المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التوبة والعمل الصالح: - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٥١

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌ مذهب الحنفية:

- ‌ مذهب المالكية:

- ‌ مذهب الشافعية:

- ‌ مذهب الحنابلة:

- ‌الفتاوى

- ‌ تسريح الشعر كل يوم

- ‌ تعريف المكروه

- ‌ تعريف الشرط

- ‌ حكم الخلاف بين الأئمة الأربعة

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌الاحتفال بالموالد بدعة ومن أسباب الشرك

- ‌كل أسماء الله تدل على الذات والصفة

- ‌توحيد الربوبية أمر معترف به عند الأمم

- ‌الله سبحانه أعلم بكيفية نزوله

- ‌ الصدقة والحج عمن كان يذبح لغير الله

- ‌إهداء بعض أعمال الخير للميت

- ‌ما يجوز إهداؤه للميت وما لا يجوز

- ‌حكم الطواف وختم القرآن للأموات

- ‌الطريق الأمثل للاستقامة على المنهج القويم

- ‌من صفات أهل العلم

- ‌حكم دخول الكفار المساجد

- ‌من رأى في المنام ما يكره

- ‌إهداء تلاوة القرآن الكريم للآخرين

- ‌قراءة القرآن في أوقات العمل

- ‌حكم قراءة القرآن في منزل فيه كلب

- ‌حكم قراءة القرآن على الميت ووضع المصحف على بطنه

- ‌من ينظر في المصحف دون تحريك الشفتين هل يثاب على ذلك

- ‌علاج الأمراض العضوية بالقرآن

- ‌ترجمة موجزة للإمام إسحاق الحربي

- ‌ رسالة الإمام أحمد إلى الخليفة المتوكل في مسألة القرآن

- ‌التعاون بين الدعاة مبادئه وثمراته

- ‌تعريف:التعاون

- ‌التعاون ضرورة إنسانية:

- ‌فضل التعاون:

- ‌التعاون وغاية الدعوة:

- ‌أقسام الناس في التعاون:

- ‌ميادين التعاون:

- ‌الصفات الشخصية وأثرها في تحقيق التعاون:

- ‌عقد الأخوة الإيمانية:

- ‌الإخلاص:

- ‌البعد عن التعصب والحزبية:

- ‌فقه الاختلاط:

- ‌صفات المعين:

- ‌ثمار التعاون:

- ‌خاتمة:

- ‌التوبة في منهج القرآن الكريم

- ‌مقدمة:

- ‌معاني التوبة في القرآن الكريم:

- ‌الشروط الواجب توافرها للتوبة:

- ‌التوبة واقترانها بالإيمان:

- ‌التوبة واقترانها بالصلاة والزكاة:

- ‌التوبة والعمل الصالح:

- ‌خاتمة البحث:

- ‌الشيخ محمد بن إبراهيمعالم الديار السعودية وفقيهها

- ‌المقدمة:

- ‌مولده ونشأته:

- ‌طلبه العلم:

- ‌جلوسه للطلبة:

- ‌أبرز تلاميذه:

- ‌مؤلفاته:

- ‌أعماله:

- ‌تقديره للعلماء:

- ‌أخلاقه وصفاته:

- ‌شعره:

- ‌نماذج من فتاواه:

- ‌وفاته:

- ‌الخاتمة:

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌التوبة والعمل الصالح:

التقدير لمهام رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعية وعدم الشعور بقيمة وقته، وبجدية الخلوة به، وأنها لا تكون إلا لأمر ذي بال، فشاء الله أن يشعرهم بهذه المعاني بتقرير ضريبة للجماعة من مال الذي يريد أن يخلو برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقتطع من وقته الذي هو من حق الجماعة في صورة صدقة يقدمها قبل أن يطلب المناجاة والخلوة. . . ولكن الأمر شق على المسلمين، وعلم الله ذلك منهم، وكان الأمر قد أدى غايته، وأشعرهم بقيمة الخلوة التي يطلبونها، فخفف الله عنهم، ونزلت الآية التالية برفع هذا التكليف، وتوجيههم إلى العبادات والطاعات المصلحة للقلوب (1).

إن صاحب الظلال قد وضع يده على الأهداف السامية التي أرادها الله سبحانه وتعالى من الجماعة الإسلامية، وهو إحساسهم بقيمة الوقت بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا الوقت يجب أن يكون خالصا لجماعة المسلمين بعامة، إلا إذا كانت هناك ضرورة ملحة لبعض الأفراد بالانفراد بالرسول صلى الله عليه وسلم شريطة ألا يطغى ذلك على مصلحة الجماعة. ولقد استجاب المسلمون لهذه التربية العالية التي أمرهم بها ربهم جل وعلا، وإذا كان الأمر كذلك فيطيب لنا أن نتناول بالعرض والإبانة الموضوع الثالث: وهو اقتران التوبة بالعمل الصالح، والله الهادي والموفق إلى ما يحب ويرضى.

(1) راجع في ظلال القرآن، 8/ 21 بتصرف

ص: 262

‌التوبة والعمل الصالح:

خلق الله تعالى الإنسان، وزوده بقوى وطاقات لا حصر

ص: 262

لها، وما زال العلم يكشف عنها يوما بعد يوم، مما يجعل العقول تصاب بالدهشة والانبهار.

