الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السبب في عُتوّه وصلفه وكبريائه فإذا قَالَ تَعَالَى في الحديث الشريف: " الكبرياء ردائي من نازعني فيه قصمته ولا أبالي "، فقد قصمه بسبب منازعته إذ أخرجه فأهبطه. فاختيار (ما منعك) على حميله (ما حداك) فلأنه سُلَّمٌ إلى تحصيل المطلوب من زلات الألسن وما تخفي الصدور. فلو لم يكن تحصيل هذا المعنى إلا في نُبْل اللفظ ونَباوته لكان حجة على تقدمه. أما حذف (لا) في (ص) وإثباتها في (الأعراف) فلأن السؤال عن المنع في (ص) على حقيقته لا تضمين فيه، وجاء الجواب من المولى الجليل أستكبرت أم كنت من العالين؟ أما في (الأعراف) فتضمن سؤال المنع السؤال عن الدوافع فلا بد من (لا) النافية وإلا يفسد المعنى. جاء الحرف (لا) ليشارف معنى (الحداء) وقد تزاحمت الأغراض على جهاته، تفانيه لنَباوة محله فيزداد بها سفورا، وببديع نظمها تجليا وظهورا.
* * *
قَال تعالى:
(فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)
.
قال البيضاوي: أماته اللَّه مائة عام: ألبثه ميتا مائة عام أو أماته اللَّه فلبث ميتا مائة عام، ثم بعثه: ثم أحياه.
وقال أبو السعود: أماته: ألبثه على الموت.
وذكر الآلوسي: فألبثه مائة عام ولا بد من اعتبار هذا التضمين، لأن الإماتة بمعنى إخراج الروح وسلب الحياة مما لا يتعدى.
أقول: صورة الخُواء (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) تنعكس في حس الشاك في أمر البعث فيسأل (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) ويأتيه الجواب في تجربة حسية: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) ويُسأل بعدها (كَمْ لَبِثْتَ) ويجيب: (يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).
جواب محدود الإدراك لتجربة محدودة الوسائل.
إن حقيقة الموت والحياة يُعنى بها القرآن أشدَّ العناية لتتعلق ضمائر المؤمنين باللَّه مباشرة. وهذا ما انتهى إليه السائل (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). إنه جواب الفطرة: تترك الغيب المحجوب لعلام الغيوب.
فالتضمين يكشف عن السر المكنون في دبيب الحياة في مشهد البلى والخواء في قوله: فأماته
…
ثم بعثه.
ألبثه ميتا
…
ثم أحياه بتجرية عملية بعيدة عن المنطق العقلي والأسلوب الجدلي.
فللَّه عاقبة التضمين! يجعل الفعل اللازم متعديا والمتعدي لازما، يغدو من البيان في حلل ويروح في حلل، دليله غير مدفوع، يحتاج إلى تأمل، ليُزيل القبْس، ويهدي السبيل، فارفقْ به يُمطك غاربُه، وإن تورطته أوعرتْ بك سُبُلُه.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ).
ذكر أبو حيان: أن الجملة الاستفهامية في موضع نصب لـ (أُنَبِّئُكُمْ)، لأنه معلق بمعنى: أعلمكم، سدت مسد المفعول الثاني والثالث. الأصل في نبأ وأنبأ أن يتعديا إلى واحد بأنفسهما وإلى ثان بحرف الجر، ويجوز حذفه فنقول: نبأت به ونبأنيه، فإذا ضمنت معنى (أعلم) تعدت إلى ثلاثة مفاعيل.
ومجمل القول: يختص التضمين عن غيره من المعديات بأنه قد ينقل الفعل إلى أكثر من درجة. عُدي أخبر وخبَّر وحدَّث ونبَّأ إلى ثلاثة، لما ضمن معنى أعلم وأرى، بعدما كان متعديا إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بالجار نحو (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ).
أقول: تضمن (نبَّأ) معنى (أعلم). إنما جيء به لغرض: لقد كان في العرب كهان يتنبؤون، يزعمون أن الجن تخبرهم، وفي الناس من يركن إلى نبوءاتهم ويصدقهم، يقولون عن القرآن شعر وأن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر، يحارون في وصف ما أنزل وقد هز مشاعرهم وغلب على قلوبهم فلم يروا له نظيرا. فاللَّه ينبئهم بما أرابهم فيه كهنتهم، بل يعلمهم حقيقة هذا الدين وأنه يدعو إلى عقيدة ذات منهج، فلا يعيش على رؤى ولا يسير وراء أوهام، ولا يقنع بأحلام، ولا يتبع الهوى.
فالغرض من التضمين هو توثيق النبأ، فما كل نبأ صحيح أما العلم فلا يكون إلا عن يقين.
أرأيت لم اختار العليم الحكيم لفظ (نبأ) بدلا من (أعلم)؟!.
إنه التضمين يكشف عن أسرار التنزيل، وإنها اللغة في إعجازها البياني،
إن خفيت عنا اليوم فقد كانت بادية الصفحة للسلف إذ كانوا ألطف أذهانا وأسرع خواطر وأجرأ جنانا، وأذهب في الأنس بها والتورد لها.
والأمر في هذا أظهر، وشواهده أسْير وأكثر.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ).
