المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (2)

- ‌28 شوال - 1316ه

- ‌خطاب وعظي للإنسان

- ‌الإيثار

- ‌التربية والتعليم

- ‌الحوادث والأخبار التاريخية

- ‌6 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الإيثار

- ‌الحبالى وتربية الأجنة(1)

- ‌التعليم بالعمل

- ‌ما قيل في الخال

- ‌الجامع الأزهر الشريف

- ‌الأخبار والآراء

- ‌13 ذو القعدة - 1316ه

- ‌تأثير العلم في العمل

- ‌أيها الفتى

- ‌أخبار الحجاج

- ‌اعتذار

- ‌20 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الاتحاد

- ‌اختيار المعلمين

- ‌الحدود بين القطر المصري والسودان

- ‌27 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الإصلاح الإسلامي

- ‌تأثير الوعظ والتذكير

- ‌عبرة لمن يعقل

- ‌إحصاء الأوقاف

- ‌تنازع الدول الأوربيةعلى الممالك الإسلامية

- ‌5 ذو الحجة - 1316ه

- ‌الإصلاح الإسلامي

- ‌عداء وخداع

- ‌الجمعية الإسلامية الهندية في لاهور

- ‌19 ذو الحجة - 1316ه

- ‌الأعياد

- ‌الساكت عن الحق شيطان أخرس

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌26 ذو الحجة - 1317ه

- ‌التعليم القضائي

- ‌المتكلمة بالقرآن

- ‌مقتطفات

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌3 محرم - 1317ه

- ‌الاعتماد على النفس

- ‌استنهاض همم(2)

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌10 محرم - 1317ه

- ‌التصرف في الكون

- ‌استنهاض همم(3)

- ‌التربية النفسية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌17 محرم - 1317ه

- ‌حياة الإسلام في مصر

- ‌استنهاض همم(4)

- ‌الطاعون واتقاؤه

- ‌كتاب تحرير المرأة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌24 محرم - 1317ه

- ‌استنهاض همم(5)

- ‌التربية النفسية

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مسألة القضاء الحاضرة

- ‌2 صفر - 1317ه

- ‌العز والذل

- ‌استنهاض همم(6)

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌9 صفر - 1317ه

- ‌فهم الدين

- ‌استنهاض همم(7)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الأخبار

- ‌16 صفر - 1317ه

- ‌كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية

- ‌استنهاض همم(8)

- ‌مراكش

- ‌ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [[

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مقتطفات الأخبار

- ‌23 صفر - 1317ه

- ‌النهضة الإسلامية في مصر

- ‌استنهاض همم(9)

- ‌إزالة شبهة

- ‌اختبار علم كل عارفمن ألباء أرباب المعارف

- ‌وفاة

- ‌29 صفر - 1317ه

- ‌استنهاض همم(10)

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أرزاء وطنية

- ‌يستحيل إرضاء الناس

- ‌ وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى [[

- ‌7 ربيع الأول - 1317ه

- ‌كان يا ما كان(2)

- ‌استنهاض همم(11)

- ‌الكتابان الجليلان

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الاحتفال بتذكارالمولد النبوي الشريف

- ‌14 ربيع الأول - 1317ه

- ‌المولد النبوي

- ‌كان يا ما كان(3)

- ‌استنهاض همم(12)

- ‌مَضَارُّ الْغِلْظَةِ فِي التَّرْبِيَة

- ‌تأييد عالم وتفنيد واهم

- ‌شعر في حب العلم

- ‌21 ربيع الأول - 1317ه

- ‌الحياة المِلِّية

- ‌كان يا ما كان(4)

- ‌استنهاض همم(13)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مدرسة الجمعية الخلدونية

- ‌إحصاء عن عدد سكان أوربا

- ‌28 ربيع الأول - 1317ه

- ‌الجنسية والدين الإسلامي

- ‌كان يا ما كان(5)

- ‌استنهاض همم(14)

- ‌تعليم النساء

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌5 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌الجامعة الإسلامية

- ‌استنهاض همم(15)

- ‌حقوق الجار ومدح المناربما يبديه من هدي الكبار

- ‌الإسلام في البرازيل

- ‌12 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌الدين والدولةأو الخلافة والسلطنة

- ‌كان يا ما كان(6)

- ‌خاتمة رسالةاستنهاض همم

- ‌تنبيه

- ‌دم أضاعه أهله

- ‌عناصر النمسا

- ‌19 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌كلمة في الحجاب

- ‌تهنئة الأستاذ المفتي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌26 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌تحريف الكلم عن مواضعه

- ‌الحديث الموضوع

- ‌الاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني

- ‌كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌3 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌حقوق الأخوة(3)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌10 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌حقوق الأخوة(4)

- ‌الوثنية في الإسلام

- ‌نجاح الجمعيات الإسلامية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌17 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌ماذا نعمل

- ‌المسلمون في روسيا

- ‌الأميرة الفاضلة صاحبة الدولةالبرنسس نازلي هانم أفندي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌24 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌القسم الثانيمن خطبتنا في التربية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌2 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌رد على باحث في كتابسر تقدم الإنكليز السكسونيين

- ‌القسم الثانيمن خطبتنا في التربية

- ‌شذرات

- ‌9 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أخبار وآراء

- ‌16 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌فلسفة الحرب الحاضرة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الشكوى من ظلم هولندا

- ‌وفاة والدة عبد الحليم أفندي حلمي

- ‌23 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌ذكرى لرؤساء الأمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أهم أخبار الحرب

- ‌شكر

- ‌30 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌الفرصتان

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌أهم أخبار الحرب

- ‌عودة الخديوي وأسرته

- ‌منع جريدة المشير

- ‌المدرسة العثمانية

- ‌إزالة وهم تاريخي

- ‌بعض التفصيل

- ‌6 رجب - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌بدع رجب

- ‌14 رجب - 1317ه

- ‌مناشير المهدي السوداني

- ‌فائدة الانتقاد

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌21 رجب - 1317ه

- ‌عزاء

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌بضعة أيام في خدمةجمعية شمس الإسلام

- ‌إصلاح غلط

- ‌28 رجب - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الدولة العلية في أفريقية

- ‌مساجد الصعيد

- ‌6 شعبان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأسطول الفرنساوي

- ‌رزء وطني عظيم

- ‌كنسة الإمام

- ‌13 شعبان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المنار والمناظر

- ‌السيول الجارفة

- ‌الجغرافيا والحرب

- ‌20 شعبان - 1317ه

- ‌الشريعة والطبيعةوالحق والباطل

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌عيد المولد الهمايوني

- ‌العالم الإسلامي

- ‌الحرب الحاضرة

- ‌27 شعبان - 1317ه

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌5 رمضان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌12 رمضان - 1317ه

- ‌اقتراح على السادة العلماءفي تقويم اعوجاج الوعّاظ والخطباء

- ‌الصيام والتمدن(2)

- ‌التقريظ والانتقاد

- ‌مأثرة لجمعية شمس الإسلام

- ‌19 رمضان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌26 رمضان - 1317ه

- ‌الزكاة والتمدن(2)

- ‌الاقتراح على المنار

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌ذم الهوى

- ‌الأخبار والآراء

- ‌المسجد الحسيني

- ‌10 شوال - 1317ه

- ‌طفولية الأمّةوما فيها من الحيرة والغمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الاجتماع العامفي جمعية شمس الإسلام

- ‌الأخبار والآراء

- ‌17 شوال - 1317ه

- ‌الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌جمعية شمس الإسلامفي القاهرة

- ‌الأمراء والعلماء

- ‌أفكوهة غريبة

- ‌خاتمة السنة الثانية للمنار

الفصل: ‌10 شوال - 1317ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌خطاب وعظي للإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم

{فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) .

أما بعد: فيا أيها الإنسان خلقك الله وسطًا بين العوالم الجسدية والروحية

وأعطاك سلطانًا على العوالم السفلية والعلوية، منحك المشاعر البادية والكامنة

وأسبغ عليك نِعَمه ظاهرة وباطنة، ولم يجعل لاستعدادك حدًّا معروفًا، ولا لرقيك

منتهى محدودًا، فلماذا قنع بعض أبنائك بالمرتبة الدنيا فوقفوا عند الدرجة السفلى؟

يتخطى إخوتهم رقابهم وهم سائرون، ويطؤون هامهم وهم صاعدون، ولكنهم

وادعون ساكنون، كأنهم لا يحسون ولا يشعرون، العبر أمامهم ووراءهم والمنبهات

عمت أرضهم وسماءهم. ولكنهم لا يعتبرون ولا يتنبَّهون {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ

سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (يس: 9) .

يا أيها الإنسان، ما هذا الفرق الكبير الذي بين أفرادك. واحد كألف، وألف

كأف. بل واحد يدبر شؤون أمة كاملة حتى كأنه روح مدبرة، وهي أعضاء مسخرة

فأجدر بالإنسانية أن تقر لهذا بنسبته، وتنكر أولئك وإن كانوا على صورته

{أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .

ويا مَن خُلق على صورة الإنسان، ولكنه يعيش بروح أخس حيوان. أَفِقْ من

سكرتك، وهب من رقدتك، واكفُفْ عن التمادي في الشهوات البهيمية، والاسترسال

في التعديات الوحشية. واعلم أن لك روحًا أخرى إذا غلبتها على هواك، وحكَّمتها في

قواك. فإنك ترتقي إلى حال جديدة تحيا بها حياة سعيدة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ

لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4) .

ويا أيها الشرقي تذكر وتدبر، واعلم أن ذنوب الأمم لا تُغفر، فما من أمة فشا

في آحادها الكذب والخيانة والنفاق، وفسدت من آحادها الآداب والأخلاق. فانحرفت

عن الشريعة الإلهية، ولم تسترشد بالسنن الكونية - إلا وصب عليها مدبر الكون

سوط عذاب {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ

العِقَابِ} (الأنفال: 25)، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 21) .

إن شر الدوابِّ عند الله الصم الذين لا يسمعون سماع تعقل وتدبر، البُكم الذين

لا ينطقون بالحق فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر. فاسمعوا وأطيعوا

واعلموا واعملوا. وألفوا الشركات المالية، واعقدوا الجمعيات العلمية والأدبية

{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (التوبة: 41) .

وهاكم هذه المجلة التهذيبية. الخادمة لجامعتكم الملية والوطنية. تنتقي لكم ما

هو أمسّ بمصلحتكم، وأقرب - إن شاء الله تعالى - لمنفعتكم، وأدعى - بفضل الله

تعالى - إلى نهضتكم. وأرجى - بتوفيق الله عز وجل لجمع كلمتكم. فتبين البدع

التي مازجت العقائد، والمفاسد التي عرضت للسجايا والعوائد؛ فأمرضت العقول

وانحرفت بالنفوس عن سواء السبيل، وتهدي لعلاج هذه الأمراض الروحية

والأدواء الاجتماعية. بكشف الحجاب عن وجوه التربية النافعة، وتسهيل سبل

التعاليم الناجعة. وتختار من الآثار العلمية والأدبية، والملح والنوادر الفكاهية، ما

ترتاح له مع الفائدة النفوس، وتنجلي به على نزاهته الهموم والبؤوس.

أما جوائب الأخبار، وحوادث الأقطار والأمصار فنذكر منها أهم ما يفيد

القارئين - لا سيما المصريين والعثمانيين - وسالكين فيه منهج المؤرخ العادل، من

غير طعن ولا تحامل. فالخدمة الصحيحة للدولة والأمة إنما تكون بتبيين الرشد من

الغي، وتمييز الخطأ من الصواب، والتزييل بين النافع والضار؛ إذ التجريح

والترجيح، والذم والمديح - لا يخفض شيء منها قدرًا، ولا يرفع ذكرًا، ولا يكون

مناطًا لعزة ورقي، ولا لذلة وهُوي، وسواء كان ذلك في الأمم والدول، أم في الآحاد

والأشخاص. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا في سنتنا هذه لأحسن ما وفقنا له في سنتنا

الخالية. ونرجو من فضلاء الأمة الذين استعذبوا مشرب الجريدة. واعتقدوا أن

مباحثها نافعة مفيدة أن يشدّوا أزرنا، ويساعدونا على تعميم نشرها {وَتَعَاوَنُوا عَلَى

البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) وتمسكوا من الإصلاح بالسبب الأقوى {وَاتَّقُوا اللَّهَ

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (البقرة: 189) ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى

السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) .

خلق الله الإنسان عالمًا صناعيًّا، ويسّر له سبيل العمل لنفسه، وهداه للإبداع

والاختراع، وقدر له من الرزق من صنع يده بل جعله ركن وجوده، ودعامة بقائه،

فهو على جميع أحواله من ضيق وسعة، وخشونة ورفاهة، وتبدٍّ وحضارة صنيعة

أعماله: أقواته من معالجة الأرض بالزراعة أو قيامه على الماشية، وسرابيله وما

يقيه من الحر أو البرد والوجى من عمل يديه نسجًا أو خصفًا. وأكنانه ومساكنه

ليست إلا من مظاهر تقديره وتفكيره، وجميع ما يتفنَّن فيه من دواعي ترفه ونعيمه

إنما هي صور أعماله ومَجَالِي أفكاره، ولو نفض من يديه من العمل لنفسه ساعة من

الزمان، وبسط أكفّه للطبيعة يستجديها نفسًا من حياة - لشحت به عليه بل دفعته إلى

هاوية العدم. وهو في صنعه وإبداعه محتاج إلى أستاذ يثقفه، وهادٍ يرشده، فكما

يعمل لتوفير لوازم معيشته وحاجات حياته - يعمل ليعلم كيف يعمل، وليقتدر على أن

يعمل؛ فصنعته أيضًا من صنعه، فهو في جميع شؤونه الحيوية عالم صناعي كأنه

منفصل عن الطبيعة بعيد من آثارها، حاجته إليها كحاجة العامل لآلة العمل.

هذا هو الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه.

دعْه في هذه الحالة وخذ طريقًا من النظر إلى أحواله النفسية من الإدراك

والتعقل والأخلاق والملكات والانفعالات الروحية - تجدْه فيها أيضًا عالمًا صناعيًّا:

شجاعته وجبنه، وجزعه وصبره، كرمه وبخله، شهامته ونذالته، قسوته ولينه

عفته وشرهه وما يشابهها من الكمالات والنقائص. جميعها تابع لما يصادفه في

تربيته الأولى، وما يودع في نفسه من أحوال الذين نشأ فيهم وتربَّى بينهم، مرامي

أفكاره، ومناهج تعقله ومذاهب ميله ومطامح رغباته ونزوعه إلى الأسرار الإلهية،

أو ركونه إلى البحث في الخواص الطبيعية، وعنايته باكتشاف الحقيقة في كل شيء،

أو وقوفه عند بادئ الرأي فيه وكل ما يرتبط بالحركات الفكرية، إنما هي ودائع

اختزنها لديه الآباء والأمهات والأقوام والعشائر والمخالطون. أما هواء المولد

والمربي ونوع المِزَاج وشكل الدماغ وتركيب البدن وسائر الغواشي الطبيعية فلا أثر

له في الأعراض النفسية والصفات الروحانية، إلا ما يكون في الاستعداد والقابلية،

على ضعف في ذلك الأثر؛ فإن التربية وما ينطبع في النفس من أحوال المعاشرين

وأفكار المثقفين تذهب به كأن لم يكن أودع في الطبع. نعم، إن أفكارًا تتجدد،

ومعقولات من أخرى تتولد وصفات تسمو، وهممًا تعلو حتى يفوق اللاحقون فيها

السابقين، ويظن أن هذا من تصرف الطبيعة لا من آثار الاكتساب، ولكن الحق فيه

أنه ثمرة ما غرس، ونتيجة ما كسب؛ فهو مصنوع يتبع مصنوعًا، فالإنسان في

عقله وفي صفات روحه عالم صناعي.

هذا مما لا يرتاب فيه العقلاء والسذج، ولكن هل تذكرت مع هذا أن الأعمال

البدنية، إنما تصدر عن المهلكات والعزائم الروحية، وأن الروح هي السلطان

القاهر على البدن؟ أظنك لا تحتاج فيه إلى تذكير؛ لأنه مما لا يعزُب عن الأذهان،

إنما قبل الدخول في موضوعنا أقول كلمة حق في الدين ولا أظن منكرًا يجحدها:

إن الدين وضع إلهي ومعلمه والداعي إليه البشر تلقاه العقول عن المبشرين

المنذرين فهو مكسوب لمن يختصهم الله بالوحي [1] ، ومنقول عنهم بالبلاغ والدراسة

والتلقين، وهو عند جميع الأمم أول ما يمتزج بالقلوب، ويرسخ في الأفئدة وتصبغ

النفوس بعقائده وما يتبعها من المَلَكات والعادات، وتتمرن الأبدان على ما ينشأ عنه من

الأعمال عظيمها وحقيرها، فله السلطة الأولى على الأفكار وما يطاوعها من العزائم

والإرادات، فهو سلطان الروح ومرشدها إلى ما تدبر به بدنها. وكأنما الإنسان في

نشأته لوح صقيل، وأول ما يخطّ فيه رسم الدين، ثم ينبعث إلى سائر الأعمال بدعوته

وإرشاده. وما يطرأ على النفوس من غيره فإنما هو نادر شاذ، حتى لو خرج مارق

عن دينه لم يستطع الخروج عما أحدثه فيه من الصفات بل تبقى طبيعته فيه كأثر

الجرح في البشرة بعد الاندمال.

وبعد هذا، فموضوع بحثنا الآن الملة المسيحية والملة الإسلامية، وهو بحث

طويل الذيل، وإنما نأتي فيه على إجمال ينبئك عن تفصيل: إن الديانة المسيحية

بُنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص واطِّراح الملك

والسلطة ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم

المتدينين بها وترك أموال السلاطين للسلاطين والابتعاد عن المنازعات الشخصية

والجنسية بل والدينية، ومن وصايا الإنجيل: (مَن ضربك على خدك الأيمن فأدرْ له

خدك الأيسر) ومن أخباره أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد وهي فانية،

والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح وهي لله وحده. فمَن يقف على مباني هذه

الديانة ويلاحظ ما قلنا من أن الدين صاحب الشوكة العظمى على الأفكار مع

ملاحظة أن لكل خيال أثرًا في الإرادة يتبعه حركة في البدن على حسبه - يعجب كل

العجب من أطوار الآخذين بهذا الدين السلمي المنتسبين في عقائدهم إليه؛ فهم

يتسابقون في المفاخرة والمباهاة بزينة هذه الحياة ورفَه العيش فيها، ولا يقفون عند حد

في استيفاء لذَّاتها [2] ، ويسارعون إلى افتتاح الممالك والتغلب على الأقطار الشاسعة،

ويخترعون كل يوم فنًّا جديدًا من فنون الحرب، ويُبدعون في اختراع الآلات

الحربية القاتلة، ويستعملها بعضهم في بعض ويصولون بها على غيرهم،

ويبالغون في ترتيب الجيوش وتدبير سوقها في ميادين القتال، ويصرفون عقولهم في

إحكام نظامها حتى وصلوا إلى غاية صار بها الفن العسكري من أوسع الفنون

وأصعبها، وإن أصول دينهم صارفة لعقولهم عن العناية بحفظ أملاكهم فضلاً عن

الالتفات إلى طلب غيرها.

الديانة الإسلامية وُضع أساسها على طلب الغلب والشوكة، والافتتاح والعزة،

ورفض كل قانون يخالف شريعتها، ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية

على تنفيذ أحكامها؛ فالناظر في أصول هذه الديانة، ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل

يحكم حكمًا لا ريب فيه بأن المعتقدين بها لا بد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم

وأن يسبقوا جميع المِلَل إلى اختراع الآلات القاتلة، وإتقان العلوم العسكرية،

والتبحُّر فيما يلزمها من الفنون كالطبيعة والكيمياء وجرّ الأثقال والهندسة وغيرها.

ومن تأمل في آية {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) -

أيقن أن مَن صُبغ بهذا الدين فقد صُبغ بحب الغَلَبَة وطلب كل وسيلة إلى ما يسهل له

سبيلها والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية فضلاً عن الاعتصام بالمَنَعَة والامتناع من

تغلب غيره عليه. ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرم المراهنة إلا في السباق

والرماية - انكشف له مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرن عليها.

ولكن مع كل ذلك تأخذه الدهشة من أحوال المتمسكين بهذا الدين لهذه الأوقات؛

إذ يراهم يتهاونوا بالقوة، ويتساهلون في طلب لوازمها، وليست لهم عناية في فنون

القتال ولا في اختراع الآلات، حتى فاقتهم الأمم سواهم فيما كان أول واجب عليهم،

واضطروا لتقليدها فيما يحتاجون إليه من تلك الفنون والآلات، وسقط كثير منهم

تحت سلطة مخالفيهم واستكانوا ورضخوا لأحكامها. ومَن وازن بين الديانتين حار

فكره كيف اخترع مِدفع الكروب والمتراليوز وغيرهما بأيدي الديانة الأولى قبل

الثانية؟ وكيف وجدت بندقية مرتين في ديار الأولين قبل وجودها عند الآخرين؟

وكيف أُحكمت الحصون ودُرعت البواخر وأُخذت مغالق البحار بسواعد أهل السلامة

والسلم دون أهل الغلة والحرب؟ !

لِمَ لا يحار الحكيم وإن كان نطاسيًّا؟ لم لا يقف الخبير البصير دون استكناه

الحقيقة؟ ألم تكن القرون الخالية والأحقاب الماضية كافية لرسوخ الديانتين في نفوس

المستمسكين بعُرَاهما، هل نبذت كل ملة من الملتين عقائد دينها ظِهْريًّا من أجيال

بعيدة؟ هل اقتصر النصارى في دينهم على الأخذ بشريعة موسى واقتفاء سيرة

يوشع بن نون؟ هل تخللت بعض (آيات) الإنجيل من حيث يدري ولا يدري

بين الخطب والمواعظ التي تُتلى على منابر المسلمين، أو أُلقي شيء منها في أمانيّ

معلميهم وناشري شريعتهم عند ما يتربعون في محافل دروسهم؟ هل تبدلت سنة الله

في الملتين؟ هل تحول مجرى الطبيعة فيهما؟ هل استبدت الأبدان فيهما على

الأرواح؟ أو وُجد للأرواح مدبر سوى الفكر والخيال؟ أو انفلتت الأفكار من سلطة

الدين، أو تعاصت النفوس عن الانتقاش بنقشته وهو أول حاكم عليها وأقوى مؤثر

فيها؟ هل تتخلف العلل عن معلولاتها؟ هل تنقطع النسب بين الأسباب ومسبباتها؟

ماذا عساه يرشد العقول إلى كشف المساتير وحل المعميات؟ أينسب هذا إلى اختلاف

الأجناس، وكثير من أبناء الملتين يرجعون إلى أصول واحدة ويتقاربون في الأنساب

الدانية؟ أينسب هذا إلى اختلاف الأقطار، وكثير من القبيلين يتشابهون في طبائع

البلدان، ويتجاورون في مواقع الأمكنة؟ ألم يصدر من المسلمين - وهم في شبيبة

دينهم - أعمال بهرت الأبصار وأدهشت الألباب؟ ألم يكن منهم مثل فارس والعرب

والترك الذين دوخوا الممالك واستووا على كرسي السيادة فيها؟

كان للمسلمين في الحروب الصليبية آلات نارية أشباه المدافع فزع لها

المسيحيون، وغابوا عن معرفة أسبابها. ذكر ملكام سرجم (إنكليزي) في تاريخ

فارس أن محمودًا الغزنوي كان يحارب وثنيي الهند بالمدافع، وكانت هي الأسباب في

انهزامهم بين يديه سنة 400 للهجرة! وما كان المسيحيون لذلك العهد يعرفون شيئًا

منها. فأي عون من الدهر أخذ بأيدي الملة المسيحية فقدمها إلى ما لم يكن في قواعد

دينها، وأي صدمة من صدماته دفعت في صدور المسلمين فأخَّرتهم عن تعاطي

الوسائل ما هو أول مفروض في دينهم؟

مقام للحيرة وموضع للعجب، ويظن أنه لا بد لهذا التخالف من سبب، نعم،

وتفصيله يطول، ولكن نجمل على ما شرطنا:

إن الدين المسيحي إنما امتد ظله، وعمت دعوته في الممالك الأوروبية من أبناء

الرومانيين وهم على عقائد وآداب وملكات وعادات ورثوها عن أديانهم السابقة

وعلومهم وشرائعهم الأولى، وجاء الدين المسيحي إليهم مسالمًا لعوائدهم ومذاهب

عقولهم، وداخلهم من طرق الإقناع ومسارقة الخواطر لا من مطارق البأس والقوة،

فكان كالطراز على مطارفهم، ولم يسلبهم ما ورثوه عن أسلافهم. ومع هذا فإن

صحف الإنجيل الداعية للسلامة والسلم لم تكن لسابق العهد مما يتناوله الكافة من

الناس بل كانت مذخورة عند الرؤساء الروحانيين. ثم إن الأحبار الرومانيين لما

أقاموا أنفسهم في منصب التشريع وسنّوا محاربة الصليب ودعوا إليها دعوة الدين

التحمت آثارها في النفوس بالعقائد الدينية، وجرت فيها مجرى الأصول ولحقها على

الأثر تزعزع عقائد المسيحيين في أوروبا وافترقوا شيعًا وذهبوا مذاهب تنازع الدين

في سلطته، وعاد وميض ما أودعه أجدادهم في جراثيم وجودهم ضرامًا، وتوسعوا

في فنون كثيرة وانفسح لهم مجال الفكر فيها. وكانت براعتهم في الفن العسكري

واختراع آلات الحرب والدفاع مساوقة لبراعتهم في سائر الفنون.

وأما المسلمون فبعد أن نالوا في نشأة دينهم ما نالوا، وأخذوا من كل كمال

حربي حظًّا، وضربوا في كل فَخار عسكري بسهم، بل تقدموا سائر الملل في فنون

المقارعة، وعلوم النزال والمكافحة، ظهر فيهم أقوام بلباس الدين وأبدعوا فيه

وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت بينهم قواعد الجبر وضربت في الأذهان حتى

اخترقتها، وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعِنانها عن الأعمال، هذا إلى ما أدخله

الزنادقة فيما بين القرن الثالث والرابع، وما أحدثه السوفسطائية الذين أنكروا مظاهر

الوجود وعدّوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق، وما وضعه كَذَبة النقل من

الأحاديث ينسبونها إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ويثبتونها بالكتب، وفيها

السم القاتل لروح الغيرة، وإن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفًا في الهمم وفتورًا

في العزائم، وتحقيق أهل الحق وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك - لم

يرفع تأثيره عن العامة؛ خصوصًا بعد حصول النقص في التعليم، والتقصير في

إرشاد العامة إلى أصول دينهم الحقة ومبانيه الثابتة التي دعا إليها النبي وأصحابه،

فلم تكن دراسة الدين على طريقها القويم إلا منحصرة في دوائر مخصوصة بين فئة

معينة، لعل هذا هو العلة في وقوفهم، بل الموجب لتقهقرهم وهو الذي نعاني من

عنائه اليوم ما نسأل الله السلامة منه.

إلا أن هذا العوارض التي غشيت الدين وصرفت قلوب المسلمين عن رعايته

وإن كان حجابها كثيفًا - لكن بينها وبين الاعتقادات الصحيحة التي لم يُحرَموها

بالمرة تدافُع دائم وتغالب لا ينقطع، والمنازعة بين الحق والباطل كالمدافعة بين

المرض وقوة المِزَاج، حيث إن الدين الحق هو أول صبغة صبغ الله بها نفوسهم، ولا

يزال وميض برقه يلوح في أفئدتهم بين تلك الغيوم العارضة فلا بُدَّ يومًا أن يسطع

ضياؤها ويقشع سحاب الأغيان، وما دام القرآن يُتلى بين المسلمين وهو كتابهم

المنزل وإمامهم الحق، وهو القائم عليهم، يأمرهم بحماية حوزتهم والدفاع عن ولايتهم

ومغالبة المعتدين وطلب المنَعة من كل سبيل، لا يعين لها وجهًا، ولا يخصص لها

طريقًا - فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم، ونهوضهم إلى مقاضاة الزمان ما

سلب منهم، فيتقدمون على مَن سواهم في فنون الملاحمة والمنازلة والمصاولة حفظًا

لحقوقهم وضنًّا بأنفسهم على الذل، وصونًا لملتهم من الضياع، وإلى الله تصير

الأمور.

...

...

...

...

(العروة الوثقى)

_________

(1)

هذا ما كُتب بقلم الأستاذ الشيخ محمد عبده عن لسان الحكيم الإسلامي السيد جمال الدين الشهير وبالاتفاق معه؛ فليخشَ الله مَن كان يتهم هذين الحكيمين أو أحدهما بالقول بأن النبوة مكتسَبة، وما أعظم بهتان مَن يقول: إن المرحوم السيد جمال الدين صرح بهذا الاعتقاد في الخطاب العام الذي ألقاه في الآستانة في الحث على الصنائع، أما وسر الحق لو صرح به في الآستانة لما صرح بخلافه في باريس حيث كان يُصدر العروة الوثقى.

(2)

ذكَّرنا هذا ما جاء في (المقتطف) الأغر (جزء 20، صفحة 860) في تقريظ منشور المجمع القسطنطيني الأرثوذكسي ردًّا على منشور البابا لاون الثالث عشر وهو بنصه:

ومن العجب أن رؤساء الطوائف المسيحية يتنازعون على العقائد المذكورة آنفًا (أي: ككون

العماد لا يصح بالتغطيس، وسر الشكر يجب أن يكون بالخبز المخمَّر) ولا يتحرك لهم قلم، ولا ينطق لهم لسان في طلب إنصاف المظلوم والقضاء لليتيم والمحاماة عن الأرملة، وقد نخر سوس الفساد عظام التمدن الأوربي، وصار المال معبود المسيحيين ولا همّ لرؤسائهم إلا لبس الوسامات واتساع السلطة، ونخشى أنه إذا جاء ابن الإنسان لم يجد إيمانًا على الأرض؛ لأن الاهتمام بالعَرَض شغل الناس عن الاهتمام بالجوهر، ولأن حب الدنيا سدل حجابًا على العيون.

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإيثار

جعلت الديانة الإسلامية الأعمال الفاضلة على قسمين: قسم حُكمه الوجوب،

وهو ما لا حرج فيه ولا مشقة على الناس كلهم باتباعه: كأداء الزكاة وإنظار المعسر

والمساواة والمماثلة في العقوبة. وقسم حكمه الندب والاستحباب؛ وهو ما لا يمكن أن

يكون عليه الناس كلهم: كالعفو عن الجاني، وإبراء المعسر والإيثار على النفس مع

الحاجة والخَصاصة، والأعمال الواجبة التي كلف بها جميع الناس جزمًا أفضل من

الأعمال المستحبة التي طُلبت طلبًا غير جازم في الغالب؛ فإن إبراء المعسر أفضل

من إنظاره كما لا يخفى، ويتراءى لغير المحقق أن الإيثار - ولو بالضروري -

أفضل من الإنفاق مما زاد على الحاجة الذي هو أصل الشريعة، ودونك ما أوردناه

في كتابنا (الحكمة الشرعية) من تحقيق هذا البحث وفاءً بوعدنا في العدد الماضي

وهو:

إن كتب السنة وأخبار السلف وآثارهم؛ تشهد لهم بفضيلة الإيثار على أنفسهم،

وقد مدح الله عز وجل به الأنصار بقوله - عز من قائل -: {وَيُؤْثِرُونَ

عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) وأقوال العلماء المصرِّحة بأن المؤاثرة أفضل درجات البذل مالئة

بطون الدفاتر، ومع هذا فقد حقق إمام العارفين الشيخ الأكبر محيي الدين أن مقام

أكمل الكملة تقديم أنفسهم وعدم المؤاثرة، فقد ذكرنا في رسالته (روح القدس) كلامًا

في مناظرة نفسه أقنعها فيه بأن ليس لها قدم مع الأنبياء ولا مع الصحابة، وأراد أن

يقنعها بذكر أحوال بعض التابعين بأنها لم تبلغ لهم أيضًا شأوًا أيضًا، فقصَّ عليها

أحسن القصص من أحوال أُويس القَرني رضي الله عنه وسيرته في الإنفاق.

قال قدس سره [1] :

فقالت النفس - يا سيدي -: ارفقْ بي ولا تعجل، فقد ظهر لي في مسألة

أويس هذا أمر خرج الحَلَاّج فيه فوقه، وذلك أن الحلاج رضي الله عنه قال مخبرًا

عن حالته: إذا قعد الرجل عشرين يومًا دون غذاء، ثم جاءه طعام فعرف أن في

البلد مَن هو أحوج منه لذلك الطعام فأكله، ولم يؤثر ذلك المحتاج به فقد

سقط.

وهذا مقام عالٍ كما رأيته. وهذا أويس رضي الله عنه ما كان يتصدق

إلا بفضل طعامه وثيابه، فيأخذ حاجته أولاً، ثم يعطي ما فضل عن قُوته كل، ليلة

وهو يعلم أن ثَمَّ جائعًا ولم يعطه وهذا كما رأيته قال:

قلت لها: يا نفس ما أنتِ إلا اعترضت اعتراض من لا يعرف الحقائق، ولكنك

جهلت المقال، فاسمعي الجواب، واعلمي أن أويس هو الإمام الذي لا يلحق.

واعلمي أيتها النفس أن العارف إذا كان صاحب حال مثل الحلاج فرق بين نفسه وبين

غيره، فعامل نفسه بالشدة والقهر والعذاب، وعامل نفس غيره بالإيثار والرحمة

والشفقة، وإذا كان العارف صاحب مقام وتمكين وقوة صارت نفسه عنه أجنبية، لا فرق عنده بينها وبين نفوس العالم، فما يلزمه في حق نفوس الغير من الرحمة

والشفقة - يلزمه في حق نفسه؛ لكونها صارت عنه أجنبية وارتفع هو علويًّا،

وبقيت، هي مع أبناء جنسها سفلية، فلزمه العطف عليها كما لزمه على غيرها؛

فإن صاحب الصدقة العارف إذا خرج بصدقته ولقي أول مسكين يدفع إليه الصدقة،

فإن تركه ومضى إلى مسكين آخر، فقد انتقل من رضى ربه إلى هوى نفسه وخرج

من ديوانهم، فإنها مثل الرسالة لا يخص بها شخصًا، أول مَن يلقاه يقول له: قل:

(لا إله إلا الله) .

ولا شك أن هذا العارف إذا وهبه الله تعالى رزقًا يعلم أنه مرسَل إلى عالم

النفوس الحيوانية فينزل من حضرة عقله إلى أرض النفوس، ليؤدي إليهم ذلك القدر

الذي وُجه به، فأول نفس تلقاه نفسه لا نفس غيره، وسبب ذلك أن نفوس الغير غير

ملازمة له ولا متعلقة به؛ لأنها لا تعرفه، ونفسه متعلقة به ملازمة لبابه فلا يفتحه

إلا عليها فتطلب أمانتها منه فيقدمها على غيرها؛ لأنها أول سائل.

وإلى هذا السر أشار الشارع بقوله: (ابدأ بنفسك ثم بمَن تعول والأقربون أولى

بالمعروف) ؛ لتعلُّقهم بك ولزومهم بابك والغير لا يتعلق بك ولا يلازمك ملازمة

نفسك وأهلك، فلما تأخروا أخروا كما هي حال الأسرار سواء؛ تخرج من عند

الحق على باب الرحمة، فأي قلب وجد متعرضًا سائلاً عند الباب دفع إليه حظه من

الأسرار والحكم، وحظه منها على قدر ما يرى فيه من التعطش والجوع والمذلة

(أي: لله) والافتقار، وهم خاصة الله تعالى.

وإلى هذا المقام أشار المشايخ وعليه حرضت الشريعة بقولها: (تعرضوا

لنفحات ربكم) ومن تأخر أُخِّرَ، ومَن نَسِيَ نُسِيَ، فانظري كم بين المنزلتين: منزلة

الحلاج ومنزلة أويس؟ ! وانظري هذا المقام على علوه وسموه كيف اشترك في

الظاهر صاحبه مع أحوال العامة، فإن العامة أول ما تجود على نفوسها، وحينئذ

يتعدى جُودها إلى غيرها ، وإنما يتصرفون تحت حكم هذه الحقيقة وهم لا يشعرون،

ولما عموا عن هذا السر وصاروا مثل البهائم لا يعرفون مواقع أسرار العالم مع الله

تعالى حرصوا على الإيثار ومدحوا به، وهو مقام الحلاج الذي ذكرت عنه ورأيت

أنه غاية فهكذا فلتُغزل الحقائق، وتُحاك حُلل الرقائق.

فقالت النفس: هذا شيء -واللهِ - ما قرع قط سمعي، و {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ

اليَقِينِ} (الواقعة: 95)، و {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61)

وفي مثل هذا {فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} (المطففين: 26) ، لقد شرحت صدرًا

ورفعت في المعارف قدْرًا. اهـ

هذا ما جاء في (روح القدس) بنصه الشائق، الذي هو صفوة الحقائق، هو

جدير بما وصفناه، لكن ربما توهم منه الغبي أنه يقتضي تفضيل أويس على

الصحابة في هذا المقام الذي أثنى به عليهم الملك العلام وأنَّى لأويس -على فضله -

بذلك؟ ! والذي يتجلى لنا في الجواب ما نقصّه عليك مفصلاً تفصيلاً.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: كنا إلى عهد نشر هذه المناظرة في المنار نأخذ جُلّ كلام الشيخ محيي الدين بالتسليم وما ننكره - وهو أقله - نتأوله أو نأخذ فيه بقول من قالوا: إن المراد منه غير ظاهره. وقد منَّ الله تعالى علينا من قبل إعادة طبع هذا منه - أن صار عندنا كغيره من العلماء والصوفية نحكّم في جميع أقوالهم الدليل، ولله الحمد.

ص: 12

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التربية والتعليم

(التربية)

هي مساعدة القوى التي من شأنها أن تربو وتنمو على بلوغ الكمال في

نموها المستعدة هي له في أصل الفطرة والخلقة، وذلك بإزالة الأسباب التي تعيق

النمو أو تنحرف بالقوى عن جادة الاعتدال المطلوب، وبإمداد هذه القوى بما تغتذي به

من المواد (في القوى المادية) والمعلومات (في القوى المدركة العاقلة) الخارجة

عنها. وأحوج العوالم الحية إلى التربية الإنسان؛ لأن سائر الحيوان والنبات يصل

غالبًا إلى كماله في الجملة من غير تربية إلا الطبيعة، وما يهبه البارئ تعالى للحيوان

الأعجم من الإلهام.

أما الإنسان فهو - كما مر في مقالة (العروة الوثقى) - عالم صناعي في

جميع أطواره الجسدية والروحية، فمتى أُطلق علم التربية ينصرف لتربيته، وإن كان

الكثير أو الأكثر من النبات والحيوان يصل بتربية الإنسان له إلى درجة من الكمال

لا يرتقي إليها بنفسه إذا تُرك لطبيعته، ولعِلْمَيْ تربية النبات والحيوان أسماء أخرى

عند الذين قسموا العلم.

اختلف علماء التربية في ابتداء تربية الإنسان: أتكون من يوم العلم بالحمل به

أو من يوم يولد؟ وأرى أن هذا الخلاف لفظي؛ إذ لا خلاف بينهم في أن أحوال الأم

الجسدية والنفسية يكون لها أثر في نمو الجنين واستعداده؛ ولذلك يأمرونها بالرياضة

المعتدلة وتناول الأغذية اللطيفة وعدم التعرض لما يهيج بالانفعال ولا سيما الخوف

والفزع والحزن. وكأيِّن من وليد خرج ذا عاهة لم يكن لها من سبب إلا ما ألمَّ

بوالدته وهي حامل به. ومن جراء هذا سنبتدئ مباحثنا في تربية الإنسان بالكلام

على الحوامل وما ينبغي لهن بعبارة واضحة تفهمها السيدات وإن كن غير متعلمات.

(التعليم)

له إطلاقان: أولهما: إمداد القوى المدركة بعرض الأشياء عليها تدريجًا بالقول

والفعل بحيث تدركها وتقدر عن التصرف فيها قولاً وعملاً (كل شيء

بحسبه) وهذا المعنى داخل في مفهوم التربية ويشمل، تعليم العلوم الاعتقادية

والأدبية والفنون الصناعية.

وثانيهما: علم أساليب التعليم وطرقه القريبة، وهو فن نفيس ارتقى المشتغلون

به الدرجات العلى في العلوم والفنون، حيث أمكنهم تحصيل الكثير في الوقت

القصير، ولا يأذنون في أوربة وأمريكة بالتدريس والتعليم إلا لمن أتقن هذا الفن في

مدارسه التي أنشئت له. هذا، ونحن لا علم لأكثرنا بأن أساليب التعليم قد وُضع لها

علم مخصوص، واختيار المعلمين عندنا يكون بالشفاعات التي تُبنى غالبًا على

كون هذا المعلم مستحقًّا للمساعدة المالية لفقره أو كونه من الأسرة أو الطائفة الفلانية

مثلاً. وأبعدُنا عن معرفة التعليم هم الشيوخ الذين يعلّمون الدين وفنون اللغة

في الجوامع والمساجد.

وسنكتب في ذلك نُبذًا مفيدة إن شاء الله تعالى في الأعداد الآتية.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 15

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحوادث والأخبار التاريخية

أهم الحوادث الخارجية:

ما نُكبت به دولة فرنسة في 5 مارس وهو احتراق خمسين ألف كيلو من

البارود في دار الصناعة البحرية في طولون، حصل منه انفجار عظيم كانفجار

البراكين دمر به في المدينة مسطح عشرة آلاف متر وهلك جميع مَن في دار

الصناعة من الجند والصناع وخلق كثير من غيرهم. وأما الخسائر فهي عظيمة لا

تكاد تُقدر، وقد أرسل الملوك والأمراء رسائل التعزية لحكومة فرنسة على المصاب

بعد تعزيتهم لها على موت رئيس جمهوريتها السابق فلكس فور الذي مات قبل هذه

الحادثة الهائلة بأيام. وقد قام الفرنسيس يكتتبون لجمع المال من أول يوم وقعت فيه

النكبة إعانة للمصابين وإغاثة لأهالي المنكوبين، فهكذا تكون الحياة الوطنية، وهذا

هو الفرق بين الإنسانية والحيوانية.

وأهم الحوادث الداخلية:

ثبوت وقوع مرض في جدة يشبه الطاعون، وقد سمي طاعونًا كما كان في العام

الماضي، وضربت المحاجر على ما يرد من جدة، وأخذت الحكومة المصرية

الاحتياط كالعام الماضي، ونقل البرق أنه قد حدثت إصابة في مكة أيضًا. نسأل الله

السلامة.

اقتُرح علينا أن نفتح في المنار بابًا للسؤال والاقتراح، وجوابنا أننا نقبل ما يرد

علينا من الأسئلة والاقتراحات، ونُدخلها في الأبواب التي تناسبها.

_________

ص: 16

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإيثار

(تتمة لما سبق)

إن لما أنزل الله لنا من الرزق ثلاث مراتب:

(الأولى) الضرورة وهي ما لا بد منه للمحافظة على حياة المرء

الجسدية كرغيف يأكله وكساء يستره، بحيث إذا لم يحصل عليه تضرَّر جسمه

غالبًا أو خشي عليه التلف، وهي مرتبة الزهاد.

(الثانية) الحاجة وهي ما زاد على الضرورة ولم ينتهِ إلى الترف

والرفاهة، كأن يجد الإدام الواحد أحيانًا والحلوى والفاكهة أوقاتًا بمقدار ما يكفيه

أو يزيد قليلاً وهي مرتبة المتوسطين.

(الثالثة) الرفاهة وهي الحالة التي يحصل صاحبها ما شاء من الملاذ

تُستطاب له كل يوم الألوان باللحوم والبقول والفاكهة والحلوى كما يشاء ويُختار

بحسب حالة الزمان والمكان، وهي مرتبة المترفين من أهل الثراء والدثور.

فإلايثار بما زاد عن الضرورة عند هؤلاء - لا شك أنه أفضل من تمتيع النفس

به، وهو الذي كان شائعًا في الصحابة ومَن اهتدى بهدْيهم من أهل القرون

الأولى في الأمة.

ومَن كان له أهل وأقارب تجب عليه نفقتهم فضرورتهم كضرورته.

ويدل لهذه الأفضلية حديث أبي هريرة عند البخاري والنَّسَائي قال: قال النبي صلى

الله عيه وسلم: (أفضل الصدقة ما ترك غنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ

بمَن تعول) وفي رواية: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنىً) ومثل الصدقة

غيرها من الإنفاق المشروع كالهدية ومواساة الإخوان الذي تقدم عن بعضهم

تفضيله على الصدقة. وربما يفهم من الحديث أن الصدقة الفُضلى إنما تكون

مما زاد عن الحاجة لا عن الضرورة فقط، وهو ظاهر ولا ينافيه قوله تعالى:

{وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} (الحشر: 9) ؛ إذ ليس في الآية أن ذلك الإيثار

هو أفضل الإنفاق، بل قصاراه أنه فضيلة يمتدح بها، وقد رجح الإمام الرازي

وغيره أن الآية نزلت في إيثار الأنصار والمهاجرين بالغنيمة مع مشاركتهم لهم

في دورهم وأموالهم، وجعلوا ما نقل عنهم في الصحيح من المؤاثرة للضيف وغيره

مما يدخل في عموم الآية، لكن أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي

هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتى رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا

رسول الله، أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا - وفي

رواية غير الماء - فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا رجل يضيف هذا

الليلة يرحمه الله) فقام رجل من الأنصار وفي رواية: فقال أبو طلحة: أنا يا رسول

الله. فذهب به إلى أهله فقال أكرمي ضيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي

فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلت، ثم غدا الضيف على رسول الله

صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله أو ضحك (الشك من الراوي) من

فلان وفلانة [1] وأنزل الله تعالى فيهما: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ

خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) ورُوي أن الآية نزلت في حكاية رأس الشاة الذي دار

على ثمانية من الصحابة. وقد تقدم.

قلت: وقد يكون الإيثار للغير أفضل في حق ذي الحاجة وذي الضرورة

في بعض وقائع لخصوصية كأن يرى ذو الضرورة مضطرًّا مشرفًا على

الهلاك، ولا يخاف ذلك على نفسه لو آثره بقوته، بل لا يبعد هنا وجوب

الإيثار. وفي مثل ضيف النبي عليه الصلاة والسلام الذي أجهده الجوع، وفي

ذي الحاجة الشحيح، أو الذي يتهم نفسه بالبخل والشح ويحاول تطهيرها من هذه

الرذيلة؛ لترجع إلى الاعتدال الذي هو أكمل الكمال.

والحاصل أن أصل الشرع يأمر بأن يقدم الإنسان المعصوم نفسه بالنفقة، ثم

الأزواج والأقارب من فروع وأصول الخدم على الترتيب المذكور في الفقه، ثم

يتصدق ويهدي من العفو والفاضل عمن تجب عليه نفقته ممن ذُكر، والأفضل

أن لا يتصدق بجميع ما يملك ويدع ورثته عالة يتكففون والثلث كثير كما في

حديث سعد في الصحيح (عند الستة) ومن ثم قال الإمام النواوي في شرح

مسلم: إن بعضهم استدل بالحديث على تفضيل الغني على الفقير وسكت عليه،

ويأمر (أي: الشرع) بالجود والسخاء والصلة والإحسان، وبالغ في ذم

البخل والبخلاء؛ لأنه من الأخلاق المذمومة التي تدنس النفوس الإنسانية، وتقف

بها عن الصعود إلى المراتب العلية، فالمهذب الكامل الذي زكيت نفسه من أدران

الشح والبخل كأويس القرني وأضرابه يقفون عند حدود الشرع في الإنفاق

بتقديم أنفسهم ثم الأقرب فالأقرب ملاحظين في ذلك ما تقدم شرحه عن الشيخ

محيي الدين - أعني أن تقديم أنفسهم ليس لأجل التمتع والتنعم - وإنما كان يبذل

أويس رضي الله عنه جميع ما فضل عن حاجته؛ لأنه لم يكن له أهل ولا ولد

يرثه، بل كان سائحًا منفردًا، والأفضل في حقه إنفاق العفو مع التوكل بخلاف

المعيل أو من يضطرب قلبه؛ لأنه لم يقم في مقام التوكل.

وأما مَن لم يوق شح نفسه فالأفضل له المبالغة في البذل والإيثار بما وراء

سد الرمق من الحاجيات إلى أن ترجع نفسه إلى الاعتدال الذي هو السخاء

الحقيقي، وما دام السالك لم يبلغ مرتبة الكمال القصوى، فهو يتهم نفسه بالطمع

والوقوف مع الحظوظ، ولا يطمئن لما توسوس به إليه من أنها تزكت من أدران

البخل، وتحلت بحلي السخاء والجود، وإن كانت في واقع الأمر قد تزكت

والتحقت بنفوس الأولياء العارفين الأبرار، فصاحب هذه النفس يظل يؤثر الغير؛

لاتهامه نفسه بما ذكر. يؤثر ذلك عن جماعة من مشاهير الأولياء كالحسين بن

منصور الحلاج [2] والشيخ أحمد بن الرفاعي. وكان أحمد يقول: طريقتنا مبنية

على ثلاثة أشياء: لا تسأل ولا ترد ولا تدخر. نقله عنه العارف الشعراني

وغيره، ونقله البحريني نفسه في (ص36) وهنا أوردنا في كتابنا (الحكمة

الشرعية) كلامًا نفيسًا في الادخار عند الصوفية لا ينبغي ذكره في الجرائد؛

لأنه خاص بأهله، ثم قلنا:

ويحتمل أن الإيثار من بعض الصحابة عليهم الرضوان، والمبالغة في

الإنفاق التي لا تنطبق على الوجه الذي قلنا: إنه أصل الشرع - كان يقصد به

تهذيب النفوس لاتهامها بالبخل والشح، وربما يشعر بذلك قوله تعالى بعد

مدحهم بالإيثار: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) ولا

يلزم منه تفضيل مثل أويس على هؤلاء؛ لأنه من أحوال بدايتهم، وما تقدم عنه

هو حاله في نهايته. على أنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وهم

قد سبقوا بفضيلة الصحبة التي لا تُوزن بها فضيلة ولا تعادَل بها منقبة

لذاتها فضلاً عما يحتفّ بها من الفضائل والمزايا.

وخلاصة القول أن البخل مذموم والتبذير أو الإسراف مذموم والسخاء -

الذي هو وسط بينهما - هو المحمود والممدوح شرعًا وعقلاً.

بين تبذير وبخل رتبة

وكلا هذين إن زاد قتل

ومَن خرج عن مرتبة الاعتدال في خلق من الأخلاق فسبيل إرجاعه إليها

حمْله على المبالغة في الطرف المقابل، أعني أنه يؤمر بالإفراط إن كان في

جانب التفريط وبالعكس؛ ومن ثم ورد الشرع في ذم الإفراط والتفريط ومدح

الاعتدال والعدل، مع أنه جاء في سيرة الشارع وأصحابه وتابعيهم بإحسان -

حكايات كثيرة في المبالغة في السخاء والحِلم والتواضع وغيرها من السجايا الفاضلة،

بحيث تصل إلى حد الإفراط، والمراد بذلك الإرشاد والتهذيب لمن هو في طرف

التفريط؛ ليرجع إلى الاعتدال، ومن ذلك إيثار صاحب الضرورة أو الحاجة

غيرَه بما هو محتاج أو مضطر إليه مثله أو أزيد، والمرجع إلى محكم التنزيل القائل

بالقسط والاعتدال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ

قَوَاماً} (الفرقان: 67) ، {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ

فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} (الإسراء: 29) والله أعلم وأحكم وهو أقوم قيلاً.اهـ.

فعُلم من هذا أن الاقتصاد أصل من أصول الفضائل الإسلامية، ولكن

المسلمين أهملوا مراعاته، والأوربيون أعطوه من العناية ما ينبغي له. وألَّفوا

فيه الكتب، وأوجبوا تعليمه في جميع المدارس؛ لأنه من مقومات المدنية، فحتَّامَ

- يا قوم - لا نكاد نرى من أغنيائنا إلا سفيهًا مبذرًا، أو شحيحًا مُقترًا، بل

كاد يعم الإسراف والتبذير كل غني وفقير، يتلهى المستمسك منهم بدينه

بإلهيات شعرية، وجُمل خطابية، كقولهم: (أنفقْ ما في الجيب يأتيك ما في

الغيب) والمنحرف عن هدْي الدين لا تسلْ عن جنونه وفنونه، وسنعود إلى

مباحث الاقتصاد والبخل والسخاء في فرصة أخرى، إن شاء الله تعالى.

_________

(1)

فسرنا العجب أو الضحك في الطبعة الأولى بالرضا والقبول على طريقة الأشعرية ومذهب السلف أنه عجب أو ضحك يليق بكماله وتنزُّهه عن مشابهة.

(2)

حاشية للطبعة الثانية: الذي ترجح عندنا بعد كتابة هذا بسنين أن الحلاج كان دجالاً محتالاً.

ص: 17

الكاتب: أبو حامد الغزالي

حقوق الأخوة

(الحق الثاني) في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال،

وتقديمها على الحاجات الخاصة. وهذه أيضًا لها درجات كما للمواساة بالمال، فأدناها

القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح

وقبول المنة. وقال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضِها فكبِّرْ عليه واقرأ

هذه الآية: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} (الأنعام: 36) وقضى ابن شبرمة حاجة

لبعض إخوانه كبيرة فجاءه بهدية فقال: ما هذا؟ ! قال: لما أسديتَه إليَّ. قال:

خذ مالك - عافاك الله - إذا سألت أخاك حاجة فلم يُجهد نفسه في قضائها فتوضأ

للصلاة وكبرْ عليه أربع تكبيرات وعُدّه في الموتى! قال جعفر بن محمد: إنى

لأتسارع إلى قضاء حوائج أعدائي مخافة أن أردهم فيستغنوا عني. هذا في الأعداء،

فكيف في الأصدقاء؟ !

وكان في السلف مَن يتفقَّد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم

بحاجتهم، ويتردد كل يوم إليهم ويموِّنهم من ماله، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا

عينه، بل كانوا يرون منه ما لم يَرَوْا من أبيهم في حياته. وكان الواحد منهم يتردد

إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول: هل لكم زيت، هل لكم مِلح، هل لكم حاجة؟

وكان يقوم بها من حيث لا يعرفه أخوه، وبهذا تظهر الشفقة والأخوة، فإذا لم تثمر

الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه فلا خير فيها. قال ميمون بن

مهران: (مَن لم تنتفع بصداقته لم تضرك عداوته) وقال صلى الله عليه وسلم:

(ألا وإن لله أواني في أرضه وهي القلوب، فأحبّ الأواني إلى الله تعالى

أصفاها وأصلبها وأرقها) أصفاها من الذنوب، وأصلبها في الدين، وأرقها

على الإخوان.

وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك وأهم من حاجتك، وأن

تكون متفقدًا لأوقات الحاجة، غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك،

وتغنيه عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة، بل تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك

قمت بها ولا ترى لنفسك حقًّا بسبب قيامك بها، تتقلد منه بقبول سعيك في حقه

وقيامك بأمره، ولا ينبغي أن تقتصر على قضاء الحاجة، بل تجتهد في البداية

بالإكرام في الزيادة والإيثار والتقديم على الأقارب والولد.

كان الحسن يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا. وقال عطاء: تفقدوا

إخوانكم بعد ثلاث؛ فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو كانوا

نسوا فذكِّروهم. روي أن ابن عمر كان يلتفت يمينًا وشمالاً بين يدي رسول الله

صلى الله عليه وسلم؛ فسأله عن ذلك فقال: أحببت رجلاً فأنا أطلبه ولا أراه. فقال:

(إذا أحببت أحدًا فسلْه عن اسمه واسم أبيه وعن منزله؛ فإن كان مريضًا عدته

وإن كان مشغولاً أعنته) وفي رواية: (وعن اسم جده وعشيرته [1] ) وقال الشعبي

- في الرجل يجالس الرجل، فيقول: أعرف وجهه ولا أعرف اسمه -: تلك

معرفة النوكي. وقيل لابن عباس: مَن أحب الناس إليك؟ قال: جليسي. وقال: ما

اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثًا من غير حاجة له إليَّ فعلمت ما مكافأته من الدنيا.

وقال سعيد بن العاص: لجليسي عليَّ ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حدث أقبلت

عليه، وإذا جلس أوسعت له. وقد قال تعالى {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) إشارة

إلى تمام الشفقة والإكرام. ومن تمام الشفقة أن لا ينفرد بطعام لذيذ أو بحضور في

مسرة دونه، بل يتنغَّص لفراقه ويستوحش بانفراده عن أخيه. اهـ. من (الإحياء)

فهكذا تكون الأخوة، وهكذا تكون آداب الأمم في طور الحياة، وكأنِّي بالذين في

قلوبهم مرض تنفر نفوسهم من هذه الآثار، ولو نقل مثلها عن الإفرنج لأُعجبوا بها

وتنافسوا فيها.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

رواه الترمذي عمن قال: إنه لا نعرف له رواية. والخرائطي والبيهقي بسند ضعيف.

ص: 22

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحبالى وتربية الأجنة

(1)

نعني بتربية الجنين:عناية الحامل به بصحتها لما؛ لذلك من التأثير في صحته.

فقد قلنا في الجزء الماضي: إن لأحوال الأم الجسدية والنفسية أثرًا في نمو الجنين

واستعداده. ولا نعني بالأحوال النفسية إلا ما مثّلنا به من نحو الخوف والحزن لا ما

هو شائع من أن أية شهوة من شهوات الوحمى تؤثر في الجنين حتى تظهر صورة

المشتهى في جسده إذا هي لم تصبه؛ ولذلك يجتهد الناس في إنالة الوحمى كل ما

تشتهي. ويستدلون على هذا بحكايات قصاراها أنها تنهض استقراءً ناقصًا لا يثبت

به المدعى قطعًا. ولكن المعقول الذي يريده العلم أن الانفعالات القوية تؤثر في

الصحة، ويتبع هذا تأثيرها في الجنين، وبيانه باختصار: أن الجهاز التناسلي يتأثر

بالانفعال الشديد كالجهاز العصبي والهضمي وغيرهما، وهو في أثناء الحبل يكون

مشغولاً بأداء وظيفته؛ فما يطرأ عليه إما أن يساعده في عمله، وإما أن يعوقه عنه.

ولا يحسبنَّ الحبالى أن أقل كدر عادي أو حزن عارض أو خوف خفيف يؤثر

في أجنتهن فيستولي عليهن الوسواس كلما ألمّ بهن شيء مما لا يخلو عنه الإنسان في

الغالب. كلا، إن الجنين شخص مستقل في نفسه صلته بأمه صلة المظروف

بالظرف، وإنه يتغذَّى من دمها؛ ولذلك لا يؤثر فيه إلا ما يحدث أثرًا في الدم الذي

يتغذى به، وحصول هذا نادر، أو في الرحم الذي هو بيئته ووطنه، وما كل انفعال

يُحدث هذا الأثر، نعم، إن الأمراض الوراثية وما يطرأ على الأعضاء ولا سيما

البطن من نحو ضرب ووكز ولبس الثياب الضيقة إذا كانت تضغط البطن؛ كل ذلك

مقطوع بسوء تأثيره وضرره، ومن العلماء مَن زعم أن كل ما يعرض لعضو من

أعضاء الحبلى ينقل منها إلى مثله من الجنين، فعلى الحامل أن تراعي ما

سنذكره في النبذة الآتية في الجزء التالي لهذا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 24

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التعليم بالعمل

جاء في الحدث الشريف: (مَن عمل بما علم ورثه اللهُ علمَ ما لا يعلم) ويؤثر

عن الإمام علي - كرم الله وجهه - أنه قال: (يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا

ارتحل) ، وقد أخذ الإمام هذا الأثر من مفهوم الحديث. وغاية ما انتهى إليه

الباحثون في فن التعليم أن الأعمال هي التي تطبع ملكات العلم والعمل في النفوس،

وأن المسائل العلمية التي تعرض على العقول من طريق السمع مرة أو مرات - لا

تكاد تثبت، وإذا ثبت بعضها فإنما يكون كآلة موجودة في بيت رجل لا يُحسن

استعمالها، بخلاف ما إذا عرضت المعلومات بأعيانها أو أمثلتها عند الكلام عليها

وكلف المتعلم أن يستعمل علمه ويطبقه على المعلومات. وهذا مما أرشد إليه النبي

والإمام من 13 قرنًا واهتدى إليه الأوربيون من عهد قريب.

فمَن أحب ألا ينسى ما يتعلمه من قواعد العربية مثلاً فليُكثرْ من الأمثلة في

كل مسألة، وليراعِ القواعد في كلامه بالتكلف قولاً وكتابة؛ حتى تنطبع في نفسه،

وتصير ملكة راسخة يصدر عنها الكلام العربي الصحيح بغير رويَّة ولا تكلف،

ونحن نرى الذين لا ينهجون هذا المنهاج يقضون أعمارهم في مدارسة الفنون

العربية، ولا يحسنون قولاً ولا كتابة. ولا بد في تحصيل ملكة الفصاحة والبلاغة من

كثرة قراءة الكلام البليغ مع تفهم معانيه وملاحظة أساليبه ومناحيه.

ومعرفة القواعد تعين على هذا ولكنها لا تفيد في الوصول إلى المطلوب بدون

هذا العمل، فكأيِّن من أستاذ قرأ كتب السعد وغيرها مرارًا وهو أعيى باقل،

وأعجز عن الكتابة البليغة من صبية المدارس. وقد أحسنت نظارة المعارف المصرية

بحظرها على معلمي العربية الكلام العُرفي (البلدي) في أثناء الدروس،

وإلزامها إياهم بأن يجعلوا شرح الدروس وتلقينها للتلاميذ بالكلام العربي الصحيح.

وأجدر بشيوخ الأزهر الأفاضل ونحوهم من معلمي المدارس الدينية - أن يكونوا هم

السابقين إلى هذه السُّنة الحسنة، وعسى أن يتداركوا ما فاتهم من السبق في البداية،

بالسبق والتبريز في النهاية؛ فإن السبق في نفس العمل المقصود خير من السبق

في الابتداء والشروع.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 25

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ما قيل في الخال

قال مظفر الأعمى:

لا تحسبوا شامة في خده طبعت

على صحيفة خد راق منظره

وإنما خده الصافي تخال به

سواد عينيك خالاً حين تنظره

وأحسن منه في هذا المعنى قول بعضهم:

صقيل الخد أبصر مَن رآه

سواد العين فيه فخال خالا

وقال ابن حمديس:

يا سالبًا قمر السماء جماله

ألبَستني في الحب ثوب سمائه

أشعلت قلبي فارتمى بشرارة

علقت بخدك فانطفت في مائه

ومثله قول المقري في مزدوجته:

وما أرى في خدك اليسار

أنقطتا مسك بجلنار

أم ذاك لهيب النار

رمى شرارتين في الأوار

...

... فانطفتا في ماء ذاكالورد

وينظر إليه قول الأستاذ الشيخ عبد الغني الرافعي الشهير وأحسن ما شاء:

وما نقط ذاك الخال في الخد خلقة

ولا حيلة جاءت بها صنعة السحر

ولكننا لما اجتمعنا عشية

وقدمت من أهوى اعتناقًا إلى صدري

تقاطر دمعي فوق جمرة خده

فكان سواد الخال من ذلك القطرِ

وينظر إلى قول المقري: (أنقطتا مسك بجلنار) قول بعضهم:

ومهفهف من شعره وجبينه

يبدو الورى في ظلمة وضياء

لا تنكروا الخال الذي في خده

كل الشقيق بنقطة سوداء

وقال ابن رشيق في خال تحت الحنك:

حبذا الخال كائنًا منه بين الـ

ـخد والجِيد رقية وحذارا

رام تقبيله اختلاسًا ولكن

خاف من سيف لحظه فتوارى

وأحسن منه في بابه قول الشاب الظريف:

وبين الخد والشفتين خال

كزنجي أتى روضًا صباحا

تحير في الرياض فليس يدري

أيجني الورد أم يجني الأقاحا

ويناسبهما قولي في الخال تحت الشعر:

والخال لص شام ثغرك ضاحكًا

فأتى ليسرق منه ذاك الجوهرا

لكنه خاف اللحاظ وقد رأى

آس العذار مخيمًا فتسترا

وقال غوث الدين العجمي في العذار والخال:

لهيب الخد حين بدا لعيني

هوى قلبي عليه كالفراشِ

فأحرفه فصار عليه خالاً

وها أثر الدخان على الحواشي

وللشيخ ناصيف اليازجي معنى في الخال غريب وهو:

مليح شهدنا أن نارًا بخده

لأنا وجدنا بينها فحم خاله

وأنت ترى أنه أهان الخال ونقصه قدره، وهو ذنب لا يغفره له عشاق

الحسان، ويستحق عليه الهجر من الغوان! وقريب من هذا قوله:

في خدها نار المجوس التي

قام لديها الخال كالموبذان

وقال في مطلع قصيدة وأحسن ما شاء:

ما بال تلك الشامة الخضراء

في النار وهي كأنها في الماء

وقد تفننوا في تشبيه الخال بالمسك والعنبر، ومما قاله ابن سهل في ذلك من

قصيدة:

غزال براه الله من مسكة بري

بها الحسن منا مسكة المتجلدِ

وأبدع فيها الصنع حتى أعارها

بياض الضحى في نعمة الغصن الندي

وأبقى لذاك الأصل في الخد نقطة

على أصلها في اللون إيماء مرشدِ

وله في الخال أيضًا:

لا أرى الخال فوق خد

يك ليلاً على فلق

إنما كان كوكبًا

قابل الشمس فاحترق

_________

ص: 26

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجامع الأزهر الشريف

من جملة التنظيم الجديد في الأزهر الامتحان السنوي لمن شاءه من طلاب العلم

فيه، ويمتحن في العلوم والفنون التي يختار الطالب أن يمتحن فيها، وقد خَصص

مجلس إدارة الأزهر ستمائة جنيه لمكافأة النابغين في التحصيل سنويًّا. ويؤخذ من

الرقيم الذي رفع من فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع إلى عطوفة رئيس مجلس

النظار أن الذين طلبوا الامتحان في العام الماضي كانوا نحو ستمائة وامتحنوا في

ثمانية عشر علمًا. وأما الذين طلبوا في هذا العام فكانوا 1502 وامتحنوا في ثمانية

وعشرين علمًا، والذين نجحوا يعرفون بحساب النسبة المئوية مما يأتي:

الناجحون في علم التوحيد 18 في المائة، وفي علم التفسير 19 (نحذف لفظ

في المائة اختصارًا) والحديث 66، والفقه 50، والميراث 78، والنحو 47،

والصرف 26، والمعاني 75، والبيان والبديع، 49، والمنطق 43، ومصطلح

الحديث 60، والحساب للسنة الأولى 62، وللسنة الثانية 80، وتقويم البلدان

(الجغرافية) للسنة الأولى 65، والثانية 85، والهندسة 70، والميقات 75،

والتاريخ 85، والعَروض والقافية 70، وعلم الإنشاء 25، والخط 77، والأخلاق

الدينية 50، وآداب البحث 75. وفي كل من علم الحكمة والوضع والاشتقاق نجح

جميع الذين امتحنوا، ولم ينجح في علمي الجبر والمقابلة والهيئة أحد ممن امتحنوا،

ولم يحضر للامتحان في علم أصول الفقه أحد ممن كان طلبه!

والذين طلبوا الامتحان في كل من التفسير والحديث ومصطلحه والميراث

والبديع والعروض والقافية والتاريخ والإنشاء والميقات كانوا فوق العشرين ودون

المائة - وفي كل من علم الأصول والحكمة وآداب البحث والوضع والاشتقاق،

والأخلاق الدينية والجبر والمقابلة والهيئة أقل من عشرة، والذين امتحنوا في كل علم

مما عدا هذه العلوم - لا سيما التوحيد والفقه والنحو والمنطق والبيان والحساب

والهندسة وتقويم البلدان - يعدون بالمئات.

أما أخذ المكافآت فهو بحسب درجات التحصيل التي تقدر ويعبر عنها (بالنمر)

وقد جعلت الدرجة الثانية عشرة (نمرة 12) علامة النجاح، وكل من انتهى إليها

في العام الماضي أخذ المكافأة التي أقلها جنيه واحد، وأكثرها ثلاثة.

وأما في هذا العام فقد خصصت المكافأة بالنابغين لقلتها وكثرة الطالبين،وجعلت

درجة النبوغ 16، فأصحاب الدرجة 12 إلى 15 عدوا ناجحين غير نابغين فلم

يستحقوا مكافأة، وأصحاب الدرجة 16 فما فوقها أخذوا المكافآت على هذه الطريقة

العادلة، وهي أنه جمعت درجات النبوغ في العلوم كلها وقسم عليها مبلغ المكافأة

بتمامه، فما أصاب الدرجة الواحدة جعل سهمًا لمكافأة النابغ في فن واحد بدرجة

واحدة، فمن بلغت درجاته في العلوم التي امتحن فيها مائة مثلاً نال مائة سهم،

وهكذا، وظاهر أن هذه الطريقة أعدل وأحكم من الطريقة الأولى؛ لأن كل طالب

يأخذ فيها على قدر استحقاقه.

هذا ملخص الرقيم، ويسرنا منه حسن النظام الذي يجري عليه مجلس إدارة

الأزهر الشريف، ونرجو أن يترقى به إلى أعلى درج النجاح الممكن، فإن النظام

روح السعادة في أعمال الإنسان وساءنا أن الذين امتحنوا في علم الأخلاق - وإن

شئت قلت: علم الدين - جمعهم جمع، قلة؛ بل علمنا أنهم أربعة أخذ الجائزة منهم

اثنان، وعسى أن يكون في الأزهر ممن لم يطلب الامتحان عدد كبير من المشتغلين

بهذا العلم؛ فإنه هو الأساس الذي يقوم عليه بناء السعادة الدنيوية والأخروية.

_________

ص: 28

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(الحج والوباء)

اجتمع مجلس النظار اجتماعًا خصوصيًّا للمذاكرة في أمر منع الحج الذي يراه

مجلس الصحة البحرية ضروريًّا لمنع انتقال الوباء من بلاد الحجاز إلى مصر، ولما

كان المنع من الحج منعًا من ركن ديني أساسي لم يكن للنظار أن يبرموا فيه أمرًا إلا

بعد الاستفتاء من العلماء؛ ولهذا طلب عطوفتلو رئيس مجلس النظار لحضور

الاجتماع صاحب السماحة قاضي مصر وأصحاب الفضيلة شيخ الأزهر ومفتي الديار

المصرية والشيخ عبد الرحمن النواوي مفتي الحقانية والشيخ عبد القادر الرافعي

رئيس المجلس العلمي سابقًا، فحضروا وتذاكروا مع النظار وبعد أن انفضوا من

المجلس اجتمعوا، وأجمعوا على كتابة هذه الفتوى وإرسالها إلى مجلس النظار وهي

بحروفها:

الحمد لله وحده.. لم يذكر أحد من الأئمة من شرائط وجوب أداء الحج عدم

وجود المرض العام في البلاد الحجازية؛ فوجود شيء منها فيها لا يمنع وجوب أدائه

على المستطيع. وعلى ذلك لا يجوز المنع لمن أراد الخروج للحج مع وجود هذا

المرض متى كان مستطيعًا.

وأما النهي عن الإقدام على الأرض الموبوءة الواردة في الحديث، فمحمول

على ما إذا لم يعارضه أقوى؛ كأداء الفريضة، كما يستفاد ذلك من كلام علمائنا.

وأيضًا فإن النهي عن الدخول أو الخروج تابع لاعتقاد الشخص الذي يريد الدخول

أو الخروج كما يفيده ما في تنوير الأبصار متن الدر المختار؛ حيث قال: (وإذا

خرج من بلدة بها الطاعون وهو الوباء العام- فإن عَلِمَ أن كل شيء بقدر الله تعالى فلا

بأس بأن يخرج ويدخل، وإن كان عنده أنه لو خرج نجا ولو دخل ابتُلي به كُره له ذلك، فلا يدخل ولا يخرج) اهـ. وأيده شارحه السندي. والله أعلم. في 2

ذي القعدة سنة 1316.

(المنار)

ولو قيل بجواز المنع إذا تحقق أن فيه المصلحة العامة لنِيطَ بالإمام الأعظم؛

لأنه من وظائفه ولم يكن لغيره أن يُقْدم عليه إلا بإذنه، وسوف نشرح هذه المسألة

في مقالة نكتبها في موضوع (ثبوت العدوى) إن شاء الله.

***

ورد على صاحب الدولة الغازي مختار باشا رسالة برقية من دولة والي

الحجاز ملخصها أن الاحتياطات الصحية في جدة في غاية الإتقان، وأنه لم يُصب أحد

في مكة بعد ذلك البخاري، وأن الوفيات في جدة بين واحدة واثنتين في اليوم، ورسالة

أخرى في 15 مارث ملخصها أنه لم يحدث في جدة إصابة ولا وفاة في تاريخها.

***

كتبت (ثمرات الفنون) الغراء مقالة وجيزة في (الانتقاد والجرائد) ومما

انتقدناه عليها فيها أنها جاءت بنبذة من (العروة الوثقى) في أطواء الكلام ولم تسندها

إليها أو تميزها بوضعها بين قوسين ليعلم أنها تضمين.

***

يؤخذ من الجرائد الإنكليزية أن سفير إنكلترا الجديد في الآستانة آنس من

الحضرة السلطانية ارتياحًا؛ لما أبداه لها من رغبة دولته في إعادة الوداد السابق بين

الحكومتين.

***

صدر الأمر العالي بفصل (تفتيش الوادي) عن نظارة المالية وإلحاقه

بديوان الأوقاف العمومية، ولكن بشرط أن تتولى نظارة الأشغال العمومية أعماله،

لتصلح شؤونه إحدى عشرة سنة، ثم يتولاه ديوان الأوقاف مباشرة.

***

وقفنا على قصيدة لطيفة في التهنئة بولي عهد الخديوية حرسه الله بعين

عنايته الأبدية، لناظمها الأديب الفاضل مصطفى صادق أفندي نجل الأستاذ الكامل

الشيخ عبد الرزاق أفندي الرافعي قاضي مديرية الغربية الشرعي مطلعها:

بزغت شموس الأنس من أفق الهنا

وتبسم الإسعاد أي تبسم

ومنها وفيه تاريخ هجري:

فالكون أرّخ مصر يُنبي سعدها

بولي عهد القطر (عبد المنعم)(1316)

(وختامها)

راق الهنا أرخ له شمس الكما ل محمد الأفضال عبد المنعم

(1899)

فنعتذر بضيق المقام عن شرحها كلها، كما نشكر لحضرة الناظم ما تفضل

علينا به من تقريظ المنار وتهنئتنا نظْمًا ونثرًا بإكماله السنة الأولى.

***

رأينا في جريدة طرابلس مقالة - كليالي الشتاء - تعتذر فيها عن العلماء

الذين أهملوا وظائفهم الدينية بما يمثل الذنب ويؤيده، وسنرد عليها في العدد الآتي

إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 30

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تأثير العلم في العمل

] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ [[1]

أنشأ الله الإنسان يعمل بإرادة تأتمر في تحريك الأعضاء على العمل بأمر العلم

الذي تنكشف به وجوه المصالح والمنافع، فمتى كانت علوم الإنسان في أفراده

ومجموعه صحيحة منطبعة في النفس بتكرر العمل أو بالنظر والاعتبار تصدر عنه

أعمال جليلة وآثار جميلة. ومتى كانت العلوم مضطربة بامتزاجها بالأوهام أو غير

منطبعة في النفس لعدم التربية عليها والعمل بها والنظر فيها بعين التأمل والاعتبار،

فلا جرم أن الأعمال تأتي مختلة سيئة. والسعادة إنما تُنال بالأعمال؛ فالأمة

الجاهلة بعيدة عن السعادة.

العلم الإجمالي قلما يفيد صاحبه؛ لأنه دائمًا عرضة للجهالة بما يرد على

جزئياته من الشكوك التي لا تُنفى إلا بالعلم التفصيلي الكامل. ألا ترى أن أكثر

الناس يعلمون بالإجمال أن أمهات الرذائل وكبائر المعاصي من أسباب الشقاء، ولو

كان هذا العلم صحيحًا كاملاً لا اضطراب فيه لصدرت عنه آثاره حتمًا، وهي ترك

تلك الرذائل والمنكرات، وكذلك يقال في أصول الفضائل والأعمال الصالحة النافعة

يعلمها عامة الناس علمًا إجماليًّا سطحيًّا يلوح في الخيال، ولكن لا أثر له في النفوس

والأرواح؛ لأن كل صفات الروح تظهر على الجسد بالأعمال، ومن كان علمه كاملاً

بشيء ما، وظهر من أعماله ما لا ينطبق عليه، فإنما يكون ذلك لأثر في النفس

أقوى من ذلك العلم كالوجدانات والانفعالات العارضة؛ فإن النزيه ربما ينطق

بالسب والهجر من القول لغضب شديد يعرض له، لكنه لا يلبث أن يعود إلى رشده،

وأمثال هذه النوادر التي تعرض للعلماء والمهذبين لا تحبط أعمالهم ولا تنحرف بهم

عن جادة السعادة {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن

قَرِيبٍ} (النساء: 17) .

خفيت هذه المسألة عن الجاهلين بعلم النفس وعلم فلسفة الأخلاق، فزعموا أن

العلم لا يؤثر في الحمل على العمل، وربما يكابر بعض الذين يحسبون أنهم على شيء

من العلم ويمارون في القول؛ لأنه جاء مجملاً، ولذلك رأينا أن نزيده بقليل من

التمثيل.

إن الذي يعلم علمًا ناقصًا أن الحسد والكبر هو (غمط الحق واحتقار الناس)

رذيلتان ممقوت صاحبهما عند الله والناس، وأنه يجب عليه أن يجاهد نفسه ويطهرها

من رجسهما - يشتبه عليه الأمر في الجزئيات، فيحسد ويتكبر ويرى أنه غير حاسد

ولا متكبر، وإذا قيل له في ذلك لجأ إلى الاعتذار والتأويل فيقول في الحق الذي غمطه

ولم يخضع له - لأنه جاء من قِبل مَن يرى نفسه فوقه مثلاً -: إنه ليس بحق.

وينتحل ما تجود به قريحته من الشبه لإثبات أنه ليس بحق، وإذا لم يجد شبهة يطفئ

بها نور؛ الحق لقوة شعاعه يقول: إنه حق ولكن جاء في غير وقته ووضع في

غير موضعه، فأنا أغمطه لا لذاته بل لأنه لم يأتِ على منهاج الحكمة. (وكأن الحكمة مختصة به لا يعلم مواقعها غيره، نعوذ بالله من الغرور) ويقول - في الإنسان الذي احتقره -: إن ما صدر مني في شأنه مما يدل على انتقاصه واحتقاره لم

أقصد به إلا بيان الحقيقة أو إسداء النصيحة للناس كيلا ينخدعوا به.

والدليل على أن جهله بأخلاق نفسه هو الذي أراه باطله حقًّا وأعماه عن

جزئيات رذائله - أن ما وقع منه لو عرض على مَن هو أعلم منه بالأخلاق لجزم

بأنه حسد وكبر لا يحتمل التأويل وعجيب أن مثل هذه التعلَاّت تصدر من أمثل

العلماء. اجتمع الأستاذ فضيلتلو الشيخ حسين أفندي الجسر محرر جريدة طرابلس

بالسيد جمال الدين الحكيم الشهير فقال له السيد: إن جريدتكم قد جمعت بين الكفر

والإيمان! تكتب مقالة في تحريم الكذب وقبحه ثم تُملأ بعد ذلك بالكذب وغش الأمة

بمدح الجهلاء الأشرار الذين تجعلهم أئمة علماء: وأتقياء صلحاء. قال: (وإننا لا

نخطو خطوة واحدة إلى الأمام ما لم نعطِ كل ذي حق حقه، فنقول في العالم: عالم.

وفي الجاهل جاهل وهكذا) فقال له الأستاذ المحرر: (إن هذا تَقِيَّة؛ لأن مَن

عنيت مُضِرُّون يُخشى شرُّهم) فقال له السيد: (التقية مذهب الشيعة) .

ومثال آخر للشكوك التي ترد على العلم الناقص فتزلزله حتى ما تصدر عنه

آثاره - ولولا ضعفه وزلزاله لصدرت - أن عامة المسلمين الذين يأتون الفواحش

والمنكرات وهم يسلمون بأنها موجبة لسخط الله وعذابه في الآخرة لا يأتونها في

الغالب إلا لأن علومًا أخرى مسلمة مثلها؛ لأنها جاءت من الدين عارضتها وصارعتها

فقويت عليها بمساعدة الهوى والغرض كالمكفرات للذنوب من الأعمال الصالحة فإنهم

يسمعون من الوعاظ والخطباء أن مَن صام يوم عاشوراء غُفرت له ذنوب سنة، ومن

صام يوم عرفة غفرت له ذنوب سنتين - السنة السابقة والسنة اللاحقة - ومن صام

يومًا من رجب استوجب رضوان الله الأكبر، وأن من سبّح كذا في وقت كذا غفرت له

ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج أو زبد البحر، وأن الله يعتق في كل ليلة من رمضان

كذا، والمجموع يستغرق الأمة، وكالشفاعات فقد توسع فيها الوعاظ والقُصَّاص وفي

الكتب منها العجب العجاب، فيقولون: إن العالم يشفع في كذا بيتًا من جيرانه بعد

الشفاعة لأهله وخلانه. ويتوهم علماء السوء ويوهمون الناس أنهم هم

الشفعاء؛ ليعطوهم ويعظموهم. وبعض ما يوردونه في ذلك باطل لم يرد في الشرع

(كما بيناه في مقالات سابقة) وبعضه له معانٍ صحيحة لا يترتب عليها هذا الغرور

الذي أبطل فائدة الإنذار الذي جاءت به الرسل والأديان. مثلاً: إن ما ورد في

المكفرات للذنوب مقصود به الترغيب في الطاعة، وإنما المراد بالذنوب التي تكفَّر

هي الصغائر والهفوات التي لا يخلو الإنسان من الإلمام بها لا العظائم والموبقات

كأكل أموال الناس بالباطل وشهادة الزور والكذب والخيانة وعدم الوفاء بالوعد؛ فإن

مثل هذه لا تكفر إلا بالإقلاع عنها ورد الحقوق إلى أربابها، وإلا لكان هدي الدين

عبارة عن كلمات أو أعمال قليلة يباح للإنسان معها كل شيء، ولبطلت فائدة

النصوص المنفرة عن المعاصي والرذائل.

كيف يصح أن نقول: إن حركة اللسان بكلمات أو صيام يوم أو أيام يكفر هذه

السيئات الفاشية التي دهورت الأمة في مِهواة الشقاء وأنزلت بها صواعق البلاء.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث مَن كُنَّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى

وحج واعتمر: وقال إني مسلم - إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)

رواه بهذا اللفظ أبو يعلَى بسند محتج به، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ

أخرى بمعناها في رواية مسلم التصريح بقوله: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)

وظاهر هذا الحديث أن مَن كانت فيه هذه الثلاث فهو ليس بمسلم حقيقة ولا يغني

عنه ادعاء الإسلام والإتيان بأعماله العظيمة الظاهرة كالصوم والصلاة والحج، ولكن

العلماء أوَّلوه وقالوا: إن المراد به (النفاق العملي) ولكن لا يستطيع أحد منهم أن

يقول: إن هذا النفاق العملي يكفَّر بالصوم والصلاة والتسبيح؛ لأنه إبطال للحديث

ورفْض له.

وأما العفو وشفاعة النبي - وهي عبارة دعاء يدعو به يوم القيامة فيستجيبه الله

تعالى له - فالحكمة في الأول أن لا ييأس المسرف على نفسه؛ لأنه إذا يئس

يسترسل في الفجور، ومراد الشريعة رجوعه عنه والحكمة. في الثانية إظهار كرامة

للشافعين، على أنهم لا يشفعون إلا بإذنه ولمَن ارتضى. والكتاب والسنة طافحان

ببيان ما يرتضيه تعالى وما لا يرتضيه ونكتفي هنا بقوله تعالى: {رضي الله عنهم

وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة: 8) على أن العفو والشفاعة مبهَم

أمرهما، والأصل أن الجزاء على الأعمال {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن

يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) وفي الصحيحين قام رسول الله

صلى الله عليه وسلم حين أُنزل عليه] وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [ (الشعراء:214)

فقال: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله تعالى؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا،

يا بني عبد مناف؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس يا عم رسول الله؛ لا أغني

عنك من الله شيئًا، يا صفية يا عمة رسول الله؛ لا أغني عنكِ من الله شيئًا،

يا فاطمة يا بنت محمد سَليني من مالي ما شئت؛ لا أغني عنك من الله شيئًا.

وأضرب لهم مثل العفو والشفاعة عند الملوك والأمراء الذين تتغير انفعالاتهم

ويمكن للمقرب منهم أن يؤثر في نفوسهم ويحملهم على ما يريد منهم ونحو هذا مما

هو ممتنع في جانب الله تعالى - هل يتجرأ آحاد الناس على الجرائم والجنايات

جهرًا اتكالاً على عفو الأمير أو السلطان أو توقعًا لاحتمال الشفاعة له من أحد

المقربين إليه؟ ! كلا، إن مَن يجاهر من الناس بالجناية رجاء العفو أو الشفاعة

لا بد أن تكون له مكانة عند السلطان أو المقرب إليه؛ بحيث يجزم أو يرجح أن العفو

يناله، بل إنه لا يُسأل عما يفعل، وإنما يكون هذا في الحكومات الاستبدادية التي لا

يتقيد سلطانها بشريعة ولا نظام، ومثل هذا مستحيل في جانب أحكم الحاكمين سبحانه

وتعالى. وهذه المسألة دليل واضح على مسألتنا؛ وهي أن العمل إنما ينشأ عن العلم

الأثبت والأقوى في النفس. وإليك مع هذا البيان المعقول من البراهين النقلية الآية

التي صدَّرنا بها هذه المقالة: {إِِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28)

وحديث: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية) .

ثبت بما ذكرناه أن العقل والنقل متفقان على أن العلم الصحيح السالم من

الشوائب والعلل هو الباعث لإرادة الإنسان على تحريك الأعضاء للعمل. فيصح أن

يستدل بأعمال الأفراد وأعمال الأمم على مكانتها من العلوم بوجوه منافعها ومصالحها

وما عندها من الفنون التي يزيد العمل بها إتقانًا وارتقاءً. ومعلوم أن سعادة الأمم

بأعمالها، وأعمالها لا ترتقي في مدارج الكمال إلا بالاتفاق والتعاون، والاتفاق

والتعاون لا يأتيان إلا من تهذيب الأخلاق وتقويم العادات وتصحيح العقائد التي يُبنَى

عليها الترغيب والترهيب اللذان يقودان إلى التهذيب، وحسبك من الدليل النقلي على

ذلك حديث: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وتعليم التهذيب هو وظيفة العلماء

ورثة الأنبياء، وإهمال أصحاب هذه الوظيفة لها هو الذي يدهور الأمم في مهاوي

الشقاء. فثبت بهذا كله أن مبدأ ما حل بالشعوب الإسلامية من التأخر والانحطاط

إهمال العلماء وظائفَهم في الإرشاد والتهذيب، والداء إنما يُشفَى بإزالة علته وسببه

واصطلام الجراثيم التي يتولد هو منها؛ ولذلك جعلنا من مقاصد جريدتنا الأولية بيان

تقصير العلماء وأسبابه، والبحث في العلل التي أفسدت التعليم وحالت بين المتعلمين

وبين غايات العلوم والفنون التي يتدارسونها، ومزج هذه المباحث بلوم العلماء

تارة، وحثهم على الإصلاح تارة أخرى، وقد رأينا من أفاضل علماء مصر

المنصفين - وبلغنا عن مثلهم من علماء تونس والهند - استحسان عملنا هذا

وتقريظه، وأنه يُرجى الانتفاع به؛ فزادنا هذا نشاطًا واجتهادًا، والله يهدي مَن

يشاء إلى صراط مستقيم.

_________

(1)

(فاطر: 28) .

ص: 33

الكاتب: محمد رشيد رضا

مؤاخذة العلماء والرد على جريدة طرابلس

كم أداوي القلب قلَّت حيلتي

كلما دويت جرحًا سال جرحُ

ذكرنا في العدد الماضي أننا رأينا في جريدة طرابلس مقالة - كليالي الشتاء -

أي: طويلة مظلمة باردة، تعتذر فيها عن العلماء الذين أهملوا وظائفهم في

إرشاد الأمة وتزعم أنهم غير مؤاخَذين بترك الواجب عليهم لأوهام وتخيلات، ذكرتها

ولولا خشية انخداع الناس بقولها وتوهم صاحبها أنه جاء بحق مقنع؛ لما تعرضنا للرد

عليها ولكن هذه المسألة التي تنفيها هي ونثبتها نحن (مؤاخذة العلماء بترك إرشاد

الأمة الذي هو مناط سعادتها بالاتفاق حتى من جريدة طرابلس) - هي القطب الذي

يدور عليه ما نرجوه من إصلاح حال الأمة؛ ولذلك نرى من الواجب أن نزيح عنها

شُبه المشتبهين، ونزيل تمويه المموهين {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ

عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 42) ؛ أي، ليظهر للمرتاب - في كونه

مؤاخَذًا- أنه مؤاخَذ، فيكون هلاكه بترك الواجب إذا هو تركه عن بينة، وحياته

بالقيام به إذا هو فعل عن بينة، والله سميع لأقوالنا عليم بنياتنا؛ فيجازينا عليها.

أما كون المقالة باردة فقد عنينا به ما فيها من التنديد بأحد الكُتاب ونبزه

بالألقاب. وقد انبعق قلم كاتب المقالة في هذا، ونضح إناؤه بما لعله يعيبه على غيره

إذا هو صدر منه، وعهدنا بأناته أنه لا ينطق بمثل ذلك الكلام إلا إذا غلب على

أمره بانفعال شخصي قوي، أما المصالح العامة فإنه فيها هين وكلامه لين. وأدب

الشرع في الوعظ معروف، وهو الشدة في الكلام العام الذي يوجه إلى صِنف من

الناس بحسب درجة انحرافهم، حتى جوَّز لعن الفاسقين ولم يجوِّز لعن كافر

معين بالشخص أو الوصف الذي يتعين به، ويا ليت شِعْري هل يقول: إن رمي

أحد الناس بالغلظة والفظاظة والسفه والحُمق - يكون من الرقة واللطافة

والحلم والعقل التي ينضح بها إناء الإنسان الكامل؟ !

وأما كونها مظلمة فلما فيها من العسلطة، واشتباه الحق بالباطل وتمويه

الصواب بالخطأ الذي يرمي الأمة في هوة اليأس والقنوط؛ بزعمها أن العلماء

سقط عنهم وجوب إرشاد الأمة مع الاعتراف بأن نهوض الأمة منوط بإرشادهم،

وأن التبعة ينبغي أن تُلقى على الأغنياء، وعللت ذلك بقولها: (إن المطالب أولاً

وبالذات بالإنشاءات العمومية التي بها نجاح الأمة هم أهل الثروة وذوي (كذا)

الغِنى) ثم اعترفت: (بأن أرباب الثروة ليسوا كلهم عارفين ثمرات تلك

المشروعات العمومية) وأنهم يحتاجون إلى موقظ ينبههم من هذا السبات، وأنه (ليس

ثمة من موقظ من ذلك الإيقاظ ومنبه ذلك التنبيه وباعث ذلك البعث - إلا قيام العلماء

نافذي الكلمة؛ يعظون المواعظ الحسنة ويخطبون الخطب الطنانة ويتكبدون مشاق

الأسفار وينشرون في الجرائد خطاباتهم دون إسرار) وأنت ترى أن هذا يرجع

باللائمة على العلماء أولاً وبالذات خلافًا لقوله الأول؛ لأن الأغنياء لا ينبعثون

إلى العمل إلا بإرشادهم كما قال فهم المطالِبون بالإصلاح قبل كل أحد.

إن صاحب العلم الإجمالي عندما يتكلم في مسألة غير محيط بأطرافها، وعلى

غير بيِّنة من جميع دخائلها وعوارضها ربما يحتج على النفي بما يقتضي الإثبات،

وعلى الإثبات بما يقتضي النفي، ويقر بالشيء في معرض الإنكار وينكره في معرض

الإقرار؛ فتأتي في تضاعيف كلامه القضايا الصحيحة في غير مواضعها، فلا يكاد

يستفاد منها، ولكن عندما تقوم الحجة عليه بنفي شيء أو إثباته - يتنصل ويخطِّئ

صاحب الحجة مستدلاً بأنه قال كذا في مكان كذا! ومن هذا القبيل ذكرت جريدة

طرابلس أن المطالب بنجاح الأمة - أو وبالذات الأغنياء - فإنه لا معنى لذكره في

مقام رقع التبعة عن عواتق العلماء إلا إذا كان صحيحًا على إطلاقه، لكنه ليس

بصحيح؛ لأن الأغنياء يحتاجون قبل ذلك إلى مَن يعرِّفهم بمنافع الإنشاءات العمومية

كالمدارس والمصانع، وقد اعترفت الجريدة بذلك كما علمت، وأهم من هذا حاجتهم

قبل ذلك إلى تهذيب يجمع كلمتهم وينفخ فيهم روح الثقة الوطنية؛ فإن أهل الشرق

الآن لا يكادون يثقون في الأعمال العمومية إلا بالأجانب!

الأعذار الثلاثة:

اعترفت الجريدة المذكورة بأن الواجب على العلماء إرشاد الخلق إلى مصالح

المعاش والمعاد، ولكن زعمت أنهم بتركه معذورون وبتفويته (كذا في الأصل) غير

موزورين وانتحلت لذلك أعذارًا ثلاثة نذكرها ونبين فسادها:

(العذر الأول) ملخصه أن العلماء - في الغالب - ليسوا أصحاب ثروة، وأن

أغلبهم يعيش من نحو تدريس أو إمامة أو خطابة ومداخيل (كذا في الأصل) ، هذه

الوظائف قلّ أن تزيد عن الكفاية، قال الكاتب: فإذا أرادوا أن يقوموا في تلك

(كذا) الوظيفة التي نقول: إنها واجبة عليهم. وهي وظيفة تحتاج لتفريغ أوقات

كثيرة للقيام بالخطب والمواعظ ونشر المقالات الحادثة في الجرائد وتجشُّم أسفار -

فمَن يا تُرى يقوم بمصارفهم (كذا) إن قاموا بتلك الأعباء؟ ! .. إلخ.

الجواب:

إن هذا العذر ممثل للذنب تمثيلاً لا يدع للتمويه والانتحال سبيلاً؛ ذلك أن ما

هو مورد رزقهم من الخطابة والتدريس لو قاموا به حق القيام لأدوا الواجب عليهم

للأمة، ولكن دروسهم وخطبهم هي مما يفسد الأخلاق والأعمال بما تنفثه من سُم الجبر

باسم القضاء والقدر والتكسيل عن العمل بحجة الزهد والتوكل، والتجرئة على

المعاصي بالتمنية بالشفاعات والمكفرات، والإياس من قوة الأمة وترقيها بما يزعمون

من أن سعادة الأمة وعزتها لا يكونان إلا على يد المهدي المنتظر، وأن هذا الشقاء

الذي وقعت فيه لا مفر منه؛ لأنه علامة على قرب الساعة وانتهاء الزمان، ولأن

القاعدة المقررة أنه لا يمضي يوم إلا والذي بعده شر منه، ونحو ذلك من التعاليم

الغامضة والفاسدة المنتشرة في الكتب والخطب وبها، يعظون ويعلِّمون. وقد فصلنا

القول في بعضها، وموعدنا - ببيان سائرها - الأعداد الآتية إن شاء الله تعالى.

سبحان الله! كيف يعتذر بمثل هذا العذر سوري وأكثر العلماء المدرسين في

سوريا لا يقرؤون الدروس الوعظية إلا في شهر رمضان، ويأخذون من مال الأوقاف

أجور سنة كاملة، ويقضون معظم أوقاتهم في البطالة، وشأنهم في نواديهم وسُمَّارهم

الخوض مع الحائضين في اللغو واللهو، فهل نظرت للواقع - يا أستاذ طرابلس -

وراقبت الله تعالى عندما قلت: إن قيامهم بالواجب منه السفر الذي هم عاجزون عنه

لفقرهم؟ ! ورتبت على هذا أنهم عاجزون عن القيام بوظيفتهم على الإطلاق، وقلت

إن: (أهل الغفلة لا يعذرونهم وإنهم عند الله لمعذورون) ، ألا تذكر - يا أستاذ

طرابلس - أننا اقترحنا عليك أن تقرأ للطلبة في مدرستك درسًا في أخلاق الدين

كالجزء الثالث من الإحياء فاعتذرت بضيق الوقت، فقلت له: استبدل هذا الدرس

بدرس مقامات الحريري القليل الجدوى، فاعتذرت بما ملخصه أن التلامذة يستثقلون

مثل هذا الدرس ولا يرتاحون له، مع أن هذا العلم فرض عين وتعليمه من فروض

الكفاية، ولم يقم به في بلدك أحد، ومرت السنون ولم تقرأ في الأخلاق شيئًا، قلت:

لا يكفي مجرد وعظ العلماء في دروسهم المقامة في بعض المساجد لقلة مَن حضره.

فهل تقول مثل ذلك أيضًا في خطب الجوامع إن كنت تحب إرشاد الناس؟ ! فاعقد

بالله مجلس وعظ بعد صلاة الجمعة، واجعلْه كل أسبوع في مسجد وانظر أيجتمع

عليك الناس أفواجًا أفواجًا أم لا؟ ! قل لي - يا رعاك الله - هل يُنقص هذا من

رزقك الذي تأخذه من الأوقاف أو من خزينة الدولة أو من المطبعة والجريدة؟ وهل

تخشى منه على عيّلك الفقر والمسكنة.

اللهم بصِّرنا نفوسنا وأرنا الحقائق كما هي كيلا نضل ونشقى.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 39

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أيها الفتى

ما هذا اللهو واللغو، والفرح والمرح؟ ! تميل كالغصن مع الهوى. وأنت

ريَّان من ماء الشباب والصبا. ولكنك لا تجد على نار الحوادث هدى. أتحسب أنك

خُلقت عبثًا. أو أنك تترك سدى؟ ! كلا، إن أمامك خطوبًا فادحة. ونصالاً جارحة.

وأثقالاً بَيْتية ووطنية. تنوء بالعصبة أولي القوة، ولكن سُكر الشباب يفعل ما لا

يفعله سكر الأكواب. فهو الذي جعل في أذنيك وقرًا وعلى عينيك غشاوة. وران

على قلبك ما تعمل من السيئات. وتجترح من الخطيئات. تصور أن هذه الفتاة

الهيفاء والغادة الحسناء التي تغازلها وتناغيها. وتسايرها وتجاريها - ستكون ربة

بيتك. ومربية ولدك. ومالكة زمام أمورك، سعادتك بيدها. وراحتك في راحتها.

وشرفك بشرفها. ومستقبل ذريتك بآدابها ومعارفها. أفتحسب أن هذه الغر التي تميل

مع كل ريح. وتلين لكل صبيح أهل لما يُطلب منها. وكفؤ لما يناط بها؟ !

أفتحسب أنها - بعد أن تتشرف بالاقتران بك تتغير طباعها. وتنقلب أوضاعها.

وتتبدل صفاتها. وتستحيل ملكاتها. أم ترضى بها قرينة على ما تشاهد من علَاّتها.

وتعلم من هفواتها وسيئاتها؟ ! كلا، إنك سادر [1] في غفلتك، ملتخ [2] في سكرتك،

لا تفكر في أنك تجني على نفسك، وعلى جميع أبناء جنسك بإفساد آداب الفتيات

بتعرُّضك لهن حتى في الطرقات. وستذوق مرارتها في بيتك. إن لم تقلع عنها من

وقتك (دقة بدقة، ولو زدنا لزاد السَّقَّا)[3] .

***

أيتها الفتاة

لقد طوى الزمان الذي كان قدرك فيه مجهولاً. وجنسك اللطيف عند أهله

مفضولاً أو مرذولاً. وجاء زمان تنبه فيه الفضلاء والعظماء لما للمرأة من الشأن

الكبير في الارتقاء. وأنتِ مستقبلة عصر الكمال. الذي فيه يظهر سر قول النبي:

(النساء شقائق الرجال) ولكن من سماء عقلك يُشرق بدره. ومن بين ثناياك اللامعة

يتنفس فجره؛ لأن والدتك - وأعيذك بفضلك - جاهلة. وعن مقامها في المجتمع

الإنساني غافلة. فاعذريها على جهلها. ولا ترضي بأن تكوني مثلها. أتدرين - يا

سيدتي - بماذا يرتفع قدرك في هذا الزمن. وتكونين عقد زينة في جيد الوطن؟ !

إذا سألت عمتك (الست هانم) عن هذا السؤال، تقول لك: إن الذي يرفع المقدار،

ويستلفت الأنظار إنما هو تجعيد الطرة وعقص الذوائب. وكحل العيون وتزجيج

الحواجب. وحسن الالتفات والتثني. وأساليب الدلال والتجني. واللطف في

الإشارة. والظرف في العبارة. وإن خفة الحركات هي زينة البنات. وما وراء ذلك

إلا الثياب الحريرية. والحلية الذهبية والجوهرية. ولكن عمتك غالطة كالسيدة

الوالدة؛ فإن هذه الأمور هي التي أضرت بالوطن من قبل؛ لأن المرأة التي تجعل

همها في هذه الأمور، وتحسب أنها كالرياحين والزهور - ما خُلقت إلا نزهة للناس.

وزينة للحواس. يدل حسبانها هذا على أنها رضيت بما دون رتبة الحيوان. (أي:

حيث رضيت أن تكون قيمتها قيمة الزهر وهو من النبات والحيوان أشرف منه) ،

فكيف يقبل حكمها في رفعة شأن الأوطان. وهي من خصائص الكاملين من نوع

الإنسان؟ !

ولكن إذا سألت (المدام) فلانة أو تربك (المدموازيل) عن هذا

السؤال نفسه تسمعين جوابًا عجيبًا؛ لأنها تقول لك: إن قدر الفتاة إنما يكون رفيعًا

بعلومها وآدابها وفضائلها، وباستعدادها لمساعدة الرجل على إسعاد منزله وأهله

وإسعاد وطنه وأمته، فإذا كانت غير متخلقة بالأخلاق الفاضلة كيف يمكنها أن

تغرس فَسِيل الفضائل في نفوس أبناء الوطن الذين يعهد إليها بتربيتهم من يوم

يوجدون بحكم الطبيعة والشريعة معًا؟ وإذا كانت لا تعرف قيمة العلوم والفنون

والآداب التي تسعد بها البلاد فهل يخطر في بالها أن ترغِّب أولادها في ذلك وتسلك

بهم في هذه المسالك؟ ! بل ربما قالت لك حضرة المدموازيل: إن الفتاة كالفتى،

والمرأة كالرجل والوطن يطالبهما بحقوقه مطالبة واحدة؛ فيجب أن ترشح الفتاة نفسها

لأي عمل من الأعمال العظيمة النافعة التي يقوم بها الرجال حتى الأعمال

الحربية والسياسية. لكن هذا الأخير إفراط عظيم يقابله ما ترين عندنا من التفريط

والإهمال. والصواب أن البيت مثال المملكة الجمهورية؛ فالرجل هو الرئيس وناظر

الخارجية (أي: ما هو خارج البيت) ووظيفة المرأة نظارة الداخلية. والممالك

العظيمة إنما تتألف من هذه البيوت، فمتى كانت الحياة فيها سعيدة سعدت بذلك المملكة

كلها.

هذه إشارة لطيفة إلى مقامك السامي - أيتها الفتاة - وأفضل ما تستعدين له هو

تربية الأولاد، بل هو أفضل الأعمال كلها، والاستعداد له إنما يكون بمعرفة عقائد

الدين الصحيحة والتخلق بأخلاقه الفاضلة والتأدب بآدابه الكاملة ثم معرفة مبادئ

الفنون لا سيما حفظ الصحة وتدبير المنزل والحساب والتاريخ، فإذا التفت إلى هذه

الأشياء ووفيتها حقها من العناية؛ عرف لك الوطن العزيز حقك، ورقاك فضلاؤه إلى

الأوج الذي تستحقين ولا يغرنك هؤلاء الشبان الأغرار الذين يختالون في الشوارع

والمهايع ويرمون بأبصارهم إلى الكُوَى والنوافذ يفتنون الفتيات الغافلات،

ويستهوون السيدات المصونات. فليس تحت طرابيشهم المائلة إلا أحلام (عقول)

سفهة وأخلاق سافلة. وسيذهب فساد طباعهم وقبح أعمالهم. بما بقي لهم من

دثورهم وأموالهم. فويل لمَن اتصل بهم وقرب منهم، وهنيئًا لمَن إذا عرفهم قلاهم

وبعُد عنهم.

_________

(1)

السادر: المتحير والذي لا يبالي بما صنع؛ ومن معانيه الذاهب عن الشيء ترفُّعًا عنه، والسادر ثوبه؛ أي: السادل له.

(2)

يقال: سكران ملتخ؛ أي: طافح مختلط لا يفهم شيئًا لاختلاط عقله.

(3)

يُحكى أن شيخًا عفيفًا صادف في الطريق امرأة فقبَّلت يده، فغمزها بيدها الناعمة، ولما بلغ منزله وجد السَّقَّاء يغمز يد امرأته؛ فقاله، فسار مثلاً.

ص: 43

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقاريظ

(الوشاح في شرح عروض المِفتاح)

أهدانا نسخة من هذا الكتاب مؤلفه حديثًا العالم الفاضل القاضي ظفر الدين

أحمد أستاذ الكلية الشرقية بلاهور، الهند ولما تتسنى لنا مطالعته فقصارى ما نقول

في هذا المقام: إن إحياء كتب فرسان البلاغة وجهابذة علوم اللسان (كالعلامة السكاكي

صاحب المفتاح) بالشرح والدرس - عمل شريف تحيا به اللغة العربية إن شاء الله

تعالى.

ثم نشكر لحضرة الأستاذ فضله. ونثني عليه كما أثنى علينا بما هو أهله، ومن

الله نسأل تحقيق ما أمله في خدمتنا (المنارية) من جمع كلمة الأمة الإسلامية.

ولا غرو؛ فقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) وعد لمَّا

يتحقق كما قال بعض المحققين الأجلة. ولا بد من تحقيقه بفضل الله تعالى.

***

(الجامعة العثمانية)

ظهر العدد الأول منها يتدفق بالمباحث المفيدة لا سيما مباحث التربية والتعليم

التي نحن أحوج إليها من كل شيء، وأحسن تقريظ لها أن ننقل نبذة من أنفع نبذها

وأفيدها، فإليكها نموذجًا حسنًا، قال الكاتب:

(إن المدارس الأجنبية في بلاد الدولة العثمانية قد صنعت خيرًا عظيمًا، ولكنها

قد صنعت شرًّا عظيمًا أيضًا. فعلينا أن نجد دواءً لهذا الداء، قد أنشأ الغرب للشرق

مدارس يعلم فيها أبناء الشرق الميل عن دولتهم إلى دولة غريبة عنهم، فلتنشئنَّ - أيها

العثمانيون - بإزاء تلك المدارس مدارس جديدة، يكون أساس تعليمها حب الوطن

والأمة، وتعليم ما هو الوطن وما هي الأمة. لنؤسس مدارس جديدة نُدخل إليها طرق

التعليم الحديثة ووسائل التربية الحديثة، وندخل إليها قبل ذلك عناصر الأمة كلها،

فنربيها فيها على مقاعد واحدة ونلقنها دروسًا واحدة ومبادئ واحدة؛ حتى تكون بعد

خروجها من حياة المدرسة إلى الرجولية بقلوب واحدة وأفكار واحدة، فإن هذا هو

السبيل إلى تقوية جدار الوطنية العثمانية ووقايته من الثلم أو الهدم) .

فشكرًا لك - أيها الكاتب الفاضل - ونجَّح الله تعالى الجامعة العثمانية بمبادئك

الصحيحة.

***

(أنين مظلوم)

جريدة ظهرت في القاهرة تشكو من ظلم رجال الدولة لا سيما في ولاية بيروت،

وتستصرخ مولانا السلطان الأعظم طالبة تفويض الأعمال إلى الأَكْفَاء الصادقين.

وعسى أن يكون كلام صاحبها صادرًا عن غيرة صحيحة وتألم حقيقي، فعهدنا

بالذين ينشئون الجرائد للطعن بالحكام والشكوى منهم أنهم طلاب رزق ووظيفة أو

رتب ووسامات، كما ثبت ذلك للدولة العلية بالاختبار؛ ولهذا ارتفعت الثقة بكلام

أمثال هذه الجرائد من الدولة والأمة، فاشتبه الحق بالباطل والإخلاص بالنفاق، ولا

علاج لهذا إلا أن تقرر الدولة حرمان أصحاب الجرائد عمومًا من الرتب والرواتب

والأعمال والوظائف؛ لينقطع أملهم مما وراء عملهم وثمراته الذاتية، فمن أحسن

ونجح في عمله فحسبه إحسانه شرفًا وكسبًا، ومن ساء فعليه ما يلاقيه من الجزاء،

وما دامت الدولة تغدق النعم على السفهاء منعًا لسفههم؛ فإنها تغري بذلك غيرهم،

فتضيع الأجور ويكثر الفجور ومحاولةُ إرضاء جميع الناس غرورٌ.

_________

ص: 46

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أخبار الحجاج

بلغ عدد الحجاج الذين قصدوا الأقطار الحجازية عن طريق الإسكندرية لغاية 16

الجاري 7602، والذين برحوا هذا الثغر في ذلك اليوم فقط 801، منهم 509

عثمانيون و136 مصريون و58 روسيون و40 فارسيون و29 من الزولوس و26 من

البوسنيين و3 من البرتغاليين.

أما الذين سافروا من القاهرة فيبلغ عددهم إلى اليوم نحو الثلاثمائة حاج.

...

...

...

...

...

...

...

...

... المؤيد

_________

ص: 48

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اعتذار

ضاق هذا العدد عن النصائح والوصايا التي أعددناها للحبالى، وعن باب

الأخبار والحوادث، وموعدنا العدد الآتي إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 48

الكاتب: أحد علماء الأزهر

‌الاتحاد

لأحد أفاضل العلماء المدرسين في الجامع الأزهر الشريف

الاتحاد هو الاتفاق على أمر من الأمور وبه يقوى هذا الأمر ويعظم، إلا أنه

تارة يكون ممدوحًا وتارة يكون مذمومًا، فإن كان المتفق عليه ممدوحًا كمقاومة العدو

الصائل كان ممدوحًا، وإن كان مذمومًا كالسلب والنهب واللهو واللعب ومنع خير

وجلب شر كان مذمومًا. ومما هو في المرتبة العليا في المدح - اتفاق أهل المملكة أو

المدينة أو المنزل على ما به صلاح مملكتهم أو مدينتهم أو منزلهم وعلى ما فيه

حفظها من الاضمحلال والتلاشي مما يضمن لهم بقاء المجد والشرف ويحفظ لهم

القوة والمَنَعَة، ألا وهو تدبير أمورهم بالقوانين العادلة والأفكار النيِّرة والتحابُب

والتوادد وعمل كلٍّ لنفسه ولغيره من أهل مملكته أو مدينته أو منزله، فيجتمعون

بالروح والجسد على من له العراقة في الإمارة عليهم، المحافظ على ترقيهم ومجدهم،

ويساعدونه في تدبير أمورهم بالقوانين المرضية مخلصين له ناصحين لا يتساهلون

فيما فيه النفع العام ولا يتغافلون عما فيه الضرر اللاحق بهم وبغيرهم، ولا يتخالفون

فيما بينهم لغرض نفساني أو حظ مالي؛ فتفتر همتهم وتضعف شوكتهم فيكونون

عرضة لتسلط الغير عليهم وتمكنه منهم واستيلائه عليهم، فيصيرون في ربقة الرق

ذليلين مقهورين لا يُبالَى بهم، ولا يكترث بكبيرهم ولا صغيرهم، ولا يُعتنى بشريفهم

ووضيعهم، ولا يتباغضون ولا يتحاسدون ولا يُؤْثِر أحدهم نفسه بالعمل فيعمل لحظ

وقتي له يراه وقت العمل ثم يكون كالهباء المنثور، بل كالسراب يحسبه الظمآن ماءً

وهو عدم، بل يعمل لأمته ومستقبله لا لنفسه فقط؛ لأن الإيثار ليس من الكمال في

مثل هذا، ولأن وقته الحاضر قد انكشف له ما فيه وظهرت له شؤونه إن كانت سارة

أو ضارة، وأما المستقبل فلم ينكشف له ما يكون فيه؛ فحقه أن يعمل ما يحفظ له حاله

فيه بحسب طاقته.

