الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطاب وعظي للإنسان
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: فيا أيها الإنسان خلقك الله وسطًا بين العوالم الجسدية والروحية
وأعطاك سلطانًا على العوالم السفلية والعلوية، منحك المشاعر البادية والكامنة
وأسبغ عليك نِعَمه ظاهرة وباطنة، ولم يجعل لاستعدادك حدًّا معروفًا، ولا لرقيك
منتهى محدودًا، فلماذا قنع بعض أبنائك بالمرتبة الدنيا فوقفوا عند الدرجة السفلى؟
يتخطى إخوتهم رقابهم وهم سائرون، ويطؤون هامهم وهم صاعدون، ولكنهم
وادعون ساكنون، كأنهم لا يحسون ولا يشعرون، العبر أمامهم ووراءهم والمنبهات
عمت أرضهم وسماءهم. ولكنهم لا يعتبرون ولا يتنبَّهون {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (يس: 9) .
يا أيها الإنسان، ما هذا الفرق الكبير الذي بين أفرادك. واحد كألف، وألف
كأف. بل واحد يدبر شؤون أمة كاملة حتى كأنه روح مدبرة، وهي أعضاء مسخرة
فأجدر بالإنسانية أن تقر لهذا بنسبته، وتنكر أولئك وإن كانوا على صورته
{أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .
ويا مَن خُلق على صورة الإنسان، ولكنه يعيش بروح أخس حيوان. أَفِقْ من
سكرتك، وهب من رقدتك، واكفُفْ عن التمادي في الشهوات البهيمية، والاسترسال
في التعديات الوحشية. واعلم أن لك روحًا أخرى إذا غلبتها على هواك، وحكَّمتها في
قواك. فإنك ترتقي إلى حال جديدة تحيا بها حياة سعيدة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4) .
ويا أيها الشرقي تذكر وتدبر، واعلم أن ذنوب الأمم لا تُغفر، فما من أمة فشا
في آحادها الكذب والخيانة والنفاق، وفسدت من آحادها الآداب والأخلاق. فانحرفت
عن الشريعة الإلهية، ولم تسترشد بالسنن الكونية - إلا وصب عليها مدبر الكون
سوط عذاب {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
العِقَابِ} (الأنفال: 25)، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 21) .
إن شر الدوابِّ عند الله الصم الذين لا يسمعون سماع تعقل وتدبر، البُكم الذين
لا ينطقون بالحق فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر. فاسمعوا وأطيعوا
واعلموا واعملوا. وألفوا الشركات المالية، واعقدوا الجمعيات العلمية والأدبية
{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (التوبة: 41) .
وهاكم هذه المجلة التهذيبية. الخادمة لجامعتكم الملية والوطنية. تنتقي لكم ما
هو أمسّ بمصلحتكم، وأقرب - إن شاء الله تعالى - لمنفعتكم، وأدعى - بفضل الله
تعالى - إلى نهضتكم. وأرجى - بتوفيق الله عز وجل لجمع كلمتكم. فتبين البدع
التي مازجت العقائد، والمفاسد التي عرضت للسجايا والعوائد؛ فأمرضت العقول
وانحرفت بالنفوس عن سواء السبيل، وتهدي لعلاج هذه الأمراض الروحية
والأدواء الاجتماعية. بكشف الحجاب عن وجوه التربية النافعة، وتسهيل سبل
التعاليم الناجعة. وتختار من الآثار العلمية والأدبية، والملح والنوادر الفكاهية، ما
ترتاح له مع الفائدة النفوس، وتنجلي به على نزاهته الهموم والبؤوس.
أما جوائب الأخبار، وحوادث الأقطار والأمصار فنذكر منها أهم ما يفيد
القارئين - لا سيما المصريين والعثمانيين - وسالكين فيه منهج المؤرخ العادل، من
غير طعن ولا تحامل. فالخدمة الصحيحة للدولة والأمة إنما تكون بتبيين الرشد من
الغي، وتمييز الخطأ من الصواب، والتزييل بين النافع والضار؛ إذ التجريح
والترجيح، والذم والمديح - لا يخفض شيء منها قدرًا، ولا يرفع ذكرًا، ولا يكون
مناطًا لعزة ورقي، ولا لذلة وهُوي، وسواء كان ذلك في الأمم والدول، أم في الآحاد
والأشخاص. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا في سنتنا هذه لأحسن ما وفقنا له في سنتنا
الخالية. ونرجو من فضلاء الأمة الذين استعذبوا مشرب الجريدة. واعتقدوا أن
مباحثها نافعة مفيدة أن يشدّوا أزرنا، ويساعدونا على تعميم نشرها {وَتَعَاوَنُوا عَلَى
البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) وتمسكوا من الإصلاح بالسبب الأقوى {وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (البقرة: 189) ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) .
خلق الله الإنسان عالمًا صناعيًّا، ويسّر له سبيل العمل لنفسه، وهداه للإبداع
والاختراع، وقدر له من الرزق من صنع يده بل جعله ركن وجوده، ودعامة بقائه،
فهو على جميع أحواله من ضيق وسعة، وخشونة ورفاهة، وتبدٍّ وحضارة صنيعة
أعماله: أقواته من معالجة الأرض بالزراعة أو قيامه على الماشية، وسرابيله وما
يقيه من الحر أو البرد والوجى من عمل يديه نسجًا أو خصفًا. وأكنانه ومساكنه
ليست إلا من مظاهر تقديره وتفكيره، وجميع ما يتفنَّن فيه من دواعي ترفه ونعيمه
إنما هي صور أعماله ومَجَالِي أفكاره، ولو نفض من يديه من العمل لنفسه ساعة من
الزمان، وبسط أكفّه للطبيعة يستجديها نفسًا من حياة - لشحت به عليه بل دفعته إلى
هاوية العدم. وهو في صنعه وإبداعه محتاج إلى أستاذ يثقفه، وهادٍ يرشده، فكما
يعمل لتوفير لوازم معيشته وحاجات حياته - يعمل ليعلم كيف يعمل، وليقتدر على أن
يعمل؛ فصنعته أيضًا من صنعه، فهو في جميع شؤونه الحيوية عالم صناعي كأنه
منفصل عن الطبيعة بعيد من آثارها، حاجته إليها كحاجة العامل لآلة العمل.
هذا هو الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه.
دعْه في هذه الحالة وخذ طريقًا من النظر إلى أحواله النفسية من الإدراك
والتعقل والأخلاق والملكات والانفعالات الروحية - تجدْه فيها أيضًا عالمًا صناعيًّا:
شجاعته وجبنه، وجزعه وصبره، كرمه وبخله، شهامته ونذالته، قسوته ولينه
عفته وشرهه وما يشابهها من الكمالات والنقائص. جميعها تابع لما يصادفه في
تربيته الأولى، وما يودع في نفسه من أحوال الذين نشأ فيهم وتربَّى بينهم، مرامي
أفكاره، ومناهج تعقله ومذاهب ميله ومطامح رغباته ونزوعه إلى الأسرار الإلهية،
أو ركونه إلى البحث في الخواص الطبيعية، وعنايته باكتشاف الحقيقة في كل شيء،
أو وقوفه عند بادئ الرأي فيه وكل ما يرتبط بالحركات الفكرية، إنما هي ودائع
اختزنها لديه الآباء والأمهات والأقوام والعشائر والمخالطون. أما هواء المولد
والمربي ونوع المِزَاج وشكل الدماغ وتركيب البدن وسائر الغواشي الطبيعية فلا أثر
له في الأعراض النفسية والصفات الروحانية، إلا ما يكون في الاستعداد والقابلية،
على ضعف في ذلك الأثر؛ فإن التربية وما ينطبع في النفس من أحوال المعاشرين
وأفكار المثقفين تذهب به كأن لم يكن أودع في الطبع. نعم، إن أفكارًا تتجدد،
ومعقولات من أخرى تتولد وصفات تسمو، وهممًا تعلو حتى يفوق اللاحقون فيها
السابقين، ويظن أن هذا من تصرف الطبيعة لا من آثار الاكتساب، ولكن الحق فيه
أنه ثمرة ما غرس، ونتيجة ما كسب؛ فهو مصنوع يتبع مصنوعًا، فالإنسان في
عقله وفي صفات روحه عالم صناعي.
هذا مما لا يرتاب فيه العقلاء والسذج، ولكن هل تذكرت مع هذا أن الأعمال
البدنية، إنما تصدر عن المهلكات والعزائم الروحية، وأن الروح هي السلطان
القاهر على البدن؟ أظنك لا تحتاج فيه إلى تذكير؛ لأنه مما لا يعزُب عن الأذهان،
إنما قبل الدخول في موضوعنا أقول كلمة حق في الدين ولا أظن منكرًا يجحدها:
إن الدين وضع إلهي ومعلمه والداعي إليه البشر تلقاه العقول عن المبشرين
المنذرين فهو مكسوب لمن يختصهم الله بالوحي [1] ، ومنقول عنهم بالبلاغ والدراسة
والتلقين، وهو عند جميع الأمم أول ما يمتزج بالقلوب، ويرسخ في الأفئدة وتصبغ
النفوس بعقائده وما يتبعها من المَلَكات والعادات، وتتمرن الأبدان على ما ينشأ عنه من
الأعمال عظيمها وحقيرها، فله السلطة الأولى على الأفكار وما يطاوعها من العزائم
والإرادات، فهو سلطان الروح ومرشدها إلى ما تدبر به بدنها. وكأنما الإنسان في
نشأته لوح صقيل، وأول ما يخطّ فيه رسم الدين، ثم ينبعث إلى سائر الأعمال بدعوته
وإرشاده. وما يطرأ على النفوس من غيره فإنما هو نادر شاذ، حتى لو خرج مارق
عن دينه لم يستطع الخروج عما أحدثه فيه من الصفات بل تبقى طبيعته فيه كأثر
الجرح في البشرة بعد الاندمال.
وبعد هذا، فموضوع بحثنا الآن الملة المسيحية والملة الإسلامية، وهو بحث
طويل الذيل، وإنما نأتي فيه على إجمال ينبئك عن تفصيل: إن الديانة المسيحية
بُنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص واطِّراح الملك
والسلطة ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم
المتدينين بها وترك أموال السلاطين للسلاطين والابتعاد عن المنازعات الشخصية
والجنسية بل والدينية، ومن وصايا الإنجيل: (مَن ضربك على خدك الأيمن فأدرْ له
خدك الأيسر) ومن أخباره أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد وهي فانية،
والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح وهي لله وحده. فمَن يقف على مباني هذه
الديانة ويلاحظ ما قلنا من أن الدين صاحب الشوكة العظمى على الأفكار مع
ملاحظة أن لكل خيال أثرًا في الإرادة يتبعه حركة في البدن على حسبه - يعجب كل
العجب من أطوار الآخذين بهذا الدين السلمي المنتسبين في عقائدهم إليه؛ فهم
يتسابقون في المفاخرة والمباهاة بزينة هذه الحياة ورفَه العيش فيها، ولا يقفون عند حد
في استيفاء لذَّاتها [2] ، ويسارعون إلى افتتاح الممالك والتغلب على الأقطار الشاسعة،
ويخترعون كل يوم فنًّا جديدًا من فنون الحرب، ويُبدعون في اختراع الآلات
الحربية القاتلة، ويستعملها بعضهم في بعض ويصولون بها على غيرهم،
ويبالغون في ترتيب الجيوش وتدبير سوقها في ميادين القتال، ويصرفون عقولهم في
إحكام نظامها حتى وصلوا إلى غاية صار بها الفن العسكري من أوسع الفنون
وأصعبها، وإن أصول دينهم صارفة لعقولهم عن العناية بحفظ أملاكهم فضلاً عن
الالتفات إلى طلب غيرها.
الديانة الإسلامية وُضع أساسها على طلب الغلب والشوكة، والافتتاح والعزة،
ورفض كل قانون يخالف شريعتها، ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية
على تنفيذ أحكامها؛ فالناظر في أصول هذه الديانة، ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل
يحكم حكمًا لا ريب فيه بأن المعتقدين بها لا بد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم
وأن يسبقوا جميع المِلَل إلى اختراع الآلات القاتلة، وإتقان العلوم العسكرية،
والتبحُّر فيما يلزمها من الفنون كالطبيعة والكيمياء وجرّ الأثقال والهندسة وغيرها.
ومن تأمل في آية {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) -
أيقن أن مَن صُبغ بهذا الدين فقد صُبغ بحب الغَلَبَة وطلب كل وسيلة إلى ما يسهل له
سبيلها والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية فضلاً عن الاعتصام بالمَنَعَة والامتناع من
تغلب غيره عليه. ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرم المراهنة إلا في السباق
والرماية - انكشف له مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرن عليها.
