الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول
نَظرَة تاريخيَّة حَولَ المذاهِبْ الوَضْعيَّة
لِلنُظم السيَاسيّة
(1)
بداية تكون الرياسات
1-
تلقائي تكون المجتمع الإنساني البدائي تدل على أن الأب هو رئيس الأسرة، وصاحب السلطان فيها.
ويكبر الأولاد ويتزوجون ويكون لكل منهم أسرة، ويظلُّ أبوهم الرئيس الأعلى لمجتمع هذه الأسر.
ويموت الأب ويخلفه عادة أكبر أبنائه في الرياسة، ما لم يكن غير صالح لها.
وتتوسع الأسر، حتى تكون قبيلةً، ويظل في العادة حق أكبر أبناء الجد الأعلى هو الرئيس الأعلى لها.
وقد تحدث خلافات وتتدخل عوامل مختلفة، فتصطلح القبيلة على رئيس لها، وفي العادة يكون أكبر رجلٍ فيها، أو أعقلهم وأكرمهم أو أشجعهم وأكثرهم إرهاباً لخصومهم وتحقيقاً لمصالحهم.
2-
ولما صار لمجموع القبائل مجتمع سياسي موحد، وتنازعت القبائل فيما بينها، أيها يكون حقُّ الرياسة العامة لها، لإدارة شؤونها، فيكون رئيسها رئيس جميع القبائل؟
ويكون الحل عادة بظفر الأغنى والأكثر عدداً بها، ويتم هذا تلقائياً من دون مشكلات، أو باتفاق رؤساء القبائل على جعل أحدهم هو الرئيس الأعلى، إذا تعادلوا قوة وغنى، ويكون في العادة هو الأشجع والأكرم، أو الأعقل والأقدر على حل المشكلات، والأكثر خدمة لمصالح الجميع ومساعدتهم.
وقد يقوم قتال بينها ومعارك، إذا طمع بالرياسة طامع له هوى في الرياسة وحرصٌ عليها ولم يتفق عليه كل رؤساء القبائل، وينتهي الصراع عادة بغلبة الأقوى أو الأكثر أنصاراً.
ثم تظهر من جديد نزعة حق أكبر أولاد رئيس القبائل في وراثة رئاستها.
وإذا كان الجد الأعلى هو رئيس القبيلة وسيدها، وأساس نظام "الطوطم" وفق نظرية علماء الاجتماع، فإن من الطبيعي أن يكون الأقرب إليه من أولاده أحفاده هو الأحق بسيادة القبيلة ووراثة الرئاسة في أنظمة الشعوب البدائية.
3-
ثم يتطور الوضع السابق حتى تكون رئاسة القبائل ملكاً، فيغدو رئيس جملة من القبائل التي لها أرض مشتركة وانتماء معين ملكاً عليها.
وتظل نزعة حق أكبر أولاد الملك بوراثة الملك نزعة سائدة، ما لم يحدث غير ذلك كأن يجعل الملك غير ولده الأكبر ولي عهده. ولا يحدث التغيير عادة إلا بغلبة ذي قوة طامع بالحكم، يقتل الملك وأنصاره، أو يغلبهم ويأسر من يأسر منهم، أو ينفيهم ويشردهم، وينصب نفسه ملكاً، وفي العادة يصطنع الغالب المبررات المتعددة لتبرير ما قام به.
وظلت شعوب العالم ترث النظام الملكي سلفاً عن خلف.
(2)
طرائق الإدارة والحكم في الشعوب البدائية
أما طرائق الإدارة والحكم في الشعوب البدائية فتختلف من رئيس إلى رئيس، ومن ملك إلى ملك، ومن أي حاكم إلى حاكم آخر.
1-
فمنهم مستبدون، لأن أخلاقهم الطبعية فيها نزعة استبدادية، وتكثر هذه النزعة الاستبدادية لدى معظم ذوي السلطان، وجذورها قوية في النفس البشرية، باستثناء قلة فاضلة.
وترجع إلى هذه النزعة الاستبدادية أصول الحكم المسمّى بالحكم "الديكتاتوري".
2-
ومنهم هينون لينون عقلاء، يصطفون من قومهم عدداً من عقلائهم لمشورتهم، ومشاركتهم في تصريف الأمور العامة، وحل المشكلات.
وهذه أصول حكم الشعب بالشعب، أو ما يسمى "الديمقراطية"، أو الحكم الذي يشارك فيه صفوة الشعب بالرأي وبعض الإدارات ومنها القضاء بين الخصوم.
3-
ومنهم متوسطون بين القسمين السابقين، فتكون إدارتهم بين بين، بعضها استبدادي وبعضها شعبي.
ويلاحظ أن غالب الذين يستولون على السلطان بالقوة والقهر، يكونون عادة أصحاب نزعة استبدادية قاهرة "ديكتاتورية". فهم ينفردون بإصدار أوامرهم ويكلفون الناس طاعتها. فمن خالف ولم يطع حل به العقاب، ولو كان التكليف فيه ظلم وعدوان وتعسّف.
