاده رفاقه إلى دمشق، واستقر فيها، أتاه حنانيّاً، وكان هذا رجلاً مشهوداً له بالتقوى من جميع اليهود السكان كما يذكر "بولس" فأخبره بأن الله قد اختاره ليعلم الدين ويكرز بالمسيحية، أي: يعظ بها ويدعو إليها.
جاء في الإصحاح التاسع من أعمال الرسل ما يلي:
" (1) أما شاوُل فكان لم يزل ينفث تهدداً وقتلاً على تلاميذ الرب
…
"
" (3) وفي ذهابه حدث أن اقترب إلى دمشق، فبغتة أبرق حوله نور من السماء (4) فسقط على الأرض وسمع صوتاً قائلاً له: شاوُل شاوُل لماذا
تضطهدني؟ . (5) فقال: من أنت يا سيد؟ . فقال الرب: أنا يسوع الذي أنت تضطهده....
(6)
فقال وهو مرتعد ومتحير: يا رب ماذا تريد أن أفعل؟ . فقال له الرب: قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل
…
"
" (19)
…
وكان شاول مع التلاميذ الذين في دمشق أياماً (20) وللوقت جعل يكرز في المجاميع بالمسيح أن هذا هو ابن الله (21) فبهت جميع الذين كانوا يسمعون وقالوا: أليس هذا هو الذي أهلك في أورشليم الذين يدعون بهذا الاسم؟.
ويروي الإصحاح الثاني والعشرين من أعمال الرسل عن "بولس=شاول" أنه قال:
" (3) أنا رجل يهودي ولدت في طرسوس كيليكية، ولكن ربيت في هذه المدينة مؤدباً عن رجلي غمالائيل على تحقيق الناموس الأبوي. وكنت غيوراً لله كما أنتم جميعكم اليوم. (4) واضطهدت هذا الطريق حتى الموت، مقيداً ومسلماً إلى السجون رجالاً ونساءً. (5) كما يشهد لي أيضاً رئيس الكهنة وجميع المشيخة الذين إذ أخدت أيضاً منهم رسائل للإخوة إلى دمشق ذهبت لآتي بالذين هناك إلى أورشليم مقيدين لكي يعاقبوا. (6) فحدث لي وأنا ذاهب ومتقرب إلى دمشق أنه نحو نصف النهار بغتة أبرق حولي من السماء نور عظيم. (7) فسقطت على الأرض وسمعت صوتاً قائلاً لي: شاول شاول لماذا تضطهدني؟. (8) فأجبت من أنت يا سيد؟. فقال لي: أنا يسوع الناصري الذي أنت تضطهده. (9) والذين كانوا معي نظروا النور وارتعبوا ولكنهم لم يسمعوا صوت الذي كلمني. (10) فقلت: ماذا أفعل يا رب؟ . فقال لي الرب: قم واذهب إلى دمشق وهناك يقال لك عن جميع ما ترتب لك أن تفعل. (11) وإذ كنت لا أبصر من أجل بهاء ذلك النور اقتادني بيدي الذين كانوا معي فجئت إلى دمشق (12) ثمّ إن حنانياً رجلاً تقياً حسب الناموس ومشهوداً له من جميع اليهود السكان (13) أتى إلي ووقف وقال لي: أيها الأخ شاول أبصر. ففي تلك الساعة نظرت إليه (14) فقال: إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته وتبصر البار وتسمع صوتاً من
فمه. (15) لأنك ستكون شاهداً لجميع الناس بما رأيت وسمعت. (16) والآن لماذا تتوانى. قم واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب".
ومنذ ذلك الحين نشط بالدعوة إلى المسيحية معلناً أن عيسى هو ابن اله، حتى صار المعلم الأول في المسيحية، وداعيتها النشيط، وأخذ ينشر أنه يتلقى التعاليم المسيحية إلهاماً، ويستر بهذه الدعوى ما يعلمه الناس عنه من أنه لم يكن من تلاميذ المسيح، ولم يجتمع به، ولم يسمع منه، ويفتح لنفسه بهذه الدعوى الكاذبة مجال التلاعب بأصول الدين. والتحريف فيه وفق مخطط يهودي لكل ما ليس بيهودي، ولو كان منزلاً من عند الله.
وصار هذا الرجل اليهودي في تاريخ المسيحية أحد الرسل السبعين الذين نزل عليهم روح القدس في اعتقاد النصارى بعد رفع المسيح، وأُلهموا بالتبشير بالمسيحية، كما ألهموا مبادئها، ويسمي النصارى هؤلاء السبعين رسلاً، أي: رسلاً للتبشير بالمسيحية في الأقطار.
وتفاقم تأثير "بولس" حتى صار معلماً لـ"مرقس" أحد كتاب الأناجيل الأربعة، إذ لازمه ملازمة التلميذ لأستاذه، وصار معلماً لـ"لوقا" أحد كتاب الأناجيل الأربعة أيضاً، قالوا: وكان "لوقا" التلميذ الحبيب والرفيق الملازم لـ"بولس" وليس هو من أصل يهودي.
وفكرة أن عيسى "ابن الله" لم تكن قد عرفت من قبل "بولس". ولكن بعد أن دخل المسيحية منافقاً، وأحل نفسه منها في مركز المعلم الأول الذي يتلقى تعالمي الدين إلهاماً، أخذ يطوف في الأقاليم يبشر بالمسيحية الجديدة، ضمن خطة، فيها دهاء كبير، فيلقي الخطب، وينشيء الرسائل، حتى كانت رسائله هي الرسائل التعليمية، بما حوت من مبادئ اعتقادية وشرائع عملية.
قالوا: وقد قُتل في اضطهادات "نيرون" سنة (66 أو 67م) .
وبهذه الخطة الماكرة استطاع هذا الرجل أن يحرف في جوهر الديانة
المسيحية، دون أن يستطيع أحدٌ معارضته، لأنه زعم لهم أنه يتلقى التعاليم من المسيح تلقياً إلهامياً ورحياً، وصدقوه في ذلك، وأدخل في المسيحية ما أدخل، وحرف فيها ما حرف، وكاد دين الله أيما كيد.
2 -
نشأة الكاثوليكية:
بعد أن أدخل اليهودي "شاول=بولس" بمكره الخبيث على الديانة النصارنية فكرة تأليه عيسى عليه السلام وأنه ابن الله، لم يسيطر هذا التحريف على عقائد كل النصارى، بل اقتصر على طائفة قليلة منهم، أما الكثرة الكاثرة منهم فقد كانوا موحدين، يؤمنون بأن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم.
ولكن دعاة النصرانية بعد أن رفع الله عيسى إليه، لم يستطيعوا أن يجاهروا بدعوتهم، واقتصر عملهم على الدعوة السرية خوفاً من الدولة الرومانية الوثنية، التي خافت على سلطانها منهم فكانت في كثير من الأحيان تضطهد أتباع عيسى عليه السلام، وكل من ينتمي إلى المسيحية، ولجأ المسيحيون إلى بناء الأديرة والصوامع في الجبال والمواطن النائية، ليعبدوا فيها ربهم، وفق ما يفهمون من دنيهم، وحين يخف الضغط عليهم وتكف الدولة عن اضطهادهم ينشطون في بناء الكنائس في المدن.
وبسبب النشاط السري للدعوة على امتداد الإمبراطورية الرومانية لم يظهر للإنجيل الرباني الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام أثر مادي يوثق به، لقد فقد منذ العصور الأولى للديانة النصرانية، كما حقق ذلك العلماء الباحثون، ويجد القارئ في إنجيل "متى" وإنجيل "مرقس" وبعض رسائل "بولس=شاول" فقرات تشير إليه.
اضطهاد المسيحين:
مرت على المسيحيين أدوار من الاضطهاد الديني الذي كان يشتد ويخف من حين لآخر وذلك منذ رفع المسيح عيسى عليه السلام، حتى أوائل القرن الرابع الميلادي.