والإسلام يعمل دائما على توجيه هذه الطاقات توجيها حسنا في طريق العمل والإنتاج، على أساس من شرائعه ومبادئه، والعمل في منهج الإسلام، هو العمل المقبول عند الله تعالى، لأنه يسير حسب شرائعه ووحيه، قال الله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (1)، وقال أيضا:{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2).

يجزيهم الله أحسن ما عملوا؛ لأنهم لا يغفلون عن أداء حق الله في الصلاة، وأداء حق العباد في الزكاة {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (3).

تتقلب فلا تثبت على شيء من الهول والكرب والاضطراب، وهم يخافون ذلك اليوم؛ فلا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وهم مع هذا الخوف يعلقون رجاءهم بثواب الله {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} (4) والعمل في منهج الإسلام دعامة الحياة، ووسيلة لتحقيق دور الخلافة في الأرض، قال تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (5)

(1) سورة الأحقاف الآية 16

(2)

سورة النور الآية 38

(3)

سورة النور الآية 37

(4)

سورة النور الآية 38

(5)

سورة التوبة الآية 105

ص: 263

إن الندم والتوبة ليسا نهاية المطاف، ولكنه العمل الذي يعقب الندم والتوبة، وللنية الطيبة مكانها، ولكنها هي بذاتها ليست مناط الحكم والجزاء، إنما تحسب مع العمل، فتحدد قيمة العمل، وهذا معنى الحديث:«إنما الأعمال بالنيات (1)» الأعمال. . لا مجرد النيات.

ولهذا لما «سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي الكسب أطيب قال: عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور (2)» .

وعن أنس رضي الله عنه قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا منزلا في يوم حار، أكثرنا ظلا صاحب الكساء، فمنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوام -إعياء- وقام المفطرون فضربوا الأبنية، وسقوا الركاب.

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله (3)».

بل إن الإسلام عد الإقبال على العمل والتشمير عن ساعد الجد فيه ضربا من الجهاد في سبيل الله، «مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل

(1) رواه البخاري في صحيحه 1/ 2 كتاب بدء الوحي، ومسلم في صحيحه 2/ 1515 كتاب الإمارة، باب بيان قدر ثواب من غزا فغنم ومن لم يغنم

(2)

رواه أحمد في مسنده 4/ 141 عن رافع بن خديج

(3)

الحديث أخرجه مسلم في الصيام 97، وأبو داود في الصوم 42، والترمذي في الصوم 19، والنسائي في الصيام 52، 59، وأحمد بن حنبل في المسند 3/ 87، 12، 6/ 402 / 59

ص: 264

فرأى أصحاب الرسول من جلده ونشاطه في الاكتساب والارتزاق ما حملهم على الكلام فيه، قالوا: يا رسول الله لو كان في سبيل الله هذا؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفخرة فهو في سبيل الشيطان (1)».

ومن هنا جاءت التوبة مرتبطة بالعمل الصالح في كثير من آيات القرآن الكريم؛ من ذلك قوله الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2).

فإذا أردنا أن نتعرف على أقوال المفسرين في هذه الآية، نرى الإمام الطبري يستهل حديثه عن هذه الآية بقوله: " إلا من أناب من كتمانه ذلك منهم، وراجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والإقرار به وبنبوته، وتصديقه فيما جاء به من عند الله، وبيان ما أنزل الله في كتبه التي أنزل إلى أنبيائه، من الأمر باتباعه، وأصلح حال نفسه بالتقرب إلى الله من صالح الأعمال بما يرضيه عنه، وبين الذي علم من وحي الله الذي أنزله إلى أنبيائه، وعهد إليهم

(1) الحديث أخرجه مسلم في الزكاة 38، والترمذي في البر 42، وأحمد بن حنبل في المسند 5/ 284

(2)

سورة البقرة الآية 160

ص: 265

في كتبه فلم يكتمه، وأظهره فلم يخفه فأولئك يعني هؤلاء الذين فعلوا هذا الذي وصفت منهم، وهم الذين أتوب عليهم، فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي والإنابة إلى مرضاتي " (1).

فنرى الطبري اشترط لتوبة الله على عباده شروطا ثلاثة:

أولا: الإيمان الكامل بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والتصديق بكل ما جاء به من عند ربه.

ثانيا: إصلاح حال نفسه بالتقرب إلى ربه، والعمل على مرضاته، والمداومة على هذا العمل.

ثالثا: عدم كتمان ما أنزل الله على رسوله، بل عليه إذاعته وإشاعته بين الناس، حتى يكون من المقبولين الذين قال الله تعالى عنهم:{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} (2).

ويقول ابن عطية: ثم استثنى الله تعالى التائبين الذين أصلحوا في أعمالهم وأقوالهم.

ثم يوضح أن توبة الله على عبده: هي رجوعه به من المعصية إلى الطاعة (3).

ولا نرى أن ابن عطية قد أضاف جديدا عما وضحه، وبين معالمه شيخ المفسرين الطبري.

