المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: محمد رشيد رضا - مجلة المنار - جـ ٢

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (2)

- ‌28 شوال - 1316ه

- ‌خطاب وعظي للإنسان

- ‌الإيثار

- ‌التربية والتعليم

- ‌الحوادث والأخبار التاريخية

- ‌6 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الإيثار

- ‌الحبالى وتربية الأجنة(1)

- ‌التعليم بالعمل

- ‌ما قيل في الخال

- ‌الجامع الأزهر الشريف

- ‌الأخبار والآراء

- ‌13 ذو القعدة - 1316ه

- ‌تأثير العلم في العمل

- ‌أيها الفتى

- ‌أخبار الحجاج

- ‌اعتذار

- ‌20 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الاتحاد

- ‌اختيار المعلمين

- ‌الحدود بين القطر المصري والسودان

- ‌27 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الإصلاح الإسلامي

- ‌تأثير الوعظ والتذكير

- ‌عبرة لمن يعقل

- ‌إحصاء الأوقاف

- ‌تنازع الدول الأوربيةعلى الممالك الإسلامية

- ‌5 ذو الحجة - 1316ه

- ‌الإصلاح الإسلامي

- ‌عداء وخداع

- ‌الجمعية الإسلامية الهندية في لاهور

- ‌19 ذو الحجة - 1316ه

- ‌الأعياد

- ‌الساكت عن الحق شيطان أخرس

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌26 ذو الحجة - 1317ه

- ‌التعليم القضائي

- ‌المتكلمة بالقرآن

- ‌مقتطفات

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌3 محرم - 1317ه

- ‌الاعتماد على النفس

- ‌استنهاض همم(2)

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌10 محرم - 1317ه

- ‌التصرف في الكون

- ‌استنهاض همم(3)

- ‌التربية النفسية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌17 محرم - 1317ه

- ‌حياة الإسلام في مصر

- ‌استنهاض همم(4)

- ‌الطاعون واتقاؤه

- ‌كتاب تحرير المرأة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌24 محرم - 1317ه

- ‌استنهاض همم(5)

- ‌التربية النفسية

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مسألة القضاء الحاضرة

- ‌2 صفر - 1317ه

- ‌العز والذل

- ‌استنهاض همم(6)

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌9 صفر - 1317ه

- ‌فهم الدين

- ‌استنهاض همم(7)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الأخبار

- ‌16 صفر - 1317ه

- ‌كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية

- ‌استنهاض همم(8)

- ‌مراكش

- ‌ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [[

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مقتطفات الأخبار

- ‌23 صفر - 1317ه

- ‌النهضة الإسلامية في مصر

- ‌استنهاض همم(9)

- ‌إزالة شبهة

- ‌اختبار علم كل عارفمن ألباء أرباب المعارف

- ‌وفاة

- ‌29 صفر - 1317ه

- ‌استنهاض همم(10)

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أرزاء وطنية

- ‌يستحيل إرضاء الناس

- ‌ وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى [[

- ‌7 ربيع الأول - 1317ه

- ‌كان يا ما كان(2)

- ‌استنهاض همم(11)

- ‌الكتابان الجليلان

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الاحتفال بتذكارالمولد النبوي الشريف

- ‌14 ربيع الأول - 1317ه

- ‌المولد النبوي

- ‌كان يا ما كان(3)

- ‌استنهاض همم(12)

- ‌مَضَارُّ الْغِلْظَةِ فِي التَّرْبِيَة

- ‌تأييد عالم وتفنيد واهم

- ‌شعر في حب العلم

- ‌21 ربيع الأول - 1317ه

- ‌الحياة المِلِّية

- ‌كان يا ما كان(4)

- ‌استنهاض همم(13)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مدرسة الجمعية الخلدونية

- ‌إحصاء عن عدد سكان أوربا

- ‌28 ربيع الأول - 1317ه

- ‌الجنسية والدين الإسلامي

- ‌كان يا ما كان(5)

- ‌استنهاض همم(14)

- ‌تعليم النساء

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌5 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌الجامعة الإسلامية

- ‌استنهاض همم(15)

- ‌حقوق الجار ومدح المناربما يبديه من هدي الكبار

- ‌الإسلام في البرازيل

- ‌12 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌الدين والدولةأو الخلافة والسلطنة

- ‌كان يا ما كان(6)

- ‌خاتمة رسالةاستنهاض همم

- ‌تنبيه

- ‌دم أضاعه أهله

- ‌عناصر النمسا

- ‌19 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌كلمة في الحجاب

- ‌تهنئة الأستاذ المفتي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌26 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌تحريف الكلم عن مواضعه