وبلغ الاضطهاد الروماني لهم ذروته في العهود التالية:
أولاً: في عهد الإمبراطور الروماني "نيرون" الذي اعتلى عرش الإمبراطورية من سنة (54) إلى سنة (68) ميلادية. ولقد لفق لهم تهمة حرق مدينة روما، فأنزل بهم أنواع العذاب، وتفنن في ذلك، وكان يحكم عليهم بالقتل الجماعي، ومنذ ذلك الحين بدأ اضطهاد الرومان للمسيحيين يأخذ طابع العنف الجماعي.
ثانياً: في عهد الإمبراطور "تراجان" الذي حكم من سنة (98) إلى سنة (117) ميلادية. وفي عهده كان المسيحيون يصلون في الخفاء هرباً من اضطهاده، وأمر هذا الحاكم بمنع الاجتماعات السرية، وأنزل بهم ألوان الذل والعذاب لذلك.
وكان بعض ولاة هذا الإمبراطور يحكم بعقوبة الإعدام على من تثبت عليه التهمة بأنه مسيحي.
ثالثاً: في عهد الإمبراطور "ديكيوس" الذي حكم من سنة (249) إلى سنة (251) ميلادية. وقد أصدر هذا الإمبراطور أمراً باضطهاد عام للمسيحيين.
رابعاً: في عهد الإمبراطور "دقلديانوس" الذي حكم من سنة (284) إلى سنة (305) ميلادية. فقد أمر هذا الإمبراطور بهدم كنائسهم في مصر، وإحراق كتبهم، وسجن أساقفتهم ورعاتهم، قالوا: وقد قتل منهم نحو ثلاثمائة ألف قبطي.
إن هذا الاضطهاد قد جعل المسيحيين في هذه الأحقاب يستخفون بدعوتهم، ويفقدون كثيراً من كتبهم، ويجعل ديانتهم عرضة للضياع والتحريف، لا سيما ما كان من قِبَلِ أعدائهم اليهود الذين كانوا يدخلون في المسيحية نفاقاً.
وبسبب الاستخفاء والسرية ودسائس المنافقين من يهود وغيرهم، وجهل كثير من المنتمين إلى المسيحية، انقسم المسيحيون إلى طوائف متعددة، وفرق متباينة في مذاهبها الاعتقادية. فمنهم الموحدون، ومنهم اعتقدوا ألوهية المسيح عيسى، وآخرون اعتقدوا أن المسيح ابن الله، ومنهم من لفق فكرة الأقانيم الثلاثة:"الأب والابن وروح القدس" وجعلها إلهاً واحداً. إلى غير ذلك من معتقدات. ولكن ظروف الاضطهاد الذي كان ينزل بهم جميعاً لم يسمح لطوائفهم بأن تتصارع فيما بينها تصارعاً سافراً.
قسطنطين الأول الأكبر واعتناقه المسيحية:
ثمّ جاء الإمبراطور الروماني "قسطنطين الأول الأكبر" الذي وصل إلى عرش الإمبراطورية على جسر من أشلاء النصارى الذين بذلوا دماءهم من أجل إيصاله إلى الحكم ليظفروا بعطفه على النصرانية متى صار إمبراطوراً، وقد حكم الإمبراطورية من سنة (306) إلى سنة (337) ميلادية، فبدا له بعد ست سنوات من حكمه، أي: في سنة (313م) أن يعتنق المسيحية، دون أن يبتعد كثيراً عن وثنية روما التي كانت دين أسلافه، وهي عقيدة وثنية قائمة على التثليث، وكان هذا ثمرة تأييد النصارى له.
فأصدر مرسوماً بذلك، ولبست الوثنية الرومانية منذ ذلك الحين ثوب المسيحية، وثم ثمّ عطف الإمبراطور على المسيحيين، وسمح لهم بإعلان طقوسهم وعباداتهم، وربما دفعه إلى ذلك أيضاً خوفه على عرش الإمبراطورية من أن يسقط في أيدي المسيحيين، الذين تكاثروا تكاثراً عظيماً في مختلف أنحاء الإمبراطورية الرومانية، رغم أنواع الاضطهاد الذي كان قد سُلّط عليهم فيما سبق.
ولما شعر المسيحيون بأنهم ملكوا حريتهم الدينية، وحرية التبشير بالمسيحية، ظهرت خلافات طوائفهم المختلفة، وبدأت الصراعات المذهبية تظهر بينهم، ولما رأى الإمبراطور "قسطنطين" طوائفهم المختلفة، وأخذت تظهر صراعاتهم المذهبية، أراد أن يتدخل في شؤون الكنيسة، ليعتمد مذهب إحدى الطوائف المتصارعة المختصمة فيما بينها، والتي يكفر بعضها
بعضاً، فدعا إلى مجمع كنسي عالمي، وهو ما يعرف باسم "مجمع مسكوني". فانعقد هذا المجمع المسكوني الأول بأمره في "نيقية" سنة (325) ميلادية فكان يُعرف هذا المجمع في التاريخ المسيحي بمجمع نيقية.
مجمع نيقية:
وفد إلى مجمع "نيقية" الذي دعا إليه "قسطنطين" من مختلف البلدان (2048) من البطارقة والأساقفة، ودار النقاش فيه حول شخص المسيح عيسى عليه السلام.
فطائفة تقول: إن المسيح عيسى عليه السلام رسول من عند الله كسائر الرسل، وهو ابن الإنسان، وعبد من عباد الله اصطفاه الله بالرسالة، وزعيم هذه الطائفة "أريوس". وقد انضم إلى رأيه ممن حضر المجمع أكثر من سبعمائة بطرق وأسقف.
وطائفة تقول: إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة من نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها، وزعيم هذه الطائفة "سابليوس".
وطائفة تقول: إن المسيح إله، وهم الملتزمون بأقوال "بولس=شاول" الذي سبق الحديث عنه.
إلى غير ذلك من مذاهب ولدها الغلو في عيسى عليه السلام، ولفقتها الأوهام المنبثقة من كون عيسى قد وُلد من أم فقط بلا أب على خلاف المعتاد، ومن تعليق صلبه مع أنه إله أو جزء من الإله أو ابن الله كما صوره لهم الغلو فيه. وهكذا الأوهام يجر بعضها بعضاً وتتولد الخرافات
الكثيرة، وتتراكب الأخطاء، والأغاليط، والعقائد الباطلة، والمفاهيم الفاسدة.
وسمع "قسطنطين" مقال كل طائفة، فعجب من هذا الخلاف، وأمرهم أن يتناظروا، وقد أخلى داراً للمناظرة.
ولما كان القائلون بألوهية المسيح وبفكرة التثليث ملتقين مع فكرة "قسطنطين" الوثنية السابقة، فقد صادف هواه، وربما كان للقائلين بالتثليث من أتباع "بولس=شاول" صاحب التحريف الأول في النصرانية، تأثير على الإمبراطور، فقد يكون بعضهم قد صار من المقربين إليه، ومن حاشيته ومستشاريه، فزين له اعتماد مذهب أهل التثليث.
فأحصى "قسطنطين" القائلين بالتثليث في هذا المجمع المسكوني الأول، فوجدهم (318) فجمعهم في مجلس خاص بهم، وجلس في وسطهم، وأخذ خاتمة وسيفه وقضيبه، فدفعها إليهم، وقال لهم:"قد سلطتكم على مملكتي، لتصنعوا ما ينبغي لكم أن تصنعوه، مما فيه قوام الدين ، وصلاح المؤمنين ".
فبارك هؤلاء الملك، وقلدوه سيفه، وقالوا له " أظهر دين النصرانية، وذب عنه".
وأمر "قسطنطين" بأن تكون هذه العقيدة هي الدين العام، ومن ثمّ ولدت "الكاثوليكية" ديناً رسمياً للدولة الرومانية، وترجمة هذه اللفظة "الدين العام".
