الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالقضاء تضمن معنى الوحي وإنهاء الخبر إليهم وإعلامهم عما سيفعلونه وهو في علمه سبحانه من مآلهم الذي لم يكشف عنه الستار بعد.
وأنهم كلما عَلَوْا نشروا الفساد في الأرض سلَّط اللَّه عليهم من يُدمرهم، وما دام القضاء بمعنى الوحي، فلم لم تأتِ الآية: وأوحينا إلى بني إسرائيل؟ لو قال: وأوحينا لضاع معنى القضاء والقدر. ولو قال: وقضينا (على) لضاع علينا معنى الوحي والإنباء. فالتضمين جمع المعنيين عن طريق الحرف (إلى) وأعلن عن وجوده بقوتين: قوة القضاء المبتوت من عالم الأزل، وقوة البيان والتبليغ فيما أوحى. فهل تأخذ البشرية اليوم حِذرها منهم مما ينشرون من ألوان الفساد بين العباد في شتى البلاد؟!.
* * *
قَالَ تَعَالَى:
(وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ)
.
ذكر الآلوسي: والذي هذه صفاته يقضي قضاء ملتبسا بالحق لا بالباطل لاستغنائه عن الظلم، وقوله: لا يقضون بشيء تهكم بآلهتهم من باب المشاكلة وأصله لا يقدرون على شيء.
وقال القرطبي: يقضي: أي يُجازي. فتضمن القضاء معنى الجزاء.
وحكى الزمخشري: قال: لعله تضمن يحكم.
وذكر أبو حيان: لا يقضون بشيء: قَدْحٌ في أصنامهم وتهكم بهم.
وقال الطبري: فيجزي محسِنكُم بالإحسان والمسيءَ بالإساءة.
أقول: مشهد من مشاهد القيامة يتفرد فيه الجليل بالمُلك والحكم والقضاء
…
موقف خاشع ورهيب يوم هم بارزون لا يخفى على اللَّه منهم شيء.
القلوب لدى الحناجر
…
كاظمين
…
لا شفيع ولا حميم، يعلم خائنة
الأعين وما تُخفي الصدور.
من المتفرد بالحكم والقضاء يوم الجزاء، يوم الفصل؟ اللَّه وحده الذي يحكم
…
وبماذا؟ بالحق فقد تضمن القضاء معنى (الحكم) فتعدى بالباء.
أجل يحكم بالحق عن علم وخبرة
…
عن سمع وبصر
…
لا يخفى عليه شيء حنى خائنة الأعين وخافية الصدور
…
لا ظلم اليوم ذلك هو الحاكم المتفرد في ملكوته فأين الذين يحكمون من دونه؟.
إن للتضمين غفيرة توجب له المزية، وتبلغ به مواقع الاستحسان، حين ضم في إهابه إلى القضاء معنى الحكم والجزاء.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)(1).
ذكر الزمخشري: عدي قضينا بـ (إلى) لأنه ضُمِّن معنى أوحينا كأنه قيل: وأوحينا إليه مقضيًّا مبتوتا وفسر (ذَلِكَ الْأَمْرَ) بقوله: (أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ) وفي إبهامه تفخيم له وتعظيم.
وذكر الجمل: قضينا ضَمن معنى أوحينا فعدي به وهو (إلى) و (ذلك) مفعول القضاء. و (الأمر) بدل منه أو عطف بيان.
وذكر أبو السعود في قوله تعالى: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ): يقضي إليك وحيه: أي يتم وحيه. وذكر الآلوسي: قضى مضمن معنى أوحى ولذا عدي تعديته. وجعل المُضمّن حالا وهو أحد الوجهين المشهورين في التضمين.
وذكر أبو حيان: ولما ضمن قضينا معنى أوحينا تعدت تعديتها بـ (إلى) أي: وأوحينا إلى لوط مقضيا مبتوتا والإشارة بذلك إلى ما وعده تعالى من هلاك قومه، وأن دابر تفخيم للأمر وتعظيم له، وهو في موضع نصب على البدل أو على إسقاط الباء بأن دابر هؤلاء
…
وذكر الشوكاني: قضينا إليه: أوحينا إليه ومثله البيضاوي.