ولكن مع كل ذلك تأخذه الدهشة من أحوال المتمسكين بهذا الدين لهذه الأوقات؛
إذ يراهم يتهاونوا بالقوة، ويتساهلون في طلب لوازمها، وليست لهم عناية في فنون
القتال ولا في اختراع الآلات، حتى فاقتهم الأمم سواهم فيما كان أول واجب عليهم،
واضطروا لتقليدها فيما يحتاجون إليه من تلك الفنون والآلات، وسقط كثير منهم
تحت سلطة مخالفيهم واستكانوا ورضخوا لأحكامها. ومَن وازن بين الديانتين حار
فكره كيف اخترع مِدفع الكروب والمتراليوز وغيرهما بأيدي الديانة الأولى قبل
الثانية؟ وكيف وجدت بندقية مرتين في ديار الأولين قبل وجودها عند الآخرين؟
وكيف أُحكمت الحصون ودُرعت البواخر وأُخذت مغالق البحار بسواعد أهل السلامة
والسلم دون أهل الغلة والحرب؟ !
لِمَ لا يحار الحكيم وإن كان نطاسيًّا؟ لم لا يقف الخبير البصير دون استكناه
الحقيقة؟ ألم تكن القرون الخالية والأحقاب الماضية كافية لرسوخ الديانتين في نفوس
المستمسكين بعُرَاهما، هل نبذت كل ملة من الملتين عقائد دينها ظِهْريًّا من أجيال
بعيدة؟ هل اقتصر النصارى في دينهم على الأخذ بشريعة موسى واقتفاء سيرة
يوشع بن نون؟ هل تخللت بعض (آيات) الإنجيل من حيث يدري ولا يدري
بين الخطب والمواعظ التي تُتلى على منابر المسلمين، أو أُلقي شيء منها في أمانيّ
معلميهم وناشري شريعتهم عند ما يتربعون في محافل دروسهم؟ هل تبدلت سنة الله
في الملتين؟ هل تحول مجرى الطبيعة فيهما؟ هل استبدت الأبدان فيهما على
الأرواح؟ أو وُجد للأرواح مدبر سوى الفكر والخيال؟ أو انفلتت الأفكار من سلطة
الدين، أو تعاصت النفوس عن الانتقاش بنقشته وهو أول حاكم عليها وأقوى مؤثر
فيها؟ هل تتخلف العلل عن معلولاتها؟ هل تنقطع النسب بين الأسباب ومسبباتها؟
ماذا عساه يرشد العقول إلى كشف المساتير وحل المعميات؟ أينسب هذا إلى اختلاف
الأجناس، وكثير من أبناء الملتين يرجعون إلى أصول واحدة ويتقاربون في الأنساب
الدانية؟ أينسب هذا إلى اختلاف الأقطار، وكثير من القبيلين يتشابهون في طبائع
البلدان، ويتجاورون في مواقع الأمكنة؟ ألم يصدر من المسلمين - وهم في شبيبة
دينهم - أعمال بهرت الأبصار وأدهشت الألباب؟ ألم يكن منهم مثل فارس والعرب
والترك الذين دوخوا الممالك واستووا على كرسي السيادة فيها؟
كان للمسلمين في الحروب الصليبية آلات نارية أشباه المدافع فزع لها
المسيحيون، وغابوا عن معرفة أسبابها. ذكر ملكام سرجم (إنكليزي) في تاريخ
فارس أن محمودًا الغزنوي كان يحارب وثنيي الهند بالمدافع، وكانت هي الأسباب في
انهزامهم بين يديه سنة 400 للهجرة! وما كان المسيحيون لذلك العهد يعرفون شيئًا
منها. فأي عون من الدهر أخذ بأيدي الملة المسيحية فقدمها إلى ما لم يكن في قواعد
دينها، وأي صدمة من صدماته دفعت في صدور المسلمين فأخَّرتهم عن تعاطي
الوسائل ما هو أول مفروض في دينهم؟
مقام للحيرة وموضع للعجب، ويظن أنه لا بد لهذا التخالف من سبب، نعم،
وتفصيله يطول، ولكن نجمل على ما شرطنا:
إن الدين المسيحي إنما امتد ظله، وعمت دعوته في الممالك الأوروبية من أبناء
الرومانيين وهم على عقائد وآداب وملكات وعادات ورثوها عن أديانهم السابقة
وعلومهم وشرائعهم الأولى، وجاء الدين المسيحي إليهم مسالمًا لعوائدهم ومذاهب
عقولهم، وداخلهم من طرق الإقناع ومسارقة الخواطر لا من مطارق البأس والقوة،
فكان كالطراز على مطارفهم، ولم يسلبهم ما ورثوه عن أسلافهم. ومع هذا فإن
صحف الإنجيل الداعية للسلامة والسلم لم تكن لسابق العهد مما يتناوله الكافة من
الناس بل كانت مذخورة عند الرؤساء الروحانيين. ثم إن الأحبار الرومانيين لما
أقاموا أنفسهم في منصب التشريع وسنّوا محاربة الصليب ودعوا إليها دعوة الدين
التحمت آثارها في النفوس بالعقائد الدينية، وجرت فيها مجرى الأصول ولحقها على
الأثر تزعزع عقائد المسيحيين في أوروبا وافترقوا شيعًا وذهبوا مذاهب تنازع الدين
في سلطته، وعاد وميض ما أودعه أجدادهم في جراثيم وجودهم ضرامًا، وتوسعوا
في فنون كثيرة وانفسح لهم مجال الفكر فيها. وكانت براعتهم في الفن العسكري
واختراع آلات الحرب والدفاع مساوقة لبراعتهم في سائر الفنون.
وأما المسلمون فبعد أن نالوا في نشأة دينهم ما نالوا، وأخذوا من كل كمال
حربي حظًّا، وضربوا في كل فَخار عسكري بسهم، بل تقدموا سائر الملل في فنون
المقارعة، وعلوم النزال والمكافحة، ظهر فيهم أقوام بلباس الدين وأبدعوا فيه
وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت بينهم قواعد الجبر وضربت في الأذهان حتى
اخترقتها، وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعِنانها عن الأعمال، هذا إلى ما أدخله
الزنادقة فيما بين القرن الثالث والرابع، وما أحدثه السوفسطائية الذين أنكروا مظاهر
الوجود وعدّوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق، وما وضعه كَذَبة النقل من
الأحاديث ينسبونها إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ويثبتونها بالكتب، وفيها
السم القاتل لروح الغيرة، وإن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفًا في الهمم وفتورًا
في العزائم، وتحقيق أهل الحق وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك - لم
يرفع تأثيره عن العامة؛ خصوصًا بعد حصول النقص في التعليم، والتقصير في
إرشاد العامة إلى أصول دينهم الحقة ومبانيه الثابتة التي دعا إليها النبي وأصحابه،
فلم تكن دراسة الدين على طريقها القويم إلا منحصرة في دوائر مخصوصة بين فئة
معينة، لعل هذا هو العلة في وقوفهم، بل الموجب لتقهقرهم وهو الذي نعاني من
عنائه اليوم ما نسأل الله السلامة منه.
إلا أن هذا العوارض التي غشيت الدين وصرفت قلوب المسلمين عن رعايته
وإن كان حجابها كثيفًا - لكن بينها وبين الاعتقادات الصحيحة التي لم يُحرَموها
بالمرة تدافُع دائم وتغالب لا ينقطع، والمنازعة بين الحق والباطل كالمدافعة بين
المرض وقوة المِزَاج، حيث إن الدين الحق هو أول صبغة صبغ الله بها نفوسهم، ولا
يزال وميض برقه يلوح في أفئدتهم بين تلك الغيوم العارضة فلا بُدَّ يومًا أن يسطع
ضياؤها ويقشع سحاب الأغيان، وما دام القرآن يُتلى بين المسلمين وهو كتابهم
المنزل وإمامهم الحق، وهو القائم عليهم، يأمرهم بحماية حوزتهم والدفاع عن ولايتهم
ومغالبة المعتدين وطلب المنَعة من كل سبيل، لا يعين لها وجهًا، ولا يخصص لها
طريقًا - فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم، ونهوضهم إلى مقاضاة الزمان ما
سلب منهم، فيتقدمون على مَن سواهم في فنون الملاحمة والمنازلة والمصاولة حفظًا
لحقوقهم وضنًّا بأنفسهم على الذل، وصونًا لملتهم من الضياع، وإلى الله تصير
الأمور.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(العروة الوثقى)
_________
(1)
هذا ما كُتب بقلم الأستاذ الشيخ محمد عبده عن لسان الحكيم الإسلامي السيد جمال الدين الشهير وبالاتفاق معه؛ فليخشَ الله مَن كان يتهم هذين الحكيمين أو أحدهما بالقول بأن النبوة مكتسَبة، وما أعظم بهتان مَن يقول: إن المرحوم السيد جمال الدين صرح بهذا الاعتقاد في الخطاب العام الذي ألقاه في الآستانة في الحث على الصنائع، أما وسر الحق لو صرح به في الآستانة لما صرح بخلافه في باريس حيث كان يُصدر العروة الوثقى.
(2)
ذكَّرنا هذا ما جاء في (المقتطف) الأغر (جزء 20، صفحة 860) في تقريظ منشور المجمع القسطنطيني الأرثوذكسي ردًّا على منشور البابا لاون الثالث عشر وهو بنصه:
ومن العجب أن رؤساء الطوائف المسيحية يتنازعون على العقائد المذكورة آنفًا (أي: ككون
العماد لا يصح بالتغطيس، وسر الشكر يجب أن يكون بالخبز المخمَّر) ولا يتحرك لهم قلم، ولا ينطق لهم لسان في طلب إنصاف المظلوم والقضاء لليتيم والمحاماة عن الأرملة، وقد نخر سوس الفساد عظام التمدن الأوربي، وصار المال معبود المسيحيين ولا همّ لرؤسائهم إلا لبس الوسامات واتساع السلطة، ونخشى أنه إذا جاء ابن الإنسان لم يجد إيمانًا على الأرض؛ لأن الاهتمام بالعَرَض شغل الناس عن الاهتمام بالجوهر، ولأن حب الدنيا سدل حجابًا على العيون.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإيثار
جعلت الديانة الإسلامية الأعمال الفاضلة على قسمين: قسم حُكمه الوجوب،
وهو ما لا حرج فيه ولا مشقة على الناس كلهم باتباعه: كأداء الزكاة وإنظار المعسر
والمساواة والمماثلة في العقوبة. وقسم حكمه الندب والاستحباب؛ وهو ما لا يمكن أن
يكون عليه الناس كلهم: كالعفو عن الجاني، وإبراء المعسر والإيثار على النفس مع
الحاجة والخَصاصة، والأعمال الواجبة التي كلف بها جميع الناس جزمًا أفضل من
الأعمال المستحبة التي طُلبت طلبًا غير جازم في الغالب؛ فإن إبراء المعسر أفضل
من إنظاره كما لا يخفى، ويتراءى لغير المحقق أن الإيثار - ولو بالضروري -
أفضل من الإنفاق مما زاد على الحاجة الذي هو أصل الشريعة، ودونك ما أوردناه
في كتابنا (الحكمة الشرعية) من تحقيق هذا البحث وفاءً بوعدنا في العدد الماضي
وهو:
إن كتب السنة وأخبار السلف وآثارهم؛ تشهد لهم بفضيلة الإيثار على أنفسهم،
وقد مدح الله عز وجل به الأنصار بقوله - عز من قائل -: {وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) وأقوال العلماء المصرِّحة بأن المؤاثرة أفضل درجات البذل مالئة
بطون الدفاتر، ومع هذا فقد حقق إمام العارفين الشيخ الأكبر محيي الدين أن مقام
أكمل الكملة تقديم أنفسهم وعدم المؤاثرة، فقد ذكرنا في رسالته (روح القدس) كلامًا
في مناظرة نفسه أقنعها فيه بأن ليس لها قدم مع الأنبياء ولا مع الصحابة، وأراد أن
يقنعها بذكر أحوال بعض التابعين بأنها لم تبلغ لهم أيضًا شأوًا أيضًا، فقصَّ عليها
أحسن القصص من أحوال أُويس القَرني رضي الله عنه وسيرته في الإنفاق.
قال قدس سره [1] :
فقالت النفس - يا سيدي -: ارفقْ بي ولا تعجل، فقد ظهر لي في مسألة
أويس هذا أمر خرج الحَلَاّج فيه فوقه، وذلك أن الحلاج رضي الله عنه قال مخبرًا
عن حالته: إذا قعد الرجل عشرين يومًا دون غذاء، ثم جاءه طعام فعرف أن في
البلد مَن هو أحوج منه لذلك الطعام فأكله، ولم يؤثر ذلك المحتاج به فقد
سقط.
وهذا مقام عالٍ كما رأيته. وهذا أويس رضي الله عنه ما كان يتصدق
إلا بفضل طعامه وثيابه، فيأخذ حاجته أولاً، ثم يعطي ما فضل عن قُوته كل، ليلة
وهو يعلم أن ثَمَّ جائعًا ولم يعطه وهذا كما رأيته قال:
قلت لها: يا نفس ما أنتِ إلا اعترضت اعتراض من لا يعرف الحقائق، ولكنك
جهلت المقال، فاسمعي الجواب، واعلمي أن أويس هو الإمام الذي لا يلحق.
