الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التوبة في منهج القرآن الكريم
د. سليمان بن صالح القرعاوي
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين القائل في محكم كتابه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1){الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (2).
(1) سورة الملك الآية 1
(2)
سورة الملك الآية 2
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين الذي بعث بالشريعة السمحة التي أساسها اليسر بالخلق، ورفع الحرج عنهم، وغايتها تحقيق مصالحهم والعدل بينهم، وعلى آله وصحبه الذين خلفوه في حراسة شريعته، وهداية أمته، فكانوا نورا بدد ظلمات الجهالة، فأرشدوا البشرية، وقرروا الحق للناس قاطبة.
وبعد: فإن دراسة كتاب الله تعالى والعيش في رحابه نعمة لأولي الألباب الذين يعرفون أن الدنيا دار ممر، وليست دار مقر، وأن هذا الإنسان استخلفه الله على أرضه ليتخذ من شريعته منهجا ودليلا يرشده إذا ضل، ويعلمه إذا جهل، ويأخذ بيده في مزالق الطرق، ومتاهات الفيافي والقفار.
ولكن الإنسان عرضة لوسوسة الشيطان، ومجالا لرمي سهامه، مصداقا لقوله الذي قصه رب العزة:{قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (1){إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (2){قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} (3){إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (4) فإذا استجاب الإنسان لهذه الغواية، واتبع سبيل الضلال ألقى به الشيطان في بحر تتلاطم أمواجه، والظلام يحيط به من كل جانب عندها يحس بالندم، ويأخذ الهم بمجامع قلبه فيتخبط
(1) سورة الحجر الآية 39
(2)
سورة الحجر الآية 40
(3)
سورة الحجر الآية 41
(4)
سورة الحجر الآية 42
يمنة ويسرة، ويأخذ في الإقدام والإحجام، ويقرر الفرار إلى ربه والهجرة إلى مولاه، لقوله تعالى:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (1) فيضيء قلبه، وتهدأ نفسه ويتذكر قوله تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (2) فيسهل الله له طريق التوبة، يرشده إليها، عندها يسلك طريق الصلاح والخير فيعود إلى ربه نادما، ويتقدم إليه تائبا، ويتحقق فيه وفي غيره من التائبين قوله تعالى:{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} (3) ولكن متى تكون التوبة صادقة؟ ومتى يتقبل الله توبة العبد؟ إن الله تعالى يقول في محكم كتابه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (4).
فهل تكون التوبة صادقة، وصاحبها لم يزل في اتباع الهوى؟ هل تكون التوبة صادقة، وحالة العبد متأرجحة بين الضلال والهدى، ونفسيته تواقة إلى الإيمان، ومشتاقة إلى فعل المنكرات؟ كما ذكر الله عن ذلك بقوله:{مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (5) هل تكون التوبة صادقة ونصوحة، وقد ولى شبابه، وذهبت أيامه وضاعت قوته، وأصبح شيخا فانيا، لا حول له ولا طول، وليست عنده رغبة يرغبها أو شهوة يريدها؟
إن التوبة تكون صادقة كما قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (6)
(1) سورة الذاريات الآية 50
(2)
سورة الزمر الآية 53
(3)
سورة التوبة الآية 118
(4)
سورة المائدة الآية 27
(5)
سورة النساء الآية 143
(6)
سورة النساء الآية 17
وإذا كان الأمر كذلك فمتى يتقبل الله توبة عبده؟ وما الدليل على قبولها؟ وما الشروط التي يجب أن يلزم العبد بها نفسه حتى يكون من هؤلاء الذين قال الله فيهم: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} (1).
إن هذا البحث (التوبة في منهج القرآن الكريم) يعد باكورة لعمل متواصل-بمشيئة الله- وثمرة صادقة لمعايشتي كتاب الله تعالى وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولقد كتب على هذا النمط ليلائم طبيعة العصر؛ عصر الأزرار الفاتكة، والتقنية الباهرة، وكل ما يدعو إلى الدهشة، ويصيب الرؤوس بالدوار، وهدفه في النهاية عودة هؤلاء الشاردين الذين احتضنتهم مدنية الغرب بزيفها المغري، وبريقها الخادع، والرجوع بهم مرة أخرى إلى رحاب الله تعالى حيث صفاء الإيمان، ومرتبة الإحسان.
وعناصر هذا البحث لا تخرج عن هذا النطاق وهي:
1 -
التوبة واقترانها بالإيمان.
2 -
التوبة واقترانها بالصلاة والزكاة.
3 -
التوبة والعمل الصالح.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يكون بداية خير وقنطرة إلى التوبة
(1) سورة الشورى الآية 25
النصوح، عندها يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
التوبة عند علماء اللغة:
يقال: تاب إلى الله توبا، ومتابا، وتابة: رجع عن المعصية، وهو تائب، وتاب الله عليه؛ وهو تواب على عباده، واستتابه: سأله أن يتوب (1).