أما عند الإمام القرطبي فهو يقول عند تفسيره لهذه الآية:

(1) راجع تفسير الطبري، 3/ 259

(2)

سورة التوبة الآية 118

(3)

المحرر الوجيز لابن عطية، 2/ 45

ص: 266

" استثنى الله تعالى التائبين الصالحين لأعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم، ولا يكفي في التوبة عند علمائنا قول القائل: قد تبت، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول، فإن كان مرتدا رجع إلى الإسلام مظهرا شرائعه، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح، وجانب أهل الفساد والأحوال التي كان عليها، وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه "(1).

إن الإمام القرطبي وضع نصب عينيه عند تفسيره لهذه الآية أن التوبة إسلام جديد، والإسلام كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم يجب ما قبله (2). فهو يرى أن التائب يعود إنسانا جديدا في كل تصرفاته وأحواله، ينسلخ من جهالته الأولى ليكون المؤمن التقي الورع الذي يخاف الله ويخشاه، ويجعل بينه وبين حياته الأولى وتصرفاته السابقة سدا منيعا من الحصانة والوقاية وخشية الله تعالى في السر والجهر.

فإذا تركنا الإمام القرطبي، واتجهنا إلى العالم المعاصر ابن عاشور، فنراه يتأثر بما قاله ابن مسعود: إن الآية خاصة بمن تاب من اليهود.

فنراه يقول: " وشرط للتوبة أن يصلحوا ما كانوا أفسدوا، وهو بإظهار ما كتموه وأن يبينوه للناس، فلا يكفي اعترافهم وحدهم، أو في خلواتهم، فالتوبة هنا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنه

(1) تفسير القرطبي، 2/ 187

(2)

الحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند، 4/ 199، 201، 205

ص: 267

رجوع عن كتمانهم الشهادة له الواردة في كتبهم، وإطلاق التوبة على الإيمان بعد الكفر وارد كثيرا في كتاب الله؛ لأن الإيمان هو توبة الكافر من الكفر، وإنما زاد بعده {وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (1) لأن شرط كل توبة أن يتدارك التائب ما يمكن تداركه مما أضاعه بفعله الذي تاب عنه " (2).

ثانيا: قال الله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (3).

قال الإمام القرطبي: فآذوهما قال قتادة والسدي: معناه التوبيخ والتعيير، وقالت فرقة: هو السب والجفاء دون تعيير، قال ابن عباس: النيل باللسان والضرب بالنعال.

واختلف العلماء في تأويل قوله تعالى: واللاتي وقوله: واللذان فقال مجاهد وغيره: الآية الأولى في النساء عامة محصنات وغير محصنات، والآية الثانية في الرجال خاصة، وبين لفظ التثنية صنفي الرجال من أحصن ولم يحصن، فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى، وهذا قول يقتضيه اللفظ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة، ويؤيده من جهة اللفظ قوله في الأولى: من نسائكم وفي الثانية: منكم.

وقوله تعالى: فإن تابا أي: من الفاحشة.

وأصلحا يعني العمل فيما بعد ذلك. فأعرضوا أي:

(1) سورة البقرة الآية 160

(2)

تفسير ابن عاشور، 2/ 72.

(3)

سورة النساء الآية 16

ص: 268

اتركوا أذاهما وتعييرهما، وإنما كان هذا قبل نزول الحدود.

فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية، وليس المراد بالإعراض الهجرة، ولكنها متاركة معرض، وفي ذلك احتقار لهم بسبب المعصية المتقدمة، وبحسب الجهالة في الآية الأخرى.

والله تواب أي: راجع بعباده عن المعاصي (1).

لقد جلى القرطبي الآية ووضحها وأزال ما وقع فيه العلماء من لبس وتخبط لا يسنده دليل، ولا يؤيده نص، ومع هذه التجلية جاء في النهاية وأيد ما قاله العلماء من نسخ هذه الآية، ولكنه لم يوضح لنا العقوبة الواقعة على الرجلين اللذين يأتيان هذه الفاحشة المنكرة بعد نزول الحدود.

وإذا كان هذا ما قاله صاحب الجامع لأحكام القرآن في القرن السابع الهجري، فماذا يمكن أن يضيفه صاحب الظلال في القرن الخامس عشر للهجرة؟ يقول سيد قطب في قوله تعالى:{فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} (2) فالتوبة والإصلاح -كما سيأتي- تعديل أساسي في الشخصية والكينونة والوجهة والطريق والعمل والسلوك، ومن ثم تقف العقوبة، وتكف الجماعة عن إيذاء المنحرفين الشاذين، وهذا هو الإعراض عنهما في هذا الموضوع، أي: الكف عن الإيذاء. . {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (3) وهو الذي شرع العقوبة، وهو الذي يأمر بالكف عنها عند التوبة والإصلاح، ليس

(1) راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 5/ 86، 90.

(2)

سورة النساء الآية 16

(3)

سورة النساء الآية 16

ص: 269

للناس من الأمر شيء في الأولى، وليس لهم من الأمر شيء في الأخيرة، إنما هم ينفذون شريعة الله وتوجيهه، وهو تواب رحيم، يقبل التوبة ويرحم التائبين.

