الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتفطر تظهر مزية التضمين في الكشف عن سر هذه الحروف فتُكسب المعنى نفاسة والصورة حيوية وحركة.
المشهد المزلزل الذي يهز القلوب بنبراته الشديدة وإيقاعاته القوية حين جمع التفطر إلى التشقق، ومن عادة العرب أن تعطي المأخوذ منه حكما من أحكام صاحبه عمارة لبينهما وتتميما للشبه الجامع لهما كما قال ابن جني: فقد أخذ التشقق الباء من التفطر وأخذ هذا من رسيله معنى التفتح، وكلا الفعلين المضمن والمضمن فيه أو الآخذ والمأخوذ منه يشارك في رسم هول الرهبة تشمل الكون، وتأخذ بمجامع القلوب، انقلاب كوني كبير يشمل ما في السماء من كواكب ونجوم وأفلاك:(إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)، والانفطار: الإنشاق طولا (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ)، والإنشاق يكون عرضاً، (يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ)، (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ)، إلى آخر هذا الهول الرعيب
…
والذي يُنبئُ بنهايةِ مروعةِ من الانفجارات الكونية، تصوره الآيات واقعاً مشهودا يدعو إلى الدهشة في تناسقه العجيب، ونيراته الحادة.
وعلى الراتع في خمائل علم اللسان أن يتذوق من سَنا إعجازه.
فسرى خيالك طائفا أفنانه
…
يكفيك طيف ما يزالُ يعاودُ
* * *
قَالَ تَعَالَى:
(فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ)
قال أبو حيان: أراد بالتقطيع والصلب: التمثيل، ولما كان الجذع مقرا للمصلوب، واشتمل عليه اشتمال الظرف على المظروف عُدّي بـ (في)،
وقيل: في بمعنى على. قاله الطبري:
وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة
…
فلا عطست شيبان إلا بأجذعا
قال أبو السعود: (فيها) أي (عليها) وإيثار كلمة (في) للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا باستقرار المظروف في الظرف المشتمل عليه.
وذكر الشوكاني: أي على جذوعها كقوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) أي عليه ومنه قول سويد بن أبي كاهل: وهم صلبوا
…
وذكر السيوطي: (في) بمعنى (على) تفيد الاستعلاء وأكد الزركشي: أن المصلوب لا يُجعل على رؤوس النخل، وإنما يُصلب في وسطها فكانت (في) أحسن من (على). ونص أبو عبيدة وابن قتيبة والفراء والآمدي: على أنها بمعنى (على).
وأجاز الزجاج: اشتراك (في) و (على) في هذه الآية. وقال الزمخشري: شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن الشيء الموعى في وعائه فلذلك قيل: في جذوع النخل.
تضمين (أُصلبنكم) معنى (أَثوِينكم أو أُكِنكُم). والمتعدي بـ في
يُبقي الحرف على أصله، أما أن ينوب عن غيره فغير مُحتفل به، فهذه الحروف تهي عن حفظ أنفسها وتحمُّل خواصها، وعواني ذواتها، فكيف بها تتجشم احتمال سواها، وأما التضمين فقد جمع الصلب إلى معنى التثوية والإكنان لإفادة المعنيين جميعا. فإن قيل: لم جاء التعبير بالصلب؟ قلت: لأنه أراد القتلة المعروفة بالصلب على وجه الخصوص، فهو يهددهم أن يجعل جذوع النخل لحودهم وقبورهم، وبهذه الطريقة البشعة يعرض شناعة الصورة وما فيها من مَهانة وتسفّل وسقوط من الفجرة السفَلة. أما إبدال حرف من حرف، ففيه من خَيْس الخاطر ما يدعو إلى اطّراحه، وهو لضعفه إذا ناب منابه جنى عليه وتكاءده، ومعروف أن الصلب يكون على الجذوع وليس فيها فلمَ جاء فيها؟ إن الحرف (في) إنما جيء به لإفادة التثوية والأكنان، فتكون الجذوع قبورا وأضرحة لهذه الأشلاء المُمثل بها لا لتثبيتها وتسميرها ولا تكون مِشْجبا تتعلق عليها. ويبقى الحرف في وحي التضمين كالطاووس في تصوير المعنى، مَن أبطله من النحاة بحجة التعاور والتناوب فقد حص ذَيله فضاع أجمل ما فيه.