وسلط الإمبراطور "قسطنطين" معتنقي هذا الدين على مخالفيهم، مع العلم بأن المخالفين كانوا هم الكثرة الكاثرة التي لم تتأثر بدسائس بولس، وأقر هؤلاء أربع مخطوطات هي التي تعرف بالأناجيل الأربعة، من ضمن نحو مئة مخطوطة أمر الإمبراطور بتحريقها، وهذه المخطوطات قد أحضرها إلى المجمع كبار البطارقة المدعوين إليه، باعتباره وثائق دينية تؤيد مذاهبهم.
أما الموحدون الذين يؤمنون بأن عيسى عبد الله ورسوله فقد انضموا إلى "أريوس" وأطلق عليهم اسم "أريوسيين" أو "أريسيين".
وظل أريوس مخالفاً معارضاً بعنف قرارات المجمع المسكوني القائلة بألوهية المسيح وبعقيدة التثليث، وبأن عيسى ابن الله، ومعلناً بشرية المسيح، وبأنه ابن الإنسان، ومجاهراً بأن الله واحد لا شريك له، وبأنه منزّه عن الحلول بأحد.
وصمود "أريوس" على العقيدة الصحيحة زعزع مركز الإمبراطور وأقلقه، ولذلك دعا إلى عقد المجمع المسكوني الثاني، واقتصر هذا المجلس على القائلين بالتثليث، ليناقشوا "أريوس".
إلا أن هذا المؤمن الموحد صمد صمود الأبطال، فحكموا عليه بالكفر والنفي، وأخذوا ينكلون بمن كان يقول بقوله، ويحرفون أناجيلهم وكنائسهم، حتى أرغموا الناس على التظاهر بقبول العقيدة الكاثوليكية.
آراء المؤرخين والمفكرين الغربيين فيما انتهت إليه النصرانية:
1-
يقول الأمريكي "درابر" كما جاء في كتاب "تاريخ الصراع بين الدين والعلم":
"دخلت الوثنية والشرك في النصرانية، بتأثير المنافقين الذين تقلدوا وظائف خطيرة، ومناصب عالية في الدولة الرومانية بتظاهرهم بالنصرانية، ولم يكونوا يحتفلون بأمر الدين، ولم يخلصوا له يوماً من الأيام، وكذلك كان قسطنطين، فقد قضى عمره في الظلم والفجور، ولم يتقيد بأوامر الكنيسة الدينية إلا قليلاً في آخر عمره سنة (337م) .
إن الجماعة النصرانية وإن كانت قد بلغت من القوة بحيث ولت قسطنطين الملك، ولكنها لم تتمكن من أن تقطع دابر الوثنية وتقتلع
جرثومتها، وكان نتيجة كفاحها أن اختلطت بمبادئها، ونشأ من ذلك دين جديد، تتجلى فيه النصرانية والوثنية سواء بسواء - هنالك يختلف الإسلام عن النصرانية، إذ قضى الإسلام على منافسته الوثنية قضاءً باتاً، ونشر عقائده خالصة بغير غبش.
وإن هذا الإمبراطور الذي كان عبداً للدنيا ولم تكن عقائده الدينية تساوي شيئاً، رأى لمصلحته الشخصية ولمصلحة الحزبين المتنافسين (النصراني والوثني) أن يوحدهما، ويؤلف بينهما، حتى إن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة، ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة، وسيخلص الدين النصراني في عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها ".
2-
ويقول "جرين برنتن" كما جاء في كتابه "أفكار ورجال": "إن المسيحية الظافرة في مجمع "نيقية" - وهي العقيدة الرسمية في أعظم إمبراطورية في العالم - مخالفة كل المخالفة لمسيحية المسيحيين في الجليل ".
* * *
(2)
تفصيل العامل الثاني بإيجاز
وهو تأثير الفتح الإسلامي، والفكر الإسلامي الذي انتشر معه، وامتد بعده.
لما ظهر الإسلام، واتفقت عقيدته وعقيدة الموحدين من النصارى الذين ليس لهم سلطان رسمي في كنائس الإمبراطورية الرومية، دخل معظم هؤلاء الموحدين ومعهم كثيرون من سائر الطوائف النصرانية في الإسلام، فكانوا من المؤمنين بخاتمة رسالات الله للناس، وبخاتمة رسل الله.
واستقرت العقيدة النصرانية الرسمية على الكاثوليكية، ثمّ ظهرت في
تاريخ المسيحية بعض الحركات الإصلاحية، التي لم تستطع تغيير جوهر التحريف الذي أمسى هو العقيدة المسيحية.
1-
ففي القرن الثامن الميلادي في "سبتمانيا" - وهي مقاطعة فرنسية قديمة في الجنوب الغربي لفرنسا على البحر الأبيض المتوسط - ظهرت حركة تدعو إلى إنكار الاعتراف أمام القسس، وأنه ليس للقسس حق في ذلك، وما على الإنسان إلا أن يضرع الله وحده في غفران ما ارتكب من إثم.
وظاهر أن هذه الحركة متأثرة بامتداد التعاليم الإسلامية، التي ليس فيها خرافة الاعتراف والغفران أمام أحد من الناس، لكن العصاة يتوبون إلى الله ويستغفرونه دون أن يكون بينهم وبينه وسطاء، وهو وحده الذي إن شاء غفر لهم.
2-
وفي القرنين الثامن والتاسع للميلاد ظهر مذهب نصراني يفرض تقديس الصور والتماثيل، حتى أصدر الإمبراطور الروماني "ليو" الثالث في سنة (726م) أمراً يحرم فيه تقديس الصور والتماثيل. وأصدر أمراً آخر في سنة (730م) يقرر فيه أن تقديس الصور والتماثيل وثنية.
وكذلك كان "قسطنطين" الخامس، و"ليو" الرابع.
ويرى بعض المؤرخين أن ظهور هذا المذهب قد كان بتأثير امتداد الفكر الإسلامي، ويقولون: إن "كلوديوس" أسقف "تورين" والذي عين أسقفاً سنة (828م) قد كان يحرق الصور والصلبان وينهى عن عبادتها في أسقفيته، ومن المؤكد أنه تأثر بالإسلام لأنه ولد وربي في الأندلس الإسلامية.
3-
وفي القرن السادس عشر الميلادي ظهرت "البروتستانتية" فرقة من فرق النصارى، إذ خرجت على الكنيسة الكاثوليكية، وأعطت الفرد حرية التقدير، وأبرزت مسؤولية الفرد تجاه الله وحده، وليس تجاه الكنيسة.
وزعيم الإصلاح "البروتستانتي" في المسيحية هو القسيس "مارتن لوثر" الذي عاش ما بين (1483 - 1546م) .
نال شهادة أستاذ في العلوم من جامعة "ايرفورت" سنة (1505م) وبدأ يدرس القانون. ثمّ تحول عنه ودخل ديراً للرهبان الأغسطينيين. ورسم قسيساً سنة (1507م) . ثمّ عين راعياً لكنيسة "فيتنبرج" بألمانيا. زار روما سنة (1510م) فساءه الانحلال الروحي المتفشي في الأوساط الكنسية العليا. فأخذ يفكر يخطط لإصلاح عقيدة الكنيسة وطرق العبادة فيها. وفي سنة (1517م) تحدى "تيتزل" الذي كان يبيع صكوك الغفران. واحتجاجاً على مفاسد رجال الكنيسة علق على أبواب كنيسة القلعة خمساً وتسعين قضيةً أثارت غضب السلطات الكنسية. فطلبوا منه سحب احتجاجاته فرفض، وأعلن مقاومته الصريحة لبعض العقائد المرعية. فأصدر البابا قراراً بحرمانه من غفران الكنيسة، فلما تلقاه "لوثر" أحرقه علانية.
فالمذهب "البوتستانتي" ثمرة حركة "مارتن لوثر" إلا أن هذا المذهب لم يصل إلى إصلاح أصل العقيدة التي دخل إليها التحريف، فلم يمس عقيدة التثليث، ولا عقيدة الصلب والفداء، ولا غير ذلك من تحريفات جوهرية في الدين.