واللمسة الثانية في هذه الإيماءة، هي توجيه قلوب العباد للاقتباس من خلق الله، والتعامل فيما بينهم بهذا الخلق، وإذا كان الله توابا رحيما، فينبغي لهم أن يكونوا هم فيما بينهم متسامحين رحماء أمام الذنب الذي سلف، وأعقبه التوبة والإصلاح، إنه ليس تسامحا في الجريمة، وليس رحمة بالفاحشين، فهنا لا تسامح ولا رحمة، ولكن سماحة ورحمة بالتائبين المتطهرين المصلحين، وقبولهم في المجتمع، وعدم تذكيرهم وتعييرهم بما كان منهم من ذنب تابوا عنه، وتطهروا منه، وأصلحوا حالهم بعده، فينبغي -حينئذ- مساعدتهم على استئناف حياة طيبة نظيفة كريمة، ونسيان جريمتهم حتى لا يثير في نفوسهم التأذي كلما واجهوا المجتمع بها، مما قد يحمل بعضهم على الانتكاس والارتكاس واللجاج في الخطيئة، وخسارة أنفسهم في الدنيا والآخرة، والإفساد في الأرض، وتلويث المجتمع، والنقمة عليه في ذات الأوان.

وقد عدلت هذه العقوبة كذلك -فيما بعد- فروى أهل السنن حديثة مرفوعا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به (1)»

(1) الحديث أخرجه أبو داود في كتاب الحدود 29 باب فيمن عمل عمل قوم لوط 4462 بسنده عن ابن عباس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .. " وذكره، والترمذي في الحدود حديث 1456 باب في حد اللوطي، وابن ماجه في الحدود حديث 2564 باب من عمل عمل قوم لوط، ونسبه المنذري للنسائي أيضا ولفظه عنده:" لعن الله من عمل عمل قوم لوط " كررها ثلاثا.

ص: 270

وتبدو في هذه الأحكام عناية المنهج الإسلامي بتطهير المجتمع الإسلامي من الفاحشة، ولقد جاءت هذه العناية مبكرة.

فالإسلام لم ينتظر حتى تكون له دولة في المدينة، وسلطة تقوم على شريعة الله، وتتولاها بالتنفيذ؟ فقد ورد النهي عن الزنا في سورة الإسراء المكية قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (1).

كما ورد في سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (2){الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (3){وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (4){وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (5){وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (6){إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (7).

وكرر هذا القول في سورة المعارج. ويتابع صاحب الظلال حديثه قائلا: " ولكن الإسلام لم تكن له في مكة دولة، ولم تكن له فيها سلطة، فلم يسن العقوبات لهذه الجريمة التي

(1) سورة الإسراء الآية 32

(2)

سورة المؤمنون الآية 1

(3)

سورة المؤمنون الآية 2

(4)

سورة المؤمنون الآية 3

(5)

سورة المؤمنون الآية 4

(6)

سورة المؤمنون الآية 5

(7)

سورة المؤمنون الآية 6

ص: 271

نهى عنها في مكة، إلا حين استقامت له الدولة والسلطة في المدينة، ولم يعتبر النواهي والتوجيهات وحدها كافية لمكافحة الجريمة، وصيانة المجتمع من التلوث، فلما أن أصبحت له دولة أخذ يزاول سلطته في صون المجتمع من الفاحشة عن طريق العقوبة والتأديب، إلى جانب التوجيه والموعظة " (1).

إن صاحب الظلال يحصر تصوراته في هذه الآية في نقاط ثلاث: الأولى:

الأولى: ما يطلق عليه تعديل أساسي في الشخصية الإنسانية التي كانت منحرفة عن الطريق السوي، فهي تسير على غير هدى من وحي، أو دليل من عقل، وتتخبط من جراء وسوسة الشيطان لها، حتى إذا تابت، وآبت، واستقامت على الصراط المستقيم، أصبحت لا يغريها لهو الحديث، ولا يأخذ بلبها بهرج الدنيا وزخرفها.

الثانية: على المجتمع الإسلامي الاتباع لا الابتداع، والتخلق بأخلاق الله تعالى التي أمرنا بها، وما دام الله قد حرم الظلم على نفسه، وأمرنا بعدم التظالم، فعلينا السمع والطاعة.

وما دام الله رؤوفا رحيما، فعلينا أن نرحم هؤلاء الذين عادوا إلى طريق الإيمان؛ فلا نؤذيهم بقارع القول، ولا نكون عونا للشيطان عليهم، بل علينا أن نساعدهم لاستئناف حياتهم الجديدة الطاهرة الملتزمة بتعاليم الإسلام.

(1) في ظلال القرآن بتصرف، 2/ 277، 278.

ص: 272

الثالثة: حرص الإسلام على سلامة مجتمعه من الفحش والتفاحش حتى وقبل أن تكون له دولة تقيم الحدود، وترد الباغين عن تلويث المجتمع كانت له توجيهاته السليمة في التنفير من الزنا وأساليب المنكر، واستمر الوضع على ذلك حتى أقيمت دولته، عندها شرعت الحدود وقننت العقوبات؛ لأن الله يزع بالسلطان ما لم يزع بالقرآن.