على المرء أن يسعى إلى الخير جهده

وليس عليه أن يساعده الدهر

فيا ذوي الأبصار، يا أولي الأنظار، عليكم بالتأمل في تقلبات الدهر وحوادثه؛

فإنه يكون لمن اتحدت كلمتهم واجتمعت قلوبهم، ويكون على من اختلفت كلمتهم

وتنافرت قلوبهم، فوحدوا كلمتكم واجمعوا قلوبكم {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ

رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) وسارعوا جميعًا إلى ما به حفظ الأمة والدين كما

تسارعون إلى ما به حفظ المال والبنين، ولا يقعدكم عن هذا الانهماك في اللذات

والتقلب في الشهوات؛ فإن الإنسان ما خُلق للشهوة واللذة لما فيه كمال النفس التي

هو بها إنسان من التخلق بالأخلاق الحميدة التي منها عدم الاسترسال في الشهوات

واللذات، بل يأخذ من ذلك قدرًا يسيرًا يروِّح به نفسه فقط ويردعها عما زاد؛ لأن

الزائد تتعاصى به عليه فلا يطيقها فتجره إلى ما ليس فيه كماله وحفظ عشيرته، ولا

يحول بينكم وبين ذلك توهم أنه يصيبكم مكروه؛ فإن الإنسان لا يصيبه إلا ما قدر

عليه حتى لا تكونوا أكلة ذئب ولا فريسة أسد، لا سيما العلماء؛ فإنهم أئمة لغيرهم

ويُقتدَى بهم ويُهتدَى بهديهم، فعليهم أن يتحدوا وأن يتخلوا عن الرذائل والدناءات،

وأن يتجردوا من التعصب ورد الحق على قائله، وأن يتبعوا الخطة الحميدة والطريقة

المفيدة؛ ألا وهي ما أمر به أمير البلاد وخديويها المعظم، وارتضاه مشاهير العلماء

من ترك قراءة الحواشي وصرف الزمن في المناقشات والمشاغبات؛ فإنه اشتغال

وضياع للوقت في خدمة كلام المخلوق، وإعراض عن الاشتغال بكلام الخالق،

وتفويت للإحاطة بأحكام الشريعة الغراء والفنون الأدبية.

وما يتوهم من أن الاشتغال بالحواشي يقوي الذهن دون ما دعاهم إليه مجلس

إدارة الأزهر - فغلط أَوْقَعَهُمْ فيه حكم العادة التي شبُّوا عليها وذلك لأنه بترك

الحواشي والمناقشات يتيسر لهم الاشتغال بالفنون العقلية من الحساب والهندسة،

فتفيدهم في الذهن قوة أكثر مما يستفاد بالحواشي؛ ولذا كان الحكماء يشتغلون

بالرياضيات قبل العلوم الحكمية وقد أمرهم أمير البلاد بالخطة الجديدة لأجل أن يكون لهم إحاطة بالعلوم وترقٍّ في المعارف؛ ولأنه رأى ما لم يروه من تعييب أهل الوقت لخطتهم حتى كان من الحسن عندهم تفريق هذا الجمع، فعسى أن يلتفت قومنا

لما هو الأحرى والأنفع دنيا وأخرى.

_________

ص: 50

الكاتب: محمد رشيد رضا

مؤاخذة العلماء والرد على جريدة طرابلس

(تتمة ما سبق)

(الاعتذار الثاني) ملخصه: إذا شرع العلماء في الخطب في المجامع

والنوادي، وركبوا الأخطار للمواعظ، ونشروا المقالات في الجرائد والدفاتر،

واجتمعوا للمذاكرة وتدبير شؤون الأمة واستنباط القواعد المتكفلة بالإصلاح،وجمعوا

الثروة لإقامة الشركات العمومية وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.

قالت (طرابلس) :

(لا سيما لأهل السطوة والنفوذ، وشدوا على الكثير من فاسدي الأخلاق،

وحاولوا نزع خلالهم الفاسدة عنهم إلى أمثال ذلك من الشؤون التي يرجى عندها

نهضة الأمة، فهل يروق ذلك منهم في كل نظر، ويساعدون عليه من أهل البدو

والحضر، أو يعارضون أشد المعارضة ويقصدون بالأذى من ذوي الشرور وحقائب

الريب والعيب، ولا يقوم بمساعدتهم إلا من لا تجدي مساعدته نفعًا، وربما نسب إليهم

أنهم جماعات إفساد ودسائس ضد الحكومة أو الأمة أو مثل ذلك ويرشقون بسهام

الملام من أكثر الأنام حتى يقول قائلهم: ما لهؤلاء القوم يتعرضون لما لا يعنيهم. إذا

منوا بالأذى ظهرت الشماتة بهم حتى من أهليهم وقيل: هكذا جزاء التعرض لما لا

يعني الإنسان. فما كان أغنى هؤلاء العلماء عن المطاردة في هذا الميدان) اهـ.

الجواب:

إذا كان وجوب الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطًا بأن

يروق عند الشروع فيه في كل نظر، ويساعد عليه أهل البدو والحضر كما يفهم من

صريح كلام الجريدة (طرابلس) ، فلا شك أن الوجوب ساقط عن العلماء بل لا

ريب في أن هذا الفرض لم يتحقق شرطه في عصر من الأعصار. وإن إيجابه في

الشرع لا معنى له، ولكن هذا الشرط لم يقل به شرع ولا عقل، فذِكره في معرض

الاعتذار عن العلماء وبيان سقوط الوجوب عنهم - لغو لا معنى له وأما المعارضة

والقصد بالأذى؛ فالأولى منهما لا معنى لذكرها أيضًا، ولكن القصد بالأذى محل نظر

ويحتاج القول فيه إلى تفصيل نكتفي بموجز منه؛ لأن كلامنا مع أهل العلم، فنقول:

أولاً - لأن القصد بالأذى لأجل الإرشاد غير محقق، وإنما هو احتمال يصح أن

يفرض وقوعه في كل عمل.

ثانيًا - أن القصد لا يوجب الإيقاع لاحتمال الموانع من جانب القاصد أو

المقصود أو الأحوال الخارجية.

ثالثًا - أن الأعمال الواجبة على العلماء كثيرة جدًّا، وغير جائز أن يكون كل

عمل متروك منها يعود على فاعله بالضرر والأذى، فيجب على العالم أن يأتي ما

يغلب على ظنه السلامة فيه حتى إذا ما ساوره البلاء وواثبه الإيذاء وتحقق أنه لا

يستطيع الغلب - يعدل عنه إلى عمل آخر.

رابعًا - أن الأذى أو الضرر الذي يخافه من يقوم بخدمة الأمة له درجات

سنفصل القول فيها عند الكلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونكتفي هنا

بقول أئمة العلماء: إن توقع الإيذاء الشديد حقيقة كالضرب المُبَرِّح والقتل والسلب

إذا غلب الظن بأَمارات واضحة - يُسقط وجوب الحسبة ويبقى الاستحباب، وأما

الرشق بسهام الملام - الذي يخاف منه أستاذ طرابلس وذكره في الاعتذار - فلا يسقط

الوجوب. قال الإمام حجة الإسلام الغزالي: (ولو تُركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب

فاسق أو شتمه أو تعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله - لم يكن للحسبة

وجوب أصلاً؛ إذ لا تنفكّ الحسبة عنه) .

ثم إن ما نحن في أشد الحاجة إليه من إرشاد العلماء يحصل بإصلاح التعليم

والخطابة الجمعية وكثرة المذاكرة في مواضيع الإصلاح في المنتديات والسّمار، ولا

خطر على العلماء في شيء من ذلك إلا في دار السلطنة حيث يمنع الاجتماع والكلام

في الإصلاح الذي يمس السياسة فقط، فعليهم أن يستبدلوا ما لا خطر فيه بما فيه

الخطر. ووراء هذا كله نقول: أين وراثة النبوة التي هي مفخر العلماء؟ أَمَا كان

الأنبياء يُضربون في سبيل تعليم الحق وإرشاد الناس ويهانون ويسبون ويشتمون

ويهجرون ويطردون بل وكثير منهم يقتلون؟ أليس العلماء أحق الناس بالأخذ

بآية {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر} (الأحزاب: 21) أما يعلم صاحب الأعذار أن رسوله أوذي في الله فأُلقي عليه سلا

الجَزور وهو يصلي ورمي بالأحجار وأُلجئ إلى ترك وطنه وشج رأسه وكسرت

رباعيته؟ أين الذين لا يخافون في الله لومة لائم؟ هل يرضى العلماء أن يكونوا

ممن قال تعالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ

النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت: 10) ؟ إذا كانوا يعلمون أن الله اشترى من

المؤمنين أموالهم وأنفسهم وكلفهم بأن يبذلوهما في سبيل الحق فكيف يعرضون عن

عمل يعترفون بأن فيه قوة الملة ومنعتها وعزها وشرفها إجابة لداعي الوهم وإخلادًا

إلى الراحة والكسل، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68) .

(العذر الثالث) ملخصه: كما في أسئلة جريدة طرابلس ما ترى: (هل لديك

من يضمن حسن العاقبة لهؤلاء الأخيار ويؤمّنهم على مستقبل حالهم إن تجشموا هذه

الأخطار) تأملوا - أيها الناس - وتعجبوا: (وتالله لئن كان لديك - أيها اللائم

حضراتِ العلماء على تقصيرهم المزعوم - من يضمن لهم أمر معاشهم ومعاش

عيالهم ويؤمنهم على حياتهم وشرفهم إن هم قاموا بما به عليهم حكمت أني أنا

الضمين بأنهم يتهالكون على إرشاد الأمة وبعث نفوس أهل الثروة إلى خدمة الأوطان

والسعي على مقتضى نوايا جلالة السلطان - نصره الله تعالى فهم - والله - ليسوا

في هِمَمهم دون همم سواهم من وعاظ الغرب، ولا أقل نشاطًا ولا أضعف قوةً، بل

فيهم الهمم العالية والنفوس السامية والإيمان الذي يحملهم على إخلاص النصيحة إن قدروا وسلموا، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) .

الجواب:

إن هذا العذر مبني على سابقيه؛ لأن حاصل العذر الأول أن الإرشاد المطلوب

يتوقف على الثروة فإن كان يوجد من يمد العلماء بالمال؛ فإنهم يقومون به. وحاصل

الثاني أن الذي يقوم بالإرشاد يكون عرضة للوم اللائمين وإيذاء المفسدين واتهام

المتهمين (وما أغنى العلماء عن المطاردة في هذا الميدان) نعوذ بالله من الغفلة،

وأما الثالث هذا فحاصله أن القيام بالإرشاد يشترط لوجوبه مع احتمال ما ذكر من

الأخطار أن يكون هناك ضامن يضمن للمرشد ولعياله حياتهم ومعاشهم وشرفهم،

ويدخل في ضمان الشرف ضمان الألسنة اللائمة والقلوب الشامتة، ولا شك أن

شركات الضمان الأوربية التي تضمن الأموال والأعمار إلى أجل مسمى لا تُقْدم على

ضمان الألسنة والقلوب التي يخاف صاحب طرابلس من لومها وشماتتها. فإن كان

يتنزل لنا عن ضمان الألسنة والقلوب اتباعًا لحكم الشرع واسترشادًا بنور العقل -

فإننا نضمن له ما عداهما.

ليؤلف في بلده جمعية من العلماء الذين وصفهم بما مر عنه، وليبحثوا في

أساليب التعليم النافعة والخطب المفيدة، وليتعاهدوا على التعاون بما يظهر لهم أنه

الأنفع، ثم ليعملوا، وليكن مما يتعاهدون عليه أن يكون كلامهم في النوادي والسمار

في مصلحة الأمة والملة عوضًا عن الكلام الذي يضيعون به الحياة العزيزة، وهو ما

نعلمه نحن ويعلمه هو. ليكفوا عن جعل الخطب في فضائل الشهور وبعض وقائع

الدهور. وليجعلوها سهلة العبارة. خالية من غريب المجاز والاستعارة ولا يتكلفوا

فيها التسجيع ولا أنواع البديع؛ ليفهم الناس جميع ما يقولون ويعلموا أنهم به

مخاطَبون، لا أنه مقصود بالذات، مكفر بأسراره للسيئات. ليجعلوا الخطب

والمناظرات والدروس والمذاكرات في هذه الأمراض الروحية والأدواء الاجتماعية

وفي مناشئها من العقائد الزائغة ومثاراتها من طريق الإرشاد الرائغة وبيان الحق بالحجج البالغة وزهق الأباطيل بالحقائق الدامغة. ليبينوا للناس حقائق التوحيد

والتوكل والزهد والتواضع والاقتصاد؛ ليعلموا أن مراعاة سنن الخلقة والتمسك

بالأسباب الظاهرة هو طريق السعادة في الدنيا، كما أن موافقة الأعمال للشريعة

الحقة هو سبب السعادة في العُقبى، وأن طلب الشهادتين بغير هاتين الوسيلتين غرور

وأن الكسل والذل والخمول والسرف والمخيلة والاحتجاج بالقدر والاستعانة بغير

الله تعالى والاعتماد على العفو والشفاعات مع التقصير في العمل - كل ذلك من

أسباب الشقاء والخذلان.

ولينظروا (أي: العلماء) مع ذلك في طرق التعليم والتأليف الجديدة،

ويعتمدوا على أقربها وأفيدها، ويرشدوا الناس إلى ما هم في أشد الحاجة إليه من

الفنون الرياضية والطبيعية، ويوضحوا لهم أن الدين والدنيا لا يُحفظان إلا بها.

هذه إشارة إلى ما تطلبه الأمة من العلماء، فهل يقول أستاذ طرابلس إن قيامهم

به يعود عليهم بالضرر والأذى -وإن الوجوب سقط عنهم لذلك أو يوجد ضامن يضمن

لهم ما ذُكر؟ إن كان يقول هذا فأنا الضامن له ولمن شاء من أهل بلده وغير بلده ما

سوى الألسنة والقلوب. حقًّا أقول: إنه إذا تدبر في الأمر فإنه يرجع عن أحكامه

واعتذاراته ويتثبت - بعد ذلك - في مثلها من الأحكام والإيمان وما يتذكر إلا مَن

ينيب.

_________

ص: 51

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اختيار المعلمين

لا ينبغي أن يكون الغرض من إنشاء المدارس إفادة التلامذة بعض مسائل من

العلوم والفنون التي تدرس فيها بحيث تكون تلك المسائل مخزونة في أذهانهم مع

سائر المعلومات التي يستفيدونها من خارج المدرسة في عامة أحوالهم. وإنما يجب

أن يكون الغرض من المدارس نفخ روح السعادة الإنسانية في التلامذة. ولا يُنفخ

هذا الروح إلا بتربية النفس وتهذيبها ثم دلالتها على طرق الحياة وكيفية سير الناس

فيها على الوجه الذي يؤدي إلى المقصد من غير ضلال وبأقل تعب وعناء وبيان

قُطاع هذه الطرق التي تحول بين سالكيها وبين الغاية.

كل علم لا يهدي إلى طرق الحياة السعيدة فهو لغو، وأجدر به أن يسمى

جهلاً، والمشتغلون بهذا اللغو أو الجهل كثيرون بل هم الذين جعلوا العلوم والفنون

المرشدة إلى الأعمال النافعة لغوًا؛ إذ لا يوجد علم لا يهدي إلى عمل نافع للإنسان؛

فالعلم إما بيان للعمل اللساني أو العضوي أو القلبي، وإما ركن تستند إليه الهداية كعلم

العقائد، ولكن هؤلاء خرجوا بالعلم في التعليم والتأليف عن كونه مرشدًا هاديًا يبعث

الآخذ به ويزعجه إلى ما هداه إليه وجعلوه مقصدوًا لذاته. جعلوه عالمًا مستقلاًّ لا

مندوحة لمن يشرف عليه عن الانفصال عن العالم الوجودي. وعندما ينفصل عن

العالم الوجودي يمكنه أن يتصل بذلك العالم الخيالي (الذي يسمونه العلم) ويشاهد

بعض ما فيه من العجائب التي يتأتَّى له بها أن يحكم على بعض الجزئيات في عالم

الوجود بالصحة أو الخطأ إن هي عرضت له.

ويرى هؤلاء أن عالم الخيال الذي هو علمهم له الحكم والسلطان على عالم

الوجود. فإذا قرر بعض علمائهم مسائل مخالفة لما في الوجود، ولا تنطبق على سنن

الخليقة ومصالح البشر يذهبون إلى صحة ما قاله عالمهم وفساد ما في الوجود

والواقع، وإلى وجوب تبديل سنن الخلق وتحويل المصالح؛ لتوافق ما جال في خيال

المرحوم الأستاذ المؤلف، وهو في غرفته منقطعًا عن العالم أو ما أُلهمَه وهو في

خلوته بعيدًا عن الناس يستمد العلوم والحقائق من عالم الغيب، ولكن من عرف سنن

الخليقة يعلم أن محاولة تحكيم الخيال فيها عبث وجنون، وأن كل خيال يخالف الحقائق

ويصادم النواميس والمصالح جهل لا علم، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. ولا في دينه

حرجًا.

تعليم أمثال هؤلاء مضر غير نافع فينبغي أن لا يفوض إليهم أمر التعليم فإنهم

إذا حكموا في نفوس الأحداث الضعيفة يجورون في الحكم ولا يعدلون، ويفسدون في

أرضها ولا يصلحون.

إن اختيار الأساتذة والمعلمين أهم ما تحتاج إليه الأمم المريدة للإصلاح

والطالبة للترقِّي كالأمم الشرقية عامة والمسلمين خاصة، أوّاه أواه! ينهض رجل

غيور محب للمجد الصحيح والكمال الحقيقي فيؤسس مدرسة وطنية لخدمة أمته

ورفعة شأنه فيختار لها مكانًا حسنًا، ويجلب لها من الأثاث والأدوات أحسن ما يكون

في أمثالها، وماذا يكون من أمره في اختيار المعلمين وهم روح ذلك الهيكل الحسن؟

ما هي المرجحات التي تلاحظ في الاختيار من صاحب المدرسة ومستشاريه؟ يختار

في الغالب من لديه شهادة بالتحصيل، ولهم الحق في ذلك؛ لأن أصحاب الشهادات

أعلم من غيرهم في الأكثر، فلا ينبغي العدول عنهم إلا لمن يفضلهم بالمزايا التي

سنذكرها، ثم يرجح من هؤلاء من يتصل بأهل الترجيح والاختيار بقرابة أو صحبة

أو من يتخذ وسيطًا من الوجهاء. ومن المرجحات المسلمة عند الشرقيين في مثل هذا

من الأمور العامة حتى أعمال الحكومة ووظائفها حاجة الرجل إلى التعيش بالوظائف

يقولون: فلان صاحب عيال، فلان من آل البيت الفلاني الذي انتابته

النوائب، فمن المروءة والكمال السعي في حفظ كرامته وإبقاء مظهره وبذلك نستحق

الأجر من الله تعالى، يقولون هذا ويعملون به وهم في غفلة عما يخربون من البيوت

بعمران هذا البيت وعما يذهبون به من كرامة الأمة كلها إذا كان الموظف غير أهل

لعمله، وعن حرمان الأمة من أبنائها النبلاء إذا لم يكن قادرًا على تربيتهم وتعليمهم

على الوجه الذي يكون هاديًا إلى سعادتهم وسعادة بلادهم.

أول ما تجب مراعاته في الأستاذ المعلم:

* حسن الخلق والآداب؛ فإن سيء الأخلاق يبني بتعليمه قصرًا ويهدم بإفساده

آداب التلامذة مصرًا.

* ويلي هذا معرفة أساليب التعليم وتمرنه عليها، فليس كل عالم يحسن التعليم.

* ثم معرفة جملة من علم الفلسفة العقلية وعلم الهيجين (مداراة الصحة)

ليعرف ما ينبغي أن يلقَّن للتلميذ بحسب سنه واستعداده العقلي.

* وبعد هذا وذاك يُشترط أن يكون الأستاذ واقفًا على أحوال عصره

الاجتماعية عارفًا بمواضيع جميع العلوم والفنون المتداولة فيه وغاياتها في الجملة،

لئلا ينفر التلامذة من غير الفن الذي يقرؤه لهم مما يكون نافعًا للبشر. ومعاداة العلوم

والفنون إنما تكون من الجهل بها، وهي من أكبر أسباب تأخر الأمم وضعفها لا سيما

إذا كانت من رجال الدين الذين يذمون ما يجهلون وينفرون عنه بحجة أنه مخالف

للدين، فتأخذ آحاد الأمة كلامهم بالقبول، فيُحرَمون من الإقبال على تلك الفنون النافعة

واجتناء ثمارها.

* وصفة أخرى من الصفات التي يرجح بها اختيار المعلمين وهي الغيرة

الملية والحمية القومية؛ فمن فقد هذه الصفة قلما تستفيد الأمة من تعليمه أبناءَها.

صاحب هذا النعت الشريف هو الذي ينفخ الكمال في جسوم التلامذة، ويحبب

إليهم أوطانهم، ويغرس في نفوسهم مبدأ الميل إلى المنافع العامة. وهذه الصفة من

كمال تهذيب الأخلاق الذي ذكرناه أولاً وإنما أفردناها بالذكر؛ لأن أكثر الناس لا

يخطر لهم هذا المعنى ببال عندما يذكر تهذيب الأخلاق، وقد قال بعض الباحثين في

فن التربية والتعليم من الإفرنج: إن مما تنبغي مراعاته في الأستاذِين: حسن

الوجه ونظافة الثياب لما لهما من التأثير في حب التلامذة لهم واقتدائهم بهم.

ولَعَمري إن حب التلميذ لأستاذه من أعظم أسباب انتفاعه به، ومن ينفر من

معلمه لأي سبب من الأسباب قلما ينتفع به.

هذا ما عَنَّ لنا في هذا المقام فعسى أن يلتفت إليه أصحابُ المدارس الوطنية

وطلابُ العلم المختارون في انتقاء الشيوخ، والله الهادي إلى سواء السبيل.

_________

ص: 56

الكاتب: محمد رشيد رضا

وصايا للحوامل

أو تربية الجنين

1-

تجتنب الحبلى المآكل الغليظة العسرة الهضم والكثيرة الدسم والتوابل،

ولا تزيد من تناول الأطعمة اللطيفة عن الاعتدال لا سيما في أوائل الحمل؛ حيث

تكون معرضة لسوء الهضم، وما تزعمه النساء الجاهلات من أن الحبلى تحتاج إلى

كثرة الأكل في أوائل الحمل خطأ، والصواب أن ضرر التخمة في أوله أكثر منه في

آخره، والاعتدال أسلم في كل حال.

2-

تجتنب أشد الاجتناب شرب المسكرات؛ فإنها تهيج الدم وتكون

سببًا في قلة نمو الجنين فيأتي صغيرًا وضئيلاً، ولا تُكثر من شرب المنبهات

كالشاي والقهوة.

3-

ينبغي أن تكون أوقات أكلها ونومها مرتبة ومعينة بانتظام.

4-

تلبَس من الثياب والأحذية الواسع الذي لا يضغط الجسم والرجلين،

أما الجسم - لا سيما البطن - فظاهر، وأما الرِّجلان؛ فلأنهما في مدة الحمل يكونان

عرضة للتورم.

5 -

تعتني بتنظيف جسمها، وتجتنب الاغتسال بالماء الحار والبارد؛ وفي

مهاب الهواء كالبحر والنهر، وأفضل الماء للاغتسال ما كانت حرارته كحرارة

الجسم أو تزيد قليلاً.

6-

من أهم النظافة نظافة غرفة المنام وتجديد هوائها، وتعريضها للشمس؛ فإن

استنشاق الهواء النقي ضروري لحفظ الصحة.

7-

من المهمات التي تهملها نساء الأغنياء الرياضة، وهي ركن من أركان

الصحة، وتتأكد العناية بها في وقت الحبل. أما نساء الفقراء فهن مضطرات إلى

الرياضة، وإنما يؤمرن بمراعاة الاعتدال في أثناء الحبل؛ لأن الرياضة العنيفة تضر،

وربما تفضي إلى الإسقاط، على أن اللواتي يعتدن الراحة والكسل أكثر تعرضًا

للإسقاط، وتألمًا من الولادة، فعلى الغنية الوهنانة (الكسلى من التنعم) أن تكلف

نفسها الرياضة المعتدلة ولو بالخدمة في البيت، وأن تمشي أحيانًا في الأماكن النقية

الهواء، وتجتنب العَدْو والوثبان والرقص. ونرى الكثيرات من الحوامل يقضين

معظم النهار مستلقيات، فيستولي عليهم الضجر والسآمة والإقهاء (فقد شهوة الطعام)

والاستلقاء أحيانًا لازم لا سيما عندما تثقل الحامل، وحيث يخشى من الإسقاط.

8-

ينبغي الاحتراز من كل ما يهيج الانفعال الشديد كالخوف والفزع

والحزن، وذلك بالتباعد عن أسبابه، وبالتلاهي والتسلي إذا وقعت الأسباب.

9-

ينبغي أن لا يحسب الحبل مرضًا من الأمراض، فتتوهم صاحبته أن

الأخطار محدقة بها؛ فإن هذا الوهم ربما يضنيها ويؤثر - إذا قوي - في جنينها.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 60

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقاريظ

(دائرة المعارف)

كل مشتغل بالعلوم والفنون تعرض له عند المطالعة أو التأليف مسائل يحتاج

إلى المراجعة عنها في كتبها الخاصة بها، كما يعرض له ألفاظ مفردة لا يعرف

ضبطها أو معناها، فيفتقر إلى مراجعتها في معاجم اللغة، ولا يخفى أن في مراجعة

كل مسألة في كتب الفنون كلفة وإنفاق جزء كبير من الوقت؛ ومن ثم كانت الحاجة

شديدة إلى تأليف كتب في اصطلاحات العلوم والفنون، وأسماء المدن والأمكنة

والمعادن والنبات والحيوان، وتراجم مشاهير الرجال، وقد ألف علماء الإسلام في

كل نوع من هذه الأنواع كتبًا خاصة بها في أيام حضارتهم ومدنيتهم، ثم دالت العلوم

والفنون إلى الغرب فألفوا في ذلك كتبًا شتى، ومنها النوع الذي يسمونه

(إنسكلوبيديا) .

ولما اشتغل أهل المشرق بالعلوم الغربية لم يكن لهم بد من هذا النوع، ولم

ينتدب له من الناطقين بالعربية غير الحسن الذكر والأثر المعلم بطرس البستاني أحد

أركان النهضة العلمية الأخيرة في بيروت، فشرع في تأليف إنسكلوبيديا عربية

سماها (دائرة المعارف، قاموس عام لكل فن ومطلب) وساعده في ذلك ولده سليم

أفندي الذي كان خير مثال له في علمه وفضله وهمته وإقدامه. وبعد أن اخترمت

المنون الوالد ظل يشتغل بها الولد، ثم من بعده لم يؤلَّف إلا جزء واحد هو

التاسع، وتوقف العمل، ولكن بيت البستاني بيت العلم والهمة، وقد انتدب أخيرًا

لإتمام الدائرة منهم العلماء الأفاضل سليمان أفندي ونجيب أفندي ونسيب أفندي

فأصدروا الجزء العاشر على منوال الأصل في الفوائد والرسوم، ويزيد على الأجزاء

السابقة بما زاد في العلم من التحرير والاكتشاف وهو مفتتح بمادة (سليكون) من

حرف السين، ومختتم بترجمة السلطان (صلاح الدين) فنشكر لهؤلاء الأفاضل

سعيهم، ونرجو لهم النجاح والتوفيق لإكمال عملهم، وعسى أن يساعدهم قراء العربية في ذلك بالإقبال على الكتاب.

***

(تاريخ المشرق)

التاريخ من العلوم التي لم تبلغ كمالها إلا في الغرب، ولقد كان أقرب إلى

الأفاكية المسلية منه إلى العلوم المفيدة، فأمسى أعظم مرشد للناس في جميع الشؤون؛

لأنه هو الذي يشرح سير البشر في بداوتهم وحضارتهم، وفي علومهم وآدابهم

وأديانهم وأعمالهم، وما يحتف بها من أحوال معايشهم في كل قطر من أقطار

الأرض. وإن الأمم الشرقية في أشد الحاجة إلى كتب التاريخ المؤلفة على الطراز

الجديد النافع؛ لأنها ركن من أركان التقدم لا يقوم بدونه.

وقد أهدانا حديثًا الكاتب الشهير عزتلو أحمد بك زكي السكرتير الثاني لمجلس

النظار نسخة من ترجمته لكتاب (تاريخ المشرق) الذي ألفه بالفرنسية المسيو

ماسبيرو، وهو كتاب قد جمع على اختصاره ملخص التاريخ القديم لمصر والكلدانيين

والآشوريين والفينيقيين والماديين والفرس، وفيه من الرسوم والخرائط ما تتم

به الفائدة منه، وقد علق عليه جناب المترجم شروحًا في ضبط بعض الأسماء

المبهمة وبيان أصلها وغير ذلك مما لا غِنْية عنه، وقد قدرت نظارة المعارف الكتاب

المترجم قدرَه، فطبعته على نفقتها وأمرت بتدريسه في المدارس الأميرية.

فنشكر لحضرة المترجم فضله عسى أن يكون الشكر سببًا في المزيد.

_________

ص: 61

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحدود بين القطر المصري والسودان

جاء في جريدة الوقائع المصرية ما نصه:

صورة ما صدر من الداخلية لمحافظة النوبة بتاريخ 26 مارس سنة 1899

نمرة 9 إدارة بشأن الحدود الفاصلة بين مصر والسودان.

قد اطلعنا على إفادة حضرتكم رقم 14 مارس سنة 1899 نمرة 19 محاسبة

المتضمنة أنه بناءً على طلب جناب قومندان حلفا، وتنفيذًا للوفاق المبرم بين حكومة

جلالة ملكة إنكلترا والحكومة المصرية بتاريخ 19 يناير سنة 1899 فيما يختص

بالحدود الفاصلة بين مصر والسودان - قد تقرر فيما بين حضرة القومندان المُومَى

إليه وضابط بوليس التوفيقية من جهة، وبين مأمور فرقة أملاك الميري بمحافظة

ذلك الطرف ومعاون بوليس مركز حلفا من جهة أخرى على جعْل نهاية حدود بلاد

السودان شمالاً من الجهة الغربية على مسافة 200 متر شمالاً من البربه بناحية

فرص ومن الجهة الشرقية على البريّة الكائنة بناحية أدندان، وأنه وضع هناك

علامتان مكتوب على وجهة كل منهما الشمالية (مصر) والجنوبية (السودان)

وكان ذلك بحضور عُمد ومشايخ الناحيتين المذكورتين.

ونتج عن هذا أن ناحية فرص التي تتبعت للسودان تُرك من زمامها لمصر 3

أفدنة وقيراطان أطيانًا و58 نخلة، وترك السودان من زمام ناحية أدندان التابعة

لمصر 99 فدانًا و7 قراريط أطيانًا و150 نخلة، وأنه بهذا التحديد دخل حدود

السودان من بلاد المحافظة عشرة بلاد، زمامها 4094 فدانًا و12 قيراطًا و2 سهمًا

أطيانًا بما في ذلك 112 فدانًا و5 قراريط و11 سهمًا أطيانًا غير مربوطة و2206

نخلة ومقدار أهاليها 13138 نفسًا، وأنه بناءً على ما ذكر رأيتم تقسيم البلاد

الباقية من مركزي حلفا والكنوز على مركزين كما كانا حسب الآتي بعد:

أولاً: مركز حلفا يُسَمَّى بمركز الدر ويكون مقره ناحية كروسكو ويتبع له 22

بلدًا من أدندان إلى شاترمه شمالاً، حيث يكون امتداده 152 كيلو متر وزمامه

9117 فدانًا و10 قراريط و8 أسهم أطيانًا و254193 نخلة وتعداد أهاليه 31703

نفسًا.

ثانيًا: مركز الكنوز يسمى بمركز أبي هور ومقره بناحية أبي هور ويتبع له

18 بلدًا تبتدئ جنوبًا من ناحية المضيق إلى ناحية الشلال شمالاً، حيث يكون

امتداده 144 كيلو متر وزمامه 8025 فدانًا و5 قراريط أطيان و110440 نخلة

وتعداد أهاليه 22319 نفسًا.

وهذا حسب المبين بالكشف الوارد مع الرسم النظري على إفادتكم المذكورة،

وقد تصادف ورود مكتوب من نظارة المالية نمرة (5) أموال مقررة بأنها وافقت

على ما ذكر بناءً على الإخطار الذي أرسلتموه لها أيضًا، ولكنها ترى أن مركز

حلفا يكون اسمه مركز كروسكو لا الدر كما رأيتم وأن المديرية تسمى مديرية

(أصوان) وقد أوضحت في مكتوبها علاوة على ما بينتموه في إفادتكم الداخلية

أسماء العشرة بلاد المذكورة وهي نواحي سره شرق وفرص وجزيرة فرص ودبيرة

وسره غرب وأشكيت وأرفين ودغيم وعنقش وديروسه وأن فيها عدا الزمام الذي

ذكرتموه و720 فدانًا، و5 قراريط و8 أسهم أطيانًا من أملاك الميري الحرة،

وحررت لحضرتكم بذلك.

وحيث إننا قد وافقنا أيضًا على هذا التحديد الشامل لعدد البلاد والأهالي

ومقادير الزمام المذكورة مع تسمية مركز حلفا بمركز كروسكو كما رأت المالية

وكاسم الناحية التي سيكون بها وتسمية المحافظة بمديرية أصوان فاقتضى ترقيمه

لحضرتكم بذلك ولنظارات الحقانية والأشغال والمالية للعلم به.

...

...

...

...

ناظر الداخلية

...

...

...

...

(مصطفى فهمي)

_________

ص: 63

الكاتب: أحد أفاضل الكتاب في دمشق ـ الشام

‌الإصلاح الإسلامي

لأحد أفاضل الكتاب في دمشق -الشام

رنّ في هذه الأيام صدى كلمة الإصلاح في هيئة المجتمع الإسلامي لتقويم أوده

وإرجاع سالف مجده، وهي الكلمة التي أصغت لسماعها الآذان حينًا من الدهر،

ورصدت لها العيون ظهورًا في هذا العصر، وقد أخذ نبهاء الكتاب، ممن أوتوا

الحكمة وفصل الخطاب - في سلوك سبل توصل إلى هذا المقصد العزيز، وأناروا

مصباح رأيهم في هذا الميدان الرحيب، الذي ضربت عليه سرادق ظلام الجهل،

وخفيت فيه أنوار العلم والفضل، حتى تاهت في بيدائه العقول وحارت في أرجائه

الألباب، إلى أن أسفر للبعض منهم صبح من الإصلاح سار تحت ضيائه، وأرشد

الكافة إلى نوره وسنائه، والبعض لاح له حباحب يضيء، فظن أنه سيظهر شمسًا،

أو يكون في عالم الإصلاح بدرًا، والبعض رأى ما رأى مما وقفتم عليه في الجرائد،

ولكلٍّ وجهة اتجه إليها، وعول فكره عليها، إلا أن من سبر غور الحوادث وتتبع

سير تقلباتها وتنوع أطوارها - علم أن سيرها على جادة مستقيمة وخطة قويمة ما

كانت تحدث طفرة بل بسير متتابع بعضه خبب وبعضه عنق.

ونحن إذا نظرنا إلى ما اقترحه الكتاب من الأخذ بالأسباب المزعوم بها

الإصلاح وجدنا مقترحهم من نوع الطفرة التي هي محال في سير الزمان وتقلبات

الأحوال، وقد تبرعوا به في غير وقته، وكان الأجدر أن يلتفتوا إلى ما هو أمامه من

العقبات التي تعيق دون الوصول إليه فإذا مهدت ظهر نجاح مقترحهم [1] (لا ندري

من يريد بطالبي الطفرة) .

وما دامت هذه الأطواد الشوامخ حائلة في طريق الإصلاح ولها السيطرة القوية

والنفوذ التام على الخاص والعام فمن المحال الوصول إلى المطلوب إلا بالطريق

الذي سلكت عليه أوربا أول حضارتها، وقد علمتم أسبابه وكشفتم نقابه. وفي مقدمة

تاريخ (شرلكان) ما فيه كفاية للوقوف على نهضة الأمم الغربية من رقدتها، وكيف

زحزحوا العقبات الناشبة في طريق تقدمهم حتى ظفروا ببغيتهم، ولم يتنبه

المعترضون في سبيلهم إلا والقوة كانت في طرف أخصامهم فهبوا إلى إثارة شرار

الشر ضدهم فلم ينجحوا، وخاب مسعاهم فلم يفلحوا، أو بالطريق الذي سلكت عليه

اليابان في تقدمها ونشأة حضارتها إلا أن هذا متوقف على نشاط ملوك

الإسلام وإمدادهم فيه.

فأُولى هذه العقبات عقبة النفع الذاتي الذي يتخلل الأعضاء والجوارح وتنمو

الأجسام عليه حتى صار ملكة راسخة يعسر زوالها ولا يرجى برؤها، وهي أعظم

حائل دون المرام من الإصلاح، وما دامت هذه الروح الخبيثة تتردد في شغاف القلب

وتجول في ميدان اللب، فلا وأبيك نرى إصلاحًا لفسادنا ولا نجاحًا لأعمالنا (إنما

يضر حب الذات الذي تضيع به الحقوق العامة وهذا عرض يزول بالتربية والتعليم

الصحيحين) .

والثانية من هذه العقبات العصبية القومية التي إذا التفتنا إلى جهتها نقضي

لأول نظر باليأس من النجاح في خطة التقدم والفلاح؛ فإن ما نراه ونسمعه من

السعي في إفساد ذات البين الذي جاء الإسلام بحظره وخطره يحملنا على إنكار القول

بإمكان الإصلاح (هذا غلو في اليأس) ولا يخفى أن الأمة الإسلامية وحدت كلمتها

وضمت متفرقها برفع المغايرات الجنسية، فإذا انحلت هذه الرابطة ونظر كل شعب

وقبيل إلى نفعه حكم بتفريقها وتوزيع سلطتها ضرورة كالحبل المؤلف من أجزاء، فإذا

انحلت أجزاؤه ذهبت متانته وتلاشت منه القوة التي يقتدر بها على حمل الأثقال، وقد

استلفت الدين الإسلامي الجمهور إلى التمسك بعروة الإخاء الديني كيلا تتمكن

الدسائس الإبليسية والشهوات النفسانية من حل عُرَاه، وقد أبت السياسة الخرقاء إلا أن

تفرق هذه القبائل والشعوب التي أمر الله بتعارفها وائتلافها لوجهة من السياسة مظلمة

وطريق من التحكم وعر.

وإذا نظرنا إلى تقابل الطوائف الإسلامية التي فرقتها اللغات وجمعها الدين نراه

كالتقابل بين الأمم التي فرقتها الألسن، والأديان ولا يسعنا الحال الحاضر أن نبين

مقدار الانفراج الحاصل بين الشعوب الإسلامية؛ لئلا ينكشف الطلاء.

الثالثة منها الاختلافات الطرائقية والمذهبية، ولا يحقر شأن هذه الاختلافات

التي باعدت بين الأمة وقد أحدثت خللاً عظيمًا يصعب تلافيه.

الرابعة منها السعي في إفساد الأخلاق والآداب من أفراد يعلم شأنهم.

الخامسة منها السعي في انحطاط درجة علماء الدين من أنظار الأمة، وقد أخذ

بعضهم في لومهم لتقصيرهم عن القيام بإرشاد الأمة، وقد ذهل اللائم عن السبب

الباعث على سكوتهم وسكونهم وما هو إلا ما اتُّخِذَ من الحجر على أسباب معاشهم

وحصرها تحت يد مَن يتسنى له تسييرهم على مقتضى أغراضه وأهوائه (تأملوا

أيها العلماء بماذا يدافع عنكم من يعذركم من الأمة فما بال من يعذلكم؟ !) ولم يزل

السعي بتقليص نفوذهم من أنظار الأمة بأسباب معلومة واتخاذ من تشبه بهم من

أراذل الناس في الوظائف؛ لتتسع دائرة التهم عليهم فينحط شأنهم ويسقط سلطانهم.

ويكفي لانحطاط شأنهم ما يلقى في بعض المكاتب العالية إلى التلامذة من بعض

المعلمين من أن علماء الدين هم السد بين الأمة والترقي (ولماذا لا يكذبونهم بفعلهم؟)

وهذا الفكر تلقفوه من الأورباويين وقلدوهم في إطلاقه، وما علموا الفرق بين

سلطة العلماء في الدين الإسلامي وسلطة رؤساء الدين المسيحي؛ فإن من تتبع

تواريخ الأمة الإسلامية لا يقدر على إثبات حادثة تسند إلى علمائه تداخلاً في شؤون

الحكومات إلا ما كان من ضمن دائرتهم، ولم يكونوا في عصر ما حاجزين الناس عن

تعلُّم ما يفيد في معاشهم ومعادهم (في هذا نظر ظاهر إلا إذا أراد الحجز بالقوة

وليس من شأنهم) والتصانيف العديدة في أنواع العلوم والمعارف شاهدة (أين

مصنفات علماء هذا العصر من الفنون؟ !) وإعطاء حرية الأفكار ضمن صحائفها

مما يعلم به درجة التقدم، وثمة عقبات وسدود أرجأتها لوقت آخر.

...

...

...

...

(م. ع. م)

(المنار)

لقد جمعت هذه المقالة على إيجازها ما لم تجمعه المطوَّلات التي كُتبت في

موضوعها، لكن فيها إجمالاً وإبهامًا لا بد معهما من بعض البيان والتفصيل.

أشار الكاتب إلى أن للإصلاح طريقين اثنين لا ترتقي أمة إلا بأحدهما أو

كليهما. ذلك بأن الارتقاء إما أن يكون من قبل الأمة كارتقاء أوربا، وإما أن يكون من

جانب الحكومة كارتقاء اليابان التي نهض بها إمبراطورها (الميكادو) نهضة واحدة

وقد أشار الكاتب إلى هذا بقوله: (إلا أن هذا متوقف على نشاط ملوك الإسلام

وإمدادهم فيه) ، وكان الأَوْلى أن يقول: متوقف على نهوض ملوك المسلمين وأمرائهم

وقيامهم به. وأما الأول فقد بينه بعض البيان بذكر العقبات الخمس. ذكر خمس

عقبات وسكت عن بعض العقبات والسدود أو أرجأها، ولكنه أهمل بيان الأطواد

الشوامخ التي يسهل بالنسبة إليها كل حَزَن وتقتحم كل عقبة.

تلك الأطواد مؤلفة من سلسلتين عظيمتين، وهما: رجال الدين، ورجال

الحكم والسلطان. فقد كان الفريقان متحدين في أوربا على مقاومة: كل ما يسمى

علمًا واكتشافًا واختراعًا وحرية وعدالة ومساواة، وإن شئت قلت: مقاومة كل ما

يصرف قلوب الناس عن العبودية لهما ويجعلهم مستقلين في إدارتهم كاملين في

إنسانيتهم. أما رجال الدين، فكانوا يعادون بالعقل والعلم ونتائجهما باسم الدين وكانوا

يزعمون أن كل علم أو عمل لم ينطبق على ما في كتبهم الدينية - فهو كفر وإلحاد،

ومن جاء به مباح الدم والمال. وكان الملوك والحكام تبعًا لهم ومنفذين لإرادتهم، وما

ذلك إلا لأن الفريقين كانا مشتركين في تلك السلطة المطلقة والمشيئة النافذة، وما كانا

يقابَلان به من الخضوع الأعمى والطاعة التامة. نعم، كانوا يعادون العلم؛ لأنهم

جهلاء، والناس أعداء ما جهلوا، فلما علموا صاروا أنصار العلم وأعوانه، كانوا

يرون أن العلم يصدهم عن حفظ الدين، فصاروا يعتقدون أنه لا يمكن حفظ الدين

وإبقاء شرفه إلا بالعلم؛ ولذلك ترى نظار المدارس وأكثر أساتيذها من الرهبان

والقسيسين، بل معظم المدارس في الغرب والشرق للجمعيات الدينية، وهل الترقي

إلا بالمدارس وفي المدارس ومن المدارس. فمبدأ ترقي أوربا الإصلاح الديني

وإمام المصلحين فيها هو الرجل العظيم (لوثر) .

ونتيجة هذا كله أن الإصلاح الإسلامي يتوقف قبل كل شيء على إقناع العلماء

ورجال الدين بأن العلوم الرياضية والطبيعية - التي هي محور الثروة والقوة والعزة -

ضرورية لا مندوحة عنها، ويجب أن تُعلم مع الدين وأن يقوم بتعليمها رجال الدين؛

لأن تركها للمدارس الأميرية والأجنبية التي يقولون: (لا دين فيهما) - يجعلها

خاصة بمن لا دين لهم وهؤلاء لا يرجى منهم خير للأمة والملة ولا يسقط الوجوب

بهم، وتركها بالكلية مُذهب للدنيا والدين؛ إذ الدين لا يمكن حفظه إلا بالدنيا فتعين

أن يجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا (الرياضيات والطبيعيات) .

وإن الشريعة الإسلامية تصرح بأن تعلم الصناعات التي يحتاج إليها البشر في

معاشهم واجبة على مجموع الأمة، وأن ما يتوقف عليه الواجب المطلق كالجهاد واجب

أيضًا، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الجهاد والصناعات ممكنة بغير هذه الفنون،

مع هذا كله نجد أكثر رجال الدين عندنا يعادون هذه الفنون وأهلها بل يكفرونهم،

ومنهم من عمي عن الوقت والزمان فزعم أنها لا حاجة إليها ألبتة. ومن العجيب أن

فقههم يقتضي أن تعلُّم الفنون العسكرية التي يتوقف عليها الحرب - فرض عين في

أكثر البلاد الإسلامية وهذا الحكم الذي لا نزاع فيه بينهم يستلزم أن جميعهم فساق

تاركون للفريضة، وربما يستلزم أكثر من هذا لا سيما باستحلال هذا الترك.

هذا وإن هناك عقبات أخرى في طريق الإصلاح دخلت على الأمة من خروق

وكوى فتحت في جدار الدين، فإذا لم تسد هذه الخروق والكوى فإن الإصلاح يكون

كالعلاج مع تناول الأغذية المضرة، وقد أخذنا على نفسنا الدأب في هذا العمل

الشريف طول حياتنا، ولنا الرجاء في عقلاء العلماء أن يوازرونا ويعضدونا ولا بد

أن ينتهي هذا الجهاد بانتصار الحق وانكسار الباطل والعاقبة للمتقين.

وأما السلسلة الأخرى (الأمراء والحكام) فإنها لا تغلب إلا بالعلم فهي تستبد

في الأمر وتستعبد الرعية ما دامت الرعية جاهلة خرقاء، فإذا علمت ما لها وما عليها،

وصارت رشيدة عاقلة؛ يرتفع الحجْر والاستبداد بالطبع. ولله در السيد جمال الدين

الحكيم الإسلامي الشهير حيث كان يقول: (إن العاقل لا يظلم لا سيما إذا كان أمة) ؛

ولهذا نقول: إن المطالِب بالإصلاح قبل كل أحد العلماء وهذا. هو المراد بكونهم

ورثة الأنبياء. وكل العقبات التي ذكرها الكاتب الفاضل تزول بإرشادهم وإصلاحهم إذا هم قاموا به على وجهه إن شاء الله تعالى.

ثم إن لنا كلامًا في العقبة الخامسة: وهو أن ما ذكره من السبب في سكون

العلماء وسكوتهم عن الإرشاد صحيح إلا أنه لا ينهض حجة شرعية ولا عقلية على أنه

عذر لهم عند الله والناس، إلا إذا كانت الرشوة حجة على عذر المرتشي إذا هو ظلم

وضيع الحقوق، نعم، إن الحكومة استمالتهم إليها بجعل معاشهم من الأوقاف في

قبضتها، وبإعطائهم الرتب والوسامات حتى أذعنوا لباطلها وسكتوا على انحرافها

عن جادة الشرع، بل صاروا يمدحونها ويعظمونها تملقًا ونفاقًا حتى سقطوا من

عين الأمة والحكومة معًا، وضعف نفوذهم فيهما، ولو وقفوا عند الحدود المشروعة

وقاموا، بوظيفتهم المقدسة مع مراعاة الحكمة لزادهم الحكام والمحكومون تعظيمًا

وتبجيلاً، ولكل هذا أمثال مشهودة لا يستطيع أحد إنكارها.

ثم إن جماهيرهم مُعْرضون عن معرفة أحوال الوقت في غيبة عما يحتاجه

الناس وعن طرق الوصول إلى تلك الحاجات بحسب الزمان والمكان، ولذلك صار

الناس لا يشعرون بأن لهم حاجة إلى العلماء إلا في مسائل شاذة نادرة. ويسهل

عليهم أن يختبروا حال الأمة بالامتزاج بالعامة وتقصي أمورها المعاشية والدينية

والأدبية والوقوف على رغائبها ثم إيقافها على ما تحتاج الوقوف إليه من الطرق

التي يوافق رغائبها ويسهل عليها سلوكها.

عند هذا تشعر الأمة بشدة حاجتها إليهم فتزيد في تعظيمهم وتبجيلهم وإكرامهم

ولهذا أيضًا أمثلة مشهودة لا يستطيع إنكارها إلا من يكابر الحس وينكر الموجود. من

فهم هذا يتجلى له أن المنار قد خدم العلماء وتعمَّل في زيادة تعظيم شأنهم؛ حيث قد

ألقى معظم تبعة الأمة عليهم؛ لأن أكثر الناس كانوا يظنون أنه لا شأن لهم في

الإصلاح، كما أنه خدم الحكام بعدم حصر التبعة فيهم كما كان يعتقد السواد

الأعظم، وما أقصد بهذا وذاك إلا بيان الحق والإصلاح من طريقه، والله عليم

بذات الصدور.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كل ما كُتب بين قوسين في هذه المقالة فهو عن لسان المنار.

ص: 65

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تأثير الوعظ والتذكير

كان منشئ هذه الجريدة جالسًا يومًا من أيام رمضان في مقصورة ضريح سيدنا

الحسين عليه السلام والرضوان) وبجانبه شيخ من أكبر علماء القطر المصري

فنظرنا إلى القوم الذين يُقبّلون الأرض وقفص النُّحَاس الذي على القبر ويستغيثون

ويطلبون حاجاتهم، فقرأ الشيخ:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: 52) وأشار إليهم، فقرأت أنا:{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: 53) ثم قلت له: ما بالكم - معاشرَ العلماء - ساكتين على هذه

المنكرات وقد وصلت إلى هذا الحد؟ ! فقال: إن الزمان قد فسد فلا يلتفت الناس إلا

إلى الباطل. قلت: إن الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه، فإذا تصارع هو والباطل

وثبت - فلا بد أن تنتهي المصارعة بالغلب له، فقال:(إذا ثبت!) قلت: وما

يمنعه من الثبات؟ ! قال: إن المشتغلين بالوعظ المضر والتعليم الممزوج بالخرافات

يسعون في منع من يُعلِّم تعليمًا صحيحًا ويَعِظ وعظًا نافعًا، ويساعدهم من يتصلون

به من الكبراء، ويطعنون بالواعظ الصادق المطاعن الدينية والسياسية. قلت له:

على كل حال يجب على صاحب الحق أن يُظهره حتى يُمنع، ويجاهد به جهادًا

كبيرًا أو يُغلب على أمره. قال الشيخ: لو تصدّى عالم لقراءة التوحيد الصحيح

والأخلاق لا يُقبِل عليه الناس؛ ولكنهم يقبلون على القُصّاص الذين يوافقون

أهواءهم. قلت: الأمر يخالف ذلك؛ فإن حوادث الزمان قد أعدت النفوس إلى

قبول الحق وطلب الإرشاد الذي ينتاشهم من هذه المهاوي وينقذهم من هذا

الشقاء، وإنني قد بلوت الناس فألفيتهم كما حدثتك، وها أنا ذا أقرأ درسًا هنا وقد

أقبل عليَّ الناس إقبالاً لم يكن يُنتظر، وصاروا يتحدّثون من أول يوم بنفعه، حتى

قال بعضهم: لو أن عندنا مائة مدرس كهذا لما حلَّ لنا ما نحن فيه من الرزايا. قال

الشيخ: وهل أقبلوا عليك كما يقبلون على فلان؟ فنقول إن التعليم النافع يروج كما

يروج غيره مثلاً؟ ! قلت له: لا، ولكن السبب في زيادة إقبالهم على فلان ليس هو

تفضيل تعليمه، ولكنهم اعتادوه بطول الزمن مع موافقته لرغائبهم كما قلتم، وأنا أرجو

أن يرجحوا جانب الحقيقة الذي فيه مصلحتهم على جانب التمويه الذي فيه لذّتهم إذا

وجد من يُمَيِّزُ ذلك لهم.

هذا ما دار بيننا من المحاورة والتَّجْرِبَة تشهد لما قلته آنًا بعد آن، وإليك هذه

الواقعة التي حدثت في هذه الأيام.

قام أحد الشيوخ في هذه الأيام يرغِّب الناس في الحج في مديرية الشرقية

ويحثهم على أدائه في هذا العام فجوَّل في مديرية الشرقية بهذا الوعظ، فأثّر في نفوس

الناس حتى استسهلوا المصاعب واستخفّوا بالنوائب وارتكبوا معصية الربا الفاحش

فاستدانوا ورهنوا أملاكهم للدائنين ثم استأجروا منهم الفدان الواحد بأربعة جنيهات؛

فكان مجموع الفضل الذي أُخذ منهم عشرين في المائة وهو ربا لا يصح في شرع

ولا قانون، ارتكبوا هذه الكبيرة عالمين بأن في بعض البلاد الحجازية وباءً يُخشى

أن يعلق بهم مكروبه وتلحق بهم كروبه ومستيقنين أن النفقات في هذا العام تكون

مضاعفة، كما أن أثقال السفر ومشقاته مضاعفة، وربما كان بعضهم يعتقد أن زيادة

الأجور والنفقات عن قدر الاعتدال تُسقِط الوجوبَ عن المستطيع.

لماذا حمل هؤلاء هذه الأوزار والأثقال وأقدموا على هذه الأعمال؟ ! أليس

إجابةً لداعي الوعظ الذي حملهم عليه العالم باسم الدين؟ ! بلى، قد امتثلوا أمر

الواعظ ولم يلتفتوا إلى قول الشاعر:

إذا حججت بمال أصله دنس

فما حججت ولكن حجت العيرُ

لا يقبل الله إلا كل طيبة

ما كل مَن حج بيت الله مبرورُ

فإذا كان قول العلماء يقبل بمثل هذا، وتنتهي طاعتهم إلى هذا الحد؛ فماذا يكون

من أمرهم إذا أنشأوا يبيّنون للناس طرق سعادتهم في دينهم ودنياهم من الوجوه التي

تتغذى بها عقولهم وتتشرَّبها نفوسهم وقلوبهم؟ ! لَعَمْرُك، إن الأمة تنهض بذلك

نهضة الأسود؛ فتحفظ موجودًا، وتسترد مفقودًا، وتنال عند الله مقامًا محمودًا.

_________

ص: 72

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عبرة لمن يعقل

كان أحد أعيان الشرقية الأغنياء مغرمًا بحب الأولياء. معتقدًا بركاتهم ملتمسًا

لنفحاتهم. وكان يرى أن أفضل ما يتقرب به إليهم المتقربون. ويستحق به رفدهم

ونوالهم الطالبون - إنما هو الاحتفال بموالدهم وإنفاق الأموال في معاهدهم. فكان

يشد في كل سنة إليها الرِّحَال وينفق بَدر الأموال، حتى إنه كان يُسَيِّرُ إلى مولد

السيد البدوي مائة وسبعين راحلة. وإلى مولد البيومي مثل هذه القافلة. ويضرب

في تلك المعاهد الخيام ويذبح لإقراء الضيوف الأنعام حبًّا في أولئك السادات.

وتعرضًا لتلك الفيوضات. وما كان ريع أرضه الواسعة الخصبة ليفي بنفقاته وبهذه

القربة؛ ولذلك كان يستدين النقود من بعض صرافي اليهود. وأنت تعلم أن شعب

إسرائيل لا يقنع بالرباء القليل. فما زالت تلك البركات الوهمية. والفيوضات

الخيالية تمحق بالرباء أمواله. كما تُحبط بالمعاصي أعماله. حتى جعلته أفقر أهل

زمانه. وأمسى الصراف اليهودي يتمتع بمائتين وثمانين فدانًا من أطيانه، ولم يزل

ذلك الأحمق السفيه حيًّا يعيش في حجر أخيه!

فهذه الواقعة الحقيقية تفيد أحد أمرين: إما أن الأولياء - كسائر الأموات - لا

يملكون للناس (ولا لأنفسهم) ضرًّا ولا نفعًا لا بالذات ولا بالواسطة والشفاعة، وإما

أن الاحتفال بالموالد يُغضبهم ولا يرضيهم ويسوءهم ولا يسرهم؛ فلذلك يتصرفون

بفاعله أسوأ التصرف. ويتوسلون إلى الله أن ينتقم منه أشد الانتقام. فليتبصر

المسرفون في أمرهم الذين ذهبت الاعتقادات الفاسدة بدينهم ودنياهم. وليخش الله

أهل العمائم الذين يؤولون لهم بأنهم لا يعتقدون أن للولي قدرة يقدر بها على النفع

والضر فيكونون وثنيين مشركين وإنما يعتقدون أن البركات تنزل عليهم من عند الله

تعالى؛ فتزيد في أرزاقهم وأعمارهم وتشفي مرضاهم بواسطة الولي الذي يعظمونه

ويحتفلون في مولده، وليرجعوا بالمسلمين إلى السنة الصحيحة وسيرة السلف

الصالح؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عِمارة القبور وعن تعظيمها، وما

كان السلف يعرفون شيئًا من هذه البدع، وما كان يخطر ببال أحد منهم أن يوسّط

ميتًا في قضاء حاجته، كما سبق لنا تفصيل ذلك غير مرة.

_________

ص: 74

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إحصاء الأوقاف

في يوم الأحد الماضي احتفل ديوان الأوقاف العمومية هنا بافتتاح محله

الجديد الذي شيده في باب اللوق تابعًا لوقف المرحوم عباس باشا الأول.

وشرف هذا الاحتفال مولانا الخديوِ المعظم عباس باشا الثاني. وفي خلال

الاحتفال رفع سعادة فيضي باشا مدير عموم الأوقاف - خلاصة تضمنت إحصاء ما

جدده الديوان وعمَّره من المباني منذ سنة 1893 إفرنجية إلى الآن وهو العهد الذي

تولى هو إدارة الديوان فيه عقيب تولي الجناب الخديوي المعظم أريكة الخديوية

والنظر على الأوقاف، فكانت كما يأتي:

10200

مساجد وملاجئ خيرية إنشاءً.

100

... مساجد وملاجئ خيرية ترميمًا.

10300

جملتها.

90

... عمارات ريع إنشاءً.

2750

عمارات ريع ترميمًا.

ــ

2840

جملتها

60

... مباني زراعية إنشاءً.

300

مباني زراعية ترميمًا.

ــ

360

جملتها.

4230

جملة جميع المباني التي عُمرت.

وتلى ذلك إحصائية عامة شاملة لواردات ونفقات الأوقاف من تاريخ تولية الجناب الخديوي (سنة 1892) إلى هذا العهد مع فوائد أخرى كما ترى.

باب الإيرادات

...

إيرادات

...

إيرادات

جملة

...

الأوقاف الخيرية

... الأوقاف الأهلية

جنيه

...

جنيه

...

... جنيه

190735

... 153775

...

36960

سنة 1892

223114

... 178487

...

44627

سنة 1893

255131

... 205451

...

49680

سنة 1894

293841

... 238941

...

54900

سنة 1895

326097

... 236962

...

89135

سنة 1896

350644

... 221474

...

129170

سنة 1897

344303

... 213112

...

131190

سنة 1898

فيظهر مما تقدم أن الفرق بين إيرادات سنة 1892 وبين سنة 1898 هو الآتي:

... سنة

... سنة

الفرق

... 1892

... 1898

153568

190735

344303

مصروفات ديوان عموم الأوقاف من سنة 1892 إلى سنة 1898:

جملة

...

... مصروفات الأوقاف الخيرية

إقامة الشعائر حفظ وترميم

مصاريف

مصاريف

المساجد والأملاك عقارية وزراعية الإدارة العمومية

جنيه

جنيه

جنيه

جنيه جنيه

117129 47774 20378 16010 32967

... سنة 1892

172472 44354 42772 49665 35681

... سنة 1893

206518 51528 74143 43521 27326

... سنة 1894

197882 50125 54487 53493 39777

... سنة 1895

234402 58644 46742 73296 55720

... سنة 1896

194532 50919 34785 38134 70694

... سنة 1897

185847 56759 31124 38470 59494

... سنة 1898

فيظهر أن الفرق في المصروفات بين سنة 1892 وببن سنة 1898 هو الآتي:

... سنة

... سنة

الفرق

... 1892

... 1898

جنيه

... جنيه

... جنيه

8985

47774

56759

إقامة الشعائر.

10746

20378

31124

حفظ وترميم.

22460

16010

38470

مصاريف عقارية وزراعية.

26527

32967

59494

مصاريف الإدارة.

_________

68718

117129 185847

بيان الأملاك التي اشتراها ديوان الأوقاف من سنة 1892 لغاية سنة 1898:

...

من

... من

جملة

...

أموال البدل

زائد الإيراد

جنيه

... جنيه

جنيه

فدان

153784 25212 128572 أطيان شباس والصافية 3417

102968 36417 6651

أطيان قلين والبكاتوش 4000

28152

6120 22032 أطيان المنشأة الكبرى 662

51657

33552 18105

أطيان الشناوية

854

26848

...

26848

مباني وأراضي فضاء

_________

_________

...

363409

... 101301

262108

8933

بيان الباقي للأوقاف الخيرية من النقود الموجودة بالخزينة لغاية سنة 98 تحت استعماله في صالح مصلحة الأوقاف

جنيه

27332

من زائد الإيرادات.

34668

من أموال البدل.

62000

الجملة.

بيان تقدير ميزانية إيرادات ومصروفات الأوقاف سنة 1899

جنيه

...

... الإيرادات

210500

الأوقاف الخيرية.

14000

الأوقاف الأهلية.

_________

350500

المصروفات

مصروفات الأوقاف الخيرية

63327

إقامة الشعائر

18435

حفظ وترميم المساجد والأملاك عدا الإنشاء.

38449

مصاريف عقارية وزراعية.

53648

مصاريف الإدارة العمومية.

_________

173859

بيان عدد الأوقاف التي يديرها الديوان وعدد المساجد والتكايا والمكاتب

والمستشفيات وعدد الخدمة القائمين بالعمل

عدد

...

... الأوقاف

1707 أوقاف خيرية

176

أوقاف أهلية

1362 مساجد وزوايا وأضرحة

20

تكايا

37

مكاتب

2

مستشفيات بالأزهر وب قلاوون

5200 خدمة إقامة الشعائر.

815

خدمة الإدارة العمومية.

بيان النقدية الموجودة بخزينة ديوان الأوقاف لغاية يوم الأحد 2 أبريل

سنة 1899 أي يوم الاحتفال بمحل الديوان الجديد

جنيه

878

ورق بون

150592

نقود

151470

الجملة

_________

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تنازع الدول الأوربية

على الممالك الإسلامية

(تابع)

أشرنا في عدد سابق إلى تنازع الدول الأوروبية على الممالك الإسلامية

وخصصنا بالذكر وداي وبرنو وعمان، وقد كتبنا ملخص ما جرى في شأن هذه

الممالك وفاتنا أن ننشره في العدد الأسبق وهو:

أما عمان فقد انتهى النزاع فيها الآن ورضيت إنكلترا بأن تأخذ فرنسا محطة

في ميناء مسقط بشرط أن لا تضم إليها أرضًا أخرى؛ وذلك بعد أن أجبرت أمير

مسقط على الرجوع بقوله فرجع. وأما وداي فقد جاءنا البرق من أيام بخبر اتفاق

الدولتين أيضًا في مسألة بحر الغزال، وهو:

(من لندرا في 22 مارس - أُمْضِيَ أمس الاتفاق بين إنكلترا وفرنسا فكان

ذيلاً ملحقًا باتفاق النيجر. وقد أخذت إنكلترا بموجبه بحر الغزال ودارفور وأخذت

فرنسا وادي وبقرمي والبلاد الواقعة شرقي بحيرة تشاد وشماليها، واعترفت إنكلترا

بأن الأراضي التي في غربي الخط الممتد من جنوبي كانين على طول صحراء ليبيا

حتى الدرجة 15 من خطوط العرض الشمالي واقعة في منطقة النفوذ الفرنسوي، وقد

اتفق الفريقان على أن الحقوق التجارية بينهما متساوية في الجهات التي بين النيل

وبحيرة تشاد من الخط الخامس من خطوط العرض إلى الخط 15، فصار بذلك لفرنسا

منفذ إلى النيل. وقد تعاهدت الدولتان على أن لا تدعي واحدة منهما بحقوق سياسية

أو ملكية في الأراضي الخارجة عن الحدود المرسومة في هذه العهدة) .

مساحة وداي وبقرص نحو 172 ألف ميل مربع وسكانهما نحو الثلاثة ملايين

ومساحة كانم 30 ألف ميل مربع وسكانها مائة ألف نفس.

وفي الجوائب الأخيرة أن الدولة العلية احتجت على هذا الاتفاق؛ لأنه يمس

حقوقها لا سيما في طرابلس الغرب.

جاء في رسالة برقية من طنجة أن حكومة مراكش خنعت لبلاغ ألمانيا؛

فدفعت التعويض الذي طلبته منها وهو 60 ألف مارك.

_________

ص: 80

الكاتب: رفيق بك العظم

‌الإصلاح الإسلامي

بعدل القوام

أو التكافل العام

لحضرة الكاتب الفاضل صاحب الإمضاء

قضت سنن الوجود المدني منذ فطر الله الإنسان على حب الاجتماع - أن تشد

أواخي الألفة العمومية بنظام شامل تطمئن إليه النفوس الخيِّرة وتتلاشى دونه الأهواء

النزَّاعة إلى الشر، ومناط ذلك النظام إنما هي الشرائع المؤسسة على العدل المبنية

على أساس المصلحة العامة دون أن يخالطها شيء من الحشو التابع لأغراض

النفوس، وإنما تتكفل هذه الشرائع بسعادة الأمم واستمرار نظام الألفة بأحد شرطين:

عدل القوام أو تكافل الأقوام. ومتى فقد هذان الشرطان امتنع الانتفاع بالشرائع مهما

كانت في نفسها عادلة، وتعذر التأليف بين النفوس المتغالبة والعناصر المتباينة،

وناهيك بما ينشأ عن فقد الألفة من التعطيل في سائر ما تدعو إليه الحضارة ويتطلبه

الاجتماع، كما يؤيده الاستقراء ويشهد به الحس في كل عصر وعند سائر الأمم.

وهذه صفحات التاريخ الاجتماعي تنبئ عن جميع الدول الغابرة والشعوب

الماضية كالفرس واليونان والرومان وغيرهم من جماعات الإنسان ودول الحضارة

التي كان يتناوبها الشقاء والسعادة بنسبة حال قوام الشرائع وحفاظ القوانين، وفي

النظر إلى تاريخ الإسلام ما يغني عن التوغل في العصور القديمة والأمم البائدة؛

فإن الشريعة الإسلامية في صدر الإسلام لما كانت قائمة على أساس التكافل العام

بلغت بالأمة مكانة من الألفة الاجتماعية ضمت تحت كنفها مئات الملايين من البشر

كانوا في أبسط أطوار المدنية الإسلامية أنعم حالاً وأرقى نظامًا وأعظم قوةً ومجدًا من

سائر مَن أقلتهم يومئذ الغبراء وأظلتهم السماء، حتى بلغ من الشعور عند المسلمين

بمنافع قيام شرائع الإسلام على أساس التكافل العام - أن بني أمية لما حاولوا حل

عُرى هذا النظام وتفريق ذلك الالتئام رغبة بالاستئثار بالسلطة بما كانوا يدسُّونه على

المسلمين دون علم الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه وسرى ذلك في أفكار الأمة

سريان الشرارة الكهربائية في سائر الأقطار الإسلامية - هب الناس من مضاجع

الراحة منكفئين على المدينة المنورة من كل صوب يطالبون عثمان رضي الله تعالى

عنه بكف يد المستأثرين من عشيرته وقومه عن التسلط المطلق على النفوس

والأموال ثم استحكم أمر الفتنة وفعلوا به ما فعلوه مع أنه - علم الله - كان بريئًا من

تبعة فعل الأمويين، ولكن لا حيلة لتسكين الأفكار العامة إذا اندفع تيارها وتأججت

نارها، لا سيما وإن ما أتاه بنو أمية يومئذ من المبالغة في الاستئثار بمصالح

المسلمين - كان أهم دواعي الجرأة على هتك حرمة الخلافة وزوال هيبة عثمان

رضي الله تعالى عنه من نفوس المسلمين بخلاف ما كان عليه الحال على عهد عمر

بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من الاطمئنان الشامل والتكافل العام، بحيث لم

يكن من ذوي العصبيات في الإسلام مَن تحدثهم النفس بأدنى عمل من شأنه الإخلال

بقاعدة التكافل مهما بلغ بهم الأمر من حب الأثرة والميل إلى التسلط، وأين حادث

عثمان رضي الله عنه من حادث خالد بن الوليد لما كان في أرمينيا يقود خمسين ألف

مقاتل، كلهم طوع إشارته، وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ما كدّر

خاطره عليه فأرسل إلى أبي عبيدة في الشام أن استدعِ إليك خالدًا وسلْه عن الأمر

الفلاني فإن أقر فأقم عليه حد الشرع، وإن أنكر فابعث به إليَّ مع الرسول مقودًا

بعمامته. فاستدعاه أبو عبيدة إلى الشام وأبلغه أمر أمير المؤمنين أمام جماهير

المسلمين، فسمع وأطاع ثم ذهب مع الرسول قاصدًا المدينة المنورة دون أن ينبث

ببنت شَفَة؛ فإن هذه المبالغة بالطاعة والخضوع من مثل خالد بن الوليد وهو مَنْ

علمت مقاتل أهل الردة وفاتح العراق العربي والشام وأرمينيا - تدل على أن هناك قوة

أسمى من هيبة الخلافة في نفوس المسلمين، وهي قوة التكافل العام في حفظ

شرائع الإسلام، وقد كان منها على كل نفس رقيب عتيد يحمل سائر المسلمين على

معرفة الحقوق والواجبات التي تُلزم كل فرد منهم بالوقوف عند الطاعة والامتثال لأمر

الخليفة، ما لم يمس جانب الشرع أو يخل بنظام ذلك المجتمع الإسلامي العظيم، ولا

يخفى ما في هذا من نفوذ كلمة الخليفة وسلامة حياة الأمة.

هذا ومع ما عقب حادث عثمان رضي الله تعالى عنه من قيام الفتنة التي مهدت

لبني أمية سبيل الاستيلاء على الدولة والانفراد بالسلطة - فقد راعى بنو أمية أمر

التكافل في قيام الشريعة لارتباطها بقيام الملك، وكان قُوام الشرع بعدُ محافظين أشد

المحافظة على شرط العدل حتى تسنى للأمويين أن ساسوا الأمة سياسة أنتجت بسط

السلطة الإسلامية على معظم أنحاء المعمور. ولما أفضى المُلك إلى بني العباس

ورأى الخليفة السفاح وهو أولهم ما دخل على قاعدة التكافل العام من الفساد لاختلاط

الأمر باختلاط العناصر الداخلة في الإسلام - اتخذ له وزيرًا أبا سلمة حفص بن

سليمان؛ ليستعين به على بسط جناح العدل والمراقبة العامة، فكان أول مَن لُقب

بالوزير في دولة الإسلام، وكانت وزراته يومئذ وزارة تنفيذ لا وزارة تفويض، فلم

تستقم بها الأمور للدرجة التي تقوم مقام التكافل العام وما زالت كذلك حتى قيام

الرشيد بأعباء الخلافة الإسلامية، حيث رأى أن الأقرب لقاعدة التكافل والأحسن في

تنظيم شؤون الدولة وسلامة أحكام الشرع - أن يجعل الوزارة وزارة تفويض تكون

مسؤولة أمام الناس والخليفة عن نتائج كل عمل تعمله في الدولة، وكان ذلك كذلك.

ووزارة التفويض هذه هي بمثابة ما يسمونه الآن الوزارة المسؤولة عند

الحكومات المعتدلة؛ لأن من مقتضاها أن يفوض إلى الوزير تدبير الأمور بنفسه

وإمضائها باجتهاده، وأن يقلد وزارة الحرب والمظالم وغيرهما من شاء أو يتولى ذلك

بنفسه وبالجملة فقد قال العلماء فيها: إن كل ما صح عن الإمام صح عن الوزير إلا

في أمور ثلاثة استثنوها لتعلقها مباشرة بالخليفة. ووجه جواز هذه الوزارة في

الإسلام مأخوذ من قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ

أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه: 29-32)

قالوا: فإذا صح مثل هذه الوزارة في النبوة فهي في الخلافة أولى.

ومنذ تأسست هذه الوزارة في دولة الإسلام أثرت في نظام الدولة آثارًا صالحة

دعت إلى ترقي الأمة في معارج التمدن ترقيًا ما زال ولن يزال مسطَّرًا على

صفحات الوجود إلى الأبد، ومن ثم أصبحت وزارة التفويض في الإسلام - بما

ارتبطت به من المسؤولية أمام الراعي والرعية - من أهم دواعي العدل عند قوام

الشريعة وحفاظ القوانين، ثم ما زالت تُجرَى عليها القوانين وتدون لها الدواوين على

أشكال شتى تترقَّى بترقِّي الدول الإسلامية وتتدلَّى بتدليها حتى استحكمت الصبغة

الأعجمية في الدول الإسلامية، وغلت يدي الوزارة وقيدتها بقيود الاستبداد المطلق؛

فانمحت آثار العدل الصالح من تاريخ الوجود الإسلامي، وزاغ قوام القانون عن

مناهج الاستقامة أجيالاً عديدة، لا يبالون بما يفعلون ولا يحذرون غائلة عدو ربما

يغتنم فرصة هذا الخمود المطلق والضعف المستمر، ولكن الدول الأخرى كانت يومئذ

أضعف حالة وأشد جهالة، ثم ظهرت بوادر النهضة الغربية وأخذت تنكفئ قوى

المدنية الجديدة على أنحاء المشرق تتزاحم فيها بالمناكب وتخترق الأمم وتسلب حرية

الشعوب وحاول منذ ذلك الحين - بعض قوام الشريعة والقانون وسُوَّاس الأمة أن

يتداركوا هذا الخطر المحدق، ولكن بوسائل بطيئة السير عديمة النفع؛ لابتعادهم فيما

حاولوه عما قام عليه الإسلام، وصِين به نظام الأمة وهو التكافل العام وعدل القوام،

وهما الركنان اللذان قامت على دعائمهما دول الإسلام ولا تحيا إلا بحياتهما الأمم

وإنما أصاب المسلمين ما أصابهم من التقهقر ودخل على دولهم الضعف بضعف

هذين الشرطين، كما رأيت لا بضعف القانون أو حاجة الأمة إلى وضع أوضاع

جديدة أو تراتيب مفيدة في نظام الأمة وانتظام شؤون الدولة؛ إذ لو كان يغني وضع

القوانين وتدوين الدواوين عن هذا التقهقر المريع والضعف السريع - لأغنت

الشريعة الإسلامية نفسها وهي أعدل ما جاء من الشرائع وأعظمها مرشدًا لمصالح

البشر هاديًا لطرق السعادة وإنما هي تغنى عن ذلك بعدل قوامها، وهذا مفقود بفقد

المسؤولية، ولا يفيد دون هذه وضع الأوضاع العقلية والمنشورات السياسية بل

هي تكون كخط على ماء أو نقش في هواء. والله يهدي من يشاء إلى صراط

مستقيم. اهـ

...

...

...

...

... (رفيق)

...

...

...

(استدراك المنار)

يريد الكاتب الفاضل بقوله: (التكافل العام) . معرفة مجموع الأمة بحقوقها

العامة ومصالحها المشتركة معرفة صحيحة تحملهم على الاتفاق على حفظها

وصيانتها، بحيث إذا عبث بها عابث أو نال منها ظالم ينفعل ذلك المجموع ويهبّ

للذود عنها وحفظ كِيانها، وهذا الأمر هو روح سياسة الإسلام. وقد بيناه في

المقالة التي تكلمنا فيها عن السلطتين - الروحية والسياسية - وفي مقالات (الخلافة

والخلفاء) وغيرها، ولكن هذا الروح الشريف الذي جاء به الوحي عاش به الخليفتان

أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقرراه بعملهما في نفوس المسلمين حتى كاد يكون

عامًّا، وظهر أثره في زمن عثمان عليه الرضوان فنسل الناس إليه من كل حدب

يلقون عليه تبعة ظلم عُماله، وبرهن لهم على احترامه سلطة الشعب واعترافه

بسيطرته اللتين جاءتا من ذلك الروح بقوله على المنبر: (أمري لأمركم تبع) كما

قال من قبله الخليفة الثاني على المنبر: (مَن رأى منكم فيَّ عِوَجًا فليقوِّمْه) . وبنو

أمية هم الذين اعتزوا بالعصبية وبدؤوا بإزهاق هذا الروح من عهد عثمان

(حاشا مثل عثمان وعمر بن عبد العزيز) لكن الروح كان قويًّا بنفسه والتعاليم

الإسلامية الأخرى: ككون إجماع الأمة واجب الاتباع وكقاعدة: لا طاعة على أحد

فيما يخالف الشريعة. وكوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو كان الآمر

والناهي عبدًا مملوكًا والمأمور المنهي خليفة أو مليكًا تمده وتغذيه؛ ولذلك قدر على

مقاومة سعي أكثر الخلفاء والملوك في إعادة الاستبداد والانفراد بالسلطة على نحو ما

كان معهودًا عند الدول والأمم السابقة على الإسلام والمعاصرة له مع أن ذلك

كان معززًا بالوراثة، وكان كلما ضعف الدين بانتشار البدع والفسوق وفساد التعاليم

واتباع علمائه لأهواء الحكام والسلاطين يضعف ذلك الروح. واشتد ظهور الضعف

عندما صارت السلطة في أيدي الأعاجم؛ لأن هؤلاء قد رثوا شدة الخضوع لملوكهم

ولو بالباطل عن أسلافهم الذين عبدوا كثيرًا من الملوك ولم يتناولوا الإسلام إلا بعدما

دخلته البدع ووهت أركان سياسته وقد انتهينا إلى زمان انقلبت فيه الأحكام وجهلت

أصول الإسلام، حيث يعتقد أكثر الناس أن الخليفة أو السلطان مقدس، وأن من

يقول: يجب عليه كذا أو يحرم عليه كذا؛ فهو منابذ للدين، وقد خلق علماء الفتنة

أحاديث في مدح السلاطين والخضوع الأعمى لهم يتبرأ منها الإسلام. وسنبين

ذلك كله في مقالة مخصوصة.

نحن على اتفاق مع صاحب المقالة في أن الإصلاح إنما يكون بعدل القوام أو

بالتكافل العام، وهذا هو معنى ما نكرره دائمًا من أن الإصلاح يكون إما من جانب

الحكام وإما من جانب الأمة وحيث كان أملنا في حكامنا ضعيفًا - جعلنا معظم كلامنا

في تربية الأمة على الوجه الذي تعرف به حقوقها وتقوم بحفظها بالتعاون وهو ما

سماه الكاتب (التكافل العام) ولكننا نخالفه في بعض الجزئيات ككون خلفاء بني أمية

حافظوا على التكافل العام وقد علم رأينا في ذلك مما كتبناه آنفًا، وكقوله: إن خضوع

الأمير خالد لأمر الخليفة سببه التكافل العام. ورأينا أن سببه حرمة الخلافة الدينية

واعتقاده أن الإسلام يفرض عليه أن يطيع أمر الخليفة فيما دعاه إليه من المحاسبة،

وبغير هذا يستحيل أن تقوم سلطة أو تثبت حكومة.

ثم لا شك أن سعادة الأمم إنما تكون بما عليه مجموع أفرادها من العلم والعمل

والفضائل. وعدل الحكام إنما يكون وسيلة للسعادة؛ لأنه يساعد الأمة على الترقي فيما

ذُكر بما يدفع عنها من العوارض التي تعيقها عن الترقي، فوظيفة الحكام في الهيئة

الاجتماعية كوظيفة الأطباء والحكماء بالنسبة للأشخاص وتمام السعادة إنما

يكون بصلاح الفريقين جميعًا وبالله التوفيق.

_________

ص: 81

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عداء وخداع

أوغلت الدول الطامعة في الاعتداء وغلت في هضم الحقوق غلوًّا كبيرًا

تتحالف وتتخالف. وتتعادى وتتناصف. وتتنازع على الممالك والبلاد. ويرضي

بعضها بعضًا بحقوق العباد. وأما العدل والفضيلة والإنسانية والمدنية وحقوق الدول

والأمم فهي تارة تكون طلاءً قوليًّا يموهون به أفعالهم الشنعاء وتعديهم المشوه، وطورًا

تكون سلاسل وأغلالاً يقيدون بها الضعيف؛ لكيلا يكدر صفاء كأسهم ويضطرهم إلى

شيء من التعب في كبحه إذا حمله اليأس على الاستبسال في المدافعة عن نفسه.

تنازع أمس الأشعبان [الإنكليز والفرنسيس] في النيل الأعلى، وانتهى التنازع

باقتسام تلك الأراضي الفيح والملك الفسيح، فأرضت إحداهما الأخرى بحقوق

غيرهما حتى كأن بلاد الضعفاء مختصة بهما، وهذا هو حكم الجبروت الظالم والقوة

القاهرة التي عبر عنها فقيد السياسة (بسمارك) بقوله المشهور: (القوة تغلب

الحق) وقد وقعت وداي وبقرمي في سهم فرنسا وهما من البلاد الداخلة في ظل سلطان

الدولة العلية. وكانت إيطاليا تنتظر في مثل هذه القسمة أن يكون لها سهم فتفوز

بطرابلس الغرب مطمح نظرها ومنتهى أمنيتها، ولقصر نظرها توهمت أن إنكلترا

تساعدها على هذا الأمر، فلما خاب الأمل طفقت جرائدها تسلق الإنكليز بألسنة حِدَاد،

ولكن العجب أن فرنسا التي تطمع في طرابلس لمجاورتها لها في تونس والتي زاد

طمعها فيها أخذ وداي وبقرمي في جنوبيها ذكرت إحدى جرائدها المعتبرة (الطان)

كلمة إغراء لإيطاليا باحتلال طرابلس الغرب، وطير هذا الخبر البرق إلى سائر

الأقطار.

فإذا لم يكن هذا القول تهكمًا وسخرية فهو خداع لإيطاليا كما أنه عداء ظاهر

للدولة العلية. أما وجه الخداع فهو أن ولاية طرابلس ليست مذللة بالظلم أو الترف

ولا مفتونة بمدنية أوربا، وأهلها أولو قوة وأولو بأس شديد، وعندهم النظام العسكري

والسلاح الجديد، فإذا قدرت إيطاليا أن تدك بأسطولها الحصون والمعاقل الحربية

المنشأة على الطراز الحديث وتحل بعساكرها في الولاية؛ فإنها تلاقي من

الطرابلسيين ما ينسيها ألم الخذلان والانكسار في الجيش ويخرجها خاسئة خاسرة

فتستفيد فرنسا بذلك زيادة ضعف إيطاليا وهي من أعدائها والفلّ من حد الطرابلسيين

الذين يطمعون فيهم ويخشون بأسهم.

أعظم حسنات مولانا السلطان عبد الحميد: ثِنْتان - الآلايات الحميدية، وتعميم

التعليم العسكري، ولا يوجد في الدنيا بلاد إسلامية قائمة بواجب التعليم العسكري؛

بحيث يقدر جميع أهلها على المدافعة المفروضة شرعًا إذا دخل العدو البلاد إلا

طرابلس الغرب وأفغانستان، ولقد قوي الأفغانيون من قبل على الإنكليز وأخرجوهم

من ديارهم كرهًا بعدما احتلوها، ولم يكونوا كما هم الآن، وهم حتى الآن ليسوا كأهل

طرابلس فيما نعلم. الطرابلسيون أرمى من الثعلبين، لا تكاد تخطئ الغرض لهم

رصاصة، ولا يكلفون الدولة في الحرب شيئًا؛ فإن جراب الدخن الذي يضعه أحدهم

على ظهره وقت المجالدة والمكافحة - يكفيه شهرًا كاملاً! وهم يحتقرون عسكر

الأتراك الذين يذهبون إلى بلادهم، وقد علم الناس أجمعون أنه عسكر شهدت له أوربا

كلها بأنه لا يفوقه عسكر في العالم، ومن الطرابلسيين جماعة السنوسي وهم الذين قال

فيهم الفرنسيون: إنهم أشد من الصخور؛ لأن هذه قابلة للتفتت وهم لا يتفتتون.

ووراءهم أهل وداي وبقرمي وسائر السودان الغربي، وكلهم خاضعون للدولة العلية

فإذا ألمَّ بإخوانهم في طرابلس ما يكرهون كانوا أعوانًا لهم، والله نعم المعين.

_________

ص: 88

الكاتب: محمد رشيد رضا

تربية الأطفال

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ

وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78) ، فأول ما يشعر به الطفل ألم الجوع وألم

البرد وأول ما يُلهَمه امتص حلمة الثدي ثم تزيد الإدراكات فيسمع ويبصر من غير

تمييز بين مدرك وآخر ثم يميز بين مرضعته وغيرها حتى إن بعض الأطفال الذين

يعودون على الرضاع من امرأة واحدة إذا اتفق أن حاولت مرضع أخرى إرضاع

أحدهم يأباها وينفر منها، وهو نوع من التمييز في سن اللبان ظاهر لكن التمييز بين

النافع والضار ووعي الخطاب والاعتبار به إنما يتم في بضع سنين؛ ولذلك قال

الفقهاء والحكماء: إن السنة السابعة هي سن التمييز. وأوجبوا على قيِّم الطفل أن

يأمره بالعبادة كالصلاة والصوم إن أطاقه في هذا السن، ويتوهم كثير من الناس أن

الابتداء بالتربية يكون من هذا الوقت، وهو خطأ لا يحتمل الصواب، والحق ما قدمناه

في نبذة سابقة من أن التربية تكون منذ الولادة أو الحمل في قول، ولا نعني بهذا

التربية الجسدية فقط بل التربية بأنواعها الثلاثة - الجسدية والنفسية والعقلية -

يُبتدأ بها من يوم الولادة.

يقول قائل: إن دماغ الطفل لا عمل له في أول طور الطفولة كما أنه لا عمل

عضويًّا اختياريًّا له يطبع في نفسه ملكات الفضائل أو الرذائل، فما معنى تربية نفسه

وعقله حينئذ؟ !

والجواب: إن خلايا الدماغ - الذي هو محل الإدراك - تنمو بنمو الجسد؛

فالعناية بتربية جسد الطفل عناية بتربية عقله، وقد قلنا: إنه يدرك في سن اللبان

بعض الجزئيات ويميز أيضًا بينها تمييزًا ما. وكل إدراك وتمييز له أثر في

الدماغ، وكل عادة يعود عليها الطفل يكون لها أثر في نفسه وإن لم تظهر آثار ذلك

كله إلا في المستقبل، فالمعاملة التي يعامَل بها الوليد من أول النشأة هي بمنزلة

الأساس لأخلاقه وملكاته وعاداته ومدركاته، لكن الغافلين يرون البناء الرفيع ولا

يتفكرون في أنه قائم على أساس خفي في الأرض وأن ثباته وقوته بذلك الأساس.

ومن الجهل الفاضح أن ينكر الإنسان الآثار التي لا تظهر فورًا. ألم تر أن الكبير

إنما تنطبع العادات في نفسه بتكرار العمل حتى تصير ملكات راسخة تتعسر عليه

مقاومة آثارها. يشرب من لم يكن معتادًا على التدخين سيجارة مسايرة لصديق له، ثم

أخرى إجابة لصديق آخر، فينصحه بعض العقلاء بترك هذه المسايرة والمجاراة

محذرًا له من صيرورة التدخين عادة، فلا يلتفت إلى قوله، وربما يصرح له بأن

من المُحال أن يعتاد هذا أو ينفق عليه درهمًا! فلا يزال يعمل التكرار في دماغه

في مركز مخصوص منه حتى تنطبع الملكة وتدفع الرجل إلى المواظبة وإنفاق

المال مهما كانت حاجته إليه شديدة. وهكذا شأن من يتعود على الميسر (القمار)

وغيره من الأعمال القبيحة أو الحسنة. فإذا كان العمل الاختياري من المميز

والعاقل لا يظهر أثره إلا في نفسه إلا بعد زمن طويل فهل يصح لنا أن نحكم بأن

ما نعامل به الطفل لا يؤثر في نفسه؛ لأننا لا نشاهد الأثر عقيب المعاملة؟ ! كلا.

فليعلم الآباء والأمهات أن سعادة أولادهم بل سعادة أوطانهم وبلادهم - تتوقف

على تربية أولئك الأولاد من أول النشأة، فالمرأة التي لا تعتني بتنظيف وليدها

وبإرضاعه وتقريمه [تعليمه الأكل] وتنويمه في أوقات معينة وبكيفيات منتظمة،

والتي تكذب عليه بالقول أو العمل لأجل الترغيب أو الترهيب، وتسبه وتفحش عليه

وتهينه وتضربه عند الغضب، والتي لا تبالي بسيئاته إذا أساء وتسترضيه إذا غضب

ولو بالباطل بالشهوات المضرة، والتي تؤْثر أحد أولادها على الآخر ذكرًا كان أم

أنثى - التي تعامل أولادها في الصغر بما ذكر لا ينبغي أن تعتب على الحظ أو تحيل

على القدر إذا رأتهم في الكبر قذرين متهاونين في شؤونهم وشؤون أوطانهم لا يتقنون

عملاً ولا يتحامون زللاً، كذَّابين منافقين مسرفين ظالمين فاحشين أرذلين متعادين

متباغضين يؤثر كل واحد شهوته على كل شيء ويزاحم أخاه بما يتسامح بمثله مع

الأجنبي. بل يجب أن تعتقد هذه الأم الشقية أن هذا البلاء هو ثمرة ما غرست

وعاقبة ما قدمت، وسنفصل القول في أنواع التربية الصحيحة تفصيلاً.

***

التعليم الفطري

جميع العلوم والفنون مأخوذة قواعدها الكلية من المحسوسات؛ فالصغير يدرك

في أول أمره الجزئيات الحسية ثم ينتزع الكليات من التوافق والتباين اللذين يراهما

فيها. ولا يخفى على العلماء أن تمحيص الحقائق وصيرورة حدود القواعد العامة

جامعة مانعة لم يصل إليهما الإنسان إلا بعد بحث طويل في سنين كثيرة. فإدراك

الكليات والإشراف منها على الجزئيات هو غاية العلم ومنتهى التحصيل، ومن

الحماقة والجهالة أن يطالَب الأحداث في ابتداء تعليمهم بغايات العلماء بعد الأبحاث الطويلة في العصور والأجيال، وهو فهم القواعد الكلية واستنباط الجزئيات منها.

والصراط المستقيم لحسن التعليم هو صراط الفطرة والطبيعة وهو أن تلقي

للتلميذ أمثلة محسوسة كثيرة ثم تنبهه على أن هذه الجزئيات يجمعها أمر كلي يسهل

على من تعقله أن يلحق كل ما يعرض له من الجزئيات به وهو كذا، ثم يطالَب بأن

يأتي بعدة أمثلة من عند نفسه، ويلي هذا الطريق أن يفهم التلميذ القاعدة إجمالاً ثم

توضح له بكثرة الأمثلة. وبهذا التعليم يستغني بقراءة كتاب واحد مرة واحدة عن

قراءة الكتب الكثيرة وتكرارها، وبهذا التعليم تُحفظ المسائل فلا تُنسى إلا ما شاء الله،

وكل طالب علم يعرف من نفسه أنه ينسى أو يذهل عن أكثر المسائل التي لا

يستعملها، ولا يأتي عليها بأمثلة كثيرة ما لم تكن المسألة من البديهيات.

الإتيان بالأمثلة الكثيرة على القواعد نوع من العمل، وقد كتبنا نبذة سابقة في

(التعليم بالعمل) بينا فيها أن العلم إنما يثبت وينمو بالعمل، والعلم الصحيح الذي

يجدر أن يسمى صاحبه عالمًا - هو ما كانت ملكته راسخة في النفس تصدر عنها

آثارها بلا تعمُّل ولا رويّة. وقد علمت مما تقدم آنفًا في نبذة (تربية الأطفال) أن

الملكات لا تنطبع في النفس إلا بتكرار العمل.

وإن تعجب فعجب قولهم: إن العالم مَن إذا قرأ الكتب التي درسها مرارًا يفهم

أساليبها ونكتها ويقدر أن يأتي في المسألة الواحدة باحتمالات كثيرة - وربما لا يجزم

بشيء منها - ولا يشترط فيه أن تكون المسائل والقواعد راسخة في نفسه بحيث

يأتي بجزئياتها بغير تكلف ولا ملاحظة قاعدة.

حقًّا أقول: إن كل هذا هو العلم فما أقل فائدة العلم! وما أبعد المسافة بينه وبين

سعادة البشر، بل أقول: إن العلم الذي لا يؤثر في أخلاق النفس ولا يبعث ويزعج

إلى إصلاح أعمالها لغو لا فائدة فيه ألبتة ولا يصح أن يسمى علمًا. فإن قيل: فائدته

القيام بإفادة الناس به بالتعليم. نقول: ولماذا يتعلم الناس ما لا أثر له في أخلاقهم

وأعمالهم التي هي مصدر سعادتهم؟ ! قال بعض علماء التعليم من أهل

الغرب: إن كثرة المطالعة تورث النسيان وكثرة المكث في المدرسة تورث البلادة.

وقال: قد ثبت بالاستقراء أن أكثر النابغين كانت مدة إقامتهم في المدارس قليلة.

فعسى أن يتنبّه طلاب العلم - لا سيما الأزهريين ومَن على شاكلتهم - إلى

طريقة التعليم المثلى، فيستفيدون في الوقت القصير علمًا كثيرًا وما يتذكر إلا مَن

ينيب.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 90

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقاريظ

(غرائب الزمان في فتح السودان)

صدر الكتاب الأول من هذا التاريخ لمؤلفه الأديب محمود أفندي طلعت وفيه

الكلام على السودان من أيام فتحه في عهد إسماعيل باشا إلى أيام الفتنة العُرابية.

وصاحبه قد سافر إلى السودان وكان من عمال الحكومة المصرية فوصف ما شهده

واختبره بنفسه، ووضع الكتاب في شرح رحلته، وذكر فيه ما وقع معه من الشؤون

الغرامية فكان رواية تاريخية غرامية صحيحة، وهذا يضمن له الرواج. وقد تصفحنا

بعض صفحاته، فاستعذبنا القول على أن فيه غلطًا كثيرًا، لكنه مدرك بالبداهة.

***

(المناظر)

جريدة عربية جديدة ظهرت في (سان باولو - البرازيل) رئيس تحريرها

الكاتب الأديب نعوم أفندي لبكي ومديرها الأديب فارس أفندي سمعان. فماذا عسى

نقول في الثناء على همة أبناء وطننا السوري وحبهم للمعارف والآداب، وهذه

الشرذمة منهم في بلاد البرازيل لم تكتفِ بجريدة ولا جريدتين فهكذا هكذا وإلا فلا لا.

***

(شكوى الاحتلال بلسان الحال)

قصيدة غراء مما نسميه بالشعر العصري لناظمها الشاعرالمجيد أحمد أفندي

محرم وقد علق عليها شرحًا لطيفًا وطبعها به، وربما نذكر بعض غُرر أبياتها في

فرصة أخرى.

_________

ص: 94

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجمعية الإسلامية الهندية في لاهور

حملت إلينا جريدة (بيسه أكبر - لاهور) الهندية علاوة تبين فيها حال

هذه الجمعية وهذه ترجمتها:

وصل إلينا التقرير السنوي الذي أذاعه كاتب سر هذه الجمعية ومحصله أن

مسلمي بنجاب أسسوا منذ 14 سنة في مدينة لاهور بحاضرة بنجاب جمعية إسلامية

لتعليم أولاد المسلمين وتربيتهم وسموها (أنجمن حماية إسلام لاهور)

والغرض منها:

(1)

تعليم العلوم الدينية والتربية عليها؛ لينشأ المتعلمون على الفضائل

والكمالات الصحيحة.

(2)

تعليم العلوم الدنيوية واللغات الأجنبية؛ تسهيلاً لطرق المعاش.

(3)

العناية بتربية اليتامى؛ إنقاذًا لهم من دعاة الديانة المسيحية ومن

الموت بالجوع.

ثم توسعت الجمعية في عملها فأنشأت مدارس للبنات، وأرسلت وعاظًا إلى

كثير من الأقطار؛ ليبينوا حقيقة الإسلام ويثبتوا حقيقته لمن يجهلها من الأنام.

والأمر الذي يستلفت الأنظار هو أن مؤسسي الجمعية ليسوا من الأمراء ولا

من كبراء الموظفين وإنما هم أفراد من عامة أهل العلم والمستخدمين، وكان زعيمهم

وصدرهم أحد مشاهير العلماء صاحب الفضائل الحاج مولوي خليفة حميد الدين

(رحمه الله تعالى) وابتدأ القوم عملهم بالاكتتاب العمومي وكانوا في أول الأمر

يجمعون الدقيق كل يوم من البيوت بواسطة شيوخ الحارات ويأخذون الصدقات من

الولائم والوضائم (طعام الخزن) حتى كان يخيل أن الجمعية إنما هي لإطعام

الفقراء والمساكين المضطرين. ولما شاهد الأمراء وكبراء الموظفين وعامة الناس

ثبات المؤسسين وحسن نظامهم ونجاح عملهم الذي كانوا يعتنون منه بالتربية وحسن

السيرة أكثر مما يعتنون بالتعليم - أقبلوا على الجمعية وتنافسوا في أن يكونوا من

أعضائها حتى إن بعض أمراء الحاضرة رضي بأن يتولى إدارتها وبعض موظفي

نظارة المعارف قبلوا أن يكونوا مفتشين فيها، كانت الجمعية في أقصى الهند، ولما

طار صيتها توالت عليها الوكلاء من كل جانب، وهُرِع الناس لحضور احتفالاتها

السنوية من كل صوب، وتنافس الخطباء والشعراء بإلقاء الخطب المؤثرة وإنشاد

القصائد البليغة في تعظيم شأنها حتى صارت منتجع العلماء ومورد الأمراء، وبلغ

شهود احتفالها ستة آلاف رجل في السنة، وأجمع أهل الحِجَا والفهم وأصحاب الغيرة

والهمة على مساعدتها وتعضيدها، فرسخت جذورها وامتدت فروعها وتشعبت

أفنانها فأنشأت بناءً فسيحًا للدروس الخارجية وشيدت غرفًا خاصة لليتامى، فهم في

معاهدها يأكلون وينامون ويصلون ويتعلمون ويشتغلون ويرتاضون.

أما عدد التلامذة فقد كان في السنة الماضية كما ترى في الأرقام:

أقسام المدرسة

العدد في أول السنة

العدد في آخرها

القسم الكلي

...

62

...

63

القسم التجهيزي

... 52

...

67

القسم المتوسط

... 205

...

192

القسم الابتدائي

... 516

...

561

المجموع

...

835

...

883

وأما الواردات والنفقات والتوفير فقد كانت في السنة الماضية كما تراه بحساب

الروبيات والجنيهات:

التوفير من سنة 1897 (18902)

... روبية أو 1260 جنيه

واردات سنة 1898

... (31043)

روبية أو 2069 جنيه

المجموع إلى آخر ديسمبر منها (49945)

روبية أو 3329 جنيه

النفقات إلى آخر ديسمبر منها (33837)

روبية أو (2255) جنيه

فيكون الموفر لسنة 1899

(16108)

روبية أو (1074) جنيه

وتجتهد الجمعية في اقتناء الأملاك وتشتغل بتأليف الكتب المدرسية وتطبعها

على نفقتها؛ لتربح من بيعها. وبيان مجموع ما عند الجمعية من النقود، الكتب

المطبوعة والأملاك المشتراة والتي تبرع بها أهل الغيرة والحمية إلى آخر ديسمبر

سنة 1899 ما يأتي:

قيمة الأملاك

...

32445

روبية أو 2163 جنيه

قيمة الكتب

...

13904

روبية أو 927 جنيه

النقود الموفرة من سنة 98

16108

روبية أو 1074 جنيه

المجموع

...

... 62457

روبية أو 4164 جنيه

وقد أسست الجمعية منذ سنتين مدرسة خصوصية لتعليم العلوم العربية والدينية

على طريقة المتقدمين سمتها (المدرسة الحميدية) نسبة لرئيس الجمعية سابقًا

المرحوم مولوي خليفة حميد الدين وتذكارًا له. وتعد هذه المدرسة فرعًا من مدرسة

(أنجمن حماية الإسلام) وكان أكثر الناس تبرعًا بالنقود لتأسيس هذه المدرسة

المولوي خليفة عماد الدين أكبر أنجال المرحوم وأحد مفتشي المدارس الأميرية في

لاهور اهـ. من ترجمة الفاضل عبد الرحمن الهندي مُكاتب جريدة وكيل الهندية

الغراء.

فهكذا تكون الهمم وهكذا تكون العلماء، نجَّح الله مقاصد هذه الجمعية وجزى

الأفاضل الذي أسسوها وعضدوها أفضل الجزاء.

_________

ص: 95

الكاتب: عبد الحق الأعظمي البغدادي

‌الأعياد

] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ [[1]

لحضرة الفاضل الأزهري صاحب الإمضاء

عبد الحق حقي البغدادي الأعظمي الأزهري

العيد اسم لما يحصل فيه الاجتماع العام على وجه معتاد، سواء كان سنويًّا أو

شهريًّا أو أسبوعيًّا، زمانيًّا أو مكانيًّا وقد يصدق على مجموع اليوم وما يصنع فيه،

وعلى المكان وما به وعلى الاجتماع وحده أو مع ما يصحبه من العبادات والعادات

وبضرورة تباين العرب في المذهب والمشرب - تباينت أعيادهم في الزمان والمكان

ولمناسبة عيدنا الأكرم أردت توضيح ذلك على وجه الإجمال والاختصار تفكهة لقراء

(المنار) بهاته النبذة التاريخية.

اعلم أن العرب كانوا في الجاهلية شيعًا متفرقين وفرقًا مختلفين فقد كانت

(النصرانية) في ربيعة وغسان وبعض قضاعة، وكانت (اليهودية) في حِمير وبني

كنانة وبني الحارث بن كعب وكِندة، وكانت (المجوسية) في تميم، وكانت الزندقة

في قريش، أخذوها من الحيرة، والمراد بالزندقة هنا عدم الإيمان بالآخرة والربوبية

وكان بنو حنيفة اتخذوا في الجاهلية إلهًا من حيس فعبدوه دهرًا طويلاً ثم أصابتهم

مجاعة فأكلوه، فقال فيهم رجل من تميم شعرًا:

أكلت حنيفة ربها

زمن التقحم والمجاعة

لم يحذروا من ربهم

سوء العواقب والتباعة

ولا شك أن الأعياد من الديانات ولواحق العبادات، وإلى ذلك ذهب بعض

المفسرين في قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوه} (الحج: 67)

حيث فسروا المنسك بالعيد، فلم يكن العرب يومئذ متفقين في الأعياد كما لم يتفقوا

في الدين والاعتقاد.

أما المشركون من عَبَدَة الأصنام فقد كان لهم في الجاهلية أعياد كثيرة، منها

مكانية، ومنها زمانية:

أما (المكانية) فكثيرة وهي مواضع أصنامهم وأوثانهم وأمكنة طواغيتهم،

وكانت الطواغيت الكبار التي كانت تشد إليها الرحال وتقام عندها الأعياد ثلاثة:

(اللات) و (العزى) و (مناة الثالثة الأخرى) وكل من هذه الثلاثة لمصر من

أمصار العرب؛ فكانت اللات لأهل الطائف، والعزى لأهل مكة، ومناة لأهل

المدينة، يهلّون لها شركًا بالله تعالى. وكانت لهم مواسم من السنة مخصوصة

للاجتماع عند هذه الثلاثة وتقصدها العرب من كل فج وتعظمها كتعظيم الكعبة،

وكان لها سدنة وحُجَّاب، وكانوا يهدون إليها كما يهدون للكعبة ويطوفون بها وينحرون

عندها مع اعترافهم بفضل الكعبة؛ عليها لعِلمهم أنها بيت أبيهم إبراهيم الخليل عليه

السلام ومسجده. وكان ذو الخلصة بيتًا باليمن لخثعم وبجيلة فيه نُصُب يعبدونها ولهم

فيه من السنة موسم وعيد، وكان أهل نجران يعبدون نخلة طويلة بين

أظهرهم لها في كل سنة موسم وعيد، وإذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب

حسن وحُلي النساء ثم خرجوا إليها وعكفوا يومًا.

وأما (الزمانية) فهي كثيرة، منها أيام مسراتهم وأفراحهم لظفرهم على عدوهم

ونصرتهم على خصومهم ومحاربيهم، وذلك يختلف باختلاف الشعوب والقبائل،

فيتفق أن يكون يوم عيد لقوم يوم حزن وبؤس على آخرين. وكان لأهل المدينة

يومان يلعبون فيهما فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال لهم: قد أبدلكم الله

بهما خيرًا منهما يوم الفطر والأضحى. ومنها يوم السبع وهو عيد من أعياد قبيلة من

قبائل العرب في الجاهلية، كانوا يشتغلون فيه باللهو واللعب، وكذلك يوم السباسب.

وأما أعياد المجوس - وهم الفرس وشرذمة من العرب وغيرهم - فهي كثيرة

جدًّا، إلا أنَّا نقتصر على المشهور منها الذي أولع الشعراء بذكره واعتنى الأمراء

بأمره وهو (النيروز) والمهرجان والسذق - فهو تعريب نوروز وهو أعظم

أعيادهم ويقال: إن أول مَن اتخذه جمشاد وهو أحد ملوك الطبقة الأولى من الفرس،

وسبب اتخاذهم هذا اليوم عيدًا أن طمهورة لما هلك ملك بعده جمشاد فسمي اليوم

الذي ملك فيه نوروزًا؛ أي: (اليوم الجديد) ومن الفرس من يزعم أن النيروز هو

اليوم الذي خلق الله تعالى فيه النور، وأنه كان معظمًا قبل جمشاد. وبعضهم يزعم أنه

أول الزمان الذي ابتدأ الفلك فيه بالدوران ومدته عندهم ستة أيام، أولها اليوم الأول من

شهر أفرود ريزماه الذي هو أول شهور سنتهم، ويسمون اليوم السادس النيروز الكبير؛

لأن الأكاسرة كانوا يقضون في الأيام الخمسة حوائج الناس على اختلاف طبقاتهم

ثم ينتقلون إلى مجالس أُنسهم مع خواصهم فيه، وهو يعمل في 17 حزيران، وقيل:

في 11 منه. وأما المهرجان فوقوعه في 16 تشرين أول من شهور السريان، ومن

شهور الفرس في 16 من مهرماه وهو ستة أيام ويسمى اليوم السادس المهرجان الأكبر.

وسبب اتخاذهم له [2] أن بيوراسب وهو الضحاك ويقال له: أوذهاق. ذو الحبتين

والأفواه الثلاثة والأعين الست الداهية الخبيث المتمرد لما قتل جمشاد

وملك جاءه إبليس في صورة خادم فقبَّل منكبيه فبدت فيهما حبتان وكانتا تؤلمانِه

فوصف له دمعة الناس فكان يقتل كل يوم غلامين لذلك، فأجحف بقتل الولدان في

الرعية، فخرج رجل بأصبهان يقال له: كابي. وعقد لواءً من جلد أسد ودعا الناس

إلى محاربة الضحاك، فاجتمع له خلق كثير ولما تحقق عند الضحاك ذلك هابهم

وهرب منهم فاجتمع الفرس إلى كابي ليُملِّكوه فقال: ما أنا من أهله.

وذكر لهم أن معه صبيًّا من ولد جمشاد يسمى فريدون وقال: أرى أن تملكوه وتعيدوا

المُلك إلى أهله. فملكوه، فخرج فريدون في طلب الضحاك فوجده، فأخذه وشده

وحبسه في جبل دنياوند وجعل ذلك اليوم عيدًا وسماه المهرجان. وقيل في

سبب اتخاذه غير ذلك.

وكانوا يتهادون في النيروز والمهرجان بالمسك والعنبر والعود الهندي

والزعفران والكافور. وأول من رسم هداياهما في الإسلام الحجاج بن يوسف الثقفي،

وأول من رفع ذلك عمر بن عبد العزيز واستمر ذلك إلى أن فتح الهدية فيه أحمد بن

يوسف الكاتب، فإنه أهدى فيه للمأمون سفط ذهب فيه قطعة عود هندي في طوله

وعرضه وكتب معه: (هذا يوم جرت فيه العادة بألطاف العبيد للسادة) .. إلى آخر

ما قال.

وأما السذق فيعمل في ليلة 11 من شهر أيار - مايو - ويسمى هذا اليوم عند

الفرس روزابا؛ لأن لكل يوم من أيام الشهر عندهم اسمًا، ويقال في سبب اتخاذهم له

أن فراسياب لما تملك سار إلى بلاد بابك فأكثر فيها الفتنة وخرب ما كان عامرًا منها

فخرج عليه زفرب بن طهمازشب فطرده عن مملكة فارس إلى بلاد الترك، وكان ذلك

في يوم روزابان فاتخذ الفرس هذا اليوم عيدًا وجعلوه ثالثًا لعيدي النيروز والمهرجان

ولما تملك وضع عن الناس خراج سبع سنين فعمرت البلاد. وقيل في السبب غير

ذلك، وللفرس أعياد دون ما ذكرناها منها عيد يسمى نيركان وأيام الفيروزجاة، أي:

تربية الروح وركوب الكوسج وبهمنجه.

أما القبط والنصارى فقد قيل: إن أعيادهم أربعة عشر عيدًا، سبعة يسمونها

كبارًا وسبعة أخرى يسمونها صغارًا.

فالكبار: البساره (1) والزيتون (2) والفصح (3) وخميس الأربعين

(4)

وعيد الخميس (5) والميلاد (6) والغطاس (7)، وأما الأعياد الصغار:

فالخنان (1) والأربعون (2) وخميس العهد (3) وسبت النور (4) وحد

الحدود (5) والتجلي (6) وعيد الصليب (7) .

وأما اليهود فقد قيل: إن أعيادهم خمسة، يسندونها إلى التوراة وهي:

(1)

عيد رأس السنة يعملونه عند رأس سنتهم وينزل عندهم منزلة عيد

الأضحى عندنا. (2) وعيد صوماريا وهو عندهم الصوم العظيم الذي فرض

عليهم صومه ومدته خمس وعشرون ساعة، (3) وعيد المطل (4) وعيد الفطير

(5)

وعيد الأسابيع - وهذه الثلاثة الأخيرة حجوج عندهم - والذي أحدثوه بعد

الخمسة عيد الفور وعيد الحنكة.

وأما المسلمون فلنذكر ما اشتهر من أعيادهم على سبيل الاختصار والإيجاز

فنقول:

قد تقدم أصل مشروعية عيدي الفطر والنحر وأنهما استبُدلا بيومين كان أهل

المدينة يلعبون فيهما في الجاهلية وقيل: هما النيروز والمهرجان. وسبب الاستبدال

أنه ما من عيد إلا وسببه إقامة شعار ديني أو تعظيم بعض أئمة الدين أو شيء مما

يضاهي ما ذُكر، فكان في هذا الاستبدال محو ما عساه يكون منشأ اللعب في ذينك

اليومين من شعار الجاهلية وإقامة سنة سلفهم الضالين وإثبات شعائر الملة الحنيفية

وإقامة سَننها، وشرع فيهما مع التجمل والتوسع والفرح والسرور - ذكر الله تعالى

وطاعات أخرى تنزهًا عن إمضاء الوقت كله في اللهو واللعب وخلوّه من إعلاء كلمة

الله.

