الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قاسية، ليحس في قرارة نفسه أنه مخطئ وعليه تدارك الخطأ، ولذا فإن القاضي لا يعلم ما قال الشيخ لخصومه، ولا الخصوم يعرفون رأي الشيخ في القاضي. . وهكذا الحال مع جميع طلبة العلم المرتبطين بالشيخ محمد رحمه الله. . وهذا ينبئ عن حسن أخلاقه وكمال علمه، ونظرته للأمور، وفكره الناضج. . ومع طيبة نفسه فلا أحد سبر غوره، أو يستطيع معرفة خفايا نفسه.
أخلاقه وصفاته:
جعل الله للإنسان أخلاقا يتطبع بها، ويمكنها في نفسه العلم الذي وهبه الله إياه، والعقل الذي يقود إلى الخير، بتوفيق الله. ورسول الله صلى الله عليه وسلم كما قالت عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن. كما يكون للإنسان صفات جبلت عليها طباعه، أو كانت جزءا من تكوينه الخلقي، الذي أوجده الله عليه.
والشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله قد منحه الله عقلا وعلما، فكان العلم بالنسبة له زينة وجمالا، وأضفى العقل عليه سربالا من المهابة والإجلال. . وكان هذا من توفيق الله له، بأن تحلى بالأخلاق النبيلة؛ ليكون مقصدا ومعينا لطلاب العلم يمحضهم نصحه وتوجيهه، ويرسم لهم أقوم الطرق وأسهلها حتى يعرفوا مداخل القلوب، فكان دمث الخلق، متواضعا، محبا للخير، رقيق القلب، حريصا على تلمس حاجات الناس، شجاعا
في كلمة الحق، لا يخاف في هذا السبيل لومة لائم، شديدا في قمع الفتنة، قوي الذاكرة.
وقد تحدث الشيخ محمد بن قاسم في نبذة من سيرته، ضمن مقدمة الجزء الأول من مجموع فتاواه عن أخلاقه، دمج فيها تحت هذا المسمى، أخلاقه وصفاته. . شأنه شأن غيره فكان من ذلك: أ- من أخلاقه:
1 -
الإخلاص في العمل، وعدم التبرم، أو التحدث عن العمل ومشاغله، حيث لم يكن طالب شهرة، ولا باحثا عن سمعة، بل كان يبتغي بعمله ما عند الله، والدفاع عن الحق.
2 -
ومع ما آتاه الله من مهابة في نفوس الناس، وصرامة في الحق، حيث يحسب محدثه الحساب الدقيق حتى لا يزل في كلمة، إلا أن الناس يجلونه ويحبونه؛ لأنه أنيس عند المخالطة، ألوف لمعاشريه بعيد عن الغلظة، يحسن الفرق بين مجالس الجد والعمل، ومجالس الراحة عندما يكون في سفر أو نزهة.
3 -
العفة والتورع عن أخذ ما ليس له، أو ما يرى فيه شبهة، فلم يعرف عنه الاشتغال بالبيع والشراء لا بالاستقلال ولا بالمشاركة.
4 -
كرهه الشديد للمديح والثناء، فقد كتب لشخص: ما ذكرتم
في خطابكم من الثناء نود ألا نسمعه، فنحن نستغفر الله ونتوب إليه من تقصيرنا وضعفنا، نسأله تعالى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه. وكتب لآخر: نفيدكم أنه جاء في خطابكم بعض العبارات مثل قولكم: عالم الوجود. تلك العبارة التي لا يصدر مثلها إلا عن جاهل.
5 -
راجح العقل، واسع الأفق، بعيد النظر، كثير التأني في إعطاء قراره فيما يتطلبه الأمر منه، شجاعا في إبداء رأيه، يقلب الأمر قبل قراره على أكثر من وجه، فإذا قرر مضى في قراره دون تردد أو تراجع، سمح النفس، كثير التبسط مع تلاميذه وموظفيه المباشرين للعمل مع سماحته، حاد الذكاء، عميق الفهم، كثير التروي والتأمل فيما يعرض عليه، مهيبا هيبة لم يكن أصلها غطرسة أو تجبر، وإنما هي مستمدة من الشعور العام عن سماحته بالقوة في جانب الحق، مهما كانت الجهة التي لديها الحق.
