الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة البحث:
من نعم الله سبحانه وتعالى على عبده أن يبدأ عملا ما، ثم تحوطه رعاية الله وعنايته حتى يفرغ منه، وأهم الأعمال في هذه الحياة ما كان خالصا لله تعالى، يبغي به رضى ربه، وشكر نعمته عليه، وأن يكون لمعة مضيئة على طريق الهداية لهؤلاء الذين تفرقت بهم السبل، وانبهمت أمامهم المسالك، فأهملوا شرع ربهم، وكانوا للشيطان أولياء.
ولقد كان من توفيق الله لي أن هداني للكتابة عن التوبة، التوبة الخالصة التي أوجبها الله على عباده، منذ أن خلق البشرية، حتى يرث الأرض ومن عليها.
وتبين لي من خلال إعداد هذا البحث أن التوبة من ألزم اللوازم لكل من خلق الله تعالى، لا تنفك عنهم لحظة، ولا يغفلوا عنها خطرة، امتثالا لقوله تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) فآدم أبو البشر يخدعه الشيطان؛ فيستجيب لإغوائه، ثم يتذكر معصيته لربه فيتوب إليه.
قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (2). والمستعرض لحياة الأنبياء والرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- يجد أن التوبة كانت من ألزم اللوازم لهم، من ذلك أن موسى عليه السلام يسارع إلى التوبة من فعلته وتجرئه على ربه، قال تعالى
(1) سورة النور الآية 31
(2)
سورة البقرة الآية 37
على لسان موسى: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) أي: أنا أول من آمن أنه لا ينظر إليك أحد إلا مات، وقيل: أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد في الدنيا.
ويونس يجأر بالتوبة إلى خالقه ومولاه آيبا راجعا متبتلا في عبادة ربه، قال تعالى:{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (2) روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له (3)» ولقد قبل الله تعالى توبة الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين لما حدث في غزوة العسرة، قال الله تعالى:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (4).
واختلف العلماء في هذه التوبة التي تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار فقال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت
(1) سورة الأعراف الآية 143
(2)
سورة الأنبياء الآية 87
(3)
سنن الترمذي، 5/ 529.
(4)
سورة التوبة الآية 117
التوبة على النبي صلى الله عليه وسلم لأجل إذنه للمنافقين في القعود، دليله قوله تعالى:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (1) وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه، وقيل: توبة الله عليهم استنقاذهم من شدة العسرة، وقيل: خلاصهم من نكاية العدو.
وإذا كان هذا حال التوبة مع الرسل والأنبياء وأتباعهم، فنجد أن التاريخ وكتب السير تحفظ لنا الكثير من توبة الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقتنا هذا.
(1) سورة التوبة الآية 43
(2)
راجع الاستيعاب، 4/ 167، 168 بتصرف.
ومن توبة الصحابة أيضا ما فعله حنظلة الأسيدي، حيث رمى نفسه بالنفاق، يقول:«نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وما ذاك؟ " قال: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالجنة والنار حتى كأنا نراهما رأي العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج، وداعبنا الأولاد، ونسينا كل شيء، فقال رسول الله خير: " والذي نفسي بيده: إن لو تدومون على ما تكونون عليه عندي [من ذكر وعبادة]، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة " يكررها ثلاث مرات (1)» .
هكذا كان إحساس الصحابة الذين تربوا في رحاب الإسلام، مراقبة تامة لربهم، وتدقيق في كل عمل يقومون به، وخوف من الله تعالى أن يعمل أحدهم عملا؛ فينزل في شأنه قرآن يعاتبه فيه ربه، أو يلومه على شيء صدر منه كما قال تعالى لرسوله الكريم:{وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} (2). ومن قبل الصحابة، وعند الأمم السابقة يحدثنا الرسول عن توبة أصحاب الغار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما ثلاثة نفر يمشون إذ أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت عليهم في غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم باب الغار، فقال بعضهم لبعض: ادعوا الله بصالح أعمالكم فدعوا الله عز وجل فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وامرأة وصبيان فكنت أرعى عليهم، فإذا رحت حلبت، فبدأت بوالدي أسقيهما قبل بني، وإنه نأى بي طلب
(1) صحيح مسلم، 3/ 2106، ح 2750.
(2)
سورة الأحزاب الآية 37
الشجر فلم آت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، فجعلوا يتصايحون عند قدمي، فلم أزل كذلك حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فرجة، ففرج الله عز وجل لهم فرجة.
وقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم فأحببتها كأشد ما يحب الرجل النساء، فطلبت إليها نفسها، فأبت علي حتى آتيها بمائة دينار، فجئتها بها، فلما قعدت بين رجليها قالت: يا عبد الله اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة، ففرج الله لهم فرجة.
وقال الآخر: اللهم إني استأجرت أجيرا، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي فعرضته عليه فتركه ورغب عنه، فثمرته حتى اشتريت له بقرا ورعاءها، فجاءني بعد حين فقال: اتق الله ولا تظلمني حقي، فقلت انطلق فخذ تلك ورعاءها، فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي، فقلت إني لا أستهزئ بك، فخذ تلك البقر ورعاءها، فأخذها وذهب، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي ففرجها الله عنهم (3)»
(1) راجع البخاري في كتاب الحرث والمزارعة، باب إذا زرع بمال قوم بغير إذنهم وكان في ذلك صلاح لهم، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب 27 قصة أصحاب الغار الثلاثة حديث رقم 2743، والنسائي في كتاب الرقائق 6/ 236.
(2)
أي: بعد طلب المرعى. (1)
(3)
الفرجة: الفتحة، وافرج لنا: فافتح لنا. (2)
إن هؤلاء الثلاثة الذين أصابهم هذا الكرب الشديد عن طريق إطباق الغار عليهم، يطلبون من الله تعالى أن يفرج عنهم كربهم، ويزيح عنهم بلاءهم، ويقدمون بين طلبتهم هذه صوالح أعمالهم؛ لأنهم دائما يحرصون على مرضاة خالقهم، عن طريق تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، وهم مع هذا كله يتوبون إليه عندما يقعون في الصغير والجليل؛ عسى الله أن يتوب عليهم.
ولقد استجاب لدعائهم الخبير بأحوالهم، والمطلع على سرائرهم، والعليم بكل ذرة من ذرات كيانهم:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1). وفي النهاية نقول لهؤلاء الشاردين والشاردات الهاربين إلى طريق الغواية، الفارين إلى وسوسة الشيطان، فروا إلى خالقكم وعودوا إلى بارئكم فالسماء مفتحة الأبواب لكل توبة نصوحة، ورحمة الله واسعة تسع صغائر الذنوب وعظائمها، وعلينا جميعا أن نستجيب إلى دعوة الله تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (2) هذا وبالله التوفيق.
(1) سورة الملك الآية 14
(2)
سورة الزمر الآية 53