أحد العيدين يوم الفطر من صيامهم وأداء نوع من زكاتهم، فيجتمع فيه الفرح

الطبيعي بالتفرغ من مشقة الصيام، وبتوسعة الأغنياء على أنفسهم وأخذ الفقراء

الصدقات، والفرح العقلي بالتوفيق لإكمال العدة والتعرض للمثوبة والأجر وببلوغ

الموسم مع النعم في الأهل والمال بالنسبة للأكثرين.

والثاني يوم الفراغ من معظم أركان فريضة الحج الواجب على مجموع الأمة،

ويقوم به بعضها في كل عام، وتذكار محاولة سيدنا إبراهيم ذبح ولده إسماعيل

(عليهما الصلاة والسلام) وإنعام الله تعالى عليهما بأن فداه بذِبْح عظيم. وناهيك بتذكر

أئمة الملة الحنفية والاعتبار بهم في بذل المهج والأموال في طاعة الله تعالى وقوة

الصبر، وفيه تشبّه بالحجاج وتنويه بهم وتشويق لما هم فيه.

وشرعت في الأول زكاة الفطر وهي واجبة، وفي الثاني الأضحية وهي سنة

عند بعض الأئمة وواجبة عند آخرين. وبهذين النوعين من الصدقة تكون أيام العيدين

أيام سعة على الأمة كلها وهو معنى كونها ضيافة الله تعالى، وشرع في كل منهما

التكبير والصلاة المخصوصة والخطبة؛ ليجتمع لهم السرور الروحاني والجسماني

معًا، وفي العيدين مقصد من أهم مقاصد الشريعة وهو الاجتماع العام للتعارف

والتآلف، ومعلوم أنه لا بد لكل ملة من اجتماع في صعيد واحد؛ لتظهر شوكتهم وتعلم

كثرتهم؛ ولذلك استحب في العيدين خروج جميع المسلمين إلى المصلَّى حتى الصبيان

والنساء، ومن لا يصلي من النساء يعتزلن المصلى ويقفن جانبًا يشهدن المصلين؛

ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يخالف في الطريق ذهابًا وإيابًا؛ ليطلع

أهل الطريقين على شوكة المسلمين. ولما كان الأصل في العيد إظهار الفرح

والسرور بالزينة ونحوها استحب فيهما حسن اللباس والتقليس - ضرب الدفوف -

وروي عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان

وتضربان - وفي رواية تغنيان - بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث، والنبي صلى الله

عليه وسلم متغشٍّ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن

وجهه وقال: دعْهما يا أبا بكر؛ فإنها أيام عيد، وفي رواية: (يا أبا بكر لكل قوم

عيد وهذا عيدنا) حديث متفق عليه.

وتفصيل القول - فيما يُطلب شرعًا في الأعياد - يراجع في كتب الفقه.

...

...

عبد الحق حقي البغدادي الأعظمي الأزهري

_________

(1)

(الحج: 67) .

(2)

المنار: هذه الحكاية من أساطير الفرس الخرافية يتناقلها المؤرخون الذين ألفوا الخرافات.

ص: 97

الكاتب: أحد أفاضل الأمراء والكتاب في الشام

‌الساكت عن الحق شيطان أخرس

لأحد أفاضل الأمراء والكتاب في الشام

عثرت - بطريق المصادفة والاتفاق - على مقالة في جريدة طرابلس في

العلاج الشافي من داء التأخر الملمّ بنا برّأ بها محررها ساحة العلماء من تبعة هذا

التأخر، وادعى أن العلاج الشافي هو عقد الشركات، وسكت عما سوى ذلك من الأمور المهمة مكتفيًا بالعَرَض عن الجوهر، فلم أشأ أن أسكت عن بيان الحق؛ لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس فأقول:

أما تبرئته ساحة العلماء فلا أراه مصيبًا فيه؛ لأن العلماء هم هداة الأمة

ومرشدوها وهم المطالبون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم إذًا المسئولون

بعد الأمراء الذين بيدهم الحل والعقد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ألا كلكم

راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) ، ولقوله أيضًا: (ما من عبد يسترعيه الله رعية

فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة) إلى غير ذلك من الآثار الكثيرة التي

نكتفي منها بما تقدَّم.

ووجه مسئولية العلماء هي لأنهم عدلوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إلى التزلف والتملق للأمراء وأصحاب الجاه واليسار، وعن الإرشاد الصحيح إلى

التضليل، وعن بث العلوم الصحيحة إلى التعلق بأهداب الخرافات والتُّرَّهَات، أما

الأول فهو ظاهر فيما نراه من إقبالهم على الأمراء وإطرائهم إياهم وتزيينهم لهم سوء

أعمالهم لرتبة ينالونها أو مال يصيبونه أو جاه يحصلون عليه؛ حتى إن واحدًا منهم

ألف كتابًا ضخمًا في مجلدين في إطراء أحد الظلمة الخونة. وأما الثاني فهو معلوم

من وعظهم وإرشادهم بحكايات يحكونها وروايات يروونها، ما أنزل الله بها من

سلطان؛ يُضلون بها العقول، ويفسدون الأفهام ويثبطون الهمم ويُقْعدون

العزائم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ألا ساء ما يعملون. وأما الثالث فلعدولهم

عن العلوم الصحيحة الحقة إلى السفاسف، ومزْجهم الحق بالباطل كما هو مثبت بتقاريرهم التي يلقونها في دروسهم المشحونة بالأقاصيص والحكايات، وبتآليفهم

السخيفة البعيدة عن التحقيق الحاوية ما تمجّه الأذواق وتأباه العقول السليمة.

نكتفي منها بإيراد ما يأتي من كتاب (الفواكه الجنوية في الملتقَطات النجوية

تأليف العالم العلامة البحر الفهامة مَن فضله في الأقطار ساري الأستاذ الشيخ عبد

الهادي نجا الإبياري أمد الله في حياته ونفع المسلمين بمؤلفاته، آمين) (كذا في

الأصل) ، فقد جاء في الصحيفة 145 من النسخة المطبوعة في القاهرة ما نصه

بالحرف الواحد:

(ومما جرب للقرينة وأخذناه عن بعض الأكابر أن يسقى الطفل لبن معزى

حمراء، ويدهن جسده كله من هذا اللبن، وأن يعلق عليه بندقى، وأن يحك عود

الصليب الهندي الأصلي في لبن البز، ويسقى له، وأن يؤخذ فراخ الحمام الصغار

وينتف ما على دبرها من الوبر ويوضع منفذ الدبر منها على منفذ دبر الصبي، فكل

حمامة ماتت توضع غيرها وهكذا. إلى أن يصيب الأخيرة شيء فيعلم أنها ذهبت،

ومما جربناه للقرينة أيضًا أن تحضر عجوز قد آيست من الحيض وتوضع وجه الطفل

أمام

وهو مفتوح، وتوضع إصبعها فتلطخه برطوبة

وتخط به (صليبًا!)

على جبهة الطفل، ثم تأخذ قطعة شبه زفرة قدر البندقة وتخط بها (سبع) خطوط

على جبهته أيضًا، ثم تحرقها وتضعها في رغيف وترميه لكلب أسود يأكله، والشب

المذكور إذا وضع على رف في البيت بعد أن حك به جبهة الصبي مرارًا وأحرق

وكان بالصبي نظرة - فإنها تذهب ولا تعود) (انتهى) .

فهؤلاء هم العلماء والمرشدون في هذا العصر، وفي كل يوم نسمع منهم أشياء

كثيرة تماثل ذلك أو تزيد عليه ومن أنكر عليهم رموه بالزندقة وقالوا: إنه مارق من

الدين. ونفروا العامة منه، فعلى مثل هذا الجهل يؤاخَذ العلماء. أما ما ذهب إليه من

عقد الشركات فهو من الأمور الثانوية و (حاجتنا الكبرى) إنما هي إلى عمال

أمناء صادقين أكْفَاء عفيفين متهالكين متفانين في حب الدولة والوطن، يساعدون سيدنا ومولانا الخليفة الأعظم على إنفاذ رغائبه في تعميم الإصلاح بنشر ألوية

العدل والضرب على أيدي الظلمة الخونة؛ فإن الظلم مُؤْذِن بخراب العمران، كما

أثبت ذلك العلامة ابن خلدون في مقدمته. وهذا لا يتم إلا بتوسيد المناصب

إلى أهلها، وتعميم العلوم والمعارف بين طبقات الناس والسيطرة على الأعمال

ومكافأة الأمين الصادق ومجازاة الخائن المارق ونهضة العلماء لإرشاد الناس لما

فيه صلاح دينهم ودنياهم فعندها تتوفر الأموال وتتوطد الأمنية فتعقد الشركات وتحيا

الصنائع وتنمو الثروة..إلخ، فعلى الجرائد الصادقة أن ترمي إلى هذا الغرض

وتبوح بهذا السر وتكشف عن هذا المُعمى؛ فإن كتمان الداء يزيده عياءً، والناصح

الأمين لا يماحك ولا يوارب ولا يغش ولا يخادع. وبالله التوفيق.

(المنار)

طفقت الأمة تتنبه إلى عذل العلماء ولومهم على تقصيرهم في إرشادها إلى ما

تقوم به مصالحها المعاشية والمَعادية وفقًا لدينها القويم، فهذه رسالة من أحد بلاد

سوريا، وعندنا رسالة أخرى أشد عذلاً من هذه. تنبهت الأفكار في جميع الأقطار فإذا

لم يلتفت العلماء إلى النظر الدقيق في أحوال العصر وما تقتضيه مصلحة الأمة فيه،

ويقوموا بالإرشاد الصحيح الموصل للغاية يوشك أن لا يمر بضع سنين إلا والرأي

العام منحرف عنهم أشد الانحراف بل ينتظر ما هو أعظم من هذا.

نعم، إن هذا مما تتوقع مضرته وتخشى مغبته، ولكنه ليس بأضر من الخضوع

الأعمى لهم، وهم على ما هم من الشؤون التي تكلمنا عنها في مقالات كثيرة وسنزيدها

شرحًا وبيانًا، أليس من العار أن تكون كتب المشهورين بالنباهة منهم مملوءة

بالخرافات والهذيان والغش من غير نكير، وأن ينقل عن بعض أكابرهم القول بأن فن

تقويم البلدان - بل وسائل الفنون الرياضية والطبيعية - لا لزوم لها ألبتة؟ !

أليس من الفضيحة أن يقول بعضهم: إن الانتظام والترتيب مفسد للأزهر ومُذهب

لبركته؛ لأن في الخلل القديم سرًّا روحانيًّا؟!

كفى كفى؛ مَن كتم داءه قتله. ليأخذ من لم يعرف أحوال العصر برأي من

عرف. ليخضع من تقوم عليه الحجة لها، وليتفقوا جميعًا على العمل قبل أن يخرج

الأمر من يدهم. والسلام.

_________

ص: 103

الكاتب: محمد رشيد رضا

تربية الأطفال

أول خدمة يخدم بها الطفل بعد فصله من أمه - غسله ودهنه وإلباسه ما يقي

بدنه من البرد وإرضاعه، وأما الغسل فينبغي أن يكون بماء فاتر مساوٍ لحرارة البدن

أو قريب منها، وأن لا تطول مدته، وأن يلف جسم الطفل كله بمنشقة ويدلك دلكًا

لطيفًا بغاية الرفق، ثم يدهن بزيت الزيتون ويلبَس ثيابًا واسعة لا تضغط جسمه،

ويحسن أن تكون في أيام الشتاء دافئة ولو بالعرض على النار، وأن تكون جافة؛

فالثياب الرطبة تضر الأطفال بل والكبار أيضًا، وبلغنا أن الإفرنج يمسحون في كل يوم أجساد أطفالهم بماء فاتر وماء بارد على التعاقب مرة من هذا ومرة من

ذاك ويقولون: إن تعويد الطفل على هذا يمنع سرعة تأثره بالتغيرات الجوية

كالانتقال الفجائي من الحرارة إلى البرودة ومن الجفاف إلى الرطوبة وبالعكس،

وقريب من هذا ما يؤثر في كتب الأدب العربية من أن رجلاً رأى أعرابية تغطس

طفلها في النهر في أيام الشتاء فسألها عن السبب في ذلك فقالت: أريد أن أجعله كله

وجهًا. تعني أن الوجه إنما لا يضره البرد لما اعتيد من تعريضه له من الصغر

فإذا عُود الجسم كله على برد الماء والهواء يصير يحتمله كما يحتمله الوجه.

ولكن هذا القول لا يؤخذ على إطلاقه؛ فالذين اعتادوا الترف والتنعم

والاحتراس من البرد وتوارثوا ذلك خلفاً عن سلف إذا عرض أحدهم طفله للبرد

الشديد وحاول جعله وجهًا بالتعويد يوشك أن لا يتم له ما يريد فيولد الماء البارد في

ولده الالتهابات التي ربما تنتهي بالممات! وقياس مترفي الحضر على الأعراب

قياس مع الفارق.

أما المسح بالماء الفاتر فالبارد بإسفنجة في نحو بضع دقائق ثم تنشيف البدن

ودلكه، فلعله ينفع ولا يضر حتى المترفين أصحاب الأجسام النحيفة الضاوية، ولا

بأس أن يغطس الطفل في الماء البارد فالسخن على التوالي والتعاقب بعد أن يكون قد

اعتاد جسمه على ذلك المسح، وبعد طور الرضاعة يكتفى بمسح الوجه والرقبة

والصدر بما ذكر؛ فهو يغني عن مسح البدن كله أو تغطيسه.

أكثر الأمراض التي تفتك الأطفال في سن الطفولية تكون من التغيرات الجوية؛

لأن الجسم فيه يكون سريع التأثر لا يقوى على الحر والبرد والرطوبة فضلاً عن

مقاومة مكروبات الأمراض العفنة الوبائية كالنزلة الوافدة أو الصدرية. وهذا العمل

يقولون: إنه يقي من هذه النزلة ومن التهابات الرئتين والشعب وأنواع الزكام وسائر

الأمراض الصدرية والمتولدة من التغيرات الجوية حتى قالوا: إنه يُذهب بالاستعداد

للسل. وحسبك هذا.

أما الرضاعة فيراعى فيها أمور، أهمها: أن ترضع الطفل أمه إن لم يكن

مانع من نحو مرض معدٍ أو هزال وضعف يضر المرضع أو الرضيع، فإن

أرضعته امرأة أخرى فينبغي أن تكون في سن الشباب سليمة من الأمراض المعدية

جيدة الصحة حسنة الخُلق والخَلق. وحسن الأخلاق من أهم شروط المرضع؛ لأن

اللبن كما يؤثر في انتقال المرض بالوراثة يؤثر في الأخلاق وإذا قلنا: إنه لا يؤثر في

الأخلاق. فمعاملة الفاسدة الأخلاق للطفل تكون غير منتظمة وقد قلنا من قبل إن

المعاملة التي تعامل بها الأطفال يكون لها تأثير كبير في عاداتهم وسجاياهم. يحكى

أن إمام الحرمين أرضعته مرة امرأة كافرة فاسدة الأخلاق فعلم والده بذلك فأقاءه

(جعله يقيء) ما رضعه، ثم إن الإمام بعدما كبر وصار علاّمة عصره كان إذا عسر

عليه حلّ مشكلة علمية أو بدرت منه بادرة غير مُرضية قال: إن هذا من آثار تلك

الرضعة. وقد ورد في الحديث الشريف: (لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء؛ فإن

اللبن يعدي) ويحسن أن يكون سن ولد المرضع مساويًا لسن الرضيع، وأن يكون قد

سبق لها إرضاع اختبرت به التربية.

وإذا لم يتيسر وجود مرضع بهذه الصفات فالأولى أن يغذَّى الولد بلبن

الحيوانات كالمعز والبقر بواسطة الآلة المعروفة؛ فإنه أسلم، ولكن لبن الأنعام أغلظ

من لبن البشر وربما اشتمل على مكروبات مرضية، فينبغي أن يضاف إليه قليل من

الماء والسكر بحسب تقدير الطبيب، وأن يسخن بحيث تموت مكروباته، ويكفي في

تسخينه حرارة 70 درجة بميزان سنتغراد. واللبن المغليّ أعسر هضمًا فلا يغلي لبن

الإرضاع غليانًا. ويجب أن تكون الآلة جديدة صالحة فإن كانت مما استعمل في

الإرضاع يجب تنظيفها وتطهيرها مما عساه يكون بها من التعفن ومكروبات

الأمراض.

هذا ما يراعَى في المرضع واللبن بالاختصار، أما الإرضاع نفسه فينبغي أن

يكون موقتًا بأوقات منتظمة لا يقل الزمن بين الرضعة والأخرى عن ساعتين في

أول الأمر، ثم تزيد المدة بينهما تدريجًا؛ لأن الطفل يأخذ في أول الأمر قليلاً من

اللبن وكلما كبر زاد مقدار ما يرضعه،والزيادة تقتضي زيادة المدة لأجل الهضم، وإن

كانت القوة تزيد معها أيضًا. وأكثر النساء لجهلهن لا يقصرن الإرضاع على التغذية

بل يجعلنه وسيلة للترضية، فكلما بكى الطفل يلقمنه الثدي، وربما يتوهمن أنه لا

يبكي إلا لطلب الرضاع أو أن كل بكاء يسكته الرضاع فهو لأجله، وإلا فهو عن

مرض. والصواب أن الطفل يبكي لأقل سبب كابتلال لفائفه وتألم بدنه ولو

من عقدة خيط في ثوبه.

وإذا حاول الطفل الحركة التي تقتضيها طبيعته فحال دون ذلك شد القماط عليه

يبكي، فليتجنب الإرضاع في غير وقته لأجل البكاء، وليعلم أن أكثر قيء الأطفال

من الإرضاع قبل الهضم، وناهيك به بلاءً على الأمهات والأطفال جميعًا.

أما مدة الرضاع فأكملها حولان تامان وأقلها واحد وعشرون شهرًا؛ أخذ ذلك

العلماء من قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن

يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233)، وقوله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ

شَهْراً} (الأحقاف: 15) وذلك بطرح مدة الحمل الغالبة (9 أشهر) من مدة

الحمل والفصال (أي: الفطام) معًا، كما استنبطوا من الآيتين أن أقل مدة لحملٍ ستة

أشهر، وسيأتي الكلام على إطعام الأطفال وتقريمهم إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 107

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات

(كتاب تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية)

لكل عصر من الأعصار مناهج مخصوصة في شؤون أهله الحسية والمعنوية

أو المادية والأدبية والأمور الثابتة التي تتغير بتغيُّر الزمان يطرأ التغيير على

وسائلها وعوارضها، وقد قال العلماء: إن من أسباب تغير الشرائع حتى

السماوية اختلاف شؤون البشر باختلاف الزمان. وأجمع المسلمون على أن الدين

الإسلامي آخر الأديان وشريعته خاتمة الشرائع. وإنما كان كذلك؛ لأنه جاء بقواعد

عامة تنطبق على مصالح البشر في عصر التشريع وفي كل عصر يأتي بعده مهما

بلغوا من الترقي في العلوم والأعمال، لكن هذه القواعد الصحيحة الثابتة تحتاج إلى

من يجليها في هذا العصر بما يناسبه ويستنبط منها الأحكام التي توافق مصالح

أهله، ولا يمكن أن يقوم بهذا العمل الشريف الذي يتوقف عليه حفظ الإسلام وأهله

فضلاً عن انتشاره وعزة أهله - إلا مَنْ عرف وقته وعرف الدين معرفة صحيحة.

ومن الأسف أن أكثر التصانيف الإسلامية في القرون الأخيرة أو كلها مأخوذة

من كتب المتقدمين نسخًا يشبه المسخ، وأنه لم يكن يوجد عندنا كتاب في الدين إذا

عرض على متمدني هذا العصر يأخذ من قلوبهم مأخذًا يستلفتهم إلى النظر في الدين

بتمثيله سائقًا لهم إلى سعادة الروح والجسد على الوجه الذي يناسب زمنهم وعمرانهم

حتى قام حكيم المسلمين في هذا العصر العلامة الشيخ محمد عبده وألف (رسالة

التوحيد) الشهيرة. وأمامنا الآن كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس

المدنية) الذي نوهنا به في العدد 33 من السنة الأولى لجريدتنا عند الشروع في

طبعه وذكرنا أن مؤلفه صديقنا هو القاضي الشاب الذي فاق الشيوخ أناة وكمالاً

وعملاً بعمله محمد فريد أفندي وجدي.

أما الكتاب فقد تم طبعه وقرأناه فإذا هو قد وافق اسمه مسماه، افتتحه بمقدمات

في الدين والعلم والإسلام، بيَّن فيها أن الدين ناموس عام ضروري في الكون كسائر

نواميسه، وذكر آراء مشاهير فلاسفة أوربا في النسبة بين الدين والعلم وفيما ينبغي أن

يكون عليه الدين، وبيّن أن العلوم الطبيعية خدمت الإسلام وأنها كلما ترقت وزاد

الناس رسوخًا فيها زادوا قربًا من الإسلام، وأن القواعد التي وضعها الفلاسفة

للديانة الطبيعية موجودة في دين الإسلام، وهي أربع:

(1)

الاعتقاد بأن الله غني عنا وعن أعمالنا.

(2)

وأنه رحيم بنا ويود صلاحنا.

(3)

أن العبادة يجب أن تنطبق على النواميس الثابتة للحياة وتلائم الطبيعة

البشرية لا أن تعارضها وتسعى في ملاشاتها.

(4)

وأن العبادة الجسمية يجب أن تعتبر وسائل لتطهير النفوس وتهذيبها لا

أغراضًا مطلوبة لذاتها.

واستدل على وجواد هذه الأشياء في الإسلام بالكتاب والسنة، ثم عقد فصولاً

في نواميس المدنية وانطباقها على الإسلام مبينًا النواميس بأقوال علماء أوربا

مستشهدًا على الانطباق بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وأراني مضطرًّا لأن

أقول: إن من الأحاديث التي أوردها ما لا يصح رواية وإن كان معناه صحيحًا ومسلّمًا

في الدين ولو راجع كتب الحديث لوجد في معنى تلك الأحاديث الواهية الإسناد

أحاديث صحيحة، وعساه يستدرك هذا في طبعة ثانية.

وقد خاض الكتاب في كثير من المسائل العصرية وبيّن نسبتها إلى الدين

الإسلامي: كالحرية بأنواعها، والواجبات بأنواعها، وبراءة الإسلام من الحقد

الديني المعبر عنه بالتعصب والاسترقاق، وأن الإسلام راعى فيه ناموس، الحضارة

وكون الإسلام هو الدين الوحيد الذي راعى حقوق الروح والجسد معًا، وختم الكتاب

بنظرة في الإسلام والمسلمين أجمل فيها القول في أمراض المسلمين وبيان دوائها

الذي هو الإسلام نفسه.

وكفى هذا الكتاب شرفًا أننا جعلناه ثاني كتاب رسالة التوحيد التي لم يؤلّف

مثلها في الإسلام قط، ولعمري إن مؤلفه الفاضل جرى على آثار الأستاذ في الرسالة

أسلوبًا وبحثًا، ولا يعيبه أنه لم يبلغ شأوه بلاغةً وتحقيقًا وتحريرًا؛ فالأستاذ حكيم

الأمة في هذا العصر وأبلغ كُتاب العربية أجمعين. ومن جملة ما تبع فيه رسالة

التوحيد تشبيه النوع الإنساني كله بشخص منه، وبيان أن جميع الأديان والشرائع

السابقة كانت مناسبة لأطوار النوع من الطفولية ومبادئ التمييز، وأن الإسلام هو

الدين الذي منَّ الله به على الإنسان عند ابتداء دخوله في طور الرشد والعقل؛ ولهذا

كان آخر الأديان، على أن في الكتاب من الفوائد الكثيرة ما ليس في الرسالة كما أن

فيها ما ليس فيه، فلا يُستغنَى بأحدهما عن الآخر. ومما يمتاز به الكتاب سهولة

التناول؛ فيتسنى لجميع طبقات الناس فهمه. وسننقل منه نموذجًا تعرف به مكانته من

الفائدة إن شاء الله تعالى. ومما انتقدناه على صديقنا الفاضل مؤلفه أنه هضم حقنا في

خدمتنا في المنار؛ حيث قال - في فاتحة الكتاب - ما نصه:

(نسمع كل جمعة على المنابر قائلاً يقول: لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا

من القرآن إلا رسمه. ولكنا لم نسمع قط بأن عاقلاً قام يبحث بدقة وثبات عن أسباب

هذا الاضمحلال الشديد الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية من منذ (كذا) قرون كثيرة،

أما والعلم لو بحث باحث عن علل هذا الهبوط الهائل بعد ذلك الصعود السريع -

ما وجدها إلا في ترك السنن واتباع البدع) .

نحن قد سبقناه إلى هذا في المنار إجمالاً وتفصيلاً؛ حتى إن عبارة الخطباء

التي قالها قد ذكرناها في مقالة افتتحنا بها العدد 19 من السنة الأولى أو تكلمنا فيها

على البدع. وقد كتب المؤلف - لهذا العاجز منشئ المنار - كتبًا كثيرة يثني فيها

على خدمتنا للإسلام، وكأنه ذهل عن ذلك عند كتابة ما ذكر، وسبحان المنزه عن

الذهول والنسيان.

***

(إظهار لفضل وإصداع بحق)

لبعض الأدباء التونسيين

لا يخفى على حضرة القراء أنه ظهر في عالم المطبوعات من عهد غير بعيد

جريدة المنار المصرية لمنشئها الفاضل السيد محمد رشيد رضا وهو أحد فضلاء

الشرقيين، ومن يوم بروز هاته الجريدة إلى عالم الوجود أخذت تنشر مقالات علمية

في مواضيع شتى، يكتب مضمونها بالنور على نحو الحور، ولقد تصفحنا ما صدر

منها عددًا عددًا؛ فوجدناها قد بينت الأسباب التي هدمت الهيكل الإسلامي وقوضت

مجده إلى أن أوصلته إلى حالة اليوم.

منها مقالة في الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية في تلافي

البدع والتعاليم الفاسدة التي انتشرت بين المسلمين انتشارًا أضر بجامعتهم.

ومنها مقالات في أعمال المنتسبين للأولياء والصوفية التي خالفت الشرع

ظاهرًا وباطنًا والاحتجاج عليهم بكتاب الله وسنة رسوله وأعمال السلف الصالح، إلى

غير ذلك من المقالات التي وقع لها دوي عظيم في الأصقاع الإسلامية، وحيث كانت

هاته الأفكار لا تخفى على مَن له اطلاع على ما جاءت به شريعتنا السمحاء وعلى

ما يعتقده غالب الإسلام من الخرافات الباطلة والأوهام الفاسدة - وجب علينا أن

نعضد هذا الفكر بكل ما في الوسع، ونعلن بفضل هاته الجريدة على رؤوس الملأ.

ولا فائدة لنا في بيان ما اشتملت عليه من الحقائق المسلّمة، وإنما نحثّ أبناء

العلم والوطن على اقتناء هاته الجريدة الغراء؛ فإنها المرشدة الوحيدة واللؤلؤة الفريدة

والناصحة الأمينة والدرة الثمينة، ونقدم إلى صاحبها خالص الشكر والثناء عما قام به

من النصيحة نحو المسلمين، والله لا يضيع أجر المحسنين.

...

...

...

...

... (الحاضرة)

(المنار)

إذا كان الإخلاص في النصيحة حسنًا فتوجيه النظر إلى سماعها يكون حسنًا

أيضًا، وإذا كانت خدمة الملة والأمة محمودة فلا شك أن المساعدة عليها محمودة،

وحيث كان الساعي بالخير كفاعله فصاحب هذه النبذة الحاضَّة على زيادة انتشار

المنار - هي مشاركة لنا في الخدمة به، فحمدًا له وشكري، ونسأل الله تعالى أن يكثر

في الأمة أمثاله من أهل الغيرة والفضل.

_________

ص: 109

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

استنهاض همم

رسالة مطولة لأحد فضلاء الكُتاب في سوريا

(1)

لم نر الحديث تسلسل في هذا الموضوع بين الكتاب مثلما رأيناه لهذا العهد، ولم

نعهد للأقلام جولة في هذا المضمار كجولتها في هذه الأزمنة المتأخرة شعور سماوي

قام في نفوس النبهاء من المسلمين وعقلائهم، وروح زكي هبط عليهم من عالم القدس

فبعث راقد هممهم. إذا تهامس أبناء طنجة بحديث في الإصلاح رنَّ صداه بين أبناء

سنغابور وحوّموا عليه، أو قدح هؤلاء زناد رأي في عمل لاح له وميض في جو

أولئك واشرأبُّوا إليه، وإن تموج الهواء من أقصى الجنوب لهمهمة مسلميها أصاخ له

إخوانهم في أقصى الشمال، وإن تناجَى اثنان هنا انتقلت نجواهما إلى هناك انتقال

الكهربائية بدون أسلاك، أهاب المتيقظ بالمهوّم [1] ، وصاح المنتبه بالغافل وتلتل

العامل المقصر واستحث السابق المتأخر، وهم - في حوارهم هذا - مجمعون على أن

الأمة في مرض يقرب من الحَرَض، وكادوا يصفقون على أن علاجه الناجع هو تعميم

التربية والتعليم. هل الأمة في عوز لتناول هذا العلاج، وهل يتسنى لها تناوله،

وإن أحجمت عن تناوله كيف يكون مصيرها وإلى أي بيئة تتحول بيئاتها؟

استدعى هذا السؤال جوابًا مسهبًا واستثار حديثًا طويلاً، وكنت في ملأ من أهل

اليسار والجاه والنعمة والرفاه؛ فأحببت أن أرفعه على صفحات (المنار) علّ فيه

موعظة وذكرى لأولي الأبصار.

قلت أولاً: إن الحكومات الإسلامية التي ما برحت تحافظ على استقلالها هي

أربع:العثمانية، والفارسية، والأفغانية، والمراكشية.أما بقية الجماعات الإسلامية

فهي إما إمارات مستضعفة تلوذ بالدول الإفرنجية أو تستظل بحمايتها. وإما قبائل

رُحَّل تضرب في صحارِ إفريقية ومجاهل آسيا، وهناك أقوام سقطوا في مهاوي

الاستعمار الأوربي وخنعوا لصولجان الحكم الأجنبي، ولا جرم أن النهضة في

إصلاح الخلل ورتق الفتق، إنما تُرجَى على أكملها في الحكومات الأربع المستقلة. إذا

لم تسعَ تلك الحكومات في التقرب من بعضها ولم تتدبر عاقبة أمرها فبشِّرْها

بسوء المنقلب وشؤم المآل.

كيف يؤمّل الإصلاح العام إذا لم يمشِ رجالات [2] من أهل المشرق إلى

رجالات من أهل المغرب، ويتحاوروا في إصلاح شؤونهم ويديروا الرأي في مواساة

عللهم وتضميد كلومهم؟ كيف تتحد القلوب وتلتئم الأهواء وعلماء تلك الحكومات

متخاذلون ومن الصراط السوي ناكبون، لا يعترف أحدهم للآخر بشأن ولا

يستصوب له رأيًا إلا إذا وافق هواه ولاءم ما قام في نفسه؟ إذا آنس أحدهم من

الآخر معارضة أو مخالفة بهره [3] بالزندقة والمروق، وزنه [4] بالكفر والإلحاد! -

كل ذلك ليلوي عنه أعناق السامعين ويصرف قلوب المعجبين، ويستأثر بالشهرة بين

العالمين. كيف يرجى الإشراف على الغاية التي تتوخى الوصايا إليها وأولو الأمر

في تلك الحكومات لا يهمهم سوى حفظ مراكزهم وصيانة جثمانهم؟ قصروا أيدي

نبهاء الأمة عن مشاركتهم في إدارة شؤونها ومشايعتهم في رأب صدوعها، وأخذوا

بأكظامهم [5] دون التفوه بكلمة تؤْذِن بإنعاشها وتعمل على إسعادها.

فعلوا ما فعلوا إرادة المحافظة على الإطلاق والاستئثار بالسلطة والانفراد

بالأمر، ليتهم يعلمون أن ذلك الإطلاق الذي توخوه هو عين التقييد والحجز، أليسوا

في هلع دائم وجبن خالع من حدوث ثورات تقضي على سلطتهم وتبزهم إطلاقهم

واستبدادهم؟ أليسوا في حذر وإشفاق من تألب الأمة عليهم وأخذها على أيديهم؟

أليس كل خطأ في سياسة البلاد أو خلل في إدارة مصالحها وأعمالها يُنسب في العادة

إلى عاهلها أو أميرها إذا كان مطلق التصرف ويُعزَى إلى أفن رأيه وسوء تدبيره؟

هذه شؤون المطلقين المستأثرين بالسلطة. اصرفوا أبصارَكم تلقاء أولئك الذين

زحزحوا عن عواتقهم عبء المسؤولية، وألقوا معظمه على رجال من أممهم، وقيدوا

أنفسهم بآراء المنتخبين والشرائع والقوانين - تروهم يتقلبون في شؤونهم وملء

عيونهم غمض، وحشو أجسامهم أمن، لا تسمع في بلادهم لاغية شكوى عليهم، ولا

تحس برِكْز أو حسيس [6] لثورة في خضد شوكتهم وثل عروشهم إذا ألمَّ بسياسة الأمم

ضعف أو فساد، أو حدث في مصالحها العامة تراخٍ أو خلل - كان المسؤول بتلك

التبعة والمطالب بسوء نتائجها هو الذي جناها واجترحتها يده، لا ينحى على الزعيم

الأكبر بلائمة ولا ينبس في النيل منه بكلمة. لا جرم أن المسمى بالإطلاق هو عين

التقييد، والمسمى بالتقييد هو عين الإطلاق.

أنى يُتاح للأمة إفاقة من هذا الخمار أو تفلت من أحابيل الجهل والضعف

والاستخذاء (المذلة) وروحها التي هي المال في قبضة أناس لا يهمهم سوى إنفاقه

في سبيل شهواتهم؟ ليت شعري بماذا يمتاز المسترسلون في ملاذهم المنغمسون في

شهواتهم عن البهائم المرسلة إذا لم يبذلوا جزءًا من دثرهم - مالهم الكثير - في إنقاذ

أمتهم من الجهالة، وتنوير عقول شبانها بالعلم والعرفان.

مهما تنعَّم المرء في ضروب الترف وتقلب في أنواع الرفه كان حظ البهيمة في

ذلك أكمل ولذاتها أتم، البهيمة تسعى في تلمس شهوة نفسها واستيفاء لذة حواسها،

فالخليق بالإنسان أن يباينها في ذلك ويسعى في تطلُّب شهوة عقله واستيفاء لذة

وجدانه وشعوره، شهوة العقل هي الارتياض بالكمالات والقيام بالواجبات. لا كمال

أرفع ولا واجب أقدس من خدمة المرء لأمته وسعيه في إصلاح قومه. لا عمل

يحفظه التاريخ ويشكره الله مثل عمل المرء في صيانة وطنه وإنقاذه من المخاطر

المحتفَّة به. ما ينتظر المتقاعدون عن العمل؟ ماذا يرجو المخلفون عن مشايعة

العاملين؟ ما الذي يثبط الهمم عن السعي؟ ما الذي يُضعف العزائم عن الجهر

بالحق والنصيحة؟ أينتظرون صيحة من العالم العلوي تثير الراكد وتوقظ الراقد؟!

أيرتقبون هُتافًا من عالم الأرواح يزعج الأنفس المطمئنة ويتلتل الهمم المستكنة؟!

أيصيخون إلى نبآت وهمسات من خلل برازخ الأموات تجمع البدد وتصلح ما

فسد وتعلم الجاهل وتنبه الغافل؟ !

جلت عظمة الله وتقدست حكمته، إن هي إلا نواميس كونية وسنن إلهية

وضعها تعالى من العالم موضع القطب من الرحى أو الروح من الجسد، فمَن رعاها

حق رعايتها، وتوخى السير عليها ظفر، ومن دابرها أو تنكّب جددها عثر تلك

النواميس والسنن لا تبديل فيها، ولا تخلف يعترض دون اطرادها إلا ما كان

في أزمنة النبوات أزمنة التحدي بالخوارق والمعجزات.

وبالجملة، إن ما تواتر على الأمة من القوارع وتتابع من وخزات الحوادث

كافٍ لإماطة غشاوة الغفلة عن أبصار آحادها وتفكيك هممهم من العقل والأغلال التي

كبلتها. وما رأيناه لهذه الآونة من تلك الروح العلوية الفائضة عن ألسنة عقلائنا

والطائفة على أسنان أقلامهم في خطبهم وكتاباتهم - جدير بإحياء ميت الآمال فينا

وإثارة رواكد الأماني في نفوسنا وحقيق بأن يبعثنا على اطِّراح اليأس والقنوط

والأخذ بأسباب الحيطة والحزم قبل تقلص الفرص وتجافي الأسباب وحدوث ما لم

يكن في الحسبان. فلنلُف اليأس بالكسل ونرمي بهما من حالق جبل. ولنضع أمام

أعيننا نور الأمل ثم لنُقبل على العلم والعمل، وعلى الله سبحانه العصمة من الزلل.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

أهاب به: زجره وصاح به، والمهوّم: مَن غلبه النُّعاس فجعل يهز رأسه.

(2)

رجالات: جمع رجال فهو جمع الجمع ولكنه لا يستعمل إلا في أشراف القوم وعظمائهم.

(3)

بهره: بهته ورماه بما هو براء منه.

(4)

زنه: اتهمه.

(5)

أخذ بأكظامه بمعنى: قبض على حلقه ومدارج أنفاسه.

(6)

الرِّكْز والحسيس معناهما: الصوت الخفي.

ص: 113

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التعليم القضائي

بينا في نبذة سابقة أن مُثْلَى طرائق التعليم هي التعليم بالعمل، وذلك إجمال لو

فُصل ببيان كيفياته بالنسبة إلى كل علم وفن - لاحتاج إلى مجلدات كثيرة، ولكن

العالِم بفن من الفنون تكفيه الإشارة؛ لأنه مهما كان جاهلاً بطريقة التعليم وغير

عامل بعلمه فلا بد أن يكون عالمًا بكيفية العمل وما عليه في تحصيل المَلَكَة إلا أن

يزاول العمل مرة بعد أخرى، وكلما مضى فيه سهل عليه حتى يصير بغير تكلف.

وهو ما يعبر عنه بالملكة.

ونريد الآن أن نقول كلمة في التعليم القضائي بالعمل وهي: يعلم القراء أن

الحكومة المصرية تحاول في هذه الأيام إصلاح المحاكم الشرعية بناءً على ما جاء

في (تقرير المستشار القضائي) الإنكليزي من نسبة الخلل إليها، وتريد أن تبتدئ هذا

الإصلاح بتعيين قاضيين من قضاة محكمة الاستئناف الأهلية النظامية في المحكمة

الشرعية، يحضران الدعاوي المهمة. ويعلمون أن مجلس شورى القوانين رفض

هذا الاقتراح بناءً على فتوى شرعية صدرت من جانب سماحة قاضي القضاة

وفضيلة مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر، ملخصها: أنه ليس للحكومة المصرية

ولا لأمير البلاد الحق في نصب قاضٍ شرعي؛ لأن هذا خاص بالخليفة ونائبه الذي

هو في مصر قاضي القضاة، لا سمو الخديو، وأن القاضي الشرعي يجب أن

يحكم بالصحيح والراجح من المذهب النعماني، وأن يكون عالمًا بهما، وأن يكون قد

مارس المرافعات الشرعية والحكم فيها. وبناءً على اعتبار هذا الأمر الأخير في

القضاة - سواء أكان واجبًا وشرطًا كما يفهم مما مرّ أَمْ (لا) - نقول:

لا يجوز أن يراد بممارسة المرافعات ما يكون بالقضاء الحقيقي؛ لأنه يلزم منه

الدور، ولكن الممارسة تكون بأحد أمرين: أحدهما حضور المرافعات في

المحاكم وهو لا يتيسر لجميع المتعلمين الذين يترشحون للقضاء، ويلزم له زمن

طويل يصرف بعد طلب العلم في المحكمة. وثانيهما (التعليم القضائي) الوضعي

الذي نريده ونقترحه على فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ومجلس

إدارته؛ لأنه أسهل الطرق للتحقق بما جاء في الفتوى.

هذا النوع من التعليم يُختار له الكتب التي تذكر الأحكام في ضمن الوقائع

وأكثر كتب المتقدمين - لا سيما قبل المئة الخامسة - كذلك؛ لأنهم كانوا يتعلمون

الفقه للعمل، وأول عمل ضاع به الفقه كغيره من العلوم والفنون الإسلامية - تأليف

المتون الوجيزة المختصرة، والعمل الثاني للضياع: اختيار هذه المتون للتدريس

والاستعانة على ذلك بشرحها، والعمل الثالث - وهو الذي تم به الضياع - هو

وضع الحواشي ثم التقارير عليها والخروج بذلك كله عن كون العلم مبينًا للعمل

شارحًا للوقائع إلى البحث في الألفاظ والأساليب وخلط الفنون بعضها ببعض. ولم

يكن وضع المختصرات في أول الأمر لأجل التعليم والتعلم، وإنما كان الغرض منها

تذكرة المنتهي لا سيما في السفر الذي يعسر فيه حمل الأسفار الكبيرة سيما في تلك

الأزمنة.

ومما يوجب لأسلافنا الفخر ويُظهر أننا شر خلف لهم أن الباحثين في فن

التعليم اهتدوا بعد العناء الطويل إلى أن خير طرق التعليم وأقربها هو (التعليم

بالعمل) وبيان المسائل في ضمن الأمثلة والأحكام الشرعية في صور الواقعات، وهو

ما كان عليه سلفنا من قبل ألف سنة، وإنما يكمل هذا النوع من التعليم بتأليف هيئة

للمحاكمات الوضعية كهيئة المحكمة الحقيقية - رئيس وقضاة (أعضاء) ومدَّعٍ

ومدعَى عليه أو وكلاء (محامون) وبينات وتحقيق وحكم.

وينبغي أن تكون المرافعة علنية وأن يتناوب طلاب العلم القضاء فيها وأن

تكون العناية بالدعاوى التي يحكم فيها بالشرع في هذه الأيام أشد من العناية بغيرها.

يقول قائل: أي حاجة للعناية بالأحكام التي لا يعمل بها؛ لأن أمراء المسلمين

نسخوها بالقوانين الوضعية؟

والجواب: أن عدم التعليم القضائي جعل الشريعة السماوية الواسعة ضيقة لا

تفي بحاجة العصر، والأمراء والحكام يرون أنفسهم مضطرين إلى مجاراة العصر في

شؤونه العامة، ويجب أن تكون الأحكام مطابقة لحاجات الناس في كل عصر بحسبه

لا أن تقاوم الطبيعة، وتغير أساليب العمران؛ لتوافق ما يفهمه العلماء على تقصيرهم

من الكتب الشرعية القديمة؛ لأن هذا غير ممكن للناس. فإذا حسنت حال التعليم

ووجد في الأمة علماء يعرفون حال العصر ويستنبطون من قواعد الشريعة العامة

التي نفتخر بها بأنها تنطبق على أحوال كل زمان ومكان ما يوافق مصلحة الناس

بحسب زمنهم هذا؛ فلا شك أن الأمراء والحكام المسلمين يحكمون بها مهما وَهَى بناء دينهم وسحلت مرائر يقينهم، لعلمهم بأنها أقرب لصلاح الناس لخضوع السواد

الأعظم لها ظاهرًا وباطنًا، اللهم إلا إذا غلبوا على أمرهم بالسلطة الأجنبية. ولا

نقصد مما ذكرنا تبرئة الأمراء من تبعة ذنب الانحراف عن الشريعة وحصره

بالعلماء! !

كلا ثم كلا، وإنما غرضنا بيان السبب، وقد بلغنا أن إسماعيل باشا الخديوي

الأسبق طلب من علماء الأزهر أن يؤلفوا له كتابًا شرعيًّا في الحقوق والجنايات سهل

العبارة مرتبًا على ترتيب كتب القوانين وموافقًا لحال العصر (كمجلة الأحكام

الشرعية التي يُعمل بها في محاكم ولايات الدولة العلية) فأبوا عليه ذلك وسمعت أن

إحجامهم كان خوفًا من طعن العامة في دينهم إذا هم وضعوا الأحكام الشرعية في

أسلوب كتب القوانين. ومهما كان من السبب فالتبعة الكبرى فيه على العلماء

كما هو ظاهر.

يقول المعترض إن الحكومة المصرية مغلوبة على أمرها للأجانب فكيف نرجو

تحويل المحاكم الأهلية شرعية ونحن نرى الحكومة تحاول إلغاء المحاكم الشرعية

والاكتفاء بالمحاكم الأهلية؟ وإذا لم يكن لنا أمل في الحكم بالشرع فعَلامَ العناية وإِلامَ

احتمال العناء في تعلمه تعلمًا قضائيًّا أو غير قضائي؟ !

ونقول في الجواب:

أولاً - أن التعليم موجود في الأزهر بالفعل، ونحن إنما نطلب تحسينه، وقد

ورد في الحديث الشريف أن الله تعالى يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه وما

ذكر قد يمنع من أصل التعليم ولكنه لا يمكن أن يمنع من تحسينه مع وجوده.

ثانيًا - أن الأزهريين يشتغلون جميعًا فيما لا يتعلق به عمل في هذا العصر

كأحكام الرقيق بأنواعها بناءً على أن مرادهم حفظ هذه العلوم وإن لم تكن تستعمل؛

ولذلك تبرم شيوخهم من زيادة بعض الفنون في الأزهر، لئلا تشغلهم عنها. وتعلمها

بالكيفية التي نريدها أقرب لتحصيلها ولحفظها.

ثالثًا - أن الأمل لم ينقطع من العمل بها ولا ينقطع إلا إذا بقي تعلمها على

حاله أو رجع القهقرى كما هو الشأن في أمتنا منذ قرون.

فإذا نفضنا عن رؤوسنا غبار الخمول والكسل واجتهدنا في تحصيل العلوم على

الوجه الذي يؤدي إلى إتقان العمل فلا يمضي زمن قليل إلا ونكون أمة من الأمم،

لها قول يُسمع ورأي يُحترم، وعند ذلك نحكم بما نريد ونرغب؛ لأن قوة الشعب قوة

إلهية لا تُغلب، فمن عمل لهذا الرجاء فأولئك هم المفلحون.

{قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَاّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56)

_________

ص: 117

الكاتب: محمد رشيد رضا

تربية الأطفال

تكلمنا في العدد الماضي عن طور الرضاعة ووظائفه، ووعدنا بأن نتكلم عن

إطعام الأطفال وتقريمهم (تعليمهم الأكل)، فنقول: لا هادي إلى تربية الطفل

كالطبيعة والفطرة، فعلى المربي أن يسترشد بها؛ لأنها هداية إلهية ممنوحة للجميع.

قلنا في بحث الرضاع: ينبغي أن ترضع الطفلَ أمُّه، وإلا فمرضع يكون ولدها

الرضيع في سنه والحكمة في ذلك أن الله تعالى جعل اللبن في الأم موافقًا لسن ولدها،

ففي أول الأمر يكون سهل الهضم جدًّا وكلما تقدم في السن وقويت معدته على

الهضم تزيد المواد المغذية في اللبن.

أما الأكل فيرشد إليه من الطبيعة ظهور الأسنان فمتى أسنَّ الطفل (نبتت

أسنانه) وصار قادرًا على المضغ يُطعَم، ولكن يبتدأ في إطعامه بما كان سهل الهضم

كلبن الحيوانات والأرروط والنشا، ولا يكون هذا إلا بعد بلوغه بضعة أشهر حتى إذا

ما كملت مواضغه (أضراسه) يطعم من سائر أنواع الطعام، ويراعَى فيه سنة الفطرة

بالتدريج؛ لأن آلات الأكل تظهر فيها تدريجًا. وإطعام الأطفال الأطعمة النشوية

والسكرية في سن اللبان يولد فيهم الأمراض ويكثر فيهم الموتان. ويحسب الأمهات

الجاهلات أن معالجة الطعام وتلويقه (جعْله لينًا) ، بحيث لا يحتاج إلى مضغ يسهل

هضمه على الوليد ويغتررن بواحد من عشرات ومئات يطعم فيسمن، ولا يعتبرن

بالعشرات والمئات الذين يمرضون ويموتون؛ وذلك لأنهن لا يعرفن سبب مرضهم

وموتهم، وهو في الغالب من المآكل الغليظة العسرة الهضم، لا سيما مع عدم الوقاية

من البرد.

ولا بد من التوقيت والانتظام في تقريم الأطفال، فيطعمون أربع مرات في

اليوم - بعد القيام من النوم وعند الظهر وعند العصر وبعد المغرب - فطعام الصباح

والعصر: اللبن والبيض والخبز وشيء من الحلوى، وطعام الظهر: اللحم والبقول

والفاكهة، وطعام المساء: الشوربا والبقول ولو باللحم والرز، أما مقدار ما يأكله

الطفل فليس بمحدود، بل يُترك وشأنه، يأكل ما شاء، لا يلزم بالزيادة، ولا يمنع

من الاستزادة، إلا إن كان شرهًا يأكل فوق طاقته، وقلما يكون الشره إلا من سوء

التربية. ويمنع الأطفال الإكثار من الفاكهة والحلوى، ويمنعون من شرب الشاي

والقهوة فضلاً عن المسكرات والأشربة الروحية التي هي سموم قاتلة، لا يقل فتكها

بالكبار عن فتك سائر الأمراض الخبيثة.

_________

ص: 121

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المتكلمة بالقرآن

قرأنا في كتاب روضة البلاغة للعلامة أبي الحسن البارزي ما نصه:

عن أحمد بن عبد الله الواسطي قال: خرجت إلى مكة فإذا بامرأة على الطريق

تتلو آية من كتاب الله تعالى وهي: بسم الله الرحمن الرحيم: (من يهدِ الله فلا

مضل له ومن يضلل فلا هادي له) [1] ، فلم أشك أنها ضالة، فقلت لها: يا أمة الله،

أحسبك ضالة، فقالت (بعد البسملة - وهكذا كان كل الأجوبة مصدّرًا بالبسملة

فحذفناها للاختصار) : {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (الأنبياء:

79) فقلت لها: يا أمة الله، أين تريدين؟ قالت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ

مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) فقلت: يا أمة الله، من أين؟

قالت: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي

بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1) فعلمت أنها من بيت المقدس، فقلت: يا أمة الله،

ما لك لا تكلمينا؟ فقالت: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18)

فقلت لصاحبي: أحسبها حَرورية. قالت: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ

السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء: 36)، فقلت: لا

حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنها لا تكلمنا إلا من كتاب الله، فقلت: يا أمة

الله، آخُذ بعيرك، فأقوده إلى مكة؟ قالت:{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 215) ، فأخذت بعيرها أقوده، فبينما نحن كذلك إذ أشرفت من طريق

الشام قافلة، قالت:{وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل: 16) قلت: يا

أمة الله ما تريدين؟ قالت: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَه} (يوسف: 19) الآية، فقلت: في القافلة قرابة لها. قال: فلما أقبلت القافلة قلت:

يا أمة الله، بمَن أصيح ومَن لك في القافلة؟ قالت: {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ

وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِياًّ} (مريم: 12){يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} (مريم: 7){يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْض} (ص: 26) فصحت:

يا يحيى، يا زكريا، يا داود. فأجابني ثلاثة نفر، فقالوا: ما تريد؟ قلت:

معي عجوز لا تكلمنا إلا من كتاب الله تعالى. فقالوا: إنها أمنا، قد ضلت منذ ثلاثة

أيام قال: فلما أبصرتْهم تبسمت، وقالت: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى

المَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} (الكهف: 19)، قال: فعلمت أنها تريد أن تزودني وتبرني، فقلت: لا حاجة لي

في زادكم وفي بركم، أخبرونا عن هذه العجوز ما لها لا تتكلم إلا من كتاب الله

تعالى؟ ! قالوا: إنها - منذ أربعين سنة - ما تكلمت إلا من كتاب الله مخافة

الكذب. اهـ

(المنار)

إن المحافظة على الصدق من أفضل الفضائل على الإطلاق، وقد يبلغ الغلو

بالشيء والتعمق فيه إلى ما يُستغرب وقوعه كما ينقل عن الأسخياء والشجعان. ومن

ذلك خبر هذه المرأة، ويلوح للذهن أن الحكاية مخترعة، لا لأن استحضار الآيات

التي تشير إلى المقاصد عسير؛ بل لأن الصبر عن الكلام هذه السنين الطوال محل

غرابة، ولكن الأصل في الكلام - لا سيما كلام أهل العلم - أن يكون صادقًا، ولله

في خلقه شؤون.

هذا، وقد نص بعض الفقهاء على أن استعمال القرآن للتخاطُب في الأمور

العادية محظور.

_________

(1)

كذا في الأصل، ولا توجد آية بهذه الألفاظ، بل هي كلمات من خطبة الحاجة أو النكاح للرسول صلى الله عليه وسلم مع إضافة الهاء لنهاية (يهد)، وهناك آيات قريبة من ذلك:[وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ](الإسراء: 97)، [مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِياًّ مُّرْشِداً] (الكهف: 17) ، [وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ] (الزمر:37) .

ص: 123

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقتطفات

(اليابان)

يؤخذ من تقرير وزير المعارف في اليابان عام 1894 أن عدد سكان اليابان

بلغ- إذ ذاك -: 42426921 نفسًا وعدد الطلبة: 7320191 ولم تكن تجد ثلثهم

عام 1873 وبلغ عدد المدارس: 23874 مدرسة وعدد المعلمين والمعلمات:

69845.

وبلغ عدد سكان اليابان في الإحصاء الصادر في السنة الجديدة: 43 مليونًا

و229 ألفًا من النفوس، نصفهم ذكور ونصفهم إناث على وجه التقريب، وقدرت

ميزانيتها للسنة الجارية: 189 مليون (ين) للواردات و113 مليونًا للنفقات؛

فتكون الزيادة في النفقات: 30 مليون (ين) والين - من الفضة - يساوي فرنكين

ونصفًا وهو يقابل (الكروان) الإنكليزي قيمة.

***

أهدانا الفاضل الأديب الشيخ محمد بشير ظافر المدني الأزهري قصيدة من

نظمه في التنفير عن المدارس الأجنبية؛ لأنها أُسست على دعائم الدعوة إلى

النصرانية والاستمالة إليها ونقش تعاليمها في ألواح نفوس الولدان، حتى كان الذي

يرسل ولده إليها لا يبالي أخرج مسلمًا أم غير مسلم! ، فنحثّ معه سائر الشعراء

على النظم في مثل هذا من المواضيع الاجتماعية، والخروج بالشعر من مضيق

الأماديح والأهاجي الشخصية.

_________

ص: 124

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

(مراكش)

لمكاتبنا الفاضل في تونس

لم تزل الأخبار تتوارد علينا يومًا فيومًا بسوء حالة هاته المملكة الإسلامية

وتعاسة سكانها إلى درجة يخشى معها سوء العاقبة وفساد المنقلب. ولا تزال رجالها

في غفلة عما هم عيه من موجبات السقوط والاضمحلال فداخليتها على غاية من

الاحتلال والفوضى قد ضربت أطنابها بسائر أنحائها، فالقبائل بعضها لبعض عدو،

والدولة عدوة للجميع، والدول الأورباوية قد اشتدت وطأتها عليها بنزف أموالها ولولا

التحاسد لفقدت استقلالها من قديم فدولة الأسبان تود الاستيلاء عليها منذ عهد بعيد

وترى أنها أحق الدول بذلك؛ لقدم المجاورة التي بينهما وكل من فرنسا وإنكلترا

وألمانيا يزاحمها ويسعى في احتلال جزء منها، ولهذا السبب عاشت دولة

المغرب العليلة ولم يفارق جسمها المنهوك الروح.

كان على عهد السلطان مولاي الحسن نهضة تحريرية في جرائد الإسلام

حذرته وأنذرته سوء العاقبة وأطلعته على ما يجب عليه سلوكه لحفظ مملكته من

السقوط والتلاشي، ولم ينجح شيء. وبقي متماديًا في شأنه يقاتل رعاياه ويبتز أموالهم

التي حرم الله، وازداد نفوذ الأجنبي في أيامه زيادة لها بال، إلى أن وقعت حادثة

مليلة الشهيرة التي دفعت حكومة المغرب لأجلها عشرين مليونًا من الفرنكات

لحكومة الأسبان إرضاء لها عن تعدي قبائل الريف على حدودها وعلى رعاياها.

وهكذا كان يدفع الأموال الطائلة بغير انقطاع، وكانت أيامه كلها منقسمة إلى عملين

عظيمين: وهما سفك دماء الرعايا لأخذ أموالهم، ودفعها للأجانب على وجه

الترضية. ولم يصدر عنه أدنى عمل لإصلاح المملكة.

ولما تولى السلطان عبد العزيز عليها أملت الناس أن يجري فيها بعض

الإصلاحات لحداثة سنة المقارنة لنور التمدن الحالي الذي وقع له طنين لسمع الصم

ونطق به البكم فضلاً عن السامعين المبصرين، فذهب ذلك الأمل أدراج الرياح، وسار في إدارة المملكة سير أبيه وجده الخالي عن كل تنظيم وخروج عن المعتاد.

ومن تأمل في أحوال هاته الدولة وفيما هي عليه من سوء التدبير يدخله

الذهول والحيرة والاستغراب، فإن الإصلاح ولاسيما الابتدائي ضروري لكل ذي

عقل سليم وفكر مستقيم، ويحكم بعدم لياقة هاته العائلة الحاكمة وعدم صلوحيتها لأقل

الأعمال (وهنا ذكر الكاتب جملة غالى بها في ذم كل أفراد الأسر الإسلامية

المالكة لا سيما دولة المغرب اضربنا عن ذكرها صفحًا) .

هذا، ولقد كتبنا هذه الأسطر القليلة تمهيدًا لما سنكتبه بعد في هاته المملكة

الحاضرة وفيما يجب عليها اتباعه في الاستقبال لاستقامة أحوال المسلمين طبق

الشريعة المطهرة، وكتاب الله وسنة رسوله بين أيدينا وسيرة السلف الصالح بين

أظهرنا. وحيث كانت جريدتنا المنار موقوفة على خدمة المسلمين وموسمة بذلك

نطلب من محررها الفاضل ومن براعة قلمه ومن عموم جرائد الإسلام أن يعضدونا

في هذا العمل ويفوقوا سهام اللوم والتنديد نحو هاته المملكة أو تستقيم، والله بالسرائر

عليم.

...

...

...

...

... (ش. د)

(المنار)

كلنا على علم إجمالي بحال هذه المملكة وبعدها عن الإصلاح، وكتبنا في ذلك

نبذًا متفرقة، وما كنا نظن أن ملوكها بهذه الدرجة التي ذكرها بل لا نزال نظن أن في

وصفه لهم مبالغة في الذم ونرجو أن يبين في مقالاته الآتية عنها الحقائق من غير

مذمة شعرية.

في ليلة الثلاثاء الماضية اخترمت المنية رجلًا من خيرة رجال العلم والفضل

وحملة الأقلام وهو السيد وفا أفندي زغلول أمين الكتبخانة الخديوية. مات رحمه الله

تعالى عن خمسين عامًا قضاها في خدمة العلوم والآداب، وقد ترك آثارًا علمية نافعة

منها كتاب الرد المبين، وكتاب البرهان الساطع على وجود الصانع. وكتاب التحفة

الوفائية في اللغة العامية، ورسالة في الرد على ابن خلدون. وكان محرر جريدة

الكوكب المصري التي كانت تصدر قبل الثورة العرابية، وكتب مدة في الوقائع

الرسمية، وله في الجريدتين مقالات تؤذن بفضله، أما وفاؤه ومحاسن أخلاقه فقد رأينا

وروينا عنها ما يدل على طيب أعراقه وكمال تهذبه، فنسأل الله تعالى أن يحسن عزاء

شقيقه المفضال السيد نصر الدين أفندي المحامي الشهير وسائر آله الكرام.

***

(تطبق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية)

كتب إلينا صديقنا الفاضل مؤلف كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على

نواميس المدنية) يعترف بأن انتقادنا عليه بهضمه حق المنار في محله، ويعتذر واعدًا

بتوفيته حقه في طبعة ثانية قال: (فأثر لدي خطئي في بخس حق المنار كثيرًا وهو

في الحقيقة خطأ يخجل منه كل مؤلف لأنه جرم ضد التاريخ، ولكن لي من كرم

أخلاقكم أكبر شفيع على إسدال سترة المعذرة على هذه الهفوة وسأجعل أول واجب

علي عند الشروع في الطبعة الثانية إصلاح تلك الغلطة البينة.. إلخ) .

وهذا كما ترى دليل على فضل الرجل وأنه ما قال في الكتاب بأنه لم يسمع

بأن عاقلاً قام يبحث عن أسباب اضمحلال الأمة الإسلامية إلا ذهولاً عن المنار كما

هو ظننا الحسن به.

***

أقبل الحر على مصر وأقبل معه وفود حزب الأحرار من الأستانة العلية، ولا

يقدمون في مثل هذه الأيام إلا لأمر ذي بال، وممن حضر من زمن قريب الفاضلان

محمد توفيق أفندي مدير المكتب الإعدادي سابقًا في بلدتنا طرابلس الشام، وعلي

مظهر بك، فعسى أن تتلا في الحضرة السلطانية أيدها الله تعالى هذه الحركة التي

كادت تكون عامة بالتي هي أحسن.

_________

ص: 128

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاعتماد على النفس

] وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [

{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس: 17) يجني على نفسه ويلحق بها

البلاء بسعيه، ويهمل أسباب سعادته، ويتنكب طرق رفاهته ثم يتجرم على الناس أو

يتذقح ويتجنى على الطبيعة زاعمًا أنه ما مني بالنوائب ومنع من الرغائب إلا من

نكد الزمان وتقصير الإخوان، فإن ضاقت به سبل الأعذار أنحى باللوم على

المقدار، وقال: ما تنفع حيلة البشر إذا كان خصيمهم القضاء والقدر!

وغدَا يعتب القضاء ولا عذ

ر لعاصٍ فيما يسوق القضاء

كل ملي يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق بإرادته واختياره على حسب ما سبق

في علمه، وممن خلق نوع الإنسان الذي يعمل بإرادة واختيار ينشآن عن العلم بوجوه

المصالح والمنافع والمفاسد والمضار، وهذا العلم منه ما يكون له بالضرورة، ومنه ما

يكتسبه اكتسابًا من طرق واضحة تؤدي إلى غاياتها إذا لم ينحرف السالك عن جادتها

فهل الاعتقاد بعلم الله وإرادته يكون عذرًا للإنسان إذا زاغ عن الصراط المستقيم

فوقع في الرجز الأليم؟ ! وهل إذا فرض أن العالم وُجد بالاتفاق من غير خالق أو

أن خالقه - تعالى وتقدس - جاهل أو مكره (سبحانه سبحانه) يزول عذر الإنسان؟

كلا، إن هذا هذيان لا يقول به عاقل.

ولكن ما بال المسلمين يحتجون بالقضاء والقدر حتى صاروا سخرية عند

سائر البشر. واعتقدت الأمم المتمدنة أن هذا الاعتقاد سد بينهم وبين الارتقاء. وإن

ساد به من قبل آباؤهم القدماء. بل وإن كانوا يعتقدون معهم أن الله لم يخلق شيئًا إلا

بإرادته. وأن جميع ما وجد في الكون موافق لما سبق في علمه أو مشيئته. ولا يخرج

معنى القضاء والقدر عند أئمة المسلمين عن هذا الذي قلناه، ولم يقل أحد

منهم بأنه يجوز الاحتجاج بالقضاء والقدر على تقصير الإنسان في علمه وإخفاقه في سعيه، بل صرحوا بالمنع منه تصريحًا؛ لأن فيه مع إساءة الأدب بنسبة

القبيح إلى الله تعالى - مخالفة هدي الكتاب والسنة ونصوص الأئمة؛ فقد ساق القرآن احتجاج الكفار بالمشيئة مساق التوبيخ والتقريع حيث قال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ

أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن

قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ

أَنتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148) وقد فسر البيضاوي وغيره (الخرص)

هنا بالكذب ولو لم يكن في المسألة غير هذه الآية لكانت كافية في الزجر والردع

عن الاحتجاج بالقدر، كيف وهناك آيات كثيرة منها ما هو صريح في المعنى كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ

يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (يس: 47) ومنها ما هو غير

صريح. والأحاديث وآثار الصحابة وأكابر السلف من الأئمة المجتهدين وغيرهم في

الأمر بالإمساك عن الكلام في القدر والنهي عن الخوض فيه - لا تكاد تُحصى.

الإسلام دين الفطرة (أي: الطبيعة والخليقة) فليس فيه شيء يخالف الواقع

الذي ثبت وجودًا أو ينابذ العقل الصحيح؛ أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي

هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة

فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء (كاملة

البدن) هل تحسون فيها من جدعاء؟ !) ثم يقول: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ

عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: 30) . والفطرة تدلنا بالوجدان

الذي هو أقوى البراهين أننا نعمل باختيارنا، والاختبار والاستقراء الصحيحان يثبتان

لنا أن سعادة الإنسان في أفراده ومجموعه نتيجة أعماله، وأن شقاءه من آثار كسبه

وأنه متى استوفى الأسباب الطبيعية لأمر من الأمور- بلغه وأدركه، وأنه لا يخيب

أمله ويخفق سعيه إلا لأسباب أخرى تحول بين المبدأ والغاية، وأنه قلما تتعاصى هذه

الأسباب الحائلة عن قدرة الإنسان.

وجاء الإسلام موافقًا للفطرة فصرح كتابه الحكيم بقوله: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن

مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} (الشورى: 30) وبقوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (النجم: 39-40) وبقوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (النساء: 123) الآية. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة

وأكثرها عام لأعمال الدنيا وأعمال الآخرة.

وأما قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن

نَّفْسِكَ} (النساء: 79) وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78)

فلا ينافيان ما تقدم؛ لأن الثاني بيان لأن الله تعالى خالق كل شيء، وقد جاء ردًّا على

الذين {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ

عِندِك} (النساء: 78) وهم اليهود، وكانوا يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه

وسلم، ومعنى:{مِنْ عِندِك} (النساء: 78) بشؤمك علينا، فنفى القرآن

اعتقاد الشؤم، وأثبت أن الأشياء إذا أضيفت إلى غير أسبابها الظاهرة فلا تضاف إلا

إلى خالق الأكوان الذي يرجع إليه الأمر كله، وأما الأولى فمعناها أن جميع ما خلقه

الله تعالى للإنسان من الحسنات والنعم فهو فضل منه وإحسان لا في مقابلة عبادتهم

له؛ لأن العبادة لا تنفعه وعدمها لا يضره، ومهما بلغ العبد من العبادة فلا يكافئ

نعمة الوجود فكيف يقتضي غيره؟ وأن جميع ما يصيبه من السيئات فهو من

نفسه؛ لأن الله تعالى بيّن له أسبابها بما هداه إليه من سنن الكون وأحكام الشرع التي تؤدب النفس وتقف بها عند حدود الاعتدال في الأعمال والمعاملات كلها، فمن

استرشد بسنن الكون ووقف عند حدود الشرع لا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن

ذكر الله المبين لها فإن له معيشة ضنكًا في هذه الحياة الدنيا ولَعذابُ الآخرة أشد

وأبقى. فهذه الآية كالتي صدرنا بها المقالة في بيان أن شقاء الإنسان إنما هو من نفسه

بسوء أعماله وقبيح كسبه، وإعراضه عن هداية الله تعالى في الاعتبار بكتابه

وبخليقته. وأما الآية: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78) فهي مبينة

للاعتقاد بالله تعالى لا للأسباب والمسببات، والكل حق لا يرتاب فيه عاقل وإن لم

يكن مسلمًا.

إذا علمنا هذا، فعلينا أن نرجع على أنفسنا بالتعنيف، وننحّي عليها بالعذل

والتوبيخ. ونطالبها بجميع ما نزل بنا من البلاء. وحل في أمتنا من الأرزاء، لا

أن نعتب الأقدار. ونحيل على الأغيار؛ فإن الله تعالى ما ظلمنا ولكن ظلمنا أنفسنا،

أليس قد هدانا النجدين وبيَّن لنا السبيلين، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة لعلنا

نشكره باستعمالها فيما خُلقت له. ألم يخبرنا بل لهذا الكون سننًا لا تتبدل ولا تتحول

فَلِمَ نُعرض عن مراعاتها؟ ! ألم نقرأ في كتابه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ

أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) فعلامَ لا نعتمد على أنفسنا

ونتكل - بعد الثقة بالله - على أعمالنا؟ ألم يأمرنا بالسير في الأرض والاعتبار

بأحوال الأمم وها نحن أولاء نشاهد الأمم النشيطة في الكسب العظيمة الهمة

المعتمدة أفرادها على أنفسهم مع مراعاة نواميس الخليقة قد سادوا على العالم

واستخدموا الأمم واستأثروا بالسلطان، وأصبح أضعف أفرادهم أكبر همة وأعز نفسًا

من أعظم الأمراء والملوك. أنكتفي في مصائبنا الشخصية بمعاداة إخواننا والعدوان

على أبناء أوطاننا وفي مصائبنا القومية ينبز الذين سلبوا استقلالنا بالألقاب ونسبتهم

للظلم والغشمرة؟ ونحن نعلم أن من سنن الكون استيلاء القوي على الضعيف

وامتصاص الغني ثروة الفقير. والاعتراض على نواميس الخلق اعتراض على

الحكيم العادل. وانتظار خرقها أو تغييرها لا يصدر إلا من أخرق أو جاهل.

سبحان الله، كلنا يحب أن يكون غنيًّا غير فقير، وعزيزًا غير ذليل وسعيدًا

غير شقي. كل مصري يتألم من احتلال الأجانب لبلاده واستيلائهم على ينابيع

الثروة والسيادة فيها حكامًا وتجارًا، حتى من يقول: إن الاحتلال نفع ولا يزال نافعًا

من بعض الوجوه. كل شرقي يتململ من استعمار الغربيين لجزء كبير من الشرق

وطموحهم لاستعمار باقيه، فإذا كان غير المسلمين من الشرقيين يعذر لتقاليده الدينية

بالجهل وعداوة العقل والتشاؤم من علم الاجتماع البشري ومن الفنون الطبيعية التي

تبين له طرق السيادة والسعادة، فهل يصح للمسلمين ذلك والقرآن بين أيديهم

يحذرهم وينذرهم ويستصرخ عقولهم ويستنجد هممهم ويرشدهم إلى سنن الخليقة

ويبين لهم الطريقة ويلحق بهم عار التقصير ويقول لهم: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ

فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى: 30) .

_________

ص: 130

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

‌استنهاض همم

(2)

أما زعماء هذه النهضة والعاملون عليها والقائمون على مجاري الإصلاح فيها

فهم ثلاثة: حاكم، وعالم، وذو فضلة من مال.

أي امرئ مسلم يمكنه أن يقتصد شيئًا من نفقاته ويستبقي فضله من ماله فيعده

لخير المسلمين وفائدتهم ودفع الضر عنهم وتعليم نشئهم وأحداثهم ولم يفعل - كان

آثمًا إن لم يكن إثمًا شرعيًّا كان إثمًا عقليًّا سياسيًّا.

كل عالم في طاقته وعظ العامة وإرشادهم لما فيه خيرهم وتعليمهم ما يجب

عليهم وحثهم على الألفة وحسن المعاشرة والتخلق بالأخلاق الفاضلة والسعي وراء

الكسب وترك البطالة أو تأليف الكتب وإيداعها مسائل العلم الحق الذي ينور الأذهان

ويرشد إلى العمل ويبث روح النشاط في الأفراد أو إنشاء صحيفة سيارة يكتب فيها

ما فيه فائدة للأمة؛ كحثها على بذل المال في سبيل نجاحها وإشراع مناهج

الإصلاح، لها وإرشادها إلى ما به قوام وحدتها وحفظ جنسيتها وتحذيرها من مقاصد

الطامعين فيها وتنبيهها إلى الواجب لها وعليها، كل ذلك في طاقته ولم يفعل - كان

مجرمًا بغيضًا ممقوتًا إن لم يكن من جانب الشرع [1] فمن قِبَل العقل والطبع.

كل حاكم يلي عملاً من أمور المسلمين فيسلبهم الأمن ويأخذ عليهم الطريق في

أعمالهم المفيدة ويخزل (يعوق) العاملين منهم عن النهوض لما توخوه من الإصلاح،

ويوصد دون مشروعاتهم النافعة أبواب النجاح، ويتقاعد عن حماية حوزتهم،

ويتغاضى عن مصالحهم العامة أو يكون كنافذة يطل منها الأجنبي على أسرارهم

ومطويات شؤونهم - كان مذؤومًا (مذمومًا) مدحورًا على لسان العقل والشرع

والناس أجمعين.

أي فرد من أفراد الأمة دُعي إلى عمل فتقاعس عنه وهو مقدور له أو اعترض

في سبيل العاملين أو ثبط الهمم عن مشايعتهم ومظاهرتهم، أو طفق يقع في أعراضهم

وتناول منهم لؤمًا وخبثًا - كان مرذولاً مذمَّمًا عند الله والناس وفي الملأ الأعلى إلى

يوم الدين.

هذا ما يحسن بالأمة أن تتجه إليه أفكارها وتلهج به ألسنتها وتخفق لأجله أقدام

رجالها:

العلماء يصلحون كتب العلم وينقحون كتب التعليم، ويضعون في كل فن كتبًا

سهلة المأخذ فصيحة العبارة، ويعقدون اللجان للمذاكرة في إنجاز ذلك، ويلقنون العامة

والدهْماء عقائد الدين وتعاليمه الحقة ويطهرون نفوسهم من لوث الرذائل والخرافات

والأوهام.

والحكام من وراء العلماء يؤيدون أعمالهم ويعضدون أفكارهم ويحملون الكافة

على تلقي ما وضعوه وتقبل ما دونوه.

المتمولون يؤسسون الشركات المالية ويؤلفون الجمعيات الخيرية بغية نشر

الصنائع وأشغالها وتأييد الزراعة وأعمالها وافتتاح المكاتب الابتدائية والإعدادية

لتهذيب الأحداث وتثقيف عقولهم وتخريجهم على حب دينهم ووطنهم والذب عن

حوض جامعتهم. وليكن نشر العلم بين كافة الطلاب على وتيرة واحدة وطريقة فاذة

(واحدة) والحكام من وراء أصحاب الأموال تحافظ على حقوقهم وتحمي مصالحهم

وتمنحهم امتيازات تعضد مصنوعاتهم وتروج محصولات [2] مزروعاتهم وتخفف

عليهم الضرائب والمكوس والوضائع [3] بحيث يسهل عليهم العمل والقيام

بالمشروعات المفيدة للوطن والأمة.

هذا هو الدواء لمرض الأمة والعلاج الناجع بمعونة الله في شفائها وإبلالها، وما

عليها إلا أن تُقدِم على تناوله بهمم عالية وتتقحم مخاطره بعزائم صادقة، وعلى الله

قصد السبيل.

عظمة الأعمال وجلالة المشروعات يعوزها تخوّض [4] مشاق تَعذُب لديها

سكرات المنون، وتشرف بالقائم بها على مهاوي من الأخطار ينعكس من أعماقها

صدى أنين أرواح الشهداء من أنصار الحق ممزوجًا بخرير دمائهم وخشخشة

عظامهم. ما أجدر القائمين بتلك الأعمال المتعرضين لهاته العظائم والأهوال بأن

يكونوا ذوي سجايا جليلة ومزايا سماوية ومواهب قدسية ونفوس كبيرة، تقوى

وتقاوم وتصبر وتصادم وتستقبل الموت الزؤام بفرح وابتسام!

ما ظنكم يا قوم؟ ! أليس في الأمم الإسلامية رجال من هذا القبيل في الفتوة

والإقدام وعلى هذا النمط في الغيرة والشهامة؟ ألا يوجد فتيان من سلالة أولئك

الغطارفة الأمجاد يبذلون مهجهم في خدمة بلادهم وإنقاذ أمتهم؟ ألا يوجد بيننا من

يشري ثناء الدهر وعز الأبد ببذل فضلات أمواله - وهي حطام نافد وعرض زائل-

في افتتاح المدارس وإنشاء أندية العلم لتدريب أبناء أمته وأطفال قومه وترشيح

أنسالهم وأعقابهم في أنواع العلوم وضروب العرفان علّهم يقوون بذلك على مساورة

الأمم الطامحة ويدفعون عنهم غارات الشعوب الطامعة؟ ألا يوجد في سلائل أولئك

الأبطال العظام ذو نجدة يغلي في عروقه دم النخوة والحمية فيلوي عن زهرة الدنيا

وزبرجها (زينتها) يواصل العمل ويدأب في السعي وراء جمع شتات المسلمين

وإزاحة عللهم وتوحيد المتعدد من آرائهم وضم المتفرق من أهوائهم؟ ألا يوجد بقية

من سلالة أبطال بدر واليرموك ومغاوير القادسية ونهاوند تجيش نفوسهم وتضطرب

أرواحهم؛ حذرًا وإشفاقًا مِن فَقْدِ تراثِ أجدادهم، وثمن دماء آبائهم؛ حذراً وإشفاقاً من

أن ترى المعاهد الشريفة والمشاهد المكرمة والحضرات المباركة موطئاً لنعال

الأجنبي أو تكون في كلاءته وتحت حمايته. ألا يستحي مستحٍ ممن استودعنا كتابه المنزل واستحفظنا شريعته المطهرة واستوثق منا في العمل بهما والقيام

بالدعوة إليهما أن يرانا مفرطين في العمل عاكفين على الشقاق متفقين على

عدم الوفاق؟ أهذا ما أوصانا به نبينا من الاستمساك بأسباب الوحدة وتوثيق وشائج [5]

الأخوة بيننا؟ أهذا ما عهد إلينا به أن نكون كالبنيان المرصوص يشد بعضنا

بعضاً أو كالجسد إذا تداعى منه عضو تداعى له سائر الجسد؟ أهذا ما أمرنا به من

إعداد وسائل القوة وتوفير ذرائع المنعة للدفاع عن حمى الإسلام والذود عن حقيقة

الدين والذب من وراء حوزة الأمة؟ أيطيب لنا عيش ونحن نرى نسور المطامع

الأجنبية تحوّم حول جزيرة العرب وتحلق في أجوائها؟ أينعم لنا بال ونحن نسمع

أن الأجنبي يحلم باستعمار تلك الجزيرة المقدسة ومد رواق سلطته فوق الحرمين

الشريفين؟ !

ألا نفوس أبِيَّات لها همم

أما على الخير أنصار وأعوان

الله الله يا قوم في مستقبلكم، احموا حقائقكم، اجمعوا أمركم، كونوا في ذات

الله إخواناً وأصلحوا إن الله يحب المصلحين.

الإصلاح المطلوب هو اتحاد الشعوب الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها،

بحيث تبقى كل حكومة منها مطلقة اليد في إدارة شؤونها الداخلية مرتبطة مع باقي

أخواتها بالمصلحة العامة والوجهة السياسية الخارجية ومداره دفع غارات الناهبين

وقطع أطماع الطامعين. ولا يتم هذا إلا باتفاق الحكومات الأربع وارتباط كل منها

بالأخرى ارتباطًا دينيًّا سياسيًّا، وأن تتفق تلك الحكومات الأربع على توحيد التعاليم

الدينية فتنتشر بين كافة المسلمين عقائد دينية سمحة وتعاليم أدبية بسيطة، وتحمل

أولئك الشعوب على تقبلها وممارسة العمل بها.

إذا نجح ذلك المشروع وصدقت تلك الأمنية يوشك أن لا يأتي على الشعوب

الإسلامية حين الدهر حتى ينقلب خوفها أمناً وبؤسها رخاءً وشغفها عزةً وقوةً وتصل

بمشيئة الله من رفعة الشأن ونفوذ السلطان إلى مكانة عليا لا تسموها مكانة الاتحاد

الألماني ولا الاتفاق الأمريكي.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: نقول: هو ممقوت في نظر الشرع ألبتة؛ فإن الله تعالى أخذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه وفي الأحاديث وعيد شديد على كتمان العلم.

(2)

لفظ (محصول) يستعمله الكُتاب اليوم بمعنى غلة الأرض وليس عربيًّا فيما أعلم.

(3)

الوضائع - جمع وضيعة: ما يأخذه السلطان من الخراج والعشور.

(4)

تخوّض الرجل: تكلف الخوض، لازم واستعمله الكاتب هنا متعديًا.

(5)

الوشيجة: ليف يُشد بين خشبتين ينقل عليهما المحصود، فاستعير لما يجمع بين الناس من قرابة ونحوها (ج) وشائج.

ص: 134

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقاريظ

(الدين القويم)

كتاب ألّفه حديثًا الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد زناتي ناظر (مدرسة العزبة

المتمدنة) من مدارس سمو مولانا الخديوي الخصوصية بإرشاد سعادة أحمد شفيق بك

رئيس قلم التحريرات الفرنساوية الخديوية، وجعل الكتاب برسم تلك المدارس.

وهو بأسلوب جديد نافع حاوٍ - على اختصاره - أهم ما يحتاج إليه المبتدئ من

الاعتقادات والعبادات والأخلاق والآداب الدينية، وفيه بعض أحكام المعاملات

أيضًا، وقد جرى في الأحكام على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.

ولقد كنا نشكو من كتبنا الدينية أننا لا نكاد نجد فيها كتابًا مختصرًا سهل العبارة

خاليًا من اصطلاحات الفنون العربية والحشو، حاويًا أهم ما تمس إليه حاجة

الناس، ليقرأ للعوام والأطفال، وهذا الكتاب من هذا النوع إلا أنه أهمل بعض

الأبواب المهمة كالأيمان والنذور والصيد والذبائح والأضحية ونحو هذا مما هو أهم من الإجارة والحوالة والرهن.

***

(متانت)

وصل إلينا بعض الأعداد الأولى من هذه الجريدة التي تصدر في (قنديا -

كريت) وهي جريدة تركية أسبوعية سياسية أدبية لمديرها الفاضل قدسي زاده نوري

أفندي وهي عثمانية اللهجة، فنرجو لها الثبات والنجاح.

***

(المدارس)

جريدة علمية تهذيبية مصورة يحررها جماعة من الكتاب المصريين، وهي

تصدر مرة في الشهر، وقيمة الاشتراك فيها خمسة غروش في السنة، ولعل رخص

ثمنها يكون سببًا في سرعة انتشارها وإن كانت أربع صفحات صغيرة، لا سيما وهي

مزينة بالرسوم وورقها جيد ولا ينال أصحابها منها كسبًا ما لم يعد المشتركون فيها

بالألوف فنحث التلامذة على تعضيدها.

***

(تاريخ إنكلترا)

صدر الجزء الأول من هذا التاريخ لمؤلفه الكاتب الفاضل جرجي أفندي زيدان

منشي الهلال الزاهر، وفيه تاريخ هذه الدولة من أول عهدها إلى انقضاء الدولة

اليوركية، وكان نشر فصولاً متتابعة في مجلد السنة الثانية من الهلال. ودقة مؤلفه

وذوقه وإنصافه في التاريخ يغني عن الإطناب في تقريظ الكتاب، وهو يُطلب من

مكتبة الهلال في مصر، وثمنه 4 غروش وأجرة البريد غرش واحد.

***

(جريدة الصبح)

لقد كنا قرظنا هذه الجريدة الغراء بعد ورود عددها الأول إلينا، وضاق يومئذ

عدد المنار عن نشر التقريظ، والجريدة سياسية أدبية تجارية أسبوعية، أصحابها من

أدباء وطننا السوري وهم: خليل أفندي ملوك، وشكري أفندي الخوري، ومحررها

الأول الكاتب الأديب خليل أفندي شاول، وقد قرأنا في العدد السادس منها مقالة

مفيدة في (السوري وتباين أخلاقه) بحث فيها كاتبها بحثًا فلسفيًّا، وحث فيها

أصحاب الجرائد على جمع الكلمة وأهل الوطن على تربية البنات، وهذا من أفضل

ما يكتب في الجرائد، فنتمنى للصبح أن يزيد ضياءً ولضيائه أن يزيد انتشارًا.

_________

ص: 138

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

(الدعوة إلى الدين)

كثر حديث الناس في هذه المدة الأخيرة بدعوة المرسَلين الإنجيليين من الإنكليز

وغيرهم إلى ديانتهم، واستفاض الخبر في مصر بأنهم يخدعون الناس بإيهامهم أنهم

يعطون مبلغًا معينًا من المال لمن يعتنق مذهبهم، وأنهم استعملوا الخشونة في كيفية

الدعوة، ولكن رئيس الجمعية التي نسب إليها هذا كذَّب خبر إعطاء النقود وقال: إنه

غير صحيح. ونشر ذلك في جريدة المؤيد، وصرح به الدعاة في مجتمعهم الذي

عقدوه في المدرسة الإنكليزية ليلة الاثنين الماضية. وقد تكلمت الجرائد المسيحية

في هذه المسألة، ونددت بالمرسلين الإنكليز، وقد نقلت جريدة المؤيد مقالة في ذلك

عن جريدة الرأي العام، وإننا ننقل ما كتبته جريدة الفلاح في ذلك؛ لئلا نُنسب

إلى التحامل والتعصب إذا تكلمنا من نفسنا، قالت الجريدة ما نصه بحروفه:

شيء جديد

حضر إلينا بعض المعتبرين من الإسلام الكرام وأفادنا بأنه بينما كان مارًّا

بشارع محمد علي شاهد بعض المرسلين البروتستانت واقفين أمام المدرسة الإنكليزية

الكائنة في تلك الجهة، يحثون المسلمين على اعتناق الدين المسيحي على شكل

خارج عن دائرة الأدب؛ إذ إنهم كانوا يطعنون على الدين الإسلامي ويغررون الناس

بإعطاء الأموال إذا ارتدوا إلى الدين المسيحي، ويا ليتهم يقفون عند هذا الحد، بل

إنهم كانوا يجذبون الناس إلى داخل المدرسة كي يقنعوا بصحة دعواهم، حتى إنه

ترتب على ذلك اجتماع خلق كثير أمام المدرسة وعلت الغوغاء وكثرت الرِّعَاع

وتنوعت الأقوال بما استفز بعض صغار الوقوف إلى الرمي بالحجارة والسب واللعن

وخصام استوجب مداخلة البوليس، إلى غير ذلك مما لا يليق، وقد التمس منا هذا

البعض التنبيه إلى ذلك، واستلفات نظر الحكومة إلى منع مثل هذه الأفعال حذرًا من

أن يتولد من ورائها ما لا يستحسن، والبلاد في حاجة إلى الراحة والسكينة لا إلى

الفتن والثورات.

ثم بلغنا بعد ذلك أنه على إثر مداخلة البوليس طار الخبر إلى الحكومة، وأن

حضرة مستشار الداخلية بحث في هذه المسألة، ونبه على أولئك المرسلين أن لا

يتجاوزوا حدود الإرشاد بالمعروف.

هذا ما بلغنا وكيفما كان الحال فنحن نعلم أن الدين المسيحي يوجب علينا

احترام كافة الأديان والإرشاد بالمعروف فضلاً عن أننا في بلاد تحكمها الأمة

الإسلامية تحت ظل الشريعة الإسلامية والسواد الأعظم فيها من المسلمين، والسيد

المسيح في الإنجيل الجليل أوجب علينا بل حتم علينا الطاعة لكل حاكم والخضوع

لكل سلطة؛ فإنه قال عليه السلام: (اخضعوا للسلاطين فإن كل سلطة من الله) ،

بل إنه عليه السلام امتثل لشريعة حكام زمانه ودفع الجزية لهم.. إلخ، مما لو أردنا

استيفاء البحث عنه لطال بنا المطال، ومع ذلك الإنجيل الجليل يثبت لنا أن السيد

المسيح عليه السلام كان يرشد إلى الدين بالكلام المعقول وفعل المعجزات لا

باستعمال القوة ولا بالتغرير بالأموال بل إنه عليه السلام نهى تلامذته عن حمل

المال بالكلية، فإذا عرفنا ذلك وكان ما فعلناه صحيحًا - يكون تصرف أولئك

المرسلين مخالفًا للشرع المسيحي من جهة ومخالفًا للآداب لعدم احترامنا

السلطة الحاكمة من جهة أخرى.

ونحن لا ننكر أنه يجب على علماء كل ملة الإرشاد إلى ملتهم ولكن بطريقة

أدبية، وطالما نددنا على علماء الإسلام الكرام بالنسبة لتقاعدهم عما هو واجب عليهم

من هذا القبيل خصوصًا، بينما يرون أن أرباب كل دين يجاهدون في نشر دينهم

ويتجشمون المتاعب والمشقات لمثل ذلك، وكم تمنينا أن تتشكل جمعية من كرام

المسلمين باسم جمعية الإرشاد الديني الإسلامي، ويجمعون لها الأموال من ذوي الخير

وينفقونها على العلماء؛ لكي يطوفوا البلاد للإرشاد إلى الدين الإسلامي كما تفعل

الأجانب، ولكن لسوء الحظ لم نجد من يلبي هذا الطلب الذي لا صعوبة فيه

غير السعي والحركة.

ولا نظن أن كرام الأمة تأبى المساعدة في دفع شيء طفيف من فضلات ما

لهم إلى مثل هذه الغاية الحميدة. والمصيبة كل المصيبة أن كبارنا يتقاعسون عن

مثل ذلك، وصغارنا يبذرون الألوف من الجنيهات بسخاء لا مزيد عليه في المنكرات

وعلى المفاسد والملاهي.. إلخ إلخ، ونحن في غفلة عن مواجبنا، ولو فرضنا

وتحرك فريق من المسلمين وشكل جمعية إسلامية تحت اسم عمل خيري لاستدرار

أموال المسلمين وبحثنا بدقة عن نتيجة العمل فلا نرى من نتيجة هذا العمل شيئًا

يذكر. هذا، إن فرضنا أن ذلك الاجتماع خالٍ من المقاصد والغايات والمنافع

الشخصية.

وحاصل القول: إن الإفرنج في مساعيهم الدينية تجاوزوا حدود الآداب والكمال

في طرق الإرشاد واستعمال المنكر مثل التغرير بالأموال والمنافع وما شاكل مما

ينكره الدين المسيحي نفسه والإسلام قد قصروا في مساعيهم الواجبة لتنشيط علمائهم

فتقاعسوا وقصروا مع أنهم يعلمون أن كل مَن سار على الدرب وصل. وهذا التقاعس

قد أفاد الأجانب؛ لأنه ليس أمامهم من ذوي الإرشاد في الدين الإسلامي في القطر

المصري والجهات المتوحشة من يناظرهم فإن بقيت الهمم الإسلامية في القطر

المصري فاترة لا يعجبهم إلا الغرور الظاهر والتعصب في الغايات وعدم معرفة

النافع من الضار والسقيم من السليم. فعلى القطر المصري والسودان (الذي ستنشأ

فيه مدرسة إنكليزية كلية في الخرطوم ونحن في غفلة عن كل سعي يقاوم ما يماثلها

وغير جهات من إفريقيا وسواها) السلام؛ فإن الأقوال لا تقوم مقام الأعمال، فالعبرة

بالعمل، وألا نكون عبرة لمَن يقول ولا يفعل.

وعلى الأمة الإسلامية أن تفتكر في مستقبلها وتنتبه من رقدتها وتفعل ما ينفعها

في الحال والاستقبال، وإلا لو ملأت الدنيا صياحًا وهي واقفة وغيرها ماشٍ، فالهواء

يبدد الكلام، والعمل يغير الحال ولا تشعر إلا وهي في دور الاضمحلال.

فيا أمة الإسلام، هذه نصيحة من سليم ملخص في الخدمة للأمة بحسب ما

تقتضيه الهمة والذمة، فإن الحق أولى أن يقال على كل حال، وعلى الله

الاتكال. اهـ

(المنار)

نشكر لسعادة الكاتب غيرته ونصحه، ونقول لإخواننا المسلمين: أما كفاكم أن

المخالفين لكم في الدين يسجلون عليكم تقصيركم في خدمة دينكم بأموالكم وأنفسكم

وعلمكم وعملكم، ويحثونكم على القيام بحقوقه يائسين منكم، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي

الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .

قد انتدب الفقير منشئ هذه المجلة صديقه الفاضل رفيق بك العظم ناظر

المدرسة العثمانية بأن يلقي في القسم الليلي الذي افتتح في المدرسة دروسًا في الدين

واللغة والمناظرة، أما درس الدين فبيان حقيقته وكيفية إسعاده للبشر، وأما درس

اللغة فهو عمل يخرج به المتعلم كاتبًا خطيبًا، وأما المناظرة فيتقدم العمل فيها دروس

في فن المنطق وآداب البحث، وقد شرعنا في هذه الدروس، فعلى الراغبين أن

يبادروا، والله الموفق.

***

(سوق تمشي)

رأت لجنة معرض 1900 أن الوسائط التي استعملت في معرض شيكاغو

وبرلين لانتقال المتفرجين على أقسام المعارض لم تكن كافية لراحتهم، وأن

قطارات (داكوتيل) التي استخدمت عام 1889 في باريس ما كانت لتفي بالمطلوب

مع شدة الاعتناء بها، وقدرت تلك اللجنة أن معرضها الآتي سيحشر فيه عدد يزيد

ثلاثة أضعاف العدد الذي كان في معرض 1889؛ فمن الضرورة إذًا أن تكون

وسائط الانتقال أهم وأوفر وأكثر سرعة وسهولة.

وبعد مباحث عنيفة واختبارات دقيقة اعتمدوا أن يضعوا سوقًا تمشي بعجلات

تدار على خطوط حديدية تدفعها قوة الكهرباء وتديرها الآلات بأيدي الساقة الماهرين.

أما تلك السوق أو بالحري تلك المدينة البهية فهي مؤلفة من ثلاث طبقات، كل

طبقة منها مستقلة بحركتها عن الثانية. فالطبقة السلفى لا حركة ذاتية بها بل هي

مرقاة إلى الطبقتين العلويتين.

أما الطبقة العالية فتدور 4 كيلو مترات بالساعة، وهي معدل مشي الإنسان

المسرع، وأهم من كلتيهما الطبقة العليا؛ لأن سرعتها مضاعف سرعة الثانية وأدق

صنعًا وألطف منظرًا.

وكل طبقة من هذه الطبقات تقسم إلى أقسام متتابعة مرتبة بغاية اللطف والهندام،

ولا يعيب هذه السوق غير أصوات العجلات المزعجة على أن المهندسين تعهدوا

إزالة كل علة. اهـ

...

...

...

...

... (الصبح)

_________

ص: 140

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التصرف في الكون

] سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [

واحسرتاه على أمة أعطيت أمثل التعاليم. وهديت إلى الصراط المستقيم.

فأُلبِست تاج السيادة. وأُفرغت عليها حلل السعادة. ثم ما عتمت. أن حرّفت

وانحرفت. وتمزقت بعدما اجتمعت، حرفت التعاليم فاشتبه عليها الباطل بالحق،

واتبعت السبل فتفرقت بها عن سبيل الحق. وكانت أمة واحدة. فأمست شيمًا متعددة

فذاق بعضها بأس بعض. ثم امتهنت في جميع بقاع الأرض {انظُرْ كَيْفَ

نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} (الأنعام: 46) .

سعادة الإنسان في هذه الحياة الدنيا في معرفة المنافع والمصالح بأسبابها، وإتيان

البيوت من أبوابها. ويحصل هذا بالنظر والتأمل. والاختبار والتعقل. وبناء

اللاحق على عمل السابق. حتى تظهر السنن الكونية. والنواميس الطبيعية. التي

لا يضل من اهتدى إليها. ولا يصل إلى الغاية إلا من سار عليها. ولكن دون

الوصول إلى معرفة سنن الله في خلقه عقبات. وفي طريق النظرين - العقلي

والحسي - شبهات {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ

عَنْ قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) .

ما أعظم عناية الله بالإنسان؛ منحه أنواعًا من الهداية ليصل بها إلى سعادته:

الإلهام الفطري والوجدان الطبيعي والمشاعر الظاهرة والباطنة والعقل والدين وكل

هداية من هذه الهدايات تُصلح ما يقع من الخطأ الذي يعرض للهداية الأخرى ولا

يصل الإنسان إلى حد كماله إلا بمجموعها، ولكن الإنسان خُلق ضعيفًا، فمع هذه

الهدايات كلها لم يزل الضلال آخذًا بزمامه والشقاء في شعوبه ضاربًا بجرانه، وما

ذلك إلا لغلبة ناموس الارتقاء التدريجي على جميع هذه الأشياء ولا بد أن يصل

الإنسان به إلى كماله ولو بعد قرون، فانتظروا إنا منتظرون.

الدين أعلى أنواع الهداية ومرشدها ومدبرها وقد سار كغيره على سُنَّة الارتقاء

فكان آخره (وهو الإسلام) أكمله، وإلى ذلك الإشارة بما جاء في إنجيل يوحنا عن

سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام من قوله: (16 إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي

16 وأنا أطلب من الآب فيعطيكم (فَارْقِلِيط) آخر ليثبت معكم إلى الأبد) أي:

تثبت تعاليمه فلا يأتي بعدها تعاليم إلهية، ثم قال:(26 و (الفارقليط) روح

القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلته لكم) ،

ومعلوم أنه لم يبعث نبي علَّم البشر كل شيء يحتاجونه في سعادتهم إلا نبي الإسلام

عليه الصلاة والسلام؛ فموسى جاء بشريعة عملية، وعيسى جاء بأخلاق روحية،

ومحمد علّم الناس العقائد والأخلاق وأحكام الشريعة بأنواعها وجمع بتعليمه بين

مصالح الروح والجسد ومنافع الدنيا والآخرة ووفق بين العقل والدين وأرشد إلى سنن

الكون والاعتبار بها، فكان من مقتضى هذه التعاليم أن تكون أتباعه أسعد الناس حالاً

وأن يسودوا على سائر الأمم، ولقد كان هذا كله ثم اتبعوا سَنَن مَن قبلهم، فلما زاغوا

عن ذلك الصراط المستقيم في أخلاقهم وأعمالهم أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدي القوم

الفاسقين.

قال لهم هذا الدين: اطلبوا الأشياء بأسبابها {وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (البقرة: 189) وأرشدهم إلى أن سعادتهم وشقاءهم نتيجة أعمالهم وأنه {لَا يُكَلِّفُ

اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) ، فقام فيهم

محرفون زعموا أنه ليس في وسعهم شيء من العمل ولا طاقة لهم على القيام

بمصالحهم ومنافعهم، زاعمين أنهم يعظمون الله تعالى بمصادمة فطرته ومصادرة

شريعته. وقد فندنا هذا المذهب في مقالة (الاعتماد على النفس) من الجزء الماضي

وهو العقبة الكبرى في طريق الإصلاح الإسلامي، وأنشأنا هذه المقالة لتمهيد عقبة

أخرى ضررها يوازي ضرر الأولى في الحيلولة بين الأمة وسعادتها وإن كانت في

حقيقتها مناقضة للأولى عقلاً ودينًا ألا وهي: عقيدة تصرُّف بعض العباد في

الكون.

أليس من العجيب أن يسلب قوم أنفسهم العمل الثابت لهم بالوجود والوجدان

سواء كان بمبدئه أو بغايته لأجل تعظيم جانب الألوهية التي منحتهم إياه، ثم يزعمون

أن منهم من يتصرف في الكون ويقدر على قلب نواميسه وتبديل سننه وتحويلها

فيسعد ويشقي ويفقر ويغني من غير سبب غير مجرد تصرفه ذلك أو الاستعانة

بطلاسمه مما اختص الله تعالى بالقدرة عليه من دون عبادة كما هو ثابت بالدلائل

العقلية والنقلية جميعًا. أليس من الجهالة العمياء أن تُنبذ البراهين العقلية وتُصرف

الآيات القرآنية عن ظواهرها لأجل تصحيح هذه المسألة التي ما أنزل الله بها من

سلطان؟ ! أليس من البلاء العام أن تكون قلوب معظم أفراد الأمة متعلقة

بالأضرحة والقبور وبجماعة من الدجالين والمشعوذين أو البُلْه والمجانين؟ ! معتقدة

بهم أنهم يدفعون مصابًا ويزيلون أوصابًا. أو يملكون نفعًا وإسعادًا. وينيلون هدايةً

ورشادًا بمجرد أسرارهم الباطنية، وقواهم الغيبية؟ أليس من الانحراف عن الدين

أن تلهج الألسنة بالأموات، وتستعين بالعظام الرفات كلما نزل خطب أو ألمَّ كرب؟!

هذه العقيدة المضرة نفث سُمَّها في روح الأمة الإسلامية قومٌ من مدعي الصلاح

والإرشاد الذين رمقتهم العامة بعين الاعتقاد وذلك بعد امتزاج المسلمين بأهل الملل

الأخرى الذين خضعوا لرؤسائهم الروحيين خضوعًا أعمى بل اتخذوهم أربابًا،

وجعلوهم عن الحضرة الإلهية نوابًا. وما من أمتين تتمازجان إلا ويسري لكل واحدة

من الأخرى شيء مما هي عليه، تأخذه برمته أو تصبغه بغير صبغته. ولقد تلاعب

الدجالون بعامة هذه الأمة فزعزعوا بمثل هذه الأوهام عقائدها. وهدموا بالتمويهات

قواعدها؛ طلبًا للمال والجاه. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ولقد آل بهم الأمر إلى جراءة أفسق الفساق وأفجر الفجار من شيوخ الطريق

على دعوى التصرف في الكون والانتقام ممن لا يخضع له! فضلاً عمن ينال منه

بقول أو عمل، ويستدلون على ذلك بما لا يخلو عنه الكون من مصائب تنزل بأعدائهم

لحصول أسبابها الطبيعية، وبمثل هذا يستدل المعتقدون بتصرف الأموات يقولون:

حلف فلان بالولي الفلاني كاذبًا فرماه بسهم أمرضه أو أمات ولده أو قريبه ونحو ذلك

ولا يقولون ذلك فيمن يحلف بالله كاذبًا، ويوجد في المسلمين ألوف كثيرة يتجرؤون

على الحلف بالله كذبًا ولا يحرك أحدهم لسانه بالحلف بالولي أو الشيخ الذي يعتقده؛

لا سيما إذا كان عند قبره. وقد صرح الفقهاء بأنه لا يجوز الحلف بغير الله مطلقًا

وقالوا: من حلف بغير الله معظمًا له كتعظيم الله تعالى في ذلك كان كافرًا، فماذا

عساهم يقولون فيمن يزيد في تعظيم الشيخ على تعظيم الله تعالى كالذي علمت؟ !

ومن هؤلاء الدجالين من يسعى بإيقاع الضرر بعدوه بأسبابه العادية؛ لا سيما

النفوذ والجاه الدنيوي كمساعدة الحكام الظالمين وغيرهم، ثم يدعي بعد ذلك أنه

تصرف فيه بسره ومدد شيوخه وأجداده فيقول: إن فلانًا تكلم فيَّ فقُطع لسانه وفلانًا

ناوأني فعُزِلَ من وظيفته. وفلانًا آذى بعض أتباعي فحُبِسَ ونُكِبَ. ويغفل الأنوك عن

وقوف الناس على أسباب هذه النكبات وعرفانهم أن مثلها من تصرفات الأشرار لا

من تصرفات الأسرار، ولا يعتبر المغرور بما ينزل بأنصاره من البلاء كالنفي

والجنون ونتف اللحى وقلع العيون بل بما ينزل به نفسه أحيانًا؛ وذلك لأنه يؤوّل

لنفسه عند نزول البلاء بأن أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فإذا كشفت عنه

قال: إنما نزل به ما نزل لتظهر أسراره وعناية الله تعالى به نعوذ بالله من

الاستدراج بالغرور والتغرير.

ألم يعلم المدعي الجاهلي بل الخادع المتجاهل أن الناس يعلمون بأن أكابر

شيوخهم كانوا يشتمون ويهانون وما كان يحل بمن أهانهم بلاؤه. هذا الشيخ أحمد

الرفاعي الكبير (رحمه الله تعالى) كان يغمطه ويغمزه أكابر العلماء في عصره [1]

ولم ينقل أنه تصرف بأحد منهم فقطع لسانه مثلاً مع أن أكثر أهل طريقته يدعونه

أكثر مما يدعون الله تعالى، وقد نسبوا له العظائم حتى قالوا إنه كان يتصرف في

الدنيا والآخرة وكان يبيع قصورًا في الجنة كما يفعل بعض رؤساء الأديان الأخرى

ويكتب بذلك صكوكًا [2] ويغفل الخادع والمخدوع عما أورده الإمام حجة الإسلام

الغزالي في الرد على الذين يدعون أن نزول البلاء بأعدائهم يكون انتقامًا لهم على

سبيل الكرامة من أن الذين كانوا يؤذون الأنبياء ويقتلونهم ما كان يحل بأشخاصهم

البلاء والعذاب، فهل كان هؤلاء الأشقياء أو الصلحاء أكرم عند الله من الأنبياء

(سبحانك هذا بهتان عظيم) ومما يقضي بالعجب أن مسألة التصرف في الكون

لقد هزلت حتى بدا من هزالها

كلاها وحتى سامها كل مفلس

يدعيها الدجال المسترسل في الفجور الذي أغواه الشيطان بشهادة الفساق أو

الكفار له بالقطبية والغوثية من مراتب الولاية لينالوا منه مالاً أو جاهًا، وحسب العاقل

هذا في النفور عن أهل هذه الدعوى وتكذيبهم، فكيف والوجود بكذبهم والشواهد التي

أشرنا إليها تفند مزاعمهم؟! وفوق ذلك كله كتاب الله يخاطب نبي الله إرشادًا لعباد الله

بمثل قوله: {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَراًّ} (الأعراف: 188) وقوله: {قُلْ

إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلَا رَشَداً} (الجن: 21) نعم إن الدجالين قد جعلوا مسألة

التصرف من باب كرامة الله لأوليائه. وسيأتي الكلام على الكرامات إن شاء الله

تعالى.

_________

(1)

ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني (رحمه الله تعالى) في كتاب لطائف المِنَن (صفحة 411 و 412 من النسخة المطبوعة في مطبعة بولاق الأميرية سنة 1288) ما نصه: (وكان الشيخ سالم السلماباذي يحط هو وأصحابه كثيرًا على سيدي أحمد بن الرفاعي فلقيه مرة سيدي أحمد في طريق ومعه أكبر أصحابه، فأول ما رآهم سيدي أحمد نزل عن دابته وكشف رأسه وقبَّل لهم الأرض (انظروا وتأملوا) وقال لأصحابه: بالله عليكم أن أغلظوا عليَّ القول فاصبروا ساعة، فلما قبَّل يد السلماباذي ورجله وهو راكب (اعتبروا) تلقاه بكل قبيح وشتمه وقال له: أي أعور، أي دجال، أي مستحل الحرام، أي مبدل القرآن، أي ملحد! حتى قال له: أي كلب! هذا كله وسيدي أحمد يقبل يده، ويقول: أي سيدي بفضلك ارضَ عني وأنا خادمك وحِلمك يسعني) إلخ وذكر في الصفحة 412 أيضًا ما نصه: (وكان الشيخ إبراهيم الأعزب يقول: كان البستي (وهو من أكابر العلماء) يحط على سيدي أحمد فأرسل مرة له كتابًا فيه: أي أعور، أي دجال، أي مبتدع، أي مَن جمع بين الرجال والنساء، الكلب ابن الكلب! (تأملوا)، فأرسل له الجواب: صدقت فيما قلت: جزاك الله عنا خيرًا، فلا تخليني من دعائك - يا أخي - وحلمك يسعني) ، ثم قال الشعراني:(ورَوى الشيخ عبد الرحمن القوصي رضي الله تعالى عنه بسنده إلى يعقوب خادم سيدي أحمد، قال: كنت كلما لقيت الشيخ عبد الله الهندي، يقول لي: احمل هذه الرسالة إلى شيخك وقل له: أي ملحد، أي باطني، ونحو ذلك من الألفاظ القبيحة، فكنت أخبر سيدي أحمد بذلك، فيقول لي: قل له: صدقت) اهـ.

(2)

من ذلك ما رأيته في البهجة الرفاعية عند بني الصياد في طرابلس الشام، وهو أن سيدي أحمد اشترى من الشيخ إسماعيل بن عبد المنعم شيخ أونيه بستانًا بقصر في الجنة، وكتب له بذلك صكًّا بخطه هذه صورته:(بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى إسماعيل بن عبد المنعم من الفقير الحقير أحمد بن أبي الحسن الرفاعي الضامن على كرم الله سبحانه وتعالى قصرًا في الجنة، يجمعه حدود أربعة: الأول إلى جنة عدن، والثاني إلى جنة المأوى، والثالث إلى جنة الخلد، والرابع إلى جنة الفردوس بجميع ولدانه وحوره وفرشه وأسرَّته وأنهاره وأشجاره عوض بستانه والله شاهد وكافل) ، ثم إنه طوى الكتاب وسلمه إليه اهـ والقصة مبسوطة في ذلك الكتاب وفيه من أمثالها كثير، وقد أتينا في كتابنا (الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) على العجب العُجَاب من مثل ذلك وسيُطبع عن قريب إن شاء الله تعالى.

ص: 145

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

‌استنهاض همم

(3)

قال قائل من مستمعي حديثي: وإذا تخاذلَتْ - والعياذ بالله - تلك الحكومات

وتباطأت عن الشروع في تأسيس هذه الوحدة ووضع مقدمات الإصلاح، وأخفق سعي

عقلاء الأمة العاملين على النهضة الساعين في تنبيه الأفكار وتنوير الأذهان، كيف

تكون النتيجة، وإلامَ تؤول حال المسلمين، وإلى أي منقلب ينقلبون، وهل يسلم

لواحدة من تلك الحكومات استقلالها أم يعجز كل منها عن الدفاع ويسقط بين يدي

العدو؟ هذا السؤال هو الذي حملنا على وضع هذه المقالة كما ألمعنا إلى ذلك في

فاتحتها.

ونقول في الجواب بالإجمال:

إن عاقبة تفريط المسلمين في لمِّ شعثهم وإفراطهم في لهوهم وغفلتهم وتثاقلهم

على مداركة الخلل الساري في شؤونهم - سقوط حكوماتهم بين أيدي الأمم الغربية

شيئًا فشيئًا، ثم تقلص ظل شعائرهم وشرائعهم عن وجه البسيطة حالاً فحالاً. ولا

إخالك إلا راغبًا في تقصّي الأحوال غير مجتزئ بهذا الإجمال لما أنه قلما يجهله إلا

مَن ران على قلبه وطمست عين بصيرته.

(المسألة الشرقية) وكل واحد على شيء من العلم بالمسألة الشرقية. هي

اقتسام دول الغرب لحكومات الشرق. ما منشؤها؟ هو ذلك الينبوع الذي انبثق في

ربوع الحجاز ثم تعاظم مده وطما سيله حتى غمر معظم الأصقاع الشرقية في آسيا

وأفريقيا وتنفست أمواجه على السواحل الجنوبية من قارة أوربا وتدرجت رويدًا رويدًا

حتى كادت تصافح أمواج البحر الشمالي لو لم يقف شارل مارتل (ملك فرنسا) في

وجهه ويعترض جريته، ففلّ سورته وعرامه [1] وأرجعه أدراجه.

ما غرض ساسة أوربا في المسألة الشرقية، وما الذي حملهم على التداخل في

خُويِّصة الشرق وشؤونه وأي عذر لهم في اقتسامه واستباحة التهامه؟ يزعمون أن

شعوب الشرق مسلوبو الخلال التي ترشحهم للمدينة فاقدو المزايا التي تؤهلهم لتكوين

أمة ذات حضارة وعمران على نسق حضارة أوربا وعمرانها. عامتهم جهلاء لا

إلمام لهم بشيء مما تتوقف عليه راحة الإنسان وانتظام معيشته الصحية والأدبية

أذلاء مستعبَدون لحكامهم، لا يعرفون كيف يطالبون بحقوقهم، ولا كيف يلزمون

حكامهم حدود العدل والإنصاف. عمالهم على جهل تام بأمور الإدارة الداخلية وكيفية

ارتباطها بسياسة الأمة الخارجية لا يعلمون الواجب عليهم ليقفوا عنده ولا يحفلون

بالحقوق ليبذلوها إلى أصحابها. معظم همهم في مخالسة رشا (جمع رشوة) أو

مجالسة رشا. أمراؤهم لاهون وعن النصيحة معرضون، لا يهمهم صلاح رعيتهم ولا

يبالون بشقوتهم، ولا يصيخون لشكيتهم. يتفننون في ابتداع الأساليب لابتزاز أموال

الرعايا وإنفاقها في ضروب ملاذهم وشهواتهم سعادة. أحدهم في مراوحته بين

الافتراش والاكتراش. وبالجملة إن حكام الشرق وأمراءه استذلوا رعاياهم

وتهضموهم وبخسوهم حقوقهم وتلاعبوا بهم، كما تتلاعب الزعازع بالنباتات الغضة

والغصون اللينة.