6 -
له أسلوب متميز في فحص ما يلقى عليه من معاملات والتحرير عليها من حيث الصياغة، واللغة، أو من حيث المعنى، أو من حيث العدول عما تم التوجيه من سماحته بالتحرير عليها.
7 -
حريص التوثق من أقوال أهل العلم، وكلما مرت عليه مسائل شرعية في العبادات أو المعاملات، فإنه يهتم باستذكار الحكم الشرعي، ويطلبه من أكثر من كتاب يتحدث عن المسألة التي عرضت، ولا تطيب نفسه إلا بعد التوثق. ويقول للشيخ عبد الله بن منيع: يا عبد الله الأعمال شغلتنا عن بضاعتنا، فلا بد من فرص نرجع فيها لكلام أهل العلم استذكارا أو استزادة في العلم والفهم، أو استبيانا لما قد يخفى علينا، وليس علينا نقص في ذلك.
8 -
طريقته في التأصيل تعطي العاملين معه ثقة وقدرة على التصرف في الأمور المهمة، حتى يتربوا على الشعور بتحمل المسئولية في مستقبل أيامهم، كما كان يعاملهم كأبنائه، لما يكنه لهم من المحبة والتقدير والعطف والشفقة، وقد ضرب الشيخ عبد الله بن منيع مثالا برسالة ألفها وجمع فيها أقوال أهل العلم: عن حكم ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر، حيث قام بالاعتراض عليها مجموعة من طلبة العلم، وأكثروا على سماحته بشأنها. . ومع هذا فقد تلطف للشيخ عبد الله، وقال: أنت أحد أولادي والوالد يقسو على أولاده وقد يضطر لعقابهم بما يراه، إلا أن ذلك لا يغير من الأبوة شيئا.
ب- من صفاته:
1 -
منحه الله ذاكرة قوية، وحافظة نادرة، فكان مع حفظه لأقوال العلماء، ومعرفته لمظانها من كتب العلم، كان يحفظ كثيرا من القصائد المطولة، وكانت المعاملة الطويلة التي تبلغ ثلاثمائة صفحة تقرأ عليه، ثم يملي ما يرى مستحضرا كل ما مر فيها من الجزئيات، ولم يكن غريبا منه أن يدل القارئين على مواضع الأبحاث في كتبها ذاكرا رقم الصفحة أحيانا.
2 -
بدت علائم الذكاء عليه وهو صغير، يقول الشيخ عبد الله بن منيع رواية عنه رحمه الله: كنت في آخر العام الثاني من عمري فدخلت والدتي غرفة نومها، فرأيتها تبحث عن شيء فظننت أن ذلك الشيء الذي تبحث عنه مكحلتها، فأشرت إليها أن المكحلة في طاق الغرفة، ففرحت بإشارتي وضمتني ضمة، لا أزال أتذكرها حتى يومي هذا.
وكان يدرك حقيقة ما يعرض عليه من المشكلات، فيكشف ما وراءها من الدوافع ببصيرته الفذة، ولا ينطلي عليه كيد أو احتيال. ورغم أنه لم يحمل الساعة في حياته فإنه يدرك الوقت ولا يكاد يخطئ فيه بضع دقائق.
3 -
قد رزقه الله قلبا طاهرا، فهو لا يحمل ضغينة على من أساء إليه، ولا ينتقم من أحد ناله بأذى؛ فكان يصفح ويتجاوز.
وهذه صفات نبيلة قل أن يقوى عليها، إلا من رزقه الله علما وحلما وبعد بصيرة، وتقوى لله عز وجل. ومع هذه الصفات فقد آتاه الله مهابة في نفوس الناس.