الخلاصة
فالحكم البشري الوضعي البدائي، إما أن يكون حكماً استبدادياً "ديكتاتورياً" في التشريع والتقنين والأمر والنهي والإدارة. وإما أن يكون حكماً شعبياً، للشعب فيه مشاركة في التشريع والتقنين والإدارة ويسمى
"ديمقراطياً". وإما أن يكون مزيجاً من الأمرين السابقين.
وتظل أصول هذه الصورة البدائية مستمرة في الناس، مهما تقدمت الأمم في ميادين الحضارة، لأن الإنسان هو الإنسان نفسه، بطبائعه وغرائزه ودوافعه، ولكن تختلف الأساليب وتتطور الظواهر التنظيمية.
(3)
طرائق الحكم الوضعي بعد ظهور الحضارات والدول الكبرى
ظلت أصول الحكم الاستبدادي "الديكتاتوري". والشعبي أو الشوري "الديمقراطي" وما بينهما، مستمرة في طرائق الحكم البشري الوضعي، رغم ظهور الحضارات، وظهور الدول الكبرى والإمبراطوريات، ولكن تطورت الأساليب والنظم الإدارية، ووجوده توزيع المسؤوليات، وطرق معرفة إرادة الشعوب ومعرفة رغباتها في النظم الديمقراطية إلى غير ذلك من أمور كثيرة.
وتؤكد ملاحظة واقع أنظمة الحكم بعد ظهور الحضارات، وظهور الدول الكبرى، ما يلي:
1-
ما زال يوجد في الناس حكم استبدادي "ديكتاتوري" متطور.
وهو الحكم الذي ينفرد بإصدار أوامره كلها، الدستورية والقانونية والتنظيمية والإدارية دون مشورة الشعب أو مشورة أهل الحل والعقد فيه، وهم رؤساؤه المحليون التلقائيون أو المنتخبون فضلاً عن مشاركته.
والاستبداد في هذا النوع من الحكم قد يكون استبداد فرد أو أسرة أو عصابة متعاونة أو حزب خاص أو طبقة اجتماعية خاصة.
"فالديكتاتورية" عندئذٍ تكون بحسبها، "ديكتاتورية" الفرد أو الأسرة أو العصابة الخاصة أو الحزب أو الطبقة الحاكمة.
"والديكتاتورية" هي الحكم الاستبدادي الذي لا يشارك فيه الشعب
المحكوم بإدارة نفسه، ولا يكون له فيه حرية اختيار، أو مشورة ذات أثر تطبيقي.
وقد يكون اختيار الحاكم لدى توليته على الطريقة الشعبية أو الشورية، "الديمقراطية" فإذا استقر الحكم بيده وقويت سلطته، حكم بطريقة "ديكتاتورية" استبدادية.
أمثلة
فمن أمثلة الحكم الاستبدادية "الديكتاتوري" التي شهدها الناس في القرن العشرين الميلادي ما يلي:
* حكم إيطاليا الفاشستية أيام ديكتاتورها "موسوليني".
* وحكم ألمانيا النازية أيام ديكتاتورها "هتلر".
* وحكم "هايلاسلاسي" للحبشة، فقد كان ديكتاتورها وإمبراطورها وكانت عائلته هي كل شيء في البلاد، حتى كان يصعب التمييز بين مالية الدولة ومالية الإمبراطور.
* وحكم روسيا السوفيتية وسائر الدول الشيوعية، وإن كانت تتستر بأن لها أسلوباً ديمقراطياً داخل الحزب الشيوعي، الذي هو الحزب الحاكم حكماً ديكتاتورياً. ويعتبر الحكم الشيوعي في العالم من أعنف وأشد أنواع الحكم الاستبدادي "الديكتاتوري" المعاصر.
2-
ويوجد في العالم أنواع من الحكم تنتمي إلى طرائق الحكم الديمقراطي، الذي يكون الشعب فيه مصدر السلطات، ولكن تختلف أساليب تطبيق "الديمقراطية" في طريق مشاركة الشعب في الحكم لدى الدول الديمقراطية.
وقد يكون تطبيق الديمقراطية في نظام يكون رئيسة الأعلى ملكاً، أو رئيساً للجمهورية أو رئيساً للدولة أو سلطاناً. أو غير ذلك من أسماء وألقاب فتحقيق الديمقراطية يتم باشتراك الشعب المحكوم في اختيار
رئيسة، ونوع الحكم الذي يرتضيه، واختيار الدستور والقوانين والأنظمة التي تعمل الأجهزة الإدارية بها.
ومن الملاحظ لدى التطبيق، أن كل الدول التي تعلن أنها دول ديمقراطية، وأنها تحترم الديمقراطية، وتقاوم النزعة الفردية، لا تخلو من ممارسات ديكتاتورية ظاهرة، أو مقنعة بتزوير إرادة الشعب الذي هو في مفهوم الديمقراطية مصدر السلطات.