قال الزمخشري: تنبت وفيها الدهن، وقُرئ تُنبت، وفيها وجهان: أحدهما: أن أنبت بمعنى نبت وأنشد لزهير:
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم
…
قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل
والثاني: أن مفعوله محذوف: أي تُنبت زيتونها وفيه الزيت، وقُرىْ: تُنبَت بضم التاء وفتح الباء، وحكمه حكم تُنبإ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو (تُنْبِت) وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي وابن عامر (تَنْبُت) وقرأ ابن مسعود:(تخرج الدهن وصبغٍ للآكلين) وغيره: تخرج بالدهن أي تثمر بالدهن وعن بعضهم: تنبت بالدهان.
وقال الآلوسي: الباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قولك: جاء بثياب السفر وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من خبر الشجرة أي تنبت ملتبسة بالدهن وهو عصارة كل ما فيه دسم، والمراد هنا الزيت وملابستها به باعتبار ملابسة ثمرها، فإنه الملابس له في الحقيقة. وجَوّزَ أن تكون الباء متعلقة بالفعل مُعدية له كما في قولك: ذهبت بزيد كأنه قيل: تُنبت الدهن بمعنى
تتضمنه وتحصله، ولا يخفى أن هذا وإن صح إلا أن إنبات الدهن غير معروف في الاستعمال. وقيل: الباء زائدة كما في قوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ونسبة الإنبات إلى الشجرة بل وإلى الدهن مجازية.
قال الخفاجي: ويحتمل تعدية أنبت بالباء لمفعول ثانٍ.
قال الزركشي: إن الباء زائدة ثم قال: في موقع آخر: واعلم أنه لكون الباء بمعنى الهمزة لا يُجمع بينهما، فإن قلت: كيف جاء تنبت بالدهن، والهمزة في أنبت للنقل؟ قلت: لهم في الانفصال عنه ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون الباء زائدة، والثاني: أنها باء الحال كأنه قال: تُنبت ثمرها وفيه الدهن. والثالث: أن نبت وأنبت بمعنى.
وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي: إن الباء مقحمة والمعنى: تُنبت الدهنَ.
أقول: لمن تقحم الباء أو جعلها زائدة: لقد استسرفت فيما تجشمت، ولعل تضمين (تُنبت) معنى (تنضح) أقرب للسياق وأحكم، لأن نضح يتعدى بالباء وكان النَّضح يحكي حكاية وصول الزيت إلى ثمرة الزيتون يرشح به نَسْغها شيئاً بعد شيء، تختزنه في ثمراتها حتى تمتلئ به ثم يُعصر فيكون منه الدهن (الزيت) وإذا كان حمل الظاهر (تنبت) على المحتمل
(تنضح) لابد له من دليل يعضده ليجعله راجحا، فتعدية نضح بالباء قرينة مرجحة له، والسياق بعد هذا يشي بالنماء والعطاء على هَينة وفي بطءٍ على المدى، كما تُرشح الأم ولدها باللبن.
وجمع التضمين المعنيين ليفيدهما جميعا: الإنبات والنضح.
أما أن نجعل الباء زائدة فمسألة مَعيفة ومذهب على علاته ذميم، والتورد فيه وعْر المسلك ثم هو تضييع للحكمة من وجودها، فما جاءت إلا لتُكسب المعنى نُبْلا وتظهر في النظم مزية، فمن غفل عن سر بيانها وحسن صنعتها فليُمسكْ عن القول بزيادتها، فالبيان المعجز غني عن الزيادة.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا).
الانتباذ: الاعتزال والانفراد، وقال البيضاوي: انتبذت متضمن معنى (أتت) وقال البروسوي: مكانا مفعول له باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيان.
وقال أبو حيان: انتبذت: افتعل من نبذ ومعناه ارتمت وتنحت وانفردت. وانتصب مكانا على الظرف أي في مكان. وقال السدي: لتَطهُر من حيضها. وقال غيره: لتتعبد.
وقال الجمل: مكانا منصوب على الظرفية، ويصح أن يكون مفعولا به على تضمين انتبذت معنى أتت وفي السمين ما يؤيده: انتبذت مكانا:
اتخذته بمعزل بعيدا عن القوم. ووافقه أبو السعود: مكانا مفعول له باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيان المترتب وجودا واعتبارا على أصل معناه العامل في الجار والمجرور وهو السر في تأخيره عنه. أي انفردت منهم وأتت مكانا شرقيا.
وذكر الرازي: انتبذت: تنحَّت يقال: جلس نبذة من الناس أي ناحية و (انتبذت) معناه تباعدت وانفردت على سرعة إلى مكان يلي ناحية المشرق.
وذكر ابن عباس: انتبذت: انفردت وتنحَّت.
أقول: النبذ: الرمي إلى بعيد أو الإلقاء أو الطرح استهانة به وإظهارا للاستغناء عنه قَالَ تَعَالَى: (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) وانتبذ - على وزن افتعل - من معاني هذه الصيغة الاتخاذ أو الطلب، فمريم اتخذت مرمى بعيدا في شرقي أهلها أو طلبت معزلا (شعورا بمهانتها) منبوذا انتحت فيه في الشرق من أهلها. وقلت (مرمى) لأن النبذ: الرمي إلى بعيد فقد تضمن (انتبذت) معنى (اعتزلت) أي تنحت. والذي أنَّسني بهذا المعنى وسوغ هذا التضمين صيغة انتبذت - افتعل: اعتزل - كما قلت، وما أدري من أين جاء المفسرون بتضمين الانتباذ معنى (المجيء).
ويبقى التضمين كنزا من كنوز هذه اللغة نخلد إليه حين لا يثبت عند النظر سواه. فنأوي إلى سداد ونؤول إلى ثقة.
* * *