- ‌الحديث الموضوع

- ‌الاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني

- ‌كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌3 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌حقوق الأخوة(3)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌10 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌حقوق الأخوة(4)

- ‌الوثنية في الإسلام

- ‌نجاح الجمعيات الإسلامية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌17 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌ماذا نعمل

- ‌المسلمون في روسيا

- ‌الأميرة الفاضلة صاحبة الدولةالبرنسس نازلي هانم أفندي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌24 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌القسم الثانيمن خطبتنا في التربية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌2 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌رد على باحث في كتابسر تقدم الإنكليز السكسونيين

- ‌القسم الثانيمن خطبتنا في التربية

- ‌شذرات

- ‌9 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أخبار وآراء

- ‌16 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌فلسفة الحرب الحاضرة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الشكوى من ظلم هولندا

- ‌وفاة والدة عبد الحليم أفندي حلمي

- ‌23 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌ذكرى لرؤساء الأمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أهم أخبار الحرب

- ‌شكر

- ‌30 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌الفرصتان

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌أهم أخبار الحرب

- ‌عودة الخديوي وأسرته

- ‌منع جريدة المشير

- ‌المدرسة العثمانية

- ‌إزالة وهم تاريخي

- ‌بعض التفصيل

- ‌6 رجب - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌بدع رجب

- ‌14 رجب - 1317ه

- ‌مناشير المهدي السوداني

- ‌فائدة الانتقاد

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌21 رجب - 1317ه

- ‌عزاء

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌بضعة أيام في خدمةجمعية شمس الإسلام

- ‌إصلاح غلط

- ‌28 رجب - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الدولة العلية في أفريقية

- ‌مساجد الصعيد

- ‌6 شعبان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأسطول الفرنساوي

- ‌رزء وطني عظيم

- ‌كنسة الإمام

- ‌13 شعبان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المنار والمناظر

- ‌السيول الجارفة

- ‌الجغرافيا والحرب

- ‌20 شعبان - 1317ه

- ‌الشريعة والطبيعةوالحق والباطل

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌عيد المولد الهمايوني

- ‌العالم الإسلامي

- ‌الحرب الحاضرة

- ‌27 شعبان - 1317ه

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌5 رمضان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌12 رمضان - 1317ه

- ‌اقتراح على السادة العلماءفي تقويم اعوجاج الوعّاظ والخطباء

- ‌الصيام والتمدن(2)

- ‌التقريظ والانتقاد

- ‌مأثرة لجمعية شمس الإسلام

- ‌19 رمضان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌26 رمضان - 1317ه

- ‌الزكاة والتمدن(2)

- ‌الاقتراح على المنار

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌ذم الهوى

- ‌الأخبار والآراء

- ‌المسجد الحسيني

- ‌10 شوال - 1317ه

- ‌طفولية الأمّةوما فيها من الحيرة والغمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الاجتماع العامفي جمعية شمس الإسلام

- ‌الأخبار والآراء

- ‌17 شوال - 1317ه

- ‌الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌جمعية شمس الإسلامفي القاهرة

- ‌الأمراء والعلماء

- ‌أفكوهة غريبة

- ‌خاتمة السنة الثانية للمنار

الفصل: الكاتب: محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحياة المِلِّية

(ملخص خطاب ألقاه منشئ هذه المجلة في جمعية شمس الإسلام)

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24)

أيها الإخوان:

لا أرى موضوعًا أمَسّ بحالنا من موضوع (الحياة المِلِّية) الذي ذكَّرتني به

الآية الكريمة التي جاءت في خطاب الأخ الأكبر رئيس الجمعية، وافتتحت بها

كلامي هذا. لا أبحث في التقدم والتأخر، ولا في الترقي والتدلي، ولا في القوة

والضعف، ولا في العزة والذلة؛ فإن جميع هذه الشؤون والأطوار إنما تكون للأمم

الحية النامية؛ إذ منها الآخذ في النمو بحركة الاستمرار، وهي ذات التقدم والترقي

والقوة والعزة، ومنها ما تتجاذبه قوتا التحليل والتركيب، فيكون حظه من هذه

الأطوار وما يقابلها تابعًا لغلبة إحدى القوتين اللتين هما ميزان الحياة القومية الأمية

ولا شك أن رجحان كفة التحليل يؤدي إلى الفناء وفقد الحياة بالكلية.