4 -
وكان للفتح الإسلامي تأثير كبير في الفكر الأوروبي بوجه عام، إذ قامت الحضارة الرائعة الرائدة في العواصم الإسلامية، وكان للدولة الإسلامية في الأندلس مجد عظيم امتدت أنواره إلى أوروبا الغارقة في الظلمات.
لقد كان الفتح الإسلامي المجيد، وما جاء بعده من بناء حضاري
رائع بحسب زمنه، من أعظم الأسباب التي نبهت الشعوب الأوروبية إلى ضرورة الأخذ بالأسباب التي أخذ بها المسلمون.
وبالبحث وجد مفكروهم أن المسلمين اعتمدوا في بناء حضارتهم الرائدة على البحث العلمي الصحيح، والتجارب العملية، فبعثوا بعوثهم إلى عواصم العالم الإسلامي، بغية اقتباس العلم، ومعرفة ما لدى المسلمين من نهضة حضارية، ووجدت بعوثهم أن الدين الإسلامي قد دفع المسلمين من الأبواب العريضة لاقتباس المعارف، والكشف عن أسرار الكون، وأسباب الظواهر التي تجري فيه، ومعرفة القوانين التي فطر الله الأشياء وطبعها عليها، ليتمكنوا من استخدامها، والانتفاع منها في صنع الوسائل الحضارية.
وعادت هذه البعوث إلى بلادها تنادي بضرورة الأخذ بأسباب العلم والمعرفة، للوصول إلى مواقع القوة، وقيام النهضة الحضارية التي تحاكي ثمّ تسابق نهضة المسلمين، وتوقف انتشار الإسلام وامتداد الدولة الإسلامية الكبرى.
واستجاب بعض مفكريهم لهذه النداءات، وشجع بعض ملوكهم هذه النهضة الفكرية، وحاول هؤلاء فصل النهضة العلمية عن سلطان الأديرة والكنائس، واتجهوا لتأسيس جامعات علمية قائمة على غير هوى رجال الكهنوت المسيحي.
حتى شهدت أوربا الإمبراطور "فردريك" الثاني، الذي اعتلى عرش إيطاليا، وكان يلقب بأعجوبة الدنيا، يتمرد على سلطة البابا، ويفتح بلاطه لعلماء المسلمين ومفكريهم، ثمّ ذهب إعجابه بنهضة المسلمين
الفكرية والحضارية إلى إدخال تقاليدهم وعاداتهم في بلاطه.
وفي سنة (1224م) أسس جامعة "نابولي". وكانت هذه الجامعة تدرس فلسفة الفيلسوف العربي "ابن رشد" وفلسفة الفيلسوف اليوناني "أرسطو" المنقولة بأقلام المترجمين المسلمين، وكانت تعتمد على الدروس التي وضعها علماء من المسلمين مثل:"ابن سينا، والرازي، والفارابي" وغيرهم.
والإمبراطور "فردريك" هذا، هو الذي أدخل الأرقام العربية، وعلم الجبر إلى أوروبا.
وكانت جامعة "نابولي" وجامعة "ساليرنو" النافذتين اللتين انتقلت منهما النهضة الفكرية إلى جامعات "باريس" و"بولونيا" و"اكسفورد" ثمّ منها إلى جميع أنحاء أوربا.
ثمّ اتسع احتكاك الأوروبيين الثقافي بالمسلمين في الأندلس، وفي القاهرة، ودمشق، وبغداد، وسائر العواصم الإسلامية، والمدن الكبرى في العالم الإسلامي، عن طريق التجارات، والرحلات، والسفارات.
وزاد الاحتكاك توسعاً وعمقاً أيام الحروب الصليبية، التي دامت قرابة قرنين من الزمان.
وكان كل ذلك موقظاً لأوروبا من سباتها العميق التي كانت فيه.
وقام رسل النهضة الحديثة يحرضون على بناء الحضارة، ويعملون على بنائها، ووقف رجال الكنيسة في وجه هذه النهضة معارضين، واشتدت المعركة بين الفريقين، وسجل التاريخ أقبح صور التعنت الجاهل من قبل رجال الكنيسة ضد رواد العلم والحضارة.
لكن رجال الفكر والعلم في البلاد الأوروبية أخذوا ينهلون من مناهل علوم المسلمين، وصارت الجامعات تتنافس في اقتناء الكتب العربية، وكان
فريق من علماء الغرب يصرح بأن معرفة اللغة العربية ضرورية لمن يريد أن يحيط بحقائق العلم.
وأثارت اليغرة "بتراك" فقال لقومه " ماذا نقول؟ استطاع "ششرون" أن يكون خطيباً بعد "ديموستين" وصار "فيجرل" شاعراً بعد "هوميروس" وأنتم تتوهمون مع ذلك بأنه لن ينبغ أحد بعد العرب. نحن ضاهينا اليونان، حتى إننا سبقناهم في بعض الأحيان، وضاهينا وسبقنا بذلك جميع الأمم، وأنتم تقولون الآن: إننا لن نضاهي العرب!! ".
وثيقة تاريخية:
وثيقة حفظها التاريخ شاهداً على سبق المسلمين الحضاري العلمي للغرب، ورغبة الغرب في اقتباس العلم منهم، وهي رسالة من جورج الثاني ملك انكلترا والغال والسويد والنرويج إلى هشام الثالث الخليفة في الأندلس على المسلمين.
ونص الوثيقة كما يلي:
" من جورج الثاني ملك انكلترا والغال والسويد والنرويج إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام.
بعد التعظيم والتوقير فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل، لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يسودها الجهل من أركانها الأربعة، ولقد وضعنا ابنة
شقيقنا الأمير "دوبانت" على رأس بعثة من بنات أشراف انكلترا، لتتشرف بلثم أهداب العرش، والتماس العطف، لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وحماية الحاشية الكريمة، وحدبٍ من اللواتي ستوفرن على تعليمهن
…
ولقد أرفقت مع الأمير الصغيرة هدية متواضعة لمقامكم الجليل، أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص
…
من خادمكم المطيع جورج. م. أ
اعتراف عالم غربي معاصر:
جاء في كتاب "محاضرات في تاريخ العلوم" تأليف الدكتور "فؤاد سزكين" ما مضمونه: أن "شبرجس" أثبت بالأدلة أن الجامعات التي نشأت فجأة في أوروبا منذ القرن الثالث عشر الميلادي قد كانت كلها تقليداً مطلقاً للجامعات الإسلامية، وقد عقب بهذا التحقيق على ما جاء في كتاب لزميل له من العلماء الألمان المعاصرين، إذ زعم فيه أن نشأة هذه الجامعات في أوروبا قد كان ابتكاراً دون أي أثر خارجي، إذ لم يكن لها نماذج سابقة عند الإغريق القدماء، ولا عند الرومان ولا عند البيزنطيين.
* * *
(3)
تفصيل العامل الثالث بإيجاز
هو طغيان رجال الكنيسة وفساد أحوالهم، وجمودهم المتعنت، واضطهادهم لمخالفيهم.
جذر الطغيان:
وضع رجال الكهنوت المسيحي الأولون نظاماً هرمياً معقداً دقيقاً صارماً لسلطات رجال الكنيسة، وبهذا النظام الهرمي المعقد سيطر رجال الكنيسة على الكنائس المسيحية من القاعدة إلى القمة، وهيمنوا به على شعب الكنيسة، ثمّ كان لهم به نفوذ واسع في البلاط الإمبراطوري، وفي
مختلف أجهزة الحكم، بسبب دعمهم للطامعين بالسلطان، وإيصالهم إليه بسلطتهم الدينية على شع الكنيسة وتأييدهم لهم، حتى صارت البابوات يتوجون الملوك والأباطرة، ويملون إرادتهم في تأييد من يريدون تأييده من ذوي السلطان، وفي تعيين أنصارهم ومؤيديهم في أجهزة الحكم، ويستغلون خضوع رجال السلطة الإدارية لهم في تحقيق شهواتهم، ومنافعهم، ومصالحهم الدنيوية، وما تتجه له أهواؤهم.