ظلموا الرعية واستجازوا كيدها

فعدوا مصالحها وهم أجراؤها

وتدّعي دول الغرب أن إبقاء أهل الشرق على هذه البيئة السيئة والشؤون

البهيمية وتركهم وتعاليمهم المختلة وآدابهم المعتلة وحكمهم الظالم واستبدادهم الغاشم

جناية على الإنسانية وضربة قاضية على المزايا البشرية وإخلال بتعاليم الشريعة

الأدبية، وأن الواجب والضمير يأمران أولئك الدول بالدمور [2] على أهل الشرق

والاستيلاء عليهم شاؤوا أو أبوا، ثم إن كان الشرقيون عاجزين عن إدارة بلادهم

الداخلية قصروا أيديهم عنها وتناولوها منهم وكان استعمارًا صرفًا، وإلا خلوا بينهم

وبينها واستبدوا بسياسة البلاد الخارجية ومصالحها العمومية الكبرى، وسموا ذلك

حماية.

ويموهون بأن هذا الحجر إنما هو مُوَقَّت بزمن عجز المحجوزين وقصورهم

حتى إذا أدركوا وبلغوا الحالة التي يمكنهم معها القيام بشؤونهم الإدارية والسياسية

خلوا بينهم وبين بلادهم وودعوهم وانصرفوا مأجورين لا مأزورين. هكذا يزعمون.

ومما يقدمون عذرًا - بين يدي فعلتهم هذه - قولهم: إننا قد أرخينا الطِّوَل [3]

لحكومات الشرق منذ نصف قرن وأكثر، وانتظرنا إفاقة أمرائهم من غفلتهم وانتعاشهم

من عثرتهم، وما زلنا في أطواء تلك المدة نتقدم إليهم بالوعظ تارة وبالإنذار أخرى،

وننصح لهم بأن يصلحوا شأنهم ويرعَوُوا عن غشمرتهم، ويعرفوا لشعوبهم حقوقهم

وهم عن ذلك معرضون وبالترف لاهون وبالترهات مغترون.

هل المسألة الشرقية تقتصر في تناولها على الشعوب الإسلامية أو يتعدى

حكمها إلى سائر الأمم الأخرى؟ إنما وضعت تلك المسألة في أول أمرها لأجل

مقاومة الإسلامية ومساورة أهلها، واسترجاع ما افتتحوه من الأقطار المسيحية

والولايات الرومانية التي سقطت أمامها وعنت لسلطانها، فمن هذا تعلم أن حقيقة

المسألة الشرقية دينية، لكنها مموهة الظاهر بالصبغة السياسية التي تقدم شرحها.

ومن جرّاء ذلك لم يقتصروا في مدلول تلك الكلمة على الشعوب الإسلامية فقط، بل

تجاوزوا بها إلى سائر الشعوب على اختلاف أديانهم وتعاليمهم.

وما لي لا أتوخَّى في بحثي الصدق وأتحرى في حكمي الحق. إن فَسيلة تلك

المسألة وإن كانت زرعت حبتها الأصلية لأول عهدها في تربة التحمُّس الديني

وسقيت بمياه الأحقاد الملية، لكنها - والحق يقال - لم تستغلظ وتستوِ على ساقها إلا

في هذه الأزمنة المتأخرة وبين الأمم الغربية، حيث تعهدوها بالأسمدة السياسية وأتموا

تشذيبها وعذق تربتها بمعاذق الأطماع والأغراض والأثَرَة الجنسية؛ فبذلك أصبحت

تلك الفسيلة شجرة عظيمة غليظة الساق ممتدة الفروع ضاربة الأغصان تظل

بأوراقها وغصونها بقاع آسيا وإفريقيا وجزائرها وشبه جزيرة البلقان، بما يسرح

فيها من الشعوب المختلفة والأمم المتباينة والقبائل المتنوعة، لا فرق تحتها بين دين

ودين، ولا تمييز بين مذهب وآخر.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

عُرامه بالضم: بمعنى سورته أي: شدته وحدته.

(2)

الدمور: الدخول بدون استئذان.

(3)

الطِّوَل كعنب: قِيَاد الدابة يطال لها في المرعى للتوصل إلى الكلأ ويُكَنَّى به عن الإهمال.

ص: 151

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التربية النفسية

من الناس من يرغب عن قراءة ما يُكتب في شؤون الأطفال احتقارًا له كما أن

الأطفال محتقَرين عندهم ولا يلذّ لهؤلاء إلا الكلام عن الملوك والحكام وشؤون الدول

والأمم، وهذا دليل على أنهم أصحاب أهواء لا نفع لقراءتهم؛ فإن الملوك والحكام

كانوا أطفالاً وأحوالهم - في كبرهم - مبنيَّة على تربيتهم في صغرهم، والأمم مؤلفة

من الأفراد الذين لم يوجد واحد منهم كبيرًا قط. فتربية الأطفال هي المسألة الأساسية

في حياة الأمة، فمَن لا يكترث لها لا يكترث للأمة كلها، مهما ثرثر وتشدق في

الكلام عنها.

يرى المراقب للأطفال والولدان أن الكذب والشراسة والظلم والتعدي والأثرة

والدناءة والشَّرَه ونحوها من الرذائل - أغلب عليهم من الصدق والدَّعَة والإنصاف

والرضى بالحق والمؤاثرة على النفس والشهامة والعفة وأشباهها من الفضائل؛ ولهذا

ذهب بعض علماء الأخلاق إلى أن الإنسان شرِّير بالطبع وإنما يكتسب الخير

بالتربية والتعليم. وهذا باطل كمقابله وهو أن الإنسان خيِّر بالطبع ويطرأ عليه الشر

من فساد التربية والتعليم. والحق أنه - في أصل فطرته - قابل للأمرين على السواء

وهناك مرجِّحات ترجّح أحدهما على الآخر أضعفها حالة القطر ونوع المزاج

وأقواها الوراثة والتربية والتعليم وغلبة الشرور والرذائل على الأطفال، إنما هي

من سوء الوراثة والتربية معًا؛ لأن أهل التهذُّب والتهذيب في الدنيا قليلون. ولا

يكفي في وراثة الخير والفضيلة أن يكون الأبوان خيِّرين فاضلين؛ لأن الطفل كما

يرث من والديه يرث من أجداده وإن علوا، وهذه الوراثة لا يحجب الأدنى فيها

الأعلى كإرث الأعيان شرعًا.

يتهاون الناس بتربية الطفل الأدبية من أول النشأة زاعمين أنه لا يفهم ولا يعقل

فيغرسون في تربة نفسه الطيبة بذور الرذائل، فلا يلبث أن ينمو ذلك الغرس فيجنون

منه حنظلاً ويطعمون ضَريعًا وزقُّومًا. أول شيء يتعلمه الطفل الكذب الذي هو منبع

الشرور وجرثومة الرذائل، أرأيت كيف تُسكته جدته أو عمته إذا بكى في غيبة

المرضع بإلقامه ثديها الذي لا لبن فيه؟ ! أرأيت كيف يلاعبون الوليد فيأخذون منه

الألهية (ما يُتَلاهَى به) ويحجبونها عن عينه، قائلين: أخذها البعبع أو الغراب!

ثم يُظهرونها له؟ ! فيثبت مثل هذا الكذب في نفسه بالتكرار، ويكون ملكة راسخة

لا يتأتى الرجوع عنها بعدُ بمجرد قول أبيه أو معلمه: إن الكذب قبيح أو حرام إلا

إذا عقل وقويت إرادته وجاهد نفسه على الاحتراس من الكذب وتحري الصدق زمنًا

طويلاً، فقد جربنا هذا وقاسينا منه العناء عدة سنين ورُبَّ كلمة واحدة يتعلم بها الولد

عدة رذائل، وذلك كأن تعطيه أمه تفاحة وتقول له: اخفِ خبرها عن أخيك. تعلِّمه

بها الكذب والأَثَرَة والبخل والظلم، حيث لم تساوِ بينه وبين أخيه وسوء المعاشرة

والسرقة؛ لأن مبدأها أخْذ الشيء خُفية وغير ذلك.

ومن الجهالة الدائمة والمنتشرة ما يعتقده أكثر الناس من أن الكذب على

الصغار مباح، وأصل هذا قول بعض العلماء: يجوز ترغيب الصبي أو ترهيبه في

حمله على الذهاب إلى المكتب ونحوه، ولو بما لا ينوي المرغب والمرهب الوفاء

به، وهذا إذا تعذر حصول المصلحة بغير ذلك وكيف يعقل أن الشريعة الحكيمة تبيح

إفساد نفوس الولدان بطبع هذه الرذيلة في نفوسهم؟! روى ابن أبي الدنيا من حديث

أبي هريرة مرفوعًا: (مَن قال لصبيه: ها أعطيك. فلم يعطِهِ كُتبت كذبة) ومن

حديث ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا من حديث طويل: (وأن الكذب لا يصلح منه جد

ولا هزل ولا يعِد أحدكم صبيًّا ولا ينجز له) وجميع ما ورد في الكتاب

والسنة من التشديد والوعيد على الكذب يتناول الكذب على الصغار، بل ربما

كان هذا النوع من الكذب أقبح من غيره؛ لأن المكذوب عليه يتضرر منه بطبع ملكة

الرذيلة فيه، بخلاف الكبير فإنه يبقى على ما رُبي عليه غالبًا، فليعتبر الآباء

والأمهات بما ذكرنا وما سنذكر بعد.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 155

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

(ثمرات الفنون)

قد تم لهذه الجريدة الغراء بانتهاء عام 1316 خمس وعشرون سنة ربع قرن

قمري كامل في خدمة الملة والدولة، فاحتفل صاحبها المفضال سعادتلو عبد القادر

أفندي القباني بموسمها الفضي في أول العام الجديد عام ست وعشرين للجريدة

احتفالاً بديعًا في ثلاث ليال، كان منزله فيها موردًا عذبًا للعلماء والوجهاء والأدباء

من جميع المذاهب والأصناف، وقد افتتح الاحتفال سعادته بخطاب لطيف خُتم

بالدعاء للحضرة السلطانية من الجميع ثم تأثره الخطباء والشعراء بألسنة تفيض الثناء

على هذه الجريدة الوطنية الصادقة ومؤسسها بما هما أهله.

وقد استغرق منظومهم ومنثورهم العدد الأول من السنة الجديدة الذي طبع بحبر

مذهب على ورق فضي كالورِق وبقي بقية. فنهنئ سعادة رصيفنا بالتوفيق لبلوغ

هذه الغاية في جهاده الأدبي، ونسأل الله تعالى أن يديم له التوفيق والنجاح حتى يهنأ

بالموسمين الذهبي والماسي وتبقى جريدته إلى ما شاء الله.

***

(تقويم المؤيد)

طبعت نفوس الغربيين على الترقي في كل شيء ولم يجدوا سبيلاً لترقية

التقاويم السنوية إلا بإيداعها كثيراً من الفوائد المقتطفة من كل فن وكذلك يفعلون.

ولم يتلُ أحد من أصحاب التقاويم العربية تلوهم في هذا إلا حضرة الكاتب البارع

محمد أفندي مسعود أحد محرري جريدة المؤيد الشهيرة؛ فقد أنشأ تقويماً أودعه فوائد

شتى من جميع الفنون، بحيث يجد حامله منه معلماً ومسلياً إذا نظر فيه، لا سيما

في أوقات الفراغ وقد انتقدنا عليه أن ذكر فيه مسألة خرافية وهي (معرفة حظ

الإنسان بمواقيت ميلاده) ، وإن كان يُسر بها أكثر الناس.

***

من عجيب تحامل الأوربيين وأنصارهم من العثمانيين نسبة الدولة العلية إلى

إهانة النصارى وعدم مساواتهم بالمسلمين، والواقع أنها تفضلهم على المسلمين في

كثير من الشؤون ونذكر الآن مسألة الصحافة فقد رقت الدولة أصحابها من النصارى

أكثر مما رقت أصحابها من المسلمين، ففي مصر يوجد مَن ارتقى من أولئك إلى

رتبة (مير ميران) وصاروا من باشاوات الدولة، ومن ارتقى إلى الرتبة الأولى،

ولا يوجد مسلم نال رتبة ما، وهذا عطوفتلو نجيب بك ملحمة رقته الدولة بسبب ما

كان يكتب في جريدة البصيرة إلى أهم مركز سياسي في بلادها، حيث جعلته

مندوبًا ساميًا في البلغار وما أدراك ما البلغار وفي هذه الأيام أنعمت عليه الحضرة

السلطانية مجددة مجد الدولة برتبة (بالا) الرفيعة ولا يمكن أن يحلم بهذا صاحب

جريدة مسلم.

وأعظم من هذا في معناه أنه بعد صدور جريدتنا المنار الإسلامية أراد بعض

كهنة المسيحيين إصدار جريدة دينية بهذا الاسم، فأنهى ملجأ ولاية بيروت رشيد بك

إلى ملجأ الخلافة العظمى بإصدار إرادة سنية بمنع المنار الإسلامي من بلاد الدولة

العلية، وإرادة أخرى بإصدار المنار المسيحي فصدرت الإرادتان على حسب الطلب

من مقام ثالث العمرين - أيد الله ملكه وأجرى في بحر التوفيق فُلْكه -

وفي هذه الأيام قرأنا في جرائد سوريا بأن مولانا أمير المؤمنين أنعم بالوسام

العثماني الرابع على حضرة الشماس أرسانيوس حداد صاحب جريدة المنار المسيحية

الغراء مكافأة له على إخلاصه وصدق تابعيه وهذا الإنعام وإن كان لم ينله ابتداءً

صاحب جريدة إسلامية - لكن قد نال مثله العلامة الشيخ حسين أفندي الجسر بعد

تأليف (الرسالة الحميدية) فهو ليس بامتياز عظيم، ونبشر رصيفنا الشماس بأن أول

الغيث قطر ثم ينهمل. ولا يختلجنَّ في فكر أحد أن في نفسنا شيئاً من رفيقتنا

وسَمّيتنا (المنار المسيحية) الغراء. كلا، إننا نعتقد أن الجرائد الدينية أنفع

لوطننا المحبوب من الجرائد السياسية إذا كانت كتابتها في تعاليمهم الدين الأصلية

وقد بينا في مقالات التعصب أن الغلو في التحمس الذميم لا يستأصله من نفوس

المسلمين والنصارى إلا الرجوع إلى آداب القرآن ومواعظ الإنجيل.

ولذلك نرجو أن تدعو جريدة المنار وجريدة المحبة وأمثالهما إلى الاتفاق

والائتلاف باسم الدين، كما دعوا إلى ذلك باسم الدين عندما كانت جريدتنا تدخل البلاد

العثمانية، وإنما غرضنا من هذه النبذة إعلام قراء منارنا في الشرق والغرب بأن من

ينسب إلى الدولة العلية تمييز المسلمين على النصارى متحامل عليها، وأن الأمر

بخلاف ذلك في كثير من الشؤون، وأما نحن فلا يسعنا إلا الرضى من دولتنا

وسلطاننا كيفما عُوملنا؛ إذ لا دولة لنا نلجأ إليها إذا هُضمت حقوقنا، وإلى

الله المصير.

***

كتبت جريدة المجلة العثمانية الغراء مقال في صدر العدد الثاني بيَّن فيها

منشئها الفاضل فرح أفندي أنطون أن المسلمين والمسيحيين في بلاد الدولة العلية

على غاية الوفاق والوئام وأن ما تتهمهم به أوربا من خلاف ذلك مبني على

الأغراض السياسية، وأن إمبراطور ألمانيا أدرك هذه الحقيقة في سياحته الأخيرة،

وأن قول جلالته للخطيب المسيحي - الذي خطب أمامه بين أكابر المسلمين في مأدبة

بلدية دمشق: (إن خطابك بقي الليل كله يرنَّ في أذني) معناه أنه استدل منه على

حسن حال النصارى مع المسلمين، ويؤكد ذلك قوله لوزير خارجيته - بعد

خروجه من المأدبة -: (إن المسيحيين في بلاد الدولة أحسن حالاً من الأيرلنديين في

إنكلترا، والمسلمين في الهند والروسيا، واليهود في الجزائر وأكثر ميلاً إلى مسالمة

إخوانهم المسلمين والمسلمون أكثر رغبة في مسالمتهم مما يصفهم به الواصفون) ولم

نكد نقرأ هذه المقالة حتى صارت ترد علينا جرائد أميركا وفيها مقالات متسلسلة

تحت عنوان (حبذا الموت في سبيل الإصلاح) لإلياس أفندي أنطون شقيق

منشئ الجامعة، زعم كاتبها أن طرابلس الشام (التي قتل فيها رجل من أسافل

النصارى رجلاً من سراة المسلمين) فضلاً عن غيرها - قد خضبت أرضها بالنجيع

الأحمر من دماء النصارى، وأن المسيحيين في بلاد الدولة يكرعون السم، ويحث

إخوانه ويهيج نفوسهم على إضرام نار الثورة في سوريا لتحرير المسيحيين من

الاستعباد والظلم الذي مثَّله في مقالاته تمثيلاً يشبه تمثيلات بطرس الراهب التي

فاض عنها طوفان حرب الصليب.

كل هذا - وأعظم منه - يُكتب في تلك الجرائد، ولا تنبس الجرائد التي تدَّعي

خدمة الدولة في مصر بكلمة في الرد عليها، ولكنهم يُظهرون الغيرة على الدولة،

بقولهم: إن المصريين الذين احتفلوا بعيد الجلوس الهمايوني ليسوا مخلصين للدولة

والسلطان وإن المؤيد يظهر خدمة السلطان والدولة لأجل مصلحته. هكذا يشقون

الصدور ويردون على ما في القلوب، أما الكلام الشائن والطعن الصريح فلا يردون

عليه، فهكذا يكون الإخلاص في الخدمة!

_________

ص: 157

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌حياة الإسلام في مصر

كلما ذاق كأس مرير

جاء كأس من الرجا معسول

يزداد في كل يوم طوفان السياسة الإنكليزية فيضانًا على مصر فيجرف كل ما

يعترض في سبيله ويغمر المصالح ويعلو جميع المنافع، حتى إنه ليتراءى للمشرف

على مجاري سيوله أن الأمة المصرية قد غرقت منه في بحر لُجي تعلوها أمواجه

والفيض على ما جاورها أثباجه. ففقدت بذلك الحياة السياسية. وأضاعت المزايا

القومية. وانقطعت منها الآمال في الحال والمآل. حكم ناموس تنازع البقاء العام

الذي لا يقبل النقض بعد الإبرام. فيلتهم القوي بمقتضاه حق الضعيف ويسود العالَمَ

الجاهلُ. ويقيس الناظر مصر على الهند وجاوا وسائر البلاد الإسلامية التي أظلتها

السلطة الأوربية؛ فحالت بينها وبين كل تقدم وارتقاء.

كل هذا يخطر في البال ويجول في فضاء الخيال، ولكن حديد النظر بعيد الفكر

يعلم أن من مقتضى ناموس تنازع البقاء أيضًا مجاراة كل أمة لمجاورتها في أسباب

الارتقاء وتقليد القوية للضعيفة في وسائله إذا كانت على علم بها ولو بالإجمال (وكل

مَن سار على الدرب وصل) وإن قياس المصريين على الهنديين والجاويين قياس

مع الفارق. والفرق من وجوه شتى:

أحدها - أن الأجانب استولوا على الأولين وهم على جهل تام بأحوال الاجتماع

البشري؛ فكان أهم عمل لهم بعد فقد استقلالهم معاداة كل ما عليه الأوربيون من

العادات، ومحاربة ما عندهم من العلوم والفنون وطرق السياسة والاقتصاد

وسائر الشؤون الاجتماعية، والمصريون ليسوا كذلك.

وثانيها - أنه لم يكن عندهم جرائد حرة تعرِّفهم ما لهم وما عليهم وما هم فيه،

ولم يكن لهم روح اجتماع بحيث تتلاقى أفكارهم في جو واحد، وإن تلاقي الأفكار في

جو واحد نافع وإن كان هواؤه فاسدًا؛ لأن التفرق لا يأتي إلا بالشرور، والاجتماع

ولو على الباطل والخطأ مبدأ للوحدة لِما يتوقع بعده من الانتقال إلى الاجتماع على

الحق والصواب. والمصريون قد سبق لهم اجتماع من عهد قريب باسم الأمة

والوطن وهو ما كان من أمر الثورة العرابية العشواء ثم ما كان من الغيرة على الدولة

العلية في حالة الحرب الأخيرة ثم في حالة الإعانة العسكرية الشاهانية، فقد ظهر من

المصريين في هاتين الحالتين من الإخلاص والغيرة والبذل مع ما يعتقدون من عدم

ارتياح حكومتهم لذلك ما لم يظهر من غيرهم من العثمانيين.

ثم إن لهم اجتماعات من دون هاتين كالاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني الذي

بُذلت فيه أموال كثيرة، وكالعناية والاهتمام بمحاكمة صاحب جريدة المؤيد التي يعتقد

السواد الأعظم بصدق وطنيتها وابتهاجهم بما كان له من الفلج على الحكومة التي

كانت خصمه في تلك المحاكمة، وهذا وما قبله ليس بالأمر الصغير من شعب هو

أشد الشعوب هيبة لحكومته وخضوعًا لها، وعندهم جرائد يعرفون من مجموعها ما

لهم وما عليهم، نعم، إن الدهماء منهم يرجحون فيها الوهم على الحقيقة ويختارون

الهزل على الجد وهذه هي العقبة الكبرى في طريق ارتقاء الجرائد.

ثالثها - أن المصريين يمتازون على سائر الشعوب الإسلامية بأمرين عظيمين

وهما: المنافسة، وسرعة قبول الإصلاح إذا جاء على يد عظيم محترم إما

لدينه وإما لما يُرجى من خيره أو يُخشى من شره، فإذا تسنى لبعض الكبراء فيهم

إشراع مناهج الارتقاء الاقتصادي والأدبي، وإن شئت قلت الديني والدنيوي، فلا

يلبثون أن يتباروا ويتنافسوا في السباق؛ حتى لا تدرك شأوهم الشعوب الأخرى التي

تفوقهم في الهمة والإقدام والثبات كالسوريين وغيرهم.

إن أمام المصريين وسائر المسلمين سدًّا منيعًا من الوهم يحُول بينهم وبين

السير في طريق الترقي، فإذا استطاعوا أن يَظهروه أو ينقبوه، ولا أقول: أن

يدركوه. يتسنى لهم الإيجاف والإيضاع في ذلك المنهاج الواضح، والمهيع الواسع.

وإن ذلك السد هو الاعتماد على دولهم وحكوماتهم التي أمست أغلالاً في أعناقهم

وسلاسل في أيديهم وقيودًا في أرجلهم وغشاوة على أبصارهم ووقرًا في أسماعهم

ورينًا على قلوبهم. وكل ما نزل بالمسلمين من بلاء فإنما نزل من سماء عظمتهم

واستبدادهم. وإن تعجب فعجب قول مَن ليس للدولة العثمانية في بلادهم أمر ولا

نهى ولا نفوذ ولا سلطان: (إن حياتنا بين يدي المابين! وإن السعادة ستهبط علينا

من أفق الباب العالي) وهم يعلمون أن البلاد التي تحت جناح المابين ونفوذ الباب

العالي تنقص من أطرافها ويتمزق أهلها كل ممزَّق، ولا ينال تلك البلاد وأهلها من

المابين والباب العالي إلا الاعتراض على من مزق الأشلاء وشرب الدماء!

ماذا جنى ويجني أهل جاوا والهند ومصر من الظهور القولي في حب

مظاهرة الدولة العثمانية؟ لعمرك إنهم لا يجنون إلا الحنظل والزقوم؛ فإن هولاندا

وإنكلترا كلما آنستا منهم إليها ميلاً أو سمعتا منهم فيها قولاً - تزيدان عليهم الضغط

والاضطهاد والقهر والاستبداد. أَوَ لا يرَوْن أن الدولة لا تُرجِع إليهم قولاً ولا تملك

لهم ضرًّا ولا نفعًا؟ ! لا أقول لهؤلاء المسلمين: أبغضوا الدولة العثمانية. ولكني

أقول: إذا أحببتموها فاكتُموا حبها ولا ترجوا منها ما لا ينال واعتمدوا في رقيكم على

المعونة الإلهية ثم على جدكم وكدكم وعلمكم وعملكم، فإن رأيتم من الدولة نهضة

فعلية فانهضوا معها إن كنتم صادقين. كل عاشق يحذر العذال والرقباء فكيف لا

تحذرون؟ ألم تعلموا أن الدولة لا ينالها من كثرة لغطكم بذكرها إلا مثلما ينالكم من

الضغط الأوربي والاضطهاد؟ نعم، إن السلطان يفرح ويسر من خضوعكم له

ولهجكم بتمداحه، ولكن هل تشترون فرح شخص وسروره بمصالحكم ومصالح

الدولة؟

أقول هذا، وأنا اعتقد أنه لباب النصح الذي يوجبه علينا ديننا وإخلاصنا لأمتنا

ودولتنا، ومن بين لنا بالبرهان أننا مخطئون، فإننا نرجع إلى رأيه. وإذا كان القول

صوابًا، فعلى إخواننا المسلمين أن يتدبروه، وعلى جرائدهم أن ترجع صداه،

والمنتظر من الجرائد الهندية التي تتفضل دائمًا بترجمة مقالات المنار أن تنقله إلى

لغتها ليحيط به قراؤها علمًا.

أيها الإخوان المصريون، لا يروعنّكم طوفان الاحتلال، ولا تقنطوا من النجاح

لاستئثار الأجانب بالوظائف والمناصب وعبثهم بالمصالح والمنافع، فنجاح وطنكم

بالزراعة والاقتصاد وحياة أمتكم كلها بالمعارف، وإن الإسلام لينتظر منكم ما لا

ينتظر من سواكم، فأنتم أكثر المسلمين بذلاً للدرهم والدينار، وأشدهم منافسة ومباراة

في طرق الفخار، تبذلون الألوف والملايين للدنيا وباسم الدين، ولا حاجة للإسلام

بعمارة المساجد؛ فإنها تزيد على حاجة المصلين، ولا لإقامة الموالد؛ فإنها من بدع

المحدثين، وليس الفخار بالنفقات الواسعة في الأفراح والمآتم والوضائم، ولا ببناء

القصور و (الأحواش) على القبور. وإنما حاجة الإسلام - وفيها الفخار الحقيقي

والشرف الصحيح - إلى بناء المدارس، والنفقات الواسعة على تعميم المعارف، لكن

لا لأجل خدمة الحكومة، بل لأجل خدمة الأمة، أفلا يوجد فيكم - يا قوم - عاقل

فهم هذا ووقف على سر أن تقدم أوربا هو الهبات المالية للعلم فأقدم على العمل لتقدم

أمته؟ !

ألا يوجد مسلم يوقن بأن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم لإعلاء كلمته

ونصرة دينه فيبذل ماله في سبيل الله؟ ألا يوجد فيكم محب للمحمدة الحقة والمجد

المؤثل يعمل عملاً، كهذا يحفظه له التاريخ إلى الأبد. ويكون مفخراً لقومه ما بقي

منهم أحد؟ ، بلى، إن الاستعداد لهذه الأعمال متأصل فيكم وأنتم أحق بها وأهلها،

ولكن عَدَتْ على الروابط العمومية عُوَّاد، اشتبه بها على الناس سبيل الرشاد،

و {الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ} (يوسف: 51) وبادر إلى العمل أهل الإخلاص والصدق

{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ} (الواقعة: 10-11) .

أول مَن فتح هذا الباب صاحب السعادة المِفضال عثمان باشا ماهر الذي كان

رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية إلى عهد قريب، فإنه وقف منذ سنين 250 فدانًا

على الأزهر الشريف، ومنذ أيام ألحق بهذا الوقف أحد عشر فدانًا أخرى ثم وقف بقية

أطيانه - وهي 445 فدانًا أو تزيد، يبلغ ريعها في السنة نحو مائة جنيه - على

إنشاء مدرسة إسلامية تعلم العلوم الشرعية. والآلية من معقول ومنقول وفروع

وأصول. وقام في إثره الفاضل الغيور علي بك فهمي المهندس المقاول الشهير بالبر

والإحسان يشرع في عمل عظيم، ألا وهو إنشاء (دار علوم) على نحو دار العلوم

التي أنشأها الطيب الذكر والأثر علي باشا مبارك ناظر المعارف المصرية سابقًا

(رحمه الله تعالى) على نفقة الحكومة، تعلم فيها العلوم الدينية العالية وجميع الفنون

الرياضية والطبيعية التي يتوقف عليها ارتقاء الأمة ومجاراتها الأمم القوية العزيزة

وهذه هي الخدمة الكاملة للإسلام الذي بُني على دعائم السعادتين، ووُضع لفوز

الآخذ به بالحُسنيين، وستكون تلامذتها من نجباء طلاب العلم في الأزهر، يُختارون

بالامتحان، ويوقف عليها وقفًا يبلغ ريعه في السنة أربعة آلاف جنيه، وهذا هو السخاء الحقيقي والكرم الحميد.

إذا قام في المصريين عدة رجال مثل هذين الرجلين الكريمين ومثل العالم

الفاضل عزتلو علي بك رفاعة (وكيل وزارة المعارف سابقًا) الذي بنى مدرسة في

طهطا ووقف عليها ما يكفي لقوامها ودوامها إن شاء الله تعالى، ومثل الفاضل الهمام

سيد أحمد بك زعزوع الذي بنى مدرسة للذكور ومدرسة للبنات في بني سويف

ووقف عليهما سبعين فدانًا من أحسن أطيانه، فبمثلهم تنهض البلاد وتحيا الأمة، وإذا

حييت مصر فلا ريب أن روح الحياة يسري منها إلى جميع العالم الإسلامي.

نعم، نعم، إن الحياة في تعميم العلوم الدينية والدنيوية جميعًا لا بكون قاضينا

من الآستانة ولا حاجة لنا مع هؤلاء الرجال الأخيار الذين يجودون بالدرهم والدينار

إلا إلى معلمين أكْفاء ومدرسين أحياء، يستخدمون الدين والعلم لكشف الغمة ونفخ

روح الحياة في جسم الأمة، ولا يخفى على نبيه أن فاقد الشيء لا يعطيه، فإلى هذا

نوجه أنظار هؤلاء المؤسسين، فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله

ورسوله، ومَن كانت هجرته إلى نحو رتبة ينالها أو حكومة يتقرب إليها فهجرته إلى ما هاجر إليه.

_________

ص: 161

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

‌استنهاض همم

(4)

هل تفلت من حبالة المسألة الشرقية شعب من شعوب الشرق؟

نعم قد تفلت من أطماع أوروبا وتخلص من نير تغلبها أمة حديثة في نشأتها

حكيمة في حَزْمها وتدبرها، وهي أمة اليابان ونهضت نهضة الأسد من عرينه

فأماطت غشاوة الجهل عن عينيها، ونزعت رداء الكسل عن منكبيها، وقرنت العلم

بالعمل، وجمعت بين الإرادة والسعي في إنجاز المراد وإنقاذه فاقتبست من أوروبا

فنونها وآدابها النافعة، وأعرضت عن مَقَاذِرِها ورذائلها الفاضحة، فلم يمض عليها

قرن حتى أمر (عظم) أمرها وعظم شأنها وعدت في مصاف الدول العظمى،

وسميت بإنكلترا الشرق. وقد أمست دول أوروبا تتوقى ضيرها، وتتوخى خيرها،

وتخطب مجاملتها، وتود محالفتها. يكفيك أنها قهرت الصين الضخمة وهي منها

بمنزلة الواحد من العشر بل الألف من الصفر (كذا) ولعمري إن الإصبع الواحدة

السليمة تقاوي عشرًا من الأصابع المشلولة ولو عززت بالذراعين.

وهناك دولة أُخرى من دول الشرق وهي وإن لم تكن كهذه في التمدن وحسن

الانتظام واقتباس أساليب الحضارة الأوربية لكنها يوشك أن تأمن على استقلالها

وتحافظ على مركزها، وتستبد بإدارة شؤونها الداخلية والخارجية وهي أمة الأحبوش

فإن ذلك الشعب تحرشت به دولة إيطاليا وهي دولة متمدنة منظمة وهو شعب فيه

توحش وعلى غير نظام، فعاثت في أطراف بلاده، وعبثت بحقوقه السياسية، ولم

تبال بحرمته، فصمد إليها وصدمها صدمة زحزحتها عن موقف ثباتها، وكادت

تقضي على قوتيها العسكرية والمالية، فانسلت من بلاده، صاغرة انسلال الأفعى من

حجر الورل [1] ولما رأت أوروبا منه ذلك وأنست منه الرشد وتوسمت فيه القوة

ومنعة الجانب، وأحست بأن في نفسه شيئًا من الشهامة وفي دمه بقية من النخوة

والحمية؛ عرفت ذلك له، وحادت عن طريقه، وهابت التعرض له وخلت بينه

وبين نفسه؛ حاسبة أن تلك المزايا التي فيه والأخلاق الشريفة التي قامت بنفسه

كافية لسوقه إلى المدينة، وحمله على تناول العمران الأوروبي وهصر أفانينه،

واقتباس فنونه. وطفقت الدول من يومئذ تتزلف إلى ذلك الشعب وتدلي إليه

بالوسائط المختلفة. إنكلترا تمت إليه بالجوار ووحدة المصلحة في دفع غارة

المهدويين أعدائها وأعدائه، وصد هجمتهم وفلّ غرارهم وروسيا وفرنسا تمتان

إليه بوحدة المذهب، واشتباك الطقوس الكنائسية (كذا) وفائدتها من إمداده وارفاده

اتخاذه ظهيرًا لهما على مساورة إنكلترا في ضفاف النيل، ومقاومة نفوذها ثمة. إلا

أن في بلاد الأحبوش رؤساء وقوادًا تتكالب على تسنم الرئاسة وأحزابًا سياسية، كل

حزب يعضد رأسًا من تلك الرؤوس، ويقوم معه في منازعه العاهل الأكبر

(النجاشي) زمام السلطة والأمر.

وهذا لا ريب يضعف البلاد قليلاً، ويباعد بين قلوب رجال الشعب ويعده لنمو

مكروب الداخلة الأجنبية فيه، ويوقعه تحت أحكام مسألتنا الشرقية، ومن متناولات

فروعها، اللَّهم إلا أن يقال: إن الدين مهما تضاءل أثره في أعمال دول أوروبا

وضعفت عوامله في أفكار ساستها لا بد أن تكون له في بعض الأحايين صولة على

السياسات فيصرف مهابها، وسلطة على القلوب والنفوس؛ فيبعث بعواطفها وأميالها.

فالدين الذي شُدَّت أواصر تعاليمه بين الشعب الحبشي والشعوب الإفرنجية

وتوثقت وشائج طقوسه بين الكهنة ورجال الإكليروس من القبيلتين جدير بأن يشفع

بالأمة الحبشية لدى دول أوروبا ويثير في نفوس تلك الدول عواطف الرأفة والحنان

عليها فتمهلها لبينما تهب من الرقدة، وتستأنيها ريثما تستقيم على الطريقة، بل ربما

تواطأت الدول على أرفادها ومؤازرتها بالأموال والدثور، وتبرعت بإنشاء مدارس

وكليات لتهذيب أبنائها وناشئتها، ومتاحف وكتبخانات لتثقيف عقول طلبتها،

وتخريج شبانها كما يصنع بعض الدول لهذه الآونة في أمة اليونان وشعوب البلقان.

هل ابتدأ العمل بالمسألة الشرقية ومناجزة أهل الشرق في هذه الأعصر

المتأخرة أم كان الشروع قبل ذلك؟

حدثت مناوشات عديدة بين الفريقين في القرون الوسطى كان أمرها سجالاً

وأعظم تلك المناوشات وأظهرها أثرًا وأبعدها ذكرًا وأشدها صدى ودويًّا في بطون

التواريخ حملتان صادقتان، بل بركانان منفجران، وقد أنجحت إحدى هاتين

الحملتين وأخفقت الأخرى. أما الحملة المُنْجحة فهي حملة الشعب الأسبانيولي على

عرب الأندلس وإجلائهم عن تلك البلاد بعد رسوخ قدمهم في ترتبها قرابة عشرة

قرون. وتلك الحملة وإن تكن دينية النزعة فإن فيها شَوْبًا من النزعات السياسية

وعليها مسحة من الحقوق الدولية. وأما الحملة الأخرى التي أخفقت فهي حملة دينية

محضة لا شائبة للمنازع الساسية فيها، يدلك على هذا أن الذين حضوا نارها وأثاروا

غبارها إنما هم رجال الدين وحزب الكهنوت، وتلك حملة أمم أوروبا على مسلمي

فينقية وفلسطين.

تداعت شعوب الإفرنج إلى تلك البلاد من كل صوب ونسلوا إليها إرسالاً من

كل حَدَبٍ وأغاروا عليها بقضهم وقضيضهم [2] أو شابًّا [3] من أجناس مختلفة وأروم

متباينة، حتى أصبحت سواحل البحر المتوسط لذاك العهد كأرض بابل مذ تبلبلت

فيها الألسنة، وتفرقت اللغات، وبعد طول مراس وعراك بين تلك الشعوب وأهالي

البلاد نكصوا بالخذلان، وباءوا بالخيبة والخسران، ومهما كان من شأن هاتين

الحملتين وما حدث فيهما من إراقة الدماء، وإزهاق النفوس؛ فإن بعض حُذًّاق

المؤرخين يذهب إلى أن ما حصل في أصقاع الغرب من الانقلاب الفلسفي والسياسي

والمذهبي وما أعقب ذلك من الإصلاح العام في سائر الأوضاع والأعمال والشؤون

إنما نشأ عن تينك الحملتين ونتج من مخالطة أمم أوروبا للمسلمين، وإشرافهم على

مجاري أعمالهم في السياسات وأطوارهم في الإدارات ووقفوا على طرائِقِهم في

الصناعة والزراعة، وأساليبهم في الفنون والمعارف فتخيروا من فسائل حضارتهم

أجودها وأنضرها وغرسوها في تربة بلادهم وسقوها من عرق جبينهم؛ فنمت

وربت وأثمرت من كل زوج بهيج؛ وكأن أهل الغرب قبل أن يُظْعِنوا من رُبوعنا

تقصوا كل جراثيم العمران فيها، وتأثروا كل وسائل المدنية التي بين أهليها فسلبوهم

(واحرباه) إياها ثم تحملوا واستقلوا بها إلى أوطانهم.

أراك تتلع وتتشوف إلى معرفة الأسباب التي قضت بنجاح حملة الأندلس

وخيبة حملة فلسطين.

الذي مَكَّنَ يد العدو من مسلمي الأندلس إنما هو انغماسهم في الترف، وإكبابهم

على الشهوات، وتخاذلهم في الموازرة، وتواكلهم دون النجدة، ومناوأة أولى الأمر

بعضهم بعضًا، وتحرش المحاظي، وحاشية القصر بأعمال الإدارة والسياسة، وقيام

كل أمير في صقع يدعي الخلافة، ويجاذب الآخر زمام السلطة والرئاسة.

وتفرقوا شيعًا فكل مدينة

فيها أمير المؤمنين ومنبر

بل بلغ بهم السفه والخرق إلى أبعد مما استفظعه شاعرنا فإن آخر مدن الأندلس

سقوطًا في يد العدو وهي غرناطة كان العدو محدقًا بها من الخارج متكالبًا على نهشها

عاملاً في تقويض أسوارها وافتتاحها وإجلاء أهلها. وهل تعلم ماذا يصنع جندها

ومقاتلها في داخلها؟ لعلك تسارع وتجيب لا شأن لهم إلا الاستبسال في الدفاع

واستفراغ الجهد في حماية الحوزة والاستماتة في صيانة الشرف والحريم، بل يمثل

لك الخيال أن سكان هذه المدينة في تلك السويعة شاكيهم وأعزلهم، ذكرهم وأنثاهم،

تألبوا على قلب رجل واحد وتراكضوا إلى الأسوار مصلتين سيوفهم مشرعين

رماحهم يكادون من شدة تغيظهم وفوران دم النخوة والحمية في عروقهم يلقون

بأنفسهم على عدوهم؛ يمضغون لحمه ويرشفون دمه. نعم إن ذلك العمل الشريف

لجدير بأن تأتيه شرذمة مقتطعة من إخوانها مختزلة عن سائر بني جنسها منتبذة في

ناحية عن أهل ملتها، جدير بأن تأتيه شرذمة أوشكت تغادر معاهد دينها وأضرحة

عظمائها وأبطالها ومعالم مدنيّتها وعمرانها لوطء أقدام عدوها، وعبث يده الجائرة؛

جدير بأن تأتيه شرذمة استنزلها الدهر على حكمه ونزع عنها لباس عزها ومجدها

وسلبها تراث آبائها وأجدادها، ومكن يد العدوّ من نواصي أوطانها.

جدير بأن تأتيه شرذمة هي بقية ملايين من أبطال المسلمين، وغطاريفهم

عَمَّروا تلك البلاد وتكونوا من ترابها، واقتبسوا أرواحهم من هوائها، نعم نعم ذلك

جدير بهم حق عليهم لو كانوا يفعلون. اسمع - كان العدو يصطدم بأسوار المدينة

من خارجها والأهالي داخلها يتخالسون مهجاتهم ويسفكون دمائهم بأيديهم؛ ذلك أنه

كان في غرناطة لذلك العهد حزبان، أهل المدينة حزب، وأهل البيازين وهي محلة

كبيرة من محلات غرناطة حزب آخر، وقلما يتفق الحزبان على بيعة خليفة

واحد، فمن جري ذلك كانت غرناطة لا تخلو من استشراء الفتن [4] واستعار نار

الثورات فيها حتى كان ذلك اليوم العصيب الذي أحدق فيه العدو بالمدينة وأخذ يناطح

أبراجها فلم يلفتهم ذلك عن المناهدة [5] والمناصاة [6] والمواثبة ولم يكن كافيًا لجمع

أهوائهم وتوحيد مشاربهم ريثما يدفعون بصدر العدو عن عقر دارهم [7] فامتشقوا

الصفاح وقوموا سمر الرماح، ونشبت بينهم في شوارع غرناطة وساحاتها وأرباضها

ملحمة بيعت فيها الأرواح بيع السماح. ماذا أصاب هؤلاء القوم يا رب؟ ما الذي

فتَّ في أعضادهم؟ ما الذي طأطأ من أعناقهم؟ ما الذي سلبهم مزايا أجدادهم؟ ما الذي أذال (أهان) نفوسهم وطأمن من أشرافها، ما الذي تلاعب بطبائعها وأوصافها؟

أي شيء طرأ على أرواح أولئك القوم حتى غَيَّرَ تكوينها؟ أي شيء لابسها حتى كاد

يمسخها؟ أليست هذه النفوس نفحات منبثقة من نفوس أولئك الفاتحين فما الذي دنسها؟

أليست هذه الأرواح أنوار مقتبسة من أرواح أجدادنا الأولين، فما الذي

أطفأها؟ تبارك شأن الله وتنزهت صفاته، حكيم فَطَرَ هذا الكون على سنن ونواميس

مطردة فلن تتبدل. عادل وضع لسير هذه الخلائق أحكامًا منتسقة فلن تتخلف. سبحانه

ما أجل شأنه. ذلك يا أخي قصص مسلمي الأندلس فكف من عبراتك، ونهنه من

زفراتك، وسل الله الحماية من أمثال هذه الغواية.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الحجر: ما تحتمره الهوام والسباع لأنفسها، والورل: بالتحريك دابة كالضب أو العظم من أشكال الوزغ وهو العدو للأفعى فإنه يأكلها أكلاً ذريعًا.

(2)

جاء القوم قضهم (بفتح القاف وكسرها وفتح الضاد وضمها) وقضيضهم أي: جميعهم. كما

يقال: جاؤوا عن بكرة أبيهم، وقيل: القض الحصى الصغار، والقضيض الكبار؛ أي: بكبيرهم وصغيرهم، وقيل: الأول بمعنى القاض أو الثاني بمعنى المقضوض من قضّ الخيل عليهم إذا أرسلها، ويقال: قضضهم بالفك ويقال جاؤوا قضيضهم.

(3)

أخلاطًا ليسوا من جنس واحد.

(4)

اشتدادها وانتشارها.

(5)

قصد العدو والوثوب إليه وإنما كان يناهد بعضهم بعضًا لا عدوهم الحقيقي.

(6)

التماسك بالنواصي.

(7)

وسطها.

ص: 167

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الطاعون واتقاؤه

إن الطاعون يعد من الحميات الخبيثة الضعيفة، وأظهر ما يستدل الناس به

عليه دبول في الجسد وجمرات على الجلد، ولكن الأطباء يعتمدون اليوم على

مكروبه، فمتى وجدوا هذا المكروب في مصاب جزموا بأنه مطعون. وهو يبتدئ

عادة كما يبتدئ أكثر الحميات بتعب وضعف في القوى وقشعريرة وغثيان ووجع في

الرأس مع دوار وشعور بثقل فوق المعدة ثم يسخن الجلد ويشتد العطش وتخبث

رائحة النفس وربما تقيأ العليل قيئًا أسود اللون وربما أصابه رعاف؛ فنزل الدم من

أنفه ويغلب الذرب في معدته على القبض ثم لا يمضي على ذلك بضعة أيام حتى تظهر

أورام غُدية في العليل تسمى بالدبول ويغلب ظهورها في الرقبة والإبط والأربية

وتظهر الجمرات بعدها على أقسام متعددة من الجسد وهذا الطاعون هو المشاهَد في

الإسكندرية الآن وهو أقل شرًّا وأخف وطأةً من الطاعون الذي لا تظهر الدبول فيه،

لأن الأول يعدي بالملامسة فلا يتفشى ولا يكثر انتشاره، بخلاف الثاني فإنه يعدي

بالملامسة وبلا ملامسة، فهو شديد التفشي كثير الانتشار.

وقد ثبت قديمًا وحديثًا أن الطاعون يزداد انتشارًا غالبًا في البيوت الواطئة

المزدحمة الفاسدة الهواء الحارة الرطبة، حيث تكثر القاذورات والفضلات الحيوانية

والنباتية الفاسدة، وأن معظم الذين يصابون به يكونون من الفقراء الذين لا تغتذي

أبدانهم بما يكفيها، أو بما يلائمها من الطعام، حتى لقد سمي في بلاد الإنكليز قديمًا

بوباء الفقراء. وأما الذين يعتنون بنظافة منازلهم وإطلاق النور والهواء النقي فيها

ويعتنون أيضًا بنظافة أبدانهم ويأكلون ما يغذيهم ويقويهم، فقلما يصابَون بالطاعون؛

ولذلك لا يكاد يطعن أحد من الطبقات العليا في الناس إلا نادرًا؛ ولذلك أيضًا زال

من أوربا شيئًا فشيئًا بإحكام التدابير الصحية وزيادة النظافة بين الخاصة والعامة،

حتى إنه إذا دخل إليها ينقطع منها ولا يتفشى بين أهلها.

فأحسن الوسائط لاتقاء السليم شر الطاعون أن يعتني بنظافة جسده وثيابه

ومسكنه وكل آنيته وأمتعته ويطلق الهواء والنور في غرفه ويعتني اعتناءً تامًّا بكنفه،

فيتعهدها بالنظافة ومزيلات الفساد؛ حتى لا يجد مكروب الطاعون سبيلاً إليه. ومن

الحكمة في أيام الطاعون أن لا يُشرب ماء إلا بعد إغلائه لقتل الجراثيم التي تكون

فيه، ولا يؤكل طعام إلا بعد ما يُقتل كل ما عليه من الجراثيم، إما بالطبخ أو بالسلق

أو بالشيّ وما شاكل، ومن الحكمة أيضًا الابتعاد عن جميع الذين يتكاسلون عن تنظيف

أبدانهم وأثوابهم ومنازلهم.

هذا في ما يختص بالسليم، وأما إذا أصيب أحد بالأعراض التي ذكرناها فأحسن

ما يفعله محبوه لخيره أن يخبروا رجال الصحة حالاً بأمره ولا يخفوا خبره؛ لأن

رجال الصحة لا يفعلون شيئًا إلا ما يكون فعله واجبًا لشفاء المصاب ووقاية الذين

حوله، وفي خلال ذلك يقفل المنزل الذي يكون فيه ويمنع الناس من الدخول إليه ومن

الخروج منه حتى يأتي رجال الصحة ويطهروا ما يطهرون ويشيروا بما يشيرون.

ومن أعظم الضرر أن يخالط الأصحاء المطعونين؛ فلذلك تجتنب هذه

المخالطة إلا حيث تجب وجوبًا لتمريض المطعونين والاعتناء بصحتهم وحينئذ يجب

على الممرضين أن يعتنوا أتم الاعتناء بالنظافة ويكثروا من غسل الأيدي ويجتنبوا

نفس المطعونين ومبرزاتهم على قدر الإمكان ويحذروا من التعب وكثرة السهر؛ لئلا

يضعفوا فيتعرضوا للخطر.

...

...

...

...

...

المقطم

_________

ص: 173

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كتاب تحرير المرأة

أهدانا صديقنا الفاضل محمد أفندي كامل صاحب مكتبة الترقي نسخة من كتاب

(تحرير المرأة) الذي ألفه حديثًا العالم الفاضل والقانوني المحقق عزتلو قاسم بك أمين

المستشار في محكمة الاستئناف الأهلية وقد عهد إلينا المؤلف بانتقاد الكتاب؛ ولذلك

أرجأنا الكلام عليه إلى أن نُتم مطالعته وهو مطبوع طبعًا متقنًا على ورق جيد كما يليق

به، وثمنه عشرة قروش ويطلب (من) مطبعة الترقي.

_________

ص: 174

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(مشروع المحكمة الشرعية)

قد أشرنا في كلام سابق إلى مشروع المحكمة الشرعية الذي قامت له قيامة

الجرائد وقد قُضي الأمر وصدر الأمر العالي بالمشروع، وقد انتدبت الحكومة أولاً

للمحكمة الشرعية الأستاذ الكامل الشيخ محمد عبده والفاضل عِزَّتْلُو سعد بك زغلول

من قضاة الاستئناف الأهلي فلم يقبلا، فانتدبت بعد ذلك عزتلو أحمد بك عفيفي

وعزتلو يوسف بك شوقي فقبِلا وصدر الأمر العالي بتعيينهما عضوين في المحكمة

الشرعية العليا. ومن حجة المنتقدين على الحكومة أن هذين القاضيين لم يدرسا الفقه

الإسلامي، فكيف يكون الإصلاح بمشاركتهما لأهل المحكمة في عملها وهو الحكم

والإفتاء الشرعيين، وقد رفض صاحب السماحة قاضي مصر المشروع قطعيًّا فعزمت

الحكومة على عزله وتعيين قاضٍ بدله من علماء مصر والموعد هذا النهار؛ حيث

يلتئم مجلس النظار تحت رئاسة الجناب الخديوي في الإسكندرية.

وقد كثر القيل والقال وظهر لجماهير المصريين أن تولية قاضي مصر من

حقوق السلطان الأعظم، لا من حقوق الجناب الخديوي ومما يلهج به الناس الآن

أن أحكام المحكمة لا تنفذ ولا تكون صحيحة شرعًا إذا كانت تولية القضاء من قبل

الجناب الخديوي، وهذا القول غير صحيح، وربما نوضحه في الجزء الآتي

بالأدلة إذا قُضي الأمر.

صدرت الإرادة السَّنِية بأن يلتزم منتخبو القرعة العسكرية الحق والعدل، وهذه

الإرادة يكون أثرها كأثر الإرادات التي صدرت بمعناها لسائر الولاة والحكام، ولا شك

أن مولانا السلطان الأعظم - وفقه الله تعالى - يعلم أن الطفل لا يتربى بالكلام فكيف

يترك الولاة والحكام - الذين أضلهم الله على علم - الظلم وهم يأتونه متعمدين، وإنما

التربية النافعة تكون بالمعاملة وقد ضجت السماء والأرض بالشكوى من والي بيروت

فلم يعزل ويناقش الحساب على عمله.

***

انعقد مؤتمر السلام في مدينة لاهي (عاصمة هولندا) وسنذكر ما يتفق عليه

الرأي وفي وقته ملخصًا.

ترسل جمعيات الأرمن في مكدونية ومصر وسائر البقاع رسائل الاستغاثة إلى

مؤتمر السلام لأجل استقلال بلادهم، فهكذا كل الشعوب تحيا والعرب، بل والترك

يموتون وتذهب بلادهم من أيديهم مملكة بعد مملكة.

يؤخذ من جرائد أوروبا أن الفتنة في اليمن قد استفحل أمرها وظهر الثوار

على عبد الله باشا، فمتى - يا رب - يهتدي حُكامنا للعدل الذي تسكن به العباد

وتسعد البلاد.

***

أمر الباب العالي سفيريه في لندن وباريس أن يعترضا كتابةً على وفاق النيل

الذي أبرمته إنكلترا وفرنسا؛ لأنه مجحف بحقوقه وراء طرابلس الغرب وقد امتثلا

الأمر ولكن الدول القوية لا تبالي بقول مَن لا يستطيع أن يفعل، لا سيما بالنسبة

للأمور التي انتهت، وليس الإجحاف واقعًا وراء طرابلس فحسب، بل في كل مكان،

فحسبنا الله، على أن الله لا يرضى بالحسبلة والاتكال مع الإهمال وترك الأعمال.

_________

ص: 175

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

‌استنهاض همم

(5)

ولنعد بك إلى الحملة الصليبية وذكر السبب الذي كان عاملاً في إخفاقها:

قيض الله للإسلام في ذلك العهد رجلين نبيلين أو وليين مقربين بل مَلَكين

سماويين - هبطا إلى العوالم السفلية وتجلببا بجلباب البشرية وسُميا بنور الدين

وصلاح الدين، يقولون: لكل اسم من مسماه نصيب. وما أظهر انطباق قولهم هذا

على الرجلين. فلقد كان الأول نورًا انسلخت بأشعته ظلمات الظلم واستبان بوميضه

مهيع العدالة والحكم وكان الثاني صلاحًا لأمته وعماد وجودها وملاك راحتها وقوام

سعادتها. لم يكُ الرجلان من صميم العرب ولا من سروات عدنان ولا من بيوتات

قريش ولا من معادن الخلافة، فإن أحدهما تركي والآخر كردي، لكنهما وصلا في

استجماع المزايا الإنسانية واستتمام الكمالات البشرية إلى مرتبة هي أقصى ما يُتاح

لغير الأنبياء والمرسلين، وبلغا من التزام حدود الشرع والاستمساك بعروة الدين

وانتهاج منهج السلف الصالح مبلغًا لم يبلغه - بعد الخلفاء الراشدين -أحد غيرهما.

هذا ما حمل بعض نقاد المؤرخين على إدماجهما في مصاف الخلفاء الراشدين وطي

اسمهما في سجل أسمائهم. وحق ما فعل. دين وعلم وعفة ونجدة ونخوة وبسالة

وحزم ودهاء وبصارة وحماية وزهادة ورأفة وتواضع، وهل يعوز الخلافة الراشدة

غير هذه الخلال؟

أليس نور الدين هو الذي كان يتبحث عن أحوال النبي صلى الله عليه

وسلم ويتقصى شؤونه كلها؛ ليقتدي بها ويهتدي بهدْيها؟ أليس هو الذي كان يخاطر

بنفسه في الدفاع عن بيضة الإسلام وحوزة الأمة، فقال له بعض عظماء دولته: الله

الله في نفسك يا مولاي، ارفق بها ولا تعرض المسلمين بعدها للخطر، فغضب

من مقالته وقال: (مَن يكون محمود - يعني نفسه - حتى تتوقف سلامة المسلمين

عليه إن للمسلمين ربًّا يتولى حفظهم وكلاءتهم) ، الله أكبر هذا القول من نور الدين

جدير بأن يُتَّخذ قانونًا في معاملة الملوك لأممهم، فلا يرون لأنفسهم عليهم فضلاً

ولا منة، فضلاً عن استدراجهم في العبودية وامتهانهم بسلب إرادتهم واختيارهم

وإماتة نفوسهم وهضم حقوقهم وحرمانهم من واجباتهم بل إنزالهم منزلة البهائم

تغدو وتروح في حاجات أصحابها، ولا ينالها من سعيها إلا بعض العلف يلهو

به كرشها.

أما صلاح الدين فكان آية من آيات الإسلام في القرون الوسطى. كان جامعًا

بين شهامة الملوك وعظمة السلاطين وبين دعة الزهاد وسكينة النساك، وشؤونه في

إدارة بلاده الداخلية وفي سياستها الخارجية، وأعماله في إبان السلم وأوقات الحرب،

ومعاملته للعدو في كلتا الحالتين - كل ذلك لو دوِّن كان خير نظام للدول وأحسن قانون

تحذو على مثاله الشعوب والأمم. لو عرضت وقائع هذا البطل وأعماله وأطواره

وأقواله على ما اخترعته أوروبا ودعته حقوق الدول - لكانت منطبقة عليه، بل ربما

كانت على وضع أقرب إلى طبائع الناس وأضمن لمصالحهم وأوفق لنواميس

الاجتماع البشري وأكفل لانتظامه.

وقد كان رحمه الله كريم الأخلاق طيب النفس واقفًا عند حدود الشرع مع

معاهديه وأهل ذمته، يبذل لهم في حالة السلم والهدون من العدل والمساواة بينهم وبين

غيرهم والرحمة والرفق بهم وحسن المعاشرة والمجاملة معهم ما لا يطمعون به

إبان الحرب وساعة الطعن والضرب، ويريهم بعد انسلاخ الهدنة ومُضي مدة العهد

من الصلابة والحمس الديني والشدة والغلظة ما لا يتخيلونه فيه وقت السلم ولا

يستشعرونه منه في سُويعات الأُنس والمباسطة. بينما هو نور بسيط يبهج النفس ويلذ

المشاعر في وقت السلم إذا هو في الحرب شرارة كهربائية وصاعقة جوية

تقتنص الآجال. وتدك راسيات الجبال.

نسيم لطيف ينعش الحواس ويفرح القلب، فما أسرع ما يتحول إلى إعصار فيه

نار ينسف الأبراج والحصون وينزل بمن لحقه ريب المنون ماء زُلال سائغ

للشاربين، حتى إذا استصرخته الحرب عاد سيلاً أتيًّا (غريبًا) يقتلع ما يمر عليه ويجرف ما اعترض في سبيله. هكذا فليكن الرجل المسلم، هكذا أُمرنا أن نكون.

هكذا كان شأن الأمة في الصدر الأول. محاسنة ملائكية في وقت السلم، مخاشنة

غضنفرية في وقت الحرب. بهذا امتد رواق الدين على رؤوس الأمم. بهذا خضعت

الرقاب لتعاليم الإسلام. بهذا تقبَّلت الناس دين الله ودخلوا فيه أفواجًا أفواجًا.

وكان صلاح الدين نور الله مرقده غيورًا على مصالح أمته ولوعًا برفع شأنها

مقبلاً بشراشره (بكُليته) على حمايتها والذود عنها، ألا تعيرني إصغاءك وتسمع

من نجدة هذا الرجل وبُعد همته وكبر نفسه ما يُحدث لك عجبًا وتهتز نفسك له طربًا؟

لما كانت تضع الحرب العَوان أوزارها بين المسلمين والصليبيين ويتهادن

الطائفتان ويتحاجز العسكران - كان صلاح الدين يأذن لجنوده وأبطاله أن ينقلبوا إلى

منازلهم ويقضوا لباناتهم من لقيا أهليهم ومناغاة أطفالهم، وما تظنه فاعلاً هو؟ !

ما كان يناغي ويباغم [1] ويلهو وينادم، بل كان يعمد إلى هضبة مشرفة على

حدود العدو فينصب عليها خيمته ويرتبط بجانبها فرسه ويركز على بابها رمحه

ويعلق فيها شكته [2] ويرفع فوقها رايته، ويلبث هناك في نفر من مماليكه وبطانته

طول مدة الهدون والمتاركة، تتلاعب بخيمته الرياح المتناوحة. وتهطل عليه

السحب الغادية الرائحة. كل ذلك ليكون متبوَّؤه بمثابة مسلحة [3] للمسلمين تدرأ عنهم

الطوارئ. وهو فيها كربيئة [4] وعين تحرسهم من العدو المفاجئ.

يا سبحان الله! ما أشد كلف هذا الرجل ببذل ما وجب عليه. وما أنشطه

للقيام بحماية ما أُسند من أمر الأمة إليه. أما والله لو كان في الإسلام منقبة فوق

الخلافة الراشدة لوجبت لهذا البطل وكان أحق بها وأهلها. لِمَ نضنّ على الرجل بهذه

المفخرة الجليلة وهو قد سعى إليها سعيها؟ لِمَ لا نشيد بذكره وننوه باسمه على تعاقب

الأيام والسنين؟ لم لا يحفظ لنا تاريخنا شأنه ويوفيه حقه من الإطراء والثناء

والشكر؟ وحق الإنصاف لو كان هذا البطل في أمة اليونان القديمة لجذبوا بضبعه

إلى مصاف الآلهة وبوّءوا تمثاله أرفع مكان في (بانتيون)[5] .

أستغفر الله، إن هذا الإغراق في القول والتنطع في الوصف والتفنن في الألقاب

إنما بعثه في نفوسنا وهاجه في خواطرنا وحرك به ألسنتنا وأقلامنا ما نراه لهذا العهد

في أمراء المسلمين وملوكهم من التفريط في شؤون أممهم والتواكل في العمل للمّ

شعثهم، وإلا فالرجل لم يأتِ ببدع ولم يعمل عجبًا ولم يفعل ما فعل عن تبرع

وتطوع، ولم يلزم نفسه بمزاولة ما وراء المطلوب منه، ولم يكلفها بغير ما تتقاضاه

الذمة إياه، فهو إنما أتى بالواجب عليه لأمته وقضى حقًّا لها وقام بما تستوجبه

بيعتها؛ فإن للأمة على خليفتها حقوقًا وواجبات كما له عليها طاقة وإتاوات. وهذا

لم يكن بالشيء المجهول بين أهل الإسلام حتى عند عجائزهم.

ألم يبلغك قصة تلك العجوز مع الخليفة الثاني؟ حكي أن عمر رضي الله عنه

كان يعسّ حول المدينة فمر في تطوافه على خباء سمع فيه دندنة فتسمّع فإذا بعجوز

في صبية يتضاغَوْن (يتصايحون) من الجوع وهي تلهيهم وتعللهم بقدر وضعتها

على النار وجعلت فيها ماءً وألقت فيه حصيات، فجعل الأولاد كلما سمعوا أزيز

القدر هدءوا وهوَّموا فلامها عمر وقال: لِمَ لَمْ تأتِ الخليفة وتأخذي من بيت مال

المسلمين ما به كفايتك وكفاية أطفالك؟ فرفعت إليه بصرها وقالت له - كالمتعجبة-:

على أي شيء بايعناه إذا لم يتفقد حاجتنا ويتعهد ذوي الفاقة منا، بما يسد

عوزهم، ثم ذهب عمر إلى بيت المال واحتمل لهم بنفسه طعامًا وطلب من العجوز أن

تجعله في حل من هذه التبعة وكتب بذلك (قطًّا) أوصاهم أن يدسوه في مَطاوي

أكفانه. كل ذلك منه خشية أن يلقى الله وفي الأمة التي بايعته عجوز تدعي أنه لم

يفِ بحقوق البيعة. هذه هي الخلافة في الإسلام. هذه هي واجبات الخلافة المقدسة.

هذا هو الخليفة الذي يخشى أن تلحقه تبعة ولو من إحدى عجائز رعيته. هذه هي

الأمة التي تطالب بحقوقها. هذه هي الأمة التي خالط حب الحرية لحمها ودمها.

هذه هي الأمة التي يعرف كل فرد من أفرادها حتى العجائز، ما هو له وعليه. بهذه

المبادئ الشريفة سادت تلك الأمة على مَن ناوأها. بهذه المبادئ الشريفة غمرت

آداب تلك الأمة وتعاليمها سائر الآداب والتعاليم.

لا ريب أن الذكي الألمعي قد فهم مما ذكرناه عن نور الدين وصلاح الدين أن

البلاد الشامية لعهدهما كان فيها روح يمكنها به صد غارات الحملة الصليبية وفلّ

غربها، لكن بقي من شؤون تلك البلاد حينئذ شأن هو منها بمنزلة الأعصاب من

الجسم الحيواني، أو نسبة الشؤون إلى ذلك الشأن نسبة العين إلى بؤبئها الذي

تجتمع فيه الأشعة ويتوحد متعددها فتبصر العين المرئيات. ذلك الشأن هو الوفاق

والوحدة ليس ذلك بين الملكين المذكورين فقط، بل بين لفيف الأمراء والقواد

والأبطال ومساعر هاتيك الحروب. ومما يسر السامع ويزيد من ثلجه واستبشاره أنه

لم يكن تجاه الحملة الصليبية خليفتان كخليفتي غرناطة المشؤومة بل كانت الزعامة

الكبرى والسلطة العظمى في يد نور الدين والكل خاضعون له عارفون حقه واقفون

أنفسَهم على شد أزره وموازرته حتى إذا استأثر الله به وزفت الملائكة روحه

المباركة إلى حيث تسرح أرواح المقربين، قام بعده بالأمر صلاح الدين خير قيام

وساور وحده جميع ملوك الإفرنج ومارس أقيالهم وعلوجهم ودافع عن الوطن دفاعًا

قانونيًّا عرفه له الغربيون قبل الشرقيين، ولم تزل تلهج به ألسنة الإفرنج على اختلاف

اللغة والدين.

اتفاق أمراء الشرق حينئذ والتئام أهوائهم هو الذي سدد سهامهم في نحر العدو

ومكن عواليهم من مقاتله. نظروا رحمهم الله في سَوْرة تلك الحملة وشدة بأسها

وطغيان مدها وحدة تذمرها (تغيظها) ، فقابلوها من بأسهم بأشد، ومن طغيان هممهم

وحدتها بأطغى وأحدّ. علموا أن مغبة التفريط في صدها وخيمة، وعاقبة التخاذل عن

تلافيها مشؤومة فتآمروا وتذامروا [6] وأرهفوا أشفار العزائم ووطنوا النفوس على

استعذاب الموت الكريم أو تسترد عليهم بلادهم ويخلص إليهم استقلالهم. لا جرم

أنهم لو قصروا حينئذ في مدافعة العدو عن هذه البلاد وتقاعدوا عن تحريرها من

استرقاقه وانتياشها من فخ سلطته لما علم أحد غير الله ماذا كانت حالة الشعوب

الإسلامية الآن، ليست الشعوب المتوطنة في فينيقية وفلسطين فقط، بل كل

الشعوب المنتشرة على سواحل البحر المتوسط وسوريا وبين النهرين وجزيرة

العرب؛ فإن ثمانية قرون كفاية لضعضعة دين ومحو تعاليم وتغيير لغات وتبديل

عادات. فالذي حفظ علينا ديننا وتعليمنا ولغتنا وعادتنا منذ ثمانية قرون إلى الآن -

هو تلك الشرذمة التي كان يقودها البطل صلاح الدين.

تلك الشرذمة العربية التي اصطدمت بتلك الزحوف الأعجمية؛ فأركستها

وجعلت عاليها سافلها وأبلت في مصابرتها بلاءً حسنًا، تلك الشرذمة التي تقحَّمت

ذلك البحر الخضم وعرضت نفسها للهلك فيه أو تنتشل من لججه الإسلام ومَن يَدين

به إلى أبد الأبيد؛ خشية امِّحائه من لوح الوجود وتجلجله في أعماق العدم، حيث

تختلط نغيته بزمزمة [7] مادي وآشور وبابل والكلدان والرومان، تلك الشرذمة

التي اعترضت ذلك السيل المتحدر بغية وقايتنا - نحن الذين أدركتنا أوائل هذا

السيل ولما نتفق بعدُ على كيفية سكره [8] أو تحويله عن دراجه [9] .

واعجبًا! شرذمة تفعل ما لا تقدر مئات من الملايين أن تفعله لا جرم، أما

أن تكون هذه الشرذمة ارتقت من أفق الإنسانية إلى عالم سماوي أعلى، أو تكون

الملايين انحطت عن أفقها الإنساني إلى أفق البهائم والعجماوات.

ترى ما هو قدر استبشار العالم الإسلامي باتفاق هذه الشرذمة ونجدة أبطالها؟

ماذا كان وقع عملهم الشريف بين العوالم السماوية، وكيف كانت مظاهر التهاني بهم

في (ملا) الحظائر القدسية. لو ترى كيف كانت تتناغى حور الجنان بأحاديث

أولئك الأبطال، كيف كانت تتغنى بذكر وقائعهم ومجيد غاراتهم. كيف كانت أولئك

العذارى تتمسح برشيح عرقهم وتتنافس بطيبه؟ كيف كانت تتخطف رشاش دم

شهدائهم وتتضمخ بمسكه وتتزين بخضابه، بل لو تسمَّعت إلى برازخ أرواح أجدادهم

لسمعت عجبًا - تسمع لأصوات الابتهاج والبشرى طنينًا وصدًى في جو ذلك العالم

المهيب. تسمع ضجيج الفرح يترجرج فوق تلك الجماهير النيرة اللطيفة. ترى

أرواح الآباء تستنشق روائح أولئك الأبناء وتنتعش برياها تشوفًا وسرورًا. ترى تلك

الأرواح تسرح عصائب عصائب في فضاء ذلك العالم وتتزاور وتباهي بصنيع

خلائفها وبرهم بوالديهم. ترى تلك الأرواح ترفرف أسرابًا أسرابًا ولها حفيف حول

شجرة طوبى والبيت المعمور تستنزل الرحمة الإلهية لأولئك الأبطال وتناجي الحق

برضاها وتسأل رضاه عنهم وتجأر إليه بالدعاء وطلب الغفر لهم إزاء أيامهم المأثورة

وجزاء مساعيهم المشكورة، والله لا يضيع أجر المحسنين.

واختزال الكلام في هذا المقام أن العامل في خيبة الحملة الصليبية هو اتفاق

أمراء ذلك العهد ونجدتهم وعدلهم ومحاكاتهم للسلف في أعمالهم واحتذائهم مثال

الصدر الأول في أطوارهم؛ فكل ذلك حببهم إلى قبيلهم وأمَّنهم غائلة ثورته وأذى

نائرته ودفع بذلك القبيل إلى الاستماتة مع أمرائه في سبيل حماية الوطن وصيانة

الشرف، علمًا بأن التقاعد عن الدفاع مصيره فقد الجنسية واللغة والدين، وفي ذلك

الشقاء والذل والخزي أبد الآبدين.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

باغمها: حادثها بصوت رخيم.

(2)

شكته: سلاحه وعدة حربه.

(3)

المسلحة: موضع تمكث فيه المقاتلة ويلقون فيه أسلحتهم خوف مباغتة العدو.

(4)

الربيئة: العين يربأ العدو ويراقبه.

(5)

لفظ كان يطلقه اليونان على المعبد الجامع لآلهتهم وربما يقابله عند العرب لفظ الزون بضم الزاي، قال - في القاموس -:" الزون: موضع تجمع فيه الأصنام وتنصب وتزين ".

(6)

تذمروا: تحاضّوا على القتال.

(7)

النغية: الصوت اللطيف، والزمزمة: رطانة العلوج على الطعام التي لا تُفهم.

(8)

سكره: سده.

(9)

دراجه: مجراه.

ص: 177

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التربية النفسية

تدور التربية النفسية على قطبي الترغيب والترهيب؛ إذ هي عبارة عن

الحث على الفضائل والكمالات والتنفير عن الرذائل والنقائص، فالترغيب يحدث

الرجاء والأمل بالمثوبة وحسن الجزاء على العمل الصالح، والترهيب يورث الخوف

والرهبة من العقوبة. ووقوع البلاء على العمل القبيح. والخوف والرجاء هما

الجناحان اللذان يطير بهما المؤمن في جو السعادة الدنيوية حتى ينتهي إلى مقعد

الصدق في جوار الحق.

الترغيب حليف اللين، والرأفة والترهيب قرين الشدة والغلظة، ولكل من

الأمرين موضع يليق به ووقت لا يصلح فيه سواه.

ووضع الندى في موضع السيف في العلى مضر كوضع السيف في موضع الندى

وقد بحث علماء التهذيب في مسألة تغليب الخوف على الرجاء وعكسه وليس

هذا موضع بيان ذلك، وإنما نقول هنا: إن تربية الأطفال يُختار فيها اللين على

القسوة ويغلب الترغيب على الترهيب. خلافًا لجماهير الشرقيين الذين لا يفهمون

من تربية الطفل إلا شفاء الغيظ بنهره وسبه وإهانته وضربه كلما عمل عملاً لا

يرضى به أبواه أو أستاذه أو غيرهما من الأولياء والقُوَّام. وجدير بمن يسلك هذا

المسلك في تربية أولاده أن يعتقد أن التربية لا تنفع ولكن قد تضر؛ لأن هذه

المعاملة - معاملة الغلظة والإهانة - تُفسد الأخلاق وتسيء الأعمال. ولا أذم هذا لأنني أستحسن ما يقابله عند الأغنياء والمترفين من قومنا الذين يرخون لأولادهم

العنان ويتركونهم لطبيعتهم يتمتعون بأهوائهم ويسمونهم (مدلَّلين) . كلا، إن هذا شر

من ذاك وليس هو مرادنا باللين الممدوح. وكيف نجعل هذا الإهمال من التربية

والعامة أنفسهم لا يسمونه تربية، أمَا تسمعهم يقولون:(فلان مدلل لم يتربَّ) !

وهذا القول صحيح وإن كان مبنيًّا على فاسد وهو أن التربية هي الإهانة والغلظة في

المعاملة كما علمت تفريط وإفراط، والحق في الاعتدال وهو المطلوب في كل حال.

أما مضرة الغلظة والخشونة وآثارهما فهي من وجوه كثيرة، وإننا نمثل لك

بعضها تمثيلاً.

إذا كنت تهين ولدك وتشتمه عند صدور الذنب منه لأجل أن يكف عنه ولا

يعود إليه - فلا شك أنك تطبع في نفسه بذلك رذائل كثيرة تتولد منها ذنوب لا

تُحصى، كل واحد منها ربما تزيد مضرته على مضرة الذنب الذي كان سبب

الإهانة، وإذا كان الذنب الذي أُهين من أجله مما يتولد من تلك الرذائل فيزداد رسوخًا

ويقوي الملكة؛ لأن الأعمال حسنها وقبيحها تطبع الملكات في النفوس، وقلما تكون

الإهانة - لا سيما القولية - سببًا لترك الذنب وكثيرًا ما تكون مغرية به وباعثة

للإصرار عليه. وإنما يحال بين الوليد وبين الأفعال الذميمة التي يكون معرضًا

لاقترافها بقطع أسبابها عليه، من حيث لا يدري كما سنوضحه فيما بعد.

_________

ص: 185

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشعر العصري

أبيت ومن نفسي لنفسي لائم

يخاصمني طورًا وطورًا أخاصم

تجردت من نفسي فأبصرت أنها

سواي ولي منها سمير ينادم

فأشكو له بثي وحزني وتارة

يبث لي الشكوى وما هو ناقم

يخاطبني أربع على ظلمك [1] الذي

تريد محال عن ما أنت رائم

وقال ألم تدرِ بأنك عائل

بمظهر مثر والمجالي حواكم

وإن ما في نفع أمته غدًا

مرومًا به ما لا تطيق الروائم [2]

فقلت له هيهات ما أنا يائس

ولو أن لي هذا الزمان مقاوم

فقد خاب من هاب العوادي وإنما

(على قدر أهل العزم تأتي العزائم)

فقال اتل لا تلقوا فبسملت قارئًا

ولا تيأسوا من روحه فهو راحم

كذلك شأني في الدجى طول ليلتي

أراني في لوم وما ثَم لائم

وأرضك [3] للتسهيد والنوم أعيني

فلا أنا يقظان ولا أنا نائم

وكيف يذوق النوم ولهان قرحت

محاجر عينيه الدموع السواحم

له من جيوش الفكر كل ليلة

وقائع يصلَى نارها وملاحم

أبيت على ذا كله وعواذلي

على سُرُر فوق الحشايا نوائم

رجال بهم طبع الأنوثة سائد

فلم تغنِ عنهن اللحى والعمائم

يريهم قصور العقل أن الظهور في

عوالي قصور للظهور قواصم

وإن بتقليد الأوربي عزهم

وما هو إلا ذلة ومآثم

وأعرق كل الناس بالنقص مقهل [4]

تكلف أن تجبى إليه الذمائم

سعادته أن لا يزال ممتعًا

بما فضلته في جناه البهائم

وأُشرِب حب المال في قلبه فلا

تراه يبالي كيف تأتي الدراهم

يبيع بها الأوطان والدين يشتري

بها وصل حب أغيد الجيد باسم

وضل على علم به فإلهه

هواه وتلك الواجبات المحارم

لئن هام في حب الحسان فإنني

بحب جمال الدين لا الجسم هائم

حكيم بأفق الشرق لاح فأشرقت

بأنواره تلك في الغرب تلك المعالم

وطاف بقاع الأرض طائر صيته

فنعمت خوافي ريشه والقوادم

وجاء لدين الله بالحق حجة

تقصر في البرهان عنها الصوارم

دنت منه أفنان الفنون يوانعًا

فنال جنى جناتها وهو ناعم

أحاذر أن آتيه بعض حقوقه

فتفطن بي عذّالنا واللوائم

ولست أسمي عذّلي في تعلقي

بأسباب حبيه لما أنت عالم

(ومنها)

وأزلف من غير ازدلاف ولم تكن

دواعي ترقيه رقى وطلاسم

ولكن سجايا قد سمت ومعارف

بها هتفت في الخافقين العوالم

عفاف وعدل حكمة وشجاعة

فهل بعد هاته في السجايا كرائم

فإن زاحم الشاني علاه بمظهر

فثم مزايا أعجزت من يزاحم

وما اشتبها في مظهر بل تشابها

كما شابهت بعض الذباب التوائم [5]

فهل يتساوى بالمراد المريد أم

تفاخر أملاك السماء البهائم

وبالضيف يسوى واغل متطفل

لأن كِلا الشخصين حاس وطاعم

فهيهات ما البدء السري كمقنس

دَعِي وذو جهل كمَن هو عالم [6]

ورُب حسود راح ينكر بعض ما

خصصت به والله للفضل قاسم

لقد قرعت آي انفرادك في الورى

مسامعه لكنه يتصامم

وباح لعينيه الوجود بسرها

ولكن تعامى وانثنى وهو كاتم

يصانعه بالمدح قوم تَقِيَّة

ولا حجة فيما يقول المآثم [7]

إذا ما دُعي رب الفصاحة والندى

فبأقلهم قس وما در حاتم

ومن طمست بالعجب عين فؤاده

فليس له من أمر ربك عاصم

فيا أيها الحبر الذي لطف طبعه

كروض أريض باكرته النسائم

ويا أوحدًا في حبه لست أوحدًا

فثم الأثابي جمة والتوائم [8]

ومن فصلت من عالم القدوس روحه

ونِيطت بجثمان له الأم فاطم

نفخت بجسم الشرق روح تنبه

وقد كاد يقضي وهو بالجهل نائم

فهبَّ بَنوه للمعالي وحاولوا

نهوضًا فحالت دون ذاك الصواكم [9]

فأوضحت أعلام السلوك وإنما

بآفاقهم غيم الونى متراكم

غزلت ولم ينسج سواك دقيق ما

غزلت ولم تكسر لديك المبارم [10]

وأبديت من سحر البيان عجائبًا

هي العروة الوثقى لمَن هو حازم

ولو أن أعمال الإدارة قارنت

إرادتكم ما قاربتها المآزم

ولكن أباها الحاكمون فكارِه

لها جاهل أو مُكرَه وهو عالم

يدليه شيطان العدا بغروره

وللوهم سلطان على النفس حاكم

فأواه من دهر يقدم معشرًا

مغانم هذا الشرق فيهم مغارم

(ولها بقية)

_________

(1)

تقال هذه الكلمة لمَن يحاول ما لا يطيقه.

(2)

الروائم: الأثافي؛ أي: أحجار القدر.

(3)

أرضك عينيه: غمضهما وفتحهما.

(4)

أقهل الرجل: تكلف ما لا يعنيه دنس نفسه.

(5)

التوائم: النجوم المشابكة والمراد ببعض الذباب الحباحب (سراج الليل) .

(6)

البدء: السيد الأول في السيادة والمقابل بفتح الباء: كريم النسب من الأبوين، والمقنس: المدعي إلى قنس شريف وهو خسيس.

(7)

الكَذوب.

(8)

الأثابي: الجماعات، والتوائم: الأزواج.

(9)

النوائب.

(10)

المغازل.

ص: 186

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(تابع عدد 36 من السنة الأولى)

(دَيْن تركيا) :

جرت بين تركيا ودائنيها مخابرات على خطة من الصدق ارتاحت إليها أنفس

هؤلاء فأحلوها محلها من القبول وسارت من على نمط من الحنق عجيب يشاكل

المعجزة في خواصها فأفضت إلى حل مسألة الدين في 20 ديسمبر سنة 1881.

وكان كل الدين قد بلغ في ذلك الوقت 254292000 جنيه إنكليزي؛ لأن القروض

التي حصلت في عهد السلاطين السالفة من سنة 1858 إلى سنة 1875 وفي ضمنها

قرض السهام التركية ذات الفائض وهو رأس مال إيراده السنوي 14000 فرنك عن

كل كيلو متر من السكك الحديدية التي تنشأ في تركيا تضمنه سكة حديد الرومللي كل

هذه القروض مجموعها يبلغ 218436540 جنيهًا إنكليزيًّا وكان الذي دفع من هذا

المبلغ إلى وقت تأخر تركيا عن دفع أقساط الدين (الكوبون) هو 25947825

جنيهًا إنكليزيًّا فنقص بذلك الدين إلى 192488715 جنيهًا إنكليزيًّا، لكن بسبب

زيادة مبلغ 61803915 جنيهًا وهو متأخرات الفوائد المستحقة من شهر سبتمبر سنة

1875 قد وصل مجموع الدين العمومي في 20 ديسمبر سنة 1881 إلى المبلغ

السائب ذكره أي: 254292000 جنيه.

يجب أن يضاف إلى هذا المبلغ هذه المبالغ الأخرى وهي:

أولاً: مبلغ 8590000 جنيه مجيدي وهو مجموع مبالغ اقترضت من

مصارف غلطة قبل حلول سنة 1880 سدًّا لحاجات الخزينة وذلك الفرع من الدين قد

تنازلت بسببه حكومة تركيا لدائنيها بمقتضى الاتفاق المبرم في 22 نوفمبر - عن

إيرادات الِملْح والتبغ و (المشروبات الروحية) وطوابع البوستة والحرير والأسماك.

ثانيًا: الغرامة الحربية المستحقة لروسيا بمقتضى معاهدة الصلح وهي تقرب

من مبلغ 802500000 فرنك.

ثالثًا: التعويض المستحق للتجار الروسيين بسبب خسائر الحرب من سنة

1877 إلى سنة 1878.

لم يكن الغرض من الاتفاق المبرم في 20 ديسمبر سنة 1881 التعويض لما

كان يتوقع أن يكون لروسيا قبل تركيا من المطالب؛ فإن معاهدة برلين قد كفت

المتفقين مؤنة البحث في ذلك؛ إذ نص فيها صريحًا على أن هذه المطالب يقوم

بأدائها حاملو السندات التركية وإنما كان القصد من الاتفاق المذكور حينئذ مجرد

البحث في مسألة الدين العمومي.

بني هذا الاتفاق على أمرين؛ أحدهما: الحقيقي، وهو مجموع القروض التي

حصلت في سنين 1858 و 1860 و 1862 و1863 و 1865 و 1867 و 1872

و1875 والثاني: الأسهم التركية، وقُسم الدين الحقيقي هكذا:

أولاً: مبلغ 176756510 جنيهات إنكليزية وهو مجموع القروض الثمانية

المذكورة، استنزل منها مبلغ 18932060 جنيهًا إنكليزيًّا هو مجموع تسديدات

(استهلاكات) مختلفة حصلت إلى وقت كف تركيا عن دفع أقساط الدين واستنزل منه

بعد ذلك أيضًا مبلغ 8668450 جنيهًا إنكليزيًّا، كان إذ ذاك في الخزينة فانحط بذلك

رأس المال المقترض إلى 159156000 جنيه إنكليزي.

ثانيًا: مبلغ 1829685 أصدرت به سندات وقتية تدعى سندات رمضان

بمقتضى إرادة سنية صدرت في 6 أكتوبر سنة 1875 الموافق 6 رمضان سنة

1292 من أجل سداد المبلغ المستحق في سبتمبر سنة 1875 وهذه السندات تعطي

لحاملها الحق في نصف الربح ونصف المبلغ المستهلك من الدين بسببها.

هذا المجموع العام هو مبلغ 160985688 جنيهًا إنكليزيًّا قد نقص إلى مبلغ

92225827 جنيهًا إنكليزيًّا ومنشأ هذا النقص حط الدائنين لتركيا من رأس المال

الأصلي 71. 42 في المائة وهذا المبلغ كان يعطي فائدة سنوية قدرها 1 في المائة

وكان في حالة من شأنه فيها أن يزيد ربحه تدريجًا تبعًا للظروف إلى 4 في المائة.

أما الأسهم التركية فقد جزئت إلى 1980000 سهم قيمة كل منها 400 فرنك

وربحه السنوي 3 في المائة تسدد (تستهلك) في 104 سنين بست سحبات سنوية

تحصل في أول فبراير وإبريل ويونيه وأغسطس وأكتوبر وديسمبر من كل سنة.

والذي استهلك منها حتى أول أكتوبر سنة 1875 هو 11000 سهم من ذات

الأربعمائة فرنك أي: 4440000 أو 177600 جنيه إنكليزي وبقي منها في أيدي

حامليها ما قيمته 31512400 جنيه إنكليزي وقد نقصت قيمة كل سهم من هذه

السهام بمقتضى اتفاق 20 ديسمبر سنة 1881 - 09. 45 في المائة فصار ثمن

السهم على صورته الجديدة 180 فرنكًا و36 سنتيمًا، وحدد رأس مال السهام التركية

الجديدة بمبلغ 14211406 جنيهات إنكليزية. بلغ عدد السندات التركية ذات

الفائض التي أصدرت في خلال المدة الفاصلة بين الأمرين العاليين الصادرين في

أكتوبر وديسمبر سنة 1875 وجعل استهلاكها في هذه المدة 15350 سهمًا وهي

رأس مال اسمي قدره 28180000 فرنك وقد جعلت تركيا لنفسها في هذه السهام

الحق في حطيطة 25 في المائة من الدفعة السنوية المضافة إلى السهام التركية من

عهد رجوعها إلى دفع الأقساط والمضافة أيضًا مبلغ العشرين في المائة من قيم

السهام ذات الفائض المستهلكة.

كفت تركيا عن دفع فائدة السهام ولم يكن عليها أن تعود إلى الدفع حتى يتوفر

لديها مبلغ يزيد عن اللازم لسد طلبات السندات ذات الفائض، فإذا توفر هذا المبلغ

تكون الفائدة مستحقة الدفع هي وقيم السندات المسحوبة. ولما نقص الدين بهذه

الطريقة قد خصصت الحكومة التركية لمصلحته جملة إيرادات تنازلت عنها لدائنيها

حتى يتولوا إدارتها بأنفسهم وهذه الإيرادات هي

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 189

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مسألة القضاء الحاضرة

بعد أن جعلنا المنار مجلة أخذنا على نفسنا ألا نناقش الحكومة على أعمالها

ولو كانت مخطئة في اعتقادنا وقد ذكرنا مشروع المحكمة الشرعية في الجزء

الماضي وكدنا نخرج فيه عن جادتنا الجديدة بسبب تأثير الحالة العامة؛ حيث ذكرنا

شيئًا من حُجة المنتقدين على الحكومة مع الإقرار عليها، فقلنا: (وظهر لجماهير

المصريين أن تولية قاضي مصر من حقوق السلطان الأعظم لا من حقوق الجناب

الخديوي) ولكن مع ذلك قام بعض الناس ينتقد عبارة قلناها في الموضوع تمهيدًا

لنصيحة دينية أردنا بيانها بالإيضاح إذا عين سمو الخديوي قاضيًا لمصر. قصاراها

أن أحكامه تنفد.

وقد نقل المقطم عنا تلك العبارة وهذا ما دفع ببعض الناس إلى انتقادها وزعمهم

بأنها تدل على أن للجناب الخديوي أن يولي قاضي مصر؛ ولهذا اضطررنا إلى

توضيح المسألة بعض التوضيح (وإن قرر مجلس النظار برئاسة سمو الخديوي في

يوم الخميس إبقاء قاضي مصر في منصبه وغضّ النظر عن مشروع انتداب

القاضيين من الاستئناف للمحكمة الشرعية العليا) ، فنقول:

لو ولى الخديوي القاضي فلا يخلو الحال في الواقع من أن تكون التولية بحق

بأن يكون مأذونًا بها من صاحب الحق، والأمر حينئذ ظاهر، أو تكون بالتغلب

وحينئذ تنفذ للضرورة، كما كانت الأحكام نافذة في السلطة العثمانية في أفضل

أيامها من عهد السلطان عثمان إلى عهد السلطان سليم الذي لُقب بالخليفة، وكما تنفذ

أحكام القضاة في هذه العصور ومع عدم استيفائها الشروط المنصوصة. ونقول مع

ذلك: إن سمو الخديوي ما دام يعتقد أن السلطان العثماني خليفة المسلمين فلا شك أنه

لا يجوز له تولية القضاة إلا إذا علم أنه مأذون منه بها وإذا ولى يكون الإثم عليه،

ولكن الأحكام الشرعية لا تتعطل؛ لأن تعطيلها أعظم حرج في الدين وهو مدفوع بنص القرآن.

_________

ص: 192

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العز والذل

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ

وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) .

قالت السادة الصوفية إن الإنسان مجمع الحقائق ونسخة صغيرة تمثل العالم

الكبير، فروحه من عالم الملكوت الأعلى، وجسمه من عالم الملك الأسفل، وقد

خُلق في أحسن تقويم، فكان سيدًا لهذا العالم العظيم، وجعله الله في أرضه خليفة،

وكفاك بها منقبة شريفة، استعد بها لتسخير الحيوان لخدمته، وجعل قوى الطبيعة

تحت مشيئته بحيث يتصرف بجميع ما على وجه البر، ولا يتعاصى عليه شيء مما

في قاع البحر، بل بلغت به قدرته أن طار في الهواء، واستنزل البرق من السماء:

وتزعم أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

إذا رُبي الإنسان على مبدأ كرامة النفس التي منحها إياه مُبدِعه وبارئه تظهر

فيه استعداداته وتبرز عنها آثارها علمًا وعملاً؛ حتى يفوز بالسيادة والسلطان. وتتم

له الخلافة الإلهية في الأكوان. ولكن اعترض الإنسان في سبيل هذه التربية النافعة

التي تهديه إليها الفطرة القويمة استبداد الذين أداروا دولاب مجتمعه بسياسة تغلب

العصبية. أو باسم السلطة الروحية الدينية، ولا استغناء له عن هاتين السلطتين؛

لأنهما من لوازم الاجتماع المدني وهو مدني بالطبع.

ولقد كان من رحمة الله تعالى بهذا النوع الشريف أن منحه الديانة الإسلامية،

التي محت الامتيازات الجنسية، وقيدت بشريعتها السلطتين السياسية والروحية،

(كما أوضحنا ذلك من قبل) ووضعت أصل المساواة بين الناس، حتى إن الخليفة

الثاني لم يبالِ في سبيل المساواة بردة جبلة بن الأيهم ملك بني غسان وكان قد أسلم

هو وقومه ولطم أعرابيًّا في المصاف فأراد عمر أن يقتص منه فأبى وفر مرتدًا إلى

النصرانية، وقد علمت ما كان من مساواته بين الإمام علي وبعض آحاد اليهود،

فأي عزة لمن يدخل في هذا الدين أعلى من مساواته بالأئمة والملوك؟ وأية نهضة

وسيادة تكون أرقى من سيادة أمة يرى كل صعلوك من أهلها أنه يزاحم بالمناكب

أصحاب العروش والمواكب؟ فإن قيل: إن هذا إذلال للملوك وإهانة للأئمة، نقول:

نعم، إنه كذلك في شريعة الاستبداد وقانون الاستعباد أما في شريعة الحق وقانون

العدل فإنه لا ذل ولا هوان في المساواة وإنما الذل في النقصان ولا عز ولا كرامة

في الاستعلاء وإنما هو بغي وطغيان.

عزة النفس تتبعها الشجاعة والمنعة وعلو الهمة وكلها من خلال الإيمان، ألم

تر أن الإمام العادل عمر بن الخطاب كتب إلى سعد بن أبي وقاص حين استجازه في

انتفاع سلب الجالنوس من زهرة بن حوبة وكان زهرة قد قتله وأخذ سلبه يوم

القادسية فانتزعه منه سعد، (تعمد إلي مثل زهرة وقد صَلَى بما صَلَى به [1] وبقي

عليك ما بقي من حربك وتكسر فُوقه [2] وتفسد قلبه) ، وأمضى له عمر سلبه. وقد

بيَّن الحكيم الإسلامي ابن خلدون أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم،

ذاهبة بالمنعة منهم، ومما قال في هذا:

(وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية؛ لأن وقوع العقاب به

ولم يدافع عن نفسه يُكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك وأما إذا كانت

الأحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء (لمرباه)

على المخافة والانقياد فلا يكون مدلاً ببأسه؛ ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل

البدو أشد بأسًا ممن تأخذه الأحكام ونجد أيضًا الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن

مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم

كثيرًا ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه. وهذا شأن طلبة العلم

المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجلس

الوقار والهيبة فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس. ولا تستنكر ذلك بما وقع

في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا

أشد الناس بأسًا؛ لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان

وازعهم فيه من أنفسهم لما يُتلى عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم

صناعي ولا تأديب تعليمي، إنما هي أحكام الدين وآدابه الملقاة نقلاً يأخذون أنفسهم

بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق، فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما

كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم، قال عمر رضي الله عنه: (مَن لم يؤدبه

الشرع لا أدبه الله) ، حرصًا على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه ويقينًا بأن

الشارع أعلم بمصالح العباد. ولما تناقص الدين في الناس وأخذوا بالأحكام الوازعة

ثم صار الشرع علمًا وصناعةً يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة

وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم، فقد تبين أن الأحكام

السلطانية والتعليمية مفسدة البأس؛ لأن الوازع فيها أجنبي، وأما الشريعة فغير

مفسدة؛ لأن الوازع فيها ذاتي) اهـ.

أقول: وقد اهتدى إلى هذا أهل الغرب فتلافوا بقدر استطاعتهم ضرر

السيطرة والحكم وأقاموا جدار التربية والتعليم على أساس العزة والكرامة والحرية والمساواة وإذا كان هذا هو أثر التأديب والحكم بطبيعته أي وإنْ كان عادلاً فما بالك بمَن يحكمون بالظلم والاستبداد؟ ! لعمرك، إن تأخر الأمم على نسبة الظلم

فيها شدةً وضعفًا. ثم إن الديانة الإسلامية مع أن الوازع فيها ذاتي لا يذل النفس ولا

يُذهب بالبأس، وقد جعلت عزة النفس وكرامتها من سجايا الدين بشهادة {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) ومن أحكام شريعتها أنه لا يجب على

مَن فقد ثوبًا يستر به عورته في مصلاه أن يستوهبه أو يستعيره لما في ذلك من المذلة

للناس، بل يصلي عاريًا. وليس وراء هذا غاية في حفظ كرامة النفس

وعزتها.

بهذا ساد الإسلام واستخلف أهله في الأرض، وبدلوا من خوفهم أمنًا، ومن

بعد فقرهم وضعفهم غنًى وسلطانًا. وبهذا كان المجتمع الإسلامي لا يحتمل الضيم،

فهاج تلك الهيجة الشؤمى على الخليفة الثالث انفعالاً من ظلم عماله وسوء أعمالهم

دون أعماله ولم تفتأ قدر الهيجان إلا بعد طل دم تأثرته سيوف مسلولة، ودماء

مطلولة، ومن كان يعلم ما خُبئ لهذه الأمة في ضمير الغيب من تحريف التعاليم

والانحراف عن الصراط المستقيم؟

انحراف الملوك عن هدي الدين فاستبدوا بالرعية وأذلوها حتى انتكث فتلها،

وسحبت مرائرها. وصارت طعمة لكل طاعم، وبلغت المهانة من الأمة التي قتلت

عثمان في القرن الأول - خير القرون - أن صارت تقدس الملوك والأمراء الذين

يمتصون دماءها ويهتكون أعراضها ويستلبون أموالها حتى من الجهة الدينية. وقد

بلغ من أمر بعض سلاطين المسلمين لهذا العهد أن أحد المارقين قال: إن حبي

للسلطان أشد من حبي لله تعالى! فأمر له السلطان بخمسمائة جنيه جزاءَ هذا

التهور، وسرق مصحف من المكتبة السلطانية ثم وجد وأرجع إليها فكتبت إحدى

الجرائد أن المصحف قد رُفع إلى الأعتاب السلطانية، فاستكبر ذلك واستنكره

بعض رجال الحاشية وأخبر به السلطان طالبًا منه أن ينهى عنه فانتهره وأهانه

ولا أُسمي هذا السلطان فهو يعرف نفسه ويعرف له هذه الأعمال الألوف من رعيته،

ومع ذلك كله ترمي جماهير المسلمين كل مَن ينسب له ولغيره من ملوكهم أدنى

تقصير - بالمروق من الدين، ويعدونه عدوًّا للمسلمين، فأي انحراف عن الإسلام

أشد من هذا الانحراف؟ !

وحرف بعض رجال الدين التعاليم، وأزاغوا الأمة عن صراطه فطفقوا ينفثون

في أرواح المسلمين سم الذل والمهانة باسم الدين حتى أماتوا هممهم ومحوا من ألواح

نفوسهم آيات العزة الإيمانية، والشهامة الإسلامية ولولا أولياء الشيطان وخطباء

الفتنة لما قدر الملوك بظلمهم على كسر سورة الحمية الإسلامية؛ لأن المسلمين لا

يذلون إلا لسلطان؛ ولذلك خلق علماء السوء الأحاديث الموضوعة في تعظيم

السلاطين، وإعلاء شأنهم على جميع العالمين. وسنبين فساد ذلك في وقت آخر.

ولا شبهة لوعاظ السوء على أن الذل والمهانة من الدين إلا إدخال ذلك في

مفهوم التواضع جهلاً وغباوةً وخداع الناس بحكايات عن بعض المتصوفة الذين لا

يُحتَج بأقوالهم، ولا يُقتدَى بأعمالهم، وهذا من أعظم المفاسد التي دخلت على الأمة

باسم التصوف وأهل التصوف الحقيقيون براء منها.

امتازت طائفة الرفاعية على جميع فرق المتصوفة باللفظ في هذا وزعموا أن

شيخ الطائفة الكبير أحمد بن الرفاعي قد يسبق جميع الأولياء إلى المقامات العليا

بالعدل والانكسار وأنه طرق جميع الأبواب الموصلة إلى الله تعالى فوجدها مزدحمة

بمريدي الحق وأهل قربه إلا باب الذل والانكسار فإنه وجده خاليًا فسبق القوم منه

(وإذا صح هذا فما دخلوه إلا لكونه غير موصل إلى الله تعالى فالنتيجة باطلة)

وينقلون عنه من ذلك أنه كان يتمرغ بتراب المقابر والطرق، وأنه كان ينام على

الطريق ويُسجَّى بنحو حصير ليطأ عليه الناس وأنه كان يؤاكل كل الكلاب الجربَى

ويسلم عليهم وعلى الخنازير ويحييهم وأنه كان يقبِّل الأرض والأحذية لأهل الجاه

والمظاهر ويقبل الشتم والإهانة والرمي بالإلحاد من غير أدنى انفعال وتأثر بل مع

التصديق ويزعمون أن هذا من مقامات الدين {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ

المُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8) وإذا صح هذا كله فأحسن ما يقال فيه إنه

عن جذب خرج به صاحبه عن التكليف فلا يُلتفت إلى عمله ويحذر الناس منه؛ لأن

الدين والعقل والفطرة ترشد إلى السعادة البشرية ولا تنال إلا بعزة النفس وكرامتها ما

لم ينتهِ إلى الكبر وفي الحديث: (غمط الحق واحتقار الناس) ، فكرم نفسك ما

استطعت واجتنب هذين الأمرين، وأما التواضع فهو وسط بين الكبر الذي هو إفراط

في العزة وبين الذل الذي هو تفريط فيها وسنتكلم على الكبر والتواضع في مقالة

مخصوصة إن شاء الله تعالى.

هذا، وإن بعض المؤرخين قد أثنى على الشيخ أحمد الرفاعي الكبير بالصلاح

والتفقه وأرى من حسن الظن أن يؤخذ بقول هؤلاء ويرفض ما في كتب المناقب

التي من شأنها تؤلف للإغراب والإعجاب؛ فإن شذوذ هؤلاء القوم هو الذي جعل

الناس يتهمونهم بالخروج عن الشريعة [3] وقد أقمت الأدلة الكثيرة في كتاب (الحكمة

الشرعية) ، على أن هذه الكتب التي نشرها الرفاعية في هذه السنين وفيها من

التلاعب بالدين العجب العجاب - كلها مزورة لا تصح نسبتها للمتقدمين، على أنه

يحتمل أن يكون ما نُسب لابن الرفاعي من ذلك كان في بدايته ثم رجع عنه وحسنت

حاله وإن لم يقل ذلك الذين ينالون فيه بالإطراء حتى كادوا يفضلونه على الإنسان بل

حتى إن أشهر شيوخهم يجعل حضرة الذكر أدوارًا - دور يذكر فيه الله ودور يذكر

فيه الرفاعي - وهكذا شأن الجاهل يريد المدح فيذم، ويحاول النفع فيضر، وغرضنا

من ذكر هذه الكتب أن لا يغتر بها الجهلاء الذين يتوهمون أن جميع ما في الكتب

صحيح والله الهادي إلى سواء السبيل.

_________

(1)

أي في الحرب يقال: صَلَى النار وبالنار: إذا قاسى حرها واحترق بها وصلى بالأمر: قاسى شدته.

(2)

الفوق بضم الفاء: مشق رأس السهم، حيث يقع الوتر ويأتي بمعنى النصيب.

(3)

راجع الصفحة 315 من كتاب لطائف المنن للشعراني المطبوع بالمطبعة الأميرية سنة 1288.

ص: 193

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

‌استنهاض همم

(6)

هذا ما كان من أمر المسألة الشرقية في القرون الوسطى، وأما شأنها في

الأعصر المتأخرة، فمُباين جدًّا شأنها الأول، رأى القوم أن الزحف على الشرق

بالقوة، وإعمال السلاح في شعوبه فيه إنهاك للبشر وضعضعة لأسس الاجتماع

الإنساني وهذا مفوت لمقصودهم، مانع مما يتوخونه في قيام دولهم، وراحة شعوبهم

إلى تأسيس الدولة ورفع بنيتها لها، يكون على قواعد وأركان، فيها تكاثر أفرادها

ونمو مواليدهم وانتشار أمور الصناعة، وطرق الزراعة بين أهلها، ودوران دولاب

التجارة فيهم؛ ليكون عاملاً على ترويج المصنوعات، وتصريف المحصولات،

وروح كل ذلك الوئام بين الأفراد والطوائف؛ فيورثهم تضافرًا وتعاونًا على تأييد

صناعتهم وزراعتهم، وصيانة مصالحهم العامة من الاختلال والاضمحلال، فافتتاح

الأقاليم بمقاليد الصوارم، وإخضاع أعناق المماليك بصدور اللهازم، والتغلب على

شعوبها بالحرب وسفك الدم، هادم بنيان الدولة قد عثر (مقوض) لقواعدهم

وأركانها، الحرب تحصد البشر وتمحق أرواحهم، وتوقف دولاب التجارة، وتبطل

حركته، وبوقوفه تتقهقر الصناعة والزراعة، والحرب تشرب قلوب المغلوبين

أَوغَارًا وأحقادًا على الغالبين، وتلوث نفوس هؤلاء بالريبة والحذر من أولئك، وزِِد

على ذلك ما إذا كان في القبيل المغلوب طوائف متضافرة متناصبة، وكان ضلع

القبيل الغالب مع إحدى تلك الطوائف، فإن أخوف ما يخاف على الدولة الغالبة

حينئذ استشراء الفتن في داخليتها، وشبوب نارها بين الشعوب المكونة لهيئتها،

وفوق ذلك كله: مناظرة الدول بعضها لبعض، وتسابقها في حلبة التمدن، وطمع

كل منها في إحراز النصيب الأوفر من الحضارة والعمران، واستتمام النظام

الاجتماعي، فلو تهورت إحداهن وتقحمت حربًا جرت عليها ضعضعة في الداخل،

وضعفًا في الخارج، كان ذلك باعثًا لأخواتها على مد أيدي الطامعين إلى أطرافها،

بل مدعاة لتطلعهن للظفر بقلبها. هذا ما أشعر قلوب الأمم الغربية التخوف من

الحرب، والتهيب لسوء عقابها، وحدا بهم لتنكُّب سبيلها، وسلوك سبل أخرى تؤدي

إلى ما تؤدي إليه الحرب من الفتح، والتغلب بدون أن يعترض سالكها ما يعترضه

في سلوكه سبيل الحرب، وتلك السبل هي شؤون مؤلفة من تعاليم دينية - سرية

وجهرية - ومبادئ فلسفية وأدبية، ووسائل تجارية وزراعية وصناعية، تتمشى

في الشعوب والبلدان، تمشي الوسن في الأجفان، وراء كل هذه الشؤون المعنوية

قوة من الإرهاب والتهويل والتخويف والتهديد، تؤيد تلك الشؤون وتحميها، فإذا

أجزأ ذلك، وكفى في التغلب على الشعب المطموع فيه، وافتتاح بلاده والإعزاز

بالقوة الجهنمية قوة الموزير والمكسيم، فأنت ترى أن تلك الشؤون السلمية المعنوية

التي اعتمدت عليها لدول في قهر شعوب الشرق، وإن لم تكن حربًا، فهي معتمدة

على الحرب معضدة بها، أو الحرب منها بمنزلة الروح من الجسد، هو يتقلب في

وظائفه، ويراوح بين أعماله، والروح تدبره وتسدد حركاته.

منذ اهتدت أوروبا إلى هذه السبل، والشؤون في الاستيلاء والفتح، أعملتها

في المسألة الشرقية، وتغلبت بها على جزء عظيم من ممالك الشرق وأصقاعه،

وأوقعت في فخاخها كثيرين من أقوامه وشعوبه، وهي لا تزال تنصب هذه الفخاخ،

وأمم الشرق لا تزال تقع فيها الواحدة بعيد الأخرى، كأن على البصائر رينًا، أو

على الأبصار غشاوة، ولم تكتب السلامة على واحدة منهن سوى أمة اليابان وربما

كانت مكتوبة أيضًا لأمة الأحبوش، وقد أتينا على تفصيل ذلك أولاً، أما سائر الأمم،

فيختلف قربها وبعدها من تلك الفخاخ باختلاف حسن الإدارة الداخلية في تلك الأمم

وقبحها، وانتظام شؤونها المالية والعسكرية وعدمه، وكثرة تنور أهلها بالعلم

والعرفان وقلته، وهكذا استعمار أوروبا في الشرق بلغ من النكاية في المسلمين مبلغًا

لم يبلغه في سائر أممه على اختلاف أديانها ولغاتها، ونكلت بهم سلطة الأجانب

تنكيلاً تركهم مثلاً وعبرة لكل معتبر غيرهم- إنكلترا تسوس من مسلمي الشرق

سبعين مليونًا ويتلوها هولانده في الجاوه فإنها تسوس ثلاثين مليونًا ثم البلجيك في

الكونغو وتسوس عشرين مليونًا ثم فرنسا وتسوس سبعة عشر مليونًا ولروسيا

وتسوس خمسة عشر مليونًا ثم وثم حتى الجبل الأسود يسوس من المسلمين أربعة

عشر ألفًا.

وبينا نسوس الناس والأمر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقة نتنصف

ومجموع ما هو تحت سلطة الأجانب من المسلمين يناهز مائتي مليونًا، والذي

لم ترهقه بعد تلك السلطة يشارف مئة مليوناً، وهذه المئة المستقلة منها خمسون

مليونًا مندمجة في إمارات بسيطة هي أقرب إلى البداوة منها إلى الحضارة، ومطوية

في قبائل رحل ضاربة في موامي إفريقيا وفيافي آسيا وجزيرة العرب ليسوا على

شيء من الإدارة، لا نظام يسوسهم، ولا انتظام يقود مقاتلتهم، وأما خمسون مليونًا

الأخرى، فهي موزعة على الحكومات الأربع على هذا الحرص في الحكومة

العثمانية، ثلاثون مليونًا، وفي الفارسية تسعة، وفي المراكشية ثمانية، وفي

الأفغانية أربعة، وإنما كان ذلك خرصًا وتخمينًا؛ لأن عدد السكان في المراكشية لم

يدخل بعد تحت الإحصاء المدقق، وكذا سكان ولايتي طرابلس الغرب واليمن من

ولايات العثمانية [1] .

مهما يكن من سائر الشؤون، فإن الخطاب في الإصلاح الإسلامي، والتكليف

في القيام بمقدماته، والدعوة إلى الشروع فيه؛ إنما هو موجه نحو زعماء وعقلاء

تلك الحكومات الأربع المستقلة [2] التي تسوسها ملوك وسلاطين، وتشغل مركزًا

سياسيًّا، ويحكم فيها بشريعة ونظام، ولها وزراء وقواد وقضاة، وخرج ودخل

وصادر ووارد.

أما درجات تلك الحكومات الأربع في الانتظام، واتساق هيئة الاجتماع،

فالعثمانية أولاً، ثم الفارسية، ثم الأفغانية والمراكشية. العثمانية أكثر نفوسًا،

وأقوى نفوذًا، وأضخم سلطانًا، وأعظم شأنًا، وأعرق دولة، وأشد صولة، وهي

من سائر العالم الإسلامي بمكانة الدماغ من جسد الإنسان. هذا ما حمل عقلاء الأمة

ونبهاءها الساعين في دعم ما تداعى من بنائها على اللياذ بالخليفة العثماني،

وللصوق بسدته. تراهم متلعين بأعناقهم، شاخصين بأبصارهم، مصيخين بآذانهم،

علَّهم يتلقون من ذلك المقام الرفيع كلمات تكون محورًا تدور عليه الوحدة الإسلامية،

أو قانونًا يرجع إليه العاملون في إصلاح الشؤون.

جدير بالمسلمين أن تتصدى رجالاتهم وساداتهم للتأليف والتقريب بين تلك

الحكومات الأربع، وتوثيق وشائج الاتحاد بينها، وتسعى في إحالة الخلاف والمودة

من الخلاف والمحادَّة. هذه فرصة على مَقربة منهم فليغتنموها، ونهزة أغضى لهم

الدهر عنها فلينتهزوها، ومصلحة عامة يتوقف عليها استقلالهم، وبقاء أمرهم

فليبتدروها، ما لأمراء تلك الحكومات لا يميطون عن أنوفهم تلك الخنزوانة

(الكبرياء) الجاهلية، ويصطلمون من نفوسهم تلك العزة الوهمية؟ ! ليخفضوا لذي

السلطة الكبرى جناح الانقياد والطاعة؛ ليشايعوه في مدافعة تلك المخاطر التي

تحتف ببلادهم، وتهدد استقلالهم؛ ليمالئوه على إصلاح حال المسلمين، وتوحيد

متفرقهم، والتحلئة (الدفع) عن حرضهم؛ علَّهم بذلك يجددون للأمة عِزَّها،

ويرجعون إليها سالف مجدها؛ فيستوجبون من الله جزاء جليلاً، ومن التاريخ ثناء

جميلاً. ما لهم لا يأتسون بأمراء الشام؟ ! سالت عليهم الفجاج بشعوب الإفرنج؛

فالتفوا حول أميرهم الأكبر، وتلقوا تلك السيول المنحدرة -غمرة بعد غمرة -بعزائم

الأبطال؛ ففلُّّوا عزمها، وبَدَّدوا نظامها. ما أخوفني عليهم أن يتخاذلواتخاذل أمراء

الأندلس؛ فيفشلوا- لا قدَّر الله فشلَهم - ويصيبهم من الدواهي مثل ما أصابهم، ومن

هنا نلفت إلى ما كان اعترَضنا به في غضون الحديث أحد الحاضرين، وهو قوله:

كيف يكون انحلال عقد تلك الحكومات إذا لم نتفق وهل يسلم لواحدة منها استقلالها؟

فنقول:

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار) يوهم الكلام أن الإحصاء في سائر ولايات الدولة في إيران والأفغان دقيق محرر، وليس كذلك.

