الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو من باب الحذف والإيصال. التصعيد من أشق السير إرهاقاً يقطع صاحبه الحياة في قلق وكرب وضيق كأنما يصعد في السماء ففي التنزيل: (فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا). فَذِكرُ اللَّه والاستقامة على منهجه ينال بهما الغنى والوَفر، والإعراض عنهما يسلبه الرخاء والأمن، ويرهقه عذاباً صعداً ومَعيشة ضنكاً، ويبقى للتسليك إيقاعه في تصوير منظر الضُّر الملازم له، والإرهاق المصاحب له. ومن شرف التضمين أن يضم للمعنى المذكور معاني متنوعات، يُطرّزُ أثوابها السياق بمعونة المقام.
* * *
قَالَ تَعَالَى:
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى)
(2).
ذكر الزمخشري: (به) في موضع الحال كما تقول: يستمعون بالهزء أي هازئين، أعلم بما به يستمعون.
وذكر أبو حيان: قال الحوفي: لم يقل يستمعونه أو يستمعونك، وكان مضمنا أن الاستماع كان على طريق الهزء فجاء بالباء ليُعلم أن الاستماع ليس المراد تفهم المسموع .. وقال أبو البقاء: الباء بمعنى اللام. وقال ابن عطيه: فكأنه قال: نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به أي هو ملازمهم ففضح اللَّه بهذه الآية سرهم. أ. هـ.
وذكر الرازي: نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو الهزء والتكذيب.
وذكر السمين والجمل: (به) الباء سببية والمعنى: ما يستمعون إليك بسبه وهو الهزء والتكذيب، أو الباء بمعنى اللام، والاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا مجنون أو مسحور.
وذكر الآلوسي: (به) أي ملبسين به من اللغو والاستخفاف والهزء بك وبالقرآن.
أقول: الباء على أصلها وتضمين استمع معنى (عُني به وشُغل به واهتم) وليس كما قال الجمل من تضمين الباء معنى اللام فهو: - أعني المستمع لهذا القرآن - عنٍ بسمو بيانه، ومبلغ إعجازه، مشغول اللب به، وهذه العناية سبيلها الاستماع (يَسْتَمِعُونَ) وكبراء قريش أذكى من أن يخفى عليهم
ما في التنزيل من سمو وإعجاز ولذلك لم يملكوا أنفسهم من الاستماع به وإليه مع مبلغ الاهتمام والتأثر والانبهار، على شدة ما يمانعون قلوبهم ويدافعونها.
أجل
…
نحن أعلم بما يُعنَوْن به ويَشغلون أسماعهم به، وتدبر ما فيه ووعيه، فهم يجاهدون قلوبهم أَلا ترق، وعقولهم ألا تنساق وراءه، وفطرتهم ألا تتأثر به، وهم إذ يستمعون إليك ويصغون، يتناجون بما أصاب قلوبهم من سمو إعجازه ولَيانها للحق، بدليل قوله تعالى:(إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا) ثم يتآمرون على أن يحجزوا أنفسهم عن سماع ما خَلبَ عقولهم وقلبوهم ثم يعودون، وليس غريبا أن يذهب الجمل إلى جَعلِ
الباء سببا للهزء والتكذيب، لأنه نقل عن سواه، بل الغرابة أن يسلك الزمخشري هذا المسلك الوعر فيقول؛ (يستمعون بالهزء) هكذا مبهوتا بلا لحظٍ، محشوبا بلا صنعة، كيف والسياق يفهمنا من المنطوق ما ليس منطوقا، فالظالمون منهم، وسَمُوه بالسحر، وليس في السحر هزء ولا سخرية، وأما سوى الظالمين فقدروه (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) ولم يقل سخر وهزئ، ولكن غلبت عليهم شقوتهم حرصا على زعامتهم وما يستتبعها من مصالح. ولو كانوا ساخرين لما تحاجزوا عن سماعه وتعاهدوا مرات ومرات ثم يعودون. قال الأخنس بن شريق: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. قال يا أبا ثعلبة: واللَّه لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها. قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به، ثم أتى أبا جهل: فقال: يا أبا الحكم: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسَي رِهان قالوا: مِنَّا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه؟ لقد حجزوا أنفسهم عن هذا القرآن الذي خلب قلوبهم وألبابَهم وهددهم في امتيازاتهم، وكسر كبرياءهم. أقول لهؤلاء: إن الذين لا يجرؤون على قول ما يعتقدون فهم جبناء، تعوزهم الثقة بأنفسهم.
أرأيت إلى هذه الباء وصلتها بالموقف (يَسْتَمِعُونَ بِهِ) كيف فتحت لنا بصائر؟! ما كانت لتَضَحَ لو قال: يستمعونه، مما استودعته فيها هذه اللغة الشريفة من أسرار الإتقان والصنعة، فإذا كان للباء كل هذا الشأن فلا بد أن يسافر الخاطر في صَيدها حتى يُكشف له عنها، ولو جاءت مع غير هذا الفعل وفي غير هذا السياق لعدمنا وجود هذه الدلالة فيها، فعلى الناظر في هذه الحروف أن يأخذ إلى أنحائها ومصارفها، ويتأتى لها ويلاطفها ولا يتعسّفَها، لتفتح عن كنوزها.