وفي الحكومات الديمقراطية تنشط عادة الأحزاب السياسية وينشط المحتالون والمتآمرون والعصابات في ابتكار أنواع الحيل الذكية وألوان المكر السيء لتحقيق أهدافهم الفردية أو التكتلية ضد مصالح الكثرة الكاثرة من الجماهير حتى تغدو في واقع حالها حكومات ديكتاتورية في أقنعة ديمقراطية، أو تتحكم في كثير من دوائرها أجهزة ديكتاتورية من خلال طابع ديمقراطي عام.
ومشاركة الشعب في الحكومات الديمقراطية قد تقتصر على أهل الحل والعقد، وذلك في شعوب تضعف لدى جماهيرها المقدرة على المشاركة في اختيار رئيسها، أو اختيار ما يصلح لها من دستور وقوانين وأنظمة فيكون أهل الحل والعقد هم الوكلاء والمفوضون من القاعدة العريضة للجماهير، وهؤلاء قد يكونون رؤساء أقوامهم في مواطنهم تلقائياً، دون أن ينتخبوا انتخاباً عن طريق التصويت الإفرادي.
وجرب الآخذون بالديمقراطية صوراً مختلفة لتحقيق نظريتها، وكل هذه التجارب لا تخلو من عيوب وانتقادات كثيرة، حتى من وجهات نظر أنصار المذاهب الوضعية.
وبالدراسات النظرية والممارسات العملية، اتسعت دائرة مفهوم الديمقراطية أو تحدد هذا المفهوم، حتى صارت للديمقراطية عناصر توضع موضع البحث والتجربة، وذلك حين اتجه المفكرون الاجتماعيون إلى تخليص المجتمعات من بقايا الممارسات الديكتاتورية.
فصار للديمقراطية تعريف محدد وعناصر بارزة يطالب الناس بتطبيقها لتحقيق الديمقراطية المنشودة.
(4)
آراء علماء السياسة والاجتماع في الحكم
المفكرون الغربيون
يرى علماء السياسة والاجتماع الغربيون استناداً إلى سبر الواقع البشري، أو ملاحظة هذا الواقع في التاريخ أن سلطان الحكم يرجع إلى أحد احتمالات ثلاثة:
الاحتمال الأول: ادعاء الحق الإلهي في الملك أو السلطان على معنى أن الله هو الذي آتى حق الملك أو حق السلطان لرجل أو له ولسلالته من بعده فهم يرثون هذا الملك بموجب الحق الذي منحهم الله إياه فالحكم ووضع القوانين من اختصاصهم وعلى الناس طاعتهم في كل شيء وهم لا يسألون عن أعمالهم أمام شعوبهم ومسؤوليتهم تكون أمام الله فقط.
وقد سادت هذه الفكرة شعوباً كثيرة في التاريخ الإنساني القديم، لكن هذه الفكرة قد فقدت قيمتها اليوم في نفوس الناس.
الاحتمال الثاني: الوصول إلى الحكم أو الملك أو السلطان بالقوة والقهر والغلبة.
الاحتمال الثالث: ولاية الحكم القائمة على الاتفاق بين الناس، وأطلق على الحكم الذي يقوم على الاتفاق بين الناس:"نظرية العقد الاجتماعي".
وهذه النظرية قد لقيت اهتماماً خاصاً منذ القرن السابع عشر الميلادي من قبل علماء الاجتماع وفلاسفته، فتناولوها بالشرح والتحليل، والتفسير والتعليل، وفي مقدمة هؤلاء:
1-
"توماس هوبز" وهو فيلسوف وعالم اجتماع إنكليزي، من رجال القرن السابع عشر (1588 - 1679 م) .
2-
"جون لوك" وهو فيلسوف إنكليزي. من رجال القرن السابع عشر (1621 - 1704م) .
3-
"جان جاك روسّو" وهو فيلسوف اجتماعي، سويسري المولد، ثم انتقل إلى "باريس" وعاش فيها حتى توفي. كتب في الأدب والتربية والاجتماع. وكان لكتاباته تأثير كبير في المجتمع الفرنسي. وهو من رجال القرن الثامن عشر (1712 - 1778م) .
و"نظرية العقد الاجتماعي" هي الأساس الفلسفي للديمقراطية الغربية الحديثة.
ابن خلدون وفلسفته حول الحكم في الناس
يقول ابن خلدون في مقدمته:
"إن الاجتماع الإنساني ضروري
…
وإن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضروراتهم، وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات.
وإن الطبيعة البشرية قد فطرت على الظلم والعدوان، فيحاول كلٌّ أن يعتدي على أخيه وأن ينتزع منه ما في يده، فيقع التنازل المفضي إلى المقاتلة والهرج وسفك الدماء.
ولهذا استحال بقاء الجماعة فوضى دون حاكم يدفع بعضهم عن بضع، واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع، وهو واحد منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان، واليد القاهرة، حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان، وهذا هو معنى الملك".
* * *