واعلمي أيتها النفس أن العارف إذا كان صاحب حال مثل الحلاج فرق بين نفسه وبين
غيره، فعامل نفسه بالشدة والقهر والعذاب، وعامل نفس غيره بالإيثار والرحمة
والشفقة، وإذا كان العارف صاحب مقام وتمكين وقوة صارت نفسه عنه أجنبية، لا فرق عنده بينها وبين نفوس العالم، فما يلزمه في حق نفوس الغير من الرحمة
والشفقة - يلزمه في حق نفسه؛ لكونها صارت عنه أجنبية وارتفع هو علويًّا،
وبقيت، هي مع أبناء جنسها سفلية، فلزمه العطف عليها كما لزمه على غيرها؛
فإن صاحب الصدقة العارف إذا خرج بصدقته ولقي أول مسكين يدفع إليه الصدقة،
فإن تركه ومضى إلى مسكين آخر، فقد انتقل من رضى ربه إلى هوى نفسه وخرج
من ديوانهم، فإنها مثل الرسالة لا يخص بها شخصًا، أول مَن يلقاه يقول له: قل:
(لا إله إلا الله) .
ولا شك أن هذا العارف إذا وهبه الله تعالى رزقًا يعلم أنه مرسَل إلى عالم
النفوس الحيوانية فينزل من حضرة عقله إلى أرض النفوس، ليؤدي إليهم ذلك القدر
الذي وُجه به، فأول نفس تلقاه نفسه لا نفس غيره، وسبب ذلك أن نفوس الغير غير
ملازمة له ولا متعلقة به؛ لأنها لا تعرفه، ونفسه متعلقة به ملازمة لبابه فلا يفتحه
إلا عليها فتطلب أمانتها منه فيقدمها على غيرها؛ لأنها أول سائل.
وإلى هذا السر أشار الشارع بقوله: (ابدأ بنفسك ثم بمَن تعول والأقربون أولى
بالمعروف) ؛ لتعلُّقهم بك ولزومهم بابك والغير لا يتعلق بك ولا يلازمك ملازمة
نفسك وأهلك، فلما تأخروا أخروا كما هي حال الأسرار سواء؛ تخرج من عند
الحق على باب الرحمة، فأي قلب وجد متعرضًا سائلاً عند الباب دفع إليه حظه من
الأسرار والحكم، وحظه منها على قدر ما يرى فيه من التعطش والجوع والمذلة
(أي: لله) والافتقار، وهم خاصة الله تعالى.
وإلى هذا المقام أشار المشايخ وعليه حرضت الشريعة بقولها: (تعرضوا
لنفحات ربكم) ومن تأخر أُخِّرَ، ومَن نَسِيَ نُسِيَ، فانظري كم بين المنزلتين: منزلة
الحلاج ومنزلة أويس؟ ! وانظري هذا المقام على علوه وسموه كيف اشترك في
الظاهر صاحبه مع أحوال العامة، فإن العامة أول ما تجود على نفوسها، وحينئذ
يتعدى جُودها إلى غيرها ، وإنما يتصرفون تحت حكم هذه الحقيقة وهم لا يشعرون،
ولما عموا عن هذا السر وصاروا مثل البهائم لا يعرفون مواقع أسرار العالم مع الله
تعالى حرصوا على الإيثار ومدحوا به، وهو مقام الحلاج الذي ذكرت عنه ورأيت
أنه غاية فهكذا فلتُغزل الحقائق، وتُحاك حُلل الرقائق.
فقالت النفس: هذا شيء -واللهِ - ما قرع قط سمعي، و {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ
اليَقِينِ} (الواقعة: 95)، و {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61)
وفي مثل هذا {فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} (المطففين: 26) ، لقد شرحت صدرًا
ورفعت في المعارف قدْرًا. اهـ
هذا ما جاء في (روح القدس) بنصه الشائق، الذي هو صفوة الحقائق، هو
جدير بما وصفناه، لكن ربما توهم منه الغبي أنه يقتضي تفضيل أويس على
الصحابة في هذا المقام الذي أثنى به عليهم الملك العلام وأنَّى لأويس -على فضله -
بذلك؟ ! والذي يتجلى لنا في الجواب ما نقصّه عليك مفصلاً تفصيلاً.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: كنا إلى عهد نشر هذه المناظرة في المنار نأخذ جُلّ كلام الشيخ محيي الدين بالتسليم وما ننكره - وهو أقله - نتأوله أو نأخذ فيه بقول من قالوا: إن المراد منه غير ظاهره. وقد منَّ الله تعالى علينا من قبل إعادة طبع هذا منه - أن صار عندنا كغيره من العلماء والصوفية نحكّم في جميع أقوالهم الدليل، ولله الحمد.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التربية والتعليم
(التربية)
هي مساعدة القوى التي من شأنها أن تربو وتنمو على بلوغ الكمال في
نموها المستعدة هي له في أصل الفطرة والخلقة، وذلك بإزالة الأسباب التي تعيق
النمو أو تنحرف بالقوى عن جادة الاعتدال المطلوب، وبإمداد هذه القوى بما تغتذي به
من المواد (في القوى المادية) والمعلومات (في القوى المدركة العاقلة) الخارجة
عنها. وأحوج العوالم الحية إلى التربية الإنسان؛ لأن سائر الحيوان والنبات يصل
غالبًا إلى كماله في الجملة من غير تربية إلا الطبيعة، وما يهبه البارئ تعالى للحيوان
الأعجم من الإلهام.
أما الإنسان فهو - كما مر في مقالة (العروة الوثقى) - عالم صناعي في
جميع أطواره الجسدية والروحية، فمتى أُطلق علم التربية ينصرف لتربيته، وإن كان
الكثير أو الأكثر من النبات والحيوان يصل بتربية الإنسان له إلى درجة من الكمال
لا يرتقي إليها بنفسه إذا تُرك لطبيعته، ولعِلْمَيْ تربية النبات والحيوان أسماء أخرى
عند الذين قسموا العلم.
اختلف علماء التربية في ابتداء تربية الإنسان: أتكون من يوم العلم بالحمل به
أو من يوم يولد؟ وأرى أن هذا الخلاف لفظي؛ إذ لا خلاف بينهم في أن أحوال الأم
الجسدية والنفسية يكون لها أثر في نمو الجنين واستعداده؛ ولذلك يأمرونها بالرياضة
المعتدلة وتناول الأغذية اللطيفة وعدم التعرض لما يهيج بالانفعال ولا سيما الخوف
والفزع والحزن. وكأيِّن من وليد خرج ذا عاهة لم يكن لها من سبب إلا ما ألمَّ
بوالدته وهي حامل به. ومن جراء هذا سنبتدئ مباحثنا في تربية الإنسان بالكلام
على الحوامل وما ينبغي لهن بعبارة واضحة تفهمها السيدات وإن كن غير متعلمات.
(التعليم)
له إطلاقان: أولهما: إمداد القوى المدركة بعرض الأشياء عليها تدريجًا بالقول
والفعل بحيث تدركها وتقدر عن التصرف فيها قولاً وعملاً (كل شيء
بحسبه) وهذا المعنى داخل في مفهوم التربية ويشمل، تعليم العلوم الاعتقادية
والأدبية والفنون الصناعية.
وثانيهما: علم أساليب التعليم وطرقه القريبة، وهو فن نفيس ارتقى المشتغلون
به الدرجات العلى في العلوم والفنون، حيث أمكنهم تحصيل الكثير في الوقت
القصير، ولا يأذنون في أوربة وأمريكة بالتدريس والتعليم إلا لمن أتقن هذا الفن في
مدارسه التي أنشئت له. هذا، ونحن لا علم لأكثرنا بأن أساليب التعليم قد وُضع لها
علم مخصوص، واختيار المعلمين عندنا يكون بالشفاعات التي تُبنى غالبًا على
كون هذا المعلم مستحقًّا للمساعدة المالية لفقره أو كونه من الأسرة أو الطائفة الفلانية
مثلاً. وأبعدُنا عن معرفة التعليم هم الشيوخ الذين يعلّمون الدين وفنون اللغة
في الجوامع والمساجد.
وسنكتب في ذلك نُبذًا مفيدة إن شاء الله تعالى في الأعداد الآتية.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحوادث والأخبار التاريخية
أهم الحوادث الخارجية:
ما نُكبت به دولة فرنسة في 5 مارس وهو احتراق خمسين ألف كيلو من
البارود في دار الصناعة البحرية في طولون، حصل منه انفجار عظيم كانفجار
البراكين دمر به في المدينة مسطح عشرة آلاف متر وهلك جميع مَن في دار
الصناعة من الجند والصناع وخلق كثير من غيرهم. وأما الخسائر فهي عظيمة لا
تكاد تُقدر، وقد أرسل الملوك والأمراء رسائل التعزية لحكومة فرنسة على المصاب
بعد تعزيتهم لها على موت رئيس جمهوريتها السابق فلكس فور الذي مات قبل هذه
الحادثة الهائلة بأيام. وقد قام الفرنسيس يكتتبون لجمع المال من أول يوم وقعت فيه
النكبة إعانة للمصابين وإغاثة لأهالي المنكوبين، فهكذا تكون الحياة الوطنية، وهذا
هو الفرق بين الإنسانية والحيوانية.
وأهم الحوادث الداخلية:
ثبوت وقوع مرض في جدة يشبه الطاعون، وقد سمي طاعونًا كما كان في العام
الماضي، وضربت المحاجر على ما يرد من جدة، وأخذت الحكومة المصرية
الاحتياط كالعام الماضي، ونقل البرق أنه قد حدثت إصابة في مكة أيضًا. نسأل الله
السلامة.
اقتُرح علينا أن نفتح في المنار بابًا للسؤال والاقتراح، وجوابنا أننا نقبل ما يرد
علينا من الأسئلة والاقتراحات، ونُدخلها في الأبواب التي تناسبها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإيثار
(تتمة لما سبق)
إن لما أنزل الله لنا من الرزق ثلاث مراتب:
(الأولى) الضرورة وهي ما لا بد منه للمحافظة على حياة المرء
الجسدية كرغيف يأكله وكساء يستره، بحيث إذا لم يحصل عليه تضرَّر جسمه
غالبًا أو خشي عليه التلف، وهي مرتبة الزهاد.
(الثانية) الحاجة وهي ما زاد على الضرورة ولم ينتهِ إلى الترف
والرفاهة، كأن يجد الإدام الواحد أحيانًا والحلوى والفاكهة أوقاتًا بمقدار ما يكفيه
أو يزيد قليلاً وهي مرتبة المتوسطين.
(الثالثة) الرفاهة وهي الحالة التي يحصل صاحبها ما شاء من الملاذ
تُستطاب له كل يوم الألوان باللحوم والبقول والفاكهة والحلوى كما يشاء ويُختار
بحسب حالة الزمان والمكان، وهي مرتبة المترفين من أهل الثراء والدثور.
فإلايثار بما زاد عن الضرورة عند هؤلاء - لا شك أنه أفضل من تمتيع النفس
به، وهو الذي كان شائعًا في الصحابة ومَن اهتدى بهدْيهم من أهل القرون
الأولى في الأمة.
ومَن كان له أهل وأقارب تجب عليه نفقتهم فضرورتهم كضرورته.
ويدل لهذه الأفضلية حديث أبي هريرة عند البخاري والنَّسَائي قال: قال النبي صلى
الله عيه وسلم: (أفضل الصدقة ما ترك غنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ
بمَن تعول) وفي رواية: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنىً) ومثل الصدقة
غيرها من الإنفاق المشروع كالهدية ومواساة الإخوان الذي تقدم عن بعضهم
تفضيله على الصدقة. وربما يفهم من الحديث أن الصدقة الفُضلى إنما تكون
مما زاد عن الحاجة لا عن الضرورة فقط، وهو ظاهر ولا ينافيه قوله تعالى:
{وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} (الحشر: 9) ؛ إذ ليس في الآية أن ذلك الإيثار
هو أفضل الإنفاق، بل قصاراه أنه فضيلة يمتدح بها، وقد رجح الإمام الرازي
وغيره أن الآية نزلت في إيثار الأنصار والمهاجرين بالغنيمة مع مشاركتهم لهم
في دورهم وأموالهم، وجعلوا ما نقل عنهم في الصحيح من المؤاثرة للضيف وغيره
مما يدخل في عموم الآية، لكن أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي
هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتى رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا
رسول الله، أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا - وفي
رواية غير الماء - فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا رجل يضيف هذا
الليلة يرحمه الله) فقام رجل من الأنصار وفي رواية: فقال أبو طلحة: أنا يا رسول
الله. فذهب به إلى أهله فقال أكرمي ضيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي
فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلت، ثم غدا الضيف على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله أو ضحك (الشك من الراوي) من
فلان وفلانة [1] وأنزل الله تعالى فيهما: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) ورُوي أن الآية نزلت في حكاية رأس الشاة الذي دار
على ثمانية من الصحابة. وقد تقدم.
