الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القيامة: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} (1) السرائر المكنونة المطوية على الأسرار المحجوبة، بأن هذا ضرب هذا وهتك عرض ذاك، وتقول ثالث، وقذف رابعا، وعندها هو متجرد من كل قوة، ومن كل ناصر {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} (2) فإذا رغب في التوبة لينجو من هول هذا اليوم فعليه أن يبرأ من حقوق الآخرين، فإن كان حد قذف ونحوه مكنه منه، أو طلب عفوه، وإن كان غيبة استحله منها، وإلا فلا توبة له، ويوم القيامة يرى حقوق الآخرين قد سبقته إلى يوم الحشر العظيم تأخذ بتلابيبه، كما قال تعالى:{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (3).
وإذا كان الأمر كذلك فيطيب لي أن أعرض أمام القارئ أقوال العلماء واستنباطات المفكرين الإسلاميين عن المعاني الآتية في منهج القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة وهي:
1 -
التوبة واقترانها بالإيمان.
2 -
التوبة واقترانها بالصلاة والزكاة.
3 -
التوبة واقترانها بالعمل الصالح.
هذا وعلى الله قصد السبيل ومنه التوفيق والسداد.
(1) سورة الطارق الآية 9
(2)
سورة الطارق الآية 10
(3)
سورة الكهف الآية 49
التوبة واقترانها بالإيمان:
سبق وأن تناولنا مفهوم التوبة عند علماء اللغة، وعند علماء
الاصطلاح، وجلينا حقيقتها بما يسره الله لنا من آيات القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ونرى قبل البدء في طرح التوبة واقترانها بالإيمان، أن نضع أمام القارئ نبذة مختصرة عن الإيمان من خلال آيات القرآن الكريم، جاء الإيمان بمعنى التوحيد في قوله تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1). قال القرطبي: أي: بما أنزل على محمد، وقال أبو الهيثم: ومن يكفر بالإيمان أي: يجحده، وروي عن ابن عباس ومجاهد أن المعنى: ومن يكفر بالله، قال الحسن بن الفضل: إن صحت هذه الرواية فمعناها برب الإيمان (2).
وجاء الإيمان بمعنى التصديق في السر والإعلان، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (3) أي الذين صدقوا بما جاءت به الرسل، وما نزل به الوحي، وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، من أكرم الخلق على الله؟ قال:«يا عائشة أما تقرئين: (5)»
وجاء الإيمان بمعنى الصلاة، قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (6).
(1) سورة المائدة الآية 5
(2)
راجع تفسير القرطبي، 6/ 79
(3)
سورة البينة الآية 7
(4)
راجع فتح القدير، 5/ 477
(5)
سورة البينة الآية 7 (4){إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}
(6)
سورة البقرة الآية 143
أخرج الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى المقدس؟
فأنزل الله تعالى: (2)» قال: هذا حديث صحيح فسمى الصلاة إيمانا لاشتمالها على نية وقول وعمل.
وقال أبو القاسم: الإيمان يستعمل تارة اسما للشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} (3)، ويوصف به كل من دخل في شريعته مقرا بالله وبنبوته، وتارة يستعمل على سبيل المدح ويراد به إذعان النفس للحق على سبيل التصديق، وذلك باجتماع ثلاثة أشياء:
تحقيق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بحسب ذلك بالجوارح، ويقال لكل واحد من الاعتقاد والقول: الصدق، والعمل الصالح: إيمان (4).
وبعد هذه الكلمة عن الإيمان يطيب لي أن استعرض أقوال العلماء في اقتران الإيمان بالتوبة، والله الهادي إلى سواء السبيل، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (5).
