الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
تأثير العلم في العمل
] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ [[1]
أنشأ الله الإنسان يعمل بإرادة تأتمر في تحريك الأعضاء على العمل بأمر العلم
الذي تنكشف به وجوه المصالح والمنافع، فمتى كانت علوم الإنسان في أفراده
ومجموعه صحيحة منطبعة في النفس بتكرر العمل أو بالنظر والاعتبار تصدر عنه
أعمال جليلة وآثار جميلة. ومتى كانت العلوم مضطربة بامتزاجها بالأوهام أو غير
منطبعة في النفس لعدم التربية عليها والعمل بها والنظر فيها بعين التأمل والاعتبار،
فلا جرم أن الأعمال تأتي مختلة سيئة. والسعادة إنما تُنال بالأعمال؛ فالأمة
الجاهلة بعيدة عن السعادة.
العلم الإجمالي قلما يفيد صاحبه؛ لأنه دائمًا عرضة للجهالة بما يرد على
جزئياته من الشكوك التي لا تُنفى إلا بالعلم التفصيلي الكامل. ألا ترى أن أكثر
الناس يعلمون بالإجمال أن أمهات الرذائل وكبائر المعاصي من أسباب الشقاء، ولو
كان هذا العلم صحيحًا كاملاً لا اضطراب فيه لصدرت عنه آثاره حتمًا، وهي ترك
تلك الرذائل والمنكرات، وكذلك يقال في أصول الفضائل والأعمال الصالحة النافعة
يعلمها عامة الناس علمًا إجماليًّا سطحيًّا يلوح في الخيال، ولكن لا أثر له في النفوس
والأرواح؛ لأن كل صفات الروح تظهر على الجسد بالأعمال، ومن كان علمه كاملاً
بشيء ما، وظهر من أعماله ما لا ينطبق عليه، فإنما يكون ذلك لأثر في النفس
أقوى من ذلك العلم كالوجدانات والانفعالات العارضة؛ فإن النزيه ربما ينطق
بالسب والهجر من القول لغضب شديد يعرض له، لكنه لا يلبث أن يعود إلى رشده،
وأمثال هذه النوادر التي تعرض للعلماء والمهذبين لا تحبط أعمالهم ولا تنحرف بهم
عن جادة السعادة {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن
قَرِيبٍ} (النساء: 17) .
خفيت هذه المسألة عن الجاهلين بعلم النفس وعلم فلسفة الأخلاق، فزعموا أن
العلم لا يؤثر في الحمل على العمل، وربما يكابر بعض الذين يحسبون أنهم على شيء
من العلم ويمارون في القول؛ لأنه جاء مجملاً، ولذلك رأينا أن نزيده بقليل من
التمثيل.
إن الذي يعلم علمًا ناقصًا أن الحسد والكبر هو (غمط الحق واحتقار الناس)
رذيلتان ممقوت صاحبهما عند الله والناس، وأنه يجب عليه أن يجاهد نفسه ويطهرها
من رجسهما - يشتبه عليه الأمر في الجزئيات، فيحسد ويتكبر ويرى أنه غير حاسد
ولا متكبر، وإذا قيل له في ذلك لجأ إلى الاعتذار والتأويل فيقول في الحق الذي غمطه
ولم يخضع له - لأنه جاء من قِبل مَن يرى نفسه فوقه مثلاً -: إنه ليس بحق.
وينتحل ما تجود به قريحته من الشبه لإثبات أنه ليس بحق، وإذا لم يجد شبهة يطفئ
بها نور؛ الحق لقوة شعاعه يقول: إنه حق ولكن جاء في غير وقته ووضع في
غير موضعه، فأنا أغمطه لا لذاته بل لأنه لم يأتِ على منهاج الحكمة. (وكأن الحكمة مختصة به لا يعلم مواقعها غيره، نعوذ بالله من الغرور) ويقول - في الإنسان الذي احتقره -: إن ما صدر مني في شأنه مما يدل على انتقاصه واحتقاره لم
أقصد به إلا بيان الحقيقة أو إسداء النصيحة للناس كيلا ينخدعوا به.
