الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ تَعَالَى:
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)
(1).
ضمن العز (أسرفوا) معنى (جنَوْا) وقال الآلوسي: أسرفوا على أنفسهم: أفرطوا في المعاصي، وضمنها معنى الجناية (جنوا) ليصح تعديه بـ على، والمضمّن لا يلزم أن يكون معناه حقيقيا.
وقال الزمخشري: أسرفوا: جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغُلو فيها. وتبعه البيضاوي. ويرى صاحب الشهاب فيما نقله عنه الجمل: أن الإسراف مجاز لاستعمال المقيد - وهو الإفراط في صرف المال - في المطلق ثم تضمينه معنى الجناية ليصح تعديته بـ (على) والمضمن لا يلزم فيه أن يكون معناه حقيقيا. والإسراف يتضمن معنى الإشراك بالله (وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) كما يتضمن معنى الإفراط في المعاصي (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ).
أقول: ولعل تضمين (عَدَوْا) أدل على المراد من (جَنَوْا) لأن جنى على نفسه: أذنب ذنبا يؤاخذ عليه، أما عدا على نفسه: ظلمها وجاوز القَدْر في ظلمها فالعدوان مع سياق القنوط أوْلى من الجناية، فالإسراف على النفس
مطلق كما مر يشمل الإشراك والإفراط في أنواع المعاصي والعدوان عليها مقيد. ولعل استعمال الإسراف بدلا من العدوان أسوغ مع السياق (لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) سياق الرحمة وفتح باب الأمل، فلا يقنطوا ولا ييأسوا ويبقى المسرف على نفسه [وَجِلاً] قلبُه بين اليأس مما حصدت يداه في ظلم نفسه، وبين الرجاء فيما عند الغفور الرحيم. يفتح لهم أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة ويدعوهم إلى الأوْبة إليه غير قانطين ولا يائسين، فمن أسرف في المعصية ولجَّ في الذنب وأَبَقَ عن الحمى وشرد عن الطريق، ليس بينه وبين الرحمة الندية وظلالها الرخية إلا التوبة، وإلا الأوبهَ إلى الباب المفتوح ليس عليه من يمنع، ولا يحتاج الوالج فيه إلى استئذان، ففضل التضمين أنه جمع المعنيين جميعا فالزمه لِشرفه واشدد يدَك به.
لقد كان نسَّاجا يسد خصاصها
…
بقول كطعم الشُّهد مازجة العَذْبُ
* * *
قَالَ تَعَالَى: (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(1).
ذكر الزركشي والسيوطي وابن هشام والمرادي: الباء بمعنى عن. وذهب الزمخشري: إلى أن السعداء يُؤتوْن صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين والأشقياء من وراء ظهورهم وشمائلهم، فجعل النور في الجهتين شعارا وآية. وقال أبو حيان: وقيل الباء (بمعنى) عن، وعبر
بالإيمان تشريفا لها. ويرى الجمل: أن بأيمانهم أي في جهة أيمانهم.
وقيل: عن جميع جهاتهم، وخص اليمين لأنها أشرف الجهات. وقرأ أبو حَيْوة وسهل بن شعيب: بإيمانهم بكسر الألف، والباء سببية. وقال أبو البقاء: بإيمانهم استحقوه، الباء للاستحقاق وبإيمانهم يقال لهم بشراكم. أهـ.
السمين الحلبي. وبأيمانهم أي عن أيمانهم قال ذلك الخازن.
أقول: صورة وضيئة ومشهد من مشاهد التكريم. تضمين (يسعى) معنى (يُضيء) ويشع وهو يتعدى بالباء، ومعناه: نورهم يُضيء بين أيديهم كما يُضيء بأيمانهم، وقد صارت مشاعل لكل سُدْفة يُبددها، فليست الباء بمعنى (عن)، ولا في الجهة، ولا للسبب، ولا للإلصاق، ولا للاستحقاق، وإنما هي على أصلها، فليس ممشى النور بين أيديهم في هذا المشهد الجميل إلا شعارا لطيفا هادئا يفيض إشراقا من أرواحهم ويُضيء بأيمانهم ويغلب على طينتهم، لينير لهم الطريق. فمسعاه لأجل إضاءته، وإضاءته نتيجة لمسعاه.
واختيار (سعى) بدلا من أضاء فيه إعزاز لهم وتكريم، فنورهم كالسُّعاة والخدم يمشي بين أيديهم وبأيمانهم يحمل المشاعل، فمشكاتها من حياة القلوب وكنوز البصائر، وتسمع بعدها من آيات التكريم تزلت لهم الملائكة أحلى البشائر:(بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ).
ولولا التضمين في تعدية الفعل بغير حرفه لما انصرف لفظ السعي إلى معنى الإضاءة مضموما إلى مثيله (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)، ذاهبا في مجاري استحسانه كل مذهب، وفي مواقع إتقانه وإحكامه كل موقع، يُضيء نورهم