(2)

يرى كثير من العقلاء أن الإصلاح الإسلامي بعيد المنال في ظل هذه الحكومات، وأنه يرجى في البلاد الهمجية كبعض إمارات إفريقية، وفي البلاد التي ظنتها، كمصر والهند، ما لا يرجى في تركيا وإيران ومراكش، ورأينا أن لا ييأس أحد من الإصلاح حيث كان.

ص: 199

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

(مستقبل الإسلام في الصين)

نشر مبعوثو البروتستان من الإنكليز تقريرًا ضافيًا عن أعمالهم في الصين

جاء فيه كلام عن حالة الإسلام في مملكة ابن السماء، فبعد أن ذكر كاتب التقرير

تاريخ دخول الإسلام في الصين، وكيف كان انتشاره، حتى صار المسلمون هناك

أكثر عددًا من سكان أكبر مملكة إسلامية - قال:

وإذا نظرنا إلى حالة المسلمين في الصين نجدهم على ثروة وسعادة يتمتعون

في ضروب الراحة والهناء، شديدو التمسك بدينهم، فلا تحولهم عنه الجبال،

ولا تغيرهم الوعود والآمال؛ إذ هم يعتقدون اعتقادًا لا يشوبه أدنى ريب أن

مستقبل البلاد الصينية لهم، وأنهم سيرفعون مجدها يومًا من الأيام.

ومن الكُتَّاب الذين كتبوا في هذا الموضوع البروفسور فاسليوف فهو يعتقد مثل

ذلك، كما صرح به في كتابه؛ ولذلك هو يخشى عواقب ذلك الانقلاب المنتظر على

أوروبا.

قال الكاتب: والحقيقة أن الظن ليس من الأمور البعيدة؛ لأن المسلمين في

الصين أرقى بكثير من البوذيين وغيرهم، تبعًا لترقي دينهم الذي يرشدهم إلى

آداب وفضائل تميزهم عمن عداهم، فضلاً عن اتحاد كلمتهم، وقوة جامعتهم،

وتراهم يهتمون كثيرًا بالزراعة والتجارة والفنون الحربية، أكثر من اهتمامهم

بالعلوم والمعارف، ولهم شهرة فائقة في خِلال الصدق والأمانة والوفاء، فقوم هذه

صفاتهم، وعددهم ليس بالقليل، لا يبعد أن يكون لهم مستقبل هذه البلاد التي أخنى

الزمان على سكانها الأصليين، وقضى الله عليهم بالضعة والهوان، والمستقبل

كشاف لما تطويه سجلات الأيام.

ثم انتقل الكاتب إلى شرح عوائد المسلمين في الصين واختلافها عن عوائد

غيرهم من السكان، ثم تكلم عما يعتقده الصينيون في أبناء وطنهم من المسلمين،

ومما قال: إن البوذيين لا ينفرون من المسلمين، بل يألفونهم، ويقولون: إنهم على

دين الفيلسوف الصيني القديم كونفوشيوس أو هم لا يختلفون عن مذهبه غير قليل.

وأما علاقتهم بالحكومة، فهم مخلصون للإمبراطور، لا يميلون إلى حزب من

الأحزاب، وجل مآربهم تقوية شأنهم، وازدياد ثروتهم، وما داموا على هذا الدأب

فإنَّ ظنَّ البروفيسور فاسليوف سيصدق فيهم، ويصبحون يومًا ما القابضين على

أزِمَّة الأمور في مملكة ابن السماء.

ثم قال الكاتب: والخلاصة أن الإسلام في الصين عقبة دون تقدم المسيحية

هناك، وأن المسلمين لا يفتئون يرشدون الناس إلى دينهم، ويُرَغِّبونهم فيه بكل

وسائل الترغيب، ولكونهم من أهل البلاد، ولغتهم لغتها، فهم يعرقلون مساعينا

دائمًا؛ لأنهم ينافسوننا، وكثيرًا ما يميل الصيني إلى اعتناق النصرانية، ثم لا نلبث

أن نراه مسلمًا، يصلي مع المسلمين في مساجدهم، وهذا ما يحدو بنا إلى القول:

بأن الإسلام سيكون له المستقبل العظيم في البلاد الصينية. اهـ ملخصًا.

...

...

...

...

... (المؤيد)

***

(أخبار فرنسية وإنكليزية)

من أهم الأخبار الخارجية أن محكمة النقض والإبرام في فرنسا قررت إعادة

دريفوس من منفاه في جزيرة الشيطان إلى فرنسا للنظر في قضيته، حيث أسفر

الصبح بعد خمس سنين عن التزوير والخيانة والتعصب على دريفوس، وإذا برأت

المحكمة دريفوس بعد كل ذلك التحامل عليه، ومع ما فيه من ثلم شرف الجيش

الفرنسوي، فلا يسع أحدًا أن ينكر أن الفضيلة في الحكومة الفرنسوية أقوى من

الرذيلة، وأن العدل والإنصاف غالب على الجور والاعتساف.

ومنها أن مجلس العموم الإنكليزي قرر إعطاء الحكومة للورد كتشنر حاكم

السودان العام ثلاثين ألف جنيه مكافأة على خدمته لدولته.

ومنها أن الخلاف قد اشتد بين إنكلترة وحكومة الترانسفال فقد أنبأ البرق أن

المذكرات في بلومفوتين بين الرئيس كروجر والسر ألفرد ملنر أسفرت عن تعسر

الاتفاق في مسألة التجنس بالترانسفالية، ومسألة حرية الانتخاب.

ولم يقبل الرئيس البحث إلا بشرط أن تقبل إنكلترا بالتحكيم في مسائل الخلاف،

فاستكبر للإنكليز هذا، وظن أن الحرب متوقَّعة.

***

(وفاة عالم جليل)

نَعَتْ إلينا أنباءُ بغداد الخصوصية وفاة العلامة الفاضل المتفنن السيد الشريف

الشيخ نعمان خير الدين أفندي الآلوسي نجل العلامة الكامل الشهير محمود شهاب

الدين الآلوسي مفتي بغداد سابقًا وصاحب تفسير (روح المعاني) وللفقيد - تغمده الله

برحمته - سيرة حسنة وآثار نافعة -إن شاء الله تعالى - منها كتاب (جلاء العينين

في محاكمة الأحمدين) وكتاب (غالية المواعظ) وكتاب في الرد على رسالة الكندي

الذي زعموا أنه ناظر الخليفة المأمون العباسي في الدين، وهو كتاب ضخم جليل،

وقد كانت وفاته في سابع المحرم الماضي، فاهتزت لها بغداد، بل العراق كله،

وكان يومًا مشهودًا شيعت جنازته بالاحتفال الذي يليق بمقامه، ومكانة أسرته

الكريمة، عوَّض اللهُ المسلمين منه خيرًا.

***

(الأحداث في القطر المصري)

بلغ عدد الذين أصيبوا بالطاعون في الإسكندرية إلى يوم الجمعة (أمس) 21

نفسًا، مات منهم 8، وشُفي 4، والباقون تحت المعالجة.

صدر الأمر العالي الخديوي بفصل الأستاذ الشيخ حسونة النواوي من مشيخة

جامع الأزهر وإفتاء الديار المصرية، ونوط المشيخة بالأستاذ الشيخ عبد الرحمن

القطب والإفتاء بالأستاذ الشيخ محمد عبده.

وكان ذلك في 24 من المحرم سنة 1317، و3 من يونيه سنة 1899 م.

***

(الوشاية في طرابلس الشام)

علمنا من أخبار طرابلس الشام أن بعض الوشاة والمفسدين طفقوا يسعون إلى

بني الأنجا بمن يحبون التشفي منهم، زاعمين أنهم هم الذين يكتبون للرائد المصري

الطعن فيهم، وقد دبت عقاربهم إلينا؛ فزعموا أن فلانًا وفلانًا يكتبان رسائل الطعن

ونحن نكتبها للرائد، ولو كَتَبَا، لم تكن حاجة لكتابتنا، وقد أرجف بنا فيما كتب

مُسَعِّرُ نار الفتنة، ولكن ليعلم أننا لا نتعرض للمطاعن الشخصية، بل غرضنا خدمة

الأمة ونصحها، ولو كان من مشربنا ما نُسب إلينا؛ لخصصناه بوالي بيروت الذي

أضرنا وأضر وطننا كله دون أبناء بلدتنا، ولكتبنا في جريدتنا - أو بإمضائنا -

فإننا في بلاد لا نخاف فيها غير الله تعالى، ولقد وُشي بنا إلى أعظم عظماء الأمة،

فما قدر على أن ينال منا شيئًا، فإذا عاد المرجف إلى إرجافه - تلويحًا أو تصريحًا-

فلينتظر ما هو أَمَرُّ مِمَّا مَرَّ

***

(الجمعيات في مصر)

تألفت في هذا العام ثلاث جمعيات في القاهرة الأولى (جمعية مكارم الأخلاق)

وهي جمعية أدبية إسلامية، رئيسها الأستاذ الفاضل، والخطيب المفوه الشيخ زكي

الدين سندوهي تجتمع في كل ليلة جمعة، وتُلْقَى فيها الخطب، والثانية (جمعية

التعليم الإسلامي) ولم تزل اجتماعاتها إدارية محضة، ومتى حاولت الاجتماع

العمومي يعلن عنها في الجرائد، والثالثة (جمعية النهضة الأدبية) ألفتها فَعَلَةُ

المطابع، ووضعت لها قانونًا طُبِعَ، ويباع بقرش أميري واحد، وغرض الجمعية

التعاون المالي، والاعتصام الأدبي، والعمل لترقية الصناعة، وارتباط بعض

أعضائها ببعض، وهذه أول جمعية للفَعَلَةِ في بلاد الشرق، فيما نعلم.

***

قالت (ثمرات الفنون) الغرَّاء:

يقال: إن شورى الدولة يبحث الآن في مواد مهمة بشأن المعارف، وإنه

استعلم عن الحصة التي برسم الولايات، ومقدار ما يؤخذ من الأوقاف، وكيف

تصرف من هذه المبالغ، حتى إذا أورده الحساب بادر بعمل ما ينوي عمله، وعسى

أن يكون من وراء هذه الأعمال فوائد تذكر في ترقية أحوال المعارف في البلاد

العثمانية؛ لأن النجاح يتوقف عليها كما بَيَّنَّا مِرَارًا.

(المنار)

يعلم كل عثماني أن ما يؤخذ من الولايات باسم المعارف، لا ينفق فيها أعشار

عُشره، وأكثره يُحشر إلى الآستانة فإذا وُفِّقَت الدولة العلية إلى إنفاق مال كل ولاية،

أو أكثره فيها، فذلك كل ما تطلبه الرعية من الحكومة في هذا الباب.

وقالت الثمرات أيضًا: (إن الأراضي القابلة للزراعة، والتي هي بورغير

مأهولة في ولاية سورية - تبلغ مليونين ونصف مليون دونمًا؛ أي أن كل دونم من

الأرض يبذر من فيه مد الحبوب) . ونحن نقول: أفليس من سوء إدارة الحكومة أن

يهاجر أهل بلاد فيها هذا القدر من الأراضي الجيدة المهملة؛ لاستعمار أميركا

وإحياء أرضها؟ !

_________

ص: 204

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فهم الدين

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (الزمر: 27){قُرْآناً عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 28) .

قال مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في تفسير

قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6) ما مثاله بالإيجاز:

منح الله تعالى الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته:

أولاها: هداية الوجدان الطبيعي، والإلهام الفطري، وتكون للأطفال.

وثانيتها: هداية الحواس والمشاعر.

وثالثتها: العقل.

ورابعتها: الدين.

ثم بيَّن أن الهداية الأولى والثانية، يشارك الإنسان فيهما الحيوان الأعجم وأن

الإنسان لا يمكن أن يصل إلى كماله المستعد هو له بهما؛ لما يعرض لهما من الخطأ

وسوء الاستعمال، وبعد أن ضرب المثل لهذا الخطأ، وبيّن وجه حاجة الإنسان إلى

العقل الذي ينتزع المعلومات الكلية من مدركات الحواس، ويُمَيّز بين خطئها

وصوابها، قال: إن العقل أيضًا عرضة للخطأ ومحل للقصور، فلا يمكن أن يحيط

بمصالح الإنسان في أفراده ومجموعه، ويحدد أسباب سعادته في معاشه ومعاده،

ومن ثَمَّ كان الإنسان في أشد الحاجة، لا سيما بالنسبة لأمر المعاد إلى الهداية الرابعة

هداية الدين، وقد منحه الله إياها، ولما كان معظم قصور الحس والعقل في الإنسان

إنما هو فيما يختص بسعادة المعاد، كان بيان طريق السعادة الأخروية أهم ما جاء به

الدين. وهل يعتور هذه الهداية ما يعتور غيرها من الخطأ وسوء الاستعمال،

فيتنكب أهلها جادة السعادة؟ ؟ نعم، فإنه كما يخطئ الإنسان في إدراك

المحسوسات؛ لمرض في حواسه، وفي فهم المعقولات؛ لآفة في عقله، أو لسوء

استعمال الحس والعقل، كذلك يخطئ في فهم الدين؛ بسبب الأمراض الروحية

التي تطرأ على مزاج الأمة.

إذا تمهد هذا، فغرضنا الآن كشف الغطاء عن شبهة أوردها على الدين

أصحابُ مجلة (المقتطف) في الجزء الصادر في أول يونيو، الذي نحن فيه عند

تقريظ كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) وملخص ما هنالك أنه

نُشر في القطر المصري كتب وجرائد، حاول كُتَّابُها التوفيق بين الأصول الدينية

والحقائق العلمية، قال: (وقد يجدون ذلك سهلاً؛ لأنه قَلَّما يَجْسُرُ أحدٌ على مخالفتهم،

ولكن لو كان في البلاد علماء أشداء كالجلال السيوطي

لشبَّت نارُ الحرب منذ

الآن) (انظروا وتأملوا) ثم ذكر أن هؤلاء الكُتًَّاب يجيبون من سألهم عن السبب في

عدم وجود هذه المدنية في ربوع المشرق؛ بأن سبب ذلك سوء فهم الدين وحمْله

على غير المراد منه، وعلى هذا الجواب بنى شبهته الكبرى، فقال: (ولكن إذا

قيل له: ألاينتظر من الدين أن يكون معناه واضحًا؛ حتى لا يقع سوء في فهمه،

ولا يحمل على غير المراد منه، وهل أساء كل علماء الشرق فهم دينهم منذ ألف سنة،

أو حواليها إلى الآن، ولم يقم منهم من يحمله على المراد منه إلا في هذا العصر

وفي هذا العام؟ ! إذا قيل له ذلك لم يكن الجواب عليه بالأمر السهل) . اهـ.

ولا يخفى أنه يعني بكلامه الإسلام والمسلمين؛ لأن الكلام معهم، وهم الذين

نشروا الكتب والجرائد في القطر المصري، ويسهل عليهم الجواب الذي حسبه

صعبًا حضرة السائل، وهو

إن الكاتب اعترف معنا بأن فهم الدين على غير وجهه، إنما وقع في

الإسلام من نحو ألف سنة، أي من بعد انتشار البدع، وتفرق المذاهب في الدين

الواحد الذي جاء بالتوحيد والتأليف، ونهى عن التفرق والاختلاف، وبديهي أن

أصحاب الآراء والمذاهب من أهل الأهواء يحاولون تعزيز مذاهبهم بالشبه مهما

تضاءلت افتضاحًا.

ويؤولون الحجج المخالفة لهم، مهما أضاءت اتضاحًا. فهذا هو السبب الأول

في سوء فهم الدين الإسلامي، والانحراف به عن صراطه، والسبب الثاني:

اختلاط المسلمين بأمشاج من جميع الأمم والملل دخلوا في دينهم، ومنهم الصادق

ومنهم المنافق، وهؤلاء اجتهدوا في إفساد تعاليم الدين، وإدخال بعض مسائل من

أديانهم السابقة مصبوغة بصبغة الإسلام، ووضع الأحاديث المكذوبة على صاحب

الشرع صلى الله عليه وسلم والسبب الثالث: العدوى المعنوية، وهي أنه ما من

رجلين يتصاحبان، أو شعبين يتمازجان، إلا ويسري من أخلاق أحدهما وآدابه شيء

للآخر، وكذلك دَبَّ إلى الإسلام داء الأمم قبلهم، وكادوا يتبعون سَنَنَ مَنْ قبلهم شبرًا

بشبر وذراعًا بذراع كما في الحديث الصحيح، بُذِرَت بذور هذه التعاليم المضرة في

أرض الإسلام، وسُقيت بأمواه التعصبات والأهواء؛ فنمت بالتدريج حتى صارت

دوحات كبيرة؛ تتساقط منها الثمرات المضرة، وكان من تنبه لها من العلماء

الراسخين إنما يسعى في قطعها، لا في قلعها؛ ولذلك عاد كلما قطع منها أبسق

مما كان، نشير بهذا إلى ما كان من مقاومة تلك التعاليم الفاسدة في كل عصر،

وإن لم تقوَ عليها، وهو جواب عن قول المقتطف: (وهل أساء كل علماء المشرق

فهم دينهم منذ ألف سنة، أو حواليها) نعم، إن القرون الثلاثة الأولى هي التي كان

الغلب فيها لتعاليم الدين الصحيحة وأخلاقه وآدابه، كما هو الشأن في كل دين، ووفاقًا

للحديث الشريف خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم فقول

المقتطف لا يفتش عن فعل الدين في حروف كتبه، بل في أخلاق أتباعه وأفعالهم،

غير مسلّم على إطلاقه؛ فإن الكِتَابَ الذي هو أصل الدين، كالقرآن مثلاً،

إذا كان مُصَرِّحًا بشيء، فلا مندوحة عن القول بأنه من الدين، وإن خالفه الذين

يدَّعون اتِّبَاعَه. نعم، لا يجوز أن يتفق المنتسبون لدين من الأديان على مخالفة

أصوله في عصر النبوة، وما يقرب منه، ولكن إذا طال الزمان تُفْتَن الأمةُ بالتحريف

والتأويل، وتضل سواء السبيل، إلا أفرادًا لا يكون لهم صوت في الأمة

مسموع، وأصحاب المقتطف يعرفون هذا من تاريخ الملل، وإلى هذا يشير قوله

تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا

كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) أي: خارجون عن هدي دينهم، ونحن نأتي بمثال واحد مما

خالف الجماهير فيه هدي الدين الإسلامي، وهو من أصول العقائد، ومن أهم ما

جاء به الدين، ومما له أثر كبير في سعادة الأمم وشقائها؛ ألا وهو الاعتقاد بأن

لبعض البشر تأثيرًا في النفع والضر بقوة غيبية وراء الأسباب الظاهرة

التي اقتضتها الحكمة الإلهية، وجعلتها مناط الأعمال.

هذا الاعتقاد هو الذي شَقِيَ به قبل الإسلام مَنْ لا يُحصَى مِنَ الأقوام، هذا

الاعتقاد هو الذي يُقَيِّد إرادة الإنسان بإرادة غيره من أبناء جنسه؛ فيفقد استقلال

الإرادة الذي هو العامل الأكبر في السعادة البشرية، هذا الاعتقاد هو الحجاب الكثيف

بين الإنسان، وبين معرفة السنن الإلهية في الترقي والتدلِّي، وإدراك أسباب الضُّرِ

والنفع، هذا الاعتقاد هو المرض الذي يُفسد العقل، ويجعله يرجو ما لا يُرجى

ويخاف مما لا يُخاف، هذا الاعتقاد هو شعبة من الشرك كانت أكثر شعابه امتدادًا

وانتشارًا في الأمم كلها؛ ولذلك كانت عناية الإسلام بمحوه فوق كل عناية.

يتوهم كثيرون أن الكفر والشرك اللذين يندد بأهلهما القرآن كثيرًا، هما عبارة

عن إنكار وجود الله تعالى، وعن اعتقاد أن للكون آلهة غيره، يَخْلُقون كما يخلق،

ويرزقون كما يرزق، مع أن هذين القسمين من الناس كانوا أقل الكفار والمشركين

في كل زمان ومكان، وإنما الشرك الذي كان فاشيًا في العرب، وغيرهم ممن ظهر

الإسلام فيهم، هو الذي قال القرآن في أهله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ

وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} (الزخرف: 9) ومثل هذه الآية آيات.

كانوا يعتقدون - كما يعتقد أكثر البشر - أن مبدع الكون وخالقه واحد، ولكنه لمَّا

كان غيبًا مطلقًا، جعلوا وِجْهَتَهُم في عبادته بعضَ مظاهر قدرته الباهرة من خلقه،

من جماد وحيوان وإنسان، وزعموا أن تلك المظاهر هي الواسطة بين الله وبين

عباده في نفعهم وضرهم، ويعلل علماؤهم ذلك؛ بأن عامة الناس من الخطاة

والمذنبين لا يليق بخستهم أن يخاطبوا الجناب الإلهي الرفيع بحاجهم، فلا جرم

كانوا في حاجة إلى واسطة بينهم وبينه، كما هو الشأن عند عظماء الملوك

والسلاطين، وهذا وإن كان في ظاهره تعظيمًا لله تعالى - فقد عدَّه القرآن شركًا،

وذكر شبهة ذويه في معرض التشنيع والإنكار، حيث قال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ

بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ

أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 2-3)، وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِن

دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ

بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس:

18) ، فانظر كيف لم يعتدّ بأن اتخاذهم شفعاء نافٍ لكونهم معبودين لهم، وكيف

صرح بأن دعوى الشفاعة افتئات على الله تعالى؛ حيث لم يكن بإعلام منه، وقال

فيمن كان يعتقد هذه الوساطة والشفاعة من أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ

وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لَاّ

إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31) ومعلوم أن أهل الكتاب لم تقُل

فرقة منهم بأن رؤساءهم أرباب حقيقة، يشاركون الله تعالى في الإيجاد والإعدام كما

هو معروف من تاريخهم، وإنما هو اعتقاد الشفاعة والوساطة بين الله والناس في

مصالحهم [1] .

الواسطة الصحيحة بين الله وبين عباده هم الأنبياء، ووساطتهم إنما هي في

التعليم والإرشاد، لا في الخلق والإيجاد، وقد بيَّن الله في ذلك آيات كثيرة جاءت

بصيغة الحصر؛ لتكون نصًّا قاطعًا لأعناق الأباطيل، منها قوله تعالى: {وَمَا

نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام: 48)، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ

إِلَاّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الإسراء: 105)، وقوله:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ البَلاغُ} (الشورى: 48) وقد نفى عن النبي الأعظم السيطرة والوكالة على الناس، بقوله:

{لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 22)، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الأنعام:

107) ، ونفى عنه الهداية بمعنى الإيصال إلى الخير بالفعل، بقوله:

{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: 272)، وقوله:

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: 56) ، بخلاف

الهداية بمعنى الدلالة بالتعليم؛ فقد قال فيها:

{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52)[2] ، وأمره أن يتنصَّل من

دعوى النفع والضر بقوله تعالى: {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعاً إِلَاّ مَا شَاءَ

اللَّهُ} (يونس: 49)[3]، بل أمره أن يتبرأ مع ذلك من امتلاك الرشد لهم بقوله:

] قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلَا رَشَداً [4] * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ

أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً [5 {* إِلَاّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} (الجن: 21-23) ، أي

لا أملك إلا البلاغ من الله تعالى فلم يبقَ إلا أنه كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ

مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيّ} (الكهف: 110) .. إلخ.

هذا كله نقطة من بحر توحيد القرآن، ومع ذلك كله كان من أمر المسلمين

نحو ما قاله المؤرخ المحقق دوزي الهولندي، فيما كتبه في الإسلام، حيث قال - ما

مثاله -: (إن محمدًا عليه السلام بذل كل فصاحته، وجميع عنايته في اجتثاث

جذور الوثنية، ومحو أساطيرها من لوح الوجود، وظل يجاهدها عشرين سنة،

حتى ظفر بها، واستبدل بها التوحيد الخالص، ولكن النوع البشري لما رسخ فيه

من جذور الوثنية بالوراثة المتمكِّنة في الأحقاب الطويلة، لم يكن مستعدًا للثبات على

هذه العقيدة، عقيدة التوحيد؛ ولذلك لم يمضِ على أتباع محمد أكثر من قرن واحد،

حتى ثابت إليهم الوثنية السابقة بأنواعها، ولكن بأسماء وألوان أخرى) ومَن عرف

الإسلام والمسلمين يعرف صحة قول دوزي هذا، دعْ عنك ذكرى الذين قالوا بألوهية

الإمام علي - كرَّم الله وجهه - في العصر الأول، فقد كان صوتهم ضعيفًا،

وضلالهم معروفًا، وارمِ بنظرك إلى فرق الباطنية الذين كانوا سُلاًّ في رئة الأمة،

لم تنجُ من كروب ميكروبه طائفة منها، خلقوا الأحاديث، وحرَّفوا كلم القرآن عن

مواضعه، وسرت فتنتهم إلى الطائفة المعتدلة من المسلمين باسم التصوف، فآل

الأمر إلى أن فشا في أهل السنة الغلو في شيوخ الصوفية كغلو الباطنية في أئمتهم

وخلفائهم، وهو اعتقاد أن لهم تصرفًا في الكون وراء الأسباب الظاهرة.

فالجاهلون يعتقدون أن هذا لهم بأنفسهم، ولا يتفكرون بالوساطة وما في معناها

من التأويلات، حتى إننا نشاهد عامتهم تتحامى الحلف كذبًا بالشيوخ المعتقدين، لا

سيما عند أضرحتهم، ويحلفون بالله كذبًا، وهم يعلمون.

ويشاركهم في هذا التعظيم والاعتقاد، كثير من اللابسين لباسَ العلماء،

ولكنهم يؤولون لهم ولأنفسهم بأن المحظور في الدين إنما هو الاعتقاد بالاستقلال،

وهم إنما يعتقدون أنهم واسطة بين الله والناس، ولكن إذا سألتهم: ما معنى هذه

الواسطة؟ وما هو الدليل عليها؟ وكيف لم يصرح بها القرآن، وهي في هذه

المكانة من الأهمية؟ والله يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38)

وكيف يمكن تأويل النصوص الكثيرة التي تنفيها - إذا سُئلوا عن هذا يرتكسون

بين أمواج الحيرة، يدفعهم ريب، ويتلقاهم شك إلى أبد الأبيد.

يا سبحان الله! إن الله تعالى وصف مشركي الجاهلية بأنهم عند شدة الضيق

يدعون الله تعالى وحده، مخلصين لا متوسطين، فقال: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ

دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَاّ

كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان: 32) ، ولكنَّا نرى المُتَّسمين بِسَمة الإسلام ينادون عند

أشد الضيق: يا باز يا سيد يا رفاعي يا متولي، وما أشبه هذه الأسماء التي ما أنزل

الله بدعوتها من سلطان، أليس من العجيب أن يقال: إن الدين لا يؤخذ من كتبه؟ !

فتترك نواهي القرآن البليغة الصريحة عن الشرك الظاهر والباطن، ويحكم على

الإسلام بقول هؤلاء الغوغاء الذين يزعمون أن المتصرفين في الكون أربعة:

الجيلي والرفاعي والبدوي والدسوقي. إذا كان لله سبحانه وكلاء من الأموات

يدبرون الكون، فلماذا لم يكن منهم إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة

والسلام؟! تعالى الله عن ذلك كله علوًّا كبيرًا!

وقد طال بنا الشرح فلنمسك عِنان القلم؛ فقد حصحص الحق، وظهر أن

انحراف الكثير من الناس عن هدي الإسلام من سوء الفهم، وإن سوء الفهم ليس

لصعوبة أحكامه وبُعدها من الأفهام، وإنما هو لأمراض اجتماعية طرأت على الأمة؛

فحالت دون انتفاعها بدينها، كما حالت دون الانتفاع الكامل بعقولها وحواسها.

ولما كان الإسلام دين الفطرة بشهادة القرآن، فإننا نرجو - كما يرجو عقلاء

العلماء من المسلمين - أن يكون ظهور قوانين الفطرة ونواميسها من أعظم المنبهات

إلى فهم الإسلام على حقيقته، ولسنا نقول بهذا إنه بين جميع نواميس الطبيعة،

ولكن نقول: إنه بين ما يحتاج إليه الناس لسعادتهم في دينهم ودنياهم، وسنبيّن هذا

في مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.

_________

(1)

ليس غرضنا في هذا الكلام الرد على هذه الفرقة من أهل الكتاب، وإنما هو بيان ما هو تعليم القرآن في هذه العقيدة.

(2)

المعنيان للهداية معروفان في اللغة، وفي الغالب يتعدى اللفظ بالمعنى الأول بنفسه، وبالمعنى الثاني بإلى.

(3)

قوله تعالى: [إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ](يونس: 49) هذه الكلمة جاءت في القرآن بمعنى التأبيد، كقوله تعالى:[خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ](هود: 107)، وقوله:[سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ](الأعلى: 6-7) .

(4)

في الآية احتباك، أي، لاأملك لكم ضرًا ولا نفعًا ولا رشدًا ولا غواية، فحذف من كل منهما ما أثبت مقابله في الأخرى.

(5)

ملتحدًا: أي ملتجَأً ألتجئ إليه.

ص: 209

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

‌استنهاض همم

(7)

إذا بقيت الحكومة المراكشية تتسكع في ظلمات الجهالة، وتتنكب مناهج العدالة

واسترسلت في إعراضها عن ملافاة الخلل، وشعب الصدوع التي تودي بمملكتها،

وتهوي بها إلى هاوية الاستعباد، وتزجُ بها في عالم الخفاء، لا جرم أنه يصيبها ما

أصاب جارتيها الأندلس والجزائر مما يبعث الشجن، ويزيد في الحزن، وتجيش

النفوس له حسرة ما نقرؤه لهذه الأيام في صحف الأخبار عن جوائب تلك البلاد من

أن المناصبة والمناوأة بلغت مبلغها بين صاحب مراكش مولاي عبد العزيز وبين

أخيه الرشيد ولكل منهما حزب يعضده وينافح معه، يا سبحان الله! ما أسرع ما

نسي هذان الخليفتان قصص خليفتي غرناطة المشئومين، وما حل ببلادهما؛ بسبب

شقاق بينهما، ما أسرع ما ذهلا عن تاريخ الأندلس، وهي على مرمى سهم منهما.

لَشَدَّ ما غفلا عن الأعداء المحدقة بالمملكة تتربص بها غير الدهر وكوارثه؛ لتلتهمها.

لَشَدَّ ما غفلا عن أمر الشارع بالاتحاد، ونهيه عن التعزي بعزاء الجاهلية، كيف

يفسحان بتباعد بينهما مجالاً يجري فيه العدو خيول مآربه وأطماعه؟ يوشك - إن

دام الشقاق والنزاع بين هؤلاء القوم - أن تتداخل الأعداء في شؤون مراكش

وتستعمرها، أو تتكفل بحمايتها، وتقوم بالوصاية عليها، كما فعلت بصُوَيْحِبَاتِها.

لا ريب أن الناشئين من الأسرة الملكية في مراكش إنما يَشُبُّون على ما وجدوا

آباءهم عليه؛ من البغضاء والشحناء، فإذا ترشحوا للمناصب العالية كانوا أسرع

إلى النزاع والمواثبة من السيل المنحدر إلى قرارة الوادي، وهذا مما يطيل أمد

الوبال والشقاء على الحكومة المراكشية، ويُمَكِّن يد العدو من ناصيتها.

لا يبلغ الأعداء من جاهل

ما يبلغ الجاهل من نفسه

أعداؤها التي تتربص بها الدوائر جاراتها الثلاث: أسبانيا جارتها القديمة

وفرنسا التي تجاورها من جهة الشرق بمستعمرة الجزائر، ومن الجهة الجنوبية

بصحراء إفريقية، فإن تلك الصحراء المتسعة كادت تخلص لفرنسا بحذافيرها وأما

إنكلترا فتجاور مراكش ببوغاز جبل طارق.

وإذا كانت كل من تلك الدول الثلاث تُخفي في نفسها الاستيلاء على مراكش،

وتجاذب الأخرى زمام النفوذ فيها، فمَن التي يشتد ساعدُها منهن وتقوى على

رفيقتيها وتستخلص ذلك الزمام؟

أسبانيا تود من كل قلبها، وصميم فؤادها، أن تستولي على مراكش لكوْن

شفعتها في الجوار أحق وأقدم من شفعة فرنسا، لكنها لا تنال منها شيئًا؛ لتأخرها في

الانتظام، وتضعضع قوتها، لا سيما عقب الحرب الأخيرة الأميركية؛ فإنها لُطمت

فيها لطمة ألقتها لحلاوة القفا، وقد لا تستطيع معها قيامًا أبد الدهر، على أن أسبانيا

عاثرة الجلد لا حظّ لها في الاستعمار؛ فان جُل أميركا كان لها، والآن لم يبق لها قل

من ذلك الجل، وربما ودت، أو أملت من مناظرتيها أن يستأنياها ولا يمسا مراكش

بسوء؛ ريثما يشتد ساعدها وتقوى على مغالبتهما، لكني لا أظنهما يحفلان برجائها.

أما إنكلترا، فليست ممن يؤمل، أو يطمع في شيء من مراكش، لا خجلاً

وضعفًا عن مقاواة فرنسا، بل لأن همها الأكبر في نصف إفريقية الشرقي، ووصل

الإسكندرية برأس الرجاء الصالح بالسكة الحديدية، فهي إن عارضت فرنسا في

مراكش، إنما تعارضها إيهامًا وإرهابًا؛ لكي تحملها بذلك على التساهل معها فيما

ترومه من أمر إفريقية، وفي أطماعها في شبه جزيرة العرب وسوريا والنهرين،

فإن في هذه الغنائم ما يبعث إنكلترا على السماح لفرنسا بألف مراكش.

إذن مراكش لفرنسا، وإذا تمكنت من ولاية طرابلس الغرب كما سيأتي تفصيله

في محله، يخلص لها حينئذ نصف إفريقية الغربي، كما يخلص نصفها الشرقي

لإنكلترا، ويكونان قد اقتسما القارة شق الأبلمة. [1]

(الحكومة الفارسية والأفغانية) مكانتهما في نظر أوروبا، وأطماع سواسها

واحدة، وكل منهما مما يتنازعه عاملا الطمعين، ويحوم حوله نسر الأملين،

الإنكليزي والروسي.

الشعب الأفغاني يغلب عليه البسالة والعزة والتحمس، ولم يزل كارهًا

للإصلاحات العصرية، معرضًا عن اقتباس الشؤون المدنية، مستخفًا بهبوب

الأعاصير السياسية، مزدريًا باتفاقه مع جارته الفارسية، أو شقيقته العثمانية أميره

لهذا العهد، ضابط لسياسة البلاد، مقبل بشراشره على الذياد، يُطمع الروسيا تارة،

ويوالي الإنكليز أخرى. فالأفغانية من جرَّاء ذلك في حرز ومأمن من السقوط الآن،

لكنها بعد هذا الأمير يوشك أن تقع في أيدي غلمة من الأسرة المالكة؛ يتجاذبون

أطراف المملكة، ويتواثبون لتناول تاجها، وتسنم عرشها، فتهوي البلاد في عواثير

الاستعباد، كما هوت من عهد غير بعيد أختُها زنجبار ذلك أن النزوان على الرئاسة

الكاذبة شِنْشِنَة غريزية في أمراء الشرق، قد تبوَّأت من نفوسهم متبوَّأ النطق

والإدراك، بل ربما تضاءل أثر الإدراك في نفوسهم، وضعف بصيصه في زواياها

وتلك الشنشنة حية يشتد أصلها، وينمو فرعها، ويستعر شواظها، ويقوي عرامها، ألم

يبلغك ما حصل في تلك البلاد منذ ثلاثين سنة من الفتن والملاحم بين أمرائها

وأبناء أسرتها؟ حتى كاد يرميها بين يدي العدو، ويُنزلها على حكمه، لولا أن

تداركتها الألطاف وانتشلتها يد الأقدار.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

مثل، يُكنَى به عن اقتسام الشيء بالسوية والأبلمة: خوصة المقل، وهو شجر خوصته، أي: ورقته إذا فُصلت باليد كانت قسمين متساويين.

ص: 217

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(تابع عدد 12)

(دَين تركيا) :

أ- الأنواع الستة من الأموال غير المقررة، أو عوائد المِلْح والتبغ والمشروبات

الروحية، وطوابع البوستة، والحرير، والأسماك، التي يردها أصحاب مصارف

(بنوك) غلطة بعد تحصيلها إلى حاملي السندات العثمانية.

ب- زيادة رسوم الجمرك التي تنشأ من تغيير تعريفة الرسوم عند حصول

تنقيح في اللوائح التجارية؛ فتستفيد إدارة الدين العثماني من هذه الزيادة.

ت- زيادة الإيرادات التي تنشأ من تعميم تطبيق القانون الخاص بالامتيازات،

عند مقارنتها بالإيرادات التي كانت تُحَصَّل فيما سبق من رسوم التمتع.

ث- الجزية التي تدفعها إمارة البلغار إلى الوقت الذي حددتها فيه الدول

المُوَقّعة على معاهدة برلين بمبلغ 100000جنيه مجيدي يدفع مسانهة من رسوم

التبغ.

أما إن رأى الباب العالي بعد تقرير الجزية، أو الضريبة بهذه الصفة - أن من

صالحه استعمالها كلها، أو استعمال جزء منها في سبيل آخر، وجب عليه أن

يُعَوّض هذا المبلغ، الذي يكون بهذه الواسطة قد سحبه من حاملي السندات بمبلغ

مساوٍ لعوائد التبغ، وفي حالة عدم كفاية هذا المورد، يؤخذ المبلغ من مورد آخر

وافٍ به.

ج- الزيادة في إيرادات جزيرة قبرص وتعوض في الحالة التي تخرج فيها

هذه الجزيرة من قبضة الحكومة العثمانية بمبلغ سنوي قدره 130000 جنيه مجيدي،

يُستنزل من عوائد التبغ، بعد احتساب مبلغ 100000جنيه، الذي استبدلت به

جزية البلغار، فإذا لم تكفِ هذه الزيادة لتكملة مبلغ 130000 جنيه، كان على

مصلحة عموم الجمارك أن تعطي بالباقي سفاتج في كل نصف سنة.

ح- دَين الرومللي الشرقي الذي حُدد بمبلغ 240000 جنيه مجيدي في السنة،

مضافًا إليه الإيراد الصافي لعوائد هذا الإقليم، الُمقَدَّر بمبلغ 5000 جنيه مجيدي.

خ- إيراد التنباك المحدد بمبلغ 50000 جنيه مجيدي، تضمنه مصلحة

الجمارك بسفاتج، تسحب عليها في كل نصف سنة.

د- جميع المبالغ التي تدفعها للحكومة العثمانية كل من حكومات السرب

والجبل الأسود والبلغار واليونان مما فرض عليها دفعه من الدين الأهلي في معاهدات

برلين والاتفاق المبرم في القسطنطينية يوم 24 مايو سنة 1881.

الأنواع الستة من الأموال غير المقررة، المذكورة في حرف (أ) ضُمِّنَت كما

قلنا لأصحاب مصارف (بنوك) غلطة دَينهم الذي على الحكومة العثمانية، وقدره

8590000 جنيه مجيدي، وقد تنازل هؤلاء بمقتضى اتفاق حصل بين الطرفين في

20 ديسمبر سنة 1881 عن إدارة هذه الأموال؛ لتكون تابعة لنِظَارة المالية في

مقابلة إيراد 371363 سهمًا، قيمة كل منها 22 جنيهًا مجيديًا، وربحه السنوي

خمسة في المائة، وذلك عبارة عن رأس مال قدره 8169986 جنيهًا مجيديًا.

لحاملي هذه السهام حق الأولوية على مَن عداهم من أصحاب قروض الدَّين العثماني

العمومي، وهذا الحق يكسبهم مبلغ 590000 جنيه مجيدي، بعضه فائدة، وبعضه

من أصل الدَّين، يُستنزل لهم في كل سنة بمقتضى هذا الامتياز من صافي إيراد

الأموال المتقدم ذكرها؛ ولذلك سميت هذه السهام بالسهام الممتازة.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 220

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار

(تداركها يا أمير المؤمنين!)

جاءتنا رسالة مطبوعة عنوانها (ضجيج الكون من فظائع عون) ، يُنسب فيها

للشريف أمير مكة لهذا العهد من الظلم والإلحاد في الحرم العجب العُجاب. ولم نلقِ

لها بالاً لأول وهلة، ولكننا أخذنا صباح أمس بريد الهند وجاوه فإذا فيه كتاب لنا

من مُكاتِبِنا في سنغافور يَذْكُر فيه الرسالة، ويعظم من أمرها، ومما قاله:

(الرسالة المذكورة تُرجمت، ووزعت في أقطار جمة، وهي حَرية بإمعان النظر؛ إذ

الاختلال الجاري بالحجاز أشهر من أن يُذكر، وقد صار لهذه الرسالة تأثير عظيم،

حتى إن بعض المساجد قطع الخطبة لمولانا الخليفة - أيده الله - تحاشيًا من الكذب

بأنه خادم الحرمين، وقد اغتنم بعض أعداء الدولة هذه الفرصة، وابتدأوا يجوسون

ويؤملون أن تجد الدول الأورباوية سبيلاً للتداخل في الحرمين (لا قدر الله ذلك) ،

فكان من الواجب التحذير والتنبيه لسد الذريعة، وحسم الداء؛ لعلنا نصل إلى

الاتحاد المرغوب، والعاقل حَذور.

ولو أَلْفُ بَانٍ خَلْفَهُم هادِمٌ كَفَى

فكيفَ بِبَانٍ خَلْفَه ألْفُ هَادِم

وقد يسوءني - ككل مخلص للدولة - سعي كثير من الجرائد في سبيل

التمويه والمواربة، بل غش الدولة وتغريرها، والله المستعان) . اهـ المراد منه.

(المنار)

إن الذين يكتبون في تنبيه الدولة العلية، وانتقادها ثلاثة أقسام:

1-

المخلص الذي يلتهب غَيْرَة عليها وقليلٌ ما هم.

...

...

...

2-

والشامِتُ المتشفِّي.

3-

والطامع بالرفد والنوال.

ولمّا ظهر لمُحبي الدولة أنه لم توجد جريدة منتقدة إلا وظهر أنها منبعثة بأحد

الغرضين المذكورين آنفًا، مقتوا كل منتقد، فصار النَّاصِحُ في حَيْرَة لا تسمح له

ذمته بمجاراة المنافقين الذين يغشون الدولة بتقديس جميع أعمالها، ولا تتسنَّى له

النصيحة؛ لأنها تُقابَل بالمقت والظنة، ويرمى صاحبها بالعداوة لدولته وأمته، لا

سيما والأكثرون لا يكادون يفقهون حديثًا، والحق أن الذي يبحث عن الخلل - وإن

كان متشفِّيًا - أنفع ممن يجعل السيئات حسنات؛ لأن هذا غاشّ خادع، وفي الحديث

الشريف: (مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا) .

عِدَاتي لهم فضل عليَّ ومِنَّة

فلا أَذَْهَبَ الرحمن ُعَنِّي الأعاديا

هم بحثوا عن زَلتي فاجتنبتها

وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

وكأني بهؤلاء المنافقين، وقد استهانوا بمسألة الشريف، فمنهم مَن كتمها،

ومنهم يموه تمويهًا، ولكننا نحن نستلفت أنظار مولانا أمير المؤمنين إليها، ونسأله

أن يغضي عن سياسة استدراج الشرفاء، وملاينتهم الآن، ويتدارك هذا الأمر الجَلَل

ولو بما يقنع المسلمين في أقطار الأرض باهتمامه في شؤون الحرمين الشريفين

(والله له خير ناصر ومعين!) .

***

أنبأنا بريد سوريا بأن جماعة سماحتلو الشيخ أبي الهدى أفندي في طرابلس

الشام فأنشأوا يضطهدون أهلينا؛ لأن جريدتنا (المنار) غير مرضية عند سماحته،

وبلغنا أنهم سيخلقون تهمًا يلصقونها بإخوة هذا الفقير منشئ (المنار) إذا لم يبادر

بإرضاء صاحب السماحة، ويشهد له بالإمامة، والقطبية الكبرى، كما شهدت

له بعض الجرائد المنافقة.

وكيف يسمح لنا ديننا وضميرنا بهذه الشهادة لمن يسعى بعقاب طائفة شريفة

نزيهة إذا هو غضب على واحد منهم، وهم لا يعلمون بذنبه، بل كيف يمكننا أن

نصف مَن يعمل مثل هذا العمل بالإسلام، ونبي الإسلام، يقول: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ

الْمُسْلِمُونَ مِنْ شَرِّ يَدِهِ وَلِسَانِهِ) فإذا كان حاكم طرابلس ومتصرفها، صنيعة الشيخ

أبي الهدى وابن عمه بالمصاهرة، فلِمَن يشكو أهلونا، وحاكمهم هو خصمهم،

وبينهم وبين السلطان الأعظم حُجُب، أكثفها أبو الهدى نفسه؟ !

نقول: ليشكوا أمرهم إلى الملك العدل، وهو الله العلي الكبير.

***

(إعطاء القوس باريها)

لا خلاف في أن المحاكم الشرعية في القطر المصري كله في اختلال عظيم

تحتاج بسببه إلى إصلاح عظيم، ولكن إصلاحها أعيا أطباء النظام، والجالسين

على أرائك الأحكام، فسماحة قاضي القضاة، على فضله ونُبْله - لم يُداوِ لها عِلَلاً،

ولم يُصلح خللاً، ولقد مكث في منصبه هذا بضع سنين، بحيث يصح أن يقال له:

{أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (فاطر: 37) وحَوَّمَتِ

الحكومةُ حول الإصلاح غير مرة، ولكن لم تقع عليه، ورمت إليه عدة سهام،

فأخطأت كلها الغرض، فأجمعت آراء أُولي الأمر. عقيب ذلك الأمر الأمَرّ، وبعد

إجالة قداح الفكرعلى إعطاء القوس باريها، علمًا بأن صاحب الدار أدرى بما فيها.

اتفق الجميع على تفويض العمل إلى علَاّمةِ الشرع والأحكام، وحكيم الإدارة والنظام.

الذي لم يُعرف له ثانٍ، متبحر على علم الدنيا والدين، جامع بين الإرادة الفعالة،

والغَيْرَة على مصلحة المسلمين. ألا وهو أستاذنا الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي

الديار المصرية.

أناطت الحكومة بفضيلته تفتيش المحاكم الشرعية، ووضع الأصول التي

يراها كافية لإصلاحها، فتلقت جميع الجرائد هذه البُشرى بالبِشر والارتياح.

واتفقت على اختلاف منازعها ومشاربها، على أن هذا هو طريق النجاح. وأعربت

عن الأمل بإصلاح الخلل، وإزالة العلل. فدل هذا على أن الأستاذ هو الرجل الفرد

الذي نال الثقة الكاملة من مجموع الأمة، حاكمها ومحكومها، فليتأمل هذا بعض

المخدوعين. الذين يأخذون ترجمته من أفواه الحاسدين، وخرص المذاعين.

***

(الحياة)

مجلة علمية إسلامية شهرية، لصاحبها الكاتب الفاضل محمد فريد أفندي

وجدي وقد صدر العدد الأول منها طافحًا بالمقالات المفيدة، منها مقالة في التمدن

والتديُّن، وأخرى في (تغذية الجَنان ببدائع الأكوان) ، ومقالة في إثبات وجود

الله تعالى، ومقالة في ما وراء المادة، وشذرات علمية مفيدة على فكاهة فيها. وقد

سلك في مباحثها مسلك كتابه تطبيق الديانة الإسلامية.. إلخ.

والجريدة في حجم المنار (ملزمتين) ، وقد طُبعت في مطبعته بحروفه

الصغيرة، وقيمتها 15 غرشًا في القطر المصري، و20 في غيره، ولطلاب العلم

10، فنحث القُرَّاء على الإقبال عليها.

تصحيح غلط

وقع غلطٌ في بعض الآيات في الملزمة الأولى؛ ففي السطر الذي قبل الأخير

من صفحة 3 (ألا لله الخالص)، والصواب:{الدِّينُ الخَالِص} (الزمر: 3) ،

وفي السطر 3 من صفحة 214: (ما في السموات وما في الأرض) ، والصواب

{فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْض} (يونس: 18) وفي السطر 15 منها (إن عليك

البلاغ) ، والصواب:{إِلَاّ البَلاغُ} (المائدة: 99) ، وفي السطر الذي بعده

(وما أنت عليهم بمسيطر)، والصواب:] لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ [ (الغاشية:22) .

_________

ص: 222

الكاتب: رفيق بك العظم

‌كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية

ألَّفه حديثًا؛ لتربية أفكار النشء الإسلامي على مبادئ الدين من طريق العلم

والعقل، ومبادئ العمل من طريق الدين، صديقُنا الكاتب الفاضل رفيق بك العظْم

ناظر المدرسة العثمانية، وإننا ننقل دَرْسًا مُخْتَصَرًا مِن دروسه نموذجًا للقرَّاء، وهو:

(الدرس السابع: معرفة الدِّين واجبة)

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108)

إذا كان الدين ضروريًّا لازمًا للاجتماع، فمعرفة الدِّين أيضًا لازمة لكل فرد

من أفراد أهله، بلا استثناء، ولا يكفي في هذه المعرفة كون المسلم مثلاً يعرف

الأركان الخمسة للإسلام، بل يلزمه أن يكون على بصيرة من دينه وعلم، ولو

إجمالي بشرائعه وسياسته، فإذا سمع قارئًا يقرأ، أو قرأ هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا

الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) -

يتدبر معنى هذه الآية؛ لقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ

وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (ص: 29) .

ويكون على علم، ولو إجمالي من فوائد هذه الطاعة، وأنه يترتب عليها

مصلحة المؤمنين، وترتبط بها سعادة المسلمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأمر

عباده إلا بالخير، والرسول كذلك لايأمر إلا بخير أيضًا، فوجبت الطاعة لهما فيما

يأمران به، وينهيان عنه؛ لأنه خير ومصلحة للمؤمنين، وكذلك وليّ الأمر، إنما

وجبت له الطاعة من حيث وجبت لله وللرسول؛ لكونه منفِّذًا لأوامر الله والرسول،

وهي خير كما تقدم، فالطاعة له خير أيضًا. ولا جرم أن العلم بالشيء - من حيث

إنه خير - يوجب الرغبة فيه، والميل إليه، فعلم المسلمين بهذه الطاعة أنها خير

يوجب تأصل الشعور في نفس كل فرد منهم بأن هذه الطاعة واجبة لله في جميع ما

شرع من الأحكام للمسلمين، فوجب معها العمل بكل ما أمرهم به من التمسك بالعقائد

والمحافظة على الدين، والذود على حياض الشريعة، والقيام في وجه العدو،

والاتحاد على كلمة الإسلام، وغير ذلك من المصالح المتوقفة على الطاعة التي لا

سبيل إلى أدائها إلا بالعلم بها، وما لا سبيل إلى أداء الواجب إلا به فهو واجب،

فالطاعة واجبة، والعلم بها واجب أيضًا، وهكذا الحال في سائر ما جاء به الدين؛

لأن التوحيد الذي هو أول ركن من أركان الدين إنما دعانا الله إليه من طريق العلم،

فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} (محمد: 19) فما بالكم ببقية فروع الدين

وأصوله؛ لهذا كان العلم بالدين واجبًا على جميع المسلمين، وبمعرفة هذا الواجب

عمل الصحابة الكرام بسائر ما جاء به القرآن، وأمر به نبيُّنا - عليه الصلاة

والسلام - فمن لم يكن منهم على علم تفصيلي بأمر الدِّين كفاه العلم الإجمالي، فدعا

إلى الله على بصيرة، وعمل بعلم، وبهذا وَصَفَ الله المؤمنين، وإليه أرشدهم في

قرآنه العظيم، فقال تعالى - مخاطبًا لنبيه عليه الصلاة والسلام: {قُلْ هَذِهِ

سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) وبهذا أَلَّفَ

الصحابةُ الكرام قلوبَ الأمم على الإسلام، وعَمَّموا الدين واللغة والسياسة بين الأنام؛

فملأوا الأمصار علمًا، وضربوا دون الجهالة سدًّا؛ فأخذوا بنواصي الأمم،

وانقادت لهم الشعوب، وانحطت دون هممهم الهمم، وأخضعوا قياصرة الروم

وأكاسرة العجم، ومرت على ما أسَّسوه من قواعد العمل بالعلم أعوام وأيام، أتى

بعدها خَلْف انقلب إلى الشهوات، وقنع بآثار المجد، وخَلْف آخر أحرجه مرض

القلوب؛ فلجأ إلى الحشو في الدين، والإكثار من القول على غير يقين؛ ففرقوا

وحدة الأفكار، وشتتوا أجزاء الأمة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ألا بئس ما

كانوا يصنعون! اهـ.

_________

ص: 225

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

‌استنهاض همم

(8)

وأما الشعب الفارسي، فهو حسن القابلية للحضارة، سريع الانقياد لدواعي

التمدن العصري، واقتباس أساليبه على مقربة من المعارف والآداب، لولا ما مُنِي

به من سوء إدارة أُمرائه، وتثاقل هممهم دون النهوض لإصلاح الشأن وبَثِّ العلم،

وجمع الكلمة. مضى الشاه السابق لسبيله، وخَلَفه ابنُه الحالي؛ فتطايرت الأنباء

بأنه راغب في الإصلاح، عامل على تهذيب أمته، مغذ السير في سبيل إسعادها،

ثم لم نلبث عشية أو ضحاها، حتى خاننا الأمل، وخامرنا اليأس، واستطارت

أخبارٌ عن شؤونٍ وأطوارٍ لا تنطبق على قانون انتظام الأمم، ولا تتمشى مع

نواميس نهضة الشعوب. وأهم ما سُطِّرَ في تاريخ الأمة الفارسية لهذه الأزمنة

المتأخرة، ظهورُ أحداث دينية، وتشعباتٍ مذهبية تَفَرَّقَ لها القومُ أحزابًا، وولجوا

في أطوائها من المصائب بابًا بابًا. فتح ميرزا علي محمد للشعب بابًا؛ فقلنا: هو

باب خير للإيرانيين يدخلون منه إلى جنات النعيم، فجاءهم من قِبَله العذاب الأليم!

يا ويح الشرق ولتعاسته! أتعترض السحب المكفهرّة في سماء أهل الغرب،

فتمطر عليهم النعماء، وتنبت في تربتهم أعشاب الفوائد، وثمرات المنافع؟ وإذا

اعترض مثلها في أفق الشرق، ورجا أهله منها ما أصاب أهل الغرب؛ رمتهم

بحجارة من سجيل، وأنبتت في أرضهم الحنظل والمرار (نبات مر) ، وأشواك

المحن والمضار. تُلَوِّحُ في جَوِّ أولئك بوارقُ تُرِيهم في ظلمات أحوالهم مواقع الخلل،

وتهديهم الجدد [1] ، وتعقبها صواعق تُقَوِّض صروح الاستبداد، وتمزق مسامع

ظالميهم، وتحصد رؤوس منافقيهم. وإذا لاحت بارقة من مثل ذلك في جو هؤلاء

المساكين؛ خطفت أبصارهم، وامتلخت قلوبهم، وبهرجت [2] بهم الجادة وأَرَتْهَا

لأعدائهم، فسلكوها إلى أذاهم، ومحو صواهم [3] ، وانقضّت معها صاعقة زلزلت

ديارهم، ومحقت خيارهم، ولبَّستهم شيعًا يذوق بعضهم بأس بعض. تهب أعاصير

الشقاق في ربوع أوروبا؛ فَتَقْتَلِع تماثيل الضلال، وتُقَوِّض هياكل الظلم والاستبداد،

حتى إذا هَبَّ في أصقاع الشرق ما يحاكيها؛ قَوَّضت صروح مجدهم، ونسفت معالم

عِزِّهم، وكشفت الغطاء لعدوهم عن عوارهم؛ فأغرته بهم، ومَهَّدَت أمامه طرق

الاستيلاء عليهم، يا سبحان الله! أما كانت التَّحَزّبات والتشعبات سببًا في نهضة

أوروبا وتنبهها؟ أما كانت مدعاة ليقظتها من غفلتها؟ أما هي التي رمت جذوة

الغيرة في قلوب الأحزاب والطوائف؛ فنشطوا للأعمال، وتنافسوا في إحراز

الكمالات؟ أما هي التي رفعت برجال كل قبيل؛ للعمل في خدمة قبيله، وتفضيله

مصلحته على مصلحة القبيل الآخر؟ أما هي التي بعثت رجال كل طائفة على

تذليل المشاق، والاستهانة بالأخطار في سبيل بث تعاليم طائفتهم، ونشر لغتها

وآدابها وعوائدها؟ مَن يصدق أن الثورة الفرنسوية العظمى، بل الفظاعة البربرية

الشؤمى هي كما زعموا جرثومة الإصلاح في الغرب، وأرومة تلك المدنية العبقرية

التي يتنافس فيها المتنافسون، وأن صُبْح الحرية لم يتنفس في جو الغرب إلا بعد أن

استمد أنواره من نيران ذلك البركان المتفجر، والجحيم المتسعر، فما لحباحب حادثة

الباب جرَّت على الشعب الإيراني الويل والبلاء، وسحبت على معالم عِزِّه ذيول

الخيبة والعفاء؟ أسباب ذلك كله أسرار مكتومة في مطاوي شؤون معلومة، وما

يعقلها إلا العالمون.

ومما شرحناه من حال الحكومتين الأفغانية والفارسية؛ يستبين للنبيه أنهما

على مقربة من مداخلة الأجنبي، والوقوع في حبالة طمعه، لا سيما والعدو منهما

على قاب قوسين أو أَدْنى - عدوهما اثنان الروسية تشرف عليهما من جهة الشمال،

وإنكلترا من الشرق، أما الروسية فدعواها بطمعها فيهما اعتراضهما في طريقها

إلى البحر؛ لأن لهفها زائد، وشوقها قوي لتوسيع دائرة تجارتها، وهي إن أصدرت

من داخليتها مصنوعاتها ومحصولاتها غمرت وجه البسيطة، وإن استوردت

حاجاتها من الخارج استنزفت ما للبشر من المصنوعات والمحصولات، كل ذلك

لوفرة عدد رعاياها، وكثرت انفساح بلادها، فهي في ظمأ شديد لورود بحار

تتناول منها وتناولها وماء البحر الأسود وقزوين والبلطيق ثماد ووشل لا ينفع لها

غلة، ولا يشفي علة، ولُجَج المحيط الباسفيكي التي تردها في الشرق الأقصى،

وإن كانت كافية لرِيِّها؛ لكنها بعيدة عن مركز التجارة العام، مترامية عن الجادة

العظمى التي تصل الشرق بالغرب، وتسلكها شعوب الخافقين، فليس على كثب منها

سوى البحر الهندي والذي يصدها عن وروده الحكومتان المذكورتان، وكذا الهند

والولايات العثمانية الشرقية، فهي في حاجة إلى احتلال هذه المراكز، وقوتها أحدثت

لها طمعًا في الاستيلاء عليها، أوالطمع في الاستيلاء أحدث لها القوة واستحثَّها لتوفير

وسائلها، وهذا الذي أَسْهَرَ عَيْنَ إنكلترا، واستطار لُبَّها.

وقد شرعت الروسية بالعمل؛ فتغلبت على كثير من الإمارات التترية، وأَلْقَتْ

بنفوذها في صحراء مرو المتاخمة لحكومتي الأفغان والفرس، وأنبأتنا الجوائب

الأخيرة أن السكة الحديدية التي مَدَّتها الروسية في صحراء مرو، قد أخذت

قضبانها تناطح حدود هاتين الحكومتين، فليطرب أفغانيي هرات وفارسي مشهد

لسماع تلك الألحان - أزيز مراجل السكة الروسية، وزمير بخارها، وزمزمة

رجالها.

إنكلترا حرصها على الهند، وتفانيها في حفظه أخرجها من الاعتدال،

وزحزحها عن موقف الكمال، وحملها على الجشع في كل ما له مساس بالهند؛

فتراها في ظمأ شديد لعبّ البحار، حتى كان بها داء الاستسقاء، وفي قرم زائد

لالتهام الشعوب، كأنها أصيبت بجوع البقر، وما ذلك إلا شغف بالهند، وحذر عليها

من أبناء أبيها آدم، والحكومتان الأفغانية والفارسية واقعتان في قارعة الطريق

الأعظم المؤدي إلى الهند، فلا غرو أن كان لهما خطر وشأن في نفس إنكلترا. ومما

يشحذ من غرار طمعها في هاتين الحكومتين، ما تراه من دأب الروسية في التقرب

منهما، والتزلُّف إليهما، والتحويم حولهما؛ فتخشى أن تصيبهما يومًا ما دائرةُ سوء

من قِبَلها، أو تمسي الروسية محتفَّة بالهند، وآخذة بأكظامه (مدارج أنفاسه) شمالاً

وغربًا؛ فإنكلترا في أوساط آسيا أخشى مَن تخشاه؛ بل لا تخشى أحدًا سوى

الروسية، تحذر من أن يشتد بها الظمأ؛ فتهوي بكتائبها الرجراجة من قمم جبال

هندكوش على تلك البسائط، ولا تقف إلا حيث تتنفس أمواج البحر الهندي.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

(الجدد) بالتحريك: الطريق يؤمن فيه العثار.

(2)

(بهرجت بهم) إلخ: أي عدلت بهم عنها، وغيَّبتها عن أنظارهم، فتنكّبوها.

(3)

(الصوى) : جمع صوّة: وهي أَعْلام تُنصب في المفاوز؛ يهتدي بها المسافرون.

ص: 227

الكاتب: كاتب من تونس

‌مراكش

لمكاتبنا الفاضل في تونس

مضت السنون، وتطاولت الأزمان على سلطنة مراكش وهي على حالتها

الطبيعية، لم تسعَ - ولو بعض السعي - في تحسين أحوالها الداخلية، بل راضية

بما هي عليه من الحالة الراهنة التي أمست فيها رعاياها، كأمة فوضوية؛ حيث إننا

نرى كل يوم في أعمدة الجرائد أن القبيلة الفلانية شقت عصا الطاعة، وسكان الجهة

الفلانية نهبوا أو قتلوا بعض الرعايا الأجنبية، ونحو هذا من الأخبار المحزنة التي

تفتت لها أكباد مَن كانت لهم أدنى حمية إسلامية.

هذا، والسبب الوحيد في استدامة الأمة المغربية هذه السيرة، هو حب ملوكهم

للاستبداد والجهل المستولي على عقول الرعايا، ولو فَتَحَت بينهم المكاتب، وتغذت

أبناؤهم بلبان المعارف؛ لعرفوا اليوم ما لهم وما عليهم. ألا ترى أن أوروبا كانت

أتعس القارات؟ وكان الاستبداد والظلم فيها سائدَين، ولمَّا بثت بين سكانها العلوم؛

عرفوا حقائق الأمور، وقَيَّدوا استبداد حكامهم بسلاسل القوانين، ولم يَقِف في سبيل

عملهم هذا عظمة الملوك والإمبراطورين، ولا تَحَزُّب أحزاب الأشراف، وتعصب

النُبَلاء والكبراء.

إن هاتِه المملكة القائم استقلالها على أسِنَّةِ رماح أوروبا، لولا التحاسد؛

لاحتلتها أقلَّ الدول الأوربوية، ولم ينفعهم ذلك الكَرّ والفَرّ، وتلك الشجاعة البربرية

أمام النظام وصواعق الآلات. ومن العجيب أن القوم لم ينتبهوا، وقد تكررت

عليهم المصائب الأوربوية، ولم تدخل فيهم روح الغيرة، وقد جعلت أرضهم

للاستظهارات الحربية! ألم يقرأ سلطانهم وعلماؤهم وأعيانهم قوله تعالى:

{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) ؟ ألم يطَّلِعوا على الحديث

الشريف: (مَنْ قَاتَلَ فَلْيقَاتِلْ كَمَا يُقَاتِلُ) ؟ لقد كان الخلفاء الراشدون - رضوان الله

عليهم - عاملين بإرشاد كتابهم، وهَدْي نبيّهم، ولقد كانت وجوههم مشرقة بنور

الإسلام، وقلوبهم تخفق بأجنحة الإيمان، ولم يعتمدوا على ذلك، بل فعلوا ما أمرهم

الله من وجوب اعتبار السبب قبل الاتِّكَال؛ حتى بلغت الأمةُ الإسلامية في تلك

الأزمان أقصى درجات العز، وداست أقدام الجنود الإسلامية غالب المعمور،

وعبثت باستقلال مَن هُم أشد منها باسًا وأقوى سلطانًا. وهكذا كانت حالة الإسلام

نحو سبعة قرون، مع أن الخلافة انقلبت إلى الملك وانغمست الأمة في الترف، إلا

أنهم كانوا محافظين على الشريعة، عاملين بإرشادها، ولا سيما فيما يتعلق بأمر

المصاولة والمكافحة، وبذلك دام ملكهم، واتسعت فتوحاتهم، ووصل الإسلام إلى

أوْج الفخر، وقصارى العز، ولمَّا نَبَذْنا الشريعة وراءنا، وتَتَبَّعْنَا الأهواء والصالح

الذاتي؛ دارت علينا الدوائر، وفُقدت غالب الممالك الإسلامية من أيدينا، وصِرْنَا

اليوم موسومين بأننا لسنا قادرين على تدبير الملك.

إن الممالك الإسلامية هي التي جعلت الأمم الأجنبية في ريب من شريعتنا

السمحة الصالحة لكل زمان ومكان، فزعموا أنها غير كافية في هذا العصر لإدارة

الأمور الدنيوية، بل يجزمون بأن ذلك التأخر الضارب أطنانه في كل شعب إسلامي

ناشئ عن دواعٍ دينية، ونحن لا نعترض على من يَعْتقد هذا الاعتقاد؛ إذ جهله

بالشريعة الإسلامية يجعلنا نضرب عن قوله صفحًا، وقد شَهِد العارفون منهم بحسن

شريعتنا، وصلاحيتها دينًا ودنيا، كما أننا لا نحتاج إلى استحسان قول زيد، وانتقاد

قول عمرو، وإنما أقول: إن الخلل المُحْدِق بالممالك الإسلامية في هاته القرون

الأخيرة، كان منشؤه الانحراف عن الدين؛ بإيثار الملوك منافعهم الشخصية على

المنافع العمومية، وانقسام السلطة، والانهماك في اللَّذات، فلم تسقط الممالك

الأندلسية التي سقط لسقوطها عِزُّ الإسلام شرقًا وغربًا إلا لانقسامها إلى ملوك

طوائف، ولو لم تخرق ملوكها سياج الشريعة؛ لكانت اليوم أعظم الدول نظرًا لما

أَبْدَته الأمةُ الأندلسية من الاستقامة والتدبير والمدنية. ولكن أنَّى لها ذلك، وقد سبق

في علم الله القديم أن تلك المملكة لا بد أن تُمحَى بسوء تدبير سواسها من لوح

الوجود. ولنُثنِ عِنان القلم إلى بيان أحوال مملكة الغرب الأقصى لهذا العهد، فنقول:

كلما وقع حادث سياسي في تلك الأصقاع يزداد النفوذ الأورباوي هناك، ويتخذ

الأجانب كل واقعة ذريعة إلى تنفيذ أغراضهم، وزيادة التداخل في أحوال المملكة

الداخلية، وهذا أمر يُخشى معه على استقلال تلك المملكة؛ إذ الحوادث الماضية

أرتنا ما تفعل يد الدسائس الأجنبية في الممالك الشرقية، وقد صارت اليوم هدفًا لنبال

الدسائس، وآلة بيد الأجانب، ومع ذلك لم يتعظ القوم، بل مازالوا على ضلالهم

القديم، ولو كانوا يتعظون لاتعظوا بحربهم مع فرنسا سنة 1260 الذي تسبب عن

دخول الأمير عبد القادر الجزائري الشهير إلى أراضي المغرب؛ إذ إن رجال

المغرب في ذلك الوقت كانوا غافلين عما صارت إليه الجنود الأورباوية من النظام؛

فلم يكترثوا بالجند الفرنساوي الذي كان ضاربًا أطنابه بالقرب منهم، وعندما قصد

المارشال الفرنساوي بجنوده المنظمة المحلة المغربية، لم يجد أمامه إلا قومًا مذبذبين،

ليس لهم نظام ولا معرفة بالمواقع الحربية، وقد قاد هذا الجند المختل الأمير محمد

ولم يكن على علم بقيادة الجيوش في ميادين القتال، ولكنه اكتفى بكثرة ما لديه من

الجنود، فلما التقى الجمعان، انهزمت الجيوش المغربية الجرَّارة أمام الجيوش

الفرنساوية القليلة أسوأ الانهزام، وما ذلك إلا بسبب النظام وحسن الآلات،

والمعلومات الحربية التي صارت اليوم علمًا طويلاً يتنافس فيه أولو الغيرة الوطنية،

والحمية الجنسية. وكم من حادثة مثلها، أو أشد منها عليهم. وغير بعيد ما حلَّ

بتلك الحكومة من المذلة والعار في واقعة مَلِيلَة التي دفعت فيها لحكومة الأسبان

عشرين مليون فرنك إرضاءً لها عن تعدي القبائل على حدودها ورعاياها، وليست

هذه بالأولى، بل في كل عام تدفع قسطًا عظيمًا من دخلها؛ إرضاءً لزيد، وتسكينًا

لغضب عمرو {أَوَ لَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا

هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .

ولو حَسَّنت داخليتها، وكَفَّت أيدي رعاياها عن أي تعدٍّ، وجمعت تلك الأموال

التي تدفعها كل عام، وفتحت بها مكاتب أماطت بها حجاب التغفل عن عقول أولئك

القوم، لكان خيرًا لها، وأقوم لشرفها وبقائها بين الأمم، فكل ذي لب يعلم أن تقدم

تلك المملكة متوقف على بث العلوم والمعارف - لا سيما التاريخية والاقتصادية،

والزراعية والعسكرية - بين سكانها؛ حتى يعلموا أن وراء البحار أممًا

يسهرأهلهاعلى مصلحة بلادهم، والذَّبِّ عن أوطانهم، ويتعاضدون على كل ما يعود

عليهم بالفخر، وعلى أوطانهم بالعمران، وأن لهم جنودًا قد فاقت الحد عُدة وعددًا

وأساطيل، يَرْتَجُّ لها المحيطُ عندما تعلوه، وتَخِرُّ لها الاستحكامات والحصون،

وتميد لها الجبال، وأن العلوم والمعارف عندهم نافقة أسواقها، متدفقة سيولها، ولها

أبناء قد تغذوا بلبانها، وشَبُّوا وشابوا على حبها، ومطالعة جمالها، وهاهم اليوم

مثابرون على إصلاح أمورهم، ومتعاضدون على مصلحة أوطانهم، وكلما يرون

بلدًا مختل النظام كبلادكم، أو إقليمًا عديم التدبيركإقليمكم، يستولون عليه بدعاوي

سياسية، ويتخذون ذلك الاختلال حجة للاستيلاء، وإذا دافع عن نفسه ضربوه بحد

السيف، وأجبروه على ترك الاستقلال.

إِلامَ - أيها الإخوان - أنتم غافلون؟ ! وحَتَّامَ - يا أبناء الأعزاء - وأنتم

متكاسلون؟ ! ألم يَدْعُكم كتابُكم إلى تحسين أحوالكم الدنيوية، كما دعاكم إلى

تحسين أحوالكم الأخروية؟ ألم يَدْعُكم نبيُكم - عليه أفضل الصلاة، وأزكى

التسليم - إلى الذَّبِِِ عن حوزة المِلَّةِ والدِّين ؟ أم لم تُنَبِّهْكم الحوادثُ التي رأيتموها،

وتََزْجُرْكم المَذلة التي شاهدتموها؟ أم لم تتعظوا بما حَلَّ بإخوانكم، لمَّا كانوا مثلكم

غافلين؛ فعبثت يدُ الأجانب باستقلالهم، وداست أقدام العدو أعناقهم، ولم ينفعهم

الندم بعد حلول القضاء، ولم يُنجِ التأسف عند فتح باب البلاء. لِمَ لا تنبذون هذه

المذلة وأنتم قادرون على الابتعاد عنها؟ ! . وعَلامَ لا تنتقلون من هذه الحالة التي

يجب انتقالكم عنها؟ ! . أترضون أن تدخل بيوتكم الأعداء، أم تحبون أن تستولي

على أوطانكم الأخصام الألدَّاء.

تلك نصائح صادرة عن حمية إسلامية، والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو

على ما نقول وكيل.

...

...

...

...

... (ش. د)

_________

ص: 231

الكاتب: محمد رشيد رضا

]‌

‌ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [[

1]

منشئ هذه المجلة مسلم من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد أن

لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يُعبد غيره، ولا يُستعان إلا به {إِيَّاكَ نَعْبُدُ

وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، ولا يُتَقَرَّب إليه إلا بالإيمان والعمل الصالح،

وترك المحرمات والقبائح، ويشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ما أرسله مسيطرًا

على العباد، ولا وكيلاً ولا جبارًا، وإنما أرسله مبشرًا ونذيرًا، ويشهد أن جميع ما

جاء به عن الله حق؛ مَن تمسك به سَعِد، وإن كان عبدًا زنجيًّا، ومَن أعرض عنه

شقي، وإن كان قرشيًّا فاطِميًّا؛ ففي حديث البخاري مرفوعًا: (يا فاطمة يا بنت

محمد سَليني مِن مالي ما شئت؛ لا أغني عنك من الله شيئًا) ويعتقد أن الله تعالى لم

يجعل لأحد من عبيده الأحياء - فضلاً عن الأموات - قدرة على التصرف في الكون،

وإسعاد الناس وإشقائهم وراء الأسباب العادية التي يصل إليها الإنسان بجِدّه واجتهاده،

وكسبه واختياره، وإن هذه الأسباب منها ما هو مشهور يعرفه جماهير الناس، ومنها

ما هو خفي لم يصل إليه إلا بعضهم. هذا مجمل ما يعتقده ويدعو الناس إليه في

(المنار) ، ولكن هذه الدعوة ساءت الذين بنوا هياكل مجدهم وسيادتهم على أساس

الاعتقاد بأنهم هم وشيوخهم يتصرفون في الأكوان، فيُسعدون ويُشقون، ويُميتون

ويُحيون، ويغنون ويفقرون؛ فقادوا الناس بسلاسل الوهم إلى الخضوع لهم، حتى

فَسَد دِينُهم، وخربت دنياهم. وحَبَّبَ هذا الاعتقاد إلى الدَّهْماء ما فيه من تخفيف ثِقَل

التكليف، بل ما فيه من معنى الإباحة.

وأي إباحة أعظم من اعتقاد المنتسب للطريقة الرفاعية أن مَن يلمس يد الرفاعي

أو أحد خلفائه وذريته لا تحرقه النار! ، كما هو مذكور في كثير من كتب هذه الطائفة

التي نشرت بالطبع في هذه العشرين سنة الأخيرة، وأي تغرير بالمسلمين في دينهم

أعظم من قول هؤلاء القوم: إن السيد أحمد الرفاعي الكبير قال: إن الولي يصل

إلى درجة يقول فيها للشيء كن فيكون! (راجع صفحة 85 من كتابهم المسمى

إرشاد المسلمين) ، فناشر هذه الكتب والتعاليم، وهو الشيخ أبو الهدى أفندي،

الشهير لا شك أنه استاء مما يدعو إليه (المنار) ، فكتب إلى ابن عمه متصرف

طرابلس بدري باشا بأن يضطهد أهلينا، فاتفق مع العسكرية على إرسال إخوتي في

العسكرية، مع أنهم من طلاب العلم الذين استثناهم القانون، وأحدهم جاوز الأسنان

بهذا الاستثناء، ولم يكتفِ بهذا، بل هددهم بأكثر منه، مما لا نذكره إلا إذا وقع.

وقد علمنا من أخبار الآستانة أن سماحته عازمة على إرسال شخص من أتباعه إلى

مصر ليقتل منشئ (المنار) ، وليس هذا على أفكاره ببعيد؛ فقد كان صرَّح لمدير

الجريدة - عندما كان في الآستانة - بأنه يرسل كتابًا إلى اللورد كرومر يطلب فيه

إرسالي إلى الآستانة بالقوة، وإلا يرسل مَن يقتلني في مصر. وكأنه حسب أن

اللورد كرومر، كابن عمه بدري باشا متصرف طرابلس - يطيع أمره؛ لأنه يخدم

السفارة الإنكليزية أحيانًا، ولكن أخطأ حسبانه. أما عزمه على قتل هذا الفقير، فهو

لأجل أن يدَّعي - إذا تم له هذا - بأنه كرامة من كراماته، كما ادَّعى أن موت

المرحوم السيد جمال الدين كرامة له. {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا

وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (التوبة: 51) ، إذا تم لبدري باشا استخدام الهيئة

العسكرية في اضطهاد قومنا، فإننا نأسف على إهانة الشرف العسكري العثماني أشد

مما نأسف لإهانة أهلينا، على أننا ممن يرى العسكرية شرفًا وأن تَرَفُّعَ أهل العلم

والشرف عن خدماتها خطأ، وعائق عن ترقيها، وبلوغها الكمال، وإننا ننتظر ما

يتم في هذه المسألة، فإذا ظَلُّوا متمادين في ظلمهم؛ نكشف الستار عن مخبآتهم في

الهيئتين الملكية والعسكرية، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

_________

(1)

غافر: 28.

ص: 235

الكاتب: محمد رشيد رضا

تابع

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

هذا الاتفاق المبرم في 20 ديسمبر سنة 1881 كثير النتائج الحسنة في زيادة

مالية المملكة العثمانية، لا من حيث ما لَقِيه من الفوائد العاجلة فقط، بل من حيث

الفوائد المستقبلة التي جعلها سهلة الحصول. وقد وضعت جلالة السلطان بما عهد فيها

من الحكمة في الإرادة السنية التي صدرت بهذا الاتفاق في شهر ديسمبر سنة 1881 -

مبدأ تحويل الدَّيْن العثماني الذي وحَّده توحيدًا، كان فيه أكبر فائدة لجميع المعاملات

العامة ولمصلحة حسابات المالية. لم يتوقف وكلاء البيوت المالية بلندرة وباريس

وفينا وبرلين، وهم أصحاب الأغلبية من حاملي السندات العثمانية في قبول هذا المبدأ،

فصدرت إرادة سنية في 31 يوليه سنة 1883 بالتصديق على مشروع مجلس إدارة

الإيرادات المتنازل منها للدائنين، الخاص بتحويل الدين العمومي الذي نقص مقداره

- كما علمت - وبالتصريح بإصدار سهام جديدة.

آخر الأعمال التي حصلت في هذا الشأن بعد تاريخ صدور هذه الإرادة - كان

في 13 مايو سنة 1884 ولمَّا تعين المندوبون لمراقبة التحويل في 23 يوليه من هذه

السنة، ابتدأت الأعمال في 20 نوفمبر منها، وتَحَرَّر لإنجازها ميعاد من أول مايو

سنة 1888 إلى 13 منه. غير أن هذا التحويل - أو توحيد الدين العمومي العثماني

- إن أردت تسميته باسمه الحقيقي، لم يكن إلا مقدمة لاتفاقات أخرى كان من شأنها

- فضلاً عن استمرارها على تقليل مقدار الدين العمومي والدين الداخلي المتداول -

أن تورد للخزينة العثمانية مبالغ مهمة. كذا كان تحويل الدين الممتاز وقرض الدفاع

في 27 إبريل سنة 1890.

وصدرت إرادة سنية مقتضاها، اقتراض مبلغ 19568500 فرنك يكون

ممتاز التحويل، بفائدة أربعة في المائة، تضمنه إيرادات الدين العمومي؛ لتحويل

السندات التي فائدتها السنوية 5 في المائة الممتازة المضمونة بتلك الإيرادات، أو

تسديد قيمها تبعًا لإرادة حامليها. قُسّم هذا القرض إلى 391363 سهمًا لحاملها،

قيمة كل منها 500 فرنك، وربحه السنوي عشرون فرنكًا، تُدفع أثمانها على أقساط

متساوية في أربع وأربعين سنة، أو على ثمانٍ وثمانين سحبة، تُحصل في كل

نصف سنة منها واحدة بالقسطنطينية في شهر فبراير وأغسطس من السنة، تحت

ملاحظة مجلس إدارة الدين العمومي، والمصرف (البنك) العثماني، وربح هذه

السهام يدفع ذهبًا في كل نصف سنة، يومي 13 مارس و13 سبتمبر من السنة بمدن

باريس والقسطنطينية ولندره وبرلين وفرنكفورت وأمستردام في مكاتب المصرف

العثماني، أو مكاتب وكلائه، حُدِّد ثمن السهم من هذه السهام الجديدة بمبلغ 411 فرنكًا

وخمسين سنتمًا، من 13 مارس سنة 1890 وأعطي الحق لحاملي السندات الممتازة

التي ربحها السنوي 5 في المائة في الاشتراك بالأولوية في تلك السهام بسعر 110

فرنكات، بدون أن ينقص هذا الحق شيئًا من حقوقهم، أو أن يدفعوا في نواله شيئًا.

إن مقدار الدفعة السنوية الواجبة لحاملي السندات الممتازة التي ربحها 5 في

المائة، والتي حُدِّد لتمام سدادها سنة 1906 - كان بمقتضى اتفاق 20 ديسمبر

1880 مبلغ 537000 جنيه إنكليزي، أما السهام الجديدة، فلما كانت دفعتها

السنوية مبلغ 392000 جنيه إنكليزي فقط، فقد نتج من ذلك نقص، فيما كان يدفع

مسانهة قدره 145000 جنيه إنكليزي في السنة، خُصص لسداد (استهلاك) أربعة

أنواع الدين على نسب متساوية، إلا الأول منها، فإن ما خُصص له من هذا المبلغ

هو 10000 جنيه إنكليزي فقط.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 237

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقتطفات الأخبار

نَعى إلينا بريدُ سوريا الأخير رجلاً جليلاً من أشهر سروات طرابلس الشام

وأَمَاجِدِها، وهو الحاج عبد القادر أفندي علم الدين توفاه الله تعالى في يوم الأربعاء

الأسبق، لستٍ مضين من صفر، عن نحو ثمانين سنة. أما الرجل، فقد كان سيد

قومه، ومفخر وطنه، مشهورًا بالتقوى والصلاح، والبر والإحسان، والرفعة

والشَّمَم، والرفق والتواضع، وحسن المعاملة قضاءً واقتضاءً. وهل يسود التاجر

التجار، ويكون الوجيه في قومه محل الثقة والاعتبار، إلا بمثل هذه المزايا

والصفات؟ ! ، فنعزي آل علم الدين الكرام، بهذا الفقيد الجليل، لا سيما شقيقه

الهمام، صاحب العزة الحاج عبد الرازق أفندي أحد أعضاء محكمة الجزاء، وأنجاله

الفضلاء الذين يُحيون ذكره بغُرر خصالهم، ومحاسن أعمالهم، أحسن الله لهم العزاء،

وجزى الفقيد في مقعد الصدق خير الجزاء!

***

اجتمع مجلس النُّظَّار في يوم الأربعاء الماضي في نِظَارة الداخلية تحت رئاسة

عطوفتلو مصطفى فهمي باشا، وأهم ما قرره التصريح لشركة إنكليزية باحتكار

المِلح في القطر المصري، ولشركة طليانية بإنشاء ملاحات في بورسعيد؛ لخزن

الملح فيها. وعلى تعيين صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار

المصرية عضوًا في مجلس شورى القوانين.

وقد عَظُم على المصريين أمر احتكار المِلح، ولقد كانوا في حَرج من احتكار

الحكومة له، فكيف وقد احتكرته شركة أجنبية؟ !

***

ذكرنا في الجزء الحادي عشر، الذي صدر في 17 محرم أن الباب العالي

أَمَر سَفيريه في لندن وباريس بالاعتراض على وِفَاق النيل بين إنكلترا وفرنسا؛

لأنه مجحف بحقوقه، وقد ذَكَر المؤيد الأغر في هذه الأيام أن الباب العالي بلَّغ

الحكومة المصرية مغزى الاحتجاج، ومما جاء فيه قوله: إن الباب العالي أبلغ

الحكومة الخديوية، بأنه رأى في المعاهدات الإنكليزية الفرنساوية بشأن السودان

أخيرًا ما يخالفه مقتضى قانون حقوق الدولة العلية؛ لأنها جعلت ما وراء طرابلس

داخلاً في النفوذ الفرنساوي، مع أن المعاهدات الدولية ناطقة من قبل بأن البلاد

السودانية من أملاك الدولة العلية؛ لذلك احتج الباب العالي على ما فعلت الدولتان،

وسارت العساكر الشاهانية؛ للمحافظة على أملاك الدولة العلية وراء طرابلس؛ مما

زعم أنه داخل بمقتضى الاتفاق الأخير ضمن دائرة النفوذ الفرنساوي. وأنه صار

من واجب الحكومة الخديوية إرسال قوة (فعلية) ؛ للمحافظة على الأراضي التابعة

للخديوية المصرية، التي هي من أملاك الدولة العلية. اهـ.

***

(المطالب)

جريدة أسبوعية كانت صدرت في القاهرة، ثم أُقْفِلت، وقد أُعيدت في هذه

الأيام ثانية، على أن تصدر في أيام الجُمع والآحاد، وانتهى إلينا أن صاحبيها

الأديبين حسين بك شاكر وحسن أفندي لبيب سيسلكان بها مسلكًا خيرًا من مسلكها

الأول، حقق الله لهما الآمال ورزقهما في عملهما النجاح!

***

(انتباه)

جريدة تركية، أصدرها في القاهرة الكاتبان البارعان علي مظفربك ومحمد

توفيق أفندي، ولم نقرأها، إلا أننا نستدل من تصديرها برسم السلطان مراد على

غرض صاحبيها منها، وهنا نستلفت الأنظار إلى ما كنا كتبناه عند ذكر جريدة

(أنين مظلوم) ، من أن الطمع في إرضاء الدولة لمَن ينتقد سياستها بالمال، هو الذي

أوجب زيادة القيل والقال؛ حتى صار يتعذر التمييز بين الصادق والمحتال، وبين

طالب الإصلاح ومبتغي الأرباح.

_________

ص: 239

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌النهضة الإسلامية في مصر

قالوا: إن للأمم ثلاثة أدوار: نموٌ، ووقوفٌ، وهبوط يَتْلوه الموت، ولكن،

كيف تتكون الأمة، فتتقلب في هذه الأدوار؟

كانت الأمم تتكون بالعصبية والحرب، وتحيا بقوة الساعد، وكثرة عدد

المساعد، وأما في هذا العصر، فقد ارتقى النوع الإنساني عن أن تكون حياته بقواه

الحيوانية وكثرته العددية، وصارت حياتُه بالقوّتين: العلمية، والأدبية، وما ينشأ

عنهما من القوة الصناعية، وفي اليابان والصين آية مبصرة للناظرين. وكيف

تنهض الأمم الخاملة بالعلم، وتحيا بعد موتها بالآداب؟

يسوق الله تعالى إليها، أو ينشئ فيها أفرادًا من أصحاب العقول الكبيرة،

والهمم العالية، والفضائل السامية، تكون لهم هذه المزايا بالفطرة، فيدركون بها

علل ضعف الأمة وخمولها، وأسباب صحتها ونباهتها، ويجتهدون في نشر هذا فيها

بالتعليم الصحيح، فعندما تُُلقى هذه التعاليم في الأمة تضطرب لها - وكيف لا

يضطرب الساهي تفاجئه صيحة الحق؟ ! - ثم تقع في حيرة، لا تدري هل

الصواب بقاؤها على ما كانت عليه؟ ، وإن أُنذرت بأن فيه حينها وهلاكها، أو

الأخذ بما تُدعى إليه، وفيه مفارقة عادها ومألوفها. ثم يكون الناس أزواجًا ثلاثة:

(1)

مقاومون معاندون ينفرون عن الدعوة إلى الإصلاح باسم الدين.

(2)

مخضرمون يصيخون إلى الدعوة، فلا يعقلونها كما هي، فيكون من

أثرها فيهم: نبذ التعاليم العتيقة - حسنها وقبيحها - والاكتفاء من التعاليم الجديدة بما

لا يظهر أثره في الإصلاح؛ فيكونون بما استهانوا به، حتى من محاسن أسلافهم،

وبما عساه يوجد فيهم من المغامز الشخصية حجة للمعارضين المعاندين.

(3)

وعقلاء فضلاء يكتنهون شؤون الأمة، ويقفون على عِلَلها وأمراضها،

ولو في الجملة، ومتى أخذوا بالعمل يزدادون بصيرة وعلمًا، ولكن أشعة أفكارهم لا

تخترق حجب الأوهام الضاربة في أذهان بني وطنهم إلا رويدًا رويدًا، كما هي سُنة

الله في الإنسان، يعرج في سلاليم الترقي درجة درجة، لا أنه يطفر طفورًا.

كان مبدأ هذه النهضة في مصر رجل أعجمي الوطن، علوي النسب، وهَبَه

الله من ذكاء العقل وذكاء الفطرة، ما يندر مثله في الأجيال الكثيرة والقرون الطويلة،

إلا وهو الحكيم الإسلامي الشهير السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني، نوَّر الله

مرقده! تربّى الرجل تربية دينية، فقرأ العلوم الإسلامية - وسائلها ومقاصدها -

وبرع في الفنون العقلية، كالحكمة القديمة والكلام والأصول، ثم نظر في الفنون

الرياضية والفلسفية على طريقة أوروبا الحديثة، وسلك طريق التصوف سلوكًا كاملاً

وأضاف إلى علمه الواسع في التاريخ الاختبار بالسياحة، وعني أشد العناية

بدراسة أحوال الإسلام، وتعرف أمراض المسلمين الاجتماعية، التي أرجعتهم من

مقدمة الأمم إلى ما وراءها.. إلخ، ما هو معروف من سيرته، وقد كان وقف نفسه

على تنبيه المسلمين من غفلتهم، وإرشادهم للقيام بواجب شؤونهم؛ لكي تلحق الأمة

بالأمم العزيزة، ولكن الأمة أمست كالمريض الأحمق، يأبى الدواء ويعافه من حيث

إنه دواء! ، وقد اعتادت منذ قرون على أن لا تقبل إصلاحًا إلا إذا كان صادرًا من

جانب القوة الحاكمة؛ ولذلك لم يوجد مستبد ظالم من سلاطينها وأمرائها حاول عملاً

مضرًا وقاومته فيه، بل تستبدل المساعدة له بالمعاندة، فإذا استفتى العلماء يحرفون

له الكلم، فيفتونه، وإذا استرفد الوجهاء يبذلون له النفس والنفيس، فيرفدونه،

ولأجل هذا لجأ السيد جمال الدين إلى عالم السياسة، وحاول أن يكون الإصلاح من

جانب الملوك والأمراء؛ لتخضع له الأعناق، ويسري سريان الرياح في جميع

الآفاق. ولقد كان سَلَك في مصر طريقة الإصلاح المثلى، وهي التربية والتعليم،

فانبرى له علماء السوء الذين أظهر تقصيرهم في العلم وخطأهم في التعليم،

فوضعوا في طريقه الأشواك والعواثير، وحاربوه بسلاح الدين الذي جعلوه آلة

للدفاع، وأُحبولة للانتفاع، وذلك بأن نفثوا في رَوْع الدَّهْمَاء من الناس بأنه منحرف

عن هدْيه، وشارك بعضَ علماء السوء في مظاهرته بعض ُالمخلصين، انخداعًا لهم،

وكان لهم في ذلك شبهات ثلاث:

(أولاها) : أنه كان يعرف الفلسفة، ومتوغلاً في العلوم العقلية، وهذا النوع

من السلاح هو الذي حاربوا به أساطين الأمة من قبل، وبهذه الشبهة كفَّروا الإمام

الغزالي وأضرابه وأحرقوا كتابه (إحياء علوم الدين) في الشرق والغرب، ثم

كتبوه بعد ذلك بماء الذهب، وسَمُّوا صاحبه (حجة الإسلام) ، وكذلك

يفعلون!

(الثانية) : عدم التقيد بالعادات التي ألفوها، ولوَّنوا الكثير منها بلوَن ديني؛

فصار في نظر العامة من شعائر الدين، وهو في الحقيقة مخالفٌ لأصوله أو فروعه.

(الثالثة) : أن كثيرًا من المترددين عليه والمتلقين عنه، كانوا لا يُبَالون

بأمر الدين، وإنما كان لهم هذا من فساد تربيتهم الأولى، لا من الاجتماع به؛ إذ لم

يكن هو الذي ربَّاهم وعلَّمهم من النشأة الأولى، والرجل كان يبذل الحكمة لكل مَن

يحضر مجلسه، من بر وفاجر، ولا يمنع منه مؤمن ولا كافر، والناس معادن كل

يؤخذ ما يلائم معدنه ويناسب مشربه، والحكمة كالمطر تُلقى في أرض النفوس،

فتتكيف كل نفس منها بحسب استعدادها، كما يغتذي البِطِّيخ والحنظل النابتين في

أرض واحدة من ماء واحد، ويكون ثمر أحدهما حلو المذاق، والآخر مُرًا زعاق:

{يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ

يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4) .

كان فريق ممن يحضر مجلسه يُسيء الفهم، ويُسيء الأداء، ومنهم الذين

يلوون ألسنتهم بالكتاب ويحرفون الكلم عن مواضعه، ومنهم الذين يقولون كذبًا

ويخلقون إفكًا. وكل هذه الفرق كانت توجد في زمان الإصلاح النبوي، وإبَّان نزول

الوحي وظهور الآيات البينات. فما بالك بأتْباع غير الأنبياء ومتبوعوهم مهما

عظمت حكمتهم ضعفاء؛ لأنهم - وإن مُنحوا الحكمة - لم يؤيَّدوا بالعصمة. إنني ما

لقيت الرجل، ولكنني استقريت أنباءه وتتبعت مواقع الانتقاد عليه حتى عرفت

مثارها، ووقفت على مهب أهوائها. علمت أن بعضها كان من سوء الفهم،

وبعضها من سوء قصد الناقلين المذاعين، ألا لعنة الله على الكاذبين.

أذْكُر لسوء الفهم مثالاً واحدًا، قال لي منتقد من أهل العلم: إنني حضرت

مجلس السيد جمال الدين حتى نهانا عن الصلاة في يوم من الأيام، فانقطعت عنه!

فقلت له: كيف كانت القصة؟ وهل نهاكم عن الصلاة نهيًا صريحًا بأن قال: لا حاجة

إلى الصلاة، أو لا تصلوا؟ ! فقال: لا وإنما تكلم عن الصلاة كلامًا أبان فيه عن

أن صلاتنا لا يعبأ اللهُ تعالى بها، ولا يقبلها بأن قال - ما ملخصه -: إن الأعمال

الظاهرة في الصلاة، كالركوع والسجود، هي كأعضاء الجسم والإنسان، ليس

إنسانًا بأعضاء جسمه، وإنما هو إنسان بروحه ونفسه، وروح الصلاة الشعور

بعظمة الله تعالى وكمال سلطانه فيها، وتدبر ما يُتلى من القرآن والذكر المعبر عن

ذلك بالخشوع. قال محدثي: وإذا كانت صلاتنا ليست على هذا الوجه الذي لا

يرضى الله تعالى إلا به، فلا شك أنه يعني بأن الأوْلى تركها، مع أن قصارى ما

قاله فقهاؤنا: إن الخشوع مستحب أو مسنون. فقلت له: يا أستاذ، إن الذي قاله

الرجل موافق للقرآن والأحاديث الصحيحة، وقد فصَّل الكلام فيه علماء الآخرة الذين

بيَّنوا للناس ما يقربهم من الله، وما يبعدهم عن رضوانه، كالإمام الغزالي في

(الإحياء) ، أما الشرنبلالية، والولوالجية، والتتارخانية، ونحوها من كتب الفقهاء

فإنما وُضعت لضبط الأعمال الظاهرة، وهلَاّ حملت قول السيد على طلب الخشوع

الذي أناط الله تعالى به الفلاح في كتابه دون الحمل على ترك الصلاة بالمرة، فرجع

الرجل إلى قولي وكان منصفًا، فلو أنني أخذت منه القول الأول على غرّة وأذعته،

كما هو دأب الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا - لما تعديت في ذلك ما

عليه الدهماء مِنَّا، ولقد وقع لتلامذة المرحوم السيد جمال الدين كثير من أمثال هذا،

لا سيما في المسائل الفلسفية الغامضة ونسبتها للدين.

أما سوء القصد وما يتبعه من الكذب والافتراء، فلا تسلْ عن حال أهله مع

المصلحين، لا سيما في مثل الدَّور الذي فيه أمتنا اليوم من الضعف والاضمحلال

وفساد الأخلاق. وأعجب ما سُمع فيه أن بعض علماء السوء والفتنة أشاع بين الناس

في العام الماضي بأن فلانًا من العلماء أنكر وحدانية الله، وبعضهم قال: أنكر

وجوده إنكارًا صريحًا على ملأ من العلماء والطلاب في الجامع الأزهر، ومع أن

هذا غير معقول - وأين من يعقل؟ ! - أن يصدر ممن له أدنى تمييز، وإن كان

فاسد الاعتقاد؛ فإن كتاب ذلك العالم الذي كان يقرؤه في التوحيد بين الأيدي، وفيه

أقوى البراهين العقلية على وجود الله تعالى ووحدانيته، وهو من تأليفه، ولكن ماذا

تقول فيمن سَفِه نفسه واستخف عقولَ الناس، ولم يراقب الله تعالى، فحمله إغواء

شياطينه على ذلك البهتان العظيم، فنزل به - ثم بمستشاره - الجزاء الأليم. لقد

جمح القلم في بيان ما يعرض للإصلاح من العلل، فلنرجع إلى ما كنا فيه.

قلنا: إن الحكمة كالمطر، يأخذ كل أحد منها ما يلائم تربيته، وقد كان عدد

الذين اتصلوا بالسيد جمال الدين من المشتغلين بالعلوم الدينية - قليلاً؛ بسبب تنفير

الشيوخ عن حضور مجلسه لما علمت؛ ولذلك ظهرت النهضة القلمية في لابسي

الطرابيش أكثر من لابسي العمائم، وكان عدد الذين يسعون في إصلاح العلم والتعليم

الديني قليلين. وكما أننا في حاجة شديدة لرجال الأقلام الذين يجيدون الكتابة في

جميع المواضيع، لا سيما في الفنون العصرية التي عليها مدار التقدم الدنيوي -

كذلك نحن في أشد الحاجة لقوم يفهمون الدين على حقيقته التي ساد وسعد بها سلفنا

الصالح، وشَقي واستُعبِد بجهلها خلفُنا الطَّالح، إلى قوم يفهمونه ويحسنون تلْقينه

وتعليمه، فيأخذون بما ينبغي، وهو اللباب الخالص، ويلقون ما أُلحق به وتغلغل

في كتبه مما ليس منه، ولكنه صار حائلاً دون فهمه وتعلمه. ولقد كانت عناية السيد

رحمه الله بهذا النوع من إصلاح العلم والتعليم، أشد من غيره، ولكنه لم يجد

من المستمعين له إلا قليلاً، والكرام - كما قالوا: - قليل.

أمثل مَن اتّصل بالسيد مِن الذين تربَّوا في مهد الدين - علمًا وعملاً - العلَاّمة

المِفضال الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية لهذا العهد، وهو الرجل المفرد

الذي تُشبه فطرته الزكية فطرة السيد جمال الدين، وتُماثِل تربيتُهُ تربيتَهُ، حتى في

سلوك طريقة التصوف سلوكًا كاملاً. ولقد كان قبل معرفة السيد زيته صافيًا، يكاد

يضيء ولو لم تمسسه نار، فمسَّته بالاتصال به نار غيرته وحكمته، فاشتعل نورًا

على نور. ووقف على نتيجة أبحاثه واختباره الطويل في الإصلاح الإسلامي، بل

والشرقي أيضًا، وعومل من الشيوخ الذين يخافون أن يُظهر الإصلاح العلمي

تقصيرَهم في العلم أو التعليم - بمثل ما عومل به سابقًا؛ حتى لم يكن بينه وبين

معهد التعليم الإسلامي في (الأزهر) اتصال قبل هذه السنين الأخيرة؛ وسبب ذلك

وشايات الشيوخ به للخديوِ السابق، وتنفيرهم طلاب العلم عنه، بأنه فيلسوف يُخشى

من فلسفته على دينهم، وكأن هؤلاء لا ثقة لهم بدينهم؛ لأنهم ليسوا على بينة منه،

فيخافون من كل شبهة أن تأتي على زلزاله، أو زواله، والموقِنُ بالشيء لا يتوقع

ولا يتصور زواله، ومن لا يكون موقنًا لا يكون مؤمنًا.

ولقد بقي لهذا الوهم بقية في نفوس بعض طلاب العلم في الأزهر إلى السنة

الماضية، فكانوا عندما قرأ الأستاذ رسالته في التوحيد يتوقعون أن يأتي بمسائل

الخلاف بين الفلاسفة والمسلمين، ويُرَجِّح أدلة الأوّلين، فلما رأوه قد سلك في العقيدة

مسلك السلف؛ اطمأنت قلوبهم وزايلتهم أوهامهم.

تلك الدسائس والوساوس هي التي حرّمت الترقي على الأزهر في السنين

الخالية، وانحصر سعي الأستاذ في الطباعة زمنًا - قبل الفتنة العرابية - فكان له

أثر عظيم في النهضة القلمية وفي القضاء زمنًا آخر، والعهد به قريب، وقد كان

للمتصلين به في كل طور من الأطوار، وكل زمن من الأزمان أثر ظاهر في

النهضة الحاضرة، بحسب معارفهم وبيئتهم (حالهم ومحلهم) ، انظرْ تَرَ القضاة

الثلاثة: سعد بك زغلول وأخوه فتحي بك وقاسم بك أمين - وهم الذين يفتخر بهم

القطر المصري، وبمثلهم يصِحُّ له الاحتجاج بأن المصريين أهلٌٌ لأن يَحْكُموا أنفسهم

بأنفسهم، هم من أخصّاء الأستاذ والمتلقين عنه.

تَعَلَّم كثيرٌ من المصريين في مدارس أوروبا، كما تعلم قاسم بك وفتحي بك،

ولكن لم نرَ واحدًا منهم يشغل أوقات فراغه بالتأليف والترجمة للكتب النفيسة التي

يحتاج إليها الوطن في رُقيّه، كما هو شأن هذين الفاضلين. هل يوجد بين أيدينا من

الكتب النافعة لنا في نهضتنا الدينية والدنيوية - (كرسالة التوحيد) للأستاذ، وكتاب

(تحرير المرأة) لقاسم بك وكتاب (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) ، الذي ترجمه

حديثًا فتحي بك، وهو أَفْيَد كتاب أُلِّف في أوروبا في التربية والتعليم؟ كلا. إنه

يوجد كثير من المصريين لا يعرفون قيمة هذه الكتب، وآخرون لا يرفعونها إلى

مكانتها من الاعتبار التي تستحقها؛ لأغراض معلومة، وأمراض غير مجهولة،

ولكن سيأتي على مصر زمان تُجعل فيها دراسة هذه الكتب ضربة لازب، ويجزم

كل من يكتب في تاريخ مصر، بأن هذه الكتب كانت من أنفذ عوامل النهضة

الأخيرة، وأقوى أركانها (كما اعترف الذين كتبوا في ذلك كجرجي أفندي زيدان،

بأن السيد كان مبدأ هذه النهضة) ، وكما يجزمون بهذا يجزمون بأن هذه الكتب

الكثيرة التي وُضعت للبحث في ألفاظ الكتب وأساليبها، كانت عثرات في طريق العلم

بل وفي فهم تلك الكتب نفسها، وسدود أمام الترقي، وإن كانت ألقاب مؤلفيها

ضخمة، ونعوتهم كبيرة.

إن جهل الأمة هو الذي شبّه عليها النافع بالضار، وقد طفقت تتنبَّه إلى

مصالحها، وتخرج من مضيق الغرور والانخداع باللبوس والنعوت والألقاب، وهذه

حركة طبيعية اقتضتها سُنة الله في رقي الأمم، فمقاومتها جهلٌ وغرور؛ لذلك نرجو

من علمائنا العقلاء أن يسايروها ويساعدوها، لا أن يقاوموها ويعادوها، وأن يجعلوا

الحق ميزان الأعمال؛ إذ الرجال تُعرف بالحق، لا الحق يُعرف بالرجال.

_________

ص: 242

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

‌استنهاض همم

(9)

لا يُحَدِّث مُحَدِّثٌ عن النزاع بين إنكلترا والروسيا في أواسط آسيا إلا وتتمثل

في مخيِّلة السامع صورة بِرَاز بين إنكليزي وروسي على ذروة جبل هندكوش،

أحدهما: مهاجم، والآخر: مدافع، يتساوران ويتواثبان، وينتطحان انتطاح الكباش،

ولا يمكننا الجزم والحكم بفلج واحد منهما بعينه وإخفاق الآخر؛ لأن عند كل واحدة

من الأمتين الإنكليزية والروسية من وسائل النصرة والفلج، وذرائع الغلبة والدفاع ما

يوجد مثله، أو ما يحاكيه عند الأمة الأخرى.

ربما يحكم حاكم - ذهابًا مع الوهم - بأن النصرة ستكون للروسية، لما أن

الحرب تنتشب بين الدولتين برية، وقد لا يتخللها عمل بحري قط، فقوة إنكلترا

البحرية - التي توازن قوة روسيا البرية - لا نجدة تُرتجَى منها في تلك الحرب،

وأَحَجَّ بأن يصح هذا الوهم (أي: ما أحجاه وأحراه بالصحة) لو لم تكن إنكلترا قد

تداركت أمرها، وأعتدت لدفع ذلك الخطر قوة أدبية منبثّة في البلاد الهندية انبثاث

الهباء في الهواء، تؤيد بها قوتها البرية الثانوية، فتقويان معًا على مقاومة القوة

الروسية. ذلك أن الشعب الإنكليزي قد امتزج بمعظم الشعب الهندي امتزاجًا تامًا،

وقد سعت إنكلترا في أحكام هذا الامتزاج منذ قوي نفوذها ثمة، فمدت شوابك الألفة

والوحدة الأدبية بين القبيلين، ومهدت للشعب الهندي سبل تعلم اللغة، حتى كاد

تعلمها ينطوي تحت الفرائض الدينية. واللغة كما لا يغرب عن فهم اللبيب مناط

الجنسية، أو هي الإكسير السياسي تحوِّل أخلاق الشعب وآدابه وعاداته وعواطفه،

بل وتعاليم دينه إلى أخلاق الشعب المتغلّب الذي تعلمت لغته وإلى آدابه وعاداته

وعواطفه وتعاليم دينه، فضلاً عن أن إنكلترا ضمَّت إلى تعليم لغتها، تعليم سائر

العلوم والفنون العصرية، وتخيرت أمثل الوسائل وأقرب الطرائق لبلوغ غايتها من

قلب الشعب الهندي إلى شعب إنكليزي [1] حتى إنها طمعت بما لم يطمع به إلا أبو

مرة من العبث بعقائد المسلمين، واستلانة عرائك المستضعفين منهم، فبثّت بينهم

مبادئ التعطيل، وتعاليم الإلحاد والكفر (النيشرية) ، وأقامت لها دعاة من أنفس

المسلمين ممن استذلهم الشيطان واستهواهم الغرور، وهذا وإن يظهر له أثر في

الآباء، يوشك أن يلصق من لوثه بنفوس خلائفهم وأنسالهم، فليتقِ مسلمو الهند شرَّ

ذلك بنشر التعاليم الدينية، وتخريج أحداثهم ونشئهم على آدابها وعقائدها؛ حتى

ترسخ في نفوسهم وتقيها من ذلك اللوث والطبع. بتعليم أبنائنا لغتَهم ودينهم نصون

أمتنا، ونحمي استقلالها الجنسي من الزوال إلى الأبد؛ بذلك نحارب أوروبا

ونعترض في طريق أطماعها، بتلك القوة الأدبية نقاوم قوتها، ونفل غرب عاديتها.

لا يتخيلنَّ أحدٌّ أن الحرب أو الثورة ضد الأمة المتغلبة هي التي تحرر الشعب

الضعيف وتفتكه من عقال سلطتها وتعيد إليه استقلاله.

ربما كان الهرج والشغْب من أنفذ العوامل في تضاؤل الشعب وتوهين قوته،

وتمكين يد المتغلب من عنقه. حملوا علينا بسلاح علومهم ولغاتهم وآدابهم،

فلنتحصن منهم بمثل تلك القوى، ولنحمل على أيدينا تعاليمنا وآدابنا، وننشر ذلك

بين أبناء ملتنا. لنأخذ بحُجَز أطفالنا عن الوقوع في أسر العدو الأسر الأعظم،

والاندماج في جنسيته والتحول إلى طينته. بعيني رأيت شابًا هنديًا مسلمًا رثََّ الهيئة

يلبث الخلقان والأسمال، وعلى رأسه كمة بالية، دأبه السياحة ومواصلة الرحلة -

وكل هذا منه على سبيل الزهادة ومحاكاة أهل الرياضة - درس العلوم في المدارس

الإنكليزية العالية، وهو يتكلم بالإنكليزية كأحسن متكلم من أهلها، وقد ترشَّح في

تلك المدارس، وتثقَّف عقلُه بعلومها وفنونها، ووقف على دقائقها ونتائج أبحاثها، لا

سيما العلوم الفلسفية والطبيعية. حدثني مَن باحثَه أنه أدهشه بسعة اطلاعه وغزارة

مادته، كان لا يسلك معه مجهلة من مجاهل تلك العلوم إلا ووجده خِرّيتها، ولا هوى

به من هوة عن الدقائق الفلسفية إلا وألفاه عِفريتها، ومما حكى عنه - وهو معجب

بفرط ذكائه - أنه يشرح ما حققه الفلاسفة الطبيعيون في أبحاثهم العصرية المتأخرة

شرحًا يخيل للسامع أن ذلك الشاب هو الذي وضع تلك الأبحاث واستنبط نتائجها،

لكنه - واخيبتاه! - لا يعلم من الإسلامية إلا اسمها، ولا يحفظ من تعاليمها سوى

فاتحة كتابها! . رجوت محدثي عنه أن يجمعني به ومُذْ وقع طرفي عليه تمثلت

لمخيلتي الأطوار الشرقية ملتفة بالغواشي الغربية، رأيت في يده أنبوبة يدخن بها

ويعَض عليها مثلما يفعل أصحابه الإنكليز، فكلمته بالعربية فإذا هو لا يعلم منها

سوى بضع كلمات، واستنطقته بواسطة ثالثنا عن بعض شؤون إسلامية فألفيته خالي

الذهن من أمر الدين، لا يهمه شأنه، ولمَّا سألته عن معلوماته الدينية، قال: إنه

يحفظ الفاتحة! قلت: اقرأها فتلكأ أولاً، ثم مضى في قراءتها على غير سداد،

فأطرقت حينئذ إلى الأرض واجمًا راثيًا لحال الأمة التي يستولي عليها الأجنبي، ثم

حوقلت وانصرفت.

وبالجملة، إن إنكلترا طمعت في ركس (قلب) كل شأن من شؤون الهند

ومسخه وتغييره، سوى تغيير اللون النُّحاسي الهندي إلى اللون الأبيض الإنكليزي.

وما يدرينا أنهم لا يطمعون بذلك أيضًا. علَّهم يلقون على الشعوب الهندية نظامًا عامًّا

يقضي بأن لا يتزوج الهندي النحاسي إلا بأوروبية بيضاء، والأوروبي إلا بهندية،

وهكذا دهرًا طويلاً، فيقاومون بذلك طبيعة الإقليم [2] ويستولدون شعبًا خِلاسيًا [3]

أبيض اللون مكونًا من الشعبين، اللهم غفرًا! .