والدليل على أن جهله بأخلاق نفسه هو الذي أراه باطله حقًّا وأعماه عن
جزئيات رذائله - أن ما وقع منه لو عرض على مَن هو أعلم منه بالأخلاق لجزم
بأنه حسد وكبر لا يحتمل التأويل وعجيب أن مثل هذه التعلَاّت تصدر من أمثل
العلماء. اجتمع الأستاذ فضيلتلو الشيخ حسين أفندي الجسر محرر جريدة طرابلس
بالسيد جمال الدين الحكيم الشهير فقال له السيد: إن جريدتكم قد جمعت بين الكفر
والإيمان! تكتب مقالة في تحريم الكذب وقبحه ثم تُملأ بعد ذلك بالكذب وغش الأمة
بمدح الجهلاء الأشرار الذين تجعلهم أئمة علماء: وأتقياء صلحاء. قال: (وإننا لا
نخطو خطوة واحدة إلى الأمام ما لم نعطِ كل ذي حق حقه، فنقول في العالم: عالم.
وفي الجاهل جاهل وهكذا) فقال له الأستاذ المحرر: (إن هذا تَقِيَّة؛ لأن مَن
عنيت مُضِرُّون يُخشى شرُّهم) فقال له السيد: (التقية مذهب الشيعة) .
ومثال آخر للشكوك التي ترد على العلم الناقص فتزلزله حتى ما تصدر عنه
آثاره - ولولا ضعفه وزلزاله لصدرت - أن عامة المسلمين الذين يأتون الفواحش
والمنكرات وهم يسلمون بأنها موجبة لسخط الله وعذابه في الآخرة لا يأتونها في
الغالب إلا لأن علومًا أخرى مسلمة مثلها؛ لأنها جاءت من الدين عارضتها وصارعتها
فقويت عليها بمساعدة الهوى والغرض كالمكفرات للذنوب من الأعمال الصالحة فإنهم
يسمعون من الوعاظ والخطباء أن مَن صام يوم عاشوراء غُفرت له ذنوب سنة، ومن
صام يوم عرفة غفرت له ذنوب سنتين - السنة السابقة والسنة اللاحقة - ومن صام
يومًا من رجب استوجب رضوان الله الأكبر، وأن من سبّح كذا في وقت كذا غفرت له
ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج أو زبد البحر، وأن الله يعتق في كل ليلة من رمضان
كذا، والمجموع يستغرق الأمة، وكالشفاعات فقد توسع فيها الوعاظ والقُصَّاص وفي
الكتب منها العجب العجاب، فيقولون: إن العالم يشفع في كذا بيتًا من جيرانه بعد
الشفاعة لأهله وخلانه. ويتوهم علماء السوء ويوهمون الناس أنهم هم
الشفعاء؛ ليعطوهم ويعظموهم. وبعض ما يوردونه في ذلك باطل لم يرد في الشرع
(كما بيناه في مقالات سابقة) وبعضه له معانٍ صحيحة لا يترتب عليها هذا الغرور
الذي أبطل فائدة الإنذار الذي جاءت به الرسل والأديان. مثلاً: إن ما ورد في
المكفرات للذنوب مقصود به الترغيب في الطاعة، وإنما المراد بالذنوب التي تكفَّر
هي الصغائر والهفوات التي لا يخلو الإنسان من الإلمام بها لا العظائم والموبقات
كأكل أموال الناس بالباطل وشهادة الزور والكذب والخيانة وعدم الوفاء بالوعد؛ فإن
مثل هذه لا تكفر إلا بالإقلاع عنها ورد الحقوق إلى أربابها، وإلا لكان هدي الدين
عبارة عن كلمات أو أعمال قليلة يباح للإنسان معها كل شيء، ولبطلت فائدة
النصوص المنفرة عن المعاصي والرذائل.