لقد بدا هذا التحليل في جسم حياتنا الملية من عهد بعيد حتى تلاشى هذا الجسم

أو كاد، ولم يبق فيه ما يقبل التحليل فكان أول واجب علينا أن نتلمّس العلاج الذي

يعيد إلينا حياتنا المفقودة. يدل على فقدنا هذه الحياة حديث: (بدأ الإسلام غريبًا

وسيعود كما بدأ) ، ومن الناس من يفهم من هذا الحديث أن الإسلام إذا وصل إلى

هذه الحجالة لا يعود إليه مجده ولا ترد إليه حياته. ولنا أن نقول: إنه صريح في

أن نشأته الثانية ستكون كنشأته الأولى. غربة وضعف، ثم معرفة وقوة وسيادة،

تجمع أطراف السعادة {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ

ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة: 28) .

بماذا نحيا؟! لا حياة لنا إلا بما حيي به أسلافنا من قبل، وما كانت حياتهم إلا

بروح القرآن، أترون من البعيد أن تعود إلينا حياتنا بهذا الروح الشريف؟! كيف

وقد عاش آباؤنا الأولون بالاستقاء من ينبوعه المتفجر من عين الحياة الأزلية الأبدية؟

وإنما مِتنا بترك الاستقاء منه اكتفاء بالوشل الآجن الذي ينضح من آنية أمثالنا

المخلوقين، إن القرآن قد صارع الهمجية العربية فصرعها، وغالب جيوش الوثنية

فغلبها، وزرع فسيل المدنية الفُضلى في تلك الأرض التي كانت معشوشبة بجميع

الأعشاب الخبيثة فاجْتَثَّ هذه الأعشاب، وأنمى ذلك الفسيل فكان أدواحًا عظيمة

أثمرت من كل زوج بهيج.

اشتهر عند مشركي العرب أن القرآن ما خالط قلبًا إلا وجذبه إلى الحنيفية،

وقاده إلى جنة الإسلام بسلاسل الإقناع والبرهان، فحملهم الحرص على عقائدهم،

وحب البقاء على تقاليدهم على مقاواته بما يمكنهم، فكان أمثل رأي ارتأوه في ذلك

ما قصّه الله علينا بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ

تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) رأوا عدم السماع له بالمرة، وهو رأي الجبناء في الهزيمة

ورأوا مقابلته باللغو واللغط لئلا يسبق منه إلى الأذهان شيء، فيقتادها إلى ما لم

يكن من مرادها، وإن كان فيه هدايتها ورشادها، ولم يكونوا مع هذا على ثقة من

الغلب، وإنما هو الأمل والرجاء تتشبث به النفوس في البأساء والضراء، وبلغ من

عدائهم للقرآن ما قصه الله تعالى علينا بقوله - عز من قائل -: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن

كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال: 32) .

فإذا كان القرآن قد أحيا أولئك الأقوام مع شدة كراهتهم لهذا النوع من الحياة

ومقاومتهم له بما عَلِمنا من المقاومة، وكانوا منه في أمر مريج، فكيف لا يحيينا

ونحن نوقن بأنه كلام الله الذي {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ

مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) .

إن الحياة التي تفيض علينا أمواهها من أنابيب القرآن تكفل لنا سعادة الدارين

وتمنحنا الفوز بالحسنين، ولا نعلم دينًا جمع بين مصالح الروح والجسد،ومنافع

الدنيا والآخرة على وجه الكمال، إلا دين القرآن الذي علّمنا أن ندعو الله تعالى بقوله:

{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201)

يقول نبي هذا الدين صلى الله عليه وسلم: اليد العليا خير من اليد السفلى،

ويقول: لَئَنْ تدع أولادك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون. ويُفَضِّل بمثل

هذا علماؤنا الغنيَ الشاكر على الفقير الصابر، والشاكر هو الذي يصرف من فضل

ماله في وجوه البر والمنافع العامة، هذا وإن كتب الأديان الأخرى تقول: (لا

يدخل الغني ملكوت السماء حتى يدخل الجمل في سم الخياط) .

كان من أهل هذا الدين من أفرط في الزهادة وبالغ في البعد عن أعمال الدنيا،

بل وفي التنفير عنها وهؤلاء قد عملوا بنصف الدين الإسلامي، وتركوا النصف

الآخر، ولا أعيبهم جميعًا فإن منهم قومًا قاموا بخدمة مولاهم، وأخلصوا له في سرّهم

ونجواهم، ولكن أقول: إنهم لا يصلحون للقدوة والإرشاد، وإن الذين يتمسكون

بركني الإسلام كليهما - ركن الدنيا وركن الآخرة - أفضل منهم. ذُكر رجلٌ للنبي -

صلى الله عليه وسلم ووصف من صيامه وقيامه وانقطاعه للعبادة ما أوجب العجب،

فسألهم عن معاشه، فقالوا: إن له أخًا يكتسب وينفق عليه، فقال: أخوه أفضل منه.