هذا الوضع المغري بالاستبداد والتسلط، قد أعطى رجال الكنيسة قوة غير عادية، وهذه القوة المتفوقة تصاحبها عادة مشاعر الاستعلاء والاستغناء، ثمّ يتولد عن ذلك طغيان عنيف في التصرف، خاصة حينما يكون الخوف من حساب الله وعقابه منعدماً، بموجب الثغرات الكثيرات الموجودة في المفاهيم النصرانية التي يراها المعتقدون بها ديناً صحيحاً، وهي منسوبة إلى الدين زوراً وبهتاناً.
وهذا الطغيان قد كان له في أوساط رجال الكنيسة من قاعدتها العريضة حتى قمة هرمها حيث مركز البابوية، مظاهر كثيرة في مختلف المجالات، وفيما يلي تفصيل موجز لذلك:
تفصيل موجز لظواهر طغيان رجال الكنيسة:
كان لطغيان رجال الكنيسة عدة ظواهر شملت المجالات التالية: الطغيان الديني الذي جر إلى احتكار العلم واضطهاد مخالفي آرائهم من علماء الكون - الطغيان السياسي- التهالك على جمع المال - الإسراف والبذخ والانغماس في الشهوات والملذات - وفيما يلي تفصيل موجز لذلك.
* * *
الطغيان الديني:
تسلم رجال الكنيسة سلطة دينية عظيمة تكاد تكون سلطةً مطلقة، دون أن يكون لديهم دين صحيح ثابت بمصادر صحيحة، ذات نصوص قطعية النسبة إلى رسول الله عيسى عليه السلام، أو نصوص قطعية النسبة إلى
رسل الله من بني إسرائيل قبل عيسى عليه السلام.
فدفعهم هذا إلى اعتماد قرارات تصدرها المجامع الكنسية، في الأحكام الدينية المختلفة، سواء أكان ذلك في العقائد، أو في العبادات، أو في التشريعات، أسوة بما كان في المجمع المسكوني الأول، الذي قُررت فيه عقيدة التثليث، وأُقرت عقيدة الصلب والفداء.
ومع الرغبة بإنقاذ الدين من حالة الضياع والنسيان، اتلي مسَّت أحكامه وشرائعه، المنزلة على لسان عيسى وقبله، وجد رجال الكنيسة هذه السلطة المطلقة تحقق لهم ربوبية على شعب الكنيسة، وبها يصلون إلى ما يهوون ويشتهون.
ثمّ دفعهم هذا إلى اعتماد القرارات والأوامر التي يصدرها البابا وهو الرئيس الأعلى لكل رجال الدين المسيحي التابعين له والخاضعين لسلطته.
ومنح رجال الدين هؤلاء نفسهم العصمة عن الخطأ فيما يقررون من أحكام، فكانوا بذلك أرباباً من دون الله، يحللون ويحرمون لشعب الكنيسة بحسب آرائهم وأهوائهم وما يرون من مصالح لأنفسهم ولخدمة المسيحية المحرفة الأصول، دون أن يكون لأحد مهما كان عالماً بالدين أن يعترض على قرارات المجامع، أو قرارات البابا وأوامره ونواهيه.
أمثلة:
* لقد ورث بنو إسرائيل حكم الختان عن سيدنا إبراهيم عليه السلام، وظل الأمر كذلك لم ينسخ فيما أنزل الله على عيسى عليه السلام.
ثمّ ظهر في المسيحية نسخ حكم الختان بأحكام كنسية، ويظهر أن ذلك قد كان بتأثير عادة الرومانيين الذين كانوا لا يعرفون الختان في وثنيتهم، وبقبول رجال الكنيسة لهذه العادة والتساهل في أمرها استرضاءً للرومان، وتوفيقاً بين ما كان عندهم وبين المسيحية الجديدة، إذ صارت بأمر الإمبراطور "قسطنطين" هي الدين الرسمي للإمبراطورية.
* وكان الطلاق وتعدد الزوجات مأذوناً بهما منذ عهد إبراهيم عليه
السلام، ومن الأحكام الدينية الموروثة عند جميع بني إسرائيل، ولم يتغير حكمهما فيما أنزل الله على عيسى عليه السلام.
ثمّ ظهر في المسيحية بحكم كنسي بابوي تحريم تعدد الزوجات، ومنع الطلاق إلا في أحوال ضيقة جداً كثبوت الخيانة الزوجية.
* وكان حل أكل البهيمة من الأنعام مشروطاً بأن تكون مذبوحة وفق الذكاة الشرعية المعروفة في الإسلام.
وظل الأمر كذلك في بني إسرائيل، ولم ينزل نسخ له فيما أنزل الله على عيسى عليه السلام.
ثمّ ظهرت في المسيحية إباحة أكل غير المذكاة ذكاة شرعية، وكان ذلك التغيير في الحكم استرضاءً للوثنية الرومانية التي كانت أحكامها تبيح أكل الميتة.
* وكان الزواج سنة من سنن الأنبياء والمرسلين، وظل الأمر كذلك لم ينسخ فيما أنزل الله على عيسى عليه السلام في حق أي أحدٍ يملك الحاجة ولديه الباءة.
ثمّ ابتدع رجال الكنيسة الرهبانية فما رعوها حق رعايتها، ثمّ فرضتها بعض طوائفهم على الذين ينتظمون في السلك الكنسي، وكان ذلك حكماً بشرياً مخالفاً لشريعة الله، ومنافياً للفطرة التي فطر الله الناس عليها، ونجم عنه فساد عريض وفسق كبير لدى هؤلاء المحرومين من الزواج بموجب أحكام الدين الذي ابتدعه رجال الكنيسة.
* وكان الصوم عبادة مماثلة لما شرع الله في الإسلام، فغيرة رجال الكنيسة المسيحية من صوم دائر على فصول السنة وفق الشهر القمري، إلى صوم ثابت في شهر شتائي وفق حساب الأشهر الشمسية. ومن صوم عن الطعام والشراب كله إلى صوم عن بعض أنواع الأطعمة، وزادوا في عدد أيام الصيام بأحكام من عندهم.
* وابتدعوا عبادة عيسى، وعبادة الصليب، وعبادة التماثيل، وأشكالاً وطقوساً ما أنزل الله بها من سلطان.
* ومنحوا أنفسهم حق الغفران للمذنبين وذوي الخطايا مهما عظمت، فرتبوا بناء على ذلك مراسيم الاعتراف والغفران، ووضعوا رسوماً مالية يدفعها المعترف للكنيسة حتى ينال الغفران عن خطاياه، وجر ذلك لابتزاز أموال الناس، وجرأهم على ارتكاب الخطايا ما دام الغفران مضموناً مقابل أجر معلوم.
ثمّ أعطو أنفسهم سلطة بيع الصكوك التي تخول مالكيها دخول الجنة بغير حساب، مهما عظمت خطاياهم السابقة واللاحقة.
* ومنحوا أنفسهم حق الحرمان من الدين، ومنحوا رجل الكنيسة حق التحلة من أحكام الدين بحسب أهوائهم.
إلى غير ذلك من أمور عجيبة غريبة، آخرها حق تغيير الحقائق التاريخية، إذ أصدرت بابوية روما في عصرنا هذا قراراً يتضمن تبرئة اليهود المعاصرين لعيسى عليه السلام من التآمر على قتله، لدى السلطان الروماني الذي استجاب لهم، وأمر بالتنفيذ، لكن الله أنقذه منه، إذ أوقع شبهه على من دل على مكانه من تلاميذه، وهو يهوذا الأسخريوطي.
* واشتدوا على مخالفيهم في الدين كله، أو في بعض المسائل المقررة فيه، أو في المفاهيم التي يصدرونها من عند أنفسهم بهوى منحرف، أو بفهم مخطئ.
وركب أدمغتهم ونفوسهم تعصب عنيف، ضد كل مخالفيهم، ولو كانوا مسيحيين يريدون تصحيح بعض المفاهيم والأخطاء والمفاسد التي فشت في الكنيسة.