ثالثا: قال الله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (1).

قال الله سبحانه وتعالى ذلك بعد قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (2). وسنحاول بمشيئة الله أن تكون لنا سياحة مع المفسرين، وأقوال المفكرين الإسلاميين لنتعرف على تفسيرهم لهذه الآية.

قال ابن الجوزي في تفسيره: " قال مقاتل: سبب نزولها أن قوما قالوا عند ذكر مستقر المنافقين، فقد كان فلان وفلان منافقين، فتابا، فكيف يفعل بهم؟ فنزلت هذه الآية، وعلى هذا يكون المعنى: إلا الذين تابوا من النفاق وأصلحوا أعمالهم بعد التوبة "(3).

(1) سورة النساء الآية 146

(2)

سورة النساء الآية 145

(3)

زاد المسير لابن الجوزي، 2/ 234.

ص: 273

وكأن الصحابة رضوان الله عليهم قد تعجبوا من توبة المنافقين الذين وصفهم الله تعالى: بأنهم في الدرك الأسفل من النار، دليله ما رواه الإمام البخاري في صحيحه بسنده عن الأسود قال: " كنا في حلقة عبد الله، فجاء حذيفة حتى قام علينا فسلم، ثم قال: لقد نزل النفاق على قوم خير منكم، قال الأسود: سبحان الله؟ إن الله يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1). فتبسم عبد الله، وجلس حذيفة في ناحية المسجد، فقام عبد الله فتفرق أصحابه، فرماني بالحصى فأتيته، فقال حذيفة: عجبت من ضحكه وقد عرف ما قلت، لقد أنزل النفاق على قوم كانوا خيرا منكم ثم تابوا، فتاب الله عليهم.

قال الحافظ ابن حجر: " ويستفاد من قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) صحة توبة الزنديق وقبولها على ما عليه الجمهور، فإنها مستثناة من المنافقين من قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (3) وقد استدل بذلك جماعة، منهم: أبو بكر الرازي في كتابه أحكام القرآن "(4).

وقال ابن عاشور في تفسيره: " واستثنى من هذا الوعيد من آمن من المنافقين، وأخلص دينه له، فلم يشبه بتردد ولا تربص

(1) سورة النساء الآية 145

(2)

سورة النساء الآية 146

(3)

سورة النساء الآية 145

(4)

راجع صحيح البخاري، 8/ 200.

ص: 274

بانتظار من ينتظر من الفريقين، المؤمنين والكافرين، فأخبر أن من صارت حاله إلى هذا الخبر فهو مع المؤمنين " (1).

وما قاله ابن عاشور لا يخرج عما جاء في صحيح البخاري من أن الآية نزلت في توبة المنافقين.

وقال صاحب الظلال-: " وفي مواضع أخرى كان يكتفي بأن يقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا} (2) فالتوبة والإصلاح يتضمنان الاعتصام بالله، وإخلاص الدين له، ولكنه هنا ينص على الاعتصام بالله، وإخلاص الدين لله؛ لأنه يواجه نفوسا تذبذبت، وتولت غير الله؛ فناسب أن ينص عند ذكر التوبة والإصلاح على التجرد لله، والاعتصام به وحده، وخلاص هذه النفوس من تلك المشاعر المذبذبة، وتلك الأخلاق المخلخلة ليكون في الاعتصام بالله وحده قوة وتماسك، وفي الإخلاص لله وحده خلوص وتجرد.

وبذلك تخف تلك الثقلة التي تهبط بالمنافقين في الحياة الدنيا إلى اللصوق بالأرض، وتهبط بهم في الحياة الآخرة إلى الدرك الأسفل من النار، وبذلك يرتفع المؤمنون منهم إلى مصاف المؤمنين المعتزين بعزة الله وحده، المستعلين بالإيمان، المنطلقين من ثقلة الأرض بقوة الإيمان {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (3).

وبهذه اللمسات المنوعة يكشف حقيقة المنافقين في

(1) راجع تفسير ابن عاشور، 5/ 244.

(2)

سورة النساء الآية 146

(3)

سورة النساء الآية 146

ص: 275

المجتمع المسلم ويقلل من شأنهم، وينبه المؤمنين إلى مزالق النفاق، ويحذرهم مصيره، ويفتح باب التوبة للمنافقين، ليحاول من فيه منهم خير أن يخلص نفسه، وينضم إلى الصف المسلم في صدق وحرارة وفي إخلاص " (1).

وفي هذه الآية تتجلى شفافية صاحب الظلال، فنراه يبرز نقاطا جديدة في تفسير الآية، تستروحها نفوس القابضين على دينهم في القرن العشرين، فتأخذ بمجامع قلوبهم وتزيدهم قوة إيمان وتسلحهم بأسلحة واقية ضد طغيان المادية، وضلالات أصحابها، ومن هذه النقاط:

أ- أنه أبرز الجديد الذي تتفرد به هذه الآية عن نظيراتها من الآيات الأخرى، وهو الاعتصام بالله، واللجوء إلى حماه، حتى تستقر نفوسهم، وتطمئن قلوبهم، ويهجرون النفاق والمنافقين إلى غير رجعة.