القرآن صريح في طلب إقامة الركنين معًا، ولكن الغالين في الزهادة أغضوا عن مثل

قوله: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77) ومثل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ

اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً

يَوْمَ القِيَامَة} (الأعراف: 32) وأخذوا بالآيات التي تتعلق بركن الآخرة فقط، إن

الأحاديث في الزهادة كثيرة جدًّا؛ ولكن الكثير منها بين ضعيف وموضوع لا أصل

له، وما كان منها صحيحًا فالغرض منه كبح جماح النفوس المجبولة من طينة الطمع؛

كيلا تتعدى حدود الحق وتحب المال لذاته؛ فيمسك أصحابها الفضل منه عن

المنافع العامة وأعمال البر، بل ويمنعون الحقوق، فيكونون عبيد المال والهوى،

أذكر من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (تَعِس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد

الخميصة؛ إن أُعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس ولا انتعش، وإذا شيك فلا

انتقش) . رواه البخاري من حديث طويل.

أشار الأخ الأكبر في خطابه إلى أن مدنية أوروبا مقتبسة من الإسلام، وما

قال إلا حقًّا اعترف به فلاسفة الأوروبين ومؤرخيهم من قبل. لا أقول: إن كل فرع

من فروع هذه المدنية يوجد في الكتاب والسنة، كما لا أقول: إن كل فرع من فروع

الفقه منصوص عليه فيهما، وإنما جاء هذا الدين بقواعد عامة، وإرشادات كلية

يمكن للإنسان أن يهتدي بها إلى سعادة الدنيا والآخرة معًا، فكما استنبط الفقهاء

وعلماء الأخلاق الأحكام والمسائل القضائية والأدبية، وغيرهما من تلك القواعد،

كذلك اهتدى علماء الاجتماع بها إلى المسائل والفروع المدنية التي تتعلق بالعمران

وترقي نوع الإنسان، أشير الآن إلى بعض تلك القواعد بالإيجاز،وإذا أمهل الزمان،

فإنني أفصل القول فيها تفصيلاً في اجتماع آخر، إن شاء الله تعالى.

من تلك القواعد: قاعدة سنن الكون ونواميس الاجتماع والعمران التي بها

تعرف أسباب ترقي المجتمع الإنساني وتدليه، ومن راعاها في سيره فاز بأمانيه،

وقد أرشدنا القرآن إلى هذه السنن الإلهية، وهي التي يعبرعنها الفلاسفة بالنواميس

الطبيعية، وبيَّن لنا أنها تعرف بالسَّير في الأرض والنظر في أحوال الأمم، فقال:

{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) وقال: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ

تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62)

وقد اهتدى الأوروبيون إلى معرفة هذه السنن، ورعوها في سيرهم حق

رعايتها؛ فعرجت بهم إلى الأوج الذي نراهم فيه. ومن تلك القواعد: استعمال

العقل في العلم والدين، والأخذ بالبرهان، وقد كانت الأمم الأوروبية كغيرها،

محجورًا عليها أن تعتقد غير ما يقوله رؤساء الدين، حتى جاء القرآن يخاطب العقل

وينعي على أهل التقليد ويقول: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} (البقرة:

111) وينادي على رءوس الأشهاد: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ

أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) ومنها حرية الفكر والقول والعمل داخل حدود

شريعة الأمة والبلاد، واستقلال الإرادة وتقييد سلطة الرؤساء الروحانيين

والسياسيين، إلى غير ذلك مما لا محل لشرحه وتفصيله.

على هذه القواعد والأركان قامت مدنية أوروبا، وهي لم توجد في العالم إلا

بوجود القرآن. هذه القواعد أهم أركان السعادة الدنيوية، وقد أعرضنا عنها فشقينا

في دنيانا، وأخذوا بها فسعدوا وسادوا حتى علينا، ولو أعادوا النظر إلى القرآن كَرَّة

أخرى لرأوا فيه أسباب السعادة الأخروية، والقوم إذا علموا عملوا، ولا يبعد أن

يسبقونا في السعادة الثانية ما دمنا على هذا الكسل والإهمال، فأقترح على إخواني -

أعضاء هذه الجمعية - أن يطالب كل فرد منهم نفسه بتدبر القرآن وفهم معانيه عند

التلاوة، ومن وقف فهمه في شيء، فليراجع عنه في كتب التفسير إن كان أهلاً

للمراجعة، وإلا فليرجع إلى الذين يفهمون {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) . اهـ

هذا ما أحببت نشره في (المنار) مما استحضرته من الخطاب، وربما زِدت

كلمات ونقَصتُ مثلها؛ لأنني لم أكن ممن يبقى حافظًا ما يقوله ارتجالاً.

_________

ص: 306