ولم تألُ الحكومة الإنكليزية جهدًا بمد رواق العدالة والحرية والأمن فوق

الشعوب الهندية، وقد تحبّبت إليهم بما يملكها أزِمَّة أميالهم وعواطفهم، وأمتن آخية

وثقت بها سلطتها في الهند، وأشدها أحكامًا ما فعلته من مزج مالية الشعب الهندي

بمالية الشعب الإنكليزي، وأودعت تلك الأموال في المصارف الإنكليزية في جزائر

بريطانيا، ووحدت بذلك مصالح الشعبين العامة، بحيث تكونت مشروعاتهم الكبرى

وشركاتهم التجارية برجال القبيلين وأموالهم، ثم أخذت تشرف من وراء ذلك على

مجاري تلك الأعمال وجداول هاتيك الأموال، وتجتني لنفسها من كل ذلك ثمرات

سياسية وأدبية قلما يوفق لاجتنائها أحد غير الإنكليز. وقد مضى على إنكلترا في شد

تلك العُرَى والأواخي وتوثيقها سنون وأعوام، وهي لا تزال تواصل العمل في أمثال

ذلك ما واتاها الدهر، وهو مواتٍ. فهل بعد ذلك يجزم جازم بأن روسيا تطرد

إنكلترا من الهند وتقلص ظلال سلطتها عنها؟ ! ، والسداد في الرأي التوقف كما

توقفنا، وترك أمر الغيب إلى مَن تفرَّد بعلمه سبحانه وتعالى.

وكيفما كان الأمر، فالأحجى بالحكومتين - الأفغانية والفرنسية - أن تكونا

على حذر ويقظة من شَرِّ الدولتين اللّتين تتربصان بهما الدوائر، وتنتهزا فرصة

الشِقاق بين تلك الدولتين، فتبادرا لرتق الفتق قبل اتساعه، ومواساة العِلَّة قبل

استحكامها، وتسارعا لعقد حلاف بينهما، وشدّ عروة وِفَاق تصونان به أمتهما

ودينهما من الضياع، وتمد أيديهما إلى الحكومة العثمانية، فهي-إن شاء الله تعالى-

تلبيهما كما تلبي الجميع الحكومة المراكشية، فتتم للإسلام وحدة مقدسة؛ يُصان

بها شرفه، وتُحمَى حقيقته.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: لو كان هذا صحيحًا؛ لنجح الهنديون في دنياهم نجاحًا باهرًا، لكن قصارى ما فعل الإنكليز أنهم لم يجعلوا للهند ملجأً سوى إنكلترا.

(2)

المنار: لو حصل هذا لكانت الغلبة لطبيعة الإقليم، ولَتحوَّل الأوروبيون إلى اللون النحاسي دون العكس، ولكن من أين للأوروبيين بمئات الملايين، فيتزاوجون مع الهنديين؟ ! .

(3)

بكسر الخاء: الولد بين أبوين أبيض وأسود، والديك بين دجاجتين هندية وفارسية.

ص: 249

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إزالة شبهة

تُعرف أغراض الجرائد ومقاصدها من مجموع كلامها في الأعداد الكثيرة، ولا

يصِح الحكم على مقصد جريدة بجملة واحدة، يظهر أنها ترمي إلى غرض ما؛ لا

سيما إذا عُهِد منها في الكلام الكثير، تسديد سهامها إلى خلاف ذلك الغرض، أو إلى

ما وراءه، وإنما أصابه السهم؛ لأنه عرض في طريقه. ويعلم جميع قرَّاء (المنار)

أننا في مجموع كلامنا لم نخطئ الغرض الذي وضعناه له في العدد الأول وهو قولنا:

(وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين، لا التحامل على الأمراء

والسلاطين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، لا الاعتراض على القضاة

والقانون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة

في الأعمال النافعة، وطروق أبواب الكَسْب والاقتصاد، وشرح الدخائل التي

مازجت عقائد الأمة.. .) ، إلى أن قلنا: (.. . وتنبيه العثمانيين على أن الشركات

المالية هي مصدر العمران وينبوع العرفان، وأن عليها مدار تقدم أوروبا في الفنون

والصنائع، لا على الملوك والأمراء..) إلخ إلخ.

وقد بيَّنا في أعداد كثيرة من السنة الأولى والثانية، بأن الأمم الشرقية أو

الإسلامية إذا لم تعتمد في تقدمها على أنفسها - لا على حكومتها - فإنها لا تنهض

من هذا الحضيض إلى أبد الأبيد. ولما كان الإجمال قلَّما ينبه الغافل، والهمس لا

يكاد يوقظ النائم المستغرق، صرَّحنا بهذه النصيحة بصوت عالٍ غير مرة. وأشد

صيحة أزعجت السامعين قولنا - في العدد الحادي عشر من هذه السنة -: (إن

أمام المصريين وسائر المسلمين سدًا منيعًا من الوهم، يحول بينهم وبين السير في

طريق الترقي، فإذا استطاعوا أن يَظهروه أو ينقِّبوه - ولا أقول أن يدكوه - يتسنى

لهم الإيجاف والإيضاع في ذلك المنهاج الواضح، والمهيع الواسع، وأن ذلك السد

هو الاعتماد على دولهم وحكوماتهم التي أمست أغلالاً في أعناقهم، وسلاسل في

أيديهم، وقيودًا في أرجلهم، وغشاوة على أبصارهم، ووقرًا في أسماعهم، ورَينًا

على قلوبهم.. .) إلخ. ثم تعجبنا من كون المسلمين الذين أظلتهم الأجانب يطمعون

بأن يكون ترقّيهم على يد الدولة العلية مع أنه من الجهالة والحمق أن يعتمد

العثمانيون أنفسهم في ترقيهم على الدولة من دون أنفسهم ما بالك بغيرهم؟ ! ولكن

بعض الذين تمكّنت السلاسل والأغلال والقيود من أعناقهم، وأيديهم وأرجلهم،

وتكاثفت الغشاوة على أبصارهم، وقوي الوقر في أسماعهم، وغلب الرين على

قلوبهم - سلقونا بألسنة حداد؛ لأننا نَهينا مسلمي الهند والجاوه وأمثالهم عن الاعتماد

على الدولة العثمانية، وأراهم سوءُ الفهم أن هذا ينافي ما ندعو إليه في (المنار)

من ارتباط المسلمين بعضهم ببعض بجميع أقطار الأرض. ولو كان المعترِض

صادقًا في حب المصلحة الإسلامية؛ لكتب إلينا حيث كان بعيدًا عنّا بما يراه

صوابًا؛ لأننا قلنا - في المقالة التي ذكرنا فيها ما مرّ - إنه اعتقادنا: (ومن

بيَّن لنا بالبرهان أننا مخطئون، فإننا نرجع إلى رأيه) وكذلك فَعَل بعضُ

المخلصين من المصريين ذاكرنا وفهم قصدنا تمامًا.

ومن البلاء على المسلمين أن كل إنسان يدعي كمال الفهم في علم الاجتماع

الإنساني، والمعرفة بأسباب ترقي الأمم وتدلِّيها، لا سيما إن كان لديه شيء من

الوساوس السياسية التي يتلقفها من الجرائد، ونرجو أن تزول هذه الأوهام بانتشار

علم الاجتماع في الكتب النافعة والجرائد الصادقة. وعسى أن يَعُمّ انتشار كتاب

(سر تقدم الإنكليز) الذي طُبع حديثًا، فيفهم المسلمون أن اعتماد الأمة على

الحكومات القوية المرتقبة - كفرنسا وألمانيا - فيه خطر على مستقبلها، فضلاً عن

الحكومات الضعيفة، فضلاً عن اعتماد الشعوب على الحكومات التي لا تحكمها،

وأن مستقبل السيادة إنما هو للشعوب التي يعتمد أفرادها في سعادتهم على أنفسهم

وعلى سعيهم وجدّهم، وإلى الله تصير الأمور.

_________

ص: 253

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اختبار علم كل عارف

من ألباء أرباب المعارف

جاءنا تحت هذا العنوان، السؤال المنظوم الآتي وما يتلوه من الذيل المنثور

من حضرة الأستاذ العلامة الفاضل الذي انتهت إليه الرئاسة في علوم الحديث واللغة

وآدابها في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي فنشرناه شاكرين له فضله

وهو:

بسم الله الرحمن الرحيم

أسائلكم أهل المعارف من عل

إلى السفل والنحرير ينسى ويذهل

فعمّ السؤال العرب والعجم كلهم

وخص النصارى ذا السؤال المفصل

عن اسمين مشهورين شرقًا ومغربًا

أتى بهما الخنذيذ الاخطل دوبل

أبو مالك القس النزاري نسبة

ربيب النصارى الراهب المتبتل

أتى بهشام ثم بعدُ بنوفل

خلال مديح خالد ليس يجهل

مديح فتى الأعياص خالد مدحه

فنِعم الفتى يرجى ونعم المؤمل

فأدرج ذين ضمن بيت مهذب

يقر له بالحسن مَن كان يعقل

(أمية والعاصي وإن يدع خالد

يجبه هشام للفعال ونوفل)

فمن نوفل بل من هشام وما هما

أشخصان أم جنسان؟ عن ذاك أسأل

مجاز هما أم في المديح حقيقة

ألا فليُجب منكم عليم مبجل

فمَن كان نحريرًا أجاب مبيّنًا

براهين من علم له فيبجَّل

ومن كان ضِلِّيلاً أجاب مموهًا

أباطيل من جهل به فيجهل

وقال الرسول: حدثوني بعد ما

على صحبه ألقي سؤالاً، فأجبلوا

سوى ابن أبي حفص الكبير صغيرهم

درى، وحياء لم يجب حين هلّلوا

وقالوا لِخَير الخلق: ما هي؟ أفتِنا؟

وكل امرئ لم يدرِ، يعنو ويسأل

فقال النبي المصطفى: النخلة التي

لها شبه بالمسلم، القلب مسجل

وذا في حديث الجامع الفرد عندنا

عليه اتفاق في الصحيح المعول

فهذا الذي سَنَّ الرسول محمد

لنا؛ لاختبار العلم شرواه نفعل

وأنشأ ذاكم؛ لاختبار علومكم

محمد محمود الأغرّ المحجل

وسَمَّيت هذا السؤال: (اختبار علم كل عارف من ألباء أرباب المعارف) .

وعَمَّمت ُأهل المعارف من العرب والعجم؛ لعلمي بأن الله عز وجل لم يحصر

العلم في أحد الفريقين دون الآخر، بل أعطى كل عبد من عباده قِسطه منه، لكنه

فضَّل بعضهم على بعض في العلم، تفضيله بعضهم على بعض في الرزق، والعلم

أفضل الرزق؛ لأنه يُعلم به أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والسبب الحامل

على إنشاء هذا السؤال: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، عملاً بما في

باب طرح الإمام المسألة على أصحابه؛ ليختبر ما عندهم من العلم من كتاب الجامع

الصحيح للإمام البخاري، وذلك الحديث من مكرراته المفيدة، والحامل على

تخصيص النصارى بعض التعميم أمور: أولها: كونهم أكثر جنسهم مشاركة للعرب

في لغتهم من زمن الجاهلية، وهلمّ جرّا، ثانيها: كونهم أقرب الناس مودة للمؤمنين،

ثالثها: شدة اعتناء كثير منهم في هذا العصر بتعاطي لغة العرب ووضع التآليف

فيها، رابعها: كون نصارى بيروت هم الذين رفعوا ديوان الأخطل هذا - بطبعهم

إياه - من حضيض العدم إلى أعلى طود الوجود، فلهُم بذلك الفضل على غيرهم،

والحق يقال.

_________

ص: 254

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌وفاة

نَعَتْ إلينا أخبارُ وطننا (طرابلس الشام) صديقنا الشاب الأديب، وغصن

الكمال الرطيب توفيق أفندي نجل عين الأعيان صاحب الفضيلة شنبور زاده عبد

الحميد أفندي العضو العامل في مجلس إدارة طرابلس، فنعزي فضيلة والده، وآله

بهذا المُصاب الذي أحزن القلوب وأبكى العيون.

{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156)

***

تخطئة

أسندت جريدة (انتباه) التركية الجديدة - في عددها الأول - جملة إلى (المنار)

تتعلق بجلالة مولانا السلطان الأعظم، و (المنار) بريء منها، فننبه القرَّاء إلى

ذلك.

_________

ص: 256

الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول

كان يا ما كان

ذكرى تمثل إعراض الناس عن أسباب سعادتهم، وضعها في سمط الأساطير

الخرافية التي كان يعتقدها قدماء اليونان المرحوم عالي بك أحد مشاهير كُتاب

الأتراك، فهي جد في قالب هزل، وموعظة في ثوب فكاهة، وقد نقلناها عن

ترجمة الكاتب البارع عمر خيري أفندي زغلول بتصرف كثير وهي:

سنح في خاطر (جوبيتر) الذي كان أكبر المعبودات عند اليونانيين الأولين

أن يجعل الناس كلهم سعداء، ويفيض عليهم الخيرات والبركات، فكاشف بما في

ضميره مستشاريه (نبتون) إله البحر و (بلوطون) إله الجنة، فأظهرا الدهشة

والإعجاب، واستهزآ بفكر مولاهما، ونسباه في أنفسهما إلى أفِن الرأي وسوء

التدبير.

ولقد كان هذا المعبود لا يتوانى في تنفيذ ما يعن له من الخواطر، ولا يتقاعد

عن إخراج مقاصده من القول إلى الفعل، وإن كانت من المستحيلات العادية تفكر

مليًا في هذا الأمر، ثم وجه نظره إلى السماء وحدّق إلى الكواكب السبعة السيارة؛

فتراءى له أن يعهد إليها بتنفيذ إرادته، فأمرها بالاجتماع في مكان واحد، فاجتمعت

فلما رأى أهل الأرض السيارات مجتمعات أخذتهم الحيرة، وشخصوا بأبصارهم إلى

السماء ذاهلين، وطفق المنجمون يخرصون ويخدعون الناس بأن هذا الاجتماع

المدهش علامة على قيام الساعة. ولما اجتمعت السيارات عند المعبود الأكبر دارت

بينهن وبينه هذه المحاورة.

السيارات: ها نحن أولاء قد جئناك - يا مولانا - فمُرنا بما تريد.

جوبيتر: عليكن بتجهيز أنفسكن للسفر، فقد اقتضت إرادتي أن تذهبن

إلى السياحة على سطح الأرض، فقد جعلت لكل منكن دينارًا للنفقة في كل

يوم.

السيارات: ما هو العمل الذي انتُدِبنا له، والخدمة التي سنؤديها؟

جوبيتر: قد ارتأيت أن أجعل الناس ناعمي البال، رافِلين في حُلل السعادة

والهناء، ورأيت من الصواب أن أبيعهم أسباب السعادة بيعًا؛ لأنني إذا أنعمت بها

عليهم إنعامًا بغير مقابل يستهينون بها؛ إذ لا يعرفون قيمتها، ولا يقدرونها حق

قدرها.

السيارات: سمعنا وأطعنا، فما هي بضاعتنا التي سنبيعها؟

جوبيتر: قفن أمامي صفًا، ثم امررن واحدة واحدة.

فامتثلن أمره ولما مرّت الأولى قال لها: أنتِ تبيعين (الذكاء والفَطانة) ، وقال

للثانية: وأنتِ تبيعين (العفة والاستقامة)، وقال للثالثة: وأنتِ تبيعين (الصحة

والعافية) ، وللرابعة: وأنتِ تبيعين (طول العمر)، وللخامسة:(الشرف والجاه) ،

وللسادسة: (الصفاء والمسرة)، وللسابعة:(النقود والثروة) .

هذه الأشياء هي أسباب السعادة، ولا تتم للناس السعادة التي يطلبونها من

معبوداتهم في صلاتهم ومناجاتهم إلا بها، فعليكن - أيتها السيارات - بالجد

والاجتهاد في بيعها منهم؛ ليتمتعوا بالسعادة التي يطلبونها، وينجون من الشقاء

المحدق بهم، الذاهب بهنائهم ورفاهتهم. ولقد كان المعبود الأكبر يُشرف على

السيارات بالأمر والإرشاد، ويَدُلُّهن على طرق السعادة، والمعبودان (نبتون) ،

و (بلوطون) يستهزآن بهذا الرأي المأفون، ويقولان بلسان الاستغراب: إن هذا لشيء

عُجاب، وبعد أن تجهزت السيارات للرحلة الأرضية، وأحضرن بضاعتهن

السماوية في صناديق بديعة الصنع محكمة الوضع، هبطن إلى العوالم السفلية،

فكان نزولهن في عاصمة من عواصم الممالك الشرقية، فطفقت السيارة الأولى تنادي

بأعلى صوتها في الأسواق والشوارع (ذكاء وفطانة للبيع، ذكاء وفطانة طرية عال

هل من راغب، هل من مريد؟!) فأقبل الناس إليه يزفون، من كل حدب ينسلون

فاختلفت فيها الأقوال لاختلاف الوجدان والانفعال، فقال أصحاب الجرائد والمؤرخون

ومؤلفو الروايات والممثلون: هل جُنَّّت هذه الفتاة، أم غلبت على بائعة الفطانة بلادة

الحيوانات؟ ! وقال الشبان - الذين شاهدوا جمالها الرائع -: بئس المبيع وحبذا

البائع؛ فتاة حسناء، وغادة هيفاء، لكننا نغازلها باللحاظ، فلا تدير إلينا طرفًا،

ونناديها بأرق الألفاظ فلا نسمع منها حرفًا، فالظاهر أنها مملوءة بالتعصب،

وذلك مما يوجب التأسف والتعجب، وقالت النساء: لا شك أن هذه الفتاة مختلة

الشعور؛ حيث جاءت بهذه البضاعة التي تكسد في كل مكان وتبور، ولولا نقص

عقلها لعلمت أننا لا حاجة لنا بالذكاء والفطانة، ولا بالعقل والرصانة، فإن عندنا

الأنسجة الحريرية، والحلي الذهبية والجوهرية، وهل تستلفت الفتاة أنظار الشبان

بالفطنة وذكاء الجَنان، أم بالحرير ذي اللمعان والألماس واللؤلؤ والمرجان؟!

وقد أجمعت الآراء على أن تلك السيارة ستموت جوعًا إذا بقيت في تلك

العاصمة؛ لأنه لا يوجد فيها من يرغب في بضاعتها، وبعدما ملت من الجولان،

وتعبت منها القدمان، رأت بابًا مفتوحًا وعليها أمرة (يفطة) أميرية، مكتوب عليها

(نِظَارة المعارف العمومية)، فقالت: ما أحوج أهل هذه الصناعة إلى ما عندي من

البضاعة، فههنا يحصل الرواج، وأُقابَل بالترحاب والابتهاج، ودخلت الباب مع

الداخلين، وترددت فيه ذات الشمال وذات اليمين، وأنشأت تنادي بصوت يقرع

جميع الآذان، ويستلفت كل ذي جَنان، فأثار نداؤها غضب الرئيس والأعضاء،

وقالوا: ما لنا وللفطانة وللذكاء! ، ثم قرروا - باتفاق الآراء - طرد السيارة من

تلك البطحاء، وصدر أمر الرئيس للحُجَّاب، الذين يقفون خارج الباب، بأن يمنعوا

بائعي الأشياء التي لا تنبغي للمجلس من الدخول، وأنه لا عذر لهم - في إدخالها -

مقبول، فخرجت السيارة تمشي على استحياء، يتنازعها عاملا اليأس والرجاء، ثم

رأت من الحزم تغليب عامل الأمل؛ لأنه لا ينجح بدونه عمل، وقالت: بالصبر

تَنفق السلع الخسيسة، فكيف لا تروج البضاعة النفيسة؟ ! ، ثم مضت في تطوافها

وتجوالها حتى انتهت إلى بناء كبير، قد اجتمع عنده خلق كثير، أخلاط من الوجهاء

والغوغاء، علت لهم جَلَبَة وضوضاء، فصاروا يتخاطبون بالإشارة، حيث لا تُفهم

العبارة، فقالت: لا شك أن هؤلاء الناس قد استحوذ عليهم الخبل والوسواس، فهم

لهذه البلادة والبلاهة في أشد الحاجة إلى الذكاء والفطنة والنباهة، فخاضت غمار

القوم، رافعة صوتها بالسوم، فلم يسمع أحد كلامها، ولا أُجيبت على سوامها،

حتى مرّ بالقرب منها رجلان في يد أحدهما نمط صغير (شنطة) ، ومع الآخر قلم

ودفتر يكتب فيه أرقامًا، فقالت لهما السيارة: هل لكما رغبة في الذكاء والفطانة؟ ،

فتوهم الرجلان أن الذكاء والفطانة نوعان من السهام المالية، قد أُنشئت لهما شركة

مساهمة حديثة، فانصرفا ولم يستوضحا منها عما تقول، وعلمت هي أن ذلك المكان

هو (البورصة) ، فاستأنفت النداء والسوم، فمر بها أحد الدلَاّلين وجرت بينهما هذه

المحاورة، (الدّلال) : ما هي بضاعتك؟ (السيارة) : الذكاء والفطانة،

(الدلال) : ذكاء

فطانة

، (السيارة) : ألا تدري ما هو الذكاء والفطانة؟

(الدلال) : لا، ولكن قد بلغني عنهما شيء، وأذكر أنني سمعت هذين اللفظين من

قِبَل، (السيارة) : إذن خُذْ لك منهما شيئًا ولو يسيرًا، (الدلال) : هل هما من

السهام المقبولة في البورصة؟ (السيارة) : لا، (الدلال) : إذا لم يكونا مقبولين

في البورصة، فلأي شيء جئت بهما إلى هنا.

وبعد انتهاء الحديث، نُمِّي خبرها إلى الشرطة (البوليس) ، فأُلقي عليها

القبض؛ لإقدامها على بيع سهام غير مقبولة في البورصة، ولكن رئيس الشرطة

(القومسير) كان دمث الأخلاق رقيق الجانب، فعذر السيارة بجهلها، وعدم وقوفها

على طباع أهل تلك المدينة، فلم يعاملها بما يوجبه النظام من السجن والتغريم،

واكتفى بطردها وإبعادها عن تلك العاصمة؛ فرجعت أدراجها راضية من الغنيمة

بالإياب!

(سيأتي خبر بقية السيارات)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 257

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

‌استنهاض همم

(10)

بقي علينا من الحكومات الأربع (الحكومات العثمانية) ، وهي ليست بأقل

تعرضًا للأخطار من أخواتها الثلاث الأُخَر، بل ربما كانت الدول الغربية أضرى

بها وأشد تكالبًا عليها، وزِدْ على ذلك أن الطمع في الحكومات الأُوَل مقصور على

دولتين أو ثلاث، أما الطمع بهذه الدولة - صانها الله - فوباء عام قد تفشى وخمه

بين الدول - كُبراها وصُغراها - من يُصَدِّقني إن قلت: إن دولة اليونان، ممن

يحلم بتبوأ فرق فروق (أي أعلا الآستانة) ؟ مَن يصدقني إن قلت: إنها تعربد

بنشر رفات الإمبراطورية الرومانية الشرقية من أجداث العدم؟ نعم، إنها تُعربِد

بإنشاء تحالف سياسي يطوي تحته الشعوب البلقانية بأجمعها، ويتولى ملكها زعامة

هذا التحالف الكبرى، وتكون قاعدته القسطنطينية متبوأ قياصرة المملكة الشرقية

المنقرضة، ويحتفل بتتويجه فيها. وقد أعتدت اليونان لأجل الاحتفال بهذا التتويج

كل المُعَدَّات الوهمية والأدوات الخرافية، ولم يبقَ عليها من ذلك سوى شيء واحد

أعوزتها الوسائل للوصول إليه، ولم تهتدِ لوجه الحيلة فيه، وأخيرًا فرضت على

نفسها جُعلاً وافيًا مما هي فيه من البهر [1] المالي لكل رومي (إذ غير الرومي لا

يحسن ما يحسنه) : يجوس خلال برازخ الأموات، ويتلطف ويختلس تاج

الباليولوغوس [2] عن مفرق آخر ملوكهم قسطنطين ويأتيها به؛ لكي تضعه على

هامة ملكها مُذْ يحتفل بتتويجه إمبراطورًا على ذلك التحالف الموهوم. ولنأتِ على

ذكر الأخطار المُحْدِقة بالحكومة العثمانية وولاياتها، والإيماء إلى نسور المطامع التي

تحوم عليها.

في الممالك العثمانية ولايتان تود الشعوب الإسلامية لو تشيد حولهما أسوارًا من

أفئدتها، وتناضل عنهما عِوَضًا من حبَّات الرصاص بحبات قلوبها، ولها كلف ببقاء

الاتصال البري بين تينك الولايتين، ولو بجسور من رقابها، وولوع بحفظ السكة

العسكرية التي تربطهما، وإمداد تُرَابها وحصاها، ولو بذرات أجسادها وشظايا

عظامها، لو أشرفت على شغاف قلوبهم؛ لرأيت فيه رسم هاتين الولايتين ارتسام

الصور الفوتوغرافية في ألواحها، بل لو تسمَّعت لخَرير دمائهم في مجاري عروقهم

لسمعتها تنطق بلسان فصيح عن ولاية الحجاز - ذودًا ذودًا - عن ولاية الآستانة -

دفاعًا دفاعًا - نعم، مهما غَلَوْنَا في وصف مكانة هاتين الولايتين من أنفس المسلمين

كنا مضجّعين مقصّرين. الولاية الحجازية مناط قيام دينهم، وأُسّ مكين ترفع عليه

صروح مِلتهم، وولاية القسطنطينية منقبتهم السياسية، ومجد حياتهم التاريخية،

ففي سقوط الولايتين سقوط للدين والشرف، نستعيذ بالله! نستعيذ بالله! .

العناصر الأصلية التي يتكون منها جسم المملكة العثمانية هي العنصر التركي

والعربي والكردي والأرمني والأرنؤوطي والرومي. ويندمج في مَطاوي تلك

العناصر الستة طوائف أُخَر حقيرة، لا شأن لها ولا غناء عندها.

أما العنصر التركي، فمجتمع في صعيد واحد قطبه الآستانة، ويشغل ما على

جنابتيها من الولايات المحدودة من جهة الرومللي بحكومة البلغار وولاية مكدونيا

ومن جهة الأناضول بولايات الأرمن والأكراد وسوريا، وهذا العنصر هو حياة

الحكومة العثمانية وبه قوامها؛ ولذا كان استواء الأجنبي على الآستانة استواء على

الممالك العثمانية بحذافيرها.

وأما العنصر العربي فيشغل أصقاعًا متشتتة - سوريا طرابلس الغرب والحجاز

واليمن وضفاف النهرين. ولا يحدث في الأصقاع التي يقطنها هذان

العنصران - التركي والعربي - قلاقل داخلية مهمة وتشعبات سياسية ذات شأن،

كما يحدث في الولايات التي تقطنها العناصر الأربعة الأُخَر؛ لأن كلاً من العنصرين

التركي والعربي صِرف، لا يمازجه غيره. ونعني بالتركي والعربي مَن يتكلم

بالتركية والعربية - مسلمًا أو مسيحيًا -، فما كان من ولاية تركية يقطنها أهل

ملتين كولاية أزمير مثلاً، لا تسمع فيها لاغية فتنة قط، وكذا الولاية العربية التي

من هذا القبيل كولاية بيروت. وما يصل إلى الآذان أحيانًا من هماهم ودمادم [3]

يتساود [4] بها القوم في أنديتهم، فإنما هي كبوارق تعترض من الأفق في ليالي

الصيف، لا صواعق تصحبها، ولا سيول تعقبها، ومنشؤها جهل أحداث ونزق

أغرار، يتكفل بمحو ذلك من نفوسهم انتشار التعليم والتهذيب [5] ، فالولايات التركية

والعربية في مأمن من شبوب نيران فتن الأجنبي، للمداخلة في شؤونها على نورها،

وهو إن طَمِع فيها، فإنما يُطمعه ضعف المملكة العمومي، وتراخي إداراتها

الداخلية.

فانظر إلى اللغة كيف تحنو على المتكلمين بها وترثي لتبددهم؟ ! ، فتسعى في

ضم أهوائهم وتوحيد مشاربهم، وتورثهم تحابًا وائتلافًا، وإن كانوا ذوي مِلَل مختلفة

ونحل متباينة، فتوحيد اللغة من أقوى العوامل في إسعاد الأمة، وأقرب الوسائل لِلَمِّ

شَعَثها، وهي المتكفّلة بتوثيق أواخي الإخاء، وسد منافذ الشقاق بين المتكلمين بها

على شريطة أن يكون ذلك الشعب المتوحد في اللغة، المتفرق في المذهب، على

مقربة من التهذيب، وفيه عبقة من المدنية، وإلا اعترض علينا بلبنان فإن لغته

واحدة مع أن اختلاف ملِلَه أرهق أهله ويلاً، وجَرَّ عليهم من المصائب ذيلاً.

ويُقال - في رد الاعتراض -: إن شعب لبنان لعهد استشراء الفتن فيه كان

في غمرة مِن توحش، وغشاوة من جهل، مما أعان على ذلك من انتشار شياطين

الأغراض بين طوائفه، يوسوسون إليهم بالمواثبة، ويسولون لمناصبهم (زعمائهم

وهي كلمة عرفية هناك) المناصبة، حتى كان من أمره ما كان.

ولنرجع إلى العناصر العثمانية فنستوفِ أقسامها، بقي شفعان، كل شفع منهما

يقطن صقعًا واحدًا، فالشفع الأول الكردي والأرمني يشغل الصقع الواقع في نهاية

آسيا الصغرى لجهة الشرق، المحفوف بولايات الأناضول وسوريا والعراق

والعجم، والروسية، والشفع الثاني الأرنؤوطي، والرومي يشغل صقعًا واحدًا أيضًا،

ويسمى مكدونيا وهو الذي تحتفِ به ولايات البلقان والآستانة واليونان، وهذان

الشفعان أضرّ بهما اختلاف اللغة وتباين المشارب، فباعد بين الآحاد المكونة لهما،

وخالف بينهم في الأهواء والأخلاق والعادات والآداب؛ فتمهدت بذلك سبل المداخلة

الأجنبية فيهم، وانبعثت رسل الأطماع تجوس خلالهم وتوقظ آمالهم، حتى حدث

لعهد قريب ما حدث من الفتن الأرمنية التي وقعت رزاياها من تلك الديار مواقع

القطر، ورمت أهاليه من وطيس أذاها بشرر كالقصر. وكريد وإن لم تكن من

مكدونيا - لكنها كقطعة منها من حيث مشارب سكانها ومنازعهم، وكلنا يعلم ما

جرى في تلك الجزيرة، وما آل إليه الحال فيها، وكيف تلاعبت بها السياسات

والأطماع تلاعب الرياح بالسفينة ذات الشراع، ولم يكد يهدأ اضطرابها وتفتأ

ثوراتها حتى نجمت رءوس الشقاق والفتن في مكدونيا، وانغمس أهلوها بالشغب،

وطفقوا ينسجون على المنوال الذي نسجت عليه كريد، ولا نعلم كيف يكون نسيجهم،

وماذا يلبسون منه.

هذه مصاصة من شؤون ولايات الحكومة العثمانية الداخلية، ولنسردها الآن

واحدة فواحدة، ونلم بشيء من تعلق سياسة الدول بها وأطماعها فيها.

(طرابلس الغرب) تحالف الدول بتطلب وصالها دولة إيطاليا وهي إن

لم تكن تجاورها برًّا، فإنها (تصافها) بحرًا، وقد كان لهذه الدولة أماني

أشعبية في تونس؛ لشدة قربها منها، وأكثر ما أرادتها على الخضوع لها واحتالت

لتناول قيادها؛ فأخفقت سعيًا لما أن فرنسا أولى لدفعة منها فيها لاتصالها بها برًّا.

وقد انتطحت الدولتان في شأن تونس والاستئثار بالنفوذ فيها انتطاح الكباش، وكان

الفلج أخيرًا لفرنسا، فاضطرت إيطاليا للتسلي بطرابلس الغرب، والتعلل بأماني

وصالها. وليست في هواها هذا بأخسر منها صفقة في هواها الأول، لما أنه إن

شاركها في تونس شريك واحد فلها في طرابلس شريكان، فرنسا غربًا وإنكلترا في

مصر شرقًا، لا سيما وليس لها من القوة الحربية والمقدرة المالية ما يساعدها على

نيل أمانيها، فلا نراها إلا خائبة كما تخيب صاحبتها أسبانيا في مراكش.

أما إنكلترا فتطمع في تلك الولاية، لكن طمعها بالولايات المعترضة في سبيلها

إلى الهند أشد وأقوى؛ فهي ربما تساهلت مع فرنسا في أمرها وأغضت لها عنها؛

لكي تكافئها هذه بمثل ذلك في مواطن أطماعها ومواقع أمانيها، وربما تذرعت بهذا

التساهل لحمل فرنسا على أن تناصفها إفريقيا، وتستأثر هي بالنصف الشرقي كما

هو متمناها. فقد ظهر الآن أنه ربما يخلو الجو لفرنسا في شأن طرابلس الغرب،

وإعمال أطماعها فيها. ومما يزيدها طمعًا وقوع تلك الولاية في شمالي قسم كبير من

الصحراء الإفريقية، وهي عاملة على التِهَام تلك الصحراء برمالها وعواصفها، وإن

شئت قلت: بسفائنها وأمواجها لما أنها يأملون بتحويل هذه الصحراء إلى بحر عجاج

متلاطم بالأمواج، ويتم ذلك العمل بواسطة بثق البحر المتوسط (أي: كسر حافة

وشطه؛ لينفجر الماء إلى ما تحته) من سواحل تونس أو طرابلس. وكيفما كان

الحال، فولاية طرابلس ستكون مركزًا مهمًا لإنجاز هذا المشروع الأعظم، وموطنًا

لإدارة أشغاله وأعماله (أي إذا تمَّ لهم أملهم، لا سمح الله!) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

البهر: الضعف الشديد، وأصله: انقطاع النفس من الإعياء.

(2)

اسم العائلة التي هي آخر ملوك القسطنطينية.

(3)

الهمهمة: الكلام الخفي، والدمدمة: الكلام بغضب، جمعهما: هماهم ودمادم.

(4)

أي يتسار؛ لأن المتسارين يحني كل منهما سواده - أي جسمه - للآخر.

(5)

آه لو كان التعليم بصبغة وطنية، لكنه من الأجانب، فمتى يفيد هذه الفائدة؟ ! .

ص: 261

الكاتب: نصير الدين أفندي أحمد محرم

‌الشعر العصري

لحضرة الشاعر العصري المجيد نصير الدين أفندي أحمد محرم

هل الدين إلا ما رأى المتأمل

فماذا نرجّي أو، فمَن ذا نؤمّل

تحمل عنا اليوم، أو كاد ركبه

حَنَانَيْكَ فينا أيها المتحمل

حنانيك فينا إن تكن ثَمَّ ريبة

فإن عقابًا يدرأ الشر أجمل

غوينا، فلا الداعي إلى الخير بيننا

يُعان، ولا الداعي إلى الشر يخذل

ألا رب هادٍ مرشد، خاب سعيه

وقد كان عهدي أن يخيب المضلل

عذلنا غُواة الناس، فازداد غيّهم

كذاك غواة الناس أيَّان تعذل

أيا قومنا، والنفس جمّ عناؤها

أما فيكم من ذي رشاد فيعقل؟ !

ألمّا يَئِنْ أن تبصروها محجَّة

هي الحق ما عنها لذي الحق معدل

دعونا فأسمعنا إليها كما دعا

فأسمع رعد في السماء مجلجل

وجدناكمو في مجهل من أموركم

وكل أمور المبغض النصح مجهل

لقد قتلت منكم نفوس كرائم

وقد تتبع الغيّ النفوس فتقتل

بنى لكم الآباء مجدًا مؤثلاً

تساما فما يحكيه مجد مؤثل

سلامٌ عليكم كيف مالت عروشه؟

وكيف هوت أطواده الشمّ من عل؟

غدا دارسًا كالربع عفى رسومه

جنوب تجر الذيل فيه وشمأل

أصم إذا ساءلته عن قطينه

وهل يسمع الربع اليباب فيسأل

بَني الدين يدعوكم إليه نصيره

فلا تخذلوه يا بني الدين تخذلوا

دعوتكم إني إلى الله راغب

وإني بأن أدعوكم لموكل

وفي النفس مما استودع الدين حاجة

تجيش لها همًا كما جاش مرجل

فإن أبدها هالت وإن أخفها أبت

فيا ليت شعري أي أمريّ أفعل

جهلتم فأنآكم عن الخير جهلكم

ألا هكذا شأن الفتى حين يجهل

عدلتم عن النهج السويّ وجُرتم

أما فيكم مَن لا يجور ويعدل؟ !

لقد عطلت تلك الحدود ولم نكن

نخال حدود الله يومًا تعطل

ألا ليت شعري والحوادث جمة

تجدّ بهذا الخلق طورًا وتهزل

أبدّلت الأرضون والناس أم ترى

ليالينا اللائي بنا تتبدل

أَهَبْت فهل أسمعت أم تلك دعوة؟

تظل بها هوج الرياح تنقّل

عفاء على الدنيا إذا الدين لم يسُد

عليها كما قد كان والدهر مقبل

***

هذه قصيدة الشاعر المفلق نابغة شعراء المشرق. حضرة محمد أفندي حافظ

يهنئ بها حضرة العلامة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية لتوليه منصب

الإفتاء الجليل:

بلغتك لم أنسب ولم أتغزل

ولما أقف بين الهوى والتذلل

ولما أصف كأسًا ولم أبكِ منزلاً

ولم أنتحل فخرًا ولم أتنبّل

فلم يُبق في قلبي مديحك موضعًا

تجول به ذكرى حبيب ومنزل

رأيتك والأبصار حولك خُشّع

فقلت: أبو حفص ببرديك أم علي

وخفّضت من حزني على مجد أمة

تداركتها والخطب للخطب يعتلي

طلعت له باليُمن من خير مطلع

وكنت لها في الفوز قدح ابن مقبل

وجردت للفُتيا حسام عزيمة

بحدَّيه آيات الكتاب المنزّل

محوت به في الدين كل ضلالة

وأثبت ما أثبت غير مضلل

لئن ظفر الإفتاء منك بفاضل

لقد ظفر الإسلام منك بأفضل

فما حل عُقد المشكلات بحكمة

سواك ولا أربى على كل حوّل

هذا ما جاء في مصباح الشرق بنصه، وما كان مصباح الشرق مبالغًا في مدح

هذا الشاعر البليغ، ولقد هُنِّئ الأستاذ بقصائد كثيرة منها ما نُشر في الجرائد،

ولكن ما كان أحد منهم ليداني محمد حافظ أفندي، بل قلَّما رأينا في منظوم العصر

مثل هذه الأبيات في جزالتها العربية وبلاغتها، فإذا ظل الحافظ حافظًا لشعره

بإحلاله محله، ووضعه في مواضعه، كهذه المرة، وبالنظم في المسائل الاجتماعية

(كالقصيدة السابقة) - لا بد أن يكون له في عالم الآداب العربية مكان رفيع.

_________

ص: 265

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(تابع مالية الدولة)

لو أن تحويل الديون الممتازة كان قاصرًا على تلك المَزِيَّة لم يكن فيه أدنى

فائدة عاجلة للخزينة العثمانية، وإن كان قد يفيد من حيث حالة الدين العمومي في

تركيا، في هذا المقام قد تجلى لأعين الناس حِذق جلالة السلطان في الأمور بأعجب

منظر وأبهاه، فإنه قد حمل أرباب الدَّيْن الداخلي المتداول، وهم حَمَلَة الأوراق

المسماة بالسهام المؤقتة والاستقراضية على الانتفاع من هذا التحويل، أخذ الوكلاء

الماليون المكلَّفون بتحويل الديون الممتازة على أنفسهم أن يقترضوا خمسة ملايين من

الجنيهات المجيدية بإصدار سهام ربح كل منها أربعة في المائة، وله من أجر

الاستهلاك واحد في المائة، خصص من هذا المبلغ نصفه (مليونان ونصف)

لتحويل الأوراق المسماة بالسهام المؤقتة وغيرها، وخصص 100000 لدفع بعض

مطاليب الخزينة العثمانية، أما باقي المبلغ - وهو مليون ونصف - فقد واظب

أولئك الوكلاء على أخْذه بسعر 75 باعتبار جملة السهام المصدرة، ودخل بسبب

ذلك في خزينة الحكومة التركية مبلغ 1100000 جنيه مجيدي.

قد نُشر في 3 يونيه سنة 1870 في جرائد القسطنطينية مذكرة رسمية بيّنت

حالة تحويل جزء من سهام الدَّين المتداول؛ فجاء فيها أن الأوراق المسماة بالسهام

المتحولة والجديدة والعادية والمؤقتة والاستقراضية ذات التحويلات الأهلية [1] (وهذه

السهام هي أوراق الدَّين الأهلي المقترض أثناء الحرب التركية الروسية وبعدها) ،

يجب أن تبدل بالسندات الجديدة التي تدفع قيمتها لحاملها المسماة بالسهام التركية.

حدد رأس المال الذي أُرِيدَ تحويله على هذه الطريقة، وهي:

(1)

بالنسبة للسهام المحوّلة والجديدة حدد بمبلغ مساوٍ لربحها مدة عشر سنين

محسوبًا هذا الربح بالسعر المقرر لهذه السهام.

(2)

بالنسبة للسهام العادية والمؤقتة حُدد بمبلغ مساوٍ لربحها مدة ثمان سنين.

(3)

بالنسبة للدّين الداخلي برأس ماله الموجود.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: الأصل المنقول عن الإنكليزي هكذا: (بأهيل تحويلاتي) ، فليُتَأَمَّلْ.

ص: 268

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أرزاء وطنية

ما مرّ هذا الأسبوع على مصر إلا وهدم للعلم أركانًا، وقوّض للفضائل

والمكارم بنيانًا.

ففي يوم السبت (الماضي) باغتت المنية العلامة الجليل الشيخ حسن الطويل

أحد أركان النهضة العلمية الأدبية في مصر. شَرَع الفقيد في طلب العلم، وهو في

سن العشرين؛ فنبغ في العلوم الأزهرية في مدة قريبة، ووجّه عنايته للعلوم

الرياضية والفلسفية، وكانت قد ركدت ريحها في الأزهر من عهد بعيد، فتناول منها

بنفسه ما يعز تناوله من غير تلقٍّ إلا على أفراد أصحاب العقول الكبيرة، فالتفّت

عليه أذكياء الطلاب يتلقون عنه الحكمة، ولما قدم السيد جمال الدين الأفغاني الحكيم

الشهير إلى مصر، وتصدى لقراءة العلوم العقلية والحكمة، كان جُل مَن حضر عليه

وأخذ عنه من الأزهريين من تلامذة الشيخ، فكان بذلك ممهدًا له، أما الشيخ نفسه

فلم يتلقَّ عن السيد شيئًا، وإنما كان يزوره قليلاً، وجاء في المؤيد ما نصّه: (ومع

أنه لم تكن بين السيد جمال الدين وبين الشيخ حسن الطويل صلة وداد، كان يقول

السيد: ليس في علماء الأزهر كالشيخ الشربيني والشيخ الطويل) ، وبالجملة كان

الشيخ - رحمه الله تعالى - في مقدمة الطبقة الأولى من علماء الأزهر الشريف،

ومتميزًا عن عامة علمائه بكثير من الفنون، وقضى عمره بالتدريس فيه، وفي

مدرسة دار العلوم الأميرية، وتخرّج على يديه كثير من العلماء الأفاضل والشبان

النابغين.

أما سيرته في أخلاقه وآدابه، فقد كان سليم الصدر، طاهر السّريرة، عفيفًا

متواضعًا، زاهدًا حرًا، لا يخاف في الحق لومة لائم، فيُصَرِّح بانتقاد الحُكّام في

السياسة، كما يصرح بانتقاد سائر الناس في عاداتهم التي أضرّت بدينهم ودنياهم،

ولا سيما الغُلوّ بتعظيم القبور وطلب الحوائج من الأموات؛ ولذلك كان يخوض في

دينه بعضُ الناس الذين لا يعرفون من الدين إلا ما عليه الناس، ولا حجة لهم على

ما يعرفون إلا سكوت أكثر أرباب العمائم عن المنكرات الفاشية، وتأويل بعضهم لها،

وإنني أعد هذا من مناقب الشيخ كما أعد مثله من مناقب السيد جمال الدين؛ لأن

جميع الذين امتازوا في عصرهم بالعلوم العقلية والاستقامة كانوا يُرمون بمثل ما

رُمي به هذان الفاضلان (راجع تاريخ الإمام الأشعري والإمام الغزالي، وأضرابهما) .

تُوفي - رحمه الله تعالى - فجأة عن نحو 75 سنة، ولم تكد الدهشة بفجيعته

تزايل القلوب، وتجف لها الغروب حتى تأثرتها.

***

الفجيعة الثانية

ففي يوم الاثنين (25 صفر) قضى أستاذ العلماء الأكبر، وقطب الفقه

النعماني والمحور، مولانا الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي شيخ الجامع الأزهر.

قضى إثْر أَلَم ألمَّ به في صبيحة ذلك اليوم، ولم يمهله إلى مسائه، ففاضت روحه

الزكية وقت العصر من ذلك اليوم، وكان - سقى الله لَحْده - من أكابر علماء

الأزهر، وله براعة في الفقه الحنفي قلَّما يساويه فيها أحد، وقد تقلب في المناصب

الشرعية الدينية؛ فكان فيها مِثال العفة والاستقامة، وقد أُسنِدت إليه مشيخةُ الأزهر

الشريف من نحو شهر، وكان مفتيًا للحقانية، وعضوًا في المحكمة الشرعية العليا،

ومن ورعه وتَحَرّيه ما أخبرني به أحد أعضاء هذه المحكمة من أنه كان لا يوافق

على حكم من الأحكام ما لم يراجع عنه ويشاهد النص، وإن كان قريب عهد

بالموافقة على مثله عن مراجعة؛ لأنه يرى أن الدعاوي - وإن تماثلت - فاحتمال

الذهول أو الخطأ في المراجعة التي بُني عليها الحكم الأول يقضي بالتكرار لتطمئن

النفس.

أما لين جانبه ومكارم أخلاقه، فحدِّثْ عنها ولا حرج. وقد احتُفِل بتشييع

جنازته ودفنه في اليوم التالي ليوم موته (الثلاثاء) بما يليق بمقامه ومنصبه -رحمه

الله تعالى رحمة واسعة!

***

الفجيعة الثالثة

وبينما الناس يؤدون سُنَّة التعزية بفقيدي العلوم والفضائل، إذ صاح بهم نعي

رب المكارم والفواضل. قد مات عثمان باشا ماهر. صاحب المبرات والمآثر.

وكانت وفاته في مساء يوم الثلاثاء على فراش المرض، وماذا عسانا نَذْكُر من

خيراته ومبراته، وقد وقف جميع أطيانه الواسعة على إحياء العلوم الدينية والعربية

كما ذكرنا ذلك في (المنار) من قبل، وقد تقلب في المناصب والوظائف، وكان

رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية إلى قُبيل مرضه الأخير، وعضوًا وطنيًا في

مصلحة الأراضي الأميرية حتى الموت. وقد احتُفِل بتشييع جنازته في صبيحة يوم

الأربعاء احتفالاً موافقًا للسنّة الشريفة، فلم يمشِ فيها حَمَلةُ المجامر والقماقم،

ونحوهم، رحمه الله تعالى عداد حسناته، وأسكنه فسيح جناته!

***

المصيبة الرابعة

وفي يوم الأربعاء استأثرت رحمة الله تعالى بالعلامة المدقق، والمؤرخ المحقق

أوحد علماء الأزهر في فنون الآداب والتاريخ، الشاعر النَّاثِر الشيخ عثمان مدوخ،

ومن مزاياه أنه كان أعرف الناس بخطط مصر وآثارها، ويقال: إن علي باشا

مبارك كان يَرْجِع إليه في أثناء الاشتغال بتأليف خُطَطِه المشهورة، ويستفيد منه،

وقد احتُفل بتشييع جنازته في يوم الخميس الماضي، تغمده الله برحمته الواسعة!

***

تعلقت إرادة سمو الخديوي المعظَّم بتعيين العلامة الشهير الشيخ سليم البِشْري

شيخ السادة المالكية شيخًا للجامع الأزهر الشريف، فنسأل الله تعالى أن يجعل أيامه

أيام نجاح وتقدم في الإصلاح! ونقدم التهنئة لفضيلته بهذا المنصب الجليل!

_________

ص: 269

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌يستحيل إرضاء الناس

لما كان (المنار) في شكله الأول رغب إلينا الكثيرون من القرّاء بأن نجعله مجلة؛ ليسهل عليهم حفظه؛ فإنهم يضِنّون بكل عدد من أعداده، فأجبناهم إلى ذلك، فقام

بعضهم يقول: إنه قلّت مادّته؛ لأن الصفحات الثمانِ الأولى كانت تسع زيادة عمّا

تسعهُ الست عشرة صفحة في الشكل الجديد. ولكن تلك الزيادة ما كانت مفيدة

للمصريين الشاكين من قلة المادة؛ لأنه لم ينقص أقل من صفحة التلغرافات التي كنا

ننشرها لأجل المشتركين في خارج القطر المصري، ومع ذلك نتوخى مرضاتهم

بزيادة المادة بأن نطبع ملزمة من (المنار) أو أكثر بحروف صغيرة؛ فإن سلمنا من

اعتراض أصحاب الأبصار الضعيفة الذين ربما يقولون: يحتاج مَن يقرأ (المنار)

إلى نظارة معظّمة (ميكرسكوب) ، فإننا نطْبع الملزمة الأخرى بالحروف الصغيرة

أيضًا.

ومما يحسن هنا ذكره أن قومنا أمسوا يؤاخذون أخاهم الصادق في خدمتهم

بالهفوات، أو بما يخلقونه له من السيئات. ويساعدون الأتاوي (السيل الغريب)

على ما يجرف من بنيانهم ويهدم من أركانهم. فقد ورد علينا كتاب بإمضاء (منتقد)

يزعم صاحبه أننا أنكرنا في العددين الماضيين وجود الأولياء، وكيف ننكر مَن

شاهدْنا بأعيننا {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16) ، وما كان مِنَّا إلا أن

نصحنا لقومنا بأن لا يتَّخذوا الأولياء أربابًا من دون الله، كما فعل مَن قبلهم من الأمم.

وزعم أننا ذممنا فيهما الأمة الإسلامية، وما فهم أن تنبيه المُقَصِّر على تقصيره

وإرشاده إلى طرق منافِعه - ليس من الذم المهين الذي يُلام صاحبه، وإنما يلام مَن

يغش أمته بالمديح الكاذب الذي يزيدها غرورًا، وإن زاد أغرارها سرورًا.

وانتقد علينا استشهادنا على فضل السيد جمال الدين بأحد الأجانب عن الدين -

كجرجي زيدان - دون علماء الإسلام، ونجيبه عن هذا بأننا إنما استشهدنا بقول هذا

الرجل في مسألة تاريخية، وهو من المؤرخين المدققين، لا على أن السيد كان من

أعلام الدين الإسلامي. على أن الاستشهاد بمدح الأجنبي أَبْلَغ؛ لأنه إما أن يقول

الحق، وإما أن يذم، ولا يتوقع منه أن يكون ذا ضلع مع المخالف له في دينه.

وهذا، وإن للسيد المرحوم المكانة العالية عند عقلاء المسلمين ما لم يرتقِ إليه إلا

القليل، وحسبك أن أكبر العلماء المحققين في مصر قد سُروا بدلالته. واغترفوا من

فضالته. دعْ ذكر فضيلة مفتي الديار المصرية. وارمِ ببصرك إلى قُضاة محكمة

مصر الشرعية تجدْ أكابرهم من تلامذته. والشاهدين بعلوِّ مكانته، كالشيخ بخيت

والشيخ محمد أبي خطوة والشيخ عبد الكريم سلمان وغيرهم

وعجيب من المنتقد كيف لا ينكر على إخوانه المسلمين الذين يسألون مثل

جورجي أفندي زيدان عن المسائل الدينية المحضة التي ليس هو من أهلها، وينكر

علينا الاستشهاد لكلامه في المسائل التي هو من أمثل أهلها وأشدهم تحريًا وإنصافًا،

ثم نوجِّه نظره إلى أن من هدي القرآن الشريف {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114) ، وأن الحسنة بعشر أمثالها، فليعذرنا بما عساه يراه من المسائل

النادرة التي لا تروق له، ولا يبهتنا بما نحن بَرَاء منه، وليعذرنا على عدم نشر

كتابه؛ فإنه على ضعف عبارته لا يفيد القُرّاء، وقد علم ما فيه، والله مع

الصادقين!

_________

ص: 271

الكاتب: محمد رشيد رضا

]‌

‌ وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى [[

1]

تأتينا الجرائد الهندية من عدة أسابيع مملوءة بالحثّ والترغيب في مساعدة

مشروع شريف أخذ على عاتقه القيام به صاحب الهمة العلية والغيرة الإسلامية محمد

سعيد أحد أفاضل الهنديين الكرام، وهو إنشاء مدرسة كبيرة في مكة المكرمة، تُعَلَّم

فيها العلوم الدينية والحرف والصنائع النافعة التي تحتاج إليها البلاد الحجازية، وبماذا

نُرَغِّب القُرّاء في مساعدة هذا العمل، وهم يعتقدون أن السعي في عمران بيت الله

وإغنائه عما سواه من أعظم ما يُتقرب به إلى الله. فمَن أحَبَّ من قُرَّاء (المنار) أن

يتشرف بهذه القربة فليكتب إلينا؛ لِنَدُله على طريق إيصال ما يبذله، أو نسعى نحن

في إيصاله، وسنعود إلى الموضوع.

_________

(1)

المائدة: 2.

ص: 272

الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول

‌كان يا ما كان

(2)

بينما كانت السيارة تُسام سوء العذاب، وتقاسي مرارة الاغتراب، وحرارة

الخيبة والاكتئاب، إذ هبطت السيارة الثانية في تلك العاصمة النائية، وطفقت تنادي

بصوت رفيع: (عفة واستقامة للبيع) ! ، هل من طالِب فيُعطَى طِلْبته، هل من

راغب فينال رغيبته؟ ! فما سمعها إنسان إلا تخيّل أنها مختلة الشعور، فرت من

البيمارستان، ولكن استلفت إليها الأنظار جمالها الباهر، وما يلوح عليها من مخايل

الوقار والكمال الظاهر، فأحاط بها الناس إحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر،

معتقدين صِدق لهجتها، ونفاسة سلعتها، فقالت الأغنياء: لو كانت دُورُنا كبيرة

كدُور آبائنا الأولين لاشترينا منها هذا المتاع الثمين، واخترناه في مخازنها الكبيرة،

واحتكرناه إلى وقت الضرورة، ولكن مخازن بيوتنا اليوم صغيرة، لا تكاد تسع

أثاثنا وبضاعتنا الكثيرة، فكيف نضم إليها من الأزواج (أي: الأصناف) ، ما لا

يُرْجَى له رواج؟ ! لا سيما ونحن مضطرون إلى إهماله، أو الوقوع في سوء

استعماله، وقالت الفقراء: بماذا نشتري هذا المتاع الفاخر؟ ، الذي هو زينة أرباب

الغنى والمظاهر، وحِلْية الكبراء، ومفخر الأمراء، بل ومِعْرَاج العُبّاد الناسكين،

يرقون فيه إلى مقامات الأولياء المقربين، وإذا تكلفنا تحصيل ثمن العفة والاستقامة،

وإنه لأمَرّ مما يجرعنا الفقر من الضجر والسآمة، فهل يصدق هؤلاء الناس بأننا

ملكنا هاتين السلعتين النفيستين، ويعترفون لنا بأننا صرنا أعِفَّاء مستقيمين؟ ، كلا،

بل يقولون: إننا نُسمِّي عجزنا عن تناول الشهوات عفة، وإننا ما استقمنا على

الطريقة إلا مُكرَهين، وبلجام الفقر مكبوحين، وقالت النساء: إذا اشترينا العفة

والاستقامة، فإننا نرجع بالخيبة والندامة؛ لأن هؤلاء الرجال الأشرار لا تحظى

عندهم إلا منهتكات الأستار، فما لم تتبرج إحدانا تبرج الجاهلية، وتتجلى لهم بأبهى

مجالي الزينة الصناعية - لا تجد فيهم خاطبًا، ولا تلقى منهم راغبًا، فإذا اشترى

الرجال فإنَّا مشتريات، وإذا عفّوا واستقاموا فإنا نكون عفيفات نزيهات؛ فالرجال

قوّامون على النساء، لا النساء قوّامات على الرجال، ولا نستطيع أن نكون على

نقيض ما هم عليه في حال من الأحوال، ثم تقدمت امرأة من الأيامى إلى السيارة

مستامة، فقالت (المرأة) : هل هذه العفة غالية الثمن؟ ! (السيارة) : لا

(المرأة) : ما ثمنها؟ (السيارة) : أربعة وعشرون درهمًا من الصبر، ومخالفة

النفس الأمَّارة بالسوء، (المرأة) : هل يؤخذ هذا الثمن دفعة واحدة وتؤخذ به العفة؟

(السيارة) : لا، وإنما يُدفع أقساطًا في مدة طويلة، ولا تتم هذه الأقساط إلا

ويرى المشتري العفة ملك يمينه، (المرأة) : إذن العفة غالية جدًّا، ثم غادرتها

المرأة وانصرفت وانفضّ في إثرها الجَمع، فلم تجد السيارة بعد انصراف الناس

عنها بُدًّا من التطواف والجولان، وعَرض بضاعتها على كل إنسان، فمرت في

طوافها ببناء شاهق، قد ازدحمت عليه أصناف الخلائق، ولما سمعت أقوالها،

وتعرفت بالفراسة أحوالهم، رأتهم يتبادلون النظر الشزر، ويتعاملون بالدهاء والمكر،

كأنهم خصماء، قد أُلقيت بينهم العداوة والبغضاء، فعَرَضت عليهم بضاعتها

الثمينة، وأخبرتهم بأنها تُذهب بالحقد والضغينة، فأعرضوا عن التذكرة، كأنهم

حمر مستنفرة فرت من قسورة، وعَلِمت هي من القرائن الحالية، أن البِناء الشامخ

هو نظارة العدلية (الحقانية) ، فطافت في أرجاء المكان، ثم دخلت إحدى غرفه

بغير استئذان، وإذا هي محكمة النقض والإبرام، ومكان التشريع العام، وإذا

بالقضاة فيها يأتمرون، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} (النحل: 19) ،

فصاحت السيارة: يا معشر الحُكَّام، القابضين على أزِمَّة مصالح الأنام، هل أدُلكم

على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، وتنالون بتناولها الفخر العظيم، تتمتعون منها

بالنعماء، وتفيضون من بركاتها على الدَّهماء؛ لأن من ربحها العدل في القضاء،

والإنصاف بين الخصماء، وناهيكم به عمرانًا للبلاد، وإسعادًا للعِباد، وذلك أن

تبتاعوا مني بعض بضاعتي السماوية، التي أرسلني لبيعها رئيس المعبودات العلية

وهي العفة التي تقف بالنفس البهيمية موقف الاعتدال، والاستقامة التي ترتقي

بالنفس الناطقة إلى أوْج الكمال، ولا ريب أنكم أيها الأكياس، أوْلى بهاتين من سائر

الناس.

كانت السيارة تتكلم بقوة روحية، وعيناها النجلاوان تنبعث منهما أشعة نورية

كادت تخطف الأبصار، وتحقق الاعتبار، فاعترت القضاة الدهشة، وهزَّتهم

الرعشة، وعَلتهم الهيبة، وصمَّموا على التوبة، ولولا ذلك لأوقفوها عن المقال،

في أول المجال، وبعد أن أتمَّت الخطاب، وسكن من القضاة الاضطراب، ثَابَت

إليهم حالتُهم الأصلية، وعادت إليهم خواطرهم العادية؛ فرأوا أنها تدعوهم إلى محو

ملكات، وتبديل صفات بصفات، وتسدل بينهم وبين الاستعلاء على الناس حجابًا،

وتغلق دونهم من الثروة أبوابًا، فقالوا: إن هذه الفتاة قد هَتكت حرمة النظام،

واحتقرت بكلامها الحكام والأحكام، فيجب أن تُُُزَج في أعمق السجون، حتى يأتيها

المَنون، وحَكَم الرئيس بهذا الجزاء، باتفاق الآراء، وعهد إلى الشرطة بتنفيذه في

الحال، أو تفتدي بمبلغ عظيم من المال، لا من بِضاعتها المُزْجاة، وسلعتها المزجَّاة فأخرجها رئيس الشرطة (قومسير البوليس) ، من الديوان، وانفرد بها في مكان

يريد استنطاقها، وتعرّف أخلاقها، وكان ذا فراسة، وصاحب كياسة، وكفى

بالتجاريب عِبْرة وتهذيب، ولمّا رأى من كمالها ما رأى، ووقف على حُسن

مقاصدها، وإرادتها الخير لبني الإنسان ببيعهم العفة والاستقامة اللتين هما من أهم

أسباب سعادتهم، قال لها: (أي بُنية، اختاري لك محلاًّ آخر لبيع هذه البضاعة

النفيسة، وإياك أن تمُري بهذا المكان ثانية؛ فإن أهله أعداء العفة والاستقامة،

ونسأل الله السلامة!) ، فعقلت ما قال من الكلام، وتقبَّلت نصيحته الأبوية،

وانصرفت بسلام.

ثم مرت بمكان آخر يشبه الأول في فخامة بنائه، وكثرة اجتماع الناس في

فنائه، فخطر لها أولاً أنها ربَّما تلقى في هذا ما لقيته في الأول؛ لشبهه به وقربه

منه، ولكن حملتها قوة الأمل، وشدة الثبات على العمل - وهما سبب كل نجاح،

وعُنوان كل فلاح - أن تمازج أهله، فمازجتهم، وأن تساومهم فساومتهم، وابتدأت

بقوم جلوس على الأرض، يشتغل بعضهم بمحاورة بعض، فقالت لهم: هل من

مريد للعفة، هل من راغب في الاستقامة، فإنني كُلفت باستبضاعهما؛ لأجل بيعهما،

فطفِق بعضهم يضحك منها مغربًا، وبعضهم يسخر منها مستغربًا، وقال لها أحدهم:

أيتها الفتاة السليمة النية، الصادقة الطوية، إن العفة والاستقامة قد أوقعتانا في

الحسرة والندامة، وإن تيارهما هو الذي قذف بنا في هذا المكان؛ حيث نقاسي الذل

والهوان، فقال له آخر: دعْ عنكَ هذه الفتاة الحمقاء، لقد كان عندي هذا المتاع.

وكنت أحافظ عليه جهد المستطاع. ولولا أنني ألقيته في قاع البحر. لأهلكني الذل

والفقر. وقد فاض عليَّ بتركه معين الثروة والغنى، ونلت بعده غاي المُنى، أترقى

في الوظائف العالية، وأتقلب في الرتب السامية، وأتحلى بالوسامات الزاهية، وإذا

عزلت أجيء هذا المكان، مملوء الجيب بالأصفر الرنَّان، فلا يمر عليَّ شهران،

إلا وأنال أقصى ما في الإمكان، ولولا توبيخ الضمير على ترْك ذلك الإكسير،

لكنت أنعم بَالاً مِن كل أمير، وأطْيب عيشًا من كل وزير، ولكنها خواطر تمر مرَّ

السحاب، لا تداني ذلك البؤس والاكتئاب، وما أنا بمجنون، فأعود إلى ذلك الهون،

بابتياع الاستقامة والعفاف، من هذه الفتاة الكاملة الأوصاف، ثم التفتَ إلى السيارة،

وقال لها: أنصحك - أيتها الفتاة المسكينة - أن تذهبي بسلام قبل أن يَحُلّ بك

الانتقام، فأنت الآن مع المعزولين، وإياك وإيَّا الموظفين، وإذا بالمكان (نظارة

الداخلية) ، والذين كلَّموها هم من الموظفين المعزولين (كالمديرين والمأمورين)

جاءوا ينتظرون وظائف تخلو من عُمَّالِها؛ ليطلبوها لأنفسهم، فتذكرت السيارة ما

لَقِيت من النِظَارة الأولى، وما كانت ناسية، وقالت - في نفسها -: ما أشبه الليلة

بالماضية، وانْسَلَّت من النظارة حزينة، ثم طافت قليلاً في المدينة، تَعْرِض

البضاعة بالثمن الزهيد، راجية أن تَحْظَى برجل رشيد، فوجدت الناس في سلوكهم،

على دين ملوكهم، فخرجت من المدينة خائفة تترقب أن يلحقها العذاب المهين،

وتوجهت إلى الملأ الأعلى وهي تقول:] رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ [

(القصص: 21) .

(وللكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 273

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

‌استنهاض همم

(11)

بقية الولايات العربية يكاد يكون الكلام عليها متقاربًا متشابهًا من حيث أطماع

إنكلترا فيها؛ لوقوعها في قارعة الطريقين المؤديين إلى الهند البحري والبري، فهي

ربما كانت تضمر في نفسها التقام جزيرة العرب برمتها، وتتمنى لو تكرع فوقها

الرافِدَين دجلة والفرات.

(سوريا) ونعني بها البلاد الواقعة بين آسيا الصغرى شمالاً ومصر غربًا،

إن للدول الغربية بواعث جمة للتطلع إلى سوريا والاندساس بينها وبين صاحبها،

وأقوى تلك البواعث وأعظمها خطرًا أمران: (الأول) كونها معدِن الديانة

النصرانية، ومنبثق الأشعة العيسوية، وكِفافًا [1] يضم المعاهد المقدسة التي تنتابها

الأمم المسيحية من كل جنس، وعلى أي نِحلة يتقاطرون إليها على قصد الزيارة

والتبرك، و (الثاني) تكاثر النصارى في ربوعها، والتفافهم بمسلمي أهلها، بما

أربى على سائر الولايات العربية. أحد هذين الباعثين كافٍ في انبعاث دول أوربا

للاهتمام بسوريا، والمساجلة في نيل النفوذ فيها، فما بالك وقد اجتمعا معًا،

والمعهود من شِنْشِنَة القوم التحمس في خدمة الدين، ورفع شأن كهنته، والتظاهر

بحماية النصارى المنبثّين في الأقطار الشرقية، والتشوف لسبر أغوار سرائرهم،

وجس نبض حميتهم، والإشراف على شؤونهم مع متبوعهم ومواطنيهم، فكانت

سوريا - لِمَا ذكرنا - أفسح مجال لتسابق خيول أماني هؤلاء القوم، وأوسع فضاء

لتحويم نسور أطماعهم.

كان المجلي في هذا المضمار قبل احتلال الإنكليز لمصر هو فرنسا، فكادت

تخلص إليها أميال نصارى سوريا وتستحوذ على عواطفهم، سيما طائفة الموارنة

منهم، بل كاد اسمها يزاحم حكومة البلاد (لا سيما في لبنان) ، ولغتها تتغلب على

اللغة الوطنية، فما احتلت إنكلترا وادي النيل حتى أخذت ظلال نفوذها تتقلص من

سوريا شيئًا فشيئًا، وجواسيس آمالها تتراجع من خلال تلك الديار قليلاً قليلاً، وبقي

لها من ذلك بقية ربما كانت توازي ما خامر البلاد من شأن الإنكليز وأظلها من

نفوذها. أما الإنكليز أنفسهم فليس لهم في سوريا روّاد نفوذ، ولا دعاة مدنية، لكن

رُزقوا من ذلك أقوامًا هم يزرعون والإنكليز يحصدون، وهم يغرسون والإنكليز

يجنون، بل تراهم يأكلون ويشربون والإنكليز يشبعون ويرتوون! نعني بهم

الأميركان؛ فإنهم أنشأوا منذ سنين - بين ظهرانينا - مدارس ومطابع وكتبخانات،

ولهم قِسيسون ومبشّرون ينشرون اللغة الإنكليزية، ويبثون آدابها بين الفتيان

والفتيات؛ فيجني الإنكليز عواطفهم وأميالهم، ويعتدهم كُوى يطل منها على أسرار

البلاد وما في زواياها.

(الروسيا) لم تفتأ الحروب بينها وبين الدولة العلية حتى حَلَّت من نفوس

نصارى سوريا - سيما الروم منهم - محلاً رفيعًا، ولا تزال تسعى في استمالة

القلوب وإشرابها حبها. ولها في فلسطين جمعية كبرى تُدْعى (الجمعية الفلسطينية)

تحت رئاسة عم القيصر، وقد تبسطت من عهد قريب في فينيقية والشام، وغيرهما

من سوريا، وغرض تلك الجمعية الأكبر تعليم اللغة الروسية، ونشر آدابها

وتعاليمها بين أهالي البلاد. وقد مَهَّدوا بين يدي مشروعهم السبل، ووطؤا المسالك؛

فهُرعت الأقوام إلى مدارسهم؛ للارتشاف من هذا المنهل العذب، وازدحموا حوله،

حتى لم يعد ماؤه المتفجر يكفي وُرَّادهم وناهليهم، وربما أجروا ينابيع أُخَر أغزر

ماءً وأشد تفجُّرًا.

أنْشَأت تلك الجمعية في طرابلس الشام مدرستين، واحدة للذكور والأخرى

للإناث، وبذلت الجهد في تذليل العقبات أمام الطالبين والطالبات، واعتنت في

تسهيل الصعوبات عليهم اعتناءً ينطبق على حالتهم في العسر واليسر، والكبر

والصغر، فما ظنك بعِداد تلامذة تينك المدرستين الآن؟ ، يَبْلغون قرابة ألف ولد ما

بين ذكر وأنثى، أكثرهم أطفال حديثو عهد بمهد، تحنو عليهم المدرسة حنوّ

المرضعات على الفطيم، تواسي فقيرهم بحاجاته، وتتعهد صغيرهم بضروراته،

وترضعهم لبان العلم والتهذيب من صغر؛ كي يتمكن من نفوسهم تمكُّن النقش في

الحجر.

(الألمان) تبوَّؤوا من سواحل فلسطين عدة محال ومنازل، ولم يزل نسر

طمعهم - علي ما يروون - يحوّم حول البحر المتوسط، طورًا يسفّ، وآونة يُحَلِّق

يتخير لنفسه وُكنات أُخر؛ يبيض فيها ويفرخ. وغاية هذا الشعب في بلادنا

اقتصادية تجارية، ولا نعلم إن كانت له مآرب سياسية أو استعمارية، بَيْدَ أنه

يتراءى من خلال شؤون دول أوروبا أن الألمان أقل نهمًا، وأوفى ذِممًا من سائر

الدول، وإن كانوا كلهم سواسية (سواء) في خشونة الطبع عند الحفيظة والطيران

إلى معامع الشر، ولو في أقصى الشرق، واستباحة التغلب على الأمم المستضعفة،

والصيال عليها بذراع من حديد.

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد

ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة

ومن إساءة أهل السوء إحسانا

كأن ربك لم يَخْلق لخشيته

سواهم من جميع الخلق إنسانا

أما الطليان فقد حاولوا مِرارًا أن يكون لهم في بلادنا من الأثر والنفوذ ما

لغيرهم، وسعوا في افتتاح مدارس لنشر لغتهم وتعاليمهم؛ فلم يفلحوا وباؤوا بالخَيبة

والحرمان. وأكثر هاته الدول طمعًا في سوريا وأشدهن ضراوة بها - إنكلترا بعد

الاحتلال، وربما كسبت الدعوى عليهن وآبت بالفلج، فيما لو جرروها إلى المحكمة

الدولية الكبرى. أعظم حجة لها بين يدي دعواها التاريخ؛ فهو يشهد بأن سوريا

حريم لنهر النيل، وأن كل مَن ملك النهر حق له وضع اليد على ذلك الحريم، ثم

يتبع شهادته بقوله: على ذلك جَرى تعامل الأمم منذ أسَّس الملك (مينا) مدينة

(منف) إلى زمن تولية محمد علي باشا وزحف ابنه إبراهيم على سوريا. وبناءً على

اعتبار شهادة الواحد في قوانين تلك المحكمة يحكم الرئيس بصحة دعوى إنكلترا،

ويمنع دعوى المدّعين. وإذا تلكأ المدّعون في قبول هذا الحكم الجائر وحاولوا

استئنافه أو تمييزه إلى محكمة رئيسها المكسيم - يمشي حينئذ بعض أعضاء المحكمة

بالصلح بينهم، قائلاً: إن في إفريقيا والصين لَمندوحة عن قعقعة السلاح ومخر

السفين.

هذا، وإن نسبة مصر وسوريا إلى الهند كنسبة غلقي الباب إلى الدار، فكيف

يكتحل رب الباب بغمض قبل أن يطمئن على خزائن داره بإيصاد الغلقين؟ ، وزِد

على ذلك أن المداولات لم تَزَل جارية في أمر مشروع السكة الحديدية التي تصل

بين سواحل البحر المتوسط وسواحل الخليج العجمي؛ لتكون أقرب طريق بين

أوربا والهند والشرق الأقصى، فلا جرم أن يكون لسوريا مكانة عُليا في نفسها.

(المنار)

لن ترضى الدول بإعطاء سوريا لإنكلترا إلا أن تفنى روسيا وفرنسا!

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كِفاف الشيء بالكسر: ما يضمه ويحيط به، فكفاف المنخل إطاره، وكفاف المرآة والصورة هو ما يسمونه اليوم (برواز) .

ص: 278

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الكتابان الجليلان

نوَّهنا في أجزاء من (المنار) بكتاب (تحرير المرأة) وكتاب (سر تقدُّم

الإنكليز السكسونيين) ، وكيف لا ننوِّه بهما؟ ! وهما غاية الغايات في فن التربية

الذي نحن في أشد الحاجة إليه، ونحن نعتقد - كما يعتقد جميع العقلاء الذين لهم

نظر ولو بوجه ما في علم الاجتماع - أن تقدم الأمم وتأخرها، وسعادتها وشقاءها،

وغناها وفقرها، واستقلالها واستعباد الأغيار لها - كل ذلك مَنوط بتربيتها، فمتى

صَلُحت التربية صَلُح كل شيء، ومتى فسدت فسد كل شيء، ونعتقد أيضًا أن كمال

التربية إنما يكون بتربية الذكران والإناث جميعًا؛ فوجود الرجال الكملة متوقف على

وجود النساء الكوامل، وبالعكس.

وقد استوفى أحد الكتابين المنوَّه بهما أهم مباحث تربية النساء، واستوفى

ثانيهما أهم مباحث تربية الرجال؛ لأن مدار كتاب (سر تقدم الإنكليز) على تربية

الرجال المستقلين بأنفسهم في معيشتهم، القادرين على الاستعمار وتحصيل الثروة

في كل مكان وزمان؛ بحيث تكون أمتهم بمجموعهم أكثر الأمم ثروة، ودولتهم أكبر

الدول سيادة ، وإنما كان هذا الكتاب غاية الغايات في بابه؛ لأن مؤلفه درس فن

الاجتماع، حتى صار من الراسخين فيه، ثم درس أحوال الأمم الثلاث التي هي في

مقدمة أمم الأرض في العلم والعمل والمدنية: الفرنسيس (قومه) ، والألمان

والإنكليز السكسونيين (بريطانيين وأميركانيين) ؛ فاهتدى بدراسته إلى السر في

تقدم الآخرين على مَن قبلهم في الثروة والاستعمار، وهو التربية التي شرحها في

كتابه هذا، وفضَّلها على سائر أنواع التربية تفضيلاً.

مَن ينكر أن بريطانيا العظمى تَسُود على ربع العالم أو أكثر، وهي أقل الأمم

الثلاث عناية بالحرب ومزاولة له، وإذا تم ما يحاوله بعض رجالها من الحلاف

والاتحاد مع الولايات المتحدة فلا يمضي قليل من الزمن إلا ونرى عنصر

(الأنكلوسكسون) يسود نصف العالم. ربّما يفوق بعض الأمم الإنكليز السكسونيين في

بعض ما يسميه الفلاسفة وعلماء الأخلاق أدبًا وفضيلة، ولكن من يلاحظ أن العزة

والقوة القائمتين على أصول العلم هما مناط الترقي المادي والأدبي معًا، وأن الذلة

والضعف المتولدين من الجهل وفساد التربية يُذهبان بكل فضيلة ويمحوان معالم

الآداب، إلا أن يُعالَجا بالعلاج الصحيح - يتجلى له أن ما اعترض به على كتاب

(سر تقدم الإنكليز) من أن الإنكليز إذا كانوا أكثر تقدمًا ماديًا من الفرنسويين،

فالفرنسويون أرقى منهم في التقدم الأدبي - هو ناشئ عن نظر سطحي وعدم إمعان؛

فإن بعض تلك الأمور الأدبية وهمي أو عرفي غير حقيقي، وما عساه يكون حقيقيًا؛

فإن رُقي الإنكليز في مراقي التقدم يكفل لهم إدراكه والتبريز فيه، ولا يقول

صاحب الكتاب ولا غيره: إن الإنكليز يفضلون قومه وسائر الناس بكل شيء.

كيف وقاعدة (يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل) - لا يمكن أن ينكرها

أحد، وإنما ألممنا بهذا ليتم لنا الاحتجاج بأن الكتاب أمثل الكتب في فنه.

هذا ما أُقرِّظ به الكتاب على وجه الإجمال، ولا أرضى لقراء (المنار) بأن

يكون هذا كل نصيبهم منه، بل أعِدُهم بأنني سألخص لهم أجَلَََََََََََََّ فوائده، وأصلهم بما

يناسب حالهم من مسائله، وربما أتحفتهم بجُل مقدمة معرِّبه الفاضل؛ فإنها آية في

الحكمة وتمثيل مرض الأمة. وقد أحسن كل الإحسان في تشخيص مرض الأمة في

مقدمة الكتاب، الذي يصف الدواء لأدواء الأمم. فمَن عرف الداء يتناول علاجه من

أمم. ولا حاجة للتنويه ببلاغة ترجمته العربية؛ فان القُرَّاء يعلمون أن حضرة فتحي

بك زغلول معرِّبه في مقدمة بُلغاء كُتاب العربية، ومَن يقرأ الكتاب لا يكاد يشعر

بأنه معرَّب تعريبًا!

وأما كتاب (تحرير المرأة) ، فإنني وددت لو يُنشر في (المنار) إلا قليلاً.

حكمة رائعة. في عبارة بارعة، ومعنى دقيق. في لفظ رقيق، وما رأيتُ مكتوبًا

في الأنام. ما جعل الحكمة على طرف الثمام - مثل الذي رأيت في هذا الكتاب.

ومن خصائصه أنه أحدث أثرًا في الأمة التي كِدنا نحسبها ميتة، لا تشعر بمؤلم،

ولا ملائم؛ لأننا أمسينا كما قال شاعرنا:

غوينا فلا الداعي إلى الخير بيننا

يعان ولا الداعي إلى الشر يُخذل

أثر فيها حتى لا تسمع ممن قرأه كله أو بعضه إلا الإطراء والإطناب. والثناء

والإعجاب. أو الانتقاد على بعض ما جاء في باب الحجاب. بالغ جمهور القارئين

في هذا الانتقاد، كما بالغ في استحسانه المغرمون بالإصلاح، ولقد كتب إليَّ أحد

أفاضل أهل العلم العقلاء في سوريا ما نصه: (اطَّلعنا على بضعة عشر عددًا من

(المؤيد) ولقد دُهِشْنا مما قرأناه من (تحرير المرأة) ! - حيَّا الله مؤلفه، وجزاه عن

الإسلام والمسلمات خيرًا -، ولَعمري إنه تصدّى لأمر عظيم وبقدر عظم الأمر

سيكون أثره عظيمًا في نفع الأمة. ولقد أعَدت قراءة تلك الأعداد مِرارًا؛ لأنها

وافقت هوى في فؤادي، وهواجس في خاطري، على نحو ما كتبه ذلك الكاتب

الفاضل، ولقد حَملت الأعداد إلى فلان

لأُطلعه عليها؛ إذ كان قد جرى قُبيل ذلك

بيننا حديث في هذا المعنى، طالت فيه المناظرة، ونتيجتها أن المرأة إذا تثقف عقلها

بالعلم والأدب؛ كان ذلك كافيًا في صيانتها، ومُغنيًا لها عن الحجاب العادي، أما

الحجاب الشرعي - الذي مَداره إخفاء مواضع الزينة ومواقع النظر، وعدم الخلوة

بالأجنبي - فهذا لا بد منه، كيفما كانت حالة المرأة مهما استكملت علمًا

وفضلا ً) . اهـ.

هذه خلاصة صدى صوت المؤلف ترجّعه الأقطار البعيدة، ولم يكن قائلاً إلا

بالحجاب الشرعي الذي استدل عليه بالكتاب والسنة وأقوال فقهاء المذاهب، ثم

بالنظريات العقلية والتاريخية والخطابيات أو الشعريات على بُعد الكتاب عن هذا

النوع الأخير في مجموعه، أريد بهذا مثل قوله:

(عجبًا، لِمَ لَم تؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوههم عن النساء إذا خافوا

الفتنة عليهن؟ ! هل اعتبرت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة، واعتبر

الرجل أعجز من المرأة عن ضبط نفسه والحكم على هواه؟ ! . واعتبرت المرأة

أقوى منه في كل ذلك؛ حتى أُبيح للرجال أن يَكشفوا وجوههم لأعين النساء مهما

كان لهم من الحسن والجمال. ومُنع النساء من كشف وجوههن لأعين الرجال منعًا

مطلقًا؛ خوف أن ينفلت زِمامُ هوى النفس من سلطة عقل الرجل؛ فيسقط في الفتنة

بأية امرأة تعرضت له، مهما بلغت من قبح الصورة وبشاعة الخَلْق؟ ! إن زعم

زاعِمٌ صحة هذا الاعتبار رأينا هذا اعترافًا منه بأن المرأة أكمل استعدادًا من الرجل،

فلم توضع حينئذ تحت رِقه في الحال؟ ! ، فإن لم يكن هذا الاعتبار صحيحًا فَلِمَ

هذا التحكم المعروف؟ !) . اهـ

والجواب عن هذا، إن الذين يقولون: يَحْرُم على الرجل النظر إلى وجه

المرأة، يقولون أيضًا: يحرم عليها النظر إلى وجْهِه، سواء في ذلك مَن قيّد الحرمة

بخوف الفتنة في الجانبين - وهم المتقدمون - ومَن أطلقها في كل حال سدًّا للباب -

وهم المتأخرون - وهؤلاء يمنعون حضور المرأة مجلسًا فيه أعمى أجنبي، وإنما

أمروا المرأة بستر وجهها - دون الرجل - لأن شأن النساء أن يلزمن الحجال

ولا يتعرضن لأنظار الرجال. والتعرض لنظر أحد الفريقين للآخر إنما يكون في

الأسواق ونحوها من المجتمعات العمومية، التي هي للرجال بالأصالة، ولا يغشاها

النساء إلا نادرًا للضرورات؛ فلا جرم أن الصواب أن يتكلف مشقة الستر مَن يكون

وجوده فيها عارضًا على سبيل الندور، وليس له فيها عمل مهم، وهو صِنف النساء

ويسهل عليهن لذلك غض أبصارهن، وليس من الصواب أن يؤمر أهل السوق كلهم

بالانتقاب؛ لما عساه يعرض من دخول امرأة أو أكثر عليهم فيه.

فإن قيل: إن دخول النساء الأسواق كثير وليس بالنادر، وربما ساوين فيه

الرجال - أقول: إنهم يبنون كلامهم على أصلهم، وهو لزوم النساء البيوت في

الغالب، وما جاء على خلاف الأصل لا يُحتج به، وإن أمكن الاحتجاج على بطلان

الأصل، على أن هذا ليس في جميع البلاد الإسلامية؛ ففي نابلس والقدس وبلاد

أخرى من سوريا وفلسطين لا تكاد ترى امرأة مسلمة في السوق إلا نادرًا.

يقول المؤلف بوجوب الوقوف بالحجاب عند حدود الدين، وقد راعى جانب

الحكمة، فقال: لا ينبغي أن تخفف وطأة الحجاب العادي إلا بعد التربية الصحيحة،

ولكنه توسَّع في بيان مضار هذا الحجاب، وبيان ما ينبغي أن يكون عليه النساء بعد

التربية من مخالطة الرجال ومشاركتهم في الأقوال والأعمال، حتى إنه ذكر من

مضاره الاقتصادية حاجة الدار إلى بيتين للمائدة، ومثلهما لاستقبال الزائرين

والزائرات. ومثل هذا القول يجرئ المتفرنجين على تعجل ما يشتهون من مشايعة

الإفرنج في عاداتهم، مما كانوا يأبونه؛ حذرًا من انتقاد أبناء وطنهم عليهم باسم

الدين، فهذه المصادمة للعادات والمألوفات في المسألة هي التي أطلقت الألسن

بالانتقاد.

والحق أنه (ما كل ما يعلم يقال) ، وأنه ينبغي لمَن يكتب في الإصلاح أن

يُجمل في الكلام عن المسائل التي لا يطلب العمل بها في الحال، حتى إذا ما جاء

وقت العمل؛ فإن الحاجة تتكفل بالبيان، ولا أنكر أن أكثر المنتقدين يسيرون في

انتقادهم على غير هدى، ويثرثرون بما تمليه عليهم خيالاتهم التي أثارتها أهواؤهم

وعاداتهم، وموضع النقد الصحيح هو ما عملت أنفًا.

وثَمَّ منتقد آخر وهو ما في الكتاب من المَنَازِع الاجتهادية، وقد توسع فيها

المؤلف في الكلام على الطلاق، وكان يُنتظر أن ينتقد هذا العلماءُ، ولكن علماءنا

أمسوا في الغالب لا ينكرون منكرًا، ولا يعرفون معروفًا. ونحن مع المؤلف في أن

الإصلاح الذي يضطر إليه المسلمون لا يتم لهم ما داموا مقيدين بقول إمام واحد في

الأحكام والمصالح العامة، وفي أن ما يحتاجون إليه في أمورهم الدينية التي تنطبق

على حال هذا العصر موجود في شريعتهم، متفرقًا في كتب المذاهب، فيجب

استخراجه والعمل به. ونقول أيضًا: إن ذلك لا يتوقف على التلفيق الذي يمنعه

أكثر العلماء، وسنتوسع في هذا عند سنوح فرصة أخرى - إن شاء الله تعالى -.

ونختتم التقريظ بكلمة ثناء على الشاب المهذب الفاضل محمد علي أفندي كامل

صاحب مكتبة الترقي ومطبعتها لأجل عنايته بطبع ونشر هذين الكتابين ونحوهما من

الكتب النفيسة، ككتاب (أسباب ونتائج) ، وتطلب هذه الكتب من مكتبته في مصر

وثمن (تحرير المرأة) 10 قروش و (سر تقدم الإنكليز) 20 قرشًا، ويختزل

لبائعي الكتب وطلاب العلم 15 قرشًا في المائة، وليس هذا الثمن بكثير على حسن

ورقها وجودة طبعها، فضلاً عن فائدتها التي تُقَدّر، ولا تثمن بمال. فنحث كل

قارئ على اقتنائها، وتكرار مطالعتها والاعتبار بها.

_________

ص: 282

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(تابع مالية الدولة)

في سنة 1891 ابتُكر تدبير جديد لا يزال في معرض البحث، إذا تحقق رُجِيَ

من ورائه خير كثير لمالية الدولة العثمانية ذلك هو تأصيل المبلغ الذي يتوفر مسانهة

من تحويل الديون الممتازة، وهو 145000 جنيه إنكليزي (تأصيله جعله رأس

مال) ، ينشأ بهذا المبلغ السنوي قرض قدره 2900000 جنيه إنكليزي بإصدار

سهام عثمانية ممتازة بنفس السعر الذي أصدرت به سهام 27 إبريل، أعني: أربعة

في المائة من الربح، وواحدًا في المائة من أجر الاستهلاك تدفع قيمة هذه السهام في

أربع وأربعين سنة.

لما كان الفرعان من الدَّين العثماني المشار إليهما بحرفي (ت) و (ث) ،

فيما تقدم مقدّرين بقيمة أقل من الفرعين السابقين لهما، كانت الهمة موجهة طبعًا

لإيجاد طريقة استهلاك إضافية لتسديدهما؛ فلهذا القرض أخذ وكلاء الديون على

أنفسهم أن يدفعوا فيما يطلب منهم سهامًا من هذين الفرعين، حرصًا منهم على أخذ

السهام الممتازة الجديدة التي قيمتها 80، وبما كانت تقتضيه سهام النوعين

المذكورين في ذلك الوقت من الثمن الذي لم يغير في رأس مال حقيقي قدره

2320000 جنيه إنكليزي يخرج من أيدي المتعاملين 11600000 جنيه إنكليزي

من الدَّين العمومي، هذا المبلغ لما كان للحكومة فيه بمقتضى اتفاق 20 ديسمبر سنة

1881 واحد في المائة، أعني 116000 جنيه إنكليزي، فستكفي مصلحة الدين

بسبب تأصيل مبلغ 145000 جنيه إنكليزي مؤنة المطالبة السنوية بمبلغ 116000

جنيه إنكليزي.

هذا العمل هو من الأهمية بحيث إن الحكومة العثمانية لا تتسرع في القطع

بإجرائه، بل إنها لا تجزم به إلا بعد الإحاطة بجميع وجوهه، وتقدير كل

الاعتبارات فيه. وقد استفادت السهام التركية أيضًا استفادة تُذكر من المزايا الناشئة

من تحويل السهام الممتازة، فبلغ استهلاك هذه السهام من 58 إلى 72 في المائة،

وحينئذ فالذي كان ينال في الاقتراع (يانصيب) على مبلغ 600000 فرنك -

جائزة قدرها 348000 فرنك، صار يقبض - من الآن فصاعدًا - جائزة قدرها

422000 فرنك.

لننظر الآن في تحويل قرض الدفاع بواسطة تأصيل جزء من الخراج الذي

تأخذه الدولة من مصر. في سنة 1887 كانت حكومة جلالة السلطان افتكرت في أن

تحول القروض المختلفة المضمونة بهذا الخراج الذي تدفعه مصر للباب العالي إلا

أنه قد مَنع من إنفاذ ذلك في حينه جملة موانع سياسية ومالية، ولكن عندما رأت

جلالة السلطان أنه قد جاء الوقت المناسب لإنفاذه صَمَّم عليه في سنة 1891، وقد

تُوجت مساعيه إلى الآن بالنجاح التام، إن قرض الدفاع الذي أُصدرت سهامه في

سنة 1887 - وهو آخر القروض المضمونة بالخراج المصري - يبلغ 5000000

جنيه إنكليزي، وربحه خمسة في المائة وأجر استهلاكه واحد في المائة. في شهر

فبراير سنة 1891 نقص أصل هذا القرض بسبب الاستهلاك إلى 4316520 جنيهًا

إنكليزيًّا، وذلك في أثناء المذكرات الأولى بين الحكومة العثمانية ووكلاء الدائنين.

انحط من الدفعة السنوية التي يضمنها هذا القرض - وهي 280622 جنيهًا إنكليزيًّا

بمقتضى الإرادة السنية الصادرة في 2 مارس سنة 1892 الخاصة بتحويل القرض

المذكور - مبلغ 1403 جنيهات إنكليزية، نفقات وأجرة عمل (عمولة أو قومسيون)

ومبلغ 26543 من أجل الاستهلاك وبقي بهذا النقص من أصل الدفعة 252676

جنيهًا إنكليزيًّا لتأصيله؛ فإذا جُعل ربحه 4 في المائة كان الحاصل رأس مال قدره

6326930 جنيهًا إنكليزيًّا، فبالثمن الذي أصدرت به تلك السهام - وهو 90 - كان

رأس المال الاسمي هذا يعطي رأس مال حقيقي وقدره 5685237 جنيهًا إنكليزيًّا،

وقد نقص هذا المبلغ بما سقط منه من أجرة عمل الضمانة (العمولة) وهي واحد في

المائة على رأس المال الاسمي إلى مبلغ صافٍ وهو مبلغ 5622068 جنيهًا إنكليزيًّا.

من هذا المبلغ استغرق تحويل ما يوجد من سندات قرض الدفاع مبلغ 4316530

جنيهًا إنكليزيًّا، وينتج من ذلك للخزينة العثمانية ربح صافٍ قدره 2305538 جنيهًا

إنكليزيًّا، وتلك - بلا شك - نتيجة عظيمة لا تحتاج لشرح في تقدير القارئ إياها

حق قدرها.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 286

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاحتفال بتذكار

المولد النبوي الشريف

بُدئ من أوائل هذا الشهر بالاحتفال بتذكار المولد النبوي الشريف في

العباسية؛ فنُصبت الخيام، ورُفعت الأعلام، كما هو معتاد في كل عام، ولعمر

الحق إن كل ذي مسكة من الدين جدير بأن يقشعرّ جلده، ويقف شعره عندما يرى أو

يسمع بأن يقام احتفال باسم الدين؛ ليكون ذكرًا لسيد المرسلين، الذي بُعث لتطهير

الفساق، وتتميم مكارم الأخلاق، وإزالة المنكرات والرذائل، وإتيان المعروف،

والتحلي بالفضائل، وتقام فيه - أي الاحتفال - للفسوق كل سوق، وتؤتى فيه جميع

أنواع الفجور والعقوق، وما عساه يوجد فيه من عمل ظاهره خير وبر، فهو مخالف

لسنن الدين وأحكام الشريعة، وممزوج بالبدع والمنكرات امتزاج الماء بالراح،

وذلك كالرقص الذي يسمونه ذكرًا، ولو أن صاحب السماحة الشيخ محمد توفيق

البكري شيخ مشايخ الطرق طلب من الحكومة إزالة مواخير الرقص والبغاء،

وحانات الخمر والحشيش لأجابت دعوته، ولو أمر مشايخ الطرق بإقامة الأذكار

على الطريق الموافق للسنة لامتثلت أمره، ولو عهد إلى بعض الأفاضل بإلقاء

الخُطب المناسبة للموسم التي يحصل بها التذكار الحقيقي للمولد الشريف للبّوا دعوته،

فنرجو من سماحته أن يبدأ في هذه السنة بهذا الإصلاح الذي يشكره له الإسلام،

ويحفظه التاريخ، وبالله التوفيق.

***

اهتمام السلطان بالتعليم الديني

إن مولانا السلطان الأعظم - أيد الله دولته وأنفذ شوكته - قد وجه عنايته

الشريفة للتعليم الديني، فأصدر إرادته بانتخاب معلمين، يرسلون إلى الولايات لهذا

العمل الشريف، وعسى أن يكون للمدارس الأميرية من هذه العناية أجلها؛ فإنها

أحق بها وأهلها.

_________

ص: 288

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المولد النبوي

الشريف

في ليلة الخميس ويومه الماضيين (12 ربيع الأول الأنور) احتفل المسلمون

في مشارق الأرض ومغاربها بتذكار مولد سيد الخلق على الإطلاق، ومتمم مكارم

الأخلاق، وخاتم النبيين، ورحمة الله للعالمين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله تعالى

عليه وسلم.

وهذا الاحتفال من المواسم الحادثة في المِلّة وأول مَن سنَّه الملك المظفر

صاحب أربل المتوفي سنة 630 للهجرة الشريفة، وقد تقبله المسلمون كافة بقبول

حسن، وتنافس الملوك والأمراء وسائر الطبقات بالاحتفال به من ذلك العهد إلى الآن،

وألّف العلماء في خبر المولد وما جاء في تاريخه قصصًا تُتلى في الاحتفالات.

تتخللها المدائح والصلوات، وتوزع بعدها العطايا والصدقات. وفي هذا العصر

يزيد المسلمون على هذه الأعمال إقامة معالم الزينة من رفع الأعلام، وإيقاد الشموع

والمصابيح، وإحراق المواد الملتهبة التي تصعد في الجو وتُحدث فيه أشكالاً نورانية

ملونة بألوان تَسُرّ النواظر، وتشرح رؤيتها الخواطر.

وفي بلاد مصر وكثير من البلاد الإسلامية الأخرى تقام هذه الزينة على نفقة

الحكومة، كسائر الزينات التي يعملونها في الاحتفال بتذكار موالد الملوك والأمراء

المستقلين بالحكم وأيام جلوسهم على منصات الأحكام.

ويا ليت المسلمين وقفوا عند هذه الحدود ولم يتعدوها، وإن كان المعروف في

الفقه أن إتلاف المال - في غير غرض شرعي صحيح - مُحرّم؛ لما تقتضيه

الأصول الاقتصادية التي جاء بها الإسلام، ولكنهم تعدّوا الحدود، لا سيما في هذا

القطر، وصار هذا الموسم الشريف في مصر ينبوع المنكرات، ومحط رحال

الفواحش، واتسعت بذلك دائرة الموالد؛ فصاروا يقيمون لكل شيخ معتقد من

الأموات مولدًا يحتفل به الأهلون بإذن الحكومة، لا بمشاركتها، حتى إن للسيد

البدوي (رحمه الله تعالى) ثلاثة موالد في السنة؛ لشدة اعتقادهم فيه، ويعلم قرّاء

(المنار) ما في هذه الموالد من البدع والمنكرات مما كتبناه قبل فلا نعيده، وإنما نذكر

رأينا في الاحتفال بالمولد، وما ينبغي له وفيه، وهو:

(1)

يجب السعي في تطهير الاحتفال من الفواحش والمنكرات، وهذا

واجب على الحكومة، ولكنها لا تفعله من نفسها، فيجب على العلماء وشيخ مشايخ

الطرق أن يتّفقوا على طلب هذا من الحكومة، وهي - بلا شك - تجيبهم إليه،

وإنما خصصنا العلماء بالذكر - مع أن النهي عن المنكر فرض على كل مَن أمكنه،

وهو الآن ممكن لكل أحد؛ لأن الحكومة لا تعاقِب أي إنسان على مِثل هذا الطلب -

لأن الحكومة قلّما تلتفت في مثل هذا الأمر لقول غير العلماء؛ لا سيما مع سكوتهم

ورضاهم به، ويسرنا أن سعادة محافظ مصر قد أزال بعض المنكرات في هذه السنة

كرقص النساء، ولا ندري هل كان ذلك عن باعث ديني فيدوم المنع ويتعدى إلى

منع سائر المنكرات؟ أم كان عن باعث صحي لأجل تقليل الاجتماع خوفًا من الوباء،

فيعود في سنة أخرى كما كان؟ ، وقد كان اجتماع الناس وحضورهم الاحتفال في

هذه السنة أقل منه فيما قبلها، فيا تُرى هل السبب في ذلك قلة المنكرات التي كان

يسعى إليه الفُجار؟ أم شعور المسلمين بأن مَن يحضر هذا الاجتماع يشاهد

منكرات لا يقدر على إزالتها، فيحرم عليه السعي لمشاهدتها وتكثير سواد أهلها؟

ونسأل مَن يعلم السر وأخفى أن يوفِّق الراعي والرعية إلى خير الأمرين وأقصد

السبيلين.

(2)

أن قصص المولد النبوي - التي سمعناها ورأيناها - كلها مشتملة على

ما لا يصح، وخالية عن أهم ما ينبغي أن يكون فيها وهو التنويه بالإصلاح العظيم

الذي حصل في العالم على يد صاحب المولد صلى الله عليه وسلم وما جاء به

من قواعد المدنية والعمران، وأسباب السعادة للإنسان، وجمْعه أشتات الأمة العربية،

وانتياشه إياها من هوة الهمجية، ونفخه في شعوبها روح الوحدة والمدنية، مع

ضعف استعدادها، ومنافاة ذلك لأخلاقها وعادها

إلى غير ذلك من المحاسن

والمزايا الصحيحة، والمناقب الفاضلة الرجيحة، التي تجذب قلوب الناظرين في

الفنون العصرية، والمغرمين بالمدنية الأوروبية، إلى تعاليم دينهم العالية، التي

كانت مبدأ هذه المدنية الزاهية، ولا تقصر عن إفادة سائر الطبقات، وهدايتهم بأبين

الآيات، فينبغي تأليف رسائل للمولد تشتمل على ما ذكر، ولعل الله تعالى يوفقنا

للسبق إلى كتابة (قصة مولد) تحْسن الخطابة ارتجالاً لإلقاء الخُطَب في المسائل

التي أشرنا إليها في كل مجتمع من مجتمعات على هذا النحو.

(3)

انتداب طائفة الاحتفال؛ فإن الخطب أوقع في النفوس وأشد تأثيرًا في

القلوب، وقد أومأنا إلى هذا في (المنار) الماضي، وإذا لم يسعَ في إبطال سائر

الموالد فلينحُ فيها هذا النحو، وما يتذكر إلا أولو الألباب.

_________

ص: 290

الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول

‌كان يا ما كان

(3)

بعد فِرَار السيارتين الأولى والثانية. جاءت السيارة الثالثة تحمل (الصحة

والعافية) . وما كادت تعرض بضاعتها هذه على الناس، من جميع الأجناس، إلا

ونفروا خفافًا وثقالاً، وأقبلوا عليها إقبالاً، ولقد كثروا عددًا، حتى كادوا يكونون

عليها لبدًا، متسابقين إلى الابتياع، متنافسين في هذا المتاع، وما منهم إلا شاكٍ من

ألم، أو باكٍ من سقم، وأهونهم حالاً مَن يشكو الإقهاء (فقد شهوة الطعام) ، أو

ضعف عضو من الأعضاء، وقد علمت السيارة أن أكثر القوم هم الجانون على

صحتهم، والمضيعون لها بجهالتهم؛ ولذلك توقفت عن المبيع، وأمسكتها عن

الجميع؛ لأنها مأمورة بأن لا تبيع سلعتها، إلا لمن يعرف قيمتها، ثم أنشأ بعضهم

يساومها، فقال:

(المساوم) : هل ثمن الصحة والعافية كثير؟ (السيارة) : لا، وإذا لم يكن

بَخْسًا فهو معتدل، (المساوم) : ما هو الثمن؟ (السيارة) : (1) النظافة في

المأكل والمشرب والملبس والمسكن، و (2) أن يكون الأكل معتدلاً وعند الجوع،

و (3) الإمساك عن تناول أي نوع من أنواع المُسْكِرات (لغط وجَلَبَة من

المستمعين وترديد لفظ: بِضاعة غالية لا يقدر على شرائها إلا العُبّاد والنُّساك!) ،

و (4) النوم في أول الليل، و (5) القيام من النوم باكرًا، و (6) المراوحة

بين الرياضة الجسمية والعقلية، قالت: وشرط البيع عدم الإفراط في شيء من

الأشياء؛ لأن الإفراط في الراحة يضر الجسم، ويُذهب بالصحة، كالإفراط في

التعب، وما من تفريط إلا ويقابله إفراط، وملاك الصحة الاعتدال وملازمة الأوساط.

فلما فرغت السيارة من كلامها، أعرض أكثر القوم عن سوامها، قائلين:

يستحيل أن يشتري هذه البضاعة أحد! ، من أهل هذا البلد؛ فليس عندنا حكماء،

ولا عُبّاد أتقياء، يقدرون على الاعتدال في جميع الأعمال والأحوال، ولمّا سمع

الأطباء والتُّرَبِيَّة (الذين يدفنون الموتى) أن فتاة من العوالم العلوية، هبطت إلى

هذه الدنيا الفانية، تبيع للناس الصحة والعافية، رأوا في ذلك هضمًا لحقهم، وقطعًا

لسبب من أسباب رزقهم؛ فعزموا على إبطال هذه التجارة، أو الإيقاع بالسيارة،

وبعد المؤامرة، وطول المذاكرة، اتفقوا على أن يتولى الأطباء من تلك الساعة،

السعي في إتلاف تلك البضاعة؛ لأنهم مأذونون من الحُكّام، بالعبث بصحة الأنام!

ومعهم إجازة قانونية، بالتصرف بأرواح البَرِيَّة، وتوهموا أنهم بإتلاف هذه

البضاعة النافعة، يتمكنون من إزهاق روح البائعة، وعندما تُسقى كأس المنية،

تأتي في حقها وظيفة التُّرَبية، فيودعونها الرمس، {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} (يونس:

24) ، ثم اقترب من الفتاة، أحد التُّرَبيّة العتاة، وخطف منها الصندوق، ومَرّ

بأسرع من وميض البروق، فصاحت وأعولت، وبكت وولولت، وقالت: أيها

الناس أدركوا الغاصب اللعين، ورُدوا عليَّ متاعي الثمين، فبادر إليها أحد الأطباء،

وأوهمها بالمكر والدهاء، بأنه قد أشفق عليها، وعزم على رد بضاعتها إليها،

وطلب منها أن تتبعه، وتذهب إلى حيث شاء معه، فأجابته لسلامة نيتها، وخلوص

طويتها، فأدخلها إلى بناء، علمت أنه دار الشفاء، فحاولت الرجوع من قريب،

فحال دون ذلك الطبيب، وقال لها: أنت ذات مرض، يكاد يبلغ الحرض، فلا

تخرجين من هنا بحال، إلا بعد تمام الإبلال (الشفاء التام)، (السيارة) : كلا،

إني في صحة وعافية، ونِعَم ضافية، (الطبيب) لها: كلا، لا مفر؛ فإن علامات

مرضك تنذر بالخطر (السيارة) : كيف وأنا أشعر بكمال القوة والنشاط، ولساني

نظيف ونبضي نبض الأصحاء، وأكلي وشربي ونومي في غاية الاعتدال،

(الطبيب) : علامة منذرة، علامة منذرة، علامة منذرة! ثم أمر الممرضات،

فنزعن عنها ثيابها وألبسنها ثياب المرضى رغمًا عنها، وحملنها إلى السرير، فعند

ذلك أقبل عليها الدكتور، وكاشفها بما في نفسه قائلاً: كان يجب عليك - أيتها الفتاة-

أن تأتينا أولاً ببضاعتك هذه، وتعقدين معنا شركة للاتجار بها، ونحن الأطباء

نقدر أن نبيعها بأغلى الأثمان! ، ولكن لجهلك بحال الناس في هذه العاصمة؛ بذلت

لهم الصحة والعافية بثمن بخس، يقدر عليه كل أحد، ولم تعلمي أنك بصنيعك هذا

قاومت طائفة كبيرة لها مكانة عالية، تبيع لأجلها الأمراض بأثمان غالية، وعاديت

أيضًا طائفة التُّرَبية، حيث تقل الوفيات بنشر الصحة العمومية، وقد تبين لك الآن

أنك جئت شيئًا فرياً، وكأنك كنت تجهلين قاعدة (ضعيفان يغلبان قويًا فحلّ بك البلاء

بمقاومة طائفتين من الأقوياء، ثم دعا الدكتور جماعة من إخوانه لعقد مؤتمر طبي (قونسولتاسيون) ، فكان كل منهم لدعوته أسرع مُلَبٍّ، وكذلك يشترك الجم الغفير،

في اقتراف الجرم الكبير؛ ليوقعوا الناس، في الريب والالتباس، بل ليوهموهم بأن

الخطر جاء من طبيعة الداء، لا من تقصير الأطباء، وقد أجمع رأي جماعة المؤتمر،

على أن السيارة في أشد الخطر، يجب أن تفصد مرتين في كل يوم؛ ليخف

استغراقها في النوم، وأن تُحقَن بالمورفين بكرة وعشية؛ لتنجو من آلامها العصبية،

وإنما قصدوا إيقاعها في داء يُعَجِّل لها المنية، وإن شئت قلت قتلها بالطريقة

القانونية، ومازالوا يزاولون هذه الأعمال المهلكة، حتى وقعت السيارة في الأمراض

المنهكة، ولولا أنها من العوالم الخالدات، لأدركها الممات، وتيقنت أنه لا نجاة لها

من هذا البلاء، إلا بالفرار من (دار الشفاء) ، فأصابت غِرَّة من الخفراء، في

جنح ليلة درعاء، فانسلَّت انسلال الأفعى، وولت مدبرة تسعى، ومرت في طريقها

بالمقبرة وهي كما علمت متنكرة، فأبصرت الأموات بالصحة متمتعين، وبحُلل

العافية رافلين فعلِمت أن التُّرَبية قد دفنوا الصندوق في ذلك المكان المهجور؛

فصارت الصحة والعافية نصيب أهل القبور، ثم طارت السيارة في الهواء،

صاعدة إلى السماء، عازمة أن لا تعود، ولو أمرها جوبيتر المعبود!

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 292

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

‌استنهاض همم

(12)

ألْمَعْنَا - فيما سبق - أن إنكلترا تسعى جهدها في صيانة هندها، فاستئجارها

لقبرص واحتلالها، وفتحها لسودانها واعتراضها في باب المندب واستعمارها لعدن،

ومخاللتها للإمارات ومشايخ القبائل المنتشرة على شطوط الشمر وظفار والسارحة

في مهامه حضرموت وحمايتها لإمامة مسقط وتبوُّئها بعض المراكز المهمة في خليج

العجم وإنشاؤها الشركات التجارية التي تمخر ببواخرها النهرين دجلة والفرات

وقيامها بشؤون الملاحة فيهما، ورغبتها في الاستئثار بمد السكة الحديدية من

طرابلس الشام إلى الكويت على خليج العجم، كل ذلك ما حمل إنكلترا عليه إلا

محافظتها على الهند، أو يقال: إن امتلاكها للهند جرّ للقيام بهذه الأعمال والشؤون

مصادفةً واتفاقًا. وهذا لا يعنينا، إنما الذي يجدر بنا أن نفكر فيه، ونمعن النظر في

نتائجه هو أن تلك الأعمال التي أتتها إنكلترا في شطوط جزيرة العرب والبلاد التي

على جنابتيها يُخشى أن تشعر قلب تلك الدولة طمعًا في الجزيرة، فتصيبها دائرة من

قبلها، وتزجّ في سلطتها، وتصبح خالصة لها من دون المؤمنين، فعليهم أن

يتآمروا ويستفرغوا وسعهم في تلمُّس الوسائل العاملة في صيانتها وحماية حوزتها،

ويندفعوا اندفاع السيل وراء ما تشير به عقلاؤهم، وتتعاهد عليه نبهاؤهم من عقد

جمعيات وإنشاء شركات وفتح مدارس، وغير ذلك مما يكوّنهم أمة تعرف لها الأمم

حقًا، وتحفظ لها حرمة، وليكن على ذكر منك أن إنكلترا إن طمعت في جزيرة

العرب، فإنما تطمع باستعمار سواحلها، ولا وصول لها إلى أحشائها وداخليتها من

بلاد حضرموت ونجد. على أنه إن تعذر ذلك على الإنكليز في زمن، فلا يتعذر

على أنسالهم فيما يأتي من الأزمان، لا سيما وهم قوم حزم وتدبير، يهتمون لشؤون

أمتهم المستقبلة، ولو بعد مئات من السنين، كما يهتمون لشؤونهم الحاضرة؛ لأن

حب الذات والجنس بلغ من نفوسهم مبلغًا لم يبلغ مثله من نفوس قوم آخرين. هذه،

وأستراليا ملكوها كلها بتبوُّء سواحلها، أما جوفها، فلم يزل مجهولاً غامض

الشؤون، لكنهم يستشرفونه شيئًا فشيئًا، ويتبسَّطون في بسائطه رويدًا رويدًا.

ليس في الدول مَن يُضارِع إنكلترا في نفوذها في جزيرة العرب، فيعارضها

فيما تروم مطامعها منها، ويُسَهِّل عليها أن تلقم فرنسا لقمة من أصقاع إفريقيا

وتسقيها من فوقها نهرًا من أنهارها، أو بحيرة من بحيراتها إذا هي وقفت في

طريقها. إن تمكن الإنكليز من عدن هو في المعنى تمكنٌ من بلاد اليمن. كَمُنوا في

تلك الزاوية ردحًا، ثم طَفِقوا يتجسسون شؤون تلك البلاد، ويتنسَّمون أخبار أهلها،

ويتعرفون سِيَر حكامها، فألفوا مجالاً واسعًا لجري خيول دهائهم، وبيئة صالحة

لنمو ميكروب نفوذهم، واتفق أن المريض جاهل بعلم الهيجين (حفظ الصحة) ،

فتمكنت منه علة (السُّل الرئوي) وطبيبه ممن يرى رأي أهل الطب القديم الذاهبين

إلى أن الفصد العام من أنجع الأدوية في شفاء الأدواء، وقد عالجه بتلك الطريقة أولاً

وثانيًا، فلم تنجع وهو الآن يعمل في جسمه المباضع، فعسى أن يكون قد اقترب

شفاؤه.