قلت: وقد يكون الإيثار للغير أفضل في حق ذي الحاجة وذي الضرورة
في بعض وقائع لخصوصية كأن يرى ذو الضرورة مضطرًّا مشرفًا على
الهلاك، ولا يخاف ذلك على نفسه لو آثره بقوته، بل لا يبعد هنا وجوب
الإيثار. وفي مثل ضيف النبي عليه الصلاة والسلام الذي أجهده الجوع، وفي
ذي الحاجة الشحيح، أو الذي يتهم نفسه بالبخل والشح ويحاول تطهيرها من هذه
الرذيلة؛ لترجع إلى الاعتدال الذي هو أكمل الكمال.
والحاصل أن أصل الشرع يأمر بأن يقدم الإنسان المعصوم نفسه بالنفقة، ثم
الأزواج والأقارب من فروع وأصول الخدم على الترتيب المذكور في الفقه، ثم
يتصدق ويهدي من العفو والفاضل عمن تجب عليه نفقته ممن ذُكر، والأفضل
أن لا يتصدق بجميع ما يملك ويدع ورثته عالة يتكففون والثلث كثير كما في
حديث سعد في الصحيح (عند الستة) ومن ثم قال الإمام النواوي في شرح
مسلم: إن بعضهم استدل بالحديث على تفضيل الغني على الفقير وسكت عليه،
ويأمر (أي: الشرع) بالجود والسخاء والصلة والإحسان، وبالغ في ذم
البخل والبخلاء؛ لأنه من الأخلاق المذمومة التي تدنس النفوس الإنسانية، وتقف
بها عن الصعود إلى المراتب العلية، فالمهذب الكامل الذي زكيت نفسه من أدران
الشح والبخل كأويس القرني وأضرابه يقفون عند حدود الشرع في الإنفاق
بتقديم أنفسهم ثم الأقرب فالأقرب ملاحظين في ذلك ما تقدم شرحه عن الشيخ
محيي الدين - أعني أن تقديم أنفسهم ليس لأجل التمتع والتنعم - وإنما كان يبذل
أويس رضي الله عنه جميع ما فضل عن حاجته؛ لأنه لم يكن له أهل ولا ولد
يرثه، بل كان سائحًا منفردًا، والأفضل في حقه إنفاق العفو مع التوكل بخلاف
المعيل أو من يضطرب قلبه؛ لأنه لم يقم في مقام التوكل.
وأما مَن لم يوق شح نفسه فالأفضل له المبالغة في البذل والإيثار بما وراء
سد الرمق من الحاجيات إلى أن ترجع نفسه إلى الاعتدال الذي هو السخاء
الحقيقي، وما دام السالك لم يبلغ مرتبة الكمال القصوى، فهو يتهم نفسه بالطمع
والوقوف مع الحظوظ، ولا يطمئن لما توسوس به إليه من أنها تزكت من أدران
البخل، وتحلت بحلي السخاء والجود، وإن كانت في واقع الأمر قد تزكت
والتحقت بنفوس الأولياء العارفين الأبرار، فصاحب هذه النفس يظل يؤثر الغير؛
لاتهامه نفسه بما ذكر. يؤثر ذلك عن جماعة من مشاهير الأولياء كالحسين بن
منصور الحلاج [2] والشيخ أحمد بن الرفاعي. وكان أحمد يقول: طريقتنا مبنية
على ثلاثة أشياء: لا تسأل ولا ترد ولا تدخر. نقله عنه العارف الشعراني
وغيره، ونقله البحريني نفسه في (ص36) وهنا أوردنا في كتابنا (الحكمة
الشرعية) كلامًا نفيسًا في الادخار عند الصوفية لا ينبغي ذكره في الجرائد؛
لأنه خاص بأهله، ثم قلنا:
ويحتمل أن الإيثار من بعض الصحابة عليهم الرضوان، والمبالغة في
الإنفاق التي لا تنطبق على الوجه الذي قلنا: إنه أصل الشرع - كان يقصد به
تهذيب النفوس لاتهامها بالبخل والشح، وربما يشعر بذلك قوله تعالى بعد
مدحهم بالإيثار: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) ولا
يلزم منه تفضيل مثل أويس على هؤلاء؛ لأنه من أحوال بدايتهم، وما تقدم عنه
هو حاله في نهايته. على أنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وهم
قد سبقوا بفضيلة الصحبة التي لا تُوزن بها فضيلة ولا تعادَل بها منقبة
لذاتها فضلاً عما يحتفّ بها من الفضائل والمزايا.
وخلاصة القول أن البخل مذموم والتبذير أو الإسراف مذموم والسخاء -
الذي هو وسط بينهما - هو المحمود والممدوح شرعًا وعقلاً.
بين تبذير وبخل رتبة
…
وكلا هذين إن زاد قتل
ومَن خرج عن مرتبة الاعتدال في خلق من الأخلاق فسبيل إرجاعه إليها
حمْله على المبالغة في الطرف المقابل، أعني أنه يؤمر بالإفراط إن كان في
جانب التفريط وبالعكس؛ ومن ثم ورد الشرع في ذم الإفراط والتفريط ومدح
الاعتدال والعدل، مع أنه جاء في سيرة الشارع وأصحابه وتابعيهم بإحسان -
حكايات كثيرة في المبالغة في السخاء والحِلم والتواضع وغيرها من السجايا الفاضلة،
بحيث تصل إلى حد الإفراط، والمراد بذلك الإرشاد والتهذيب لمن هو في طرف
التفريط؛ ليرجع إلى الاعتدال، ومن ذلك إيثار صاحب الضرورة أو الحاجة
غيرَه بما هو محتاج أو مضطر إليه مثله أو أزيد، والمرجع إلى محكم التنزيل القائل
بالقسط والاعتدال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ
قَوَاماً} (الفرقان: 67) ، {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ
فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} (الإسراء: 29) والله أعلم وأحكم وهو أقوم قيلاً.اهـ.
فعُلم من هذا أن الاقتصاد أصل من أصول الفضائل الإسلامية، ولكن
المسلمين أهملوا مراعاته، والأوربيون أعطوه من العناية ما ينبغي له. وألَّفوا
فيه الكتب، وأوجبوا تعليمه في جميع المدارس؛ لأنه من مقومات المدنية، فحتَّامَ
- يا قوم - لا نكاد نرى من أغنيائنا إلا سفيهًا مبذرًا، أو شحيحًا مُقترًا، بل
كاد يعم الإسراف والتبذير كل غني وفقير، يتلهى المستمسك منهم بدينه
بإلهيات شعرية، وجُمل خطابية، كقولهم: (أنفقْ ما في الجيب يأتيك ما في
الغيب) والمنحرف عن هدْي الدين لا تسلْ عن جنونه وفنونه، وسنعود إلى
مباحث الاقتصاد والبخل والسخاء في فرصة أخرى، إن شاء الله تعالى.
_________
(1)
فسرنا العجب أو الضحك في الطبعة الأولى بالرضا والقبول على طريقة الأشعرية ومذهب السلف أنه عجب أو ضحك يليق بكماله وتنزُّهه عن مشابهة.
(2)
حاشية للطبعة الثانية: الذي ترجح عندنا بعد كتابة هذا بسنين أن الحلاج كان دجالاً محتالاً.
الكاتب: أبو حامد الغزالي
حقوق الأخوة
(الحق الثاني) في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال،
وتقديمها على الحاجات الخاصة. وهذه أيضًا لها درجات كما للمواساة بالمال، فأدناها
القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح
وقبول المنة. وقال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضِها فكبِّرْ عليه واقرأ
هذه الآية: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} (الأنعام: 36) وقضى ابن شبرمة حاجة
لبعض إخوانه كبيرة فجاءه بهدية فقال: ما هذا؟ ! قال: لما أسديتَه إليَّ. قال:
خذ مالك - عافاك الله - إذا سألت أخاك حاجة فلم يُجهد نفسه في قضائها فتوضأ
للصلاة وكبرْ عليه أربع تكبيرات وعُدّه في الموتى! قال جعفر بن محمد: إنى
لأتسارع إلى قضاء حوائج أعدائي مخافة أن أردهم فيستغنوا عني. هذا في الأعداء،
فكيف في الأصدقاء؟ !
وكان في السلف مَن يتفقَّد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم
بحاجتهم، ويتردد كل يوم إليهم ويموِّنهم من ماله، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا
عينه، بل كانوا يرون منه ما لم يَرَوْا من أبيهم في حياته. وكان الواحد منهم يتردد
إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول: هل لكم زيت، هل لكم مِلح، هل لكم حاجة؟
وكان يقوم بها من حيث لا يعرفه أخوه، وبهذا تظهر الشفقة والأخوة، فإذا لم تثمر
الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه فلا خير فيها. قال ميمون بن
مهران: (مَن لم تنتفع بصداقته لم تضرك عداوته) وقال صلى الله عليه وسلم:
(ألا وإن لله أواني في أرضه وهي القلوب، فأحبّ الأواني إلى الله تعالى
أصفاها وأصلبها وأرقها) أصفاها من الذنوب، وأصلبها في الدين، وأرقها
على الإخوان.
وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك وأهم من حاجتك، وأن
تكون متفقدًا لأوقات الحاجة، غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك،
وتغنيه عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة، بل تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك
قمت بها ولا ترى لنفسك حقًّا بسبب قيامك بها، تتقلد منه بقبول سعيك في حقه
وقيامك بأمره، ولا ينبغي أن تقتصر على قضاء الحاجة، بل تجتهد في البداية
بالإكرام في الزيادة والإيثار والتقديم على الأقارب والولد.
كان الحسن يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا. وقال عطاء: تفقدوا
إخوانكم بعد ثلاث؛ فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو كانوا
نسوا فذكِّروهم. روي أن ابن عمر كان يلتفت يمينًا وشمالاً بين يدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ فسأله عن ذلك فقال: أحببت رجلاً فأنا أطلبه ولا أراه. فقال:
(إذا أحببت أحدًا فسلْه عن اسمه واسم أبيه وعن منزله؛ فإن كان مريضًا عدته
وإن كان مشغولاً أعنته) وفي رواية: (وعن اسم جده وعشيرته [1] ) وقال الشعبي
- في الرجل يجالس الرجل، فيقول: أعرف وجهه ولا أعرف اسمه -: تلك
معرفة النوكي. وقيل لابن عباس: مَن أحب الناس إليك؟ قال: جليسي. وقال: ما
اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثًا من غير حاجة له إليَّ فعلمت ما مكافأته من الدنيا.
وقال سعيد بن العاص: لجليسي عليَّ ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حدث أقبلت
عليه، وإذا جلس أوسعت له. وقد قال تعالى {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) إشارة
إلى تمام الشفقة والإكرام. ومن تمام الشفقة أن لا ينفرد بطعام لذيذ أو بحضور في
مسرة دونه، بل يتنغَّص لفراقه ويستوحش بانفراده عن أخيه. اهـ. من (الإحياء)
فهكذا تكون الأخوة، وهكذا تكون آداب الأمم في طور الحياة، وكأنِّي بالذين في
قلوبهم مرض تنفر نفوسهم من هذه الآثار، ولو نقل مثلها عن الإفرنج لأُعجبوا بها
وتنافسوا فيها.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
رواه الترمذي عمن قال: إنه لا نعرف له رواية. والخرائطي والبيهقي بسند ضعيف.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحبالى وتربية الأجنة
(1)
نعني بتربية الجنين:عناية الحامل به بصحتها لما؛ لذلك من التأثير في صحته.
فقد قلنا في الجزء الماضي: إن لأحوال الأم الجسدية والنفسية أثرًا في نمو الجنين
واستعداده. ولا نعني بالأحوال النفسية إلا ما مثّلنا به من نحو الخوف والحزن لا ما
هو شائع من أن أية شهوة من شهوات الوحمى تؤثر في الجنين حتى تظهر صورة
المشتهى في جسده إذا هي لم تصبه؛ ولذلك يجتهد الناس في إنالة الوحمى كل ما
تشتهي. ويستدلون على هذا بحكايات قصاراها أنها تنهض استقراءً ناقصًا لا يثبت
به المدعى قطعًا. ولكن المعقول الذي يريده العلم أن الانفعالات القوية تؤثر في
الصحة، ويتبع هذا تأثيرها في الجنين، وبيانه باختصار: أن الجهاز التناسلي يتأثر
بالانفعال الشديد كالجهاز العصبي والهضمي وغيرهما، وهو في أثناء الحبل يكون
مشغولاً بأداء وظيفته؛ فما يطرأ عليه إما أن يساعده في عمله، وإما أن يعوقه عنه.