وقال ابن منظور:
التوبة: الرجوع عن الذنب، وتاب إلى الله يتوب توبا، وتوبة ومتابا: أناب ورجع عن المعصية إلى الطاعة، وتاب الله عليه: وفقه لها، ورجل تواب: تائب إلى الله، والله تواب: يتوب على عبده (2) وفي الحديث: «الندم توبة (3)» ويكاد يكون المعنى الذي تناوله علماء اللغة عن التوبة متقاربا لفظا ومعنى، فهي الرجوع والإنابة إلى الله تعالى.
التوبة في الاصطلاح:
قال ابن قدامة: " إن التوبة عبارة عن ندم يورث عزما وقصدا، وذلك الندم يورث العلم بأن تكون المعاصي حائلا بين
(1) راجع بصائر ذوي التمييز، 2/ 304
(2)
راجع لسان العرب، مادة (توب)
(3)
الحديث رواه الإمام أحمد في المسند، 1/ 423. وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم 6678
الإنسان وبين محبوبه " (1). وما يقوله ابن قدامة يتفق مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «الندم توبة (2)» هذا الندم يتولد عنه العزم للإقلاع عن المعصية.
ويقول ابن عاشور في تفسيره:
" لما كانت التوبة رجوعا من التائب إلى الطاعة، ونبذا للعصيان، وكان قبولها رجوعا من المتوب إليه إلى الرضى، وحسن المعاملة، وصف بذلك رجوع العاصي عن العصيان ورجوع المعصي عن العقاب، فقالوا: تاب فلان لفلان فتاب عليه؛ لأنهم ضمنوا الثاني معنى عطف ورضي، فاختلاف مفادي هذا الفعل باختلاف الحرف الذي يتعدى به، وكان أصله مبنيا على المشاكلة ".
ويرى ابن عاشور: أن التوبة تتركب من علم، وحال، وعمل، فالعلم: هو معرفة الذنب، والحال: هو تألم النفس من ذلك الضرر، ويسمى ندما، والعمل: هو الترك للإثم، وتدارك ما يمكن تداركه، وهو المقصود من التوبة، وأما الندم فهو الباعث على العمل، كما جاء في الحديث «الندم توبة (3)» .
فإذا أردنا أن نتعرف على ما يقوله صاحب التعريفات بشأن التوبة نراه يقسمها إلى قسمين: التوبة فقط، والتوبة النصوح.
ويعرف الأولى: بالرجوع إلى الله بحل عقدة الإصرار عن القلب
(1) المغني لابن قدامة، 14/ 192
(2)
سنن ابن ماجه الزهد (4252)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 376).
(3)
راجع تفسير ابن عاشور، 1/ 438
ثم القيام بكل حقوق الرب (1).
أما عن التوبة النصوح، فيرى أنها: توثيق العزم على ألا يعود لمثله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: التوبة النصوح: الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع بالبدن، والإصرار على أن لا يعود.
وقيل: التوبة في اللغة: الرجوع عن الذنب، وكذلك التوب، قال الله تعالى:{غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} (2).
وقيل: التوب: جمع توبة، والتوبة في الشرع: الرجوع عن الأفعال المذمومة إلى الممدوحة، وهي واجبة على الفور عند عامة العلماء، أما الوجوب فلقوله تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3).
وأما الفورية، فلما في تأخيرها من الإصرار المحرم، والإنابة: قريبة من التوبة لغة وشرعا.
وقيل: التوبة النصوح: أن لا يبقى على عمله أثرا من المعصية سرا وجهرا.
وقيل: هي التي تورث صاحبها الفلاح عاجلا وآجلا.
وقيل: التوبة: الاعتراف والندم والإقلاع (4).
(1) التعريفات للجرجاني، ص 83
(2)
سورة غافر الآية 3
(3)
سورة النور الآية 31
(4)
المرجع السابق
ولا شك أن صاحب التعريفات قد أضاف إلى ما ذكره العلماء من تعريفات التوبة: الوجوب، والفورية، ولقد جاءت آيات كثيرة في كتاب الله تدل على وجوب التوبة، من ذلك:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} (1)، وقوله أيضا:{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (2). وأما عن الفورية فقوله تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (3).
قال ابن عباس والسدي: معناه قبل المرض والموت، وروي عن الضحاك أنه قال: كل ما كان قبل الموت فهو قريب.
ولقد أحسن محمود الوراق حيث قال:
قدم لنفسك توبة مرجوة
…
قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها غلق (4) النفوس فإنها
…
ذخر وغنم للمنيب المحسن
وقد روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر (5)» . ومعنى ما لم يغرغر: ما لم
(1) سورة هود الآية 3
(2)
سورة هود الآية 52
(3)
سورة النساء الآية 17
(4)
يقال: غلق الرهن إذا لم يقدر على افتكاكه. يريد: بادر بالتوبة قبل ضياع الفرصة
(5)
الحديث أخرجه الترمذي في الدعوات 98، وابن ماجه في الزهد 30، وصاحب الموطأ في الحدود 2، وأحمد بن حنبل في المسند، 2/ 192، 425