الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والذي يحكم في تفاضل هذه الأقوال هو حظها من الاستحسان. لقد جمع التضمين الفزع الذي استدعاه الموقف المذهل الرهيب قبل أن يأذن الجليل بالشفاعة مع التسرية التي جلت الهم وكشفت الغم عن الشافعين والمشفوع لهم بعد أن أذن الرحمن في الشفاعة. فهل لغير التضمين أن يُثْريَ في تنوع دلالة الفعل وإشراقاته، ما يوحيه للمتنزه في رياضه والراتع في خمائله!!
سقانيَ بعد البَينِ بعضَ مودتي
…
فلم تستطع نفسي سبيلا إلى الصبر
* * *
قَالَ تَعَالَى:
(وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً)
(1).
قال العكبري: وقيل أجرا مفعول به لأن (فضَّل) تضمّن معنى (أعطى) قيل بأجرٍ منصوب على نزع الخافض
وذكر الجمل: أجرا في نصبه أربعة أوجه: أحدها: النصب على المصدر من معنى الفعل الذي قبله. الثاني: النصب على إسقاط الخافض.
الثالث: النصب على أنه مفعول ثانٍ كأنه ضمن فضل معنى أعطى. الرابع: أنه حال من درجات. أ. هـ. السمين الحلبي.
وذكر الآلوسي: أجرا مفعول به لتضمنه معنى (الإعطاء) وقيل: منصوب بنزع الخافض.
أقول: لعل تضمين (فضل) معنى (زاد) والمتعدي إلى (مفعولين وعلى) كما جاء في الحديث: " فلم أكن لأزيده على ما فرض اللَّه له شيئا " ليُنهض مُنته فيكون أوْلى بتقديمه، وليجمع إلى التفضيل الزيادة بل الفضل هو الزيادة السنية لمن بذل نفسه وماله في سبيل اللَّه أما الحرص والشح والخوف
في مواجهة التكاليف فلا بد من معالجته، لينهض القَعَدة من السفح إلى المُرتقى السامق، ولينالوا هذا التفضيل ويحظوا بهذه الزيادة في التمجيد من درجات الأجر العظيم مع النبيين والصديقين.
لم جاء التعبير بالتفضيل إذاً بدل الزيادة؟ لعل الغرض هو حَفْز الهمم على إدراك المطالب، ليأنف القَعَدة من انحطاط منازلهم، فالمفضول غير مأبوهٍ له ولا مُحتفَل به ولا يتعلق به غرض (والراضي بالدون دني) كما قال ابن الجوزي، وتبقى زيادة الأجر للمجاهدين على القَعَدة ناهضة بهم شاهدة بفضلهم. أما تضمينه العطاء كما ذكر البعض فلانتشار شؤونه وعدم دخول (على) عليه سوَّأ إلينا التمسك به فلا يُستدل به على غرضه وأما إسقاط الجار فاعدلْ عنه فمَسْلكه وعْر التَورُّد، وأما الحال فلا تتقدم على صاحبها. ويبقى التضمين كالمولود الجديد يحتاج إلى من يترجم عنه معاني النظر.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا)(1).
السماء على عظمتها تنفطر فيه فما ظنك بغيرها من الخلائق.
ذكر الزمخشري: الباء في (به) مثلها في قولك: فطرت العود بالقدوم فانفطر به. يعني تنفطر بشدة ذلك اليوم. ويجوز أن يراد: السماء مثقلة به إثقالا يؤدي إلى انفطارها لعِظَمِهِ عليها وخشيتها من وقوعه. كقوله: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وقال البروسوي: فالباء للسببية وهو الظاهر ويجوز
أن تكون بمعنى (في) وإليه ذهب المكي في قوت القلوب حيث قال: حروف العوامل يقوم بعضها مقام بعض. وقيل: الباء للآلة والاستعانة، قال بعضهم: وهذا لا يليق بجناب اللَّه تعالى. وذكر الجمل: متشققة بسبب هوله والباء في (به) سببية وجوز الزمخشري أن تكون للاستعانة.
وفي القرطبي: أنها بمعنى (في). وحكى الهروي وأبو حيان: الباء بمعنى (في). وذكر الموزعي: أنها بمعنى (فيه) واستشهد بقول الأعشى.
أقول: صورة الهول الأكبر تنشعب به السماء، ومن قبل وجفت له الأرض والجبال، كما شابت له الولدان، فالباء رسمت صورة الانشقاق كالفتيا التي تشعبت بالناس فجعلتهم شعبا، وكالهموم التي تشعبت بصاحبها فمزقته مزقا.
منفطر إذاً تضمن معنى منشعب مشهد شاخص وصورة من الطبيعة
الصامتة تكتسي مشاعر إنسانية حية حين قال منفطر ولم يقل منفطرة، السماء مثقلة بالهم الأكبر الذي شعبها فمزقها فالباء أضافت إلى المادي (الانفطار) المعنوي (الانشعاب) ففازت بالحسنيين فليست الباء للاستعانة ولا للسبب، ولا الباء بمعنى في وإنَّمَا الباء على أصلها. ويبقى التضمين في الفعل أنزه في شرف النظم وأظهر لمزية اختيار اللفظ المفصح عن موقف
…
والمشارك في تكوين صورة
…
من دعوى التناوب والعاور والذي لم نحل بطائل منه.