كيف يصح أن نقول: إن حركة اللسان بكلمات أو صيام يوم أو أيام يكفر هذه
السيئات الفاشية التي دهورت الأمة في مِهواة الشقاء وأنزلت بها صواعق البلاء.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث مَن كُنَّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى
وحج واعتمر: وقال إني مسلم - إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)
رواه بهذا اللفظ أبو يعلَى بسند محتج به، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ
أخرى بمعناها في رواية مسلم التصريح بقوله: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)
وظاهر هذا الحديث أن مَن كانت فيه هذه الثلاث فهو ليس بمسلم حقيقة ولا يغني
عنه ادعاء الإسلام والإتيان بأعماله العظيمة الظاهرة كالصوم والصلاة والحج، ولكن
العلماء أوَّلوه وقالوا: إن المراد به (النفاق العملي) ولكن لا يستطيع أحد منهم أن
يقول: إن هذا النفاق العملي يكفَّر بالصوم والصلاة والتسبيح؛ لأنه إبطال للحديث
ورفْض له.
وأما العفو وشفاعة النبي - وهي عبارة دعاء يدعو به يوم القيامة فيستجيبه الله
تعالى له - فالحكمة في الأول أن لا ييأس المسرف على نفسه؛ لأنه إذا يئس
يسترسل في الفجور، ومراد الشريعة رجوعه عنه والحكمة. في الثانية إظهار كرامة
للشافعين، على أنهم لا يشفعون إلا بإذنه ولمَن ارتضى. والكتاب والسنة طافحان
ببيان ما يرتضيه تعالى وما لا يرتضيه ونكتفي هنا بقوله تعالى: {رضي الله عنهم
وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة: 8) على أن العفو والشفاعة مبهَم
أمرهما، والأصل أن الجزاء على الأعمال {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) وفي الصحيحين قام رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين أُنزل عليه] وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [ (الشعراء:214)
فقال: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله تعالى؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا،
يا بني عبد مناف؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس يا عم رسول الله؛ لا أغني
عنك من الله شيئًا، يا صفية يا عمة رسول الله؛ لا أغني عنكِ من الله شيئًا،
يا فاطمة يا بنت محمد سَليني من مالي ما شئت؛ لا أغني عنك من الله شيئًا.
وأضرب لهم مثل العفو والشفاعة عند الملوك والأمراء الذين تتغير انفعالاتهم
ويمكن للمقرب منهم أن يؤثر في نفوسهم ويحملهم على ما يريد منهم ونحو هذا مما
هو ممتنع في جانب الله تعالى - هل يتجرأ آحاد الناس على الجرائم والجنايات
جهرًا اتكالاً على عفو الأمير أو السلطان أو توقعًا لاحتمال الشفاعة له من أحد
المقربين إليه؟ ! كلا، إن مَن يجاهر من الناس بالجناية رجاء العفو أو الشفاعة
لا بد أن تكون له مكانة عند السلطان أو المقرب إليه؛ بحيث يجزم أو يرجح أن العفو
يناله، بل إنه لا يُسأل عما يفعل، وإنما يكون هذا في الحكومات الاستبدادية التي لا
يتقيد سلطانها بشريعة ولا نظام، ومثل هذا مستحيل في جانب أحكم الحاكمين سبحانه
وتعالى. وهذه المسألة دليل واضح على مسألتنا؛ وهي أن العمل إنما ينشأ عن العلم
الأثبت والأقوى في النفس. وإليك مع هذا البيان المعقول من البراهين النقلية الآية
التي صدَّرنا بها هذه المقالة: {إِِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28)
وحديث: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية) .