ب- أن الله تعالى هو مقلب قلوب العباد وأمرهم بيده، فلا غضاضة ولا مشاحة في نقل هؤلاء الذين توعدهم بأنهم في الدرك الأسفل من النار إلى مصاف المؤمنين الآيبين العائدين إلى ربهم:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2).

ج- التهوين من شأن المنافقين المصرين على نفاقهم في

(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، 2/ 565.

(2)

سورة يس الآية 82

ص: 276

المجتمع الإسلامي، وأن أمرهم إلى بوار، وكيدهم إلى ضلال، وأموالهم التي ينفقونها للصد عن سبيل الله ستكون عليهم حسرة وندامة، كما قال تعالى:{فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} (1).

رابعا: قال الله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).

قال ابن عاشور في تفسيره: " أي: من تاب من السارقين من بعد السرقة تاب الله عليه، أي: قبلت توبته، وليس في الآية ما يدل على إسقاط عقوبة السرقة عن السارق إن تاب قبل عقابه؛ لأن ظاهر [تاب- وتاب الله عليه، أنه فيما بين العبد وبين ربه في جزاء الآخرة، فقوله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} (3) ترغيب لهؤلاء العصاة في التوبة، وبشارة لهم، ولا دليل في الآية على إبطاله حكم العقوبة في بعض الأحوال، كما في آية المحاربين، فلذلك قال جمهور العلماء: توبة السارق لا تسقط القطع، ولو جاء تائبا قبل القدرة عليه، ويدلك لصحة قولهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد المخزومية، ولا شك أنها تائبة "(4). وقال في ذلك لأسامة بن زيد: «أتشفع في حد من حدود الله، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها (5)»

(1) سورة الأنفال الآية 36

(2)

سورة المائدة الآية 39

(3)

سورة المائدة الآية 39

(4)

تفسير ابن عاشور، 6، 7:193.

(5)

أخرجه البخاري في الأنبياء، 4/ 213، باب حدثنا أبو اليمان .. إلخ، وفي الحدود 8/ 9 باب كراهة الشفاعة في الحد، ومسلم في الحدود حديث 1688 باب قطع السارق الشريف وغيره، والترمذي في الحدود حديث 2547 باب الشفاعة في الحدود، والنسائي في قطع السرقة حديث 4905، وأبو داود في الحدود 4 باب في الحد يشفع فيه حديث 4373.

ص: 277

ثم ذكر ابن عاشور رواية عن عطاء: إن جاء السارق تائبا قبل القدرة عليه سقط عنه القطع، ونقل هذا عن الشافعي، وهو من حمل المطلق على المقيد حملا على حكم المحارب، وهذا يشبه أن يكون من متحد السبب، مختلف الحكم والتحقيق.

ثم رد ابن عاشور على هذه الرواية بقوله: " إن آية الحرابة ليست من المقيد، بل هي حكم مستفاد استقلالا، وأن الحرابة والسرقة ليسا سببا واحدا فليست المسألة من متحد السبب ولا من قبيل المطلق الذي قابله مقيد "(1).

وما قاله العالم الجليل ابن عاشور قد سبقه إليه الإمام القرطبي عند تناوله لهذه الآية حيث قال: " إن الله تعالى لما ذكر حد المحارب قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (2) وعطف عليه حد السارق وقال: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (3) فلو كان مثله في الحكم ما غاير الحكم بينهما.

قال ابن العربي: ويا معشر الشافعية سبحان الله أين الدقائق

(1) تفسير ابن عاشور، 7/ 193.

(2)

سورة المائدة الآية 34

(3)

سورة المائدة الآية 39

ص: 278

الفقهية والحكم الشرعية التي تستنبطونها من غوامض المسائل؟. . . إلى أن قال: " وإذا ثبت أن الحد لا يسقط بالتوبة، فالتوبة مقبولة، والقطع كفارة له "(1).

ونحن نميل إلى ما ذهب إليه ابن عاشور، والإمام القرطبي، وابن العربي في أن التوبة لا تسقط حد السرقة.

وإذا كان الأمر كذلك فما موقف صاحب الظلال من هذه الآية؟ يقول: يفتح الله باب التوبة لمن يريد أن يتوب على أن يندم ويرجع ويكف، ثم لا يقف عند هذه الحدود السلبية، بل يعمل عملا صالحة، ويأخذ في خير إيجابي {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).

فالظلم عمل إيجابي شرير مفسد، ولا يكفي أن يكف الظالم عن ظلمه ويقعد، بل لا بد أن يعوضه بعمل إيجابي خير مصلح.

على أن الأمر في المنهج الرباني أعمق من هذا، فالنفس الإنسانية لا بد أن تتحرك، فإذا هي كفت عن الشر والفساد ولم تتحرك للخير والصلاح بقي فيها فراغ وخواء قد يرتدان بها إلى الشر والفساد، فأما حين تتحرك إلى الخير والصلاح فهي تأمن الارتداد إلى الشر والفساد، بهذه الإيجابية، وبهذا الامتلاء. . إن الذي يربي بهذا المنهج هو الله الذي خلق، والذي يعلم من خلق.