(1) سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن 5/ 208 ح 2964
(2)
سورة البقرة الآية 143 (1){وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}
(3)
سورة البقرة الآية 62
(4)
راجع بصائر ذوي التمييز، 2/ 150
(5)
سورة الأعراف الآية 153
قال ابن عطية: " تضمنت هذه الآية الوعد بأن الله عز وجل يغفر للتائبين، والإشارة إلى من تاب من بني إسرائيل، وفي الآية ترتيب الإيمان بعد التوبة، والمعنى في ذلك أنه أراد بقوله: وآمنوا أن التوبة نافعة لهم منجية فتمسكوا بها، فهذا إيمان خاص بعد الإيمان على الإطلاق، ويحتمل أن يريد بقوله: وآمنوا أي: وعملوا عمل المؤمنين حتى وافوا على ذلك، ويحتمل أن يريد التأكيد فذكر التوبة والإيمان إذ هما متلازمان، إلا أن التوبة -على هذا- تكون من كفر ولا بد، فيجيء تابوا، وآمنوا بمعنى واحد، وهذا لا يترتب في توبة المعاصي، فإن الإيمان متقدم لتلك ولا بد، وهو وتوبة الكفر متلازمان، وقوله: إن ربك إيجاب ووعد مرج، قال: ويحتمل قوله تابوا، وآمنوا أن يكون لم تقصد رتبة الفعلين على عرف الواو في أنها لا توجب رتبة، ويكون وآمنوا بمعنى وهم مؤمنون قبل وبعد "(1).
إن ما قاله المفسر الكبير ابن عطية من أن هذه الآية إشارة إلى من تاب من بني إسرائيل، ونحن نعلم أن بني إسرائيل قد آمنوا بموسى، وخرجوا مع نبيهم فارين من فرعون وجبروته، فارين إلى الله تعالى، كما قال:{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (2).
وعندما تركهم موسى رجعوا عن إيمانهم باتخاذهم العجل
(1) راجع المحرر الوجيز، 6/ 91
(2)
سورة الذاريات الآية 50
إلها، قال تعالى في الآية السابقة على هذه الآية:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ} (1).
ثم ماذا؟ ثم تابوا عن فعلتهم الشنيعة، عندها استقر الإيمان مرة أخرى في قلوبهم، فالآية على هذا التخريج لا تحتاج إلى هذه الاحتمالات الكثيرة التي ذكرها هذا المفسر الكبير.
ويؤكد الذي ذهبت إليه ما ذكره القرطبي عند حديثه عن هذه الآية بقوله: " ثم أخبر الله تعالى: أنه يقبل توبة التائب من الشرك وغيره {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} (2) أي: الكفر والمعاصي {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا} (3) أي: من بعد فعلها {وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} (4) أي:
من بعد التوبة {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (5). فإذا تركنا الإمام القرطبي، واتجهنا إلى صاحب زاد المسير لنرى ما ارتآه عند تفسيره لهذه الآية، نجده يقول:{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} (6) فيها قولان:
أحدهما: أنها الشرك.
والثاني: الشرك وغيره من الذنوب. {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا} (7) يعني السيئات، وفي قوله: وآمنوا قولان:
أحدهما: آمنوا بالله، وهو يخرج على قول من قال:
السيئات هي الشرك.
(1) سورة الأعراف الآية 152
(2)
سورة الأعراف الآية 153
(3)
سورة الأعراف الآية 153
(4)
سورة الأعراف الآية 153
(5)
سورة الأعراف الآية 153
(6)
سورة الأعراف الآية 153
(7)
سورة الأعراف الآية 153
والثاني: آمنوا بأن الله تعالى يقبل التوبة (1).
فإذا اتجهنا إلى مفسر قريب العهد بابن الجوزي، وهو الإمام القرطبي، نراه يفرع هذه المسألة، ويستعرض أقوال العلماء والفرق الذين أدلوا بدلوهم في اقتران التوبة بالإيمان، فنراه يقول عند حديثه عن قوله تعالى:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (2){وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (3). "هذه الآية عامة لكل من عمل ذنبا، وقيل: لمن جهل فقط، والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر، واتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين لقوله تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} (4).
وتصح من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه، خلافا للمعتزلة في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب، ولا فرق بين معصية ومعصية، هذا مذهب أهل السنة.
وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها، وإن لم يشأ لم يقبلها، وليس قبوله التوبة واجبا على الله من طريق العقل
(1) راجع زاد المسير، 3/ 266
(2)
سورة النساء الآية 17
(3)
سورة النساء الآية 18
(4)
سورة النور الآية 31
كما قال المخالف؛ لأن من شرط الواجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق ومالكهم والمكلف لهم؛ فلا يصح أن يوصف بوجوب شيء عليه، تعالى الله عن ذلك، غير أنه قد أخبر سبحانه -وهو الصادق في وعده- بأنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده بقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} (1). وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (2). وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (3).
فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه، يقتضي وجوب هذه الأشياء، والعقيدة أنه لا يجب عليه شيء عقلا، فأما السمع فظاهره قبول توبة التائب، قال أبو المعالي وغيره: وهذه الظواهر إنما تعطي غلبة ظن، لا قطعا على الله تعالى بقبول التوبة.
قال ابن عطية: وقد خولف أبو المعالي وغيره في هذا المعنى، فإذا فرضنا رجلا قد تاب توبة نصوحا، تامة الشروط،
(1) سورة الشورى الآية 25
(2)
سورة التوبة الآية 104
(3)
سورة طه الآية 82
فقال أبو المعالي: يغلب على الظن قبول توبته، وقال غيره: يقطع على الله تعالى بقبول توبته، كما أخبر عن نفسه جل وعز، قال ابن عطية: وكان أبي رحمه الله يميل إلى هذا القول، ويرجحه، وبه أقول، والله أرحم بعباده من أن ينخرم في هذا التائب المفروض معنى قوله:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} (1).
وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (2).
وإذا تقرر هذا فاعلم أن في قوله: (على الله) حذفا، وليس على ظاهره، وإنما المعنى: على فضل الله ورحمته بعباده، وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ:«أتدري ما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: أن يدخلهم الجنة (3)» .
فهذا كله معناه على فضله ورحمته بوعده الحق، وقوله الصدق، دليله قوله تعالى:{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (4) أي: وعد بها، أي أنه وعد، ولا خلف في وعده أنه يقبل التوبة إذا كانت بشروطها المصححة لها. . " (5). هذا ما قاله القرطبي عن التوبة واقترانها بحقيقة الإيمان، ثم تناول شروط التوبة -التي
(1) سورة الشورى الآية 25
(2)
سورة طه الآية 82
(3)
هذا جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في اللباس 101 والتوحيد 1، ومسلم في الإيمان 48، 49، والترمذي في الإيمان 18، وابن ماجه في الزهد 35 باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة
(4)
سورة الأنعام الآية 12
(5)
راجع تفسير القرطبي 5/ 90 وما بعدها بتصرف
سبق الحديث عنها- ومضيفا لها أن يكون الإقلاع عن الذنب أو الجرم حياء من الله تعالى، وخوفا من عقابه، لا لشيء آخر، كالعجز أو عدم الرغبة، أو قلة الحيلة التي يمكن أن تحقق له أهدافه في المعصية أو الجريمة التي تتوق نفسه لارتكابها.
ويطيب لي أن أختم موضوع اقتران التوبة بالإيمان بما قرره أحد العلماء المعاصرين، وهو العالم الجليل ابن عاشور رحمه الله صاحب التفسير المشهور، ولا شك أنه أضاف جديدا إلى ما توصل إليه السابقون من علماء الإسلام الأجلاء، فهو يقول: " اعتراض بأنهم إن تابوا وآمنوا يغفر الله لهم على عادة القرآن من تعقيب التهديد بالترغيب، والمغفرة ترجع إلى عدم مؤاخذتهم بذنوبهم في عقاب الآخرة وإلى ارتفاع غضب الله عنهم في المستقبل.
والمراد بالسيئات: ما يشمل الكفر، وهو أعظم السيئات، والتوبة منه وهي الإيمان، وعطف الإيمان على التوبة، مع أن التوبة تشمله من حيث إن الإيمان توبة من الكفر، إما للاهتمام به لأنه أصل الاعتداد بالأعمال الصالحة عند الله تعالى كقوله:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} (1){فَكُّ رَقَبَةٍ} (2){أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} (3){يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} (4){أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (5){ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (6).
ولئلا يظن أن الإشراك لخطورته لا تنجي منه التوبة، وإما أن يراد بالإيمان، إيمان خالص فيشمل عمل الواجبات " (7).
(1) سورة البلد الآية 12
(2)
سورة البلد الآية 13
(3)
سورة البلد الآية 14
(4)
سورة البلد الآية 15
(5)
سورة البلد الآية 16
(6)
سورة البلد الآية 17
(7)
راجع تفسير ابن عاشور، 9/ 120