4 -
ولحرصه على أن تكون صفاته مستمدة من تعاليم القرآن، فقد كان يتنزه عن الغيبة والحديث في الآخرين بما يكرهون، وقد كان هذا سجية فيه منذ حداثة سنه، هذا إلى جانب الحظ الوافر من الشجاعة وقوة الشكيمة في الحق، حيث لا يخاف في الله لومة لائم أيا كان المخاطب.
5 -
عرف عنه رحمه الله إطالة التأمل، والتعمق في الأمور، وبعد النظر فيما يعرض عليه من القضايا التي جدت في الحياة، فكان لا يتعجل حتى يمعن في الدرس والتأمل، والنظر في العواقب. ومن ذلك هذان المثالان: أ- سئل عن افتتاح حمام فني فكتب ما نصه: لا أرى فتح مثل هذا الحمام في هذا البلد؛ لأن الضرر سيكون أكبر من النفع، ومثل هذه الأشياء تكون عادة وسيلة لفساد لم يخطر على بال الذي أسسها، ومهما حرصت الآن على مراعاة الآداب الشرعية والأخلاقية، فإنك لن تستطيع ذلك في المستقبل بعد فتح هذا الباب.
ب- وسئل عن إنشاء صندوق لسائقي السيارات فأجاب: إن اقتراح الذين اقترحوا جعل الصندوق مشروعا خيريا يحتاج إلى تقييد؛ لأنه وإن كانت طرق الخير مفتوحة أمام الراغبين إلا أنه ينبغي معرفة ما وراء ذلك، لئلا
تكون وسيلة إلى استباحة أشياء لا تجوز تحت اسم الشيء المسموح.
ونظرته رحمه الله البعيدة للاحتمالات التي تفتح مجالا غير مناسب، هو ما يحرص عليه كثير من علماء الإسلام في باب: سد الذرائع، حتى لا تفضي الأمور الصغيرة إلى الأمور الأكبر.
6 -
هذا إلى جانب ما عرف عنه من بذل وسخاء، وإكرام العلماء والقضاة، وخشيته لله، ورقة قلبه في العبادة، وملازمته إحياء الليل بالصلاة، وحرصه على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أموره.
7 -
حبه للعلم والعلماء منذ حداثة سنه، فصرف همته في العلم تعلما وتعليما، فرعى طلبة العلم وشجعهم وتواضع لهم، وسعى أمام ولاة الأمر في إعانتهم وتوسيع فرص التعليم لهم بنين وبنات في جميع مدن المملكة، ووضع الأسس التشجيعية لجذبهم لطلب العلم وترغيبهم فيه. ولاهتمامه الديني فقد شدد في المتابعة على أن يكون ركيزة التعليم الارتباط بشريعة الإسلام قولا وعملا، كما يتضح من فتاواه
وملاحظاته ومتابعته (1).
8 -
ومن صفاته قال ابنه معالي الشيخ إبراهيم: كان يحفظ بعض قصائد الوعظ والزهد، ومن ذلك أبيات كان يكررها كثير وهي:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم
…
غلب الرجال مما أعنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم
…
وأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا
نادى بهم صارخ من بعد ما دفنوا
…
أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة
…
من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم
…
تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
يا طالما أكلوا دهرا وما شربوا
…
فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا (2)
9 -
ويجمل الشيخ محمد بن عثمان القاضي أوصافه بقوله: وأما أوصافه رحمه الله، فهو ربعة من الرجال، متوسط الشعر،
(1) انظر (علماء نجد في ستة قرون) 1/ 89، 93 - 95 للشيخ عبد الله بن بسام.
(2)
نقلا عن ابنه صالح بن إبراهيم.
حنطي اللون، قليل الكلام، ذو هيبة ووقار، أعمى البصر، فاتح القلب، ذو مكانة مرموقة عند الملك، وعند الناس، قام برحلة إلى مصر والشام (1) واتصل بعلمائها، وكانت رحلته ممثلا للعلماء في المملكة. ومرض فأشار عليه الأطباء بالسفر للعلاج، فسافر إلى مصر فلم يتماثل للشفاء، فواصل سفره إلى لندن، وتعالج فيها، ولم يقدر له الشفاء، فعاد إلى الرياض، بدون فائدة تذكر (2).