اتخذ الإنكليز بلدة عدن مستودعًا للفحم الحجري الذي تحتاجه سفنها، وهي

ماخرة في عرض تلك البحار، وكانت إذ ذاك بلدة حقيرة قليلة السكان، رديئة الهواء،

لا تجارة لها تُذكر، فاهتم الإنكليز بشأنها اهتمامه بكل أرض حلَّها، ومَهَّد للتجارة

سُبلاً تئول لاتساعها، وتأمين أصحابها، فتحوَّل إلى عدن معظم تجارة جدة

والحُدَيِّدَة وقنفده ومخا والبصرة أيضًا. وتكاثر سكانها حتى أربوا على الأربعين

ألفًا. وقد رُفع هيكل الإصلاح فيها على أركان العدل والأمن والحرية، وألزم كلاً من

الأهلين بواجباته وعرّفه حقوقه، ونبّهه للمطالبة بها، ووجوب المحافظة عليها،

وجد في تحسين حال البلدة، وتوسيع طرقاتها ونظافتها، وإصلاح ماء الشرب فيها

حتى اعتدل هواؤها، وتبرّج جمالها، وأضحت تحاكي المدن الأوروبية ومن

جري ذلك تقاطر إليها السواح والتجار من كل الجهات، وترددت عليها وفود أهل

اليمن للتجارة والنزهة، فكانوا كلما رأوا حسنًا فيها تذكروا ضده في بلادهم، فنغلت

نياتهم على حكومتهم، وأرصدوا لها الشر، وهي قد أعيتها الحيلة في أمرهم،

وسلكت في إرضائهم كل سبيل إلا سبيل الحكمة، فلم تفلح. ولم تجتزئ إنكلترا

بعدن وتقصر طرفها عليها، بل شحت [1] فاها لالتقام ما حولها من البلاد، وطفقت

تتبسط في مخاليفها [2] رويدًا رويدًا، حتى أنشأت لنفسها منطقة منفسحة الأطراف

تزاحم بتخومها منطقة النفوذ العثماني.

أما ولايات الحجاز فلا طمع للإنكليز فيها، حتى لو أُلقيت إليه مقاليدها

(والعياذ بالله) قلص يده عنها، لكنه يتمنى لو تنتظم شؤون إدارتها الداخلية؛ ليكون

الحجيج الهندي على راحة في أداء نسكه، والإتيان بواجباته الدينية [3] .

(ولايات النهرين العربية) المُعارِض لإنكلترا فيها هو الروسية؛ لأنها تطمع

- كما قلنا - في الوصول إلى الخليج العجمي؛ لتجعله فوَّهة الطريق لتجارتها،

وتستولي في سبيلها على جميع الولايات التي تسقى بمياه النهرين، وإنكلترا تحذر

ذلك منها وتكرهه أشد الكره؛ لأن الخليج العجمي يشبه أن يكون خليجًا هنديًّا؛ لقربه

من الهند ولكونه طريق التجارة البَريّة بين الهند وبين سائر بلاد العراق والأرمن

وآسيا الصغرى وحلب، بل هو فوهة طريق أوروبا التجاري البري. ومما يزيد في

أهميته ما قلناه من أنهم يتداولون في إيصال السكة الحديدية إليه من إحدى حواضر

(موانئ) البحر المتوسط؛ فيمسي أقرب طريق يصل أوروبا بالهند والشرق

الأقصى حتى إنه يقلل من أهمية ترعة السويس أو يزيلها.

فأنت ترى أن مصلحة إنكلترا في الخليج العجمي قوية، وما معنى قوة

مصلحته فيه إلا قوة مصلحتها في البلاد التي تواصله بمحصولاتها الزراعية وسلعها

التجارية، وتتناول منه مثل ذلك: وكما قيل في ولايات النهرين من تعارض

سياستي إنكلترا والروسية يقال في:

(ولايات الأرمن والأكراد)

وتلك الولايات في قلق دائم واضطراب داخلي شديد، كما أشرنا إلى السبب

فيه؛ فالأرمن يطلبون من الدولة إصلاحات، أو بعض امتيازات يصعب عليها

إجابتهم إليها، أما الأكراد فلا يرغبون فيما يطلبه الأرمن؛ لأنه يئول في المعنى

إلى انفصالهم عن تابعيتهم للأتراك، وهذا مما يأنفون منه، ومن جرّاء ذلك حدثت

مذابح جمّة بين القبيلين، وقد شايعت دول أوروبا الأرمن على طلباتهم ورغائبهم،

وواطأتهم على مناصبة الدول العثمانية، لا سيما إنكلترا؛ فإنها كادت تتظاهر

بتعضيدها لهم. واللبيب يفهم غايتها بعد ما قدّمنا من الشرح ما قدّمناه، ولا يخلو

التصريح من فائدة.

إنكلترا تودُ أن تستقل الولايات الأرمنية؛ لتقوم حاجزًا وسدًّا بين الروسية وبين

العراق، فيُصان العراق والخليج العجمي من شَرِّها وكيدها، ثم تتربص هي به

الدائرات فتلتهمه. أما الروسية فكان شأنها في ثورة الأرمن عكس شأن إنكلترا؛

وذلك أنها عضدت الدولة العلية في كبح جماحهم، وتسكين ثائرتهم لا حبًّا بالدولة،

بل حبًا بمصلحتها وتمهيدًا لآمالها؛ فإنها تتربص بالدولة الانحلال الطبيعي؛ لتكون

أول من يُسارِع إلى ابتلاع الولايات الأرمنية، يرشد إلى ذلك أن الروسية أيّدَت

مطالب الكريديين، وراشت سهام فتنتهم، فنالوا ما نالوا، وما فضل الكريديين على

الأرمنيين لولا ما ذكرنا من أطماعها في هؤلاء دون أولئك؟ إذن التزاحم بين

إنكلترا والروسية في شأن الأصقاع الواقعة بين جبل أراراط شمالاً وخليج العجم

جنوبًا، شديد جدًا، وكيف النتيجة يا تُرى؟ النتيجة غامضة لتكافؤ القرنين وتوازن

القوتين، ولعل إنكلترا تصانع الروسية وتجاملها بإطلاق يدها في المملكة الصينية

وتستعيض هي عن ذلك بمد سرادقات سلطتها فوق تلك الأصقاع العراقية والأرمنية

بل ما يدرينا أن تتجسم الأطماع في مخيلة الدولتين فيقتسمان آسيا شرقًا لغرب كما

تريدُ إنكلترا مناصفةَ فرنسا إفريقيا شمالاً لجنوب، فتستبد إنكلترا بنصف آسيا

الجنوبي ويُسلم للروسية نصفها الشمالي.

دعنا من عالم الخيال، ولنأخذ في الكلام على العنصرين الأرنؤطي والرومي

المتوطنين في مكدونيا.

(المنار)

لا ينسى أن الكلام في المسألة الشرقية وتمثيل المطامع الأوروبية، وقد صرّح

الكاتب بأن هذا من قبيل الخيال، فلا يعترض عليه الأغبياء بأنه يهب بكتابته بلاد

الدولة العلية (صانها الله) ويولي عليها أعداءها (خذلهم الله)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

شحت كغزت: فتحت فاها بأقصى جهدها.

(2)

مخاليف جمع مخلاف: وهو لليمن مثل الرستاق والكورة لغيره، ومعناه السواد، والأصقاع تجمع القرى والمزارع.

(3)

لا نخال أن حضرة الكاتب على اعتقاد فيما قال هنا، وأن القول على حقيقته عنده؛ فإن الإنكليز لا تهمهم راحة الهنديين إلا بالدعاوي السياسية، ومن أقصى أمانيهم أن تكون الحجاز تحت حمايتهم، (دفع الله السوء، ولا أنالهم ذلك) .

ص: 295

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مَضَارُّ الْغِلْظَةِ فِي التَّرْبِيَة

تكلمنا في (منار) سابق عن اللين والقوة في التربية، ووعدنا بتفصيل مضار

التربية، ونقول: إن مَن يُربي ولده، أو تلميذه بالغلظة والخشونة، ويعامله بالقسوة

والإهانة يطبع في نفسه أخلاقًا فاسدة، وسجايا رديئة؛ تكون سبب شقائه في أحواله

وعلة خذلانه في أعماله، فمن تلك السجايا:

(1)

بُغض الوالد المربي ونحوه، والتربية الصحيحة النافعة لا تقوم إلا

على أساس المحبة. وبُغض الولد لوالده أو معلمه، يحمله على عدم تلقي شيء من

نصائحه بالقبول في نفسه؛ لأنه يُعد تلك النصائح إهانة وتعذيبًا، وتحكمًا سببه القوة

والاستعلاء، ومَن لا يُحب والده ومعلمه، لا يحب وطنه وأمته بالضرورة.

(2)

الظلم عند القدرة، والتحكم بالغير عند الإمكان، والانتقام لمجرد شفاء

الغيظ وإجابة داعي الغضب.

(3)

الكذب، فإن مَن يتوقع الانتقام على عمل أو قول يعتقد أنه لا يُرضي

مربيه - يندفع إلى إنكاره.

(4)

المكر والحِيَل.

(5)

الذلة والمَهانة.

(6)

الغِلْظة والقسوة.

وهذه الصفات في الظاهر كالمتناقضة، ولكن آثارها تُشاهَد فيمن يتربون هذه

التربية السُّوأَى؛ فإن أحدهم يقسو أشد القسوة على مَن دونه، ويذل أقبح الذل لمَن

فوقه، فهو بعيد عن الفضيلة وكرامة النفس في كل حال.

وإن أمة هذا شأن أفرادها لا يمكن أن تسود على غيرها، أو تستقل في نفسها؛

لأن كرامة النفس وفضيلتها هما روح السيادة والاستقلال.

(7)

الرضا بالضَّيم وهضم الحقوق - مهما كانا - من قوي أو حاكم ظالم.

(8)

عدم الرضا بالحق طوعًا؛ حيث يهضم حقوق الآخرين إذا قدر، كما

يخنع لهم إذا هضموا حقوقه.

وهاتان الرذيلتان مرتبطتان بما تقدم ومِن آثاره، وهكذا ترتبط الرذائل بعضها

ببعض؛ فتكون سلسلة واحدة.

(9)

الخيانة.

(10)

الحقد.

(11)

الحسد.

(12)

الوقاحة والتهتُّك:

فإن مَن يُعامَل بالإهانة قولاً وفعلاً يذهب حياؤه بالضرورة، ويزول انفعاله،

مما يذم ويجلب اللائمة؛ لاعتياده عليه من أول النشأة، وكفاك بفقد الحياء بلاءً؛

فإنه ينبوع الفضائل والكمال، والزاجر النفسي عن سيئات الأعمال، لا سيما إذا كان

ميزان الحُسن والقُبح هو الشرع، وقد جاء في الحديث الشريف: (لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ،

وخُلُقُ الإِسْلَامِ الْحَيَاءُ)

(13)

وطوءة الهمة:

لأن عُلوّ الهِمَّة لا يكون إلا لأصحاب النفوس الشريفة العزيزة. وإن علوّ الهمم

ركن من أركان تقدم الأمم؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (عُلُوُّ الْهِمَّةِ مِنَ

الإِيمَانِ) .

(14)

ضعف الإرادة وخمود العزيمة:

وأي جوهر لا ينسحق بشدة الضغط؟ وأي نار لا تنطفئ بفيضان طوفان

الجَوْر والإهانة؟ ، وهل ينجح فرد من الأفراد تجرف إرادتَه وعزيمتَه سيولُ الجور

والاستبداد؟ ! كلا.

(15)

فَقْدُ الاستقلال الشخصي:

لأن الذين يربُّون أولادهم بالشدة والعنف لا يدَعون لهم مجالاً للاستقلال في

شؤونهم والاعتماد في مصالحهم على أنفسهم؛ فيكون أحدهم كَلاًّ على مولاه أينما

يوجِّههُّ لا يأتِ بخير! ، فهل يستوي هو ومَن يُرَبَّى على مبدأ الاستقلال والاعتماد

على سعيه في كل الأعمال؟ ! كلا {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} (النجم:9) .

(16)

فقد الاستقلال الفكري والعقلي:

وسببه أن من شِنْشِنَة هؤلاء القُساة - الذين يُربون الأولاد بالشدة والفظاظة -

أنهم لا يقبلون لمَن يربونه رأيًا، ولا يستحسنون له فكرًا - وإن كان حسنًا في نفسه-

ولا يجعلون لهم حقًا في إبداء رأي أو اقتراح أمر أو المشاركة في مصلحة،

وإن ظهر منهم شيء من هذا قُوبلوا بالتفنيد واللّوم الشديد؛ فتَخْمُد نار لَوْذَعيتهم،

وينشئون على التقليد الأعمى، فإذا أخذوا بعد الكبر في الاشتغال بالعلوم، أو

الأعمال التي يُحتاج فيها إلى الفكر والرَّوِيَّة - لا ينجحون أبدًا، لا سيما إذا كان

تعليمهم على نسق تربيتهم كما هو الغالب في بلادنا، أو في الشرق كله؛ وذلك لأن

مَن يرى قُصارى نجاحه أن يعلم ما قيل - من غير تمييز ولا تزييل - لا يهتدي إلى

تحرير الدلائل، ولا يقف على حقائق المسائل؛ لأن الأقوال في كل شيء متعارضة

والآراء في كل مشكلة متناقضة، فمَن لا يجتهد يخيب، (ولكل مجتهد نصيب) .

(17)

فقد الحرية في القول والعمل:

وهو الذي يحمل على ما ذكرنا أولاً من الكذب والمكر والحيلة، وعندي أن

التربية الصحيحة الكاملة تتوقف على معرفته جميعَ شؤون المُرَبَّى النفسية والعملية،

ولا يمكن أن يقف المربي على هذا إلا بالتحبُّب إلى المربَّى وإعطائه الحريةَ التامة

في إبداء كل ما يعنُّ له، وإطلاع مربيه عليه، ولا تنجلي هذه المسألة إلا بشرح

طويل لا تسعه هذه النُبذة.

ويكفينا أن نقول: إذا علم الوالد أو المعلم أن الذي يربيه قد عرض له

الرسيس (أول الحب) ، وخاف عليه الشغف والولوع في العشق، ولم يقدر على

أن يحُول بينه وبين الغرام، من حيث لا يشعر - فينبغي له أن يجذبه بزمام اللطف

ويسلس له؛ حتى يكاشفه بما في نفسه، ويستشيره في كل أمره؛ وبذلك يتسنّى له

أن يقيَه مصارع الهوى، ويقف به في الحب عند حدود الشرف.

(18)

الدناءة.

(19)

اللؤم.

(20)

كُفر النعمة.

هذا أقبح وأضرّ ما يتولد من الغلظة والقسوة في التربية من الرذائل، ولو

استملينا الفكر لأمْلى علينا غير ذلك؛ لا سيما إذا لاحظنا ما يحتفُّ بالغلظة من هُجْر

القول وسيء العمل؛ مما يُهوِّن على الوِلدان القذْع بألفاظ الفُحش وبذاءة اللسان، ولو

قلت: إن من سيئات هذه التربية الاندفاع إلى ارتكاب الجنايات الكبرى كالسرقة

والغصب والضرب، بل والقتل بنحو سُمٍّ أو غيره - لكنت غير مبالغ، فعلى مَن

يهمهم تربية أولادهم أن يُمعنوا النظر فيما ذكرنا، وعسى أن يلتفت إليه الذين

يتكلمون في ضعف الأمة، ويبحثون عن أسباب قوتها؛ فيوافقون على أن سوء

التربية أصل كل فساد، وبإصلاحها يتم كل رشاد.

ونسأل الله تعالى أن يهبنا جميعًا التوفيق والسداد.

_________

ص: 299

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تأييد عالم وتفنيد واهم

ليس في قوة البشر أن يحيط الرجل بجميع العلوم، أو يتقن جميع الأعمال،

ويتوقف نجاح الأمم وتقدمها في العلوم والفنون والصنائع وسائر الشؤون العامة

على اتباع قاعدة التوزيع، وإناطة كل علم وكل نوع من العمل بطائفة من الناس

ينفردون بالعناية به، حتى يبلغوا درجة التبريز فيه؛ بحيث تكون الأمة - في

مجموعها - نابغة في كل شيء، وقد اهتدت إلى هذه القاعدة الأمم المتمدنة،

وعملت بها؛ فانتهت في كل علم وعمل إلى الغايات التي نسمع ونشاهد. وقد

اتسعت عندهم دوائر المعارف؛ حتى صار ينفرد للفرع الواحد من العلم طوائف

مخصوصة، يحررونه، ويفردونه بالتأليف. ولا يزال قومنا في غفلة من هذا؛

ولذلك لا يبرع عندنا أحد في شيء من الأشياء. ومن الخذلان أن تضل الأمة عن

طرق رشادها، ومناهج إسعادها، ولكن ماذا نقول في قوم يعيبون الهدى والرشاد،

ويذمون مناهج التوفيق والسداد، ويقدحون في عِرض مَن يبرز في علم أو فن،

فيُظهر غوامضه، ويبدي خوافِيَه؛ محتجين بأن الأمة أحوج إلى غير المسائل التي

حررها منها إليها، وكأني بهؤلاء النوكى يطعنون بمَن يتكلم في دقائق المساحة

وتقويم البلدان؛ لأن البلاد المصرية أحوج إلى فن الزراعة منها إلى هذين الفنين،

وإن كانوا يعلمون أن الجهل بدقائق تقويم البلدان وعدم التفرقة بين (سرس)

و (فرس) اختزل جزءًا مهمًا من البلاد المصرية، وألحقه بالحكومة

السودانية.

ساق الله إلى هذه البلاد رجلاً من الغرب، قد نبغ في علوم اللغة وآدابها روايةً

ودرايةً؛ حتى صار إمامًا يُقتدَى به فيها، ألا وهو العلامة المُحَدِّث الشيخ محمد

محمود الشنقيطي، واللغة - كما لا يَخفى على بصير - هي من سائر العلوم بمثابة

الجسد من الروح، فمَن يذم المشتغل بدقائقها زاعمًا أن الأوْلى له الاشتغال بعلم

الأخلاق الباحث عن صفات النفس مثلاً - هو كمَن يذم المشتغل بدقائق الطب،

زاعمًا أن الفلسفة العقلية أفضل منه؛ لأن العقل والنفس أفضل من الجسد.

لو كان المصريون على هدى في طلب العلم؛ لأحلّوا الأستاذ الشنقيطي أعلى

مكانة في الأزهر، ولكان الطلاب في حلقته يعدون بالألوف، ولكنهم لم يرضوا

بهضم حقه، وعدم إحلاله محلَّه؛ حتى وُجد فيهم مَن ينتقصه على إظهار دقائق لغة

دينهم وكشف مخبّآتها!

نُشر في عدد سابق من (المنار) وفي (مصباح الشرق) سؤال منظوم لهذا

الأستاذ، يطلب فيه بيان كلمتين جاءتا في شعر الأخطل وهما لفظ (نوفل)

و (هشام) ، هل هما شخصان أم جنسان؟ ولا يَخفى أن مَن لا يفهم كلام أهل الطبقة

الأولى من بُلغاء لغته، ولا يفرق بين أسماء الأشخاص والأجناس في لسان أمته

ودينه - يكون في دركة من الجهالة سافلة. ولكن لم يكد السؤال ينتشر إلا وأنشأ

المتحذلقون ينددون بالأستاذ الذي يشتغل بمثل هذه المسائل، ويعذلوننا و (مصباح

الشرق) على نشر سؤاله، ولم يقفوا عند حد الكلام باللسان؛ حتى كتب أحدهم -

محمد طلعت - نبذة في جريدة (الرائد المصري) في شأن المسألة - ويا خجلتاه مما

كتب! - كتب إلى مدير تلك الجريدة (نقولا شحاده)، يقول: (إنني - بكل شوق

ورغبة - أطالع جريدتكم الغرّاء، وأستوعب كل ما تحويه من المواضيع المستحبة

التي تستحقون عليها أطيب الثناء، على أني ألاحظ أنكم نسيتم - أو تناسيتم - أمر

العلماء الذين أهملوا واجباتهم الأدبية والدينية، وشُغلوا بسواها) ثم ذكر

الأستاذ الشنقيطي ومسألته، وختم نُبذته بقوله: (فأنَّى للأمة المصرية أن تتقدم

إذا كان علماؤها يشتغلون بحل مثل هذه المسائل) . اهـ

هذا، وإن السماء والأرض تقولان أنَّى للأمة المصرية أن تتقدم إذا كان شبانها

يحتقرون التدقيق في لغتهم وفهم كلام بُلغائها ومعرفة تاريخها، ويستوعبون جميع ما

يُنشر في مثل (الرائد المصري) ، ويرونها مفيدة للأمة، ويرفعون صاحبها إلى

درجة يطلبون منه بمقتضاها أن يُرشد علماءهم إلى واجباتهم الدينية والأدبية، أما

خجل هذا المصري - الذي يبحث عن ترقية أمته من العهد إلى الأجنبي عن الدين

بتعليم علماء الدين واجباتهم الدينية والأدبية؟ !

لقد هزلت حتى بدا من هزالها

كُلاها وحتى سامها كل مفلس

أما رصيفنا صاحب (الرائد) المحترم، فلا نلومه بمشايعة الكاتب عليه،

وقوله بعدم فائدة الاشتغال بهذه المسائل، ولكننا نستلفته إلى مراجعة السؤال،

والتأمل فيه؛ ليتضح له أن في تخصيص النصارى بالذكر مدحًا لهم وثناءً عليهم،

فإننا تنسَّمنا مما ذيّل به نبذة محمد أفندي طلعت أنه استثقل هذا التخصيص،

واستشعر منه ما لم يقصده صاحبه، ولا يدل عليه اللفظ في نفسه.

ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا؛ لنمدح عن بينة، وننتقد عن بينة، ونلزم

حدودنا عن بينة {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور: 40) .

_________

ص: 301

الكاتب: محمد محمود الشنقيطي

‌شعر في حب العلم

أنشدنَا الأستاذ محمد محمود الشنقيطي قال: أنشدني محمد بن حنبل الشنقيطي

تغزُّلاً بلوحه:

عِم صباحًا أفلحت كل فلاح

فيك يا لوح لم أطع ألف لاح

أنت يا لوح صاحبي وأنيسي

وشفائي من غلتي ولُواحي [1]

فانتصاح امرئ يروم اعتياضي

طلب الوفر منك شر انتصاح

بك لا بالثرى كلفت قديمًا

ومُحياك لا وجوه الملاح [2]

رُبَّ خود ماء النعيم عليها

جريانَ الزلال في الصُّفاح [3]

تستبي المرعوي بنور الأقاحي

وجبين مثل انبلاج الصباح

وبجيد كأنه حين يبدو

جيد جيداء من ظباء الرُماح [4]

وعلى ثغرها بعيد كرها

طيّب الرّاح بالمعين القراح

خدلة غص قلبها وبُراها

غصص المرط وهي غرثى الوشاح [5]

لا تبالي هبّ الرياح إذا ما

أشفق الرسح من هبوب الرياح [6]

بفؤادي من لحظها داميات

فعل نبل صوائب ورماح

قد تسليت عن رسيس هواها

بك حتى كأنني جدّ صاحٍ [7]

بل يمينًا بواردات البطاح

يتبارين ضمرًا كالقداح

قد برى النصّ نيّها والتغالي

ودؤوب الإمساء والإصباح [8]

بعد ليل سرينه بعد ليل

تصل الهجر بانسلاب الرواح

بعد خرق قطعنه بعد خرق

تقذف الطرف نحو خرق فساح [9]

أفتأ الدهر هاجرًا للغواني

ووصولاً للكتب والألواح

وأنشدنا أيضًا لأحد شيوخ مشايخه المختار ابن بونا الشنقيطي من قصيدة

طويلة:

إِلامَ فِيمَ عَلامَ إذا السكوت لكم

كأن بينكم حقدًا وهُجرانا

ففاكهون بحلو الجد عن أدب

نجلو به ما على ألبابنا رانا

شيئًا من أحسن ما قد قاله عمر

وما استطبناه من أشعار غيلانا

ولابن زيدون قولٌ في الحبيب أنا

أحق منه به سرًا وإعلانا

(أيا نسيم الصَّبَا بلِّغ تحيتنا

مَن لو على البُعد حيًّا كان أحيانا)

ونحن ركْب من الأشراف منتظم

نُجلّ ذا الخلق قدرًا دون أدنانا

قد اتخذنا ظهور العِيس مدرسة

بها نُبَين دينَ الله تِبيانا

_________

(1)

اللواح بالضم: العطش.

(2)

الثرى هنا: كثرة المال.

(3)

جريان: منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف: أي يجري جريان والصفاح كرمان: حجارة طويلة دقيقة.

(4)

الرماح بالضم: اسم مكان في نجد، قاله الأستاذ.

(5)

الخدلة: الممتلئة الساقين، والقُلب بالضم: سوار غير ملوي، وقيل: ما كان من الأسورة مفتولاً من طاق واحد لا من طاقين، والبُرى بالضم:(ج) برة، وهي الحلقة من سوار وقُرط

وخلخال، والمِرط بالكسر: كساء يُؤتزَر به، والمعنى: أن هذه الخوذ (الشابة) ممتلئة، بحيث تغص حليتها وإزارها، لكنها غرثى الوشاح، أي هيفاء دقيقة الخِصر، والغرث في الأصل: الجوع، والتجوز فيه ظاهر.

(6)

الرسح: (ج) رسحاء، والرسح: قلة لحم العجز والفخذين.

(7)

يضاف لفظ (جد) إلى الوصف فيفيد المبالغة فيه، يقال: فلان جد عالِم وجد صاحٍ، أي متناهٍ في العلم وفي الصحو.

(8)

النص: استفراغ الجهد في السير، والني: الشحم والسمن.

(9)

الخرق: القفر.

ص: 303

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحياة المِلِّية

(ملخص خطاب ألقاه منشئ هذه المجلة في جمعية شمس الإسلام)

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24)

أيها الإخوان:

لا أرى موضوعًا أمَسّ بحالنا من موضوع (الحياة المِلِّية) الذي ذكَّرتني به

الآية الكريمة التي جاءت في خطاب الأخ الأكبر رئيس الجمعية، وافتتحت بها

كلامي هذا. لا أبحث في التقدم والتأخر، ولا في الترقي والتدلي، ولا في القوة

والضعف، ولا في العزة والذلة؛ فإن جميع هذه الشؤون والأطوار إنما تكون للأمم

الحية النامية؛ إذ منها الآخذ في النمو بحركة الاستمرار، وهي ذات التقدم والترقي

والقوة والعزة، ومنها ما تتجاذبه قوتا التحليل والتركيب، فيكون حظه من هذه

الأطوار وما يقابلها تابعًا لغلبة إحدى القوتين اللتين هما ميزان الحياة القومية الأمية

ولا شك أن رجحان كفة التحليل يؤدي إلى الفناء وفقد الحياة بالكلية.

لقد بدا هذا التحليل في جسم حياتنا الملية من عهد بعيد حتى تلاشى هذا الجسم

أو كاد، ولم يبق فيه ما يقبل التحليل فكان أول واجب علينا أن نتلمّس العلاج الذي

يعيد إلينا حياتنا المفقودة. يدل على فقدنا هذه الحياة حديث: (بدأ الإسلام غريبًا

وسيعود كما بدأ) ، ومن الناس من يفهم من هذا الحديث أن الإسلام إذا وصل إلى

هذه الحجالة لا يعود إليه مجده ولا ترد إليه حياته. ولنا أن نقول: إنه صريح في

أن نشأته الثانية ستكون كنشأته الأولى. غربة وضعف، ثم معرفة وقوة وسيادة،

تجمع أطراف السعادة {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ

ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة: 28) .

بماذا نحيا؟! لا حياة لنا إلا بما حيي به أسلافنا من قبل، وما كانت حياتهم إلا

بروح القرآن، أترون من البعيد أن تعود إلينا حياتنا بهذا الروح الشريف؟! كيف

وقد عاش آباؤنا الأولون بالاستقاء من ينبوعه المتفجر من عين الحياة الأزلية الأبدية؟

وإنما مِتنا بترك الاستقاء منه اكتفاء بالوشل الآجن الذي ينضح من آنية أمثالنا

المخلوقين، إن القرآن قد صارع الهمجية العربية فصرعها، وغالب جيوش الوثنية

فغلبها، وزرع فسيل المدنية الفُضلى في تلك الأرض التي كانت معشوشبة بجميع

الأعشاب الخبيثة فاجْتَثَّ هذه الأعشاب، وأنمى ذلك الفسيل فكان أدواحًا عظيمة

أثمرت من كل زوج بهيج.

اشتهر عند مشركي العرب أن القرآن ما خالط قلبًا إلا وجذبه إلى الحنيفية،

وقاده إلى جنة الإسلام بسلاسل الإقناع والبرهان، فحملهم الحرص على عقائدهم،

وحب البقاء على تقاليدهم على مقاواته بما يمكنهم، فكان أمثل رأي ارتأوه في ذلك

ما قصّه الله علينا بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ

تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) رأوا عدم السماع له بالمرة، وهو رأي الجبناء في الهزيمة

ورأوا مقابلته باللغو واللغط لئلا يسبق منه إلى الأذهان شيء، فيقتادها إلى ما لم

يكن من مرادها، وإن كان فيه هدايتها ورشادها، ولم يكونوا مع هذا على ثقة من

الغلب، وإنما هو الأمل والرجاء تتشبث به النفوس في البأساء والضراء، وبلغ من

عدائهم للقرآن ما قصه الله تعالى علينا بقوله - عز من قائل -: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن

كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال: 32) .

فإذا كان القرآن قد أحيا أولئك الأقوام مع شدة كراهتهم لهذا النوع من الحياة

ومقاومتهم له بما عَلِمنا من المقاومة، وكانوا منه في أمر مريج، فكيف لا يحيينا

ونحن نوقن بأنه كلام الله الذي {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ

مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) .

إن الحياة التي تفيض علينا أمواهها من أنابيب القرآن تكفل لنا سعادة الدارين

وتمنحنا الفوز بالحسنين، ولا نعلم دينًا جمع بين مصالح الروح والجسد،ومنافع

الدنيا والآخرة على وجه الكمال، إلا دين القرآن الذي علّمنا أن ندعو الله تعالى بقوله:

{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201)

يقول نبي هذا الدين صلى الله عليه وسلم: اليد العليا خير من اليد السفلى،

ويقول: لَئَنْ تدع أولادك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون. ويُفَضِّل بمثل

هذا علماؤنا الغنيَ الشاكر على الفقير الصابر، والشاكر هو الذي يصرف من فضل

ماله في وجوه البر والمنافع العامة، هذا وإن كتب الأديان الأخرى تقول: (لا

يدخل الغني ملكوت السماء حتى يدخل الجمل في سم الخياط) .

كان من أهل هذا الدين من أفرط في الزهادة وبالغ في البعد عن أعمال الدنيا،

بل وفي التنفير عنها وهؤلاء قد عملوا بنصف الدين الإسلامي، وتركوا النصف

الآخر، ولا أعيبهم جميعًا فإن منهم قومًا قاموا بخدمة مولاهم، وأخلصوا له في سرّهم

ونجواهم، ولكن أقول: إنهم لا يصلحون للقدوة والإرشاد، وإن الذين يتمسكون

بركني الإسلام كليهما - ركن الدنيا وركن الآخرة - أفضل منهم. ذُكر رجلٌ للنبي -

صلى الله عليه وسلم ووصف من صيامه وقيامه وانقطاعه للعبادة ما أوجب العجب،

فسألهم عن معاشه، فقالوا: إن له أخًا يكتسب وينفق عليه، فقال: أخوه أفضل منه.

القرآن صريح في طلب إقامة الركنين معًا، ولكن الغالين في الزهادة أغضوا عن مثل

قوله: {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77) ومثل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ

اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً

يَوْمَ القِيَامَة} (الأعراف: 32) وأخذوا بالآيات التي تتعلق بركن الآخرة فقط، إن

الأحاديث في الزهادة كثيرة جدًّا؛ ولكن الكثير منها بين ضعيف وموضوع لا أصل

له، وما كان منها صحيحًا فالغرض منه كبح جماح النفوس المجبولة من طينة الطمع؛

كيلا تتعدى حدود الحق وتحب المال لذاته؛ فيمسك أصحابها الفضل منه عن

المنافع العامة وأعمال البر، بل ويمنعون الحقوق، فيكونون عبيد المال والهوى،

أذكر من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (تَعِس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد

الخميصة؛ إن أُعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس ولا انتعش، وإذا شيك فلا

انتقش) . رواه البخاري من حديث طويل.

أشار الأخ الأكبر في خطابه إلى أن مدنية أوروبا مقتبسة من الإسلام، وما

قال إلا حقًّا اعترف به فلاسفة الأوروبين ومؤرخيهم من قبل. لا أقول: إن كل فرع

من فروع هذه المدنية يوجد في الكتاب والسنة، كما لا أقول: إن كل فرع من فروع

الفقه منصوص عليه فيهما، وإنما جاء هذا الدين بقواعد عامة، وإرشادات كلية

يمكن للإنسان أن يهتدي بها إلى سعادة الدنيا والآخرة معًا، فكما استنبط الفقهاء

وعلماء الأخلاق الأحكام والمسائل القضائية والأدبية، وغيرهما من تلك القواعد،

كذلك اهتدى علماء الاجتماع بها إلى المسائل والفروع المدنية التي تتعلق بالعمران

وترقي نوع الإنسان، أشير الآن إلى بعض تلك القواعد بالإيجاز،وإذا أمهل الزمان،

فإنني أفصل القول فيها تفصيلاً في اجتماع آخر، إن شاء الله تعالى.

من تلك القواعد: قاعدة سنن الكون ونواميس الاجتماع والعمران التي بها

تعرف أسباب ترقي المجتمع الإنساني وتدليه، ومن راعاها في سيره فاز بأمانيه،

وقد أرشدنا القرآن إلى هذه السنن الإلهية، وهي التي يعبرعنها الفلاسفة بالنواميس

الطبيعية، وبيَّن لنا أنها تعرف بالسَّير في الأرض والنظر في أحوال الأمم، فقال:

{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) وقال: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ

تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62)

وقد اهتدى الأوروبيون إلى معرفة هذه السنن، ورعوها في سيرهم حق

رعايتها؛ فعرجت بهم إلى الأوج الذي نراهم فيه. ومن تلك القواعد: استعمال

العقل في العلم والدين، والأخذ بالبرهان، وقد كانت الأمم الأوروبية كغيرها،

محجورًا عليها أن تعتقد غير ما يقوله رؤساء الدين، حتى جاء القرآن يخاطب العقل

وينعي على أهل التقليد ويقول: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} (البقرة:

111) وينادي على رءوس الأشهاد: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ

أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) ومنها حرية الفكر والقول والعمل داخل حدود

شريعة الأمة والبلاد، واستقلال الإرادة وتقييد سلطة الرؤساء الروحانيين

والسياسيين، إلى غير ذلك مما لا محل لشرحه وتفصيله.

على هذه القواعد والأركان قامت مدنية أوروبا، وهي لم توجد في العالم إلا

بوجود القرآن. هذه القواعد أهم أركان السعادة الدنيوية، وقد أعرضنا عنها فشقينا

في دنيانا، وأخذوا بها فسعدوا وسادوا حتى علينا، ولو أعادوا النظر إلى القرآن كَرَّة

أخرى لرأوا فيه أسباب السعادة الأخروية، والقوم إذا علموا عملوا، ولا يبعد أن

يسبقونا في السعادة الثانية ما دمنا على هذا الكسل والإهمال، فأقترح على إخواني -

أعضاء هذه الجمعية - أن يطالب كل فرد منهم نفسه بتدبر القرآن وفهم معانيه عند

التلاوة، ومن وقف فهمه في شيء، فليراجع عنه في كتب التفسير إن كان أهلاً

للمراجعة، وإلا فليرجع إلى الذين يفهمون {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) . اهـ

هذا ما أحببت نشره في (المنار) مما استحضرته من الخطاب، وربما زِدت

كلمات ونقَصتُ مثلها؛ لأنني لم أكن ممن يبقى حافظًا ما يقوله ارتجالاً.

_________

ص: 306

الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول

‌كان يا ما كان

(4)

بعد ما صَعَدت السيارةُ الثالثة إلى العلاء، هبطت السيارة الرابعة من السماء؛

تريد بيع (العمر الطويل) بالثمن القليل؛ ليتمتع الناس بما اشتروه من السيارات

السالفات، من النعم السابغات، وهي الذكاء والفطانة، والعفة والاستقامة، والصحة

والعافية، وكفى بها نعمة ضافية، ولم تكن تعلم ما قوبلت به بضاعتهن من الكساد،

وماذا حلّ بهن من الطرد والإبعاد، فوقفت في مكان فسيح، ونادت بكلام فصيح: يا

أصحاب العقل والفكر! هل لكم في (طول العمر) ؟ فقد أُمرت بأن أبيعه لمن أراد

بشرط الأهلية والاستعداد، فهرع الناس إليها، وتكأكأوا عليها حتى صار يموج

بعضهم في بعض، كأنهم في يوم العرض، وطمع أحد الأغنياء باحتكار هذه

البضاعة لنفسه، والاستئثار ببيعها دون أبناء جنسه، فأرسل وكيل أشغاله، وكبير

عمّاله، يساوم السيارة بجميع التجارة، ولمّا عَلِم الناس بذلك، ضاقت بهم المسالك؛

لعلمهم بما وراء هذا الاحتكار، ومن أنواع المِحَن والمضار، وناهيك بطمع التجار؛

فوقع القيل والقال، وحمي وطيس النزاع والجدال، ولما علمت الحكومة أن الجدال

أوشك أن يفضي إلى الجلاد، وأن الاسترسال في المحادة سينتهي بالسيوف الحداد،

حكمت على مثير الفتنة بالإعدام؛ لإخلاله بالراحة والأمن العام، وأمرت بأن تباع

هذه البضاعة للناس بالسواء؛ لأنها من حقوق الدهماء كالماء والهواء، لا فرق فيها

بين الأغنياء والفقراء، ولا بين الصعاليك والأمراء، فانحسمت أسباب الضغينة،

وثابت إلى الناس السكينة، وطفقوا يساومون الفتاة، طالبين طول العمر والحياة،

وعلت الجلبة والضوضاء من الرعاع والغوغاء، فهذا يقول: أعطيني أعطيني،

وهذا يقول: أنا جئت أولاً، وأخر يقول: أنا أزيد، فقالت السيارة: قد كشفت

لكم عن الحقيقة حجاب الالتباس، حيث قلت لكم: لا يفوز بالمراد، إلا صاحب

الأهلية والاستعداد، فصاح بها الناس أجمعون: إننا أيتها الفتاة لمستعدون، فقالت:

عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، ثم أنشأت تمتحنهم فقالت السيارة: هل

اشتريتم من بضائع رفيقاتي اللاتي جئن من قبلي؟

- الناس: ما هي تلك البضائع؟ ومن هن رفيقاتك؟

- السيارة: منهن واحدة جاءت تبيع الذكاء والفطانة - الناس: هذه لم نشتر

منها شيئًا، وقد طردتها نِظَارة.

- السيارة: منهن واحدة جاءت تبيع الذكاء والفطانة.

- الناس: هذه لم نشتر منها شيئًا، وقد طردتها نِظَارة

المعارف العمومية.

- السيارة: أسامحكم بهذه، فهل اشتريتم من بضاعة الثانية، وهي العفة

والاستقامة؟

- الناس: وهذه لم نشتر منها أيضًا، وقد طردتها نِظَارة الحقانية.

- السيارة: والثالثة جاءت لتبيع الصحة والعافية.

- الناس: قد أتينا لنشتري من هذه، فجاء التُّرَبيّة وخطفوا صندوقها، ثم احتال

عليها الأطباء فأخذو ما إلى المستشفى ولا ندري ماذا فعلوا بها.

السيارة: الحق أقول لكم: إنني غير مأذونة بأن أبيعكم شيئًا من بضاعتي،

وما أردت بالاستعداد والأهلية، إلا هذه الصفات المُرضية، ثم ما هي لذة طول

العمر بدون الذكاء والفطنة، ومع فَقْدِ العفة والاستقامة، والصحة والعافية، ألا إن

الموت خير من الحياة التعيسة بفقد هذه الصفات النفيسة، على أن طول العمر

مع عدم الصحة والعافية مُحال، كما أن الصحة مع فقد العفة غاية لا تُنال.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 310

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

‌استنهاض همم

(13)

(مكدونيا) لا تقرأ صحيفة من صحف الأخبار الطائرة في هذه الأيام [1] إلا

وترى فيها ذكر مكدونيا، والقلاقل التي تدوي فيها، وأن أهلها يتطلبون إصلاحات

داخلية، أو امتيازات إدارية، وكأنهم طمحوا إلى هذه الرغيبة وسمَوا بأبصارهم إلى

تلك الأمنية مُذ رأوا فوز الكريديين، وإنجاح طلبتهم، وما بالهم لم يعتبروا بخيبة

الأرمينيين وإخفاق مأمولهم؟ ولا نعلم إذا كان مسلمو الأرنؤوط على وفاق مع ثائري

مكدونيا في هذا الطلب، أو ليسوا على وفاق معهم؟ يغلب على الظن أنهم

متواطئون جميعًا على القيام بهذا الشأن، وإلا لحصل بين القبيلين جدال أو جلاد،

وجرى ما كان يجري بين الأكراد والأرمن مذ تمنى هؤلاء على الدولة الأماني

وعارضهم أولئك.

وكيف نتيجة حوادث مكدونيا يا ترى؟ يظهر أن مقاطعة مكدونيا ربما نالت

إصلاحات خاصة، أو امتيازات داخلية تكون بمثابة استقلال إداري، كما

هو الشأن في سائر ولايات البلقان وفي كريد أيضًا، ولا يوجد في طريق هؤلاء من

العَثرات ما وجد في طريق الأرمن. ليس بينهم من يأخذ بأكظامهم، ويحفر لهم

الحفائر كما كان من مقاومة الأكراد للأرمن، ولا تتاخم بلادهم إحدى الدول القوية؛

لتعارضهم الآن وتمالئ الدولة العلية عليهم، فتزعهم وتنقمهم، وتنتظر هي أن

تلتهمهم كما فعلت الروسية مع الأرمن في ثورتهم فإنه يجاورهم من الشمال ولايات

البلقان، ومن الجنوب اليونان، وكلهم ليسوا ممن تُرهب صولته، أو تخشى شرته،

وإن كانت لهم مهارة في إثارة القلاقل، وحذق في إيقاظ نائم الفتن. نعم إن للنمسا

شيئًا من جوار لمكدونيا بواسطة البوسنة والهرسك، غير أن النمسا الآن لا تودّ أن

تغيظ الدولة العلية، ولا أن تثير عليها حنق إحدى الدول الأوروبية، فهي تواطئ

الروسية في حادثة مكدونيا، وتتابعها متابعة الظل، وسياسة الروسية هي حفظ

الحالة الحاضرة في تلك الولاية، بمعنى أن تُبقي على تابعيتها الصرفة للدولة العلية،

ولا نعلم إذا كانت تحافظ على سياسة الحياد هذه، أو يبدو لها، فتعضد أهالي

مكدونيا، وتروج طلباتهم لدى الدول كما فعلت في كريد.

المرجح الأول لما أن القيصر الآن يبذل مجهوده في توسيع نطاق نفوذه في

أصقاع الشرق الأقصى، ويهتم في شأن المؤتمر الذي ينظر في المشروع السلمي

الذي اقترحه على الدول، فمساعدته لثوار مكدونيا ربما كانت منافية لمشروعه لما

ينشأ غالبًا عن تأييد مطالبهم من إيغالهم في الشر والفظائع، وارتكابهم ما يزيل الأمن

ويخل بالسلم، وحادثة كريد أقرب شاهد على ما ذكرنا، فقد استبان لك الآن مما

تقدم أن مصير مكدونيا في الغالب هو الاستقلال الإداري. أما ولايات الأرمن

والأكراد، فمصيرها يتردد بين الاستقلال الإداري وبين الاندماج في السلطة

الروسية، وأما الولايات العربية فمصيرها إلى مهاوي التغلب الأجنبي - كل ذلك

إذا تقاعدت الحكومات الإسلامية عن الحلاف والمؤازرة، وبقيت الحكومة العثمانية

على الحال التي نذوق مرارها ونشاهد آثارها، ونسأل الله تعالى أن يحوِّلها إلى

أحسن حال.

إذا فار التنور، ووقع المحذور، وتجردت الدولة - لا كان ذلك - عن تلك

الولايات، فأجدر بها أن تحافظ على ولاية الأستانة التي هي معدن العنصر التركي،

ومهد مفاخره التاريخية، فتنهض القسطنطينية حينئذ بما على جنابتيها من البرّين

الرومللي والأناضول نهوض الطير بجناحيه.

قال الكاتب: اعْترض الحديث حينئذ بعضُ من حضر، وقال: إن عَجْزَ

العثمانيين عن حماية سائر الولايات مؤذِن بعجزهم عن حماية ولاية الأستانة أيضًا؟

فأجبته [2] : إن نعرة المرء وحفاظه في الدفاع عن جسمه وشواه (أطرافه) تكون

أشد من حفاظه في الدفاع عن سرابيله، وقص الذيل والردن أهون على النفس من

جدع الأنف وصلم الأذن، فما بالك إذا آنس المرء من آخر غارة في اختلاس مهجته

والإيداء بحياته، لا جرم أنه يستميت مستبسلاً، ولا يموت مستسلمًا، ومن أخص

غرائز القوم البسالة والحمية، وقد هذبهم الملك، ودَرّبتهم الآداب العسكرية، وفي

نصف القرن الماضي (الهجري) قام بينهم رجال اختطُّوا للأتراك خُطط التقدم،

وأشرعوا لهم من السياسة وحسن الإدارة مناهج، لو لم يتنكبوها لأشرفت بهم على

الغاية، وأوصلتهم إلى بحابح السعادة، حيث ترتع الأمم المتمدنة [3] ، ونبغ فيهم

خطباء، وكتبة أذكياء، فَكّوا عن اللغة التركية أغلال الركاكة والتعقيد، وأطلقوا

لسانها في الخطابة، وقلمها في الكتابة، وأشعروا قلوب الناشئين والفتيان حب

الحرية والوطن، حتى كثُر اللهج بهاتين الكلمتين بين القوم في أشعارهم، وضروب

كتاباتهم، ولا تزال تلك الروح منبعثة في الأمة التركية ما دامت آثار أولئك الكَتبة

يدوي صداها في أصماخ الناشئين وتصل نغيتها إلى سويداواتهم - مادام أولئك

الناشئون يتذامرون [4] بمثل قول سياسيهم الشهير: (نحن العثمانيين فتحنا

القسطنطينية بثلاثة آلاف رجل، ولا نُسَلِّمها إلا إذا بقي مِنَّا ذلك العدد) . لا تشفقن

على تلك الروح من ثقل الضغطة وشدة الوطأة، فإن حجر الماس لا يفتته صدم،

ولا يسحقه صك، بل لا يغررك سعي الساعين في إزهاقها، ولا تأميلهم استلالها من

بين اللحم والعظم والمصل [5] والدم، فإن السعي في استعباد الأمة وهضم حقوقها قد

يتسنى للعامل بواسطة حجب نور العلم عن عقولها، واستئصال جراثيم الفضائل من

نفوسها، لكنّه لن يتسنى له ذلك قط بواسطة محو التعلق من النفوس، واختلاس

العقل من الرءوس، وإلا لم يكن راعي بَشَر، بل راعي بقر. هذا المعنى [6] الذي

قام في نفوس العثمانيين وأُشربوه في قلوبهم حلّ من فطرتهم محل الإدراك والنطق.

إن قدر أحد على انتزاع الإدراك من الفطرة الآدمية كان قادرًا على انتزاع ذلك

المعنى من نفوس القوم وقلوبهم.

هذه المزايا التي ذكرنا التصاقها بنفوس العثمانيين، وممازجتها لأرواحهم،

هي التي تحملنا على الحكم ببقاء دولتهم، ودوام أمرهم، واقتدارهم على حفظ

استقلالهم من صولة الصائل، ولا نخال أن شيئًا من ذلك متوفر في مسلمي الولايات

العربية، أو معروف لديهم؛ لأن التعليم المدرسي يكاد يكون مفقودًا من بينهم

وتهذيب النشء والأحداث أمسى مقتصرًا على نفر منهم، وعلى غير الوجه الذي

ترجى فائدته لهم. أما لغتهم التي يُضرب بها المثل في اتساع نطاقها، وتشعب

أقانينها، فقد اكتفوا منها بقطر من بحر، وكلمة من سفر، حتى أضحت أشبه

باللغات الميتة التي وظيفتها تصحيح العبادات، وتفهيم النصوص الدينية، وحل

أساليب الكتب القديمة، ولولا استحداث الجرائد بين المتكلمين بها لكانت أسوأ حالاً

وأظلم مآلاً، ولحاكت اللغة الكرشونية التي يزاول بها الكهنة وظائفهم الدينية. ولم

يقم في العرب رجال درسوا السياسات، وتخرجوا في أعمالها؛ كي يلقنوا شعبهم

شيئًا من مبادئها، ويلقوا في نفسه بذور الإصلاح، ويعرفوه كيف يكون نظام هيئة

الاجتماع، وكيف يحافظ على الحقوق، ويطالب بها، ولم يَنْبُغ بينهم كتبة أو خطباء،

أو ذوو نباهة من العلماء يطلقون أفكار الشعب العربي من سلاسل الأوهام

ويطهرون نفوس آحاده من لوث الخرافات، ويميطون عن أبصارهم غواشي التقليد

الأعمى الذي يطوح بالأمم إلى عماية العدم.

منزلة الخطابة في الأمة منزلة الإرادة من الشخص، فاندفاع المرء في أعماله

وتقلبه في تلمس مصالحه، وانبعاثه في إنقاذ مقاصده إنما يكون على قدر ما عنده

من قوة الإرادة ومضاء العزيمة، فإذا قويت الإرادة فيه بحيث أضحت تتسلط على

ضعف نفسه، وتكفكف من جماح هواه بشره بالنجح، وسداد الأعمال، وانتظام

المعيشة، أما إذا ضعفت تلك الإرادة فيه وتضاءلت دون مقاومة أهواء نفسه وتقليص

غشاوات جهله، تحكمت حينئذ فيه تلك الأهواء، وسلطت عليه الرذائل، فتفسد

أعماله ويسوء مصيره، كذلك حال الأمة ومزية الخطابة فيها وتأثيرها في نفوس

آحادها. إذا رأيت أمة كثر الخطباء فيها، وانطلقت ألسنتهم في هدايتها لما فيه

خيرها، وقَدَروا بسبب ما أوتوه من البلاغة وقوة الخطابة على تحويل أفكار

الشعب، وتصريف مهابها من جهة إلى أخرى، وتمكنوا من هيج النفوس الجامدة،

واستثارة الحفائظ الخامدة، يوشك أن تنهض تلك الأمة من غفلتها، وتقتحم الأخطار

في سبيل صيانة شرفها ووقاية مصالحها، والذود عن استقلالها. فَكّر ماذا يكون حال

الأمة التي تفقد صدى الخطابة في نواديها، وتهدأ شقاشق الخطباء على منابرها؟

أجدر بأن تكون حالتها كحالة الأخرس يعجز عن إفهام ما في نفسه. الأخرق لا

يحسن شيئًا من الأعمال. القُلّب يشرع بعمل فلا يلبث حتى يدعه ويشرع بآخر،

أوهي كالطفل لا إرادة له تُلهمه سداده وتقيه من الغوائل، بل كالنفش السارب،

والهمل المرسل، لا راعي له يجمع متفرقه، ويهدي ضاله، وينعق بالسابق

المتقدم يسترجعه، وبالمتخلف المتباطئ يستحثه.

وبالجملة: إن وسائل النهضة لم تتوفر بعد في مسلمي العرب، كما توفرت في

الأتراك، فلذا كان مستقبل هؤلاء على مَقْرُبة من النجاح والاستقلال، ومستقبل

أولئك فيه شوب من غموض، وعليه غواشٍ من ظلام. ولولا ما أمرنا الله به من

الثقة بوعده، وآذننا بالتسجيل على اليائس من روحه بالكفر، مع ما نستحسه لهذه

الآونة من اهتزاز خواطر البعض من نُبهاء الأمة في إصلاح شأنها، وتموج نفوسهم

في العمل لإنهاضها وتقوية ذمائها (هو الحركة وبقية الحياة) لولا ذلك لما خامرنا

ريب في هويها، ولم يعترضنا شك في إمحاء جنسيتها، وانغماسها في غمار الأمم

المتغلبة.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

يريد بهذه الأيام أيام كتابة الرسالة، وقد مضى عليها شهور، أما الآن فقد سكنت الفتنة بحكمة مولانا السلطان الأعظم - أيّده الله تعالى - ولكن القوم قد نغلت نياتهم، ولا بد أن يعودوا إذا نفخ الأجنبي الرماد عن نارهم.

(2)

هذه الرسالة كانت بسطًا لحديث جرى للكاتب في ملأ من أهل سوريا كما تقدم، وما يقوله في الجواب من أن سلطة الترك لا تزول هو رأي له قديم، وهو معجب بالأتراك إعجابًا كبيرًا كما ترى في كلامه، ومن يعرف القوم يعطيه الحق.

(3)

(المنار) نقول: إنما لم ينجحوا بتلك المناهج؛ لأنها اتباع لخطوات أوروبا حتى في الإعراض عن هدي الدين، ولو أشرعوا لهم منهاجًا إسلاميًّا واحدًا لتم لهم ما يريدون.

(4)

أي يتحاضون، ويحث بعضهم بعضًا على الإقدام.

(5)

المصل: أعظم الأجزاء التي يتركب منها السائل الدموي.

(6)

يريد بهذا المعنى ما أسنده إلى سياسيهم الشهير من قوله: (نحن العثمانيين) إلى هنا، وهي معاني يُراد بها شيء واحد، والسياسي الشهيرهو كمال بك رئيس النهضة القلمية.

ص: 312

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(تابع مالية الدولة)

بقي علينا مما نسرده على القراء من تحويلات القروض العثمانية سردًا سريعًا،

الكلام على مشروع قد تقرر مبدئيًّا، ولاشك أنه لا يمضي عليه زمن حتى يتم

إنفاذه، وهو إصدار سهام لقرض قدره خمسة ملايين جنيه إنكليزي، ربحها ثلاثة

في المائة، وأجر استهلاكها واحد في المائة، ستتمكن به الحكومة العثمانية من شراء

سهام الدين الموحد (وهي سهام إيصال خطوط حديد الرومللي بأوروبا المركزية)

وقدر هذا الدينَّ 810000 جنيه إنكليزي. وتتمكن أيضًا من شراء مدرعتين من

مدرعات الدرجة الأولى من أوروبا بمبلغ 1400000 جنيه إنكليزي، ولما كانت

السهام المصدرة بثمن 60 (في المائة) سيحصل منها 3000000 جنيه إنكليزي،

فسيبقى للحكومة العثمانية من هذا المبلغ 700000 جنيه إنكليزي، حددت الدفعة

السنوية لهذا القرض بمبلغ 173000 جنيه إنكليزي، وهذا في مقابلة مبلغ 87000

جنيه إنكليزي كان يطلب ربحًا للقرض الموحد، ومبلغ 86000 جنيه إنكليزي كان

ينتج من احتكار التنباك الذي كان منح لأصحاب هذا القرض من سنتين (من تاريخ

تأليف الرسالة) وبدئ بالعمل به.

قد رأى القارئ فيما سلف أن الأمر العالي الصادر في 20 ديسمبر منح لحاملي

السندات التركية تلكم الأجزاء من الدين العمومي التي ألزمت بها معاهدة برلين كلاًّ

من حكومة البلغار واليونان والجبل الأسود والصرب، ولكن أوروبا قد تساهلت

مع هذه الحكومات، ولم تلزمها بأداء ما فرض عليها مع أن الحكومة العثمانية قامت

بما فرض عليها في تلك المعاهدة بصدق أضاع كثيرًا من منافعها، وهذا يدل دلالة

واضحة على عدم ثبات الدول التي كان لها نواب في مؤتمر برلين، ولولا ذلك لما

رضيت قط بنقض تلك الحكومات الصغيرة ما أبرمته الدول الكبرى، ووقّع عليه

نوابها.

سيتضح للقارئ مما نورده عليه بالاختصار من أجزاء الدَّين التي ألزمت به

الحكومات المذكورة، وما عرضته الحكومة العثمانية من طرق تسديدها عرضًا

رسميًّا، ومما في هذه الطرق من أمارات العدل ودلائل الإنصاف - أهمية حل

هذه المسألة السيئة بالنسبة لتركيا ودائنيها، وما ظهر فيها من اعتدال لحكومة جلالة

السلطان ظهورًا واضحًا، حكومة البلغار مدينة لخزينة الحكومة العثمانية - بحسب

الأرقام المأخوذة من مصلحة الدين العمومي -بمبلغ إسمي قدره 10888528

جنيهًا مجيديًّا فائدته واحد في المائة، فما يدفع من الفائدة مسانهة يكون 108885

جنيهًا مجيديًّا، وهذا المبلغ (الفائدة) هو الذي كان من الضروري تأصيله، إذا

اعتبرنا أن متوسط سعر ربح سهام الحكومات في أوروبا أربع في المائة، نستفيد أنه

لا يبقى على البلغار شيء مما لزمها من الدين بعد نهاية المدة المقررة لدفعه؛ فإن ربح

الدفعة السنوية من رأس المال الواجب عليها هو أربع في المائة، والمدة المقررة

لاستهلاك المال مائة سنة، ففي هذه الأحوال يكون المبلغ اللازم لتعويض الدفعة

النسوية وهي 108883 جنيهًا مجيديًا هو 2667240 جنيهًا مجيديًا، فإذا سلمنا أن

حكومة البلغار لا يتيسر لها الحصول على هذا المبلغ بفائدة أقل من ست في المائة بشرط تسديده في 25 سنة، لكان ما تدفعه مسانهة هو 208650 جنيهًا مجيديًا،

وجدت الحكومة المذكورة في هذا التدبير مزايا عظمى من حيث تقوية الثقة بها،

والحصول على الوفور المهمة الناتجة لها من المبلغ التي هي مدينة به للحكومة

العثمانية، هذه المزايا كان من شأنها أن تحملها على المشاركة في إنقاذ ذلك

المشروع، وفي الحقيقة لو أن حكومة البلغار كانت تسير في دفع القسط الواجب عليها

من الدين مسانهة على طريقة الحكومة العثمانية في الدفع (وهو الذي يجب عليها أن

تفعله) لاضطرت في هذه الحالة أن تدفع في كل سنة مبلغ 544425 جنيهًا مجيديًّا،

وذلك بسبب زيادة هذا القسط تدريجيًا إلى 50 في المئة على حسب زيادة

الواردات المتنازل عنها للدائنين، وفوق ذلك ما كان يتيسر لها أبدًا أن تعرف

المبلغ الذي كان يجب أن يحتسب لخزينتها من قبل أن تسدد الدين كله، فإذا

تحامينا خطر احتمال ما قد يعرض من الشك في لزوم دفع ذلك المبلغ في خلال مدة

القرن المقررة لدفع الدين، وقدرنا ما تدفعه حكومة البلغار كل سنة باثنين في

المائة، لكانت دفعتها السنوية 217770 جنيهًا مجيديًّا في مدة مائة سنة، فدفعها

مبلغ 208650 جنيهًا مجيديًّا مسانهة، مدة خمس وعشرين سنة فقط، هو إذن

تدبيرٌ كله فائدة لها.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 316

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مدرسة الجمعية الخلدونية

كما تم في هذه الأيام امتحان المدارس التعليمية في مصر تم في بلاد الهند

وتونس وغيرها، وقد جاءتنا كراسة من إدارة (مدرسة محمدي) في مدارس الهند

تبين خلاصة أعمالها، وإذا تسنى لنا من يترجمها من لغة أوردو ننشر خلاصتها،

ووردت جريدة (الحاضرة) الغراء من تونس شارحة احتفال المدرسة العلوية،

ومدرسة الجمعية الخلدونية، وامتحان جامع الزيتونة الشريف، وقد سرّنا جدًّا ترقي

(الجمعية الخلدونية) عامًا بعد عام، وقرأنا فيما نشرته الجريدة من خبر الاحتفال

خطابًا بليغًا لجناب (الوزير المقيم) في تونس من جانب فرنسا وافق فيه ما كتبه

منشئ هذه المجلة من أيام في (المؤيد) الأغر تحت عنوان (السياسة الأدبية) ،

حيث قلت: لا بد للمسلمين من الجمع بين علوم الدنيا والآخرة، وقد قال الوزير مثل

ذلك، وقابل بين تعليم الجمعية الخلدونية، وبين جامع الزيتونة، كما قابلت أنا بين

تعليم (دار العلوم) وتعليم الأزهر، وسائر المدارس الأميرية، وهاؤم اقرؤوا كلامه

نقلاً عن (الحاضرة) الغراء بالحرف:

قال جنابه: يسرني كل السرور أن حضرت في هذا الاحتفال لمشاهدة تقدم

الخلدونية ونجاحها، ولا حاجة لي للإعراب عما يختلج بين أضلعي من دواعي

الخير والتقدم لهاته البلاد، أما الجمعية الخلدونية، فلما كنت ممن أعان على غرس

شجرتها، يسرني اليوم ما نراه من ثبات أصلها، ونمو فرعها، وتفتق أزهارها،

وطيب ثمارها

ثم قال: وحيث حدا بنا المقام لتشبيه الخلدونية بشجرة يانعة

نقول: إن جامع الزيتونة هو الدوحة المباركة العلمية، والمدرسة الخلدونية بمثابة

لقاح بها حتى إذا ثبت مغرسها أثمرت ثمارًا شهية مكملة للذة ثمرات الدوحة الأصلية،

ووجه التشبيه بالشجرة كما تقدم نراه من وضع الشيء في محله ضرورة أن الجامع

الأعظم مسمى بجامع الزيتونة (نسبة للشجرة المباركة) فلا غرو أن كانت

الخلدونية فرعًا من فروعها (فاستحسن الحاضرون هذا المجاز) ثم قال: وقد

كنت وعدت في مناسبة أخرى بتقديم مَن أحرز على شهادة التحصيل مِن نجباء

الخلدونية للوظائف الإدارية، والآن نؤكد ذلك الوعد بوفاق، وبمشهد من رجال

الدولة التونسية، وليس معنى تخويل الوظائف إعطاؤها لمستحقيها بمجرد التحصيل

على تلك الشهادة، بل بمجرد شغور الخطط بالمصالح الإدارية التي ترشحوا لها

بأنوار المعارف، ثم قال: وهاته المعارف، لاتنافيها الشريعة الإسلامية، بل جاءت

بالحث عليها حثًّا لاينكر، كما برهن على ذلك الأستاذ العلامة الشيخ سالم بوحاجب

في درسه البليغ بمناسبة افتتاح الخلدونية، ثم قال: ومما يدل على نفع العلوم

المزاولة بالخلدونية، ما نراه من الاعتناء بتلك العلوم في البلاد الشرقية كالأستانة

والقاهرة، ومع ذلك فلا تكاد توجد بها مدرسة تحاكي الخلدونية في وضعها ومقصدها،

كما تأكدنا من الفضلاء الثقات، ومن الأميرة نزلي هانم (من الأسرة الخديوية

المصرية، وقد كانت بتونس لعهد قريب) فإن طلبة العلم بالجامع الأزهر مثلاً

منقطعون لمزاولة علوم الدين وما تعلق بها معرضون عن التعاليم الوقتية التي لا

يُنْكَر فضلها ولزومها في الأوقات الحالية، كما أن تلاميذ المكاتب المصرية لا

يتعاطون إلا الفنون الوقتية، وليس لهم أدنى إلمام بعلوم الدين، بحيث افترق جمهور

الطلبة المصريين فريقان، كلاهما مضاد الآخر في أفكاره ونزعته وأخلاقه، وليس

هناك رابطة بين ذينك الفريقين، وإن شئت قلت: بين ذينك التعليمين، بخلاف

المملكة التونسية، فقد امتازت بوجود المدرسة الخلدونية التي أضحت الرابطة

الجامعة بين التعليم الديني والتعليم الدنيوي، سيما والقائمون بتلك الوساطة نخبة من

نجباء المسلمين التونسيين.

ثم تخلص جنابه لمبحث سياسي دقيق، فقال: ولفرنسا اهتمام عظيم بشأن

الديانة الإسلامية، وثقة تامة بمن حصل على نصابها بحيث إنها تعتمد من كان

متمسكًا بأمور دينه محافظًا على شعائر قومه، متثقفًا بالكمالات الإنسانية، وذلك أن

الدولة الفرنسوية لا تزال خاطبة ود الإسلام، لما تعلم أن غرس محبتها في قلوب

المسلمين، وترويج سياستها في دواخل البلاد الإفريقية معلقان على موالاة المسلمين

في شمال أفريقيا، لا سيما عاصمة المملكة التونسية التي تكون مركزًا علميًّا تنبعث

أشعته على سائر أرجاء البلاد السودانية (تصفيق استحسان) اهـ ما أردنا نشره.

(المنار)

أسست مدرسة دار العلوم في مصر قبل المدرسة الخلدونية بسنين، ولكن

السياسة الإنكليزية ضغطت عليها حتى كادت تسحقها، واجتهدت في محو ما كان

للدين وللغة في المدارس الأخرى من الأطلال والرسوم، وإنما فعلوا هذا بخيانة

الأمين ومساعدة المارقين من اللابسين لباس المسلمين، الذين لا يزال يقترح

بعضهم تعليم التاريخ الإسلامي بالإنكليزية بدلاً من العربية، وبعضهم إبطال حفظ

شيء من القرآن، فصبر جميل والله المستعان.

_________

ص: 318

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إحصاء عن عدد سكان أوربا

وضعت إحدى الجرائد الفرنسوية إحصاء عن عدد سكان أوربا، فقالت: إنهم

يبلغون الآن 380 مليونًا، وكانوا في عام 1887 نحو 343 مليونًا، فيكون عدد سكان

أوروبا قد زاد منذ نحو اثنتي عشرة سنة 37 مليونًا، ويوجد من هذا العدد 106

ملايين، و200 ألف نفس في روسيا، و52 مليونًا و800 ألف في ألمانيا، و43

مليونًا ونصف مليون في النمسا، و39 مليونًا و800 ألف في إنكلترا و38 مليونًا

ونصف مليون في فرنسا، و31 مليونًا و300 ألف في إيطاليا، و18 مليونًا في

أسبانيا، و6 ملايين ونصف مليون في بلجيكا، و5 ملايين و800 ألف في تركيا

أوروبا، و5 ملايين و600 ألف في رومانيا، وخمسة ملايين في البرتغال، و5

ملايين في أسوج، و4 ملايين و900 في هولندا، و3 ملايين و300 ألف في

بلغاريا، و3 ملايين في سويسرا، ومليونان و400 في الدنمارك، ومثل هذا العدد في

سربيا، ومليونان في نروج.

...

...

...

...

... (الأهرام)

_________

ص: 320

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجنسية والدين الإسلامي

البداوة في النوع الإنساني سابقة على الحضارة، ولكن الإنسان مدني بالطبع،

ميال للاجتماع بالفطرة، وقد كان مبدأ اجتماعه تكوّن الشعوب والقبائل بالعصبية

النسبية، فكانت هي مناط الجنسية، ثم صعد النوع في سلم الارتقاء الاجتماعي،

فاتسعت دائرة جنسيته، فكان مناطها اللغة، وكما كانت تتألب القبيلة التي يجمعها

نسب واحد، وتزحف لقتال قبيلة أخرى من أهل لغتها لأقل عدوان يقع بين أفراد

القبيلتين، صارت تتألب القبائل الكثيرة التي يرتبط بعضها ببعض برابطة اللغة

ويلتحم بلُحمتها، على قتال الأجناس التي تجمعها لغة أخرى غير لغتهم، وبهذه

الجنسية تكونت الأمم، فكان منها العربي والتركي، والفارسي والهندي والصيني

إلى غير ذلك.

ما كانت عناية الله تعالي بالإنسان لتقف به عند هذا الحد من الاجتماع

والتمدن، بل أعطاه سلمًا ليعرج عليه إلى الأفق الأعلى من المدنية وسعة دائرة

الاجتماع، وهو المُعبر عنه بناموس الارتقاء العام، ولما استعد بمقتضى هذا

الناموس لامتزاج بعض أجناسه ببعض، ومؤاخاة العربي للعجمي والرومي

والفارسي، منحه رابطة أعلى من جميع روابط الاجتماع، رابطة تضم متفرق

العناصر وأشتات الأجناس، وتصوغها فتجعلها عنصرًا واحدًا، رابطة يمكن لكافة

البشر أن يكونوا بها أمة واحدة، وإخوانًا على سرر متقابلين، هذه الرابطة هي

الديانة الإسلامية، التي بُني أساسها على الوحدة في الاعتقاد، والتهذيب والأحكام

القضائية والمدنية التي يخاطب قرآنها البشر كافة بقوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا

وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا

الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) ويخاطب أهل الكتاب خاصة بقوله:

{يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً

وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) .

ما كان ليعزب عن شارع هذا الدين - وهو عالم الغيب والشهادة - أن الناس

لا يعتنقونه مرة واحدة، وأن هذا موجب للاختلاف والتفرق، وهو إنما وضع للوفاق

والتوحيد، ولذلك جعل الرابطة ذات طرفين، طرف يمكن أن يضم جميع البشر على

اختلاف مذاهبهم وعقائدهم، وهو كونهم يحكمون بشريعة واحدة عادلة، تساوي بين

مؤمنهم وكافرهم، ومليكهم وصعلوكهم، وغنيهم وفقيرهم، وقويهم وضعيفهم،

وهذا الطرف هو طرف الجامعة الدنيوية، ويمكن لأهله أن يعملوا لإحراز سعادة الدنيا بالاشتراك، حتى يصلوا إلى الغاية التي في استعدادهم الوصول إليها،

والطرف الثاني هو طرف الجامعة الروحية الأخروية، وهو يؤلف بين الآخذين بهذا

الدين تأليفًا روحيًّا زائدًا عن ذلك التأليف الجثماني تأليفًا جرثومته وحدة المعتقد

والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وغذاؤه الأخلاق الفاضلة،

والعبادات الكاملة، وثمرته الإخاء الصحيح، وجعل المؤمنين في تضافرهم وتعاونهم

على البر والتقوى كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسم الواحد إذا اشتكى له عضو

تداعى له سائر الجسد.

لا تحقرن أمر الرابطة الأولى، رابطة الشريعة العادلة، فهي على كونها أعم

من رابطة اللغة وأشمل، قد كانت أقوى وأكفل، كان أبناء اللغة الواحدة والدين

والواحد يفرون من هجير ظلم قومهم، المشاركين لهم في جنسيتهم، ويستظلون بظل

العدل الإسلامي الظليل، حتى أن الروم في بلاد الشام لما رأوا في أثناء الفتوح وفاء

المسلمين لهم وحسن سيرتهم فيهم، صاروا عونًا لهم على قومهم، وعيونًا للمسلمين

عليهم، يتجسسون لهم الأخبار، ويوقفونهم على الأسرار.

جاء في رسالة (الجزية) التي نشرت في المجلد الأول من (المنار) أن أبا عبيدة

رضي الله عنه لما أراد أن يشخص من حمص إلى دمشق لتألّب الروم على المسلمين

وجمعهم لهم، أمر حبيب بن سلمة أن يرد على القوم ما كان أخذه المسلمون منهم من

الجزية، فرد عليهم ذلك، وأفهمهم بأن الأمير أبا عبيدة يقول: ما كان لنا أن نأخذ

أموالكم، ولا نمنع بلادكم (أي أن أخذ المال هو بإزاء الحماية، وقد عجزوا عنها في

ذلك الوقت لاضطرارهم إلى الخروج من البلد، فردوا عليهم المال) فقال أهل

البلد: (ردكم الله إلينا، ولعن الذين يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم

ما ردوا إلينا، بل غصبونا، وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا) هذه

الرابطة مناط للجنسية، اتخذه الأوروبيون أحبولة لصيد الأمم والشعوب التي

ثقلت عليها وطأة ظلم حكامها، فنجحوا مع بُعدهم عن العدل الصحيح والمساواة اللذين كان عليهما المسلمون عندما كانوا متمسكين بدينهم وحاكمين بشريعتهم، ولكن

هذه الرابطة مهما كانت وثيقة وقوية، فهي لن تبلغ مبلغ رابطة وحدة الاعتقاد

بعروة الإسلام الوثقى التي لا انفصام لها، ولذلك ترى المسلمين يتململون من

سلطة الأجنبي عن دينهم، وإن كان عادلاً، ويودون الفرار من ظل عدل، ولو

لفحهم مثل لهيب جهنم من ظلم المتحدين معهم في الاعتقاد والمذهب، وبهذا لم يكن

للمسلمين جنسية في غير دينهم، ولا يخضعون باختيارهم سرًّا وجهرًا إلا لحكومة

شوروية تحكمهم بشريعتهم، وتقيم حدودها العادلة فيهم، مقتفية آثار خلفائهم

الراشدين، بحيث يكون لديها الخليفة والصعلوك في الحق سواء، لو اهتدت لهذا الأمر

أية حكومة إسلامية، ووفقت للعمل به مع الحكمة، من غير زيغ ولا زلل،

لأمكنها أن تجمع كلمة المسلمين في مدة قصيرة، بل لو أن دولة حكيمة كإنكلترا

اعتنقت الإسلام وأقامت شريعته، لتسنى لها امتلاك باقي الشرق وإفريقيا كلها.

عرف الأوروبيون من المسلمين ما ذكرنا، فانتفعوا بمعرفتهم واجتهدوا

في إزاحة القابضين على أزمَّة الحكومات الإسلامية عن صراط شريعتهم،

وأدخلوا عليهم القوانين الوضعية؛ فنفرت قلوب الرعايا منهم وكرهت سلطتهم،

حتى صارت تخرج عليهم. واجتهدوا في حل عروة الرابطة الدينية من نفوس

المسلمين باسم المدنية الجديدة التي تسمي التمسك بالدين تعصبًّا، وتمثل هذا

التعصب بمثال مشوه قبيح ينفث السموم في الأرواح فيقتلها، ويعترض دون شمس

العلوم والمعارف فيحجب أنوارها [1] وما كان الأوروبيون ليتمكنوا من خلابة

المسلمين بأنفسهم فيجعلوا اسم التعصب (بمعنى التمسك بالدين) بينهم سبة

وعارًا، ويتخذوا هذا ذريعة لفصم عروة الدين وتوهين رابطته العامة، ولكنهم

تمكنوا من فتنة بعض المسلمين الجغرافيين [2] بمدنيتهم، واتخذوهم أعوانًا لهم على

كل ما يقصدونه من المسلمين. يردد المصريون الشكوى مع التوجع والتألم من

المستر دنلوب سكرتير المعارف العام، القابض على أزِمَّة المدارس كلها حيث يجتهد

في محو معالم اللغة العربية، وطمس آثار الديانة الإسلامية من المدارس، وجعل رسومها مواثل ودوارس، ولا لوم على من يخدم دولته وملته بالصدق والنشاط،

وإنما اللوم والتثريب - بل اللعن والتأنيب - على الذين رضوا بأن يكونوا معاول في

يديه لهدم بناء جامعتيهم الدينية واللغوية، وهم يعلمون أن هدمهما يعدم

جنسيتهم بالكلية، وفي هذا محو الملة والأمة من لوح الوجود، هؤلاء هم الذين

يجب أن يحفظ التاريخ ذكرهم محفوفًا بالخزي والمقت، ملوثًا بقذر الخيانة والغش،

حيث يحفظ للمستر دنلوب في خدمة ملته اسمًا سميًّا، ويرفعه في صدق وطنيته

مكانًا عليًّا، ويوجد في غير مصر كثير من هؤلاء المارقين.

فعلى كل مسلم حقيقي أن يسعى جهده في توثيق الرابطة الإسلامية الروحية

بين كل من ينتسب للإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، بأن يعرف أهل كل بلاد

تاريخ أهل البلاد الأخرى، وشؤونها الغابرة والحاضرة، وأن يكون لهم طرق

للتعارف، وأمثل هذه الطرق الجرائد، والاجتماع في موقف الحجيج العام، ومما

يقضي بالأسف واللهف أن الحجاج بعد ما يرجعون من أداء الفريضة يقضون

أعمارهم في الحديث عن سفر الحج، وما لاقوه وجرى لهم فيه، ولا نسمع منهم

خبرًا عن أحوال إخوانهم من أهل الأقطار الأخرى الذين ضمتهم وإياهم عرفات

حتى كأنهم لم يشهدوا ذلك الموقف الشريف الذي لم يسم بهذا الاسم (عرفات) إلا

لأنه موقف التعارف بين الشعوب والقبائل، واحسرتاه، فقدنا كل شيء، حتى

معاني أركان ديننا الكبرى، وأسرارها وفوائدها، ومن الضروري في هذا أن يكون

منا أمة يدرسون اللغات التي ينطق بها إخواننا في كل قطر، أليس من البلاء أن

لغةأوردو التي ينطق بها ثمانون مليونًا من المسلمين في الهند لا يوجد تركي في

الرومللي أو الأناضول ولا عربي في العراق أو سوريا أو مصر أو المغرب يتعلمها

ليتعرف بها شؤون أولئك الملايين من إخوانه؟ ونرى الجم الغفير من دعاة

النصرانية يتعلمون هذه اللغة، وسائر لغات العالم لأجل دعوة أهلها

إلى دينهم.

متى عرف بعضنا تاريخ بعض، وتعارفنا بما يمكن من طرق التعارف،

وتبادلنا الأفكار بالجرائد، يتسنى لنا حينئذ أن نتفق على وحدة التربية والتعليم،

وكمال هذه الوحدة إنما يكون بتعميم اللغة العربية، وعلى وحدة الاشتراك في

المشروعات والأعمال النافعة، وبهذين الوحدتين تكون (الجامعة الإسلامية) التي

أكثر من ذكرها الكُتاب، وبحثوا فيها من وجوه كثيرة غير محررة، فتضاربت

أقوالهم، وتناقضت آراؤهم.

قلنا: إن الجامعة الإسلامية لها طرفان، أحدهما يضم المعتقدين بالدين

الإسلامي، ويربطهم برابطة (الأخوة الإيمانية) حتى يكونوا جسمًا واحدًا، وقد

انحلت هذه الرابطة، ولكنها مازالت، ولن تزول، والطريق إلى توثيقها وشدها

هو ما قرأت آنفًا، وثانيهما يربط المسلم وغيره من أرباب الملل برابطة الشريعة

العادلة، التي يحكمون بها جميعًا بالمساواة، وقد طرأ على هذه ما حل عقدتها في

بعض الحكومات، وما أزالها في حكومات أخرى، وعلى كل حال ينبغي للمسلمين

في كل قطر أن يسعوا بالاشتراك مع مواطنيهم الذين يحكمون معهم بحكومة واحدة

إلى كل ما يعود على وطنهم وبلادهم بالعمران، ويفجر فيها ينابيع الثروة، هذا ما

يجب على الأمة الإسلامية في إحياء جنسيتها، بتقوية الرابطتين بقدر الإمكان، وأما

الحكومات الإسلامية، وفي مقدمتها الدولة العلية، فيجب عليها أن تساعد رعاياها

على هذه الأعمال، وتسهل لهم سبلها، وأن تجتهد بتقوية نفسها بالإصلاحات

الداخلية، والاستعدادات الحربية؛ ليمكنها حماية الحوزة والدفاع عن البيضة،

وأرى من الضروري لصيانة الدولة العلية من طمع الطامعين أن يسلك مولانا

السلطان الأعظم (أيده الله تعالى بروح منه) في جميع الولايات، الطريقة العسكرية

التي سلكها في طرابلس الغرب، وهو جعل كل فرد مستعدًّا للقتال إذا دخل العدو

بلاده، كما هو الواجب في الدين الإسلامي، وأن لا يحرم ولاية من الولايات من

فرسان الألايات الحميدية؛ فإن استعداد الدولة نفسها مهما بلغ، لا يمكن أن تقاوم به

أوروبا المتحدة عليها باطنًا، وإن اختلف دولها ظاهرًا، وأما استعداد الرعايا

لمصادمة كل قوة أجنبية تدخل بلادهم حتى الفناء، فهو يمنعهم من كل عداء.

هذا هو رأينا في تكوين الجامعة الإسلامية بالطرق الممكنة، ولا سبيل لدول

أوروبا إلى الاعتراض على شيء من ذلك، أما الإصلاحات الداخلية، فأهمها جعل

الحكومة شوروية، والعدل والمساواة بين الرعية، وانتقاء جميع الموظفين من

الأكْفاء المستعدين، وقد شرحنا رأينا في الإصلاح في مقالات سابقة، فلا نعيده

(ومن يتق الله) مسترشدًا بسننه الكونية وشريعته السماوية (فهو حسبه)

وكافيه ما يهمه {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: 3) .

_________

(1)

قد شرحنا حقيقة هذه المسألة في مقالات نشرت في أعداد السنة الأولى للمنار، فلتراجع.

(2)

أعني بالمسلمين الجغرافيين: الذين يعدون في اصطلاح الجغرافيا مسلمين، وهم كل من ينتسب للإسلام ولو اسمًا، وقد سنحت لي هذه الكلمة أثناء خطاب كنت ألقيته في جمعية (مكارم الأخلاق) في القاهرة، فقلت: يقال: إن المسلمين ثلاثمائة مليون أو يزيدون، وهؤلاء هم المسلمون الجغرافيون، أما المسلمون الحقيقيون الذين يفهمون الإسلام حق فهمه ويعملون به، فهم قليلون.

ص: 321

الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول

‌كان يا ما كان

(5)

ثم انصرفت السيارة، واضعة طول العمر في صندوقها، فمرت بالببغاء في

طريقها، فقالت له: هل أنت في جوع؟ فقال: نعم، وإنه لجوع ديقوع دهقوع،

وكان في يدها نموذج بضاعتها، فنفحته به لساعتها، فحسبه طعامًا، فالتهمه التهامًا،

ومن ذلك الحين صار الببغاء يعيش ثلاثمائة سنين، وفي إثر ذلك جاءت السيارة

الخامسة لتبيع الشرف والفخر، والكمال ورفعة القدر، فسألها الناس عن الثمن،

فقالت: هو خدمة الوطن، والقيام بالأعمال المهمة التي ترتقي بها الأمة، أو دفع

العدو عن البلاد، وتخليصها من ذل الاستبداد أو الاستعباد، أو اكتشاف حقيقة

علمية، أو اختراع آلة صناعية، فقالوا لها: إن الشرف والكمال يشترى عندنا

بالمال؛ لأنه إما رتبة أو وسام، أو منصب من مناصب الحكام، ولا يتوقف شيء

من ذلك على سلوك تلك المسالك التي تعود بالإسعاد على الأمة والبلاد، فقالت

السيارة: ما سمي الوسام بهذا الاسم إلا لأنه علامة ووسم على أعمال عظيمة،

يقوم بها أصحاب العزيمة، ولو كان الشرف في التحلي بالمعادن والجواهر، أو

التزين بالملبوس الفاخر لكانت الغانيات من ربات الحجال أفضل وأشرف من عظماء

الرجال كالفلاسفة والحكماء، والعلماء والصلحاء، ولتسنى لبعض الأغنياء المترفين

أن يكون أعلى شرفًا من الملوك الفاتحين، بل ومن النبيين والمرسلين، وأما الألقاب

الشريفة التي يتهافت عليها أرباب العقول السخيفة، كصاحب السماحة والسيادة، أو

صاحب الدولة أو السعادة، فهي كلام إذا لم يطابق الواقع بأن يكون أصحابها

ينابيع المصالح والمنافع، فهي على كونها عرضًا يتلاشى في الهواء، جديرة بأن

تدل على السخرية والاستهزاء، كوصف النذل الجبان بأوصاف الشجعان، وكإطلاق

ألقاب أكابر العلماء على سفلة الجهلاء، فقالوا لها: إن الشرف والمجد ما قوبل

صاحبه بالتعظيم والحمد، ولا يتشرط عندنا أن يطابق مدحه الواقع ولا أن يكون

مظهرًا للمنافع، فخير للمرء أن يؤذي فيُكرم ويُعان، من أن ينفع فيؤذَى ويُهان،

فقالت: أما وقد فسدت هكذا الطباع، وتغيرت كما ذكرتم الأوضاع، فقد بطل الدليل

والمدلول، وظهرت العلة والمعلول، وتبين أنه لم يبق من شرف لهذه الوسامات،

ولا لأكسية التشريفات، بل ربما دلت على خسة ذويها، وسخافة رأي الراغبين فيها،

وأرى من الفضيلة التنائي عنها، وتطهير صندوقي منها، ثم ألقتها وتخلت،

وأذنت لربها وولت، فتهافت لالتقاطها الأشرار، تهافت الفراش على النار، فكان

الشرف بهذه الأشياء من نصيب هؤلاء، وما أصاب بعض الكرام من رتبة أو

وسام، فإنما كان بالمصادفة والاتفاق، لا لكونه من أهل الاستحقاق.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 328

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

‌استنهاض همم

(14)

إن ما ذكرنا من حركة خواطر المسلمين، وتناجي أرواحهم في إصلاح

شؤونهم، لابد أن يعقبه انصلات عزائمهم، وتحفز هممهم للوثوب، فيندفعون وراء

الأعمال اندفاع السيل المنهمر، تتحاور علماؤهم في شأن العلوم الإسلامية الدينية

واللغوية، وتنقيحها وميز كل علم عن آخر، ووضع تآليف جديدة سهلة المأخذ،

خالية عن الركاكة والتعقيد في كل فن، مرتبة على حساب مقدرة الطالب، ونبش ما

لأسلافنا من الآثار والتآليف النفيسة التي أودع فيها طرائق السلف الصالح وأعمالهم،

وأخلاقهم وآدابهم ومشاربهم، ونشرها بين الكافة لينتفعوا بها، وإحياء العلوم

الأدبية والأخلاقية والتاريخية، وحمل الطلاب والناشئين على دراستها، ثم النظر

في طريقة التعليم وتحسينها، وجعلها بحيث يمكن للطلاب من تحصيل العلم

الإسلامي بمدة قصيرة، ثم إذا رأى بعض أولئك الطالبين من نفسه ميلاً للتبحر في

العلوم الإسلامية والتعمق فيها، أو الإخصاء [1] في علم واحد منها والتوسع فيه -

كان له أن يكب على تقصي الأبحاث في مسائل تلك العلوم، وانخزالاً دون تتبع

أبحاثها، وتأثر نتائجها، حق له أن يعكف على دراسة الفنون العصرية في كتب

مؤلفة لهذه الغاية، ويتخير له علمًا منها يخصي فيه ويتضلع من مسائله، فيستفيد

منه، ويفيد أهل وطنه وأبناء قومه.

لا تنهمك الطلبة في علوم عقيمة لا تنتج فائدة ولا تبعث على عمل. العلم

هو ما يربي في نفس الطالب ملكات فاضلة وأخلاق شريفة تحركه في تحصيل ما

به منفعة تعود على ذاته بالخير الدنيوي أو الأخروي، أو مصلحة عامة تورث

مجموع الأمة مجدًا وسعادة وعزًّا، وسيادة العلم ما يتوقف عليه انتظام مصالح البشر،

ويحتاجون إليه في قيام شأنهم، وحسن معيشتهم وراحتهم. ليس من العلم النافع

في شيء العلم الذي يضعف قوة العقل الحاكمة ويوهنها، ويقتصر أثره على تقوية

الذاكرة وتنميتها، ليس من العلم في شيء علم من ينفق عمره ويبذل ثمين وقته في

تفهيم أساليب المتقدمين أو المتأخرين، وتحليل عباراتهم، وتفكيك عقد أبحاثهم،

وتصحيح أغلاطهم، وتأويل أوهامهم.

هذا ما يخلق بالعلماء أن ينظروا فيه، ويتوخوا إصلاحه، ومداركة خلله،

والمتمرنون على الخطابة منهم يعظون العامة في المحافل والمجامع، ويحثونهم على

العمل والنشاط في الكسب، ويوقظون أفكارهم من سِنَةِ الغفلة، ويشعرون قلوبهم

العزة والنخوة، ويشربونها حب المجد والميل إلى المعالي، ويفهمونهم أنهم لم يزالوا

بعد في مرتبة الإنسانية، وأن مزاياها الفاضلة لم تزل متأصلة في نفوسهم، وأن تلك

المزايا قد يورثونها لخلائفهم وأعقابهم، فتقوى فيهم، وربما ينشأ عنها في بعضهم

أعمال شريفة، تكون عاملة في نهضة الأمة، ونشلها من حضيض الخمول إلى بقاع

القوة والسيادة، لا ريب أن مثل هذا الكلام يحض العامة على النظر، ويبعث هممهم

للعمل، ويحبب إليهم تربية أطفالهم، وتخريج أحداثهم في العلوم والآداب، فينتشر

التعليم والتهذيب بين الدهماء وسواد الأمة الذين هم حقيقة الأمة، ومنهم تكون هيئتها

ويرتفع بنيانها.

وينشئ الكتبة البارعون المقالات المسهبة في العصر ومقتضياته، وفائدة

التعاون والتكاتف في قيام المشروعات الكبرى، ويبينون لهم كيف يشرعون؟ ومن

أين يبتدأون؟ ويقوم ذوو اليسار والمال بتأسيس جمعيات خيرية، وشركات مالية،

تتبارى في خدمة الأمة، والأخذ بعضدها، كل منها يبادر إلى عمل أو مشروع يعلم

احتياج الأمة إليه، وتوقف نهضتها عليه، ووراء ذلك السلطة الوازعة، تحدو

بالمقصرين، وتأخذ بحُجُز المعتدين الجائرين، إلى آخر ما تكفلتْ باستيفاء

تفاصيله وإيضاح طرائقه صحائف مجلة (المنار) الغراء.

أما والله لو هبت الأمة للإصلاح كما ذكرنا، وخف كل فرد من أفرادها للعمل

كما شرحنا، واستقاموا على الطريقة التي نهجها الله تعالى لإسعاد الأمم، وقيام

الدول لما أتى عليها من الزمان الأمثل ما أتي على أمة اليابان حتى تُزاحم السابقين،

وتسود مع السائدين، وتأمن على جنسيتها ولغتها، وتبوأ مستقبلها متبوأً رَحْبًا.

فما أتممت كلامي حتى اعترض الحديث معترض يسأل: كيف يتسنى للأمة

العمل والنهوض، وهذه عقبان المطامع تحوّم حول البلاد، وتهم بالهوىّ عليها

لتمزيقها واختطاف أشلائها؟ أم كيف ينفسح الوقت للشروع في الإصلاح، وأراه

لو انفسح للشروع فيه لا ينفسح لإنجازه والتمتع بنتائجه فما الفائدة إذن من

العمل، ولماذا ننضي العزائم، ونعيي الهمم في تحصيل ما نُصد عن إتمامه، ونُرد

دون بلوغ غايته.

ومذ سمعت ما قاله هذا القانط الساخط، وجمت [2] وحسبلت [3]، وقلت: إن

بين أيدي العاملين لنهزة تكفي - بمعونة الله - لوضع مقدمات الإصلاح والانتفاع

بنتائجها واجتناء ثمراتها، لكن عليهم أن يغتنموا تلك النهزة، ويسارعوا لاختلاسها

قبل جموحها وشماسمها، وقد استبان القارئ مما ألممنا به من شؤون الولايات

العثمانية، ومطامع الدول فيها أن الاضطراب السياسي والانشقاق الداخلي بلغا

مبلغهما في ولايتي الأرمن ومكدونيا بحيث تذهب النفس إلى أن الزمان قد لا ينفسح

لترقيهما، قبل أن يُختزلا من بين أخواتهما، أما سائر الولايات التركية والعربية

فليست بهذه المثابة، وإن كانت مهددة بالأخطار، ومحتَّفة بالأطماع، فالمدة بين

يديها أفسح، والأمل في حفظ استقبالها ووقاية استقلالها أقوى وأرجح.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الإخصاء: مصدر خصي يخصي، إذا تعلم علمًا واحدًا واقتصر عليه.

(2)

وجمت: سكت على غيظ عابسًا مطرقًا؛ لشدة الحزن.

(3)

قلت: حسبي الله.

ص: 329

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تعليم النساء

كانت المرأة مهضومة الحقوق، يعاملها الرجال بالاستبداد في جميع الأجيال

والأعصار، حتى جاء الإسلام فسوى بين الرجل وامرأته في جميع الحقوق

والواجبات، إلا أنه جعل الرجل كافلاً للمرأة، وأعطاه حق الولاية العامة لقوته

وضعفها، فقال القرآن:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) بل رفقت الشريعة الإسلامية بالمرأة، فوضعت عنها بعض

العبادات في بعض الأوقات، ومما ساوت به بينهما وجوب التعليم، فجعلت طلب

العلم النافع فريضة على كل مسلم ومسلمة.

ولكن المبادئ التي وضعها الإسلام لترقية النساء، لم يعتنِ بها المسلمون

العناية التي تؤدي إلى بلوغ غاية الكمال، كما كان شأنهم في كثير من المبادئ

والقواعد الاجتماعية العامة التي شغلوا عنها بالتوسع في سواها، مما لا يستحق

أكثره العناية مثلها، وما صدهم عن مثل هذا إلا ما ورثوه من العادات عن أسلافهم،

ولما كانت نصوص الكتاب والسنة المادحة للعلم والمرغبة فيه والحاثَّة عليه،

تشمل الرجال والنساء - كما هي القاعدة الأصولية في الدين الإسلامي - زعم بعض

الفقهاء أن طلب العلم لا يشمل طلب الكتابة (الخط) ولا يقتضيه، ثم أوردوا

أحاديث تدل على منع النساء من تعلم الكتابة، ولما لم يعترف لهم المحدثون بصحة

شيء منها رجعوا إلى قياسهم، فزعموا أن في تعلمهن الكتابة مفاسد تقتضي

كراهتها على الأقل، وقد أورد عليهم المعارضون حديث الشفاء بنت عبد الله قالت:

دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة رضي الله عنها، فقال

لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة؟ رواه الإمام أحمد وأبو داود

والنسائي وأبو نعيم والطبراني، ورجاله ثقات. فأجاب الذين تمسكوا بأحاديث

النهي بأن هذا الحديث يدل على الجواز، وتلك تدل على الكراهة التنزيهية ولا

منافاة بينهما ولا حاجة لهذا الجمع؛ لأن أحاديث النهي لا يحتج بها، وأجاب

بعضهم بأن تعلم الكتابة خاص بحفصة رضي الله عنها، وهو فاسد لوجوه منها أن

الأصل عدم الخصوصية، فلا بد لمن يدعيها من دليل، وأين الدليل هنا؟ ومنها:

أنه لو كان تعليم النساء الكتابة مكروهًا لنهي النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء عن

تعليم غير حفصة لئلا تفهم من حضها على تعليمها أن غيرها مثلها، كما هو المتبادر.

وأجاب الشيخ علي القاري بأنه يحتمل أن يكون جائزًا لنساء السلف دون الخلف؛

لفساد النسوان في هذا الزمان، وهو كما ترى احتمال لا قيمة له، وقد تبع القاري

في هذا أستاذه العلامة ابن حجر، فإنه قال بكراهة تعليمهن الكتابة في فتاواه الحديثية،

محتجًّا بالأحاديث التي لا يصح الاحتجاج بها، وأورد حديث الشفاء، وقال: إنما

يدل على الجواز، وأن النهي للتنزيه - لما تقرر من المفاسد المترتبة عليه، وما

تلك المفاسد إلا احتمالات أو وقائع جزئيات، لا تبنى عليها أحكام ولا ينقض بها

قانون عام، وما من عمل مبرور إلا ويحتمل أن تنشأ عنه شرور، فلقد ضل

بالقرآن المؤلون {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) .

وقد أهديت إلينا في هذه الأيام رسالة من الهند في هذه المسألة (تعليم النساء

الكتابة) من مؤلفات علامة المعقول والمنقول صبغة الله بن محمد غوث الهندي،

وقد طبعت بعناية محمد عبد الله سلمة بن ناصر الدين عبد القادر (ابن المؤلف)

جزاه الله خيرًا، بحث المؤلف في المسألة من الوجوه التي خُضنا فيها، وبيَّن

تخريج الأحاديث الواردة فيها، وهذه أعظم فائدة استفدناها من الرسالة، فإن إخواننا

الهنديين لا يزالون يشتغلون بعلم رواية الحديث الذي أضاعه أهل البلاد المصرية

والسورية والتركية، وإننا نورد كلامه في حديث الحاكم الذي هو عمدة المانعين،

وهو ما رواه في مستدركه عن عائشة مرفوعًا: لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن

الكتابة (يعني النساء) وعلموهن المغزل وسورة النور. قال الحاكم: هذا حديث

صحيح الإسناد ولم يخرجاه، يعني الشيخين. قال مؤلف الرسالة بعد ما أورده

وغيره من أحاديث النهي وجزم بعدم صحتها والاحتجاج بها ما نصه: (أما

حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه أبو عبد الله الحاكم وصححه، ففيه نظر؛

لأن الحاكم قد تساهل فيما استدركه على الشيخين. لموته قبل تنقيحه، أو لكونه قد

ألفه في آخر عمره وقد تغير حاله، أو لغير ذلك، ومن ثم تعقب المحدثون على

كثير منها بالضعف والنكارة، كما نص عليه الحافظان الذهبي والعسقلاني وغيرهما،

وهذا الحديث في سنده عبد الوهاب بن الضحاك الحمصي قال أبو حاتم الرازي:

كان يكذب، وقال العقيلي والنسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: كان يسرق

الحديث، لا يحل الاحتجاج به، وقال الدارقطني: منكر الحديث، وقال أبو داود:

يضع الحديث، وقال الحافظ العسقلاني في التقريب: عبد الوهاب بن الضحاك بن

أبان العُرضي (بضم المهملة، وسكون الراء بعدها معجمة) أبو الحارث الحمصي

نزيل سلميه: متروك كذبه أبو حاتم. اهـ

مَن يُلاحظ أن هذا الحديث الذي في سنده كذاب وضّاع، قد وصف بالصحة

واتُّخِذ حجة على إبطال مسألة من أهم مسائل الاجتماع والتمدن، يتجلى له فساد قول

القائلين: إن البحث في رواية الحديث لا لزوم له في هذا العصر؛ لأنه قد فرغ منه

المتقدمون - نعم قد فرغوا منه، ولكن يجب علينا أن نقف على جميع ما قاله

المحققون، لا أن نُسلم بكل ما نراه في كِتاب مات مؤلفه ويتجلى له نموذج الضرر

الذي ألمّ بالمسلمين من اختلاق الأحاديث ونسبتها لصاحب الدين، ومن التسليم

بجميع ما قاله أموات المؤلفين.

_________

ص: 332

الكاتب: أحمد أفندي محرم

‌الشعر العصري

لحضرة الشاعر المجيد أحمد أفندي محرم

أهذي ديار القوم غيَّرها الدهر

فعرجوا عليها - نبكها - أيها السفر

محا آيها مر العصور وكرها

إذا مر عصر كر من بعده عصر

فقد أنكرتها العين بعد تعرف

وللمرء من أيامه العرف النكر

عكفنا عليها قد عقلنا ركابنا

ولا خبر يشفي الفؤاد ولا خبر

نسائلها أين استقل أنيسها

وهل تنطق الدار المعطلة القفر

فما من مجيب غير تهطال عبرة

يروي صداها لا كما هطل القطر

وكائن ترى من ذي ثمانين خضبت

لطول البكى من شيبه الأدمع الحمر

وما إن عهدت الشيخ يبكي بدمنة

ولكن عصاه حلمه فله العذر

ولم يبك حتى ضاق بالهم صدره

وحتى تولّى ما يرق له الصبر

بكى وطنًا أودت بسالف زهوه

حوادث دهر من خلائقها الغدر

أغارت عليه دارعات كماتها

فما برحت حتى أتيح لها النصر

إذا عسكر مجر سما لقتاله

فأعيي عليه جاءه عسكر مجر

فقد نهلت منه المثقفة السمر

وقد كرعت فيه المهندة البتر

ألا إنها مصر التي نحن أهلها

فيا ويح مصر ما الذي لقيت مصر

مضى عزها القدموس ما يستعيده

بنوها فلا عز لديهم ولا فخر

همو رقدوا عنها فطال رقادهم

فديتكمو هُبّوا فقد طلع الفجر

أنومًا كِلا يوميكم؟ إن ذلكم

لوزر كبير لا يعادله وزر

ألمَّا تروا أن قد تقسم أمركم

بأيدي العدى نهبًا فهل لكمو أمر

أما فيكم حر إذا قام داعيًا

إلى صالح أوفى يجاوبه حر

كريمان لما يجثما عن عظيمة

ولا بهما إذ يدعوان لها وقر

هما هضبتا عزم وحزم كليهما

يخافهما الهول المخوف فما يعرو

هما الذخر للأوطان إن حل حادث

فضاقت به ذرعا وأعوزها الذخر

أما ويمين الله لولا بقية

أؤمل أن لا يستبد بها الدهر

لقد هلكت منا نفوس كثيرة

يصبحها أمن ويطرقها ذعر

_________

ص: 334

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(تابع مالية الدولة)

إذا بحثنا في أقساط الحكومة الأخرى من الدين، كما بحثنا في قسط دين

البلغار وجدناها كما ترى: قسط اليونان هو 574373 جنيهًا مجيديًّا، يسدد في مائة

سنة، إن كانت دفعته السنوية 28459 جنيهًا مجيديًّا، وربحه 4 في المائة ويسدد

في 25سنة إن كانت دفعته السنوية 44931جنيهًا مجيديًّا، وربحه 6في المائة قسط

الصرب هو 568075 جنيهًا مجيديًّا يسدد في مائة سنة إن كانت دفعته السنوية

23182جنيهًا مجيديًّا، وربحه 4 في المائة، وفي 25 سنة إن كانت دفعته السنوية

34084 جنيهًا مجيديًّا، وربحه 6 في المائة. قسط الجبل الأسود هو 26659 جنيهًا

مجيديًّا يدفع في مائة سنة، إن كانت دفعته السنوية 1088 جنيهًا مجيديًّا، وربحه 4

في المائة، وفي 25 سنة إن كانت دفعته السنوية 2085 جنيهًا مجيديًا، وربحه 6

في المائة.

لوأن الدول التي وقعت على معاهدة برلين اختارت هذا التدبير الذي هو

غاية في سهولة الجري على مقتضاه، ولا وجه للنقد عليه، وألزمت الحكومات

المذكورة باتباعه؛ لحصلت تركيا عاجلاً على مبلغ 3836347 جنيهًا مجيديًّا،

ولنقص دينها بسبب ذلك مبلغ 19000000 في بضع سنين، باستعمالها هذا المبلغ

استعمالاً رائده العقل والحكمة، اللذين تبعتهما في تدبير جميع رؤوس أموالها من

عهد جلوس جلالة السلطان عبد الحميد على أريكة الملك. للدائنين الأوربيين - إذن -

أن يأسفوا على أن حكوماتهم لم يؤيدوا مطالب تركيا الحقة المبنية على

الإنصاف، ولكن عليهم أن يتحملوا شهادة حق مدهشة على صدق تركيا في الوفاء

بعهودها، وقدرتها على تنفيذ التزاماتها بأحسن طريقة نافعة لمعاقديها، كانت السهام

المكونة للدين العمومي العثماني معتبرة إلى ذلك العهد في معظم الأحيان، كأنها

وسائل ضمان استرباحية، ويحسن بنا أن نبحث الآن فيها لنرى هل هذه هي قيمتها

الحقيقية في الوقت الحاضر أم لا؟ كان الدين العمومي العثماني في خلال

العشرين سنة الأولى من تشكيل إدارته يزداد على الدوام بإصدار سهام جديدة،

ويستميل عددًا كبيرًا من أرباب الأموال بسبب الفائدة المرتفعة التي كانت تعرض

على مشتري سهامه، ولما حدثت حوادث سنة 1875 تفرق من كانوا متكالبين على

تلك السهام، وبقيت أسواق الأوراق المالية بأوروبا غاصة بها إلى سنة 1881، ثم

ابتدأ دور آخر لإقبال الناس عليها بعد الاتفاق المبرم في 20 ديسمبر سنة

1881، واستمر بلا انقطاع مدة السنين العشر الأخيرة، فإذا لم يتم للآن بيعها،

وكان لا يزال جزء عظيم منها في الأسواق؛ فليس ذلك إلا لأن حالة الدين

الحالية، وما حصل فيه أثناء هذه السنين العشر من التغيير الكلي الناتج من

الإصلاحات التي منشأها عناية جلالة السلطان، لم يفهمها كثير من الناس حق

الفهم، ومع ذلك لو أنا نسبنا مبلغ الدين السنوي إلى عدد سكان الدولة العلية، وعدد

ما فيها من الأميال المربعة، وقارنَّا بينها وبين البلاد الأخرى لأوروبا في ذلك؛

لنتج لنا من هذا البحث الإحصائي حقيقتان:

(أولاهما) إن الدين العثماني أقل بكثير من معظم ديون البلاد الأخرى

باعتبار عدد السكان في كل منها.

(ثانيهما) إن مساحة أرض الدولة العثمانية لما كانت تسع من السكان أكثر

مما فيها الآن بكثير، فيمكن اعتبار أن هذه الدولة لم يعمر إلا جزء منها فقط (لو

صح أن يقال هكذا) ولما كانت غنية بأكبر مصادر الثروة الطبيعية كان ينتج من هذه

المصادر فوائد خارقة للعادة، لو أنها دبرت أحسن تدبير يؤدي إلى الانتفاع بها.

مما ذكر يتضح لك إذن أن ما تنوقل عن سهام تركيا من أنها طرق ضمان

استرباحية، غير صحيح.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 335

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجامعة الإسلامية

وآراء كتاب الجرائد فيها

أول من كتب وخطب في بيان أحوال المسلمين الاجتماعية، وتمثيل أمراضهم

ودلالتهم على علاجها، وإرشادهم إلى الاتحاد وجمع الكلمة، حكيم الأمة الكبير

وفيلسوفها الشهير السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني (تغمده الله تعالى برحمته)

فإنه كان قد وقف نفسه على تكوين ما نسميه اليوم (الجامعة الإسلامية) وكان

أكثر سعيه لها من الطريق الأقرب، طريق تنبيه الحكومات المسلمة المستقلة إلى

الاتحاد.

ولكن أباها الحاكمون فكاره

لها جاهل أو مكره وهو عالم

ثم أشرب في قلبه مذهبه هذا الحكيم الثاني، صاحب الفضيلة الشيخ محمد

عبده مفتي الديار المصرية لهذا العهد (كما ألمعنا إلى ذلك في عدد سابق) ولم يدع

الرجلان بابًا للإصلاح الإسلامي إلا طرقاه، وقد بدأا بباب السياسة، فكتبا وخطبا،

ما شاء الله أن يكتبا ويخطبا، فلم تأت النتيجة كما طلبا ورغبا، ثم استقر رأيهما

على أن هذه الأمة بالدين وجدت وتكونت، وبالدين سادت وعزت، ومن قبِل الدين

(أي الإعراض عنه) أُخذت وابتُزَّت، ومن قِبله ضعفت وذلت، وبه يرجع إليها

مجدها. ومن أفقه يبزُغ كوكب سعدها، فأنشأ جريدة (العروة الوثقى) لدعوة

المسلمين إلى الوحدة الصحيحة، وأن يجعلوا إمامهم الأعظم القرآن الحكيم،

أرشدت هذه الجريدة العلماء إلى إماتة البدع وإحياء السنن، كما أرشدت الملوك

والأمراء، ولا سيما المختلفين في المذاهب (كأهل السنة والشيعة) إلى الاتحاد

والاتفاق، وأن لا يجعلوا الخلاف الفرعي في الدين من أسباب التفرق والانقسام الذي

يقضي على الجميع، نبهت وحذرت، وبشرت وأنذرت، بكلام أصاب مواقع

الوجدان، وبراهين ملكت قياد الجنان، فاهتز لها العالم الإسلامي هزة، لو طال

عليها العهد لزلزلت الأرض زلزالاً، ولنفر المسلمون إلى الاتحاد خفافًا وثقالاً.

قال الأستاذ المفتي محرر الجريدة: حدثني بعض أهل العلم من بغداد قال: كنا

نقرأ العدد من (العروة الوثقى) في مجلس السيد سلمان أفندي نقيب السادة

الأشراف، فيتفق رأينا على أنه لابد أن يظهر في العالم الإسلامي عمل كبير، قبل أن

يصدر العدد الذي بعد هذا، ونقل نحو هذا القول عن بعض فضلاء الغرب والشرق،

وسمع كاتب هذه السطور الأستاذ الشيخ حسين أفندي الجسر مؤلف (الرسالة

الحميدية) يقول ما مثاله: لو طال الأمد على جريدة (العروة الوثقى) لحدث في العالم

الإسلامي انقلاب مهم، ولهّب المسلمون من رقادهم، ونشطوا لاسترجاع مجد آبائهم

وأجدادهم، ولقد بلغ من تمام غرام نبهاء المسلمين بهذه الجريدة، أن حفظها

بعضهم عن ظهر قلب، وبعضهم يحفظ نسخها الأصلية، وبعضهم كتبها فلم يغادر منها

شيئًا، وهم يعيدون تلاوتها ويسترشدون بها آنًا بعد آن، يحفظها أكابر العلماء في

الشرق والغرب، وإنني وجدت كل ما فاتني من أعدادها عند فضيلة الأستاذ

الجسر فنسختها من عنده، وحدثني الفاضل صاحب جريدة (ثمرات الفنون) أنه

يحفظها في صندوق الحديد، حيث يحفظ أثمن ما يملك، وبالجملة كانت (العروة

الوثقى) قبسًا من نور القرآن، ونفخة من روحه، وجدولاً من ينبوعه، ظهرت

في ضوئها العلة والمعلول، وانتعشت بانتشاقها مشام العقول، ورويت من معين

نصائحها الأكباد، حتى رجي أن تكون (وهي العروة الوثقى) رابطة الاتحاد، وقد خافت الدولة الإنكليزية يومئذ مغبة الأمر، ولم تكن أقدامها استقرت في مصر

فحملت حكومة مصر على منعها من دخول البلاد المصرية، كما منعتها هي من البلاد الهندية. وكان هذان القطران أهم موارد إمدادها ومعاهد امتدادها، فبطلت -

وهيهات أن تنفصم عروة تعليمها وإرشادها.

ظهرت العروة الوثقى في جمادى الأولى سنة 1301 هـ، وكل ما صدر منها

18 عددًا، ثم مرت فترة من الزمن لم تذكر فيها الشؤون الإسلامية العامة في

الجرائد، إلا ما يجيء في عرض القول، أو يصيبها من رشاش أقلام غير أهلها من

الكتاب، مما لا يروي غليلاً، ولا يغني فتيلاً، حتى أنشأ نابغة الخطباء والكتاب

السيد عبد الله نديم المصري الشهير، مجلة (الأستاذ) في أوائل سنة 1310 هـ،

وكتب فيها المقالات الطنانة الرنانة في تنبيه المسلمين إلى الأخطار المحدقة بهم

وبسائر الشرقيين، وتنشيط هممهم لتلافيها، إلا أن بيئة النديم (حاله ومحله)

وزمنه وسياسته، اقتضت أن يكون أكثر خطابه عامًّا للشرقيين، وفي كليات الأمور

الاجتماعية، وأن لا ينحي باللوم على الرؤساء من الأمراء والحكام والعلماء

والمرشدين، فكانت فائدة كلامه في التنبيه المطلق، وفي جزئيات وطنية وأدبية،

وفروع دينية، وكان كلامه مؤثرًا فيما نقل إلىّ، فلو بقي لأحدث في مصر تأثيرًا

سياسيًّا أدبيًّا له شأن، ولكن أخرج النديم من مصر بدعوى أن جريدته تنفخ روح

التعصب الديني، وتنفث سموم الثورة، ولم يكن تم لها سنة، ولقد قرأت منها أعدادًا

في سوريا رأيته يحترس فيها كل الاحتراس من الوقوع في هاتين التهمتين، وإنما

ينفع الاحتراس بالنسبة للمؤاخذة القانونية دون المؤاخذة السياسية التي أخذ بها.