ثبت بما ذكرناه أن العقل والنقل متفقان على أن العلم الصحيح السالم من
الشوائب والعلل هو الباعث لإرادة الإنسان على تحريك الأعضاء للعمل. فيصح أن
يستدل بأعمال الأفراد وأعمال الأمم على مكانتها من العلوم بوجوه منافعها ومصالحها
وما عندها من الفنون التي يزيد العمل بها إتقانًا وارتقاءً. ومعلوم أن سعادة الأمم
بأعمالها، وأعمالها لا ترتقي في مدارج الكمال إلا بالاتفاق والتعاون، والاتفاق
والتعاون لا يأتيان إلا من تهذيب الأخلاق وتقويم العادات وتصحيح العقائد التي يُبنَى
عليها الترغيب والترهيب اللذان يقودان إلى التهذيب، وحسبك من الدليل النقلي على
ذلك حديث: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وتعليم التهذيب هو وظيفة العلماء
ورثة الأنبياء، وإهمال أصحاب هذه الوظيفة لها هو الذي يدهور الأمم في مهاوي
الشقاء. فثبت بهذا كله أن مبدأ ما حل بالشعوب الإسلامية من التأخر والانحطاط
إهمال العلماء وظائفَهم في الإرشاد والتهذيب، والداء إنما يُشفَى بإزالة علته وسببه
واصطلام الجراثيم التي يتولد هو منها؛ ولذلك جعلنا من مقاصد جريدتنا الأولية بيان
تقصير العلماء وأسبابه، والبحث في العلل التي أفسدت التعليم وحالت بين المتعلمين
وبين غايات العلوم والفنون التي يتدارسونها، ومزج هذه المباحث بلوم العلماء
تارة، وحثهم على الإصلاح تارة أخرى، وقد رأينا من أفاضل علماء مصر
المنصفين - وبلغنا عن مثلهم من علماء تونس والهند - استحسان عملنا هذا
وتقريظه، وأنه يُرجى الانتفاع به؛ فزادنا هذا نشاطًا واجتهادًا، والله يهدي مَن
يشاء إلى صراط مستقيم.
_________
(1)
(فاطر: 28) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
مؤاخذة العلماء والرد على جريدة طرابلس
كم أداوي القلب قلَّت حيلتي
…
كلما دويت جرحًا سال جرحُ
ذكرنا في العدد الماضي أننا رأينا في جريدة طرابلس مقالة - كليالي الشتاء -
أي: طويلة مظلمة باردة، تعتذر فيها عن العلماء الذين أهملوا وظائفهم في
إرشاد الأمة وتزعم أنهم غير مؤاخَذين بترك الواجب عليهم لأوهام وتخيلات، ذكرتها
ولولا خشية انخداع الناس بقولها وتوهم صاحبها أنه جاء بحق مقنع؛ لما تعرضنا للرد
عليها ولكن هذه المسألة التي تنفيها هي ونثبتها نحن (مؤاخذة العلماء بترك إرشاد
الأمة الذي هو مناط سعادتها بالاتفاق حتى من جريدة طرابلس) - هي القطب الذي
يدور عليه ما نرجوه من إصلاح حال الأمة؛ ولذلك نرى من الواجب أن نزيح عنها
شُبه المشتبهين، ونزيل تمويه المموهين {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ
عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 42) ؛ أي، ليظهر للمرتاب - في كونه
مؤاخَذًا- أنه مؤاخَذ، فيكون هلاكه بترك الواجب إذا هو تركه عن بينة، وحياته
بالقيام به إذا هو فعل عن بينة، والله سميع لأقوالنا عليم بنياتنا؛ فيجازينا عليها.
أما كون المقالة باردة فقد عنينا به ما فيها من التنديد بأحد الكُتاب ونبزه
بالألقاب. وقد انبعق قلم كاتب المقالة في هذا، ونضح إناؤه بما لعله يعيبه على غيره
إذا هو صدر منه، وعهدنا بأناته أنه لا ينطق بمثل ذلك الكلام إلا إذا غلب على
أمره بانفعال شخصي قوي، أما المصالح العامة فإنه فيها هين وكلامه لين. وأدب
الشرع في الوعظ معروف، وهو الشدة في الكلام العام الذي يوجه إلى صِنف من
الناس بحسب درجة انحرافهم، حتى جوَّز لعن الفاسقين ولم يجوِّز لعن كافر
معين بالشخص أو الوصف الذي يتعين به، ويا ليت شِعْري هل يقول: إن رمي
أحد الناس بالغلظة والفظاظة والسفه والحُمق - يكون من الرقة واللطافة
والحلم والعقل التي ينضح بها إناء الإنسان الكامل؟ !