نوادره: للنادرة وقع في النفس، وراحة في القلب، حيث تجلو صدأه مع رتابة العمل، والجدية المتواصلة. جاء في الأثر:«روحوا عن النفوس ساعة فساعة» ، فإنها إذا كلت ملت. والشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله يهتم بالنادرة، ويتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في مداعبة أصحابه والتبسط معهم، ليسري عن العاملين، حيث يعاملهم كالأبناء. ومن ذلك:
(1) يرى ابنه معالي الشيخ عبد العزيز أنه لم يسافر إلى الشام وإنما سافر إلى مصر فقط.
(2)
انظر (روضة الناظرين) 2: 321.
1 -
يقول الشيخ عبد الله بن منيع الذي لازم سماحته في العمل معه مدة طويلة: أذكر أنني أنا وأحمد بن قاسم مع سماحته بعد العصر في الطائف، في منطقة الهدى لعرض ما لدي من معاملات على سماحته كالمعتاد، وفي رجوعنا وجه الكلام لأحمد بن قاسم قائلا: يا أحمد، أمك جاءت بولد ليس أخاك ولا أختك فمن هو؟ فبهت أحمد من هذا، وقال: خلها في قبرها عفا الله عنك، وبعد أن أتاح له فرصة التأمل، قال: هو أنت يا أحمد، جاءت بك أمك؛ فتنفس الصعداء وقال: الحمد لله فرجت عني جزاك الله خيرا.
2 -
وأورد له هذه النادرة فقال: كان رحمه الله يحب النكتة ويسترويها، فقد صار من بعض الزملاء أن اجتمع لديه اثنان من فراشي الإفتاء فذكرهما أن الصوم يصير في الصيف، والشتاء، وكذلك الحج، هكذا فإن السنة تستدير، فإذا اجتمع الصوم مع الحج في إحدى السنين فمن منكما سيصوم ويترك الحج، ومن سيحج ويقضي الصوم، فقال أحدهما: سأحج وأترك الصوم لأيام أخر، وقال الآخر: سأصوم وأترك الحج، فذكرا لسماحته فاستدعاهما وأعيد السؤال عليهما، فاحتج الأول على تركه الصوم بقوله تعالى:{كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1)، واحتج الثاني بقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (2)
(1) سورة البقرة الآية 184
(2)
سورة البقرة الآية 185
فضحك رحمه الله وقال: لقد بنيت هذه الدار على علم (1).
3 -
ذكر الشيخ إسماعيل بن عتيق أن. محمد عطاء الهندي سأل الشيخ في مجلسه فقال: ماذا نصنع بالميت إذا مات في السفينة؟ فقال الشيخ: ألقه في البحر. فقال السائل: يطفح على سطح البحر. فقال له الشيخ اعمل له مثقلا. فقال السائل: يأكله السمك. فقال الشيخ: إذا احمله على ظهرك ليكون معك حيث شئت.
4 -
كان من مداعبته للشيخ علي بن خميس: أن عليا تكلم يوما بالهاتف مع مكة مخاطبا الشيخ عبد الله بن إبراهيم. فقال له الشيخ محمد: كلمت مكة يا علي؟ قال: نعم. قال فكلم الدرعية. فقال: لا تليفون فيها. قال: عجبا لك! تكلم البعيد ولا تكلم القريب. . وقال الشيخ ابن عتيق: ومثل هذا يحصل من الشيخ أحيانا مع غيره.
5 -
وقرأ الشيخ عبد العزيز بن شلهوب، وهو حسن الصوت، قليل اللحن، ولكنه أخطأ في هذه القراءة بكلمة، وهي: وهذه لغة حمير قرأها: وهذه لغة حمير فقال الشيخ:
(1) انظر (مجلة البحوث الإسلامية) العدد 18 ص 231 - 232 مقال الشيخ عبد الله بن منيع عن الشيخ محمد.