ولا يحسبنَّ الحبالى أن أقل كدر عادي أو حزن عارض أو خوف خفيف يؤثر
في أجنتهن فيستولي عليهن الوسواس كلما ألمّ بهن شيء مما لا يخلو عنه الإنسان في
الغالب. كلا، إن الجنين شخص مستقل في نفسه صلته بأمه صلة المظروف
بالظرف، وإنه يتغذَّى من دمها؛ ولذلك لا يؤثر فيه إلا ما يحدث أثرًا في الدم الذي
يتغذى به، وحصول هذا نادر، أو في الرحم الذي هو بيئته ووطنه، وما كل انفعال
يُحدث هذا الأثر، نعم، إن الأمراض الوراثية وما يطرأ على الأعضاء ولا سيما
البطن من نحو ضرب ووكز ولبس الثياب الضيقة إذا كانت تضغط البطن؛ كل ذلك
مقطوع بسوء تأثيره وضرره، ومن العلماء مَن زعم أن كل ما يعرض لعضو من
أعضاء الحبلى ينقل منها إلى مثله من الجنين، فعلى الحامل أن تراعي ما
سنذكره في النبذة الآتية في الجزء التالي لهذا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التعليم بالعمل
جاء في الحدث الشريف: (مَن عمل بما علم ورثه اللهُ علمَ ما لا يعلم) ويؤثر
عن الإمام علي - كرم الله وجهه - أنه قال: (يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا
ارتحل) ، وقد أخذ الإمام هذا الأثر من مفهوم الحديث. وغاية ما انتهى إليه
الباحثون في فن التعليم أن الأعمال هي التي تطبع ملكات العلم والعمل في النفوس،
وأن المسائل العلمية التي تعرض على العقول من طريق السمع مرة أو مرات - لا
تكاد تثبت، وإذا ثبت بعضها فإنما يكون كآلة موجودة في بيت رجل لا يُحسن
استعمالها، بخلاف ما إذا عرضت المعلومات بأعيانها أو أمثلتها عند الكلام عليها
وكلف المتعلم أن يستعمل علمه ويطبقه على المعلومات. وهذا مما أرشد إليه النبي
والإمام من 13 قرنًا واهتدى إليه الأوربيون من عهد قريب.
فمَن أحب ألا ينسى ما يتعلمه من قواعد العربية مثلاً فليُكثرْ من الأمثلة في
كل مسألة، وليراعِ القواعد في كلامه بالتكلف قولاً وكتابة؛ حتى تنطبع في نفسه،
وتصير ملكة راسخة يصدر عنها الكلام العربي الصحيح بغير رويَّة ولا تكلف،
ونحن نرى الذين لا ينهجون هذا المنهاج يقضون أعمارهم في مدارسة الفنون
العربية، ولا يحسنون قولاً ولا كتابة. ولا بد في تحصيل ملكة الفصاحة والبلاغة من
كثرة قراءة الكلام البليغ مع تفهم معانيه وملاحظة أساليبه ومناحيه.
ومعرفة القواعد تعين على هذا ولكنها لا تفيد في الوصول إلى المطلوب بدون
هذا العمل، فكأيِّن من أستاذ قرأ كتب السعد وغيرها مرارًا وهو أعيى باقل،
وأعجز عن الكتابة البليغة من صبية المدارس. وقد أحسنت نظارة المعارف المصرية
بحظرها على معلمي العربية الكلام العُرفي (البلدي) في أثناء الدروس،
وإلزامها إياهم بأن يجعلوا شرح الدروس وتلقينها للتلاميذ بالكلام العربي الصحيح.
وأجدر بشيوخ الأزهر الأفاضل ونحوهم من معلمي المدارس الدينية - أن يكونوا هم
السابقين إلى هذه السُّنة الحسنة، وعسى أن يتداركوا ما فاتهم من السبق في البداية،
بالسبق والتبريز في النهاية؛ فإن السبق في نفس العمل المقصود خير من السبق
في الابتداء والشروع.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ما قيل في الخال
قال مظفر الأعمى:
لا تحسبوا شامة في خده طبعت
…
على صحيفة خد راق منظره
وإنما خده الصافي تخال به
…
سواد عينيك خالاً حين تنظره
وأحسن منه في هذا المعنى قول بعضهم:
صقيل الخد أبصر مَن رآه
…
سواد العين فيه فخال خالا
وقال ابن حمديس:
يا سالبًا قمر السماء جماله
…
ألبَستني في الحب ثوب سمائه
أشعلت قلبي فارتمى بشرارة
…
علقت بخدك فانطفت في مائه
ومثله قول المقري في مزدوجته:
وما أرى في خدك اليسار
…
أنقطتا مسك بجلنار
أم ذاك لهيب النار
…
رمى شرارتين في الأوار
…
...
…
... فانطفتا في ماء ذاكالورد
…
وينظر إليه قول الأستاذ الشيخ عبد الغني الرافعي الشهير وأحسن ما شاء:
وما نقط ذاك الخال في الخد خلقة
…
ولا حيلة جاءت بها صنعة السحر
ولكننا لما اجتمعنا عشية
…
وقدمت من أهوى اعتناقًا إلى صدري
تقاطر دمعي فوق جمرة خده
…
فكان سواد الخال من ذلك القطرِ
وينظر إلى قول المقري: (أنقطتا مسك بجلنار) قول بعضهم:
ومهفهف من شعره وجبينه
…
يبدو الورى في ظلمة وضياء
لا تنكروا الخال الذي في خده
…
كل الشقيق بنقطة سوداء
وقال ابن رشيق في خال تحت الحنك:
حبذا الخال كائنًا منه بين الـ
…
ـخد والجِيد رقية وحذارا
رام تقبيله اختلاسًا ولكن
…
خاف من سيف لحظه فتوارى
وأحسن منه في بابه قول الشاب الظريف:
وبين الخد والشفتين خال
…
كزنجي أتى روضًا صباحا
تحير في الرياض فليس يدري
…
أيجني الورد أم يجني الأقاحا
ويناسبهما قولي في الخال تحت الشعر:
والخال لص شام ثغرك ضاحكًا
…
فأتى ليسرق منه ذاك الجوهرا
لكنه خاف اللحاظ وقد رأى
…
آس العذار مخيمًا فتسترا
وقال غوث الدين العجمي في العذار والخال:
لهيب الخد حين بدا لعيني
…
هوى قلبي عليه كالفراشِ
فأحرفه فصار عليه خالاً
…
وها أثر الدخان على الحواشي
وللشيخ ناصيف اليازجي معنى في الخال غريب وهو:
مليح شهدنا أن نارًا بخده
…
لأنا وجدنا بينها فحم خاله
وأنت ترى أنه أهان الخال ونقصه قدره، وهو ذنب لا يغفره له عشاق
الحسان، ويستحق عليه الهجر من الغوان! وقريب من هذا قوله:
في خدها نار المجوس التي
…
قام لديها الخال كالموبذان
وقال في مطلع قصيدة وأحسن ما شاء:
ما بال تلك الشامة الخضراء
…
في النار وهي كأنها في الماء
وقد تفننوا في تشبيه الخال بالمسك والعنبر، ومما قاله ابن سهل في ذلك من
قصيدة:
غزال براه الله من مسكة بري
…
بها الحسن منا مسكة المتجلدِ
وأبدع فيها الصنع حتى أعارها
…
بياض الضحى في نعمة الغصن الندي
وأبقى لذاك الأصل في الخد نقطة
…
على أصلها في اللون إيماء مرشدِ
وله في الخال أيضًا:
لا أرى الخال فوق خد
…
يك ليلاً على فلق
إنما كان كوكبًا
…
قابل الشمس فاحترق
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجامع الأزهر الشريف
من جملة التنظيم الجديد في الأزهر الامتحان السنوي لمن شاءه من طلاب العلم
فيه، ويمتحن في العلوم والفنون التي يختار الطالب أن يمتحن فيها، وقد خَصص
مجلس إدارة الأزهر ستمائة جنيه لمكافأة النابغين في التحصيل سنويًّا. ويؤخذ من
الرقيم الذي رفع من فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع إلى عطوفة رئيس مجلس
النظار أن الذين طلبوا الامتحان في العام الماضي كانوا نحو ستمائة وامتحنوا في
ثمانية عشر علمًا. وأما الذين طلبوا في هذا العام فكانوا 1502 وامتحنوا في ثمانية
وعشرين علمًا، والذين نجحوا يعرفون بحساب النسبة المئوية مما يأتي:
الناجحون في علم التوحيد 18 في المائة، وفي علم التفسير 19 (نحذف لفظ
في المائة اختصارًا) والحديث 66، والفقه 50، والميراث 78، والنحو 47،
والصرف 26، والمعاني 75، والبيان والبديع، 49، والمنطق 43، ومصطلح
الحديث 60، والحساب للسنة الأولى 62، وللسنة الثانية 80، وتقويم البلدان
(الجغرافية) للسنة الأولى 65، والثانية 85، والهندسة 70، والميقات 75،
والتاريخ 85، والعَروض والقافية 70، وعلم الإنشاء 25، والخط 77، والأخلاق
الدينية 50، وآداب البحث 75. وفي كل من علم الحكمة والوضع والاشتقاق نجح
جميع الذين امتحنوا، ولم ينجح في علمي الجبر والمقابلة والهيئة أحد ممن امتحنوا،
ولم يحضر للامتحان في علم أصول الفقه أحد ممن كان طلبه!
والذين طلبوا الامتحان في كل من التفسير والحديث ومصطلحه والميراث
والبديع والعروض والقافية والتاريخ والإنشاء والميقات كانوا فوق العشرين ودون
المائة - وفي كل من علم الأصول والحكمة وآداب البحث والوضع والاشتقاق،
والأخلاق الدينية والجبر والمقابلة والهيئة أقل من عشرة، والذين امتحنوا في كل علم
مما عدا هذه العلوم - لا سيما التوحيد والفقه والنحو والمنطق والبيان والحساب
والهندسة وتقويم البلدان - يعدون بالمئات.
أما أخذ المكافآت فهو بحسب درجات التحصيل التي تقدر ويعبر عنها (بالنمر)
وقد جعلت الدرجة الثانية عشرة (نمرة 12) علامة النجاح، وكل من انتهى إليها
في العام الماضي أخذ المكافأة التي أقلها جنيه واحد، وأكثرها ثلاثة.
وأما في هذا العام فقد خصصت المكافأة بالنابغين لقلتها وكثرة الطالبين،وجعلت
درجة النبوغ 16، فأصحاب الدرجة 12 إلى 15 عدوا ناجحين غير نابغين فلم
يستحقوا مكافأة، وأصحاب الدرجة 16 فما فوقها أخذوا المكافآت على هذه الطريقة
العادلة، وهي أنه جمعت درجات النبوغ في العلوم كلها وقسم عليها مبلغ المكافأة
بتمامه، فما أصاب الدرجة الواحدة جعل سهمًا لمكافأة النابغ في فن واحد بدرجة
واحدة، فمن بلغت درجاته في العلوم التي امتحن فيها مائة مثلاً نال مائة سهم،
وهكذا، وظاهر أن هذه الطريقة أعدل وأحكم من الطريقة الأولى؛ لأن كل طالب
يأخذ فيها على قدر استحقاقه.
هذا ملخص الرقيم، ويسرنا منه حسن النظام الذي يجري عليه مجلس إدارة
الأزهر الشريف، ونرجو أن يترقى به إلى أعلى درج النجاح الممكن، فإن النظام
روح السعادة في أعمال الإنسان وساءنا أن الذين امتحنوا في علم الأخلاق - وإن
شئت قلت: علم الدين - جمعهم جمع، قلة؛ بل علمنا أنهم أربعة أخذ الجائزة منهم
اثنان، وعسى أن يكون في الأزهر ممن لم يطلب الامتحان عدد كبير من المشتغلين
بهذا العلم؛ فإنه هو الأساس الذي يقوم عليه بناء السعادة الدنيوية والأخروية.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(الحج والوباء)
اجتمع مجلس النظار اجتماعًا خصوصيًّا للمذاكرة في أمر منع الحج الذي يراه
مجلس الصحة البحرية ضروريًّا لمنع انتقال الوباء من بلاد الحجاز إلى مصر، ولما
كان المنع من الحج منعًا من ركن ديني أساسي لم يكن للنظار أن يبرموا فيه أمرًا إلا
بعد الاستفتاء من العلماء؛ ولهذا طلب عطوفتلو رئيس مجلس النظار لحضور
الاجتماع صاحب السماحة قاضي مصر وأصحاب الفضيلة شيخ الأزهر ومفتي الديار
المصرية والشيخ عبد الرحمن النواوي مفتي الحقانية والشيخ عبد القادر الرافعي
رئيس المجلس العلمي سابقًا، فحضروا وتذاكروا مع النظار وبعد أن انفضوا من
المجلس اجتمعوا، وأجمعوا على كتابة هذه الفتوى وإرسالها إلى مجلس النظار وهي
بحروفها:
الحمد لله وحده.. لم يذكر أحد من الأئمة من شرائط وجوب أداء الحج عدم
وجود المرض العام في البلاد الحجازية؛ فوجود شيء منها فيها لا يمنع وجوب أدائه
على المستطيع. وعلى ذلك لا يجوز المنع لمن أراد الخروج للحج مع وجود هذا
المرض متى كان مستطيعًا.
وأما النهي عن الإقدام على الأرض الموبوءة الواردة في الحديث، فمحمول
على ما إذا لم يعارضه أقوى؛ كأداء الفريضة، كما يستفاد ذلك من كلام علمائنا.