فاضطهدوا مخالفيهم - ولو ظناً ولأدنى تهمة - بقسوة لم يعرف تاريخ البشرية أظلم ولا أبشع ولا أطغى منها، حتى كانت المثل الأكبر للهمجية والوحشية والموغلتين في التخلف الحضاري، والبعد عن كل معاني
الإنسانية، وعن الحيوانية المحكومة بنظام فطرتها التي لا غلو ولا شطط فيها.
فأقاموا بأنانية مفرطة، وتعصب صليبي مجنون، محاكم التفتيش في الأندلس، وأبادوا فيها المسلمين إبادة تامة، بأغرب ما يتخيل الفكر من قسوة ووحشية وفنون تعذيب، رغم العهود التي قطعوها للمسلمين، بإعطائهم كامل حرياتهم في الأندلس، حين تمكنوا عن طريق المنافقين والخائنين من الانتصار على المقاتلين من المسلمين فيها، وتمكنوا من احتلالها.
لقد كانوا يملؤون سجوناً غائرة في الأرض بالمعذبين، فيعذبونهم عذاباً نكراً، ثمّ يقفلون عليهم، ويسدون عليهم المنافذ، حتى يموتوا اختناقاً، ثمّ يجعلون هذه السجون مقبرة لسجنائهم المالئين لها.
ولم يكن رجال الكنيسة في معظم الدول المسيحية إلا صوراً مشابهة أو مقاربة لرجال الكنيسة في الأندلس، تعصباً وعنفاً وقسوة وهمجية، ضد كل من يشتبهون بأنه على خلاف رأيهم في أية مسألة يلصقونها بالدين.
وجر الطغيان الديني الذي وصل إليه رجال الكنيسة، إلى احتكار العلم، واضطهاد مخالفيهم من العلماء الباحثين في علوم الطبيعية بوسائلهم الإنسانية.
ولم يكن دفاعهم عن المسيحية دفاعاً عن دين حق ثابت بنصوص قطعية، ولا عن حقائق ثابتة في الدين بنصوص ربانية، أو نصوص ثابتة عن عيسى عليه السلام بطرق يقينية، وإنما كان دفاعاً عن آراء من وضع رجال الكنيسة السابقين، ألصقوها بالدين على شكل شروحات وتفسيرات، واستفادوها من آراء يونانية سالفة، أو أقوال شائعة على ألسنة الجماهير ليس لها سند علمي، ولا سند ديني.
وقد حلل العلامة الشيخ أبو الحسن الندوي هذه الظاهرة بدقة،
ووصفها وصفاً حسناً إذ قال:
" من أعظم أخطاء رجال الدين في أوروبا، ومن أكبر جنايتهم على أنفسهم، وعلى الدين الذي كانوا يمثلونه، أنهم دسوا في كتبهم الدينية المقدسة، معلومات بشرية، ومسلمات عصرية، عن التاريخ والجغرافيا والعلوم الطبيعية، ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر. ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني، وإذا كان ذلك في عصر من العصور غاية ما وصل إليه علم البشر، فإنه لا يؤمن عليه التحول والتعارض، فإن العلم الإنسان متدرج مترقٍ، فمن بنى عليه دينه فقد بنى قصراً على كثيب مهيل من الرمل.
ولعلهم فعلوا ذلك بنية حسنة، ولكنه كان أكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين، فإن ذلك كان سبباً للكفاح المشؤوم بين الدين والعلم، الذي انهزم فيه ذلك الدين - المختلط بعلم البشر الذي فيه الحق والباطل، والخالص والزائف - هزيمة منكرة، وسقط رجال الدين سقوطاً لم ينهضوا بعده، وشر من ذلك وأشأم أن أوروبا أصبحت لا دينية.
ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة، بل قدسوا كل ما تناقلته الألسن واشتهر بين الناس، وذكره بعض شراح التوراة والإنجيل ومفسريهما من معلومات جغرافية وتاريخية وطبيعية، وصبغوها صبغة دينية، وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها، ونبذ كل ما يعارضها، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف، وسموا هذه الجغرافية التي ما أنزل الله بها من سلطان الجغرافية المسيحية (Christian Topography) وعضوا عليها بالنواجذ، وكفروا كل من لم يَدِن بها ".
اضطهاد الكنيسة للعلم:
وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوروبا، وحطم
علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني، فزيفوا هذه النظريات الجغرافية التي اشتملت عليها هذه الكتب، وانتقدوها في صرامة وصراحة، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب، وأعلنوا اكتشافاتهم العلمية واختباراتهم.
فقامت قيامة الكنيسة، وقام رجالها المتصرفون بزمام الأمور في أوروبا، وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي، وأنشأوا محاكم التفتيش التي تعاقب - كما يقول البابا - أولئك الملحدين والزنادقة الذين هم منتشرون في المدن وفي البيوت والأسراب والغابات والمغارات والحقول.
فجدت واجتهدت وسهرت على عملها، واجتهدت أن لا تدع في العالم النصراني نابضاً ضد الكنيسة، وانبثت عيونها في طول البلاد وعرضها، وأحصت على الناس الأنفاس، وناقشت عليهم الخواطر، حتى يقول عالم نصراني:
" لا يمكن لرجل أن يكون مسيحياً ويموت حتف أنفه ".
ويقدر أن من عاقبت هذه المحاكم يبلغ عددهم ثلاثمائة ألف، أُحرق منهم اثنان وثلاثون ألفاً أحياء، كان منهم العالم الطبيعي المعروف "برونو" نقمت منه الكنيسة آراءً من أشدها قوله بتعدد العوالم، وحكمت عليه بالقتل، واقترحت بأن لا تراق قطرة من دمه ، وكان ذلك يعني أن تحرق حياً، وكذلك كان ". انتهى.
ويقول "برنتن":
" إن أكثر أصحاب الوظائف العلمية حتى في أوج العصور الوسطى كانوا ينتمون إلى نوع من أنواع المنظمات الدينية، وكانوا جزءاً من الكنيسة، حيث إن الكنيسة بدرجة لا نكاد نفهمها اليوم، تتدخل في كل لون من ألوان النشاط البشري وتوجهها، وبخاصة النشاط العقلي....
كان الرجال الذين يتلقون تعليمهم في الكنيسة يكادون يحتكرون الحياة العقلية، فكانت الكنيسة منصة المحاضرة والصحافة والنشر والمكتبة والمدرسة والكلية ".
أمثلة:
* كانت الكنيسة آخذةً بنظرية "بطليموس" التي تجعل الأرض مركز الكون، وتقول: إن الأجرام السماوية جميعها تدور حولها.
فجاء القسيس "كوبرنيق" بنظرية تقول بخلاف النظرية القديمة، التي جعلتها الكنيسة ضمن معارفها الدينية، وشرح نظريته في كتابه "حركات الأجرام السماوية".
وطبع كتابه هذا، فثارت ثورة الكنيسة ضده، وقبل أن يساق إلى محكمة التفتيش أدركته منيته، فحرمت الكنيسة هذا الكتاب، ومنعت تداوله، وقالت: إن ما فيه هو وساوس شيطانية مغايرة لروح الإنجيل.
* ثمّ ظهر "جيوردانو برونو" فنادى بنظرية "كوبرنيق" فقبضت عليه محكمة التفيش، وزجت به في السجن ست سنوات، فلما أصر على رأيه أحرقته سنة (1600م) كما سبق بيان ذلك.
* وبعد عدة سنوات ظهر "جاليلو" الذي توصل إلى صنع المنظارالفلكي "التلسكوب" فأيد بمشاهداته نظرية "كوبرنيق" وقال بدوران الأرض.
فسيق إلى محكمة التفتيش، وحكم عليه سبعة كرادلة بالسجن، وفرضوا عليه تلاوة مزامير الندم السبعة مرة كل أسبوع طوال ثلاث سنوات.