أقول: تضمين (قضى) معنى (أسرَّ)(وهو من الأضداد) يتعدى
بـ إلى جاء هنا بمعنى أخفى لينسجم مع السياق ومعناه: أسررنا إليه ذلك الأمر الخطير والقضاء المبرم: أن آخر القوم ودابرهم مقطوع مع الصبح وإذا انقطع آخرهم انقطع أولهم. قدم السياق هذه النتيجة ليُطلعه على خطورتها، فلا يلتفت أحد من أتباع لوط إلى الديار، ولا يبطئ أو يتلكأ في الخروج منها لئلا يصيبه ما سيصيبهم نتيجة شذوذهم الجنسي حين أحسُّوا بوجود شباب مردٍ، حسان الوجوه في بيت لوط ففرحوا بالصيد السمين في الفاحشة الشاذَّة المريضة. فقد أسر اللَّه سبحانه إلى لوط عليه السلام بما جرى به القضاء في إهلاك قومه مع الصبح ليسرع ومن آمن معه في الخروج سالمين. فصلة المضمّن بالمضمّن فيه أن تبليغ الحكم جرى بطريقة سرية.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ)(2).
ذكر الزمخشري: مِن قضى عليه: إذا أماته (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) إذاً تضمن قضى معنى أجهز، وأجهز عليه أماته فحين تعدى بـ (على) أفاد معنى الموت وحين تعدى بـ (في) أفاد معنى الفصل والتمييز كما في قوله تعالى:(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). وقال أبو السعود: أي ليمتنا حتى نستريح وهو لا ينافي من إبلاسهم لأنه جؤار وتمنٍّ للموت.
وذكر البيضاوي: يقضي علينا: من قضى عليه إذا أماته وهو لا ينافي إبلاسهم فإنه جُؤار.
أقول: أرأيت كيف اختلف معنى (قضى) عند دخول هذه الحروف عليه؟ وهو مما يُوافق أوضاع اللغة ولا يُنافرها (فقضى عليه) تضمن معنى (أجهز عليه) بدليل جواب مالك: إنكم ماكثون ودليل آخر في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) وقوله تعالى: (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) وقوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ).
ففعل (القضاء) حين تعدى بالحروف أرأيت كيف اختلف معناه حسب الحرف المتعدي به؟!
وكذلك حين جاء متعديا بنفسه اختلف معناه حسب أسيقته: ففي يوسف: 68: (إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا) تضمَّن (قضى) معنى أنفذ، أو أظهر.
وفي البقرة: 117: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) تضمن معنى أراد.
وفي الأحزاب: 23: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) تضمن معنى وفَّى نذره، حين استشهد.
وفي الأحزاب: 36: (إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا) تضمن معنى ألزم.
وفي طه: 72: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) تضمَّن معنى اصنع ما أنت صانع.
وفي فصلت: 12: (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) تضمن معنى خلقهن.
وفي القصص: 28: (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) تضضن معنى وفَّيت.
وفي البقرة: 200 (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ) تضمن معنى أديتم.
وفي عبس: 23 (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) تضمن معنى لم يقم بواجبه.
وفي الحج: 29 (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) تضمن معنى يزيلوا وسخهم.
وفي الأنفال: 42 (وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) تضمن معنى أمضى.
وهكذا حملنا ظاهر الفعل (قضى) على المحتمل المرجوح من معانيه بدليل يعضده السياق فيجعله راجحاً.
والحمل على السياق في هذه اللغة يكاد يكون مغفولاً عنه غير مأبوه له لِدقته ولُطفه. وكثرة الحمول في العربية (أي التضمين) مذهب شريف يمرّ به الكثير ساهين عن فضله. فلا تعدُ عيناك عنه فتطفئ مصباحاً من مصابيح هذه اللغة الشريفة.
* * *