وأيضًا فإن النهي عن الدخول أو الخروج تابع لاعتقاد الشخص الذي يريد الدخول
أو الخروج كما يفيده ما في تنوير الأبصار متن الدر المختار؛ حيث قال: (وإذا
خرج من بلدة بها الطاعون وهو الوباء العام- فإن عَلِمَ أن كل شيء بقدر الله تعالى فلا
بأس بأن يخرج ويدخل، وإن كان عنده أنه لو خرج نجا ولو دخل ابتُلي به كُره له ذلك، فلا يدخل ولا يخرج) اهـ. وأيده شارحه السندي. والله أعلم. في 2
ذي القعدة سنة 1316.
(المنار)
ولو قيل بجواز المنع إذا تحقق أن فيه المصلحة العامة لنِيطَ بالإمام الأعظم؛
لأنه من وظائفه ولم يكن لغيره أن يُقْدم عليه إلا بإذنه، وسوف نشرح هذه المسألة
في مقالة نكتبها في موضوع (ثبوت العدوى) إن شاء الله.
***
ورد على صاحب الدولة الغازي مختار باشا رسالة برقية من دولة والي
الحجاز ملخصها أن الاحتياطات الصحية في جدة في غاية الإتقان، وأنه لم يُصب أحد
في مكة بعد ذلك البخاري، وأن الوفيات في جدة بين واحدة واثنتين في اليوم، ورسالة
أخرى في 15 مارث ملخصها أنه لم يحدث في جدة إصابة ولا وفاة في تاريخها.
***
كتبت (ثمرات الفنون) الغراء مقالة وجيزة في (الانتقاد والجرائد) ومما
انتقدناه عليها فيها أنها جاءت بنبذة من (العروة الوثقى) في أطواء الكلام ولم تسندها
إليها أو تميزها بوضعها بين قوسين ليعلم أنها تضمين.
***
يؤخذ من الجرائد الإنكليزية أن سفير إنكلترا الجديد في الآستانة آنس من
الحضرة السلطانية ارتياحًا؛ لما أبداه لها من رغبة دولته في إعادة الوداد السابق بين
الحكومتين.
***
صدر الأمر العالي بفصل (تفتيش الوادي) عن نظارة المالية وإلحاقه
بديوان الأوقاف العمومية، ولكن بشرط أن تتولى نظارة الأشغال العمومية أعماله،
لتصلح شؤونه إحدى عشرة سنة، ثم يتولاه ديوان الأوقاف مباشرة.
***
وقفنا على قصيدة لطيفة في التهنئة بولي عهد الخديوية حرسه الله بعين
عنايته الأبدية، لناظمها الأديب الفاضل مصطفى صادق أفندي نجل الأستاذ الكامل
الشيخ عبد الرزاق أفندي الرافعي قاضي مديرية الغربية الشرعي مطلعها:
بزغت شموس الأنس من أفق الهنا
…
وتبسم الإسعاد أي تبسم
ومنها وفيه تاريخ هجري:
فالكون أرّخ مصر يُنبي سعدها
…
بولي عهد القطر (عبد المنعم)(1316)
(وختامها)
راق الهنا أرخ له شمس الكما ل محمد الأفضال عبد المنعم
(1899)
فنعتذر بضيق المقام عن شرحها كلها، كما نشكر لحضرة الناظم ما تفضل
علينا به من تقريظ المنار وتهنئتنا نظْمًا ونثرًا بإكماله السنة الأولى.
***
رأينا في جريدة طرابلس مقالة - كليالي الشتاء - تعتذر فيها عن العلماء
الذين أهملوا وظائفهم الدينية بما يمثل الذنب ويؤيده، وسنرد عليها في العدد الآتي
إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تأثير العلم في العمل
] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ [[1]
أنشأ الله الإنسان يعمل بإرادة تأتمر في تحريك الأعضاء على العمل بأمر العلم
الذي تنكشف به وجوه المصالح والمنافع، فمتى كانت علوم الإنسان في أفراده
ومجموعه صحيحة منطبعة في النفس بتكرر العمل أو بالنظر والاعتبار تصدر عنه
أعمال جليلة وآثار جميلة. ومتى كانت العلوم مضطربة بامتزاجها بالأوهام أو غير
منطبعة في النفس لعدم التربية عليها والعمل بها والنظر فيها بعين التأمل والاعتبار،
فلا جرم أن الأعمال تأتي مختلة سيئة. والسعادة إنما تُنال بالأعمال؛ فالأمة
الجاهلة بعيدة عن السعادة.
العلم الإجمالي قلما يفيد صاحبه؛ لأنه دائمًا عرضة للجهالة بما يرد على
جزئياته من الشكوك التي لا تُنفى إلا بالعلم التفصيلي الكامل. ألا ترى أن أكثر
الناس يعلمون بالإجمال أن أمهات الرذائل وكبائر المعاصي من أسباب الشقاء، ولو
كان هذا العلم صحيحًا كاملاً لا اضطراب فيه لصدرت عنه آثاره حتمًا، وهي ترك
تلك الرذائل والمنكرات، وكذلك يقال في أصول الفضائل والأعمال الصالحة النافعة
يعلمها عامة الناس علمًا إجماليًّا سطحيًّا يلوح في الخيال، ولكن لا أثر له في النفوس
والأرواح؛ لأن كل صفات الروح تظهر على الجسد بالأعمال، ومن كان علمه كاملاً
بشيء ما، وظهر من أعماله ما لا ينطبق عليه، فإنما يكون ذلك لأثر في النفس
أقوى من ذلك العلم كالوجدانات والانفعالات العارضة؛ فإن النزيه ربما ينطق
بالسب والهجر من القول لغضب شديد يعرض له، لكنه لا يلبث أن يعود إلى رشده،
وأمثال هذه النوادر التي تعرض للعلماء والمهذبين لا تحبط أعمالهم ولا تنحرف بهم
عن جادة السعادة {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن
قَرِيبٍ} (النساء: 17) .
خفيت هذه المسألة عن الجاهلين بعلم النفس وعلم فلسفة الأخلاق، فزعموا أن
العلم لا يؤثر في الحمل على العمل، وربما يكابر بعض الذين يحسبون أنهم على شيء
من العلم ويمارون في القول؛ لأنه جاء مجملاً، ولذلك رأينا أن نزيده بقليل من
التمثيل.
إن الذي يعلم علمًا ناقصًا أن الحسد والكبر هو (غمط الحق واحتقار الناس)
رذيلتان ممقوت صاحبهما عند الله والناس، وأنه يجب عليه أن يجاهد نفسه ويطهرها
من رجسهما - يشتبه عليه الأمر في الجزئيات، فيحسد ويتكبر ويرى أنه غير حاسد
ولا متكبر، وإذا قيل له في ذلك لجأ إلى الاعتذار والتأويل فيقول في الحق الذي غمطه
ولم يخضع له - لأنه جاء من قِبل مَن يرى نفسه فوقه مثلاً -: إنه ليس بحق.
وينتحل ما تجود به قريحته من الشبه لإثبات أنه ليس بحق، وإذا لم يجد شبهة يطفئ
بها نور؛ الحق لقوة شعاعه يقول: إنه حق ولكن جاء في غير وقته ووضع في
غير موضعه، فأنا أغمطه لا لذاته بل لأنه لم يأتِ على منهاج الحكمة. (وكأن الحكمة مختصة به لا يعلم مواقعها غيره، نعوذ بالله من الغرور) ويقول - في الإنسان الذي احتقره -: إن ما صدر مني في شأنه مما يدل على انتقاصه واحتقاره لم
أقصد به إلا بيان الحقيقة أو إسداء النصيحة للناس كيلا ينخدعوا به.
والدليل على أن جهله بأخلاق نفسه هو الذي أراه باطله حقًّا وأعماه عن
جزئيات رذائله - أن ما وقع منه لو عرض على مَن هو أعلم منه بالأخلاق لجزم
بأنه حسد وكبر لا يحتمل التأويل وعجيب أن مثل هذه التعلَاّت تصدر من أمثل
العلماء. اجتمع الأستاذ فضيلتلو الشيخ حسين أفندي الجسر محرر جريدة طرابلس
بالسيد جمال الدين الحكيم الشهير فقال له السيد: إن جريدتكم قد جمعت بين الكفر
والإيمان! تكتب مقالة في تحريم الكذب وقبحه ثم تُملأ بعد ذلك بالكذب وغش الأمة
بمدح الجهلاء الأشرار الذين تجعلهم أئمة علماء: وأتقياء صلحاء. قال: (وإننا لا
نخطو خطوة واحدة إلى الأمام ما لم نعطِ كل ذي حق حقه، فنقول في العالم: عالم.
وفي الجاهل جاهل وهكذا) فقال له الأستاذ المحرر: (إن هذا تَقِيَّة؛ لأن مَن
عنيت مُضِرُّون يُخشى شرُّهم) فقال له السيد: (التقية مذهب الشيعة) .
ومثال آخر للشكوك التي ترد على العلم الناقص فتزلزله حتى ما تصدر عنه
آثاره - ولولا ضعفه وزلزاله لصدرت - أن عامة المسلمين الذين يأتون الفواحش
والمنكرات وهم يسلمون بأنها موجبة لسخط الله وعذابه في الآخرة لا يأتونها في
الغالب إلا لأن علومًا أخرى مسلمة مثلها؛ لأنها جاءت من الدين عارضتها وصارعتها
فقويت عليها بمساعدة الهوى والغرض كالمكفرات للذنوب من الأعمال الصالحة فإنهم
يسمعون من الوعاظ والخطباء أن مَن صام يوم عاشوراء غُفرت له ذنوب سنة، ومن
صام يوم عرفة غفرت له ذنوب سنتين - السنة السابقة والسنة اللاحقة - ومن صام
يومًا من رجب استوجب رضوان الله الأكبر، وأن من سبّح كذا في وقت كذا غفرت له
ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج أو زبد البحر، وأن الله يعتق في كل ليلة من رمضان
كذا، والمجموع يستغرق الأمة، وكالشفاعات فقد توسع فيها الوعاظ والقُصَّاص وفي
الكتب منها العجب العجاب، فيقولون: إن العالم يشفع في كذا بيتًا من جيرانه بعد
الشفاعة لأهله وخلانه. ويتوهم علماء السوء ويوهمون الناس أنهم هم
الشفعاء؛ ليعطوهم ويعظموهم. وبعض ما يوردونه في ذلك باطل لم يرد في الشرع
(كما بيناه في مقالات سابقة) وبعضه له معانٍ صحيحة لا يترتب عليها هذا الغرور
الذي أبطل فائدة الإنذار الذي جاءت به الرسل والأديان. مثلاً: إن ما ورد في
المكفرات للذنوب مقصود به الترغيب في الطاعة، وإنما المراد بالذنوب التي تكفَّر
هي الصغائر والهفوات التي لا يخلو الإنسان من الإلمام بها لا العظائم والموبقات
كأكل أموال الناس بالباطل وشهادة الزور والكذب والخيانة وعدم الوفاء بالوعد؛ فإن
مثل هذه لا تكفر إلا بالإقلاع عنها ورد الحقوق إلى أربابها، وإلا لكان هدي الدين
عبارة عن كلمات أو أعمال قليلة يباح للإنسان معها كل شيء، ولبطلت فائدة
النصوص المنفرة عن المعاصي والرذائل.
كيف يصح أن نقول: إن حركة اللسان بكلمات أو صيام يوم أو أيام يكفر هذه
السيئات الفاشية التي دهورت الأمة في مِهواة الشقاء وأنزلت بها صواعق البلاء.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث مَن كُنَّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى
وحج واعتمر: وقال إني مسلم - إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)
رواه بهذا اللفظ أبو يعلَى بسند محتج به، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ
أخرى بمعناها في رواية مسلم التصريح بقوله: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)
وظاهر هذا الحديث أن مَن كانت فيه هذه الثلاث فهو ليس بمسلم حقيقة ولا يغني
عنه ادعاء الإسلام والإتيان بأعماله العظيمة الظاهرة كالصوم والصلاة والحج، ولكن
العلماء أوَّلوه وقالوا: إن المراد به (النفاق العملي) ولكن لا يستطيع أحد منهم أن
يقول: إن هذا النفاق العملي يكفَّر بالصوم والصلاة والتسبيح؛ لأنه إبطال للحديث
ورفْض له.
وأما العفو وشفاعة النبي - وهي عبارة دعاء يدعو به يوم القيامة فيستجيبه الله
تعالى له - فالحكمة في الأول أن لا ييأس المسرف على نفسه؛ لأنه إذا يئس
يسترسل في الفجور، ومراد الشريعة رجوعه عنه والحكمة. في الثانية إظهار كرامة
للشافعين، على أنهم لا يشفعون إلا بإذنه ولمَن ارتضى. والكتاب والسنة طافحان
ببيان ما يرتضيه تعالى وما لا يرتضيه ونكتفي هنا بقوله تعالى: {رضي الله عنهم
وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة: 8) على أن العفو والشفاعة مبهَم
أمرهما، والأصل أن الجزاء على الأعمال {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) وفي الصحيحين قام رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين أُنزل عليه] وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [ (الشعراء:214)
فقال: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله تعالى؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا،
يا بني عبد مناف؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس يا عم رسول الله؛ لا أغني
عنك من الله شيئًا، يا صفية يا عمة رسول الله؛ لا أغني عنكِ من الله شيئًا،
يا فاطمة يا بنت محمد سَليني من مالي ما شئت؛ لا أغني عنك من الله شيئًا.