وأما كونها مظلمة فلما فيها من العسلطة، واشتباه الحق بالباطل وتمويه
الصواب بالخطأ الذي يرمي الأمة في هوة اليأس والقنوط؛ بزعمها أن العلماء
سقط عنهم وجوب إرشاد الأمة مع الاعتراف بأن نهوض الأمة منوط بإرشادهم،
وأن التبعة ينبغي أن تُلقى على الأغنياء، وعللت ذلك بقولها: (إن المطالب أولاً
وبالذات بالإنشاءات العمومية التي بها نجاح الأمة هم أهل الثروة وذوي (كذا)
الغِنى) ثم اعترفت: (بأن أرباب الثروة ليسوا كلهم عارفين ثمرات تلك
المشروعات العمومية) وأنهم يحتاجون إلى موقظ ينبههم من هذا السبات، وأنه (ليس
ثمة من موقظ من ذلك الإيقاظ ومنبه ذلك التنبيه وباعث ذلك البعث - إلا قيام العلماء
نافذي الكلمة؛ يعظون المواعظ الحسنة ويخطبون الخطب الطنانة ويتكبدون مشاق
الأسفار وينشرون في الجرائد خطاباتهم دون إسرار) وأنت ترى أن هذا يرجع
باللائمة على العلماء أولاً وبالذات خلافًا لقوله الأول؛ لأن الأغنياء لا ينبعثون
إلى العمل إلا بإرشادهم كما قال فهم المطالِبون بالإصلاح قبل كل أحد.
إن صاحب العلم الإجمالي عندما يتكلم في مسألة غير محيط بأطرافها، وعلى
غير بيِّنة من جميع دخائلها وعوارضها ربما يحتج على النفي بما يقتضي الإثبات،
وعلى الإثبات بما يقتضي النفي، ويقر بالشيء في معرض الإنكار وينكره في معرض
الإقرار؛ فتأتي في تضاعيف كلامه القضايا الصحيحة في غير مواضعها، فلا يكاد
يستفاد منها، ولكن عندما تقوم الحجة عليه بنفي شيء أو إثباته - يتنصل ويخطِّئ
صاحب الحجة مستدلاً بأنه قال كذا في مكان كذا! ومن هذا القبيل ذكرت جريدة
طرابلس أن المطالب بنجاح الأمة - أو وبالذات الأغنياء - فإنه لا معنى لذكره في
مقام رقع التبعة عن عواتق العلماء إلا إذا كان صحيحًا على إطلاقه، لكنه ليس
بصحيح؛ لأن الأغنياء يحتاجون قبل ذلك إلى مَن يعرِّفهم بمنافع الإنشاءات العمومية
كالمدارس والمصانع، وقد اعترفت الجريدة بذلك كما علمت، وأهم من هذا حاجتهم
قبل ذلك إلى تهذيب يجمع كلمتهم وينفخ فيهم روح الثقة الوطنية؛ فإن أهل الشرق
الآن لا يكادون يثقون في الأعمال العمومية إلا بالأجانب!
الأعذار الثلاثة:
اعترفت الجريدة المذكورة بأن الواجب على العلماء إرشاد الخلق إلى مصالح
المعاش والمعاد، ولكن زعمت أنهم بتركه معذورون وبتفويته (كذا في الأصل) غير
موزورين وانتحلت لذلك أعذارًا ثلاثة نذكرها ونبين فسادها:
(العذر الأول) ملخصه أن العلماء - في الغالب - ليسوا أصحاب ثروة، وأن
أغلبهم يعيش من نحو تدريس أو إمامة أو خطابة ومداخيل (كذا في الأصل) ، هذه
الوظائف قلّ أن تزيد عن الكفاية، قال الكاتب: فإذا أرادوا أن يقوموا في تلك
(كذا) الوظيفة التي نقول: إنها واجبة عليهم. وهي وظيفة تحتاج لتفريغ أوقات
كثيرة للقيام بالخطب والمواعظ ونشر المقالات الحادثة في الجرائد وتجشُّم أسفار -
فمَن يا تُرى يقوم بمصارفهم (كذا) إن قاموا بتلك الأعباء؟ ! .. إلخ.