إنه التهديد بالقوة الوحشية يعتمده الطغاة في كل زمن، ويُسلطونه على الأبدان في الصلب ليطول بهم المُقام في جذوع النخل وفي العراء فتأكل لحومَهم الطيرُ.
إن الوحوش البشرية اليوم لا فرقَ عندهم بين إنسان يُخاطَب بالحجة
وحيوان يُنهَش بالناب. وما أهون الدنيا في حس المؤمن الموصول بالله: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ) يواجهون به الُملك والجاه والسلطان وقُوى الأرض الصغيرة والحقيرة، فيرتفعون على فتنة التمثيل والتمزيق بإيمانهم المستعلي على هذه الفتن، وعقيدتهم المنتصرة على أوهاق الجسد وجاذبية الأرض فكم كانت البشرية تخسر لو خسر هؤلاء أنفسهم في معركة العقيدة
…
ما أتفه الحياة بلا عقيدة، وما أبشعها وأحطها حين يُسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد!.
وإن مظهر التمثيل والتمزيق والصلب والتثوية والإكنان صغير هزيل في حساب المؤمنين، ويحسبه الجبارون المتسلطون على الأجساد عظيما. فلا تخلد إن مررت بهذه الحروف إلى الإجْبال وتُطفئ ما توحيه من معانٍ على الوجه الذي هو أضْوَأ لها وأنوه، والحجة فيها أنْور وأبهر، فاشحذْ البصر، وفتق النظر لمعرفة وجه الحكمة فيها.
صفوة المعنى من الحرف أتى
…
طبقْ تركبه بعد طبق
* * *
قَالَ تَعَالَى: (قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)(2).
ذكر العز والزركشي: لا يصلح: مضمن معنى (لا يرضى)، أو من مجاز المحذف أي لا يصلح عاقبة عمل المفسدين. وقال الآلوسي: لا يصلح: المراد منه عدم إثبات عمل المفسدين، لا جعل الفاسد صالحا، فلا
يثبته ولا يديمه بل يزيله ويمحقه، أو لا يقويه ولا يؤيده بل يظهر بطلانه.
وذكر الزمخشري: لا يصلح: أي لا يثبته ولا يديمه.
أقول: إن دوافع اللقاء في هذا المهرجان هي: إزالة خطر السحر عن معتقداتهم. أفصح عن هذا الدافع جواب موسى عليه السلام: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ)، لدرء التهمة الموجهة إليه. وهو الواثق بربه أن يحق الحق ويبطل الباطل حين قال:(إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ) ثم أكد هذا المعنى بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ). وهل يتوسم فيها أثارة من صلاح، وهي ما هي من الزيف والتخييل والوهم؟!.
الفعل (يصلح) بصيغته في الماضي (أصلح) على وزن أفعل يفيد: مصادفة الشي على صفة من الصفات تقول: أحمدت سعيدا: صادفته محمودا وأكرمت عليا: وجدته كريما، وأبخلت زيدا: صادفته بخيلا. وعلى هذا فاللَّه لم يصادف صلاحا في عمل السحرة ولم يطالع فيها فلاحا ولم يلق فيها خيرا قط.
ومن معاني (أفعل): التسمية. فنقول: أخطيت سميرا: سميته مخطئا وأصلحت عملك: سميته صالحا، وعليه نقول:(لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ): أي لا يسميه ربنا صالحا. وما ذهب إليه الزمخشري من عدم إثبات العمل ودوامه يوقعنا في إلباس، أما قول العز أو الزركشي:(لا يصلح) مضمن معنى (لا يرضى) فاستثقال يتحاماه السياق ويستولي الجفاء على جُملته.
وأما قول الآلوسي: (لا يؤيد ولا يقوي) فرأي فطير ليس فيه استحكام علة.
نخلص من هذا العزوف عن التضمين نأياً عن تجشم الكلفة فلا ذِكْرَ له،