وأضرب لهم مثل العفو والشفاعة عند الملوك والأمراء الذين تتغير انفعالاتهم
ويمكن للمقرب منهم أن يؤثر في نفوسهم ويحملهم على ما يريد منهم ونحو هذا مما
هو ممتنع في جانب الله تعالى - هل يتجرأ آحاد الناس على الجرائم والجنايات
جهرًا اتكالاً على عفو الأمير أو السلطان أو توقعًا لاحتمال الشفاعة له من أحد
المقربين إليه؟ ! كلا، إن مَن يجاهر من الناس بالجناية رجاء العفو أو الشفاعة
لا بد أن تكون له مكانة عند السلطان أو المقرب إليه؛ بحيث يجزم أو يرجح أن العفو
يناله، بل إنه لا يُسأل عما يفعل، وإنما يكون هذا في الحكومات الاستبدادية التي لا
يتقيد سلطانها بشريعة ولا نظام، ومثل هذا مستحيل في جانب أحكم الحاكمين سبحانه
وتعالى. وهذه المسألة دليل واضح على مسألتنا؛ وهي أن العمل إنما ينشأ عن العلم
الأثبت والأقوى في النفس. وإليك مع هذا البيان المعقول من البراهين النقلية الآية
التي صدَّرنا بها هذه المقالة: {إِِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28)
وحديث: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية) .
ثبت بما ذكرناه أن العقل والنقل متفقان على أن العلم الصحيح السالم من
الشوائب والعلل هو الباعث لإرادة الإنسان على تحريك الأعضاء للعمل. فيصح أن
يستدل بأعمال الأفراد وأعمال الأمم على مكانتها من العلوم بوجوه منافعها ومصالحها
وما عندها من الفنون التي يزيد العمل بها إتقانًا وارتقاءً. ومعلوم أن سعادة الأمم
بأعمالها، وأعمالها لا ترتقي في مدارج الكمال إلا بالاتفاق والتعاون، والاتفاق
والتعاون لا يأتيان إلا من تهذيب الأخلاق وتقويم العادات وتصحيح العقائد التي يُبنَى
عليها الترغيب والترهيب اللذان يقودان إلى التهذيب، وحسبك من الدليل النقلي على
ذلك حديث: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وتعليم التهذيب هو وظيفة العلماء
ورثة الأنبياء، وإهمال أصحاب هذه الوظيفة لها هو الذي يدهور الأمم في مهاوي
الشقاء. فثبت بهذا كله أن مبدأ ما حل بالشعوب الإسلامية من التأخر والانحطاط
إهمال العلماء وظائفَهم في الإرشاد والتهذيب، والداء إنما يُشفَى بإزالة علته وسببه
واصطلام الجراثيم التي يتولد هو منها؛ ولذلك جعلنا من مقاصد جريدتنا الأولية بيان
تقصير العلماء وأسبابه، والبحث في العلل التي أفسدت التعليم وحالت بين المتعلمين
وبين غايات العلوم والفنون التي يتدارسونها، ومزج هذه المباحث بلوم العلماء
تارة، وحثهم على الإصلاح تارة أخرى، وقد رأينا من أفاضل علماء مصر
المنصفين - وبلغنا عن مثلهم من علماء تونس والهند - استحسان عملنا هذا
وتقريظه، وأنه يُرجى الانتفاع به؛ فزادنا هذا نشاطًا واجتهادًا، والله يهدي مَن
يشاء إلى صراط مستقيم.
_________
(1)
(فاطر: 28) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
مؤاخذة العلماء والرد على جريدة طرابلس
كم أداوي القلب قلَّت حيلتي
…
كلما دويت جرحًا سال جرحُ
ذكرنا في العدد الماضي أننا رأينا في جريدة طرابلس مقالة - كليالي الشتاء -
أي: طويلة مظلمة باردة، تعتذر فيها عن العلماء الذين أهملوا وظائفهم في
إرشاد الأمة وتزعم أنهم غير مؤاخَذين بترك الواجب عليهم لأوهام وتخيلات، ذكرتها
ولولا خشية انخداع الناس بقولها وتوهم صاحبها أنه جاء بحق مقنع؛ لما تعرضنا للرد
عليها ولكن هذه المسألة التي تنفيها هي ونثبتها نحن (مؤاخذة العلماء بترك إرشاد
الأمة الذي هو مناط سعادتها بالاتفاق حتى من جريدة طرابلس) - هي القطب الذي
يدور عليه ما نرجوه من إصلاح حال الأمة؛ ولذلك نرى من الواجب أن نزيح عنها
شُبه المشتبهين، ونزيل تمويه المموهين {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ
عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 42) ؛ أي، ليظهر للمرتاب - في كونه
مؤاخَذًا- أنه مؤاخَذ، فيكون هلاكه بترك الواجب إذا هو تركه عن بينة، وحياته
بالقيام به إذا هو فعل عن بينة، والله سميع لأقوالنا عليم بنياتنا؛ فيجازينا عليها.
أما كون المقالة باردة فقد عنينا به ما فيها من التنديد بأحد الكُتاب ونبزه
بالألقاب. وقد انبعق قلم كاتب المقالة في هذا، ونضح إناؤه بما لعله يعيبه على غيره
إذا هو صدر منه، وعهدنا بأناته أنه لا ينطق بمثل ذلك الكلام إلا إذا غلب على
أمره بانفعال شخصي قوي، أما المصالح العامة فإنه فيها هين وكلامه لين. وأدب
الشرع في الوعظ معروف، وهو الشدة في الكلام العام الذي يوجه إلى صِنف من
الناس بحسب درجة انحرافهم، حتى جوَّز لعن الفاسقين ولم يجوِّز لعن كافر
معين بالشخص أو الوصف الذي يتعين به، ويا ليت شِعْري هل يقول: إن رمي
أحد الناس بالغلظة والفظاظة والسفه والحُمق - يكون من الرقة واللطافة
والحلم والعقل التي ينضح بها إناء الإنسان الكامل؟ !
وأما كونها مظلمة فلما فيها من العسلطة، واشتباه الحق بالباطل وتمويه
الصواب بالخطأ الذي يرمي الأمة في هوة اليأس والقنوط؛ بزعمها أن العلماء
سقط عنهم وجوب إرشاد الأمة مع الاعتراف بأن نهوض الأمة منوط بإرشادهم،
وأن التبعة ينبغي أن تُلقى على الأغنياء، وعللت ذلك بقولها: (إن المطالب أولاً
وبالذات بالإنشاءات العمومية التي بها نجاح الأمة هم أهل الثروة وذوي (كذا)
الغِنى) ثم اعترفت: (بأن أرباب الثروة ليسوا كلهم عارفين ثمرات تلك
المشروعات العمومية) وأنهم يحتاجون إلى موقظ ينبههم من هذا السبات، وأنه (ليس
ثمة من موقظ من ذلك الإيقاظ ومنبه ذلك التنبيه وباعث ذلك البعث - إلا قيام العلماء
نافذي الكلمة؛ يعظون المواعظ الحسنة ويخطبون الخطب الطنانة ويتكبدون مشاق
الأسفار وينشرون في الجرائد خطاباتهم دون إسرار) وأنت ترى أن هذا يرجع
باللائمة على العلماء أولاً وبالذات خلافًا لقوله الأول؛ لأن الأغنياء لا ينبعثون
إلى العمل إلا بإرشادهم كما قال فهم المطالِبون بالإصلاح قبل كل أحد.
إن صاحب العلم الإجمالي عندما يتكلم في مسألة غير محيط بأطرافها، وعلى
غير بيِّنة من جميع دخائلها وعوارضها ربما يحتج على النفي بما يقتضي الإثبات،
وعلى الإثبات بما يقتضي النفي، ويقر بالشيء في معرض الإنكار وينكره في معرض
الإقرار؛ فتأتي في تضاعيف كلامه القضايا الصحيحة في غير مواضعها، فلا يكاد
يستفاد منها، ولكن عندما تقوم الحجة عليه بنفي شيء أو إثباته - يتنصل ويخطِّئ
صاحب الحجة مستدلاً بأنه قال كذا في مكان كذا! ومن هذا القبيل ذكرت جريدة
طرابلس أن المطالب بنجاح الأمة - أو وبالذات الأغنياء - فإنه لا معنى لذكره في
مقام رقع التبعة عن عواتق العلماء إلا إذا كان صحيحًا على إطلاقه، لكنه ليس
بصحيح؛ لأن الأغنياء يحتاجون قبل ذلك إلى مَن يعرِّفهم بمنافع الإنشاءات العمومية
كالمدارس والمصانع، وقد اعترفت الجريدة بذلك كما علمت، وأهم من هذا حاجتهم
قبل ذلك إلى تهذيب يجمع كلمتهم وينفخ فيهم روح الثقة الوطنية؛ فإن أهل الشرق
الآن لا يكادون يثقون في الأعمال العمومية إلا بالأجانب!
الأعذار الثلاثة:
اعترفت الجريدة المذكورة بأن الواجب على العلماء إرشاد الخلق إلى مصالح
المعاش والمعاد، ولكن زعمت أنهم بتركه معذورون وبتفويته (كذا في الأصل) غير
موزورين وانتحلت لذلك أعذارًا ثلاثة نذكرها ونبين فسادها:
(العذر الأول) ملخصه أن العلماء - في الغالب - ليسوا أصحاب ثروة، وأن
أغلبهم يعيش من نحو تدريس أو إمامة أو خطابة ومداخيل (كذا في الأصل) ، هذه
الوظائف قلّ أن تزيد عن الكفاية، قال الكاتب: فإذا أرادوا أن يقوموا في تلك
(كذا) الوظيفة التي نقول: إنها واجبة عليهم. وهي وظيفة تحتاج لتفريغ أوقات
كثيرة للقيام بالخطب والمواعظ ونشر المقالات الحادثة في الجرائد وتجشُّم أسفار -
فمَن يا تُرى يقوم بمصارفهم (كذا) إن قاموا بتلك الأعباء؟ ! .. إلخ.
الجواب:
إن هذا العذر ممثل للذنب تمثيلاً لا يدع للتمويه والانتحال سبيلاً؛ ذلك أن ما
هو مورد رزقهم من الخطابة والتدريس لو قاموا به حق القيام لأدوا الواجب عليهم
للأمة، ولكن دروسهم وخطبهم هي مما يفسد الأخلاق والأعمال بما تنفثه من سُم الجبر
باسم القضاء والقدر والتكسيل عن العمل بحجة الزهد والتوكل، والتجرئة على
المعاصي بالتمنية بالشفاعات والمكفرات، والإياس من قوة الأمة وترقيها بما يزعمون
من أن سعادة الأمة وعزتها لا يكونان إلا على يد المهدي المنتظر، وأن هذا الشقاء
الذي وقعت فيه لا مفر منه؛ لأنه علامة على قرب الساعة وانتهاء الزمان، ولأن
القاعدة المقررة أنه لا يمضي يوم إلا والذي بعده شر منه، ونحو ذلك من التعاليم
الغامضة والفاسدة المنتشرة في الكتب والخطب وبها، يعظون ويعلِّمون. وقد فصلنا
القول في بعضها، وموعدنا - ببيان سائرها - الأعداد الآتية إن شاء الله تعالى.
سبحان الله! كيف يعتذر بمثل هذا العذر سوري وأكثر العلماء المدرسين في
سوريا لا يقرؤون الدروس الوعظية إلا في شهر رمضان، ويأخذون من مال الأوقاف
أجور سنة كاملة، ويقضون معظم أوقاتهم في البطالة، وشأنهم في نواديهم وسُمَّارهم
الخوض مع الحائضين في اللغو واللهو، فهل نظرت للواقع - يا أستاذ طرابلس -
وراقبت الله تعالى عندما قلت: إن قيامهم بالواجب منه السفر الذي هم عاجزون عنه
لفقرهم؟ ! ورتبت على هذا أنهم عاجزون عن القيام بوظيفتهم على الإطلاق، وقلت
إن: (أهل الغفلة لا يعذرونهم وإنهم عند الله لمعذورون) ، ألا تذكر - يا أستاذ
طرابلس - أننا اقترحنا عليك أن تقرأ للطلبة في مدرستك درسًا في أخلاق الدين
كالجزء الثالث من الإحياء فاعتذرت بضيق الوقت، فقلت له: استبدل هذا الدرس
بدرس مقامات الحريري القليل الجدوى، فاعتذرت بما ملخصه أن التلامذة يستثقلون
مثل هذا الدرس ولا يرتاحون له، مع أن هذا العلم فرض عين وتعليمه من فروض
الكفاية، ولم يقم به في بلدك أحد، ومرت السنون ولم تقرأ في الأخلاق شيئًا، قلت:
لا يكفي مجرد وعظ العلماء في دروسهم المقامة في بعض المساجد لقلة مَن حضره.