ولما خاف "جاليليو" من المصير الذي انتهى إليه "برونو" أعلن توبته، ورجوعه عن رأيه، وركع أمام رئيس المحكمة قائلاً:
" أنا جاليليو وقد بلغت السبعين من عمري سجين راكع أمام فخامتك، والكتاب المقدس أمامي ألمسه بيدي، أرفض وألعن وأحتقر القول الإلحادي المخطئ بدوران الأرض".
وتعهد للمحكمة بأن يبلغها عن كل ملحد يوسوس له الشيطان بتأييد هذا الزعم المضلل.
هذه الأمثلة ونظائرها تجدها في معظم الكتب التي تحدثت عن الصراع بين الدين المسيحي والعلم. أو أرَّخت للقرن السادس الميلادي فما بعده، ولدى معظم الذين تحدثوا عن اضطهاد الكنيسة لعلماء النهضة الحديثة.
* * *
الطغيان السياسي:
بلغت سلطة البابا الدينية المهيمنة على ذوي السلطة الإدارية والسياسية أوجها. حتى كان باستطاعة البابا أن يتوج الملوك والأباطرة، وأن يخلع تيجانهم إذا نازعوه ورفضوا أوامره، وأن يحرمهم من الدين، وأن يحرم شعوبهم الذين يوالونهم، ولا يستجيبون لأوامر الخلع البابوية.
حتى أعلن البابا "جريجوري" السابع: أن الكنيسة بوصفها نظاماً إلهياً، خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية، ومن حق البابا وواجبه بصفته خليفة الله في أرضه، أن يخلع الملوك غير الصالحين، وأن يؤيد أو يرفض اختيار البشر للحكام، أو تنصيبهم حسب مقتضيات الأحوال.
وبناء على ذلك خلع هذا البابا الإمبراطور الألماني "هنري" الرابع وحرمه، وأحل أتباعه والأمراء من ولائهم له، وألبهم عليه، فعقد الأمراء اجتماعاً قرروا فيه أنه إذا لم يحصل الإمبراطور على مغفرة البابا فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد.
فاضطر هذا الإمبراطور حفاظاً على عرشه أن يسعى لاسترضاء البابا سنة (1077م) ، فاجتاز جبال الألب في شتاء بارد مسافراً إلى البابا الذي كان في قلعته بمرتفعات "كانوسا" في "تسكانيا". وظل واقفاً في الثلج في فناء القلعة ثلاثة أيام، وهو في لباس الرهبان متدثراً بالخيش، حافي القدمين، عاري الرأس، يحمل عكازه، مظهراً ندمه وتوبته، حتى ظفر بعفو البابا، وحصل على رضاه.
* * *
التهالك على جمع الأموال:
تدعوا التعاليم المسيحية التي ابتدعها الرهبان إلى الزهد والتقشف، والبعد عن جمع الأموال، وإلى تعذيب الجسم والرضا بأقل العيش.
وعمل بهذا قليل من رهبانهم، وتظاهر به كثيرون مراءون، كانوا يجمعون الأموال باسم الفقراء والمساكين، ثمّ يكنزونها، ولا ينفقونها فيمن جمعوها لهم.
ثمّ لما صار لرجال الكنيسة سلطان قوي على الشعب المسيحي من القاعدة إلى القمة، اجتماعي وسياسي، أخذوا يجمعون الأموال الطائلة باسم خدمة المسيحية والتبشير بها، وباسم المشروعات التي يريدون إنشاءها، من كنائس وأديرة وغير ذلك.
حتى صار جمع المال والاستكثار من الثروت غاية لديهم، فأمست الكنيسة تملك أوسع الأراضي، وأكثر القصور، وأكثر الأرقاء الذين يعملون في زراعة أراضيهم، وبلغت ممتلكات الكنيسة في إنكلترا ثلث أراضيها، كما ذكر "ويكلف" أحد دعاة الإصلاح الكنسي.
وانطلق كثيرون من رجال الكنيسة ينافسون كبار الأغنياء، وملاك الأراضي والأرقاء فيما يجمعون من أموال لأنفسهم، حتى كان بعضهم يملك إقطاعات واسعة وآلاف الأرقاء لاستثمار هذه الإقطاعات.
وفرضت الكنيسة ضرائب على رعاياها، تأخذها منهم بالقوة، مع ما تأخذه منهم من عطايا وهبات ووصايا.
وفتحت رسوم الاعتراف والغفران، وصكوك الغفران التي يبيعونها للناس، أبواباً واسعة تبتز بها الكنيسة أموالاً طائلة، وصار من مصلحة صندوق الكنيسة التشجيع على ارتكاب كبائر الذنوب، ليغفر رجالها للمذنبين، ويأخذوا منهم ثمن العفو والغفران.
ولجأت الكنيسة إلى نظام تسخير رعاياها المسيحيين في العمل المجاني بمشروعاتها الزراعية أو إنشاءاتها.
واشتدت احتجاجات الجماهير السرية ثمّ العلنية، وأيدهم في ذلك بعض الملوك.
لكن سلطة الكنيسة كانت أقوى من أن تلتفت لذلك، وتعدل من سلوكها.
* * *
الإسراف والبذخ والانغماس في الشهوات والملذات:
عملاً بتعاليم المسيحية الداعية إلى الزهد والتقشف، غلا الرهبان والقساوسة غلواً مسرفاً في تعذيب أجسامهم تقرباً إلى المسيح.
وكان التقشف عند بعضهم تقشفاً ظاهرياً، أما في السر فكانوا يعطون
أنفسهم كل حظوظها من الاستمتاع بأنواع لذات الحياة الدنيا.
ثمّ لما صار لهم سلطان قوي على الشعب المسيحي من القاعدة إلى القمة، وملكوا الأموال الكثيرة، ووسائل الاستمتاع الوفيرة، وضعف تأثير التعاليم والتوجيهات المسيحية في نفوسهم، انطلقت فطرهم على سجيتها، وتفجرت شهواتهم تتطلب إشباعها، فأخذوا ينافسون ويسابقون العصاة وأرباب الفجور من عشاق زينة الحياة الدنيا، وطلاب متاعها ولذاتها.
وانطلقت الألسنة تلهج باتهام رجال الكنيسة بارتكاب كبائر الإثم، ومقارفة المنكرات، والانغماس في الموبقات، حتى دركة الفجور بمختلف أنواعه وأشكاله، وانطلقت الألسن باتهامهم بفساد الأخلاق واستغلال سلطتهم الدينية لإشباع شهواتهم، وتحقيق أهوائهم.
وصار الإسراف الشديد والبذخ الزائد من الأمور التي يتنافس فيها رجال الكنيسة فيما بينهم، فيبددون الأموال الطائلة التي يجبونها باسم الكنيسة ومشروعاتها على ترفهم وشهواتهم ولذاتهم.
يقول الراهب "جيروم":
" إن عيش القسس ونعيمهم كان يزري بترف الأمراء والأغنياء المترفين، وقد انحطت أخلاق البابوات انحطاطاً عظيماً، واستحوذ عليهم الجشع وحب المال، وعدوا طورهم، حتى كانوا يبيعون المناصب والوظائف كالسلع، وقد تباع بالمزاد العلني، ويؤجرون أرض الجنة بالوثائق والصكوك وتذاكر الغفران، ويأذنون بنقض القانون، ويمنحون شهادات النجاة، وإجازات حل المحرمات والمحظورات، كأوراق النقد وطوابع البريد، ويرتشون ويرابون.
وقد بذروا المال تبذيراً، حتى اضطر البابا "أنوسنت" الثامن أن يرهن تاج البابوية.
ويذكر عن البابا "ليو" العاشر أنه أنفق ما ترك البابا السابق من ثروة
وأموال، وأنفق نصيبه ودخله، وأخذ إيراد خليفته المرتقب سلفاً وأنفقه.
ويروى أن مجموع دخل مملكة فرنسا لم يكن يكفي البابوات لنفقاتهم وإرضاء شهواتهم".
* * *
(4)
تفصيل العامل الرابع بإيجاز
وهو الاتجاه الجاد في أوروبا والغرب عامة، للأخذ بأسباب التقدم الحضاري العلمي والمادي.