(1) تفسير ابن عاشور، 7/ 402 / 73.

(2)

سورة المائدة الآية 39

ص: 279

وعلى ذكر الجريمة والعقوبة، وذكر التوبة والمغفرة، ويعقب السياق القرآني بالمبدأ الكلي الذي تقوم عليه شريعة الجزاء في الدنيا والآخرة، فخالق هذا الكون ومالكه هو صاحب المشيئة العليا فيه، وصاحب السلطان الكلي في مصائره، هو الذي يقرر مصائره ومصائر من فيه، كما أنه هو الذي يشرع للناس في حياتهم، ثم يجزيهم على عملهم في دنياهم وآخرتهم (1).

ونأخذ مما قاله ابن عاشور، والقرطبي، وسيد قطب، من مضامين هذه الآية النقاط التالية:

أ- أن حكم الحرابة مباين لحكم السارق، وأن توبة السارق لا تسقط عنه الحد.

ب- أن الندم توبة، والتوبة ليست عملا سلبيا تقف عند الإقرار بالذنب، والإنابة إلى الله، والتوبة إليه، بل يجب أن تتحول إلى عمل إيجابي يتمثل في عمل الصالحات، والكف عن المحرمات والمساهمة الفعلية في إقامة شرع الله في الأرض.

ج- أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق لهذا الكون بكل ما فيه وعليه {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (2) ما دام الأمر كذلك فهو المتصرف الحاكم لخلقه {يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (3) فلا يتحركون إلا بأمره، ولا يتوبون إلا

(1) في ظلال القرآن لسيد قطب، 2/ 886

(2)

سورة فاطر الآية 3

(3)

سورة الشورى الآية 13

ص: 280

بإذنه، قال تعالى:{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} (1) فقبل إرادته ومشيئته ما كانت لهم توبة وما وجد لهم عزم عليها.

خامسا: فقال الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2).

وإذا كان الأمر كذلك فما هي الجهالة في مفهوم الشرع، وعند علماء اللغة؟ يقال: الجهل نقيض العلم والجمع جهل وجهال، ويقسمه بعضهم إلى ثلاثة أضرب: الأول: خلو النفس من العلم، وقد جعل بعض المتكلمين الجهل معنى مقتضيا للأفعال الخارجة عن النظام، كما جعل العلم معنى مقتضيا للأفعال الجارية على النظام، الثاني: اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه.

الثالث: فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا (3).

والجهالة عند الإمام القرطبي تعم الكفر والمعاصي، فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته، قال قتادة: أجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية فهي بجهالة، عمدا كانت أو جهلا، وقاله ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد

(1) سورة التوبة الآية 118

(2)

سورة الأنعام الآية 54

(3)

راجع بصائر ذوي التمييز، 2/ 406.

ص: 281

والسدي، وروي عن الضحاك ومجاهد أنهما قالا: الجهالة هنا العمد، وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة، يريد الخاصة بها، الخارجة عن طاعة الله، وهذا القول جار مع قوله تعالى:{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} (1).

وقال الزجاج: يعني قوله: بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية، وقيل: بجهالة أي: لا يعلمون كنه العقوبة (2).

وقد رأى المفسرون في هذه الآية وضوحا وبيانا؛ فلم يقفوا عندها كثيرا، وتكاد تكون آراؤهم التي ذكروها فيها متقاربة ومتحدة سواء ما ذكره الإمام ابن كثير (3) أو ما دبجته يراعة الألوسي (4)، أو ابن عاشور (5)؛ لهذا اكتفينا بما ذكره القرطبي عن الجهالة والجهل.

سادسا: قال الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (6). ولقد تناول هذه الآية العديد من الشراح والمفسرين، من ذلك أن ابن عطية بدأها بقوله: " ولما حذر الله تبارك وتعالى غضبه والطغيان في نعمه، فتح باب الرجاء للتائبين؛

(1) سورة محمد الآية 36

(2)

راجع تفسير القرطبي 5/ 92.

(3)

التفسير العظيم 2/ 146.

(4)

تفسير الألوسي 7/ 164.

(5)

تفسير ابن عاشور 76/ 259.

(6)

سورة طه الآية 82

ص: 282

لأن التوبة فرض على جميع الناس؛ لقوله تعالى في سورة النور: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} (1).

والناس فيها مراتب: أما مواقع الذنوب وقدرته على ذلك باقية فتوبته الندم على ما مضى، والإقلاع التام عن مثله في المستقبل، وأما الذي واقع الذنب ثم زالت قدرته على ذلك، ممن شيخ أو بآفة فتوبته الندم واعتقاد الترك إن كانت له قدرة، وأما من لم يواقع ذنبا فتوبته العزم على ترك كل ذنب.

والتوبة من ذنب تصح مع الإقامة على غيره، وهي توبة مقيدة، وإذا تاب العبد، ثم عاود الذنب بعينه بعد مدة، فيحتمل عند حذاق أهل السنة ألا يعيد الله تعالى عليه الذنب الأول؛ لأن التوبة قد كانت محضة، ويحتمل أن يعيده؛ لأنها توبة لم يوف بها" (2).