فهل تقول مثل ذلك أيضًا في خطب الجوامع إن كنت تحب إرشاد الناس؟ ! فاعقد
بالله مجلس وعظ بعد صلاة الجمعة، واجعلْه كل أسبوع في مسجد وانظر أيجتمع
عليك الناس أفواجًا أفواجًا أم لا؟ ! قل لي - يا رعاك الله - هل يُنقص هذا من
رزقك الذي تأخذه من الأوقاف أو من خزينة الدولة أو من المطبعة والجريدة؟ وهل
تخشى منه على عيّلك الفقر والمسكنة.
اللهم بصِّرنا نفوسنا وأرنا الحقائق كما هي كيلا نضل ونشقى.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أيها الفتى
ما هذا اللهو واللغو، والفرح والمرح؟ ! تميل كالغصن مع الهوى. وأنت
ريَّان من ماء الشباب والصبا. ولكنك لا تجد على نار الحوادث هدى. أتحسب أنك
خُلقت عبثًا. أو أنك تترك سدى؟ ! كلا، إن أمامك خطوبًا فادحة. ونصالاً جارحة.
وأثقالاً بَيْتية ووطنية. تنوء بالعصبة أولي القوة، ولكن سُكر الشباب يفعل ما لا
يفعله سكر الأكواب. فهو الذي جعل في أذنيك وقرًا وعلى عينيك غشاوة. وران
على قلبك ما تعمل من السيئات. وتجترح من الخطيئات. تصور أن هذه الفتاة
الهيفاء والغادة الحسناء التي تغازلها وتناغيها. وتسايرها وتجاريها - ستكون ربة
بيتك. ومربية ولدك. ومالكة زمام أمورك، سعادتك بيدها. وراحتك في راحتها.
وشرفك بشرفها. ومستقبل ذريتك بآدابها ومعارفها. أفتحسب أن هذه الغر التي تميل
مع كل ريح. وتلين لكل صبيح أهل لما يُطلب منها. وكفؤ لما يناط بها؟ !
أفتحسب أنها - بعد أن تتشرف بالاقتران بك تتغير طباعها. وتنقلب أوضاعها.
وتتبدل صفاتها. وتستحيل ملكاتها. أم ترضى بها قرينة على ما تشاهد من علَاّتها.
وتعلم من هفواتها وسيئاتها؟ ! كلا، إنك سادر [1] في غفلتك، ملتخ [2] في سكرتك،
لا تفكر في أنك تجني على نفسك، وعلى جميع أبناء جنسك بإفساد آداب الفتيات
بتعرُّضك لهن حتى في الطرقات. وستذوق مرارتها في بيتك. إن لم تقلع عنها من
وقتك (دقة بدقة، ولو زدنا لزاد السَّقَّا)[3] .
***
أيتها الفتاة
لقد طوى الزمان الذي كان قدرك فيه مجهولاً. وجنسك اللطيف عند أهله
مفضولاً أو مرذولاً. وجاء زمان تنبه فيه الفضلاء والعظماء لما للمرأة من الشأن
الكبير في الارتقاء. وأنتِ مستقبلة عصر الكمال. الذي فيه يظهر سر قول النبي:
(النساء شقائق الرجال) ولكن من سماء عقلك يُشرق بدره. ومن بين ثناياك اللامعة
يتنفس فجره؛ لأن والدتك - وأعيذك بفضلك - جاهلة. وعن مقامها في المجتمع
الإنساني غافلة. فاعذريها على جهلها. ولا ترضي بأن تكوني مثلها. أتدرين - يا
سيدتي - بماذا يرتفع قدرك في هذا الزمن. وتكونين عقد زينة في جيد الوطن؟ !
إذا سألت عمتك (الست هانم) عن هذا السؤال، تقول لك: إن الذي يرفع المقدار،
ويستلفت الأنظار إنما هو تجعيد الطرة وعقص الذوائب. وكحل العيون وتزجيج
الحواجب. وحسن الالتفات والتثني. وأساليب الدلال والتجني. واللطف في
الإشارة. والظرف في العبارة. وإن خفة الحركات هي زينة البنات. وما وراء ذلك
إلا الثياب الحريرية. والحلية الذهبية والجوهرية. ولكن عمتك غالطة كالسيدة
الوالدة؛ فإن هذه الأمور هي التي أضرت بالوطن من قبل؛ لأن المرأة التي تجعل
همها في هذه الأمور، وتحسب أنها كالرياحين والزهور - ما خُلقت إلا نزهة للناس.
وزينة للحواس. يدل حسبانها هذا على أنها رضيت بما دون رتبة الحيوان. (أي:
حيث رضيت أن تكون قيمتها قيمة الزهر وهو من النبات والحيوان أشرف منه) ،
فكيف يقبل حكمها في رفعة شأن الأوطان. وهي من خصائص الكاملين من نوع
الإنسان؟ !
ولكن إذا سألت (المدام) فلانة أو تربك (المدموازيل) عن هذا
السؤال نفسه تسمعين جوابًا عجيبًا؛ لأنها تقول لك: إن قدر الفتاة إنما يكون رفيعًا
بعلومها وآدابها وفضائلها، وباستعدادها لمساعدة الرجل على إسعاد منزله وأهله
وإسعاد وطنه وأمته، فإذا كانت غير متخلقة بالأخلاق الفاضلة كيف يمكنها أن
تغرس فَسِيل الفضائل في نفوس أبناء الوطن الذين يعهد إليها بتربيتهم من يوم
يوجدون بحكم الطبيعة والشريعة معًا؟ وإذا كانت لا تعرف قيمة العلوم والفنون
والآداب التي تسعد بها البلاد فهل يخطر في بالها أن ترغِّب أولادها في ذلك وتسلك
بهم في هذه المسالك؟ ! بل ربما قالت لك حضرة المدموازيل: إن الفتاة كالفتى،
والمرأة كالرجل والوطن يطالبهما بحقوقه مطالبة واحدة؛ فيجب أن ترشح الفتاة نفسها
لأي عمل من الأعمال العظيمة النافعة التي يقوم بها الرجال حتى الأعمال
الحربية والسياسية. لكن هذا الأخير إفراط عظيم يقابله ما ترين عندنا من التفريط
والإهمال. والصواب أن البيت مثال المملكة الجمهورية؛ فالرجل هو الرئيس وناظر
الخارجية (أي: ما هو خارج البيت) ووظيفة المرأة نظارة الداخلية. والممالك
العظيمة إنما تتألف من هذه البيوت، فمتى كانت الحياة فيها سعيدة سعدت بذلك المملكة
كلها.
هذه إشارة لطيفة إلى مقامك السامي - أيتها الفتاة - وأفضل ما تستعدين له هو
تربية الأولاد، بل هو أفضل الأعمال كلها، والاستعداد له إنما يكون بمعرفة عقائد
الدين الصحيحة والتخلق بأخلاقه الفاضلة والتأدب بآدابه الكاملة ثم معرفة مبادئ
الفنون لا سيما حفظ الصحة وتدبير المنزل والحساب والتاريخ، فإذا التفت إلى هذه
الأشياء ووفيتها حقها من العناية؛ عرف لك الوطن العزيز حقك، ورقاك فضلاؤه إلى
الأوج الذي تستحقين ولا يغرنك هؤلاء الشبان الأغرار الذين يختالون في الشوارع
والمهايع ويرمون بأبصارهم إلى الكُوَى والنوافذ يفتنون الفتيات الغافلات،
ويستهوون السيدات المصونات. فليس تحت طرابيشهم المائلة إلا أحلام (عقول)
سفهة وأخلاق سافلة. وسيذهب فساد طباعهم وقبح أعمالهم. بما بقي لهم من
دثورهم وأموالهم. فويل لمَن اتصل بهم وقرب منهم، وهنيئًا لمَن إذا عرفهم قلاهم
وبعُد عنهم.
_________
(1)
السادر: المتحير والذي لا يبالي بما صنع؛ ومن معانيه الذاهب عن الشيء ترفُّعًا عنه، والسادر ثوبه؛ أي: السادل له.
(2)
يقال: سكران ملتخ؛ أي: طافح مختلط لا يفهم شيئًا لاختلاط عقله.
(3)
يُحكى أن شيخًا عفيفًا صادف في الطريق امرأة فقبَّلت يده، فغمزها بيدها الناعمة، ولما بلغ منزله وجد السَّقَّاء يغمز يد امرأته؛ فقاله، فسار مثلاً.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقاريظ
(الوشاح في شرح عروض المِفتاح)
أهدانا نسخة من هذا الكتاب مؤلفه حديثًا العالم الفاضل القاضي ظفر الدين
أحمد أستاذ الكلية الشرقية بلاهور، الهند ولما تتسنى لنا مطالعته فقصارى ما نقول
في هذا المقام: إن إحياء كتب فرسان البلاغة وجهابذة علوم اللسان (كالعلامة السكاكي
صاحب المفتاح) بالشرح والدرس - عمل شريف تحيا به اللغة العربية إن شاء الله
تعالى.
ثم نشكر لحضرة الأستاذ فضله. ونثني عليه كما أثنى علينا بما هو أهله، ومن
الله نسأل تحقيق ما أمله في خدمتنا (المنارية) من جمع كلمة الأمة الإسلامية.
ولا غرو؛ فقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) وعد لمَّا
يتحقق كما قال بعض المحققين الأجلة. ولا بد من تحقيقه بفضل الله تعالى.
***
(الجامعة العثمانية)
ظهر العدد الأول منها يتدفق بالمباحث المفيدة لا سيما مباحث التربية والتعليم
التي نحن أحوج إليها من كل شيء، وأحسن تقريظ لها أن ننقل نبذة من أنفع نبذها
وأفيدها، فإليكها نموذجًا حسنًا، قال الكاتب:
(إن المدارس الأجنبية في بلاد الدولة العثمانية قد صنعت خيرًا عظيمًا، ولكنها
قد صنعت شرًّا عظيمًا أيضًا. فعلينا أن نجد دواءً لهذا الداء، قد أنشأ الغرب للشرق
مدارس يعلم فيها أبناء الشرق الميل عن دولتهم إلى دولة غريبة عنهم، فلتنشئنَّ - أيها
العثمانيون - بإزاء تلك المدارس مدارس جديدة، يكون أساس تعليمها حب الوطن
والأمة، وتعليم ما هو الوطن وما هي الأمة. لنؤسس مدارس جديدة نُدخل إليها طرق
التعليم الحديثة ووسائل التربية الحديثة، وندخل إليها قبل ذلك عناصر الأمة كلها،
فنربيها فيها على مقاعد واحدة ونلقنها دروسًا واحدة ومبادئ واحدة؛ حتى تكون بعد
خروجها من حياة المدرسة إلى الرجولية بقلوب واحدة وأفكار واحدة، فإن هذا هو
السبيل إلى تقوية جدار الوطنية العثمانية ووقايته من الثلم أو الهدم) .
فشكرًا لك - أيها الكاتب الفاضل - ونجَّح الله تعالى الجامعة العثمانية بمبادئك
الصحيحة.
***
(أنين مظلوم)
جريدة ظهرت في القاهرة تشكو من ظلم رجال الدولة لا سيما في ولاية بيروت،
وتستصرخ مولانا السلطان الأعظم طالبة تفويض الأعمال إلى الأَكْفَاء الصادقين.
وعسى أن يكون كلام صاحبها صادرًا عن غيرة صحيحة وتألم حقيقي، فعهدنا
بالذين ينشئون الجرائد للطعن بالحكام والشكوى منهم أنهم طلاب رزق ووظيفة أو
رتب ووسامات، كما ثبت ذلك للدولة العلية بالاختبار؛ ولهذا ارتفعت الثقة بكلام
أمثال هذه الجرائد من الدولة والأمة، فاشتبه الحق بالباطل والإخلاص بالنفاق، ولا
علاج لهذا إلا أن تقرر الدولة حرمان أصحاب الجرائد عمومًا من الرتب والرواتب
والأعمال والوظائف؛ لينقطع أملهم مما وراء عملهم وثمراته الذاتية، فمن أحسن
ونجح في عمله فحسبه إحسانه شرفًا وكسبًا، ومن ساء فعليه ما يلاقيه من الجزاء،
وما دامت الدولة تغدق النعم على السفهاء منعًا لسفههم؛ فإنها تغري بذلك غيرهم،
فتضيع الأجور ويكثر الفجور ومحاولةُ إرضاء جميع الناس غرورٌ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أخبار الحجاج
بلغ عدد الحجاج الذين قصدوا الأقطار الحجازية عن طريق الإسكندرية لغاية 16
الجاري 7602، والذين برحوا هذا الثغر في ذلك اليوم فقط 801، منهم 509
عثمانيون و136 مصريون و58 روسيون و40 فارسيون و29 من الزولوس و26 من
البوسنيين و3 من البرتغاليين.
أما الذين سافروا من القاهرة فيبلغ عددهم إلى اليوم نحو الثلاثمائة حاج.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... المؤيد
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
اعتذار
ضاق هذا العدد عن النصائح والوصايا التي أعددناها للحبالى، وعن باب
الأخبار والحوادث، وموعدنا العدد الآتي إن شاء الله تعالى.
_________