الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ تَعَالَى:
(ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)
.
اللين ضد الخشونة ومعناه: زوال الخشية والقشعريرة.
ذكر أبو حيان: ضمن تلين معنى تطمئن.
وقال الزمخشري: فإن قلت؛ ما وجه تعدية (لانَ) بـ (إلى)؟ قلت: ضمّن معنى فعلٍ متعدٍ بـ (إلى) كأنه قيل: سكنت أو اطمأنت إلى ذكر اللَّه، ليِّنة غير منقبضة راجية غير خاشية.
وروى الجمل: قيل: إلى بمعنى عند.
وقال البروسوي: وتعدية اللين بـ (إلى) لتضمَّنه معنى السكون والاطمئنان، تسكن وتطمئن إلى ذكر الله لينة غير منقبضة، راجية غير خاشعة أو تلين ساكنة مطمئنة على أن المتضمّن يقع حالا من المتضمّن.
وقال البيضاوي: والتعدية بـ (إلى) لتضمين معنى السكون والاطمئنان، وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها. أقول: تقشعر
…
ثم تلين
…
صورة حية مشرقة وضيئة، شخصتها ألفاظ يسيرة في غاية الإعجاز.
نعم
…
الذين يخشَون ربهم في حذر ومراقبة واجفة، وحساسية مرهفة مما يسمعون من آيات الوعيد
…
شفافية الروح تفتح بصائرهم للمعرفة المستنيرة، وتمنح قلوبهم نعمة الفهم وسرعة التلقي.
تقشعر جلودهم لما يسمعون ثم ماذا؟ ثم تسكن وتهدأ.
قلوبهم تخشى من وعيد اللَّه ثم تأنس وتطمئن إلى وعد الله، وتنشرح.
ذلك هدى الله منحهم نور البصيرة فاستجابوا للهدى والنور.
فتضمين (اللين) معنى (الأنس والاطمئنان والانئراح) والمتعدي بـ (إلى) أوْلى من تضمين (إلى) معنى (عند) وأسفر لعرائس الأنس تُزَف إلى تلك القلوب على تراتيل الذكر الحكيم.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ).
ذكر السيوطي: الباء زائدة في المفعول.
وذكر المرادي: أن زيادتها مع المفعول غير مقيسة مع كثرتها نحو (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ).
وقال الزمخشري: فليمدد بسبب: مد حبلا إلى سماء بيته فاختنق.
ونقل الجمل: أي فليمدد إلى سقف بيته بحبل.
أقول: سبق أن عرض ربنا سبحانه نموذجاً من الناس يزن العقيدة بميزان الربح والخسارة، وكأنَّها صفقة تجارية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى
حَرْفٍ) نعم على حرف
…
غير متمكن من عقيدته ولا متثبت في عبادته، قابلا للسقوط في كل لحظة عند مس الفتنة، يدعو
…
حزبا
…
عشيرة
…
سلطة
…
(يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) ويجسِّم هذه الحالة النفسية من الضيق حين ينزل بها الضر وهي على غير صلة بالله، فقدت كل رجاء بالفرج، كل نسمة رخية، كل نافذة مضيئة، وقد استبد بها الضيق، وثقل على صدرها الكرب، نعم يجسم هذه الحالة (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ).
لعل (مد) تضمن معنى (توجه) والمتعدي بالباء وإلى، فجمع التضمين المد إلى التوجيه. وفعل مد في حركته القلقة والزعزعة النفسية المصاحبة للغيظ والضيق والقنوط حين ينزل الضر بالنفس، وهي على غير اتصال باللَّه عز وجل يرسم هذا الفعل مشهد امتداد حبل معلق في سقف بيته تعلق به، فليقطعه فيسقط أو يقطع نَفَسَهُ فيختنق. وحين تعدى الفعل بالباء تحول هذا المد إلى توجه بعصبة كافرة أو هيئة فاجرة أو حزب أو عشيرة. وكلها أسباب أرضية لا تملك نفعا ولا ضرا، ثم يكف - يقطع - عن هذا التوجه، فماذا تكون النتيجة؟ هل ينقذه تدبيره هذا مما يغيظه؟ لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء، ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضراء إلا في حمى العقيدة. وبهذا الحرف - الباء - ينقلب المنظور من واقع مادي ضيق مشهود، سقف وحبل إلى معنى أوسع، إلى هيئة أو عشيرة وهي الحماية الأرضية لأصحاب المبادئ المادية، لكنه لا يرتفع عن تراب الأرض
وعتمة الروح، فلا شفاء لقلبه ولا ذهاب لغيظه ما دام مرتبطا بالتراب والطين.
فالتضمين جرى في الفعل - مد وقطع - والباء على أصلها أضاءت لنا ما استتر من أسرار هذه الحروف. فلا يذهب بك الخاطر إلى توهم زيادتها أو تناوبها، وتعرّف كيف المخرج مما يرد عليك منها على وجه من التأويل يزيل الشناعة عنها، وترتفع في معرفة إعجازها في النظم البديع عن التقليد وأنها تنزيل من حكيم حميد.
أما العلاقة بين المضمن والمضمن فيه فسببية، وهل مد هذا المشؤوم حبله إلا ليتوجه بقوى الأرض؟ ومن شؤمه أنه استعان بأسباب أرضية ولهذا: لا يرى ما تريه ولا يهتدي للذي تهديه، فأنت رام معه في غير مرمى، ومُعن نفسك معه في غير جدوى. فمن استبد به الضيق، وثقل عليه الكرب، فليتوجه بطريقة أو بأسلوب إلى اللَّه لإزالة كربه ودفْعِ الضُرّ عنه، وكل سبيل غير هذه السبيل لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا مضاعفة الضيق وزيادة الكرب ثم يعجز في النهاية.
فلْيستَبْقِ المكروب هذا الخيط من الأمل وليتوجه بهذا الحبل من الرجاء إلى السماء وليستهْدِ بهذه الشمعة المضيئة قبل أن يخنقه اليأس ويفوت الأوان.
* * *
قَال تعالى: (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ)(1).
ذكر الراغب: المرية: التردد في الأمر وهو أخص من الشك (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ). والامتراء والمماراة: المحاجة فيما فيه مرية (قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ) وقَالَ تَعَالَى: (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) وقال: (فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ) وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحَلبِ. وجاء في قاموس القرآن فلا تمار فيهم يعني لا تجادل.
وقال الطبري: كذبوا بإنذاره شكًّا منهم فيه. قال أهل التأويل: تماروا بالنذر لم يصدقوه. وذكر القرطبي: شكوا فيما أنذرهم الرسول وهو تفاعل من المرية، وقال الآلوسي: الفعل مضمن معنى التكذيب ولولاه تعدى بفي. وذكر البروسوي: ضمن معنى التكذيب فعدي. من المرية وأصله تماروا على وزن تفاعلوا.
وأتساءل: لم عدل سبحانه عن التكذيب والمتعدي بالباء إلى (المماراة) والمتعدي بـ (في)؟ وهذه تحتمل التكذيب كما تحتمل المجادلة، وهي أقوى من الشك. لقد حذرهم لوط عليه السلام وأنذرهم عاقبة الشذوذ الملوث القدر حين راودوه عن ضيوفه من غير استحياء، ولا تحرّج من حرمة نبيهم. فشكوا في نذارته وارتابوا فيما بينهم، وجادلوا نبيهم فتدخلت يد القدرة (فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ) فكان العمى هو النذير.