ضمن عوامل تاريخية قديمة لشعوب الغرب، وعوامل أخرى طارئة وتطورية، منها أثر الفتح الإسلامي، ظهر الاتجاه الجاد في أوروبا والغرب عامة، للأخذ بأسباب التقدم الحضاري العلمي والمادي، بغية الوصول إلى القوة المتفوقة، والسبق الصناعي، عن طريق الآلة الميكانيكية، بدافع الرغبة بالسيطرة على الأسواق العالمية، وامتلاك الثروات العظمى في العالم والسيطرة على الشعوب، واستغلالها، واستعبادها بنزعة استعمارية مستعلية، مع دوافع فردية للوصول إلى مجد عالمي، أو ثراء مالي، أو غير ذلك.
لما اتجه الغرب هذا الاتجاه الجاد، واصطدم بجمود الكنيسة ومقاومتها للعلماء، حاول فكرياً ثمّ عملياً أن يعزل الكنيسة عما يلي:
أ- عن شؤون السياسة، حتى لا يكون لها سلطان على الحكام، فتسخرهم ضد من تريد التنكيل به من الذين يخالفون آراءها في مسائل العلم الكوني، وصادف هذا هوى ملوك الغرب وزعمائه السياسيين، الذين لا دين لهم، وكان يضايقهم تدخل الكنيسة في شؤونهم السياسية.
ب- وعن مجالات الدراسات العلمية والفلسفية، ووافق هذا رغبات
العلماء والفلاسفة والباحثين في علوم الطبيعة الكونية، ورغبات كل عشاق البحث والمعرفة من الدارسين أو المتطلعين للدراسة، ومعهم طوائف من الجماهير ذات مصالح مختلفة.
جـ- وعن شؤون الحياة ووسائل العيش وأساليب السلوك العام، ووافق هذا رغبات الشباب والشابات الذين فتنتهم شعارات التحرر والحرية، واستثارهم حب الانطلاق وفق شهواتهم وأهوائهم، والتفلت من القيود الدينية والأخلاقية والاجتماعية. كما وافق هوى كل الذين يصانعون الدين مصانعة ظاهرية، وهم لا يؤمنون به.
وبعزل رجال الكنيسة عن شؤون السياسة، وعن مجالات الدراسات العلمية والفلسفية، وعن شؤون الحياة ووسائل العيش وأساليب السلوك العام، يغدو سلطان الكنيسة قاصراً على شؤون الدين الغيبية والروحية، وعلى مراسيمه وطقوسه الخاصة، وبذلك يتم الفصل التام بين الدين والدنيا، يُحصَر الدين في دائرة ضيقة جداً.
ولما كان الغرب مشحوناً بالحقد على الأمة الإسلامية، والكراهية للإسلام - بمقتضى المواريث الصليبية ذات العوامل التاريخية، والتي كان رجال الكنيسة ورجال السياسة يغذونه بها دائماً، ويعملون على تراكمها في النفوس والأفكار منذ نشأة الأطفال فيه - فإن مفكريه لم يحاولوا أن يبحثوا في الإسلام، عسى أن يجدوا فيه البديل الحق للدين المحرف الذي سقط جوهره من نفوسهم، ولم يبق فيها نحوه إلا عصبية الانتماء الاسمي التاريخي الذي ورثوه عن آبائهم.
أضيف إلى ذلك تقصير المسلمين بواجبهم، وتفريطهم بما فرض الله عليهم، إذ لم يتخذوا الوسائل النافعة المجدية، لنشر الإسلام في الغرب، والتعريف به، عن طريق الفكر والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبألسنة القوم، والأساليب التي تؤثر فيهم.
وبذلك بقي الإسلام مجهول الحقيقة في الغرب، مشوّه الصورة في
نظره، وماذا تفعل الجماهير التقليدية إذا كان الحق غائباً، والزيف قائماً، والشياطين بمغرياتهم يغوون، يسترضون الأهواء، ويأسرون الشهوات، ويفسدون الأفكار؟؟.
وبدأ رجال النهضة الحديثة يعملون على محاصرة رجال الكنيسة، وعزلهم ضن حدودهم وطقوسها شيئاً فشيئاً، وأخذت فكرة فصل الدين عن السياسة والعلم وشؤون الحياة تتحقق بصورة تدريجية، وبدأت تتضاءل سلطة رجال الكنيسة.
ثمّ أخذت النظريات في العلوم، والتجارب في المعامل، والتطبيقات في مختلف مجالات الحياة، تعطي ثمارها النافعة المدهشة، فساعد ذلك على انتشار وتعميق وترسيخ فكرة فصل الدين عن السياسة والعلم والحياة في الغرب، إذ كانت نفوس أهله مهيأة لذلك ومستعدة له، وفي كثير منها دوافع ثورية لإعلائه، لولا ضواغط الخوف التي كانت تمنع ظهوره، بسبب تعاون السلطة الدينية والسلطة السياسية، وامتلاكهما لكل مراكز القوة.
ونشط المغرضون في التحريض ضد رجال الدين المسيحي في كل موقع، همساً ودساً، ثمّ كتابة ونشراً.
وكانت بداية النهضة العلمية الحديثة في ميادين الفلسفة، التي كانت يومئذ وعاء كل العلوم الطبيعية وما وراء الطبيعة.
ثمّ بدأت العلوم الرياضية والطبيعية تأخذ مجاريها المنفصلة عن الفلسفة، لتختص الفلسفة ببحوث ما وراء الطبيعة، ومنها التعليلات والتفسيرات الغيبية للظواهر الطبيعية.
وبدأ المفكرون الغربيون يبحثون في الفلسفة الإغرقية، والفلسفات التي بنيت عليها أو استفادت منها أو تأثرت بها عن بدليل للدين الذي عزلوه في نفوسهم عن السياسة والعلم والفلسفة والحياة ووسائل العيش وأساليب السلوك.
ولما كانت الفلسفة الإغريقية عقلية الجذور، فقد اتجه الغرب
لاعتماد العقل وتمجيده، والرجوع إليه في كل الشؤون التي عزل الكنيسة عنها.
ومنها ظهر المذهب العقلي منعطفاً عن الدين غير مكترث به، وأطلق عليه اسم "العقلانية".
وكان للمنافقين من اليهود المندسين في السلك الكنسي لتخريب النصرانية من داخلها دورٌ لا نستطيع أن نعرف مداه لخفائه عن الأنظار، حتى يقال: إن كثيراً منهم استطاع أن يصل إلى مرتبة "كردينال". وإن بعضاً منهم قد استطاع أن يصل إلى مرتبة "بابا".
وفي خضم التحرك المندفع الثائر لعزل الكنيسة وإسقاط سلطانها، وتمجيد العقل واعتماد بحوثه ونظرياته في كل شيء بعيداً عن أي مؤثر ديني، أو غيبي كما يسمون - وهو التحرك الذي كان لليهود في الغرب دور كبير في الدفع إليه، وفي إيصاله إلى ما وصل إليه-.
في خضم هذا التحرك نشط أحبار يهود وشياطينهم، لتحقيق مخططاتهم، وتدمير ما بقي من فكر ديني في الغرب، ولإقامة الثورات التي يستثمرونها لأغراضهم الآنية، ولتجميع الثروات وامتصاصها من الذين كدحوا كدحاً كبيراً حتى وصلوا إليها، ولصيدها بالمكر والحيلة وهدوء النفس، بينما الناس ثائرون قد عشيت أبصارهم فهم يتحركون على غير بصيرة.
وهدف اليهود البعيد من وراء كل ذلك أن يصلوا إلى حكم العالم صراحة، باستكبار واستعلاء، ودون خوف ولا تحايل ولا استخفاء. وهم يرون أن وسيلتهم الوحيدة للوصول إلى هذا الهدف البعيد، تدميرهم للدين مهما كان شأنه، وللأخلاق، وللنظم الاجتماعية، ثمّ إقامة الثورات والحروب المنهكة لشعوب العالم.