* * *
قَالَ تَعَالَى: (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا)(2).
ذكر العز: ضمن تفعلوا معنى (تُسدوا أو تُوصلوا) لإفادة المعنيين.
وكرر ذلك الجمل. وقال الزمخشري: وعُدِّي تفعلوا بـ (إلى) لأنه في معنى (تسدوا وتولوا). وروى الطبري: إلا أن توصلوا من الوصية لهم، والنصرة والعقل عنهم وقال أبو حيان: وعُدِّي بـ (إلى) لأن المعنى: إلا أن توصلوا إلى أوليائكم. والكتاب: إما اللوح وإما القرآن.
وقال البيضاوي: والمراد بفعل المعروف التوصية.
أقول: رد الإسلام نظام الإرث والديات إلى قرابة الدم والنسب، بعد أن أبطله في نظام الإخاء بين المهاجرين والأنصار حيث كان تدبيرا مؤقتا منه (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) وأولو الأرحام بعضهم أوْلى ببعض في كتاب اللَّه من المؤمنين والمهاجرين ولكن لا يمنع أن يوصي الولي بعد مماته أو يهب في حياته لوليه في الإخاء ما شاء (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا).
وتضمين (فَعَل) معنى (أزلّ) والمتعدي بـ (إلى) أدنى إلى السياق وأَعْنى بمقام الأولياء من الإيصال والإعطاء، لما في أعطاف اللفظ من التواضع والصفاء مع اللدونة والعذوبة، تُفيض ماء البشر والبشاشة عليهم. وما جاءت (إلى) إلَّا مَنْبهة على فعل المعروف ليتسارع الناس إليه، ويخفّون إلى مُشارفته لإبقاء صِلات المودة الخالصة بين الأولياء بعد إلغاء نظام الإخاء فيوصي الولي لوليه بعد مماته، أو يَهبَه في حياته ليبقى هذا النبع الفوَّار على أُهبة الفيضان كلما استدعت الضرورة الطارئة إليه في حياة مجتمع مسلم وليد. إلا أن ترثوا إلى أوليائكم معروفاً، ليبقى النبع يفيض ويتفجّر، وتبقى الحياة مشدودة إلى آفاق وسيعة. وآثر (تفعلوا) على (تُزلوا) لأن الثاني محصور في النعم المادية، أما الأول ففي اللسان والبنان، في المادي والمعنوي.
أوليست اللغة وسيلة تساعد الفرد على تكييف سلوكه وضبطه بما يتفق مع توجيهات هذه الآيات البيّنات؟!
وليس استحسان لفظ دون لفظ يرجع إلى جِرْسه، بل تقديمه موقوف على وجوه بيانه فيُخلي مكانه لأخيه حين يُصيب من الحقيقة قَدْر ما يكشف عن مُراده ويكون مرقاة إلى فهمه.
إنه التضمين
…
فالزمْه حتى تمهّر. فالعمل عليه. والوصية به
…
* * *
قَال تعالى: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)(2).
قال الزركشي: فقير: ضمن معنى (سائل) وقال الزمخشري: عدي فقير باللام لأنه ضمن معنى (سائل) وطالب يريد: فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليَّ من خير الدين. وذكر الآلوسي: إنني لأي شيء تنزل من خزائن كرمك إليَّ من خير جَل أو قَل فقير، أي محتاج. ومثله الجلالين: ولما أشرنا إليه من تضمنه معنى الاحتياج عُدِّي باللام، وجوز أن يكون مضمنا معنى الطلب واللام للتقوية، وقيل: يجوز أن تكون للبيان.
أقول: ولعل تضمين (فقير) معنى (حائج) أسوغ من سائل وطالب فهو يتعدى باللام وتضمين (أنزلت) معنى (سقت أو أنهيت) ينسجم مع السياق
ومع التعدية بـ (إلى). ولسان الحال يقول: اللهم ما أنهيت إليَّ وسقت من زينة الحياة أنا في حاجة له.
ولعل اختيار لفظ (فقير) بدل (حائج أو محتاج) كان تحقيقا لمعنى الذل والافتقار إلى اللَّه والعبودية بين يديه نسمع معه همس المناجاة وعمق الاتصال برب المستضعفين مع مراعاة لإيقاع الفاصلة القرآنية وموسيقاها الرخية في امتداد صوته الخافت في شكوى حال الخائف الشريد الغريب العَزَب يلتمس الرحمة منه ثم يصمت
…
وينصت إلى حديث تخفق له جوانحه وتشرق له نفسه، إنه ترجمة الدعاء، وإنه تفسير الرجاء وإنه لمنحة السماء (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) وجاءت دعوة أبيها علاجا: لأوضاعه الحياتية فتعتدل: (أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ).
وأوضاعه النفسية فتسكن (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ).
وأوضاعه المادية فتستقر: (تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ).
ثم تتنزل عليه الرسالة ذات التكليف الضخم والمحتاج إلى زاد ضخم فتستفرغ همه لينطلق في خدمة دعوته ويبني أمة على أساس مكين (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ).
إنه التضمين في سعة أفقه، ولُطف مُتسرَّبه
…
بحر لا يُفْثج ولا يُغرَّض.
* * *