وخلاصة ما قاله ابن عطية في هذا الصدد يمكن إجماله فيما يأتي:

أ- أن التوبة فرض فرضه الله تعالى على" جميع خلقه، ويؤيده ما جاء في الحديث «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون (3)»

(1) سورة النور الآية 31

(2)

راجع المحرر الوجيز لابن عطية 10/ 68.

(3)

الحديث أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد 4251 بسنده عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وذكره، والترمذي في القيامة 49، والدارمي في الرقاق 18، وأحمد بن حنبل في المسند 3/ 198.

ص: 283

ب- قسم التوبة بحسب الذنب وطبيعة مرتكب الذنب إلى عدة مراتب.

ج- عودة التائب إلى ارتكاب المعصية التي تاب عنها موكولة أمره إلى خالقه تعالى، إن شاء حاسبه على ما قدم وأخر، وإن شاء تجاوز له عما كان قد تاب عنه.

هذه خلاصة مركزة لتخريجات ابن عطية في هذه الآية، الذي عاش القرن السادس الهجري، فماذا تراه يقول صاحب الظلال الذي عاش في قرننا هذا وشاهد عن كثب سلوكيات النفس البشرية وهي تتحرر وتنسلخ من الكثير الذي نادت به الشرائع وأمر به خالق الإنسان.

يقول سيد قطب: " التوبة ليست كلمة تقال، وإنما هي عزيمة في القلب يتحقق مدلولها بالإيمان والعمل الصالح، ويتجلى أثرها في السلوك العملي في عالم الواقع، فإذا وقعت التوبة، وصح الإيمان، وصدقه العمل فهنا يأخذ الإنسان في الطريق على هدى من الإيمان، وعلى ضمانة من العمل الصالح، فالاهتداء هنا ثمرة ونتيجة للمحاولة والعمل "(1).

إن صاحب الظلال يترجم للتوبة؟ فيرفض أن تكون كلمة تقال باللسان فقط، وهو بهذا يتوافق مع ما قرره علماء الشرع من أن التوبة إسلام جديد، والإسلام: إقرار باللسان، وتصديق

(1) راجع في ظلال القرآن 5/ 489.

ص: 284

بالجنان، وعمل بالأركان.

إذن لا بد من تحقق العمل الصالح بعد الدخول في التوبة، العمل الذي لا تشوبه شائبة، ولا يميل عن الشرع قيد أنملة، فإذا تم ذلك، وأصبح العمل الصالح سلوكا ومنهجا للتائب، كانت له المغفرة من ربه، ووجده معه بالرعاية والعناية والكلاءة والحفظ في كل عمل يؤديه، وعند كل همسة يهمس بها، وعند كل خلجة يختلجها، قال الله تعالى:{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1).

معنا بالرعاية التي لا تقف عند حد، معنا بالتوفيق والسداد في أعمالنا وشئون حياتنا، معنا بالمغفرة والتجاوز عن صغائر الذنوب، كما قال تعالى:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} (2).

سابعا: قال الله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3).

يقول الإمام الفخر الرازي: قال أصحابنا: " إنه بعد التوبة لا بد من مضي مدة عليه لظهور حسن الحال حتى تقبل شهادته، وتعود ولايته، ثم قدروا تلك المدة بسنة، كما يضرب للعنين أجل سنة (4)

(1) سورة الحديد الآية 4

(2)

سورة النجم الآية 32

(3)

سورة النور الآية 5

(4)

. راجع تفسير الفخر الرازي 23/ 163 وتفسير آيات الأحكام للصابوني 2/ 59.

ص: 285

فقوله: وأصلحوا فيه دليل على أن التوبة وحدها لا تكفي، بل لا بد من ظهور أمارات الصلاح عليه، فإن هذا الذنب مما يتعلق بحقوق العباد، ولذلك شدد فيه.

ويقول صاحب الظلال: " قد اختلف الفقهاء في هذا الاستثناء، هل يعود إلى العقوبة الأخيرة وحدها؛ فيرفع عنه وصف الفسق ويظل مردود الشهادة؟ أم أن شهادته تقبل كذلك بالتوبة؟ فذهب الأئمة: مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته، وارتفع عنه حكم الفسق، وقال الإمام أبو حنيفة: إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فيرتفع الفسق بالتوبة، ويبقى مردود الشهادة، وقال الشعبي والضحاك: لا تقبل شهادته وإن تاب، إلا أن يعترف على نفسه أنه قال البهتان فيما قذف، فحينئذ تقبل شهادته، [وهذا القول الأخير: هو الذي اختاره صاحب الظلال لأنه في رأيه] إعلان براءة المقذوف باعتراف مباشر من القاذف، وبذلك يمحى آخر أثر للقذف "(1).

ونحن أيضا نرى أن تنفيذ هذا الرأي، فيه تطهير للمجتمع وتنظيم لسلوك أفراده، وتصفية لقلوبهم، وتربية لنفوسهم؛ فلا يدفعها الهوى والغرض، أو الحقد والشنآن على البغي على الآخرين، وقذفهم بما لم يقترفوه، دون دليل واضح أو بينة قائمة.

(1) راجع في ظلال القرآن 6/ 63، 64.

ص: 286