الجواب:
إن هذا العذر ممثل للذنب تمثيلاً لا يدع للتمويه والانتحال سبيلاً؛ ذلك أن ما
هو مورد رزقهم من الخطابة والتدريس لو قاموا به حق القيام لأدوا الواجب عليهم
للأمة، ولكن دروسهم وخطبهم هي مما يفسد الأخلاق والأعمال بما تنفثه من سُم الجبر
باسم القضاء والقدر والتكسيل عن العمل بحجة الزهد والتوكل، والتجرئة على
المعاصي بالتمنية بالشفاعات والمكفرات، والإياس من قوة الأمة وترقيها بما يزعمون
من أن سعادة الأمة وعزتها لا يكونان إلا على يد المهدي المنتظر، وأن هذا الشقاء
الذي وقعت فيه لا مفر منه؛ لأنه علامة على قرب الساعة وانتهاء الزمان، ولأن
القاعدة المقررة أنه لا يمضي يوم إلا والذي بعده شر منه، ونحو ذلك من التعاليم
الغامضة والفاسدة المنتشرة في الكتب والخطب وبها، يعظون ويعلِّمون. وقد فصلنا
القول في بعضها، وموعدنا - ببيان سائرها - الأعداد الآتية إن شاء الله تعالى.
سبحان الله! كيف يعتذر بمثل هذا العذر سوري وأكثر العلماء المدرسين في
سوريا لا يقرؤون الدروس الوعظية إلا في شهر رمضان، ويأخذون من مال الأوقاف
أجور سنة كاملة، ويقضون معظم أوقاتهم في البطالة، وشأنهم في نواديهم وسُمَّارهم
الخوض مع الحائضين في اللغو واللهو، فهل نظرت للواقع - يا أستاذ طرابلس -
وراقبت الله تعالى عندما قلت: إن قيامهم بالواجب منه السفر الذي هم عاجزون عنه
لفقرهم؟ ! ورتبت على هذا أنهم عاجزون عن القيام بوظيفتهم على الإطلاق، وقلت
إن: (أهل الغفلة لا يعذرونهم وإنهم عند الله لمعذورون) ، ألا تذكر - يا أستاذ
طرابلس - أننا اقترحنا عليك أن تقرأ للطلبة في مدرستك درسًا في أخلاق الدين
كالجزء الثالث من الإحياء فاعتذرت بضيق الوقت، فقلت له: استبدل هذا الدرس
بدرس مقامات الحريري القليل الجدوى، فاعتذرت بما ملخصه أن التلامذة يستثقلون
مثل هذا الدرس ولا يرتاحون له، مع أن هذا العلم فرض عين وتعليمه من فروض
الكفاية، ولم يقم به في بلدك أحد، ومرت السنون ولم تقرأ في الأخلاق شيئًا، قلت:
لا يكفي مجرد وعظ العلماء في دروسهم المقامة في بعض المساجد لقلة مَن حضره.
فهل تقول مثل ذلك أيضًا في خطب الجوامع إن كنت تحب إرشاد الناس؟ ! فاعقد
بالله مجلس وعظ بعد صلاة الجمعة، واجعلْه كل أسبوع في مسجد وانظر أيجتمع
عليك الناس أفواجًا أفواجًا أم لا؟ ! قل لي - يا رعاك الله - هل يُنقص هذا من
رزقك الذي تأخذه من الأوقاف أو من خزينة الدولة أو من المطبعة والجريدة؟ وهل
تخشى منه على عيّلك الفقر والمسكنة.
اللهم بصِّرنا نفوسنا وأرنا الحقائق كما هي كيلا نضل ونشقى.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________