الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حوت الجمال فلو ذهبت تزيدها
…
في الرسم حُسناً ما استطعت مزيداً
ثم تفضل عليهم أُخرى أن أبلغهم ما كتب. فمَنْ هم حتى تَبْلغ العناية بهم أن يُبلِّغهم ما جرت به إرادته وخطَّه قلمه في الملأ الأعلى! إنه منتهى التكريم لآدم وذريته.
هذا البلاغ ياع القلب البشري في دَهَش، بل في أُنْس أنيس في رَوْح ورَيْحان، في كنف مطمئن ودود لطيف، يُتْرع القلبَ بحلاوة مذاقاته.
إنه التضمين، وإنه كثوب الحسناء على الحسناء فيه أسرار من معاني مرتديه.
* * *
قَالَ تَعَالَى:
(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ)
.
ذكر العز: أي إنما يجنيه على نفسه. وقال الزمخشري: يبقى على نفسه لا يتعداه إلى غيره.
وقال أبو حيان: في لفظة (على) دلالة استعلاء الإثم واستيلائه وقهره له.
وقال القرطبي: أي عاقبته عائدة عليه، والكسب ما يجريه الإنسان إلى نفسه نفعاً، أو يدفع عنه به ضرراً.
وقال الآلوسي: فإنما يكسبه على نفسه بمشيئته لا يتعدى ضرره إلى غيرها، فليحترز عن تعريضها للعقاب والوبال.
وقال البروسوي: فإن رين الإثم يظهر في صفاء مرآة قلبه، يعميه عن رؤية الحق ويعميه عن سماعه.
أقول؛ (كسب) يتعدى بنفسه فعداه تعالى بـ (على) لتضمنه معنى (جرَّ) فـ (على) هذه تحمل معنى استعلاء الإثم واستيلائه على صاحبه وقهره له وإبراز شناعته، وإفحاش صورته لتحاميه والعزوف عنه، ونفور الحس منه بعد أن تلوح خطره، والكسب معناه طلب الرزق. واختار تعالى لفظ كسب ليحصل للنفس تشوف إليه يبعث على طلبه والإقبال عليه والتنشيم فيه رغبة في مكسبته.
ولكنه جاء متعديا إلى الإثم والعدوان (يكسب إثما) ليفاجئ الحس بغير ما كان آخذا فيه ومنصتا إليه ولو أحس الخائض في الإثم بما فيه من خسارة، لهرب من ظله، وفثأ شره عن نفسه، ولكنه حين يجترح الإثم ويرتكب المعصية إنما يلتذها لتزيين الشيطان لها، يحسبها مكسبة له، يحياها ويتنفس في جوها العفن وتنعدم في لغة الهوى ونزغات القلوب كلمة الفضيلة إذ الغاية إشباع اللذة وإرواء الغريزة.
فلا تسقني سِرا إذا أمكن الجهر
…
ولا خيرَ في اللذات مِن دونها سِتر
فهو يرتكب المعاصي ويجاهر بها وتحلى نفسه بما استسرت منها. وما كان هذا الحسن في توجيه المعنى ليظهر لولا فضل التضمين، ثم في تنافر الضدين كسب وجز وجنى - المضمن والمضمن فيه غاية الإعجاز، يروض النفوس بالخوف وبالطمأنينة على مقومات جديدة للتصور الإسلامي: الخوف من عمله السيئ، والطمأنينة إلى أنه لا يحمل وزر غيره فليست هناك خطيئة
موروثة كما تدعى الكنيسة ولا أحد من رجال الدين يكفر عنه خطاياه. إنه ميزان العدالة يقرر فردية التبعة، يحاسب المرء على ما اجترح، لا يتعداه إلى سواه: ومن يكسب إثما فإنما يجره على نفسه، إنه الميزان الذري وإنها محكمة السيئة والحسنة.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ).
ذكر أبو حيان والعكبري والجمل: أن الأصل يتعدى كفر بالباء، وعُدِّي بنفسه في الآية إجراء له مجرى جحد
أقول: وأصل جحد أن يتعدى بنفسه وأُجري مجرى كفر فتعدى بالباء في قوله (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ) فضمن جحد معنى كفر فتعدى بالباء كما ضمن كفر معنى جحد فتعدى بنفسه.
الجحود بآيات اللَّه ومعصيته رسلَه، والدينونة للطواغيت، خروج من الإسلام إلى الشرك، لأن توحيد الربوبية هو توحيد الحاكمية الشاملة لكل شؤون الحياة، وحياة البشرية لا تصلح إلا بهذا التوحيد.
أما العبادة بمفهوم تأدية الشعائر التعبدية فقط، فمفهوم حسير النظر، ناقص التكوين.
و (عبد) معناه (دان وخضع وذلّ) فالعبودية هي الدينونة الشاملة لله وحده
في شؤون الدنيا والآخرة
…
وعادٌ كفرت ربها حين جحدت هذه الدينونة.
والدينونة لله وحده بلا شريك، ونبذُها لأحد من خلقه يفاصل المؤمنون بها المشركين، وهذه المفاصلة يجب أن تتم منذ اللحظة الأولى، ولقد يبطئ الفصل وتكثر التضحيات، ولكن وعد اللَّه لا شك آتٍ، وعلى العصبة المسلمة أن تمضي في طريقها، مستيقنة أن سنة اللَّه جارية وأن العاقبة للتقوى.
القرآن يتنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ومعه القلة المؤمنة، يريهم معالمه في مراحله جميعا، ويأخذ بأيديهم، وينقل خطاهم بموكب الدعوة على مدار التاريخ، وبات مأنوساً مألوفاً، لا موحشاً ولا مَخُوفاً، إنهم زمرة في موكب موصول، وليسوا مجموعة شاردة في تِيهٍ مقطوع، يمضون من نقطة البدء إلى الختام وفق سنة جارية.
هذا القرآن لا يفتح أسراره إلا للعصبة المسلمة التي تتحرك به لتحقيق مدلوله في عالم الواقع، لا لمن يقرؤه للتبرك أو للدراسة والاستمتاع.
إنه يتنزل ليكون مادة حركة وتوجيه، الذين يواجهون الجاهلية ويجاهدون البشرية الضالة ويكافحون الطاغوت هم وحدهم يفقهون هذا القرآن، ويتذوقون ما تعنيه نصوصه لأنهم يجدونها ممثلة في أحداث ووقائع، فالبشرية اليوم لا تصلح ولا ترتفع إلا بهذا التوحيد.
* * *