فتر بعد (الأستاذ) الكلام الذي يرمي إلى (الجامعة الإسلامية) حتى وفقنا الله

تعالى في العام الماضي لإنشاء (المنار) لإحياء تعاليم (العروة الوثقى) فوضعنا

قاعدته على أساسها، وأضأنا قمته بنبراسها، إلا ما كان فيها من السياسة التي تتعلق

بالمسألة المصرية، والتحريض على الإنكليز، فإن هذا أمر ذهب بذهاب وقته،

و (العروة الوثقى) نفسها صرحت مرارًا بأن تلك الفرصة إذا ذهبت لا تكاد تعود،

ويستقر قدم الإنكليز في مصر - وقد كان - ولكنها قالت في شأن النهضة

الإسلامية الاجتماعية المطلقة التي كانت تعمل لها ما نصه: (إن الرزايا الأخيرة

التي حلت بأهم مواقع الشرق جددت الروابط، وقاربت بين الأقطار المتباعدة

بحدودها، المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار العقلاء، وحولت

أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، مع ملاحظة العلل التي أدت بهم إلى ما هم

فيه، فتقاربوا في النظر، وتواصلوا في طلب الحق، وعمدوا إلى معالجة المرض

وعلل الضعف، راجين أن يسترجعوا بعض ما فقدوا من القوة، ومؤملين أن تمهد

لهم الحوادث سبيلاً حسنًا يسلكونه لوقاية الدين والشرف، وأن في الحاضر منها

لنهزة تغتنم، وإليها بسطوا أكفهم ولا يخالونها تفوتهم، ولئن فاتت فكم في الغيب

من مثلها؟ ! وإلى الله عاقبة الأمور) اهـ من مقدمة العدد الأول، ولا ريب أن

المسألة المصرية ليست في هذا العام كما كانت في سنة 1301 هـ (1884م)

أما المسألة الإسلامية فهي هي، بل تقدمت إلى الأمام بالنسبة إلى ما كانت عليه

في ذلك العام.

قلنا: إن (المنار) وافق (العروة الوثقى) في تعاليمها الاجتماعية وقواعدها

التي وضعتها للوحدة الإسلامية، وخالفها في وجهتها السياسية المصرية، ونقول

أيضا: إنه زاد عليها بالبحث في جزئيات البدع، وتفصيل القول في التعاليم الفاسدة

والعقائد الزائغة، والتربية المفيدة، ونحو ذلك مما أرشدت إليه إجمالاً، ولم يتسع

معها الزمان لتفصيله، ولهذا يقول قرّاء (المنار) : إنه لم توجد قبله جريدة في

موضوعه، وقد اعترف لنا الكتاب المسلمون والمسيحيون، ومن هؤلاء أصحاب

(المقتطف) و (المقطم) وصاحب (الأهرام) وصاحب (الهلال) بأننا تصدينا

لخدمة نافعة، ولكن أصحاب (المقطم) كانوا يقولون لنا: إن في طريق هذه الخدمة

خطرًا عظيمًا، وهو مقاومة أوربا للمسلمين إذا هم حاولوا الترقي من وجهة الدين،

وقد كاشف برأيه هذا بعضُ أكابر علماء الإسلام العارفين بالسياسة منذ بضعة أشهر،

فراجعه العالمُ القول، وكتب يومئذ صورة المذاكرة في (الأهرام) واجتمع به

كاتب هذه السطور بعد ذلك، وكنت في صحبة الأستاذ صاحب (المؤيد) ففتح باب

المذاكرة في المسألة، وكان الكلام مشتركًا، ولم نتفق معه على نتيجة واحدة، أما

صاحب (الهلال) فإننا لم نر منه إلا استحسانًا وتحبيذًا، وإبانة عن اعتقاد أن هذه

الخطة لا أنفع منها للمسلمين، ومثله كتاب (دائرة المعارف) وغيرهما من أفاضل

المسيحيين المنصفين، وفي هذه السنة كثرت الكتابة في تنبيه المسلمين، فنشر

(المؤيد) كثيرًا من المقالات لكتاب من المسلمين في الشرق والغرب، ومنهم الفقير

منشئ هذه المجلة، وبعض تلك المقالات عُرِّب من جريدة (محمدان) الهندية،

وكتبت مجلة (الموسوعات) أيضًا عدة مقالات لكتاب متعددين، ورأينا في جريدة

(زمان) التركية التي تصدر في قبرص مقالات تحت عنوان (الاتحاد الإسلامي)

ولم نظفر بمن يعرّبها لنا، وسرى السر من الجرائد المصرية إلى جريدة (معلومات)

العربية في الآستانة العلية، وإلى جريدة (ثمرات الفنون) في بيروت، فَكُتِبَ فيهما

مقالات كثيرة في الموضوع، ولو سمحت لهما حكومة البلاد لتوسعا في الكتابة، ثم

أصاب الرشاش غيرهما من الجرائد الإسلامية في الديار السورية، أما الجرائد

الهندية فكثير ما كتبت، وقد ترجم بعضها كثيرًا من مقالات (المنار) ، وكذلك

جريدة (الحاضرة) التونسية.

والحاصل أن أكثر الجرائد الإسلامية قد خاضت في مسألة الاجتماع الإسلامي

من نحو سنة أو أكثر، ولم تكن تذكر قبل ذلك إلا نادرًا على ما علمت من صدر هذه

المقالة، وفي هذين الأسبوعين كتب فيها (الأهرام) بعنوان (الجامعة الإسلامية)

ثم كتب (المقطم) وناقشهما (المؤيد) فيما كتبا، هذا ملخص تاريخ الكلام في هذه

المسألة بحسب ما وصل إليه علمنا. وبلغنا أن رجلاً عظيمًا من فضلاء مسلمي

القريم في بلاد روسيا اسمه إسماعيل بك، قد أنشأ جريدة سمّاها (ترجمان) جعل

جُل مباحثها في الشؤون الإسلامية، وأنشأ مدرستين لتربية أبناء المسلمين،

وتعليمهم في تلك البلاد، ولم نقف على شيء من أعماله، ولكن رائحته العطرية

تدل على أن عمله عظيم.

أما الطرائق التي بحث فيها الكتاب فهي كثيرة، ولم تنجلِ للناس الطريقة

المثلى بقول أحد، إذ ما من قول إلا وله وجه يعتمد عليه قائله، وما من شبهة على

فساد رأي إلا ولصاحبها تكأة يستند عليها في تقويتها، والأمر في نفسه أكبر من كل

هؤلاء الكتاب، وكيف لا وهو ترقية أمة يبلغ عددها ثلاثمائة مليون من النفوس،

يتبوأُون كل قطر، وينطقون بكل لغة، وحكامهم من أنفسهم ضعفاء، ومن الأجانب

عنهم أقوياء، وأضعفهم هذا الفقير قد اشتغل بدراسة هذه المسألة بضع سنين، وهو

في كل يوم يزداد بها علمًا لم يكن عنده، ويزيح جهلاً كان يغشاه، إن لم يكن في

أصولها وقواعدها، ففي جزئياتها وشواردها، وما يقف عليه الإنسان في سنين، لا

يمكن أن يجليه لمن لم يقف عليه في مقالة أو عشر مقالات (مثلاً) بحيث يؤدي

إليه فكره ووجدانه تامّين بتلك المقالات، ولكن الميزان الذي يجب أن نزن به

الأقوال والآراء لنعلم النافع منها والغير النافع، هو أن ننظر فيما يعرض علينا،

فما كان منها مقومًا لفكر، ومصححًا لرأي أو اعتقاد، فهو نافع، وما كان منها

مرشدًا إلى عمل مفيد ممكن، فهو نافع، وما عدا هذين النوعين، فهو إما خيالات

وأوهام، وإما غش وتغرير، وأقل ضرر فيه أنه حجاب على وجه الحقيقة، وتعليل

للآمال بما لا ينال، وإزاغة للقلوب عن صراط الحق، ومن انحرف عن الصراط

المستقيم فهو يزداد بعدًا عن الغاية كلما جد في السير، وأي خذلان أكبر من كون

سعي المرء واجتهاده مبعدًا له عن غايته ومراده، لا يعرف الحق بقائله وكونه

صديقًا أو عدوًّا، ولا بكونه يستلزم تعظيم كبير ومرضاته، أو عدم ذلك، وإنما

يعرف الحق بذاته، فمن رعى هذا حق رعايته، رجي له التمييز بين الحق والباطل،

والتزييل بين النافع والضار، فاحفظ هذا الميزان، وانظر ما يرجح فيه مما سيُلقي

عليك من الآراء والأقوال.

(الأهرام) و (المقطم) تتفقان على أن الدعوة إلى (الجامعة الإسلامية) باسم

الدين، مُضرة وغير موصلة إلى الغاية، وأنه لا سبيل إلى ترقي الأمة الإسلامية إلا

باتباع خطوات أوروبا كما فعلت اليابان، و (المؤيد) رد عليهما قولهما الأول، ولم يبد

رأيًا جديدًا، إلا أنه وافق على أن مسلك الكتَّاب المسلمين في الدعوة الدينية مفيد،

كما أن الأخذ بالفنون والصنائع الأوروبية مفيد مع ذلك، وذكر في كلامه عن

(الجامعة الإسلامية) مقالة لبعض أفاضل كتاب الهند نقلت في (المؤيد) من نحو شهر،

وذكر أنه موافق على كل ما جاء فيها، وخصص بالذكر اقتراح عقد مؤتمر

إسلامي في دار الخلافة العظمى، وقال: إن (المؤيد) كان قد سبق إلى اقتراح هذا

المؤتمر منذ أربع سنين، ومن الآراء التي تناقلتها الكتاب فكانت مسلمة عند أولي

الألباب: تعميم التربية والتعليم - إنشاء الجمعيات والشركات والمنتديات العلمية

والأدبية - تكثير الجرائد باللغات التي ينطق بها المسلمون - اتحاد الحكومات

الإسلامية - العناية بأمر القوة الحربية - تعليم النساء بخصوصهن.

ومهما تخالفوا وتناقشوا، فلكلٍّ وجه، وقد جمعنا بين الأقوال في مقالة نشرت في

(المؤيد) حديثًا، ولكن قد ظهر في (المقطم) قول جديد في مقالة نسبت إلى

(مسلم حر الأفكار) لم يتابع به قائله مسلمًا، ولن يتابعه عليه مسلم؛ لأنه ناسفٌ

لبناء الدين الإسلامي، ومقوض لعمود بنائه، وهو زعم أن الدين والدولة أمران

متبائنان يجب أن ينفصل أحدهما عن الآخر.

ولقد وجد للإسلام أعداء اجتهدوا في كل عصر بمحوه أو إضعافه، منهم من

حاول إفساد العقائد بالتأويل، ومنهم من وضع الأحاديث الكاذبة، ومنهم من سهل

للملوك طريق الاستبداد، ومنهم ومنهم، ولكن مجموع مفاسدهم ومضراتهم لن تبلغ

بعض ما يرمي إليه هذا القول الخبيث الذي لم يخطر في بال إبليس، فهو أبلغ

قول يشير إلى أحكم رأي لمحو السلطة الإسلامية من لوح الوجود، قاتل الله قائله

ولا كثر فيمن يدَّعون الإسلام من أمثاله، وكفى بمقالتنا التي صدرنا بها العدد ردًّا

عليه، ولدينا مزيد.

هذا فإذا وزنت سائر الآراء بالميزان الذي وضعناه آنفًا، يظهر الراجح

والمرجوح من سائر الأقوال.

يظهر لك من تلك الآراء ما لا يقوّم رأيًا واعتقادًا، ولا يرشد إلى عمل نافع

يرجى القيام به، وذلك كعقد مؤتمر في الآستانة العلية، على أن (المنار) كان قد

اقترح في مقالات (الإصلاح الديني) التي نشرت في أوائل شعبان من السنة

الماضية تأليف جمعية إسلامية تحت حماية الخليفة يكون مقرها في مكة المكرمة،

ولها شعب في سائر البلاد الإسلامية، وجريدة مخصوصة، أو جرائد، وبينا هناك

وجوه ترجيح مكة على الآستانة، كما بينا أصول وظائف الجمعية وأعمالها ونتائجها،

أما الأصول فهي التوحيد في العقائد، والتعاليم الأدبية التهذيبية، والأحكام

القضائية والمدنية، واللغة، وأما الأعمال، فأهمها تلافي البدع والتعاليم الفاسدة،

وإصلاح الخطابة، والدعوة إلى الدين، وأما نتائجها، فأهمها اتحاد الحكومات

الإسلامية، وكل قول فصلناه تفصيلاً.

وإذا ارتقينا في الأسباب، وسبرنا أعماق الأقوال والآراء، ننتهي إلى القول

بأن سبب النهضة الذي يجمع الأسباب كلها، هو تعميم التربية العملية والتعليم

الصحيح من الوجهة الدينية الجامعة لمصالح المعاش والمعاد، وهو ما صرحنا به

في فاتحة العدد الأول من (المنار) وأقمنا عليه البرهان في العدد الثاني، وجرينا

في سائر الأعداد إلى الآن على تفصيل إجماله، وبيان إبهامه (خلافًا لما قاله

مصباح الشرق) وأكبر عقبة أمامنا في هذا الطريق هي ندرة الرجال القادرين

على التعليم الذي نريده والتربية التي نبتغيها، ومع ندرتهم لا تعرف الأمة قيمتهم،

ولا تنيط بهم ما خلقوا لأجله، فالجامعة الإسلامية والاتحاد الإسلامي، وكل ما

يرجوه الإسلام، متوقف على وجود الرجال العارفين بحاجة الأمة، وإناطة الأعمال

بهم، فنسأل الله تعالى أن يكثر فينا من أمثالهم، وينفع أمتنا بعلومهم وأعمالهم.

_________

ص: 337

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

‌استنهاض همم

(15)

ليس الشأن كل الشأن في استقلال الأمة الإداري ومستقبلها السياسي فقط، فإن

هذا وإن كان مطمح كل قبيل، وضالة ينشدها كل شعب، وغاية تتزاحم في

الإشراف عليها الأمم، لكن وراءه مزية دونها كل المزايا، نسبة تلك المزية إلى

الأمة كنسبة الحياة للشخص، هل يقوم المرء بدون حياة؟ فكذا الأمة لا تقوم بدون

تلك المزية، إذا تقلصت الحياة عن هيكل الشخص عاد جمادًا، أو كان الجماد خيرًا

منه، الجماد يقاوي الفواعل الطبيعية ويصابرها، أما الشخص بعد زوال حياته فلا

بقاء له، بل تتلاعب به تلك الفواعل، وتحلل عناصره، وتمحو وجوده، كذلك

الأمة إذا فقدت تلك المزية، تسلط عليها الفناء، وانغمست بالعدم، إذا نفث المرء

روحه [1] لا يلبث حتى تتحلل دقائق جسمه، وتتفرق عناصرها، فيتناولها ما أحاط

به من المكونات، وتدخل في بُنى (جمع بنية) الأجسام الأخرى، وهذا شأن الأمة

إذا زايلتها تلك المزية، انفصمت عُرى هيئتها، وعادت أفرادًا متبددة تدخل في

تراكيب بقية المجتمعات البشرية، وتتحد بعناصر الفاتحين والمتغلبين، وتلتحم

بأجناسهم، مزية هذا شأنها لا تعذر الأمة إذا تهاملت في احتفاظها وتواكلت في

توفيرها والذبّ عنها. أي شخص لا يستميت في الذب عن حياته؟ أي شخص لا

يستبسل في الدفاع عن روحه؟ من يرى شخصًا يعرض نفسه للتهلكة ويخاطر

بحياته، ولا يحكم بأنه مختلط، أو لا يسجل عليه بالجنون؟

لا جرم أن استقلال الأمة الجنسي هو حياتها، وبدونه لم تكن الأمة أمة.

الاستقلال الجنسي مناطه اللغة والدين، فكل أمة حافظت على لغتها، واستمسكت

بدينها، كان لها أن تأمن على جنسيتها من الضياع، وكل أمة عرضت لغتها للزوال،

ودينها للابتذال، فبشِّرها بانطفاء على جنسيتها قليلاً قليلاً، وانغماسها في غمار

الأمم شيئًا فشيئًا، الاستقلال السياسي هو أن تحكم الأمة نفسها بنفسها، والاستقلال

الجنسي هو أن تحافظ على لغتها ودينها، إذا فقد القبيل استقلاله السياسي كأهالي

الجزائر مثلاً، كان عليه أن يصون استقلاله الجنسي، وإلا لم يمض عليه قرون

حتى يتحول جنسه إلى جنس الأمة الغالبة، ويدغم فيها، ويسبك معها في قالب واحد.

لتجتهد الأمة المغلوبة في تنمية جنسها وتقوية حياته، كي لا ينفعل بفعل جنس

الأمة الغالبة، ويتضاءل أمام مساورته ومغالبته فيتحول إليه ويمتزج بعناصره

ويدخل في تكوينه، إذا سدك الحيوان (لبث ولزم) بأرض ملاحة، وافترش معدنها

الملحي زمنًا طويلاً تبقى له هيئته الحيوانية ما دامت فيه حياة، فإذا زالت حياته

يقوى حينئذ عنصر الملح على جسمه، ويغلب على مواده وعناصره، ويحول كل

ذلك إلى عنصره الملحي، ويصير ذلك الحيوان جرمًا معدنيًّا بعد أن كان جسمًا آليًّا،

هذا أجلى مثال نضربه للأمة التي تحافظ على جنسها، والأمة التي تهمل ذلك أو

تقصر فيه. إذا تغلبت أمة على أخرى وابتزت استقلالها السياسي وملكت عليها

أمرها، كانت كمن استرق الآخر وحجر عليه، أما إذا عملت في ضعضعة دينها،

واستئصال لغتها لتتوصل بذلك إلى محو جنسيتها، كانت كمن يقتل الآخر ويسلبه

حياته، إذا فرط المرء بحريته. وتوانى في صيانتها حتى اختلسها العدو واستعبدها،

فالأحجى به حينئذ أن يجدَّ في حفظ حياته وتنمية قوامها، لعلّه يتوصل به يومًا

ما لاسترداد حريته ومعاودة استقلاله، وما أشد حمقه لو فرّط في الحياة أيضًا،

ومكن العدو من الصيال عليها وإعفاء أثرها، إذا زالت حياة الإنسان لا يمكنه

استرجاعها، بله استرجاع حريته. لا جرم أن يكون مَثَل الأمة التي تتوانى في حفظ

جنسيتها، كمَثَل ذلك الأحمق الذي يلقي بنفسه في الهلكة، ويعرض حياته للخطر.

وبالجملة يجب على الأمة صيانة جنسيتها وبذل أقصى الجهد في مقاومة

المتعرض لثلمها، كما يجب على الشخص أن يتذرع بكل ما لديه من الوسائل

لحفظ حياته، ولو ببذل حياته، نعم، إن الكريم يموت حرًّا، ولا يموت صبرًا.

وإذا لم يكن من الموت بُدّ

فمن العجز أن تموت جبانًا

الفرنسويون في الإلزاس واللورين يغلون غلوًّا كبيرًا في حفظ جنسيتهم

الفرنسوية، كما هو شنشنة الألمانيين في البلاد النمسوية، مع أن وراء كل قبيل

منهما أمة موطدة الأركان، ودولة مشيدة البنيان، تعمل كل من تينك الأمتين في

تأييد جنسيتها، وإلباس ردائها لكل من تصل إليه يدها، فكم هو خليق بالمسلمين أن

يجتهدوا في حفظ جنسيتهم، ويعملوا في توثيق عُرى دينهم، وتمديد سرادقات لغتهم

وليس لهم من الحكومات حكومة ثابتة الأساس، عاملة على نشر الدين وحمايته،

وصيانة اللغة العربية من الضياع والاضمحلال، لعمري إن أوجب ما يجب عليهم

أن يتفانوا في صيانة جنسيتهم، ويتقحموا المخاطر في سبيل حفظ دينهم ولغتهم،

وإلا غشيتهم من الطمطمانية ظلم، وتلاطمت فوقهم أمواج العدو، والعياذ بالله.

فرنسويو الإلزاس واللورين لو أُكرهوا على التجرد من الجنسية الفرنسوية،

والاصطباغ بالصبغة الألمانية، لاستحبوا الموت، وتجرعوا كأسه دون ما أُكرهوا

عليه، مع أنهم لو تجلببوا بالجنسية الألمانية، كان لهم بعض التسلية والعزاء؛ لأنهم

يعلمون أن الجنسية الفرنسوية لها رجال على ضفاف السين يخدمونها خدمة العبد

الأمين لسيده، يعلمون أن الجنسية الفرنسوية تتألق شمسها في ربوع فرنسا تألق

شمس الضحى في سمائها لا يعتري تلك أفول أو تكور هذه، وتنسلخ عن أضوائها،

يعلمون أن الجنسية الفرنسوية تنبعث أشعتها من فرنسا، وتمتد إلى كثير من أطراف

المعمور، وتخلل في ظلمات أفريقيا الغربية، يعتقدون أنها عمّا قليل تحول ليلها

نهارًا، وغياهبها أنوارًا.

هذا شأن القول في الحمس الوطني، والغيرة على الجنس، تُرى ماذا يجب أن

يكون شأن أحد الشعوب الإسلامية لو عدا عادٍ على جنسيته، وحاول مسّها والعبث

بها؟ أما يجب عليه أن يلتهب ويتبخر تأمور قلبه (دمه) حمية في الدفاع عنها،

وصيانة استقلالها، وهو يعلم أن كل قبيل من بين جنسه معرض مثله لضياع الجنس

وفساد اللغة، وليس ثمة دولة حية تعمل في تنمية الحياة الإسلامية وتقوية جنسيتها

الدينية واللغوية. فقد تبين للسائل الآن أن العمل والجد في الإصلاح لا مندوحة عنه،

ولا هوادة فيه، وهو واجب متعين على كل من له قدرة على العمل، سواء سلم

للأمة استقلالها السياسي والإداري، أو لم يسلم لها شيء من ذلك، كما في البلاد

التي ملك عليها أمرها الأجنبي، فكل جماعات الأمة يلزمها النظر في الإصلاح؛

لتحفظ جنسها، وتصون دينها؛ كي يتسنى لها فيما بعد التفلت من أحبولة الاستعمار،

والانطلاق من مطمورة الرق والعبودية.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

فسر الكاتب نفث بنفخ، وما رأيت هذا الحرف مستعملاً بهذا المعنى، ومن معاني نفث رمى الشيء من فمه، وهو أليق هنا.

ص: 346

الكاتب: محمد محمود الشنقيطي

‌حقوق الجار ومدح المنار

بما يبديه من هدي الكبار

تفضل علينا إمام لغة العرب، ومرجع أهل العلم والأدب، الأستاذ محمد

محمود الشنقيطي بقصيدة بدوية في أسلوبها، إرشادية في موضوعها، يقرظ بها

(المنار) فنشرناها خلافًا لعادتنا لأننا نرى رضاء مثل هذا الأستاذ عن عملنا من

موجبات الفخر لنا والشكر له، وما كان لنا أن نمنعه حق شكرنا له؛ لأن فيه فخرًا

بشكره لنا (وهذه هي) :

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(الحمد لله تعالى وحده)

(حقوق الجار، ومدح (المنار) بما يبديه من هدي الكبار)

ألا قف بالديار وقوف دار

حقوق الجار محترم الجوار

وغادر ظلمه ما دمت حيًّا

وبادر نصره حق البدار

وعظم قدره سرًّا وجهرًا

تحُز فخر الملا يوم الفخار

تذكر قولي الحربي صخر

وجار أبي دواد للمجار

تجد قوليهما حكمًا وعلمًا

مفيدًا للكبار وللصغار

وإن تعمل بما قالاه تفلح

وتندب في الورى يا خير جار

وإن جهِل السفيه حقوق جار

وسيم الخسف من غاوٍ وزار

فعلمي الجار محمي حماه

كجار الدار محفوظ الوقار

فجار الدار أجعله دثاري

وجار العلم أجعله شعاري

وكل منهما عندي منيع

بمنزلة الرداء مع الإزار

فجار الدار أمنع باختياري

وجار العلم أمنع باضطرار

غذاء الروح علمي طول عمري

أجوب له البحار مع البراري

أؤم العرب ثم العجم فردًا

لضبط العلم ليلي مع نهاري

وطبع الحر منع الجار دأبًا

وردع تحوت أوغاد شِرار

فدع عنك التحوت [1] وعد عنهم

ووثق وصل حبلك بالخيار

أشاقك بالغميّم ضوء نار

أم الضوء المضيء من (المنار)

فما نار الغميم شوقتني

ونجل الريب شاقت وهو سار

وشاقت قبله الشماخ ليلاً

على بعد المسافة والمزار

ولكن (المنار) حوى اشتياقي

لما يبديه من هدي الكبار

منار هداية للدين يعلو

مكان النيرات من الدراري

على التقوى يحض بلين قول

وصد المفسدين عن الضرار

يحض على اتباع الشرع نصحًا أولي الألباب من كأس وعار

ويحمي حوزة العلم احتسابًا

حماية ضيغم شبليه ضار

يؤيد بالدليل عليم صدق

يسفهه السفيه أخو الصغار

يدل التاركين سدى هداهم

على سبل النجاة من التبار

وينكر منكرات صرن عرفًا

تباشر في البراز بلا تواري

فمنشئه (الرشيد) أحل قومًا

عمين عن الهدى دار القرار

ولن يرضى (رضى) أفعال قوم

أحلوا قومهم دار البوار

وأنشد في هداه وفي عماهم

من الأشعار مطرب كل قاري

إذا ازداد العمون عمى عرفتم

هدى الإسلام واضحة (المنار)

_________

(1)

التحوت الأراذل السفلة جمع الظرف (تحت) وعُرّف واستُعمل هكذا.

ص: 349

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقاريظ

(المؤيد)

مضى على (المنار) زمن لا يفتح فيه باب التقريظ، حتى كثر علينا ما

يلزمنا تقريظه، فنفتح الباب في هذا العدد بتهنئة صديقنا الفاضل الأستاذ الشيخ

علي يوسف صاحب (المؤيد) الأغر بتوسيع دائرة جريدته السابقة جميع الجرائد

العربية في ميدان الانتشار؛ فإنه قد جعل صفحاتها 8 فزادت فوائدها السياسية

والأدبية والتجارية، وإنا لنرجو له فوق ذلك مظهرًا.

(مجلة الجامعة العثمانية)

علمنا من العدد الأخير الذي صدر من هذا المجلة المفيدة أنها ناجحة نجاحًا حمل

أصحابها على زيادة صفحاتها، بأن تجعل 40 بدلاً من 30، ولكن بحجم أصغر من

حجمها الحاضر الذي تكاثرت شكوى القراء منه، وقد عزموا على زيادة أبوابها

وأبحاثها وإتقان رسومها على إبقاء قيمة الاشتراك على حالها، فنهنئ صديقنا

منشئ هذه المجلة بنجاحه السريع، ونتمنى له زيادة الإقبال.

_________

ص: 350

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإسلام في البرازيل

ذكرت جريدة (بيروت) الغرّاء خبر القريتين اللتين أسلم أهلهما في الهند، ثم

قالت: اجتمعنا بأحد مواطنينا المسيحيين القادمين من البرازيل، فأخذنا معه بأطراف

الحديث، وتنقلنا من القديم إلى الحديث، ودار بيننا الكلام على أحوال تلك البلاد،

وعادات أهلها، وما هم عليه من السذاجة والبساطة، إلى غير ذلك، ففهمنا منه أن

في مدينة ريوجانيرو عاصمة البرازيل قومًا من المسلمين النازحين إلى تلك الديار

منذ قرون متطاولة، وأصل هؤلاء القوم - على ما يقولون - من أفريقيا، وقد

امتزجوا بالأهالي امتزاجًا عظيمًا، وعلى كر السنين والأعوام قد نسوا لغتهم

الإفريقية، واستعاضوا عنها بلغة البلاد، فكان من نتيجة ذلك أنهم نسوا أيضًا قواعد

دينهم، إذ لم يتسنَّ لهم المحافظة عليها باللغة البرازيلية.

ومع ذلك فهم لم يزالوا مسلمين ينطقون بالشهادتين مع التحريف في لفظهما،

مما دل على أنهم لبثوا محافظين على دين أجدادهم، قال: وفي داخلية البرازيل

ألوف كثيرة من هؤلاء المسلمين، وأكثرهم مزارعون.

وكان الدون بدرو إمبراطورالبرازيل منعهم عن الاسترقاق والاتجار بالعبيد،

فامتنعوا، ولكنهم اتبعوا فيه الكيفية التي كانت من عهد غير بعيد مألوفة في روسيا،

وهي أن صاحب المزرعة أو القرية إذا أراد بيعها، باعها بما فيها من الماشية

والأهالي، فيصبحون كلهم طوع أمر الشاري وفي خدمته، يشتغلون بالأمور

الزراعية في مقابل العيش الذي به يتبلغون، أما محاصيل تلك القرية فكلها

لسيدهم.

قال: وقد سمعت مرة صاحبًا لي من هؤلاء المسلمين يقول: (لا إله إلا الله

محمد رسول الله) قالها بتحريف كثير؛ لأن اللغة المألوفة بينهم لا تساعدهم على

لفظ الهاء والحاء، أما أنا فتعجبت جدًّا؛ لأني مكثت في البرازيل نحو سنتين لم

أسمع في غضونهما كلمة الشهادة، ولا كنت أعلم أن صاحبي هذا مسلم، فقلت له:

وما علَّمَك هذا اللفظ؟ قال: ديني، قلت: وما دينك؟ قال: الإسلام والحمد لله،

فما كدت أصدق منه ذلك، ولأجل أن أقف على حقيقة باطنه قلت مداعبًا: إن

المسلمين لا ينفعون، فنهض للحال وقد احمرت عيناه، وارتجفت شفتاه، وظهرت

ملامح الغضب على وجهه، وكاد يبطش بي لو كان على يقين أن الحكومة لا تقتص

منه، فلما رأيته على هذه الحال لاطفته، وأفهمته أن بلادنا بلادٌ إسلامية، وأننا

عائشون مع المسلمين على غاية المحبة والولاء، وأني لم أقصد بما قلته له إلا

مداعبته واختباره فيما إذا كان مسلمًا حقيقيًّا أم لا، فقال: الحمد لله على الإسلام،

وأنت يا صاحبي مخير أن تهزل معي بما شئت، أما الدين فإياك إياك؛ لأنك تبيت

عدوي، ثم تصافحنا وتصالحنا، وخرجنا إلى التنزه سوية.

قال مخبرنا: وقد فهمت من صاحبي المسلم أن المسلمين كثيرون هناك، وأنهم

لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادتين، فلا جامع ولا معبد ولا صلاة، ولا

ولا

وما ذلك إلا لأنهم نبذوا لغتهم الأصلية، وتعلموا اللغة البرازيلية المشيدة على

أركان المسيحية، ولذلك تراهم يسمون أولادهم بأسماء المسيحيين، وما عدا

الشهادتين لم يحافظوا على شيء من سنن الإسلام، إلا سنة الختان، فهم يختنون

أولادهم، ولكنهم لا يعلمون لأي شيء.

هذا ما فهمنا من مخبرنا القادم من بلاد البرازيل، فلو كان لهؤلاء المسلمين

علماء مبعوثون ينبثون بينهم، فيتعلمون لغتهم في بادئ الأمر، حتى إذا أحسنوها

علَّموهم أصول الدين الحنيف، فلا يكاد يمضي ربع جيل حتى ينتشر الإسلام في

جميع أنحاء أميركا.

ولا يخفى أن تعليم هؤلاء القوم أركان دينهم، وأصول عقائدهم لِمَن أسهل

الأمور التي يمكن تناولها؛ لأنه ظهر من كلام مخبرنا أن الغيرة على الدين لم تزل

مستعرة في صدورهم، فإذا جاءهم العلماء والفقهاء أقبلوا عليهم إقبال الظمآن على

ورود الماء؛ لأن أساس الدين الحنيف راسخ في صدورهم.

وما أجدر الأغنياء من المسلمين بجمع الدراهم اللازمة؛ ليتسنى لهم إرسال

المعلمين إلى هؤلاء القوم أولاً، ثم إلى وثنيي الهند الذين تكلمنا عنهم في الفصل

السابق، فإنهم ولا شك يُقبلون على اعتناق الإسلام؛ لأنهم على درجة من الفهم

والذكاء يميزون الغث من السمين، ويدركون حقائق الأشياء، فإذا وقفوا على مبادئ

الدين الإسلامي البسيطة السهلة التي يقبلها العقل، وتشربها النفس، كان من المؤكد

إقبالهم التدين به، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.

(انتهى)

_________

ص: 351

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الدين والدولة

أو الخلافة والسلطنة

ارتأى بعض من كتب في (الجامعة الإسلامية) أن هذه الجامعة تتوقف على

الفصل بين الدين والدولة، وبين الخلافة والسلطنة، بأن يكون الخليفة رئيسًا روحيًّا،

والسلطان رئيسًا سياسيًّا لا علاقة له بالدين، واقترح أصحاب هذا الرأي من كتاب

النصارى على كتاب المسلمين أن يكتبوا مبينين رأيهم فيه، وها نحن أولاء قد

لبَّينا طلبهم، ونبدأ ببيان معاني هذه الألفاظ، فنقول:

(الدين)

عرَّفه علماء المسلمين بأنه وضع إلهي، سائق لذوي العقول

باختيارهم إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل، وإن شئت قلت: إلى سعادتهم

الدنيوية والأخروية. وقواعده عندهم ثلاث: تصحيح العقائد، وتهذيب الأخلاق،

وإحسان الأعمال، والأعمال قسمان: عبادات، ومعاملات، ومن الثاني: الأحكام

بأنواعها، قضائية ومدنية، وسياسية وحربية، ومن الناس من جعل الأحكام قسمًا

مستقلاًّ بنفسه، ولا مشاحة في الاصطلاح، والدين عند النصارى هو - كما في

دائرة المعارف - عبارة عن مجموع النواميس الضابطة لنسبة الإنسان إلى الله، أو

يبين صفات لتك النسبة، وهو كما ترى لا علاقة له بالأمور الدنيوية، ولا بالأحكام

والسلطة، ومن المشهور أن الديانة النصرانية مبنية على الخضوع لأية سلطة

حكمت أصحابها، لِما في الإنجيل من أن سلطة الملوك إنما هي على الأجسام الفانية،

وأن سلطة الدين على الأرواح فقط، فيجب على كل متبع لهذا الدين أن يدين لكل

سلطة، ويذعن لكل شريعة حكمته، بخلاف الدين الإسلامي؛ فإنه مبني على

السلطة والغلب، وأن يحكم العالم كله بشريعته، وإن لم يدينوا كلهم به، إذ لا سبيل

إلى اتحاد النوع الإنساني وجعله أمة واحدة إلا بإحدى الوحدتين: وحدة الاعتقاد،

ووحدة الحكم العادل الذي يساوي بين الجميع، وقد بيَّنا هذا في العدد الأسبق فلا

نعيده، فيجب على المسلمين أن لا يدينوا إلا لمن كان على دينهم، وإذا حاول أجنبي

العبث باستقلالهم، ودخل فاتح إلى بلادهم يتعين عليهم أن ينفروا خفافًا وثقالاً،

ويقاتلوا نساءً ورجالاً حتى يدفعوا العدو، أو يفنوا عن آخرهم، بل يجب عليهم أن

يسعوا في نشر دينهم، ورفع لواء سلطتهم حتى تزول الفتنة والشرك من الأرض،

ويكون الناس أمة واحدة، تجمعها رابطة الاعتقاد الحق والحكم العادل، أوالثاني فقط

كما قدمنا، وبهذا الأخير كان الإسلام لا إكراه فيه، ولا تنافي سلطته تقدم غير

متبعيه، فضلاً عن إيذائهم وهضم حقوقهم {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ

فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) .

(الدولة)

لهذه الكلمة إطلاقان، فتطلق على سلسلة من الملوك تجمعهم أسرة واحدة أو

جنس واحد، يحكمون مملكة من الممالك، يقال: دولة الأمويين، ودولة العباسيين

والعثمانيين، كما يقال: دولة الفرس، ودولة الرومانيين، وتطلق على الحكومة

والسلطة، فيقال: الدولة الفرنساوية، ويعني به حكومتها الحاضرة في مجموع

بلادها، والحكومة في أصل اللغة: مصدر حَكَمَ، واسمٌ مِن تَحَكَّم بمعنى فصل

الخصومة، وفي العرف عبارة عن السلطة ورجالها القائمين عليها.

(الخلافة)

هي في الشرع الإسلامي النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حراسة

الدين وسياسة الدنيا، فهي جامعة للرئاستين معًا، ويجب تفويض الأمور العامة إلى

الخليفة، ولا تصح الأحكام في السعة إلا إذا كانت صادرة عنه مباشرة، أو بواسطة

نوابه، قال في الأحكام السلطانية: والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء:

(أحدها) حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة؛ فإن نجم

مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما

يلزم من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسًا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.

(الثاني) تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم

النصفة، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم. (الثالث) حماية البيضة والذب

عن الحريم؛ ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير

بنفس أو مال، و (الرابع) إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك،

وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.

و (الخامس) تحصين الثغور بالعُدَّة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا تظهر

الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرمًا أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا، و (السادس)

جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يُسلم، أو يدخل في الذمة؛ ليقام بحق الله تعالى

في إظهاره على الدين كله، و (السابع) جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه

الشرع نصًّا واجتهادًا من غير خوف ولا عسف، و (الثامن) تقدير العطايا،

وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا

تأخير، و (التاسع) استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من

الأعمال، ويكله إليهم من الأموال لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال

بالأمناء محفوظة، و (العاشر) أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال؛

لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعوّل على التفويض تشاغلاً بلذة أو

عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح، وقد قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا

جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ

اللَّهِ} (ص: 26) فلم يقتصر الله سبحانه على التفويض دون المباشرة، ولا عَذَره في اتباع الهوى، حتى وصفه بالضلال، وهذا وإن كان مستحقًّا عليه

بحكم الدين ومنصب الخلافة، فهو من حقوق السياسة لكل مسترعٍ (لعله مسترعى)

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته) . اهـ،

فهذه وظائف الخلافة بالإجمال.

(السلطنة)

كلمة أخذها المولدون من لفظ (سلطان) ويعنون بها الدولة أو الحكومة،

يسمى حاكمها الأكبر سلطانًا، ولم يطلق لقب السلطان على أحد من خلفاء الأمويين

والفاطميين والعباسيين، وإنما حدث هذا اللقب في طور ضعف الخلافة

العباسية الذي كان من أثره افتئات العمال في الأقاليم على الخلفاء، واستبدادهم

بالأمر من دونهم، واختراع الألقاب الضخمة وتحليهم بها، ثم جعل الخلافة اسمًا

مهملاً، ليس لأربابها من الأمر شيء، إلا نحو ذكر أسمائهم في الخطب، وما هو

بالأمر المهم في الدين ولا في الدنيا، وكان من تلك الألقاب الضخمة التي تلقب بها

العمال والأمراء الذين استبدوا على الخلفاء لقب (سلطان) وأول من تلقب به

الأمراء المستقلين في عهد الخلافة العباسية محمود بن سبكتكين الغزنوي الفاتح

الشهير في القرن الرابع للهجرة الشريفة.

مَن تدبر ما شرحناه من معاني هذه الكلمات الأربع يتجلى له أن الدين

الإسلامي جامع لمصالح المعاش والمعاد، ومبني على أساس السلطتين الزمنية

والروحية، وأن الديانة النصرانية على خلاف ذلك، وأن الخليفة هو رئيس

المسلمين القائم على مصالحهم الدينية والدنيوية، وأن كل حكومة تخرج عن طاعته

الشرعية فهي منحرفة عن صراط الإسلام، وأن القول بفصل الحكومة والدولة عن

الدين هو قول بوجوب محو السلطة الإسلامية من الكون، ونسخ الشريعة الإسلامية

من الوجود، وخضوع المسلمين إلى من ليس على صراط دينهم ممن يسمونهم

فاسقين وظالمين وكافرين؛ فإن القرآن العزيز الذي هو أساس الدين يقرع دائمًا

آذانهم، بل يناديهم من أعماق قلوبهم قائلاً بلسان عربي مبين {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا

أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ

هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45){وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (المائدة: 47) .

إذا تمهد هذا، فنقول للذين يدعوننا إلى فصل الدين عن الدولة، والتفريق بين

السلطة والخلافة لأجل تأييد (الجامعة الإسلامية) إن كنتم تدعوننا هذه الدعوة

جاهلين بمعنى هذه الألفاظ عندنا، فها نحن أولاء قد بيناها لكم فارجعوا عن دعوتكم،

فقد علمتم أن قياس الإسلام على النصرانية قياس مع الفارق؛ فإن فصل السلطة

الروحية عن السلطة الزمنية هو أصل النصرانية، وقد كان رؤساء الدين تعدوا

الحدود، وتسلقوا عروش السلاطين والملوك، مخالفين لصاحب الدين الذي:

قد جاء لا سيف ولا رمح ولا

فرس ولا شيء يباع بدرهم

يأوي المغارة مثل راعي الضأن لا

راعي الممالك في السرير الأعظم

فلا بدع إذا ترقّى الدين بانصراف رؤسائه إلى خدمته، وتركهم الاشتغال بما

ليس منه في شيء.

ونحن والنصارى في هذا الأمر على طرفي نقيض؛ فإننا إذا تَلَوْنَا تِلْوَهُم فيه

نكون قد تركنا نصف ديننا الذي هو السياج الحافظ للنصف الباقي، كلا إن الدين كله

يكون بهذا العمل عرضة للاضمحلال، ومهددًا بالزوال، لا جرم أن ما تدعوننا

إليه هو أقرب طريق لإعدام (الجامعة الإسلامية) فكيف جعلتموه طريق إيجادها

وهو أقوى علل شقائها، فأني يقنعوننا بأنه علة إسعادها؟

وإن كنتم تدعوننا إليه عن بينة وعلم، ووقوف على حقيقة الحكم، خدمة لمن

فُتِنْتم بمدنيتهم، واتصلتم بهم بجاذبية تعليمهم وتربيتهم - فاعلموا أن العلة لم تهبط بنا

إلى هذا الحضيض الذي يقال فيه: (حال الجريض دون القريض) وأن الجهالة ما

امتلخت أحلامنا وأزاغت أبصارنا، ولا رمتنا بالأفن وضيق العطن، بحيث

صِرنا نختبل بهذه الوساوس، ونختلب بتلك الهواجس، أو ننخدع لذي (خواطر

خواطر) ونغتر بكلام مارق غادريصف نفسه بأنه (مسلم حر الأفكار) وما

جاءت حريته إلا من رق الكفار، فإن كان اتخذ لقب المسلم ذريعة لهدم منار الشريعة

فكأين من منتسب مثله للإسلام ينتهك حرماته بالفعل لا بالكلام، ويساعد الأجانب

على نقض أساسه وإطفاء نبراسه متبجحًا، بأنه من الأحرار المتمدنين، البرآء من

لوث التعصب للدين.

ربما كان الحامل لبعض الكتاب المسيحيين على اقتراح ما ذُكِرَ هو اعتقادهم

بأن زوال السلطة الشرعية الإسلامية هو الذي يساوي بين طائفتهم وبين المسلمين،

ويخمد نيران الغلو في التعصب، فيتفقون على إعلاء شأن الوطن، ويخدم كل دينه

من الوجهة الروحية التي لا مثار فيها للتنافر ولا مبعث للتنافس والتفاخر. ويسهل

علينا أن نبين لهم خطأهم في اعتقادهم هذا فنقول:

(1)

إن بناء الشريعة الإسلامية قام على قاعدة العدالة والمساواة بين

المسلمين وغيرهم في الأحكام والحقوق المعبر عنها بهذه الجملة التي يتناقلها الإسلام

خلفًا عن سلف، وهي (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وقد دلنا التاريخ على أن

الحكومات الإسلامية كانت تراعي هذه القاعدة بحسب تمسكها بالدين قوة وضعفًا

ومن قابل بين مساواة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الإمام عليًّا صهر النبي وربيبه،

وابن عمه، برجل من آحاد اليهود في المحاكمة، وانتقاد علي عليه بقوله له: (يا

أبا الحسن) وعده التكنية إخلالاً بالمساواة لما فيها من التعظيم، وبين ما هو جارٍ

اليوم في فرنسا من التحامل على دريفوس وهو من أكابر عظماء اليهود، حتى إنهم

حاولوا قتل وكيله الذي يحامي عنه، وهم أصحاب العلم الذي ينطق بالحرية والعدالة

والمساواة - يظهر له الفرق بين المسلمين في بدايتهم والأوروبيين في نهاية مدنيتهم.

فالشريعة في نفسها عادلة، ولا يضر المسيحيين أن مواطنيهم المسلمين يعتقدون أنها

سماوية، بل هو ينفعهم كما يأتي، وهم لا فرق عندهم بين الشرائع، إذ دينهم

يوجب عليهم اتباع أي شريعة حكموا بها.

(2)

إن الترقي الديني والمدني الذي نقصده من إحياء (الجامعة الإسلامية)

يتوقف على التهذيب وقيام الأفراد بما عليهم من الحقوق والواجبات لمن يعيشون

معهم، وهذا القول لا يخالف فيه أحد، ومعلوم أن المسلمين لا يعتقدون بحق ولا

واجب إلا إذا كان مبينًا في شريعتهم ومأخوذًا من أصول دينهم، فإذا فصل بين

الدين والدولة كان جميع ما تكلفهم به الدولة من الحقوق والواجبات غير واجب

الاتباع في اعتقادهم، فإذا أخذوا به في العلانية لا يأخذون به في السر، ولا يتم

تهذيب الأمة ما لم يكن الوازع لها عن الشر والحامل لها على الخير ثابتًا في نفسها

مقررًا في اعتقادها، فخير للمسيحيين أن يحكم المسلمون بشريعة ودولة توجب

عليهم احترامهم، والقيام بحقوقهم سرًا وجهرًا، وبدون هذا يتضرر المسيحيون،

ولا يرتقي المسلمون، بل يتدلون ويهبطون كما علم بالاختبار والمشاهدة، فقد أنبأ

التاريخ أن مبدأ الخلل والضعف الذي ألمّ بنا كان إهمال وظائف الخلافة والخروج

بها عن معناها الذي هو حراسة الدين وسياسة الدنيا، ولما ضعف الخلفاء عن القيام

بالوظيفتين لجهلهم وانغماسهم في الترف والرفاهية استبد العمال بسياسة الدنيا،

فكانوا ملوكًا وسلاطين، وأهملت حراسة الدين فلم يكن لها زعيم يقيم السنن ويميت

البدع، غير ما كان يأتيه بعض صلحاء الملوك أحيانًا، فتمزق بهذا نسيج الوحدة،

وتفرق شمل (الجامعة الإسلامية) حتى وصلت إلى ما نحن فيه الآن، وكان هذا

أمرًا اقتضته طبيعة العمران، ولن يعود للإسلام مجده إلا بإحياء منصب الخلافة

واتفاق المسلمين على إمام واحد يعتقدون وجوب الخضوع له سرًّا وجهرًا، ولا إمام

اليوم للمسلمين بهذا المعنى إلا القرآن الكريم، فيجب على من يهمه ترقية شؤونهم

أن يدعوهم به إلى العلم والعمل، ونفض غبار الجهل والكسل، والقيام بمصالح

المعاش والمعاد على ما تقتضيه سنن الترقي والإسعاد، فهو إمام كل إمام، وكما كان

المبدأ في ترقيهم كذلك يكون الختام.

_________

ص: 353

الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول

‌كان يا ما كان

(6)

ثم هبطت السيارة السادسة، وكانت كانسة آنسة، فنادت: يأيها الناس

المتجرعون كؤوس الكدر والابتئاس، إلام تصبرون على هذه الحياة المرة، هلموا

أبعكم (الصفاء والمسرة) فأقبلوا إليها يزفون، كأنهم إلى نصب يوفضون،

عازمون على انتهاب ما لديها، واغتصاب ما في يديها، شفاءً لغيظهم من صواحبها

اللائي كن شبيهات بها، وقد كُن يعرضن بضاعتهن على من لا يشتريها، ويمنعنها

من الراغبين فيها، وما بعُد العهد ببائعة الشرف والجاه، وأسباب المفاخرة والمباهاة،

وارتأوا أن يُغروا بها الصبيان والمجانين ليختلسوا متاعها الثمين، فاجتذبوا منها

الصندوق، وهم ممن لا يطالب بهضم الحقوق، فوقع بين أيديهم فانكسر، وتفرقت

البضاعة شذر مذر، فطفقوا يتلقطونها، وحالوا بين الناس وبينها، فأخذوها إسرارفًا

وبدارًا ، ولم يتركوا لسائر الناس إلا أسارًا، ومن ذلك الآن صار الصفاء والسرور

من نصيب المجانين والولدان، وأما تلك البقية فقد تفرقت في جميع البرية،

فأصاب كل عروسين منها وشل يتمتعان به في شهر العسل، ثم تعود إليهم الأكدار؛

فيتجرعون كؤوسها إلى منتهى الأعمار ، ولا يصيب غير هؤلاء من السرور إلا

فلتات، ولا يصفو لهم العيش إلا في لمحات، وأما عامة الأوقات فهي أكدار

وحسرات، وأهنأهم عيشًا مَن يمر عليه معظم الزمان مِن غير سرور ولا أحزان،

ولا يغرنك ما تشاهده في كثير من المعاهد من غناء وعزف ورقص وقصف،

وضحك وغناء، وتصدية ومكاء، فالغم أكثر حروف النغم، والطير يرقص مذبوحًا

من الألم، والسبب في هذه المظاهر التي تخدع الناظر أن ما يجلب المسرة والصفاء

أمسى مجهولاً عند الدهماء، إذ لم يؤخذ هذا الشيء من معدنه، ولم يشتر بثمنه،

ولما بصروا بالولدان والمجانين فرحين في الأغلب ومسرورين، ظنوا أن العقول

والأفكار، التي هي تجلب الأحزان والأكدار، فأنشأوا يطفئون نور العقل والفكر،

بما يريقونه من أكواب الخمر، ويتغلبون على قوة الأفكار، بتلاحين الغناء ونغمات

الأوتار، وما يتبع ذلك مما هنالك، وهيهات أن يظفروا بالمسرة الحقيقية، إلا

بتنظيم حال الهيئة الاجتماعية؛ فإن الحالة العامة تؤثر في الأفراد، وهيهات أن

يوجد في الأمة الشقية عاقل يهنأ بالإسعاد. ولو سئلت السيارة عن الثمن، لما تعدى

طلبها هذا الأمر الحسن.

ولما كان ما كان، من أمر المجانين والصبيان، فرت وهم مشغولون بالانتهاب

راضية من الغيمة بالإياب، فلقيت في طريقها السيارة السابعة، التي جاءت لبيع

الثروة الواسعة، فسألت كل منهما الأخرى عن رحلتها، وبيان نتيجة تجارتها، فكان

مما قالت السابعة: إنني جئت هذه العاصمة الواسعة، وما كدت أذكر اسم بضاعتي

الثمينة، حتى أقبل علىّ كل من سمع الخبر في المدينة - يعدون سراعًا، فُرادى

وأوزاعًا - يتساءلون: ما هي ثروة هذه الغنية؟ وهل هي ذهبية أم فضية؟ وهل

تهبها أم تقرضها لطالبها؟ أم جاءت لتدينها وتربيها؟ فقلت لهم: أيها الناس، عداكم

الشك والالتباس، إن الهبة تفنى، والرباء يُفني، والقرض بالمماثلة لا يثمر ولا

يغني، وإنما جئت لأبيعكم الثروة الحقيقية، بالدلالة على منابعها الأصلية، وتلقينكم

علم الاقتصاد الذي هو أساس الإسعاد، ومن لم يعمل بمسائل هذا العلم النافعة، لا

يكون صاحب ثروة واسعة؛ لأن الإسراف والتبذير، يُذهب المال الكثير في الزمن

القصير، فقالوا: إننا لا نفقه كثيرًا مما تقول، ويوشك أن يكون عقلها مخبول، ولو

أنها علمتنا حل الرموز لفتح الكنوز وأسرار الأرصاد والطلسمات، لاستخراج

الخبايا العاديات، لأنالتنا المُنى، وحبتنا بالثروة والغنى، ولو أطلعتنا من علم

الكيمياء على حقيقة الإكسير، لتحويل المعادن إلى الذهب النضير، لكانت الفائدة أتم

والسعادة أعم، فقلت لهم: إن هذا هذيان مبين، وخرافات من أساطير الأولين،

فقالوا: إنها تسفه أحلامنا، وتحقر أسلافنا، فهلموا بنا نوقع بها، ونعاقبها على سوء

أدبها، فخِفْتُ أن يبطشوا بي طعنًا وضربًا فوليت منهم فرارًا وملئت منهم

رعبًا، ولولا المبادرة بالفرار، لتأخرت عنك يا أختي في التسيار.

ثم إنهما صعدتا إلى السماوات، واجتمعتا بسائر السيارات، وذهبن جميعًا إلى

جوبيتبر رئيس الآلهة الكبير - بحسب ما كان يعتقد في ذلك الزمان من خرافات

اليونان - فقصصن عليه ما لقينه من البشر، من إعراضهن عن النفع واختيارهن

الضرر، بسبب الجهالة الغالبة، والتقاليد الباطلة الكاذبة، فتولاه الغضب الشديد،

حيث لم يتم له ما يريد، وشمت به نبتون وبلوطون، وقالوا له: ألم نقل لك إن

هذا لا يكون؟ فسكت واجمًا، وانثنى كاظمًا، ولا غرو فإن نوع الإنسان، لا

يسعد إلا بالعلم المؤيد بالبرهان، الذي يشهد له الحس، ولا يكذبه الامتحان.

(تمت الأسطورة الحكمية)

أقول: إنني عندما كتبت النبذة الأولى منها مستندًا إلى الأصل التركي، كنت

لم أقرأ الأسطورة كلها، وبعد ما قرأتها وجدت أكثر كلامها لغوًا، فأنشأتها خلقًا

جديدًا، فقد كانت عشر صفحات، حذفنا الكثير منها لأنه هذيان، وجعلناها في

قالب مقبول، تنتشي به العقول، ومَن عَلِم أن صاحب الأصل كتب في السيارة التي

تبيع الشرف والجاه نحو خمسة أسطر فقط، وفي السيارة التي تبيع الغنى والثروة

مثل ذلك، وملخص ما كتبه: إن الناس نهبوا من السيارتين الوسامات وملابس

التشريفات والنقود والثروة، مَن عَلِم هذا يتجلى له معنى التصرف الذي ذكرناه أولاً،

وأرجو أن لا يكون هذا الأسلوب حجابًا على وجه النصائح التي تضمنتها

الأسطورة {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .

_________

ص: 360

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

‌خاتمة رسالة

استنهاض همم

هذا هو حديثنا بالأمس، جلوناه على منصة (المنار) الأغر، وضممناه إلى

ما يكتب فيه من قلم منشئه، صديقنا الفاضل، ورَفَعْنَا صوتنا على ذروته مع

أصوات أولئك الكتبة الأكارم الذين يلقون إليه بمنشآتهم، ويتخذونه منبرًا لإبلاغ

خطبهم وعظاتهم، ولا أكتم القراء أني لم أقتصر فيما كتبته على مجرد الحديث الذي

دار بيننا، بل أضفت إليه ما كان يسنح في الخاطر، ويهجس في النفس أثناء كتابته،

وزدت فيه بعض أمور يتطلبها المقام، وشيئًا من الشواهد التي توضح خفايا الكلام،

وقد أتيت على ذكر معظم الأخطار التي تحدق بالشعوب الإسلامية، والمهاوي التي

يُخشى أن يواقعوها، ولم آلُ جهدًا في التحذير، وإمحاض النصح، واستنهاض

الهمم؛ لملاقاة الخلل والفساد الذي لصق بنفوسنا، ولابَسَ أعمالنا، صرحت بذلك

في بعض المواطن، وفضلت التلميح والتعريض في مواطن أخر.

وليس من رأينا ما يراه البعض من وجوب كتم مساوي الأمة، وإخفاء عللها

وأمراضها، صونًا لحرمتها عن الابتذال، وكرامتها من الامتهان، وذهابًا إلى أن

في الإشادة (رفع صوت والإعلان) بالتشنيع عليها، وتشهير عوراتها، واللهج

بسوء حالتها، ووخامة عاقبة توانيها - توهينًا لعزائم آحادها، وتثبيطًا لهممهم، مع ما

في ذلك من اطلاع العدو على ضعفها، والإشراف به على تراخي شؤونها، فيحدث

له طمع فيها، ويتوسل بذلك للتسجيل عليها بالانحطاط الأدبي والتأخر المدني،

وأن الطريقة المثلى في خدمة الأمة إنما هي التمويه والتأويل، والتخييل والتعليل،

وإرخاء الحبال على الغوارب، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً.

كذا يزعم البعض، ولا أراه إلا خطأ وغبانة (أي ضعفًا في الرأي) من

يقول: إن الجهل المركب خير من الجهل البسيط؟ إن كان يقوله أحد فزعم الزاعم

صحيح. من يقول: الأحسن في حق المريض الجاهل بفن (الهيجين) أن لا يخبر

بمرضه ولا يعرَّف بدرجاته وتطوراته، ولا يحذر من عاقبة إهماله؟ إن كان يقول

أحد فزعم الزاعم صحيح. من يقول: إن تربِيت [1] الغلام والبشاشة في وجهه

عندما يقترف ذنبًا ويأتي منكرًا، هو الأفضل في تربيته وأقرب طريق لتقويم

طباعه؟ إن كان يقوله أحد فزعم الزاعم صحيح. لا يقول بشيء من ذلك أحد فزعم

الزاعم باطل.

إن اهتمام عقلاء الأمة ونبهائها في إصلاح شؤون أمتهم، وتشخيص أمراضها،

وتحديد درجات المرض، وتحذيرها مغبة التفريط في تناول العلاج، والاعتراف

بأن هناك خللاً تجب مداركته، وصدعًا ينبغي شعبه، والإقرار بأن البدع التي

خالطت تعاليم الأمة وعقائدها، والفساد الذي سرى في عادها وسائر شؤونها يؤدي

إلى اضمحلالها، ويودي بحياتها والنعي على أفرادها انحطاط هممهم، وصغر

نفوسهم، والتسجيل عليهم بالحرمان من مزايا الأمم الحية إن لم ينشطوا للعمل،

ويقوموا بما وجب عليهم، كل ذلك مما تقوى به في الاحتجاج على أوروبا وينهض

دليلاً على أن في الأمة رمقًا يتموج، وأنفاسًا من الحياة تترقرق [2] ولا تلبث إن

أُمهلت حتى يقوى ذلك الرمق، وتنتعش تلك الحياة، فتنهض بالأمة إلى ذرى المجد

والعزة، وتعرج بها في معارج السعادة.

مسافر أمامه طريق ذات تضاريس وأشواك، وفيها عواثير وهُوًى، وعلى

جنابتيها أضباس [3] تزأر فيها الأسود، وأدغال وأجم تدب تحتها الهوام والأفاعي

وعدوه يترصده في معاطف تلك الطريق ومخارمها، ويعترض سيره مجاهل وقفار

لا يجد فيها حسوة ماء، ولا لماظة قوت، وذلك المسافر مضطر لسلوك تلك الطريق

وبلوغ الغاية التي ينتحيها وهو خالى الذهن مما يوشك أن يشارفه على غفلة من

وعورة الطريق وأخطارها، هل من وفاء الذمم ترك نصيحته؟ هل من سداد الرأي

ونفاذ البصيرة ترك تحذيره وتخويفه؟ أليس إخباره بما سيلاقيه يكون أدْعَى لأخذ

أهبته، وإيقاظ نفسه، وإثارة عزيمته؟ لا جرم أنه حينئذ يبذل من الاهتمام والتأهب،

ويستنزف من الحذر والتيقظ على قدر ما يعلم من مخاطر تلك الطريق، وما يصل

إلى سمعه من أهوالها ومخاوفها، ويوفر من وسائل الدفاع وأدوات الصيال، ومواد

الغذاء ومرافق المعيشة ما يأمن معه على حفظ حياته وبلوغ غايته، بل يبلغ به

الحزم وأصالة الرأي أن يستصرخ إخوانه، وكل من يؤم وجهته ويستفز هممهم

للمشايعة في العمل، والمرافقة في السير؛ كي يقووا جميعًا على مدافعة الصائل،

ومقاومة الغوائل؟ والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(انتهى)

_________

(1)

التربيت: الضرب اللطيف، على نحو الكتف تحببًا.

(2)

ترقرق: تحرك، وجاء وذهب، والشيء لمع، والدمع دار في الحملاق.

(3)

جمع ضبس، وهو الأشجار الملتفة.

ص: 363

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تنبيه

كثر في هذه الأثناء خوض الجرائد الأسبوعية الحديثة النشأة في المسائل

الدينية من غير علم ولا بصيرة، وماذا نقول وجهل الكاتبين مركب، وقد تركت

الحكومة أمر الصحافة والطباعة فوضى، ولكننا ننبه هؤلاء الكاتبين إلى أمر لا

يرفضه مسلم، وهو أن لا يكتب أحد منهم حديثًا ينسبه للنبي صلى الله عليه وسلم إلا

بعد العلم بتخريجه، ومعرفة أنه غير موضوع ولا منكر، وإذا أرادوا الاحتجاج به

فيجب أن يعلموا بأنه مما يحتج به، وإلا دخلوا في عموم قوله صلى الله عليه وسلم

في الحديث المتواتر (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) وبعض

الروايات لم يُذكر فيها (متعمدًا) فالخطر فيها أعظم.

وأمر آخر مما ينبغي التنبيه عليه، والعناية به، وهو كثرة ذكر الآيات

القرآنية في هذه النشرات التي هي عرضة للابتذال والامتهان، وإننا كنا نجد في

النفس حرجًا من ذكر الآيات في أعداد السنة الأولى من (المنار) مع علمنا بأن

معظم القراء يحفظونها لأجل تجليدها، بحيث كانوا يطلبون منا ما يفقدونه من

الأعداد، ولكن شكل الجريدة كان مظنة للابتذال، وهذا هو السبب الأول في جعلنا

(المنار) بشكل الكتب، ولا نشك في أن رصفاءنا الأفاضل يعتنون بهذه النصيحة

بقدر قوة دينهم وصحة يقينهم، والله الموفق.

_________

ص: 365

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌دم أضاعه أهله

يشكو المصريون من المدارس الأميرية، ويرون أن سعادة البلاد إنما تكون

بمدارس الجمعيات الخيرية الوطنية، وأنّى تفي الجمعيات بالغرض إذا لم يكن

القائمون بها والنظار عليها من الأطباء العارفين بمرض الأمة، المندفعين بطبيعتهم

إلى إصلاحها؟

نوَّهنَا بمدرسة زعزوع بك مع أن بنيّانها أُسِّسَ على شفا جُرُفٍ هارٍ، حيث

جعلت السيطرة عليها للحكومة، ورجونا بذلك أن يرغب غيره بمثل عمله،

ويأتي سالمًا من علله، وقد رأينا في هذه الأيام إعلانًا من جانب جمعية (العروة

الوثقى) الإسلامية في الإسكندرية كاد يذهب ببقايا أملنا بالمدارس الأهلية، إعلانًا

يطلب فيه أستاذ للغة الفرنسوية براتب شهري قدره 600 غرش، ومثله للإنكليزية،

وأستاذان للغة العربية براتب شهري قدره 200 غرش لكل منهما، واشترط في

أستاذي الفرنسوية والإنكليزية المعرفة التامة، ولم يشترط ذلك في أستاذي العربية،

وكيف يشترط ذلك، ولا يمكن أن يوجد معلم ماهر بهذا الراتب القليل؟ أليست هذه

الجمعيات هي التي تحيي اللغات الأجنبية، وتميت لغة الأمة والدين؟ ! بلى، إنها

تفعل ما لا تفعله الحكومة في مدارسها؛ فإن في المدارس الأميرية من معلمي العربية

كثيرًا من نخبة النابغين يأخذون الرواتب الكافية، ويعلمون أحسن التعليم، فعسى أن

تتنبه جمعية (العروة الوثقى) لملاحظتنا هذه، فتتلافى الأمر، وتنتقي لتعليم العربية

في كل مدرسة من مدارسها أفضل المهرة من المعلمين، مهما بلغت أجورهم، لتكون

محل ثقة الأمة، وموضع رجائها، ولا تكون مجهزة على الأمة فيقال فيها: (د م

أضاعه أهله) .

_________

ص: 365

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عناصر النمسا

جاء في نبذة سياسية في جريدة (الشام) الغرّاء أن في مملكة النمسا

10690000 نفس من العنصر الألماني، و 7770000 من العنصر البوهيمي،

و7508000 من العنصر المجري، و4879000من العنصر الكرواتي والصربي

و3900000من العنصر البولوني، و3668000 من العنصر الروتيني،

و2940000 من العنصر الروماني، و 1325000 من العنصر السلوفاني،

و729000 من العنصر الإيطالي، و 1920000 من اليهود، وكل من هذه

العناصر ينزع إلى الاستقلال، ولا سيما العنصر البوهيمي صاحب المجد القديم؛ فإن

رجاله أبدًا دائبون وراء إحراز الغاية من الإصلاح، ونشر لغتهم ومباديهم، ويسألون

لبلادهم الامتيازات التي نالتا المجر. اهـ

_________

ص: 366

الكاتب: محمد رشيد رضا

قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد السلطان عبد الحميد الثاني

(تابع مالية الدولة)

قد قررت غرامة الحرب الروسية التركية في اتفاق 11 مايو سنة 1882

المبرم بين الحكومة العثمانية وحكومة روسيا وأخذت الحكومة العثمانية تسدد هذه

الدين الذي قدره 802500000 فرنك أو 35000000 جنيه مجيدي بدفعة سنوية

قدرها 350000 جنيه مجيدي ومدة استهلاكه مائة سنة، ومما خص لتسديده رسوم

الأغنام والأعشار التي تجيء من ولايات حلب وقونيه وقسطموني واطنه وسيواس

وهي إيرادات كان مجموعها يبلغ إلى سنة 1882 مبلغ 427500 جنيه مجيدي لكن

بسبب القحط الذي أكل آسيا الصغرى وتركية آسيا كما أكل المزروعات القليلة

واستمر عدة سنين، قد قلَّت تلك الإيرادات عما كان مقدرًا لها وتسبب عن ذلك زيادة

دين الغرامة فبلغ في سنة 1888 إلى 600000 جنيه مجيدي. وقد أُبرم اتفاق جديد

بين الحكومتين المختصتين بتصفية هذه المتأخرات من أقساط الغرامة أعطيت روسيا

بمقتضاه أجزاء الخراج المتحصلة من ولاية حلب مع بقاء هذه حرة، وأعشار ولاية

معمورة العزيز وبقيت الروسيا تقبض في الدفعة السنوية مبلغ 450000 جنيه

مجيدي عوضًا عن الدفعة الأصلية التي قدرها 350000 جنيه مجيدي وذلك مدة

ست سنوات. أما التعويض الذي اشترط دفعه للتجار الروسيين الذين كانوا يقيمون في

تركيا وحصلت لهم خسائر من الحرب التي حصلت في سنة 1877 فقد حددته اللجنة

التي شُكِّلَتْ للبحث في مطالب أولئك التجار البالغ مجموعها 19000000 فرنك

بمبلغ 6000000 فرنك، وفي ديسمبر سنة 1884 دفع أول قسط من هذا الدين

وقدره 50000 جنيه مجيدي للدائنين ذوي الشأن. قد نشر جرنال

المجلس التجاري بالقسطنطينية في 7 أبريل سنة 1892 مقالة عظيمة الشأن في

الإيرادات المتنازل عنها لمصلحة الدين العمومي هاك ترجمتها: (إنا نحفظ لأنفسنا

الحق في أن ننشر في أقرب وقت كالعادة تقريرا مفصلاً لمجلس الإدارة خاصًّا

بالإيرادات المتنازل عنها لمصلحة الدين العثماني عن أعماله في سنة 1309 هجرية

الموافقة لسنة 1893 مسيحية المتداخلة في سنة 1894، إلا إنّا قبل ذلك

نقدم للقراء بعض الأرقام الدالة على الحالة العمومية للدين في آخر السنة التي نهايتها

28 فبراير سنة 1894 مقارنة بها في سنة 1892 المتداخلة في سنة 1893

...

...

...

سنة

... سنة

...

...

... 1893-1894

1892-1893

جنيه مجيدي

إيرادات مجملة من كل المصادر

... 2542735 2508760

مصاريف الإدارة ومصاريف أخرى

... 350271 119939

ــ

ــ

...

...

2192464 2188821

========

========

إيرادات صافية

مبلغ ما يوجد في المصلحة المركزية

2186405 2184545

باقي المبالغ المخصص للاستهلاك

... 21555 2321

في السنة الماضية

...

...

ــ

_________

...

...

...

... 2210960

2187866

باقي حساب يستنزل مما قبله

108715 104826

مبلغ احتياطي لزيادة الربح يضاف إلى

ــ

ــ

ما قبله وهو ربح

...

...

2102245

2083040

صافٍ للسهام المستهلكة خالص لمصلحة الدين 85895

... 71307

ــ

_________

يستنزل من ذلك

...

سنة

... سنة

...

... 1892-1894

1892-1893

إيراد القروض الممتازة

... 430500

430500

إيراد القروض التي ربحها

واحد في المائة المتنازل لأربابها

...

عن الإيرادات المشار إليها

1161351

... 1161351

بحروف (1) و (ب) و (ت) و (ث) 9459

... 9459

والسندات التركية

... ــ

ــ

إيرادات مصلحة القروض

...

1601310

1601310

التي حصلت في سني

1863و 64و65-73

باقي يستعمل في الاستهلاك

... 586830

553037

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 367

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كلمة في الحجاب

من علامات الحياة الاجتماعية في الأمة اهتمام أفرادها بما يقال ويكتب في

شؤونها بحيث يرتاحون مما يرونه حسنًا ونافعًا، ويسعون في إيجاده أو إنمائه إن

كان موجودًا، وينفرون ممتعضين مما يرونه قبيحًا ومضرًّا ويجتهدون في إزالته

وإعدامه، أو التوقي منه إذا كان معدومًا يُتوقع حدوثه.

ولقد كنا نكتب في انتقاد العادات المضرة التي لونت بلون الدين، والبدع القبيحة

التي صبغت بصبغة الإسلام، وأحب شيء إلينا أن نقابَل بالتأييد أو التفنيد وإنما كنا

نُسَر بالتفنيد لأنه يدل على وجود رمق من الحياة المعنوية في الأمة تفند به مَن

قَبَّح لها ما تراه حسنًا؛ ولأن من يفند الحق لاعتقاده أنه باطل لا يلبث أن يؤيده

متى تبين له أنه الحق، وليس ظهور الحقيقة على طالبها ببعيد.

لم نر في مكتوب العصر كلامًا أثر في نفوس أمتنا كالذي جاء في كتاب

(تحرير المرأة) من بحث الحجاب. مسألة أنطقت الألسن بالكلام، وأجرت في

ميادين الجرائد جياد الأقلام، وشغلت السامر والنادي، وتحدث بها الملاح والحادي،

وقد قلنا فيها كلمة عند تقريظ الكتاب، ونقول الآن كلمة أخرى: غرض صاحب

هذا الكتاب لا يمكن أن ينكره عليه عاقل عرف مكان أمته من الأمم، ووقف على

حاجاتها وما يعيد إليها حياتها، ألا وهو تربية المرأة لتكون - كما قال - إنسانًا

يعقل ويريد، وتعليمها مقدارًا من العلوم الدينية والعقلية والأدبية يمكنها به إدارة

منزلها، ويُعدّ (عقلها لقبول الآراء السليمة، وطرح الخرافات والأباطيل التي

تفتك بعقول النساء) وأخذها بالفضائل التي يكون لها أثر في سعادة المنزل، ثم في سعادة الأمة، ومن أهمها أن يكون بينها وبين الرجل مشاكلة ومشابهة في الصفات

النفسية والمدارك العقلية، فتكون بين الزوجين منهما محبة حقيقية، محبة يكون منها

نصيب العقل والنفس - لا يبعد من نصيب الوجدان والحس، وإن امرأة لا تعرف لها

شأنًا من شؤون البشر إلا إنها خلقت لأن تكون فراشًا، بعيدة من أن تحب أو تحب

محبة حقيقية من إنسان ذي عقل وفضيلة، ويستحيل أن يتربى ولدها، وينتظم أمر

منزلها، فتكون عاملة في سعادة وطنها وترقية أمتها. ويعتقد صاحب الكتاب أن هذه

التربية التي لا بد منها تتوقف في حصولها أو في كمالها على مكالمة النساء اللائي

يتعلمن ويتربين للرجال ومراجعتهن لهم في الأقوال، ومبادلتهن إياهم الآراء، وقد علم

أن اعتقاد قومه في الحجاب، وعادة أهل الطبقة العليا والوسطى من أهل المدن فيه

(وهم الذين يرجى منهم المبادرة إلى التربية والتعليم) مانِعان من قبول ما تتوقف

عليه التربية والتعليم في اعتقاده، ولذلك توسع في الكلام على الحجاب بما انتقدناه

عليه في التقريظ، وحاول إزالة الاعتقاد بما أورده من نصوص بعض الأئمة في

جواز النظر إلى الوجه والكفين من المرأة، واجتماعها بالرجال في غير خلوة بين

أجنبي وأجنبية، فقام الناس يحاربونه في هذه المسألة النظرية بسلاح جماهير العلماء

الذين رجحوا وجوب ستر الوجه والكفين إلا في أحوال مستثناة وردت في الشرع

كالإحرام والشهادة والتطبب، وملخص ما يمكن أن يجيب به هؤلاء أن المسألة

خلافية، وأن الأولى أن نرجح ما فيه المصلحة والمنفعة، ولا شك أن المصلحة هي

في ما يمكن معه التربية والتعليم المحتاجة إليهما الأمة في نهوضها من الحضيض

التي هي فيه، فإن سلَّم له المعارضون بأنهما يتوقفان على كشف الوجه ومكالمة

الرجال، فلا مندوحة عن التسليم بترجيح القول بالكشف والمكالمة، أو تقليد القائلين

به أو تخريجه على قاعدة (يرتكب أخف الضررين) إذ لا ريب أن ضرر شقاء

الأمة وتقدم سائر الأمم عليها لا يدانيه ضرر احتمال وقوع الفتنة بكشف الوجه من

بعض الناس، وإذا لم يسلموا له بالتوقف فليكن البحث معه في بيان عدم التوقف، لا

في إيراد نصوص اللغويين والمفسرين التي لا ينكرها، كما لا ينكر من أوردوها

عليه ما جاء هو به من النصوص المعارضة لها، وإنما يتكلمون في الترجيح.

والذي نراه نحن في المسألة أن التربية والتعليم لا يتوقفان على كشف الوجه،

ولكنهما يتوقفان في كمالهما على مكالمة الرجال، ومبادلتهن الأفكار والأقوال، وربما

كان في الأقارب غنية عن الأجانب.

والنظر في المكالمة من ثلاثة وجوه:

(1)

الواقع في الوجود (2) وقعها من نفوس الأمة (3) حكم الشرع.

أما الأول: فمن المشاهد أن نحو تسعين في المائة من المُسلِمات يكالمن الرجال

جهرًا، ويشاركنهم في أعمالهم، وهن نساء الفلاحين والأعراب، وصنوف الفقراء

الذين يشتغلون بالكسب، ويقيمون في المساكن التي لا يتيسر معها الحجاب، فهؤلاء

قد حكمت عليهن بيئتهن (أي الوسط الذي يعشن فيه) بذلك، وكلهن أو جلهن لا

يسترن الوجوه أيضًا، وأما نساء المدن المحتجبات، وقدَّرناهن بالعُشر فمنهن تسع

وتسعون في المائة (تقريبًا) يجُلن في الأسواق، ويشترين من الرجال ما يحتجن

إليه، ويراجعنهم في القول، ويتظلمن لرجال الحكم في المحاكم والدواوين وفي

البيوت، فالمرأة منهن تكلم الرجال في كل مكان ولو منفردًا - لا في مشهد زوجها

ووليها. ولا أطيل في هذا المقام الشرح؛ لأن علم القرَّاء به ربما كان أوسع من

علمي، وواحدة منهن في المائة أو واحدة في الألف من مجموع المسلمات لا تخاطب

من الرجال إلا المحارم والخدم، وبعض الأقربين من غيرهم إذا كانوا معها في دار

واحدة كما هو الشأن في أكثر الأسر (العائلات) التي لها شأن، وأنت ترى

أن هذا الواقع غير مطابق لما يعتقده غالب المسلمين في الحجاب ولكنه وقع

بحكم الزمان والمكان وأحوال المعيشة، فكان السبب في الحجاب، ولكنه وقع بحكم

الزمان والمكان وأحوال المعيشة فكان السبب فيه طبيعيًّا اجتماعيًّا، فرضي به الناس

من غير نكير، وأما موقع مكالمة النساء للرجال من نفوس الأمة، فلا شك أن كل

رجل اعتاد أهله الحجاب تنفعل روحه ويهيج وجدانه إذا هو تصور في نفسه

دخول امرأته أو بنته أو أخته مجلسه مع أصدقائه وزائريه، ومحادثتها له وهو

معهم، أو مشاركتهم في الحديث، وإن كانت منتقبة أو متبرقعة، وربما كان يعلم أو

يأذن لها بنزول السوق، وابتياع اللبوس والحلي وغير ذلك، فهل ذلك الانفعال

والهيج من تصور محادثة أهله للرجال الكملة في مشهده، وسماحه لهن أو تساهله

معهن بشراء أدوات الزينة من الرجال بانفرادهن - متولد من الدين أم من العادة،

وهل الرد على قاسم بك أمين والتنديد بكتابه (تحرير المرأة) من الانتصار للدين،

أم من الانتصار للهوى وحكم الوجدان؟

وأما الأمر الثالث،وهو حكم الشرع في هذه المكالمة، فالمعروف أن الشرع إنما

حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأخبار الصدر الأول مستفيضة بمكالمة النساء

للرجال، وحديثهن معهم في الملأ دون الخلوة، وكفاك أن نساء النبي صلى الله عليه

وسلم وهن اللاتي أمرن بالمبالغة في الحجاب كن يحدثن الرجال، حتى إن السيدة عائشة كانت قائدة عسكر ومدبرة له في وقعة الجمل المعروفة، وما أخال أن مكابرًا

يقول أنها لم تكن تكلم أحدًا منهم إلا ذا محرم.

وبالختام نقول: إن هذه المسألة من المسائل الاجتماعية التي لا يمكن أن تتغير

إلا بتغير أحوال الأمة الاجتماعية، وإننا نرى حركة التغيير تسوق الطبقة العليا وما

يليها من الأمة إلى محاكاة الإفرنج في أساليب معيشتهم وتمدنهم، وإن الحجاب ينهتك

فيها بالتدريج، فيعود إلى تبذل بعيد من الدين ومذاهبه، وقد دبت مبادئ هذا

التفرنج إلى بيوت الشيوخ ورجال الدين، فظهرت بوادره في أزياء نسائهم، ولا

ندري ماذا تكون أواخره؟ هذا سير طبيعي لا بد أن يبلغ مَدُّه غاية حده إلا إذا حولت

مجاريه تحويلاً طبيعيًّا، فكان منبعه الشريعة الإسلامية، وقراره مصلحة الأمة

ومنفعتها، وهذا ما يطلبه كل ذي غيرة على ملته وأمته، وما كتب فيه أحد مثلما

كتب الفاضل قاسم بك أمين، فلنساعده في عمله ولا يصدنا عن ذلك مخالفته لنا في

بعض الجزئيات، واعتقادنا خطأه في بعض المسائل، فالعصمة إنما هي لكتاب الله

تعالى وحده: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) .

(خاتمة)

(كتاب تحرير المرأة)

تبين للقارئ مما سبق أن ما نريد إدخاله من الإصلاح في حالة النساء ينقسم

إلى قسمين: قسم يختص بالعادات وطرق المعاملة والتربية، والقسم الثاني يتعلق

بدعوة أهل النظر في الشريعة الإسلامية والعارفين بأحكامها إلى مراعاة حاجات

الأمة الإسلامية وضروراتها فيما يختص بالنساء، وأن لا يقفوا عند تطبيق الأحكام

عند قول إمام واحد، إنما كان اجتهاده موافقًا لمصلحة عصره، وأن يدققوا البحث فيما

تغير من الأحوال والشؤون، فإن وجدوا في قول إمام ما تتعسر معه المحافظة على

كرامة الشرع، أقاموا مقامه قول إمام آخر يكون في مذهبه ما يسد الحاجة بدون

خروج عن أصول الشريعة العامة، والعمل على تحقيق هذين النوعين من

الإصلاح هو كغيره من سائر الأعمال النافعة، إنما يتم بالعلم والعزيمة:

(1)

أما العلم فهو وسيلة الأمة لمعرفة حاجاتها، وبه تتنبه أذهان أفرادها

إلى ما هم فيه وما درجوا عليه من الأخلاق والعوائد والكمالات والنقائص، بحيث

يكونون على شعور دائم بأحوالهم، وتكون تلك الأمور دائمًا موضوع بحثهم.

إن من الغفلة - بل من أسباب الشقاء - أن تكون شؤوننا في حياتنا قائمة بعوائد

لا نفهم أسبابها، ولا ندرك آثارها في أحوالنا، بل إنما نتمسك بها لأنها جاءت إلينا

ممن سلفنا وورثناها عمن تقدمنا، وذلك كل ما فيها من الحسن عندنا، مع أن هذا

وحده لا يكفي لأن يكون سببًا في الأخذ بها، ولا في الثبات عليها، بل يجب أن

نفهم أن لنا مصالح ولمن سبقنا مصالح، ولنا شؤون، ولهم شؤون ولنا حاجات لم

تكن لهم، وكانت لهم حاجات ليست لنا اليوم، وذلك من البديهي الذي لا يختلف فيه

اثنان.

فعلينا أن نأخذ من العوائد، وأن نكسب من الأخلاق ما يلتئم مع مصالحنا،

فنكون مالكين لمصادر أعمالنا، كما يطلب منا العقل والشرع، لا أن نكون عبيدًا

لعاداتنا التي وجدنا عليها آباءنا، فيكون مثلنا مثل رجل وجد لباسه ضيقًا، فرأى أن

يجوع ليهزل ويضعف وينحل حتى يصغر جسمه فيسعه لباسه، لا أن يصلح لباسه

بتوسعته حتى يتفق مع جسمه.

إنا لا نجد عقبة في طريقنا إلى السعادة أصعب اجتيازًا من شدة تمسكنا بعادات

مِن سلفنا من غير أن نميز بين تلك العادات: صالحها وطالحها، نعم إن الماضي لا

يصح أن يطرح جملة، لكن يجب أن ينظر فيه بالتبصر والروية لمعرفة ما أظهر

من منافع ومضار.

لا أرى أعجب من حالنا، هل نعيش للماضي أو للمستقبل؟ هل نريد أن نتقدم

أو نريد أن نتأخر؟ نرى العالم في تقلب مستمر، وشؤونه في تغير دائم، ونحن

ننظر إلى ما يقع فيه من تبدل الأحوال بعين شاخصة، وفكرة حائرة، ونفس ذاهلة،

لا ندري ماذا نصنع، ثم ننهزم إلى الماضي نلتمس فيه مخلصًا، ونطلب منه عونًا

فنرتد دائمًا خائبين [1] .

رأينا في هذا القرن حادثة عجيبة أظنها وحيدة في التاريخ رأينا أمة بتمامها

خلعت عوائدها وأبطلت رسومها وتخلت عن نظاماتها وقوانينها وطرحتها وراء

ظهرها، فقطعت كل وصلة بينها وبين ماضيها إلا ما كان متعلقًا بجامعة شعبها،

ثم همت فبنت بناءً جديدًا مكان البناء القديم فلم يمض عليها نصف قرن إلا وقد

شيدت هيكلاً جميلاً على آخر طرز أفاده التمدن، فهبت من نومها، ونشطت من

عقالها، وشعرت بأن الحياة تدب في بدنها وتجري في عروقها دمًا حارًا قويًّا فتيًّا،

تلك هي الأمة اليابانية صارت تعد اليوم في صف الأمم المتمدنة بعد أن قهرت في

بضعة أيام دولة الصين الجسيمة التي لم يقتلها إلا إعجابها بماضيها، أليس في ذلك

عبرة لكل متبصر؟ !

لو كانت عوائدنا فيما يتعلق بالنساء لها أساس في شريعتنا لكان في ميلنا إلى

المحافظة عليها ما يشفع لنا، أما وقد برهنَّا على أن كل ما عرضناه من أوجه

الإصلاح يتفق تمام الاتفاق مع أحكام الشريعة ومقاصدها، فلم يبق لنا عذر في

التمسك بها سوى أنها قد تقدست بمرور الزمان الطويل، وأننا غفلنا عن مصالحنا

وتدبير شؤوننا.

إذا توهم بعض القراء أن ما ورد في كتب الفقهاء من استحسان عدم كشف

وجه المرأة وعدم مخالطتها بالرجال دفعًا للفتنة - هو من الأحكام الدينية التي لا

يجوز تغييرها، فنقول: إن هذا الاعتراض مردود بأن الأحكام الشرعية في الغالب

مطلقة وجارية على ما تقتضيه العادات الحسنة ومكارم الأخلاق، ووكلت فهم

الجزئيات إلى أنظار المكلفين، ووضعتها تحت تصرف اجتهادهم، وعلى هذا جرى

العمل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وأتباعه.

ولما اتسعت خطة الإسلام وكثر اختلاط المسلمين بغيرهم من الأمم، وعرضت

عليهم حاجات وضرورات اقتضت أحكامًا ومشروعات جديدة، قام المجتهدون بينهم

واستنبطوا لهم من أصول الشريعة العامة ما يناسب الوقائع الخاصة، ففصَّلوا ما

أجمله القرآن والسنة من الأحكام، وفرَّعوا منها ما يناسب الأحوال والأمصار

والأعصار، فهم لم يضعوا بذلك شرعًا، ولم يضيفوا على الدين شيئًا، وإنما كان

اجتهادهم قاصرًا على النظر في الجزئيات وردها إلى كلياتها المقررة في الكتاب

والسنة.

ألا ترى أن القرآن لم يبين أهم الفروض مثل أحكام الصلاة ومواقيتها وركوعها

وسجودها، ولا مقادير الزكاة وأوقاتها، ولا مناسك الحج، وأن السُّنَّة هي التي

رسمت جميع تلك الأحكام مجملة، ثم جاء المجتهدون ففصَّلوا أحكامها، وقرروا

فروعها؟ على هذا النمط تألفت شريعتنا من فروع كلها راجعة إلى أصل واحد،

فالشريعة الإسلامية إنما هي كليات وحدود عامة، ولو كانت تعرضت إلى تقرير

جزئيات الأحكام لما حق لها أن تكون شرعًا عامًّا يمكن أن يجد فيه كل زمان وكل

أمة ما يوافق مصالحهما [2] .

فهذه القواعد الكلية التي تحدد أعمالنا بحدود يجب الانتهاء إليها على حسب ما

ورد في الكتاب والسنة الصحيحة - هي التي لا تقبل التغيير والتبديل، أما الأحكام

المبنية على ما يجري من العوائد والمعاملات فهي قابلة للتغيرعلى حسب الأحوال

والأزمان، وكل ما تطلبه الشريعة فيها هي أن لا يُخِل هذا التغير بأصل من أصولها

العامة، فكشف الرأس مثلاً قبيح في البلاد الشرقية؛ لأنه كان معتبرًا في العادة

مخلاًّ بالمروءة، ولهذا السبب اعتبر عند أهل الشرق قادحًا في العدالة ، ولكنه غير

قبيح في البلاد الغربية، فلا يكون عندهم قادحًا، فالحكم الشرعي يجب أن يختلف

باختلاف ذلك، وجواز إثبات التصرفات الشرعية بالشهادة لم يكن الغرض منه معنى

مخصوصًا في أشخاص الشهود، وإنما الغرض منه إثبات هذه التصرفات بالطريقة

التي وقع الاصطلاح عليه، ولم يكن غيرها مألوفًا، فإذا تغيرت الأحوال وتبدل

الاصطلاح واعتاد الناس على التعامل فيما بينهم بالكتابة، تغير كذلك الحكم الشرعي،

وتحولت طريقة الإثبات من الشهادة إلى الكتابة [3] وإذا قيل باستحباب ستر المرأة

وجهها عن الرجال لخوف الفتنة وعدم اقتضاء الحال لكشفه في زمان كان هناك محل

لخوف الفتنة ولا تقضي ضرورات الحياة على المرأة بكشف وجهها - فلا مانع من

أن يتغير هذا الاستحسان إلى ضده في زمان آخر [4] ذلك لأن اختلاف الأحكام

باختلاف العوائد والمصالح ليس في الحقيقة اختلافًا في الشريعة، وإنما هو رد

لأحكام الجزئيات إلى أصولها الكلية، ورجوع بها إلى مقاصدها الشرعية.

تبين من ذلك أن لنا في مأكلنا وملبسنا ومشربنا وجميع شؤون حياتنا العمومية

والخصوصية، الحق في أن نتخير ما يليق بنا ويتفق مع مصالحنا بشرط أن لا

نخرج عن تلك الحدود العامة التي أشرنا إليها.

(2)

وأما العزيمة: فهي حث الإرادة إلى كل خير أرشدنا إليه العلم

والعرفان، والفرار بها من كل شر دلَّنا عليه البحث والتنقيب، العزيمة هي أشرف

قوى الإنسان وأجلُّها، وأعظمها أثرًا في أعماله، فالتعليم والتهذيب وسعة العقل

والأميال الحسنة والغرائز الطيبة، كل ذلك لا يفيد فائدة تذكر عند شخص مجرد عن

العزيمة ولهذا كان ضعف الإرادة أكبر عيب في الإنسان، نرى الكثير من أهل بلادنا

يستحسنون فكرة أو عملاً، ولكنهم لا يجدون من أنفسهم همة كافية لخدمة تلك

الفكرة أو ذلك العمل، ويكفي أنهم يعلمون أن بعض الناس لا يتفق معهم في رأيهم

لتلاشي إرادتهم وسقوطها، أما إذا علموا أنهم ربما يمسهم ضرر ما من ناحية ذلك

العمل رأيتهم يفرون منه فرارًا.

إن كان لنا أمل في نجاح ما نعده صالحًا لنا، فإنما يكون في الرجل الذي يجب

أن يعرف، ويبحث ليعرف، ويعرف بالفعل ما تحتاج إليه بلاده، وله عزيمة

تدفعه إلى العمل في جَلْب ما ينفعها، ودفع ما يضرها بالوسائل التي تؤدي إلى

المطلوب بطبيعتها طال الزمان أو قصر.

فعلى مثل هذا الرجل الكامل نعرض طريقة للعمل فيما نحن بصدده بعد العلم

بأن الخطوة الأولى في كل شيء هي من أصعب الأمور؛ لأن الانتقاد جميعه ينصب

على من يبتدئ في أمر خطير، ومن النادر أن يوجد شخص يحس من نفسه قوة

كافية لمقاومة تيار الانتقاد العام، فأحسن طريقة أراها لتنفيذ ما عرضناه في هذا

الكتاب هي أن تؤسس جمعية يدخل فيها من الآباء من يريد تربية بناته على الطريقة

التي شرحناها، وأن يُختار لتلك الجمعية رئيس من كبار المصريين (ولا أظن أن

الطبقات العليا من أهل بلادنا تخلو من واحد منهم) وأن يكون عمل هذه الجمعية

في أمرين، الأول: التعاون على تربية البنات على هذه القاعدة الجديدة، والثاني:

السعي لدى الحكومة في إصدار القوانين التي تضمن للمرأة حقوقها بشرط أن لا

تخرج في شيء من ذلك عن الحدود الشرعية، ولكن بدون أن تتقيد بمذهب من

المذاهب، بل تأخذ من كل منها ما هو موافق لحاجتنا الحاضرة وضرورات

عصرنا، كما حصل مثل ذلك في وضع المجلة العثمانية، وكما حصل عندنا مرارًا

في بعض المسائل المتعلقة بالمحاكم الشرعية، فإذا تشكلت هذه الجمعية يخف اللوم

عن كل واحد من أعضائها، فإن قوة الانتقاد تأتي متوزعة على جملة من الأفراد

فيسهل احتمالها ومقاومتها، فلا يكون من شدة الانتقاد ما يبعث على فتور الهمة

وضعف الإرادة عن العمل؛ لأن في قوة الجماعة من الاقتدار على المدافعة ما ليس

في قوة الفرد الواحد، والاجتماع هو القوة الحقيقية التي بدونها لا ينجح شيء، نرى

حكومتنا تهتم بمسألة صغيرة كمسألة الشفعة، فتعين لها لجنة شرعية لتبحث في

المذاهب، وتجمع ما تراه منها مناسبًا من الأحكام، ونرى كثيرًا من المصريين

يدخلون في كثير من الجمعيات مثل جمعية (الرفق بالحيوان) و (معارض الأزهار)

وغيرها، ولا يضنون بقوتهم ولا بمالهم في تعضيد مشروع من هذه المشروعات

يعتقدون صلاحيته، ونرى الجرائد تنشر بين طبقات الأمة من المعارف ما يساعد

على تربيتها وتهذيبها، وقد آن الوقت الذي يجب فيه على الحكومة وعقلاء الأمة

وأرباب الأقلام أن يوجهوا التِفَاتهم إلى حال المرأة المصرية، فإني لا أرى مسألة

تمس بحياة الأمة أكثر منها، ولا أحق منها بأن تكون موضوعًا لنظرهم، ومجالاً

لآرائهم وأفكارهم.

_________

(1)

المنار - إن الماضي الذي ننهزم إليه إنما هو ماضينا القريب من يوم بدأ فينا الضعف في كل شيء إلى اليوم ولو تجاوزنا في رجوعنا القهقري بضعة قرون وأخذنا بما كان عليه أسلافنا من الجد في العلم والعمل والأخلاق الكريمة وأخذ الحكمة من حيث وجدت وجلب المنافع أينما ألفيت وتحكيم الأوقات بالعادات لا العادات بالأوقات لنجحنا نجاحًا باهرًا وسبقنا سبقًا ظاهرًا، ولكننا مع تفضيلنا للأولين قد تركنا كل ما كانوا عليه حتى إننا لا نقرأ كتابًا من كتبهم، ولا يوجد أمة تتقدم بالرجوع إلى الوراء إلا نحن ولا ينكر المنصف هذا.

(2)

المنار - ليس كل ما ورد في الكتاب والسنة قواعد عامة بل منها أحكام جزئية، ولكن الجزئي الذي ليس له علة معروفة ترجع إلى أصل عام لا يقاس عليه ولا يرجع إليه في استنباط الاحكام التي تعرض لها أسباب مختلفة باختلاف الزمان والمكان، بل يرجع بهذه إلى القواعد العامة التي منها نفي الحرج وتحكيم العرف ودرء المفاسد وجلب المنافع.

(3)

كان ينبغي أن يقول ويضم إلى الإثبات بالشهادة الإثبات بالكتابة المأمونة من التزوير، لأن كلامه يُفهِم عدم اعتبار الشهادة من أنها من الأحكام الكلية المنصوص عليها ولا يمكن الاستغناء عنها بالكلية.

(4)

العلماء متفقون على وجوب الستر لا استحبابه عند خوف الفتنة، ولا يمكن أن يتغير هذا الحكم إلا إذا زال سببه وأمنت الفتنة، أما الضرورات فإنها تقدر بقدرها وتجري على قاعدة (يرتكب أخف الضررين) وهي من القواعد الشرعية العقلية التي لا تختلف باختلاف الزمان والمكان.

ص: 369

الكاتب: عبد الرحمن قراعة

‌تهنئة الأستاذ المفتي

قد وقفنا على قصائد كثيرة في تهنئة فضيلة الأستاذ محمد عبده مفتي الديار

المصرية بمنصب الإفتاء، وأرسل إلينا أصحابها كثيرًا منها ابتغاء نشرها، فكنا

نغضي عنها لضيق نطاق الجريدة عن نشر المدائح الشخصية إلا ماله مزية

خصوصية، ومن هذا النوع قصيدة غرّاء للعالم الفاضل عبد الرحمن قراعة مفتي

جرجا في تهنئة الأستاذ المفتي وهي:

بهديك في الفتوى إلى الحق نهتدي

ومن فيض هذا الفضل نجدي ونجتدي

سَمَتْ بك للعلياء نفس أبية

وعزمة ماض كالحسام المجرد

ورأى رشيد في الخطوب وحنكة

وتجربة في مشهد بعد مشهد

وعلم كَنُورِ الشمس لم يك خافيًا

على أحد إلا على عين أرمد

فضائل شتى في الأفاضل فُرِّقت

ولكنها حلت بساحة مفرد

ولو جاز تعدادي لها لعددتها

ولكنها جازت مقام التعدد

ففيم أطيل القول والشعر قاصر

وماذا يفي قولي ويغني تزيدي

أمولاي يا مولاي دعوة مخلص

تقول فيصغي أو تؤم فيقتدي

لكل زمان مِن بنيه مجدد

لِما أبلت الأهواء من دين أحمد

وقد علم الأقوام أن (محمدًا)

مجدد هذا الدين في اليوم والغد

يمينًا من الفضل خصص (عبده

محمدًا) الداعي لهدي محمد

وقلده عقد الفتاوى فأصبحت

تتيه به الفتيا بخير مقلد

لنخترقن الجب بالرشد لا الهوى

وتبني منار الحق بالفكر واليد

فتوضح من إشكاله كل غامض

وتفتح من أبوابه كل موصد

إليك أزف المدح شعرًا مقصَّدًا

على بعد عهدي بالقريض المقصد

لأبلِّغ نفسي بامتداحك سؤلها

وأقضي حقًّا لم يمكن بمجدَّد

فجاء على قدري ولكن شافعي

لدى قدرك السامي نبالة مقصدي

وهنأت نفسي ثم هنأت معشر

وهنأت أوطاني بما نال سيدي

وقلت لمصر: هنئيه، وأرى

بهديك في الفتوى إلى الحق نهتدي

لقد سبق التاريخ عشرًا فلم أجد

من الياء بُدًّا بعد طول تردد

فزدت كما أبغي ومن يلف مخلصًا

من النقص بطلب للكمال ويزدد

فلا زلت يا مولاي فينا محسّدًا

وحاسدك المغبون غير محسد

_________

ص: 380

الكاتب: محمد رشيد رضا

الاحتفال بعيد

الجلوس الهمايوني

كان المصريون يستعدون للاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني من أول شهر

أغسطس، وقد أظلَّنا العشر الأخير منه في هذا العام، ولم نحس منهم عملاً، ولم

نسمع لهم ركزًا إلا ما يُتهامس به في هذه الأيام، ويرجى أن يأتي بالغرض بهمة

المتفاوضين الكرام، وإن كان الزمن قصيرًا، هذا ما نعلم من أمر الاحتفال العمومي

الذي كانت زينته تقام في حديقة الأزبكية بإدارة جمهور من وجوه المصريين، وأما

الاحتفالات الخصوصية التي كانت تقام في مواضع كثيرة، فلم نسمع لها حسًّا، ولم

نر لها حتى الآن أثرًا إلا ما كان من جمعية (شمس الإسلام) التي أنشئت في مصر

حديثًا لأجل الحض على التمسك بالكتاب والسنة، والاعتصام بهدي الدين الذي فسق

عن هديه الجماهير، فإن إخلاص هذه الجمعية لمقام الخلافة الإسلامية حملها على

الاستعداد لزينة باهرة واحتفال بليلة الجلوس الهمايوني تدعو إليه الوجوه من العلماء

الأعلام والموظفين الكرام وسائر الوجوه، وسيكون الاحتفال في سراي حسن بك

ساطع التي استأجرتها الجمعية حديثًا لها وللمدرسة التحضيرية التابعة لها والمطبعة

المنسوبة إليها، وهي على يمين الداخل من أول درب الجماميز من جهة السيدة

زينب رضي الله عنها، أما الحكمة في قيام الرعية بمثل هذا الاحتفال لراعيها؛ فهو

أمران، الأول: التقرب من أمير المؤمنين وخليفة المسلمين وابتغاء مرضاته

والثاني: إيقاظ الشعور العام بمعنى التابعية، وتقوية روح الوطنية الحقيقية،

وتوثيق رابطة الجامعة العثمانية، فإذا كان يوجد في الآستانة عدو للمصريين، بل

ولسلطانهم -أمير المؤمنين- يحول دون إبلاغه تهنئتهم في بعض الأحوال،

ويسعى بالإساءة إليهم عقيب كل احتفال بحيث يفوتهم الرضوان من مولانا السلطان،

فينبغي أن يواظبوا على عادتهم الماضية لأجل الحكمة الثانية، وعسى أن تزول تلك

الآلة المحللة، وتعاذ الأمة من هاتيك الوسوسة المضللة، فتتم لهم الحكمتان، والله

المستعان.

_________

ص: 381

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقريظ

(إرشاد شوارد أرباب النفوس إلى رحمة مولانا القدوس)

ديوان (خطب جمعية) ألَّفه وطبعه من عهد غير بعيد الأستاذ الشيخ محمد

الجنبيهي وقد تصفحنا بعض خطبه، فألفيناه يمتاز على الدواوين التي في الأيدي

بالزجر والتنفير عن المعاصي الدائمة المنتشرة في هذا العصر، كأنواع الفحش

والمنكرات، ويماثلها في كل ما ننتقدها به من إيراد الأحاديث التي لا تصح رواية ولا

معنى، والمبالغة في التزهيد، والكلام في فضائل المواسم والشهور، وغير ذلك مما

نبهنا عليه مرارًا، وينتقد عليه شيء آخر لم نره في سائر الدواوين وهو إيراد ألفاظ

لا ترضاها النزاهة، ولا يليق أن تلقى على ذرى المنابر، فإذا حذفت هذه الألفاظ،

وعني بتخريج أحاديث الديوان، ونقحت خطب المواسم كان من أحسن الدواوين

المتداولة إن لم نقل أحسنها، طبع في المطبعة الأميرية مشكولاً، وطبع على هيئة

كتاب (متابعة الأسرار) وهو يتضمن أورادًا وحكمًا مأثورة عن الصوفية وأشعارًا

إلهية ونبوية، ولنا في هذه الأوراد كلام نرجئه لفرصة أخرى.

_________

ص: 381

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(تابع مالية الدولة)

...

...

سنة

...

سنة

...

...

... 1893-1894

1892-1893

مبالغ الاستهلاك العادي

...

...

... جنيه مجيدي

المخصص لشراء الدخل المدلول

... 205047

292895

عليه بحرف (أ) وفيه ربح السندات المستهلكة

المخصص لشراء الدخل المدلول

... 99206

... 74329

عليه بحرف (ب) وفيه ربح السهام المستهلكة

...

...

...

ــ

الناتج من تحويل السهام الممتازة والمستعمل

11338

11554

عادة في الاستهلاك

مبالغ مشتملة على ربح السندات المستهلكة

55751

54027

ومستعملة في الاستهلاك

الديون المضمونة بالإيرادات المدلول عليها

58274

55538

بحروف (أ) ، (ب) ، (ت) ، (ث)

... 45448

43139

ــ

مجموعها

... 565464

... 531482

يضاف إليها

هذا المبلغ لأجل استعماله في المستقبل

21366

... 21555

ــ

المجموع

... 586830

... 553037

...

...

...

...

========== ========

...

...

...

متوسط الثمن

متوسط الثمن

رأس المال الاسمي المستهلك في

خلال السنة

في المائة

جنيه إنكليزي

في المائة

جنيه إنكليزي

القسم (أ)

30. 57

4899000

53. 64

516000

القسم (ب)34. 87

404000

30. 70

380000

القسم (ت)23. 75

232080

21. 58

234000

القسم (ث)22. 31

285300

21. 08

186000

ــ ــ

ــ

ــ

39. 50

1301280 36. 71

2316000

***

...

مبالغ مخصصة للاستهلاك

...

جنيه مجيدي

...

رأس مال اسمي أصلي

رأس مال اسمي مستهلك

الجملة الأولى قسم حرف (أ)

... 1119682

... 5170110

الجملة الثانية قسم حرف (ب)

10044825

1234500

الجملة الثالثة قسم حرف (ت)

30549251

... 842881

الجملة الرابعة

قسم حرف (ث)

... 34651965

... 757500

السندات التركية التي ربحها 58 في المائة

...

... 281000

السندات التركية التي ربحها 20 في المائة 14211407

... 110741

السندات التركية التي ربحها المشتراة

...

...

332548

...

...

... ــ المجموع

...

... 105577330

8828479

يتبع هذا حساب تفصيلي للإيرادات والمصروفات وهو

سنة 1893-1894 سنة 1892-1893

...

جنيه مجيدي

إيراد المشروبات الروحية والملح

1104605

... 1091037

وطوابع البوستة والأسماك والحرير

ومتأخرات التبغ

...

أعشار التبغ

... 95359

100865

عوائد التبغ

... 750000

... 750000

جزء من ربح الرسوم

37084

... 22745

خراج الروملي الشرقي

152026

152026

سفاتج على مصلحة الجمارك من

102596

... 102596

أصل خراج جزيرة قبرص

وخراج التنباك

...

... 50000

... 50000

...

...

ــ

... ــ

...

... 2291630

... 2268269

...

...

سنة 1893-1894

سنة 1892-1893

...

جنيه مجيدي

مصروفات

مصروفات الإدارة المركزية

... 83514

... 67483

لمصلحة الدين

...

الخسارة الناتجة من تبديل الفضة

... 1009

...

742

نفقات وأجر عمل (عمولة)

... 16188

17735

...

...

... ــ

ــ

المجموع

... 100711

... 85960

فائدة الحطيطة في بيع الكمبيالات

7861

... 2878

ستنزل من ذلك الربح على المبالغ

6307

5114

المودعة وهو

_________

_________

المجموع

...

2189405

... 2184545

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 382

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تحريف الكلم عن مواضعه

(رد على مسلم حر الأفكار)

يعلم القراء ما كان من خوض الجرائد في مسألة (الجامعة الإسلامية) وأن

بعض كتاب النصارى ارتأوا أن تَرقِّي المسلمين يتوقف على الفصل بين الدين

والدولة، والخلافة والسلطنة، كما هو مقتضى أصول دينهم، وخالفهم كتاب

المسلمين في هذا؛ لأنه مخالف لأصول الديانة الإسلامية وفروعها، ولكن نشر في

(المقطم) مقالتان طويلتان بإمضاء: (مسلم حر الأفكار) وافق فيهما صاحبهما

كتاب النصارى وجعل قاعدته فيها أن تكون وظيفة الدولة والحكومة (تأمين الناس

على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وسن القوانين العادلة لهم) وهذا انحراف عن

صراط الإسلام وتحول عنه، لا يقول به إلا مَن لا يعرف ما هو الإسلام، أو مَن

يرى أن نجاح المسلمين وترقيهم إنما يكونان بتركهم أصل دينهم والأخذ بأصل

النصرانية في هذه المسألة، وقد أسهب (المنار) في الرد على هذا الكاتب وبين

حكم الدين الإسلامي في المسألة، والفرق بينه وبين الدين المسيحي، وأثبت أن كل

بلاء حلَّ بالإسلام والمسلمين فمرجعه إلى ما طرأ على الخلافة والخلفاء، ففصل بين

السلطة الدينية والسياسية، وأنه لا يعود للإسلام كمال مجده إلا برجوع هذا الأمر

إلى نصابه، وإناطته بمن يقوم به حق القيام، فإذا سلَّمنا لحضرة الكاتب (أن الغاية

التي تسعى إليها الدولة في زماننا هذا دنيوية محضة) وهي ما مر عنه آنفًا من

التأمين وسن القوانين، فيجب علينا أن نطالبها بحفظ الدين والعمل بالشرع دون ما

يخالفه من القوانين لا أن نشايعها على تعدي حدوده وإبطال شعائره تقليدًا لديانة

أخرى تعتبر أن الدولة والدين أمران متبائنان يفترقان ولا يجتمعان، ويجب علينا

أيضًا أن نقف مع ذلك عند هذه الحدود العادلة، ونقوم بتلك الشعائر الشريفة ونربي

عليها أبناءنا وبناتنا إلى أن يكون للأمة رأي عام تقدر به على إلزام دولتها بالتزام

دينها وشريعتها.

ووجهة (المنار) في الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي الأمة الإسلامية دون

حكوماتها؛ لأن بعض تلك الحكومات أجنبية لا كلام لنا معها، والأمراء

والسلاطين من المسلمين قلَّما يلتفتون لإرشاد جريدة، أو يجيبون مطلب رجل إنما

شأنه في لسانه وقلمه، فإذا خافوا تأثير كلامه في بلادهم منعوه دونها.

وبعد انتشار (المنار) - المشتمل على الرد - بأسبوع رأينا في (المقطم)

مقالة بإمضاء ذلك الكاتب (مسلم حر الأفكار) يرد فيها على (المنار) لكنه حرَّف

الكلم عن مواضعه، ونسب إلينا ما ليس لنا، فزعم أننا حملنا عليه حملة منكرة؛

لأنه نصح لأبناء ملته في (المقطم) أن يجعلوا اتكالهم على أنفسهم في تدبير

مصالحهم، ولا يلقوا كل اعتمادهم على الحكومة، وأن يراعوا دوران الزمان وتغير

الأحوال طبقًا لمقتضى العمران

إلخ، وأننا أنكرنا الخلافة العثمانية، والصواب أن

الحملة المنكرة إنما كانت لأجل المسألة المتقدمة التي زعم أن (المنار) موافق له

فيها، و (المنار) أول جريدة أنشئت في العربية تحث الأمة على الاعتماد بعد الله

على نفسها إلى آخر ما تقدم آنفًا، ولنا في هذا مقالات ونبذ كثيرة في المجلد الأول

وفي المجلد الثاني، وما وافقناه ولن نوافقه على جعل الفصل بين الدين والدولة،

وإقرار الدولة على ترك الشريعة السماوية وقيامها بتشريع جديد - من اعتماد الأمة

على نفسها المطلوب منها ولا على جعله إياه من الأمور التي يجب أن تراعي به

الأمة أحكام الزمان وتغيير الأحوال، فإننا نعتقد أن شريعتنا صالحة لكل زمان،

ويمكن اتباعها في كل حال بشرط أن لا تتقيد بقول مجتهد واحد من علمائها.

أما احتجاجه علينا بما شرحناه من سبب ضعف الخلافة واستبداد العمال

بسياسة الدنيا، وإهمال حراسة الدين، وقولنا في إثر ذلك: (فتمزق بهذا نسيج

الوحدة، وتفرق شمل (الجامعة الإسلامية) إلى قولنا: (وكان هذا أمرًا اقتضته

طبيعة العمران) فهو حجة عليه لا له، وظاهر في خلافه لا في وفاقه، وبيانه من

وجهين؛ أحدهما: إننا صرَّحنا بأن خروج السلطة الدنيوية من أيدي الخلفاء واستبداد

السلاطين فيها هو الذي مزق (الجامعة الإسلامية) كل ممزق، فكيف نعود فنقول

اليوم بأن ما كان سبب النقض والانفصام، يكون اليوم سبب الفتل والإبرام؟ وثانيها:

إن ما تقتضيه طبيعة العمران لا يكون ضربة لازب إلا إذا وجدت أسبابه ودامت

علله، ويدلنا علم الاجتماع على أن للقوة والترقي نواميس، وللضعف والتدلي

نواميس أخرى، وأن لكل أمة من الأمم شؤونًا مخصوصة في تقدمها وتأخرها،

وصعودها وهبوطها وأفادنا التاريخ - وهو مورد علم الاجتماع ومصدره - أن

الأمة الإسلامية ما بلغت ذلك السؤدد الرفيع وما أشرفت على العالم بالأمر والنهي

من شواهق العزة والسلطان، وما أشرقت على كرة الأرض بالعدل والإحسان من

سماء العلم والعرفان إلا بدينها من حيث أنه جمع بين السلطتين في رئيس واحد مقيد

بالشريعة العادلة التي يدين لها هوومرءوسوه سرًّا وجهرًا، ويرون اتباعها إيمانًا،

والإعراض عنها كفرًا، وأن ذلك السؤدد ما تداعى سوره، وزلزل عرشه

وسريره إلا بما ذكرنا من إهمال وظيفة الخلافة التي ضمت السيادة من قطريها،

وجمعت للسعادة بين طرفيها، وكل واحد من الأمرين اقتضته طبيعة العمران، ولم

تخرج فيه الأمة عن نواميس الأكوان، فكيف نظر (ناصحنا حر الأفكار) بإحدى

العينين، واختار لأمته أمرَّ الأمرين؟ هذا ملخص ما قلناه في المسألة من حيث هي

اجتماعية إسلامية، وجوابنا عن شبهته فيه، وهو صريح في أننا نحن وإياه على

خلاف لا على وفاق.

وما كان لنا أن نتكلم في مسألة اجتماعية من الوجه النظري من غير أن نبين

وجهتها من حيث الوجود والواقع؛ لئلا نغش الناس بإيهامهم أننا نطلب منهم ما ليس

في أيديهم، كإمكان توحيد السلطة الإسلامية في هذا العصر بالنسبة لما نحن فيه من

البحث، ولذلك بيَّنا في آخر تلك المقالة، مقالة (الدين والدولة والخلافة والسلطة)

أن السعي في إعادة مجد الإسلام متوقف على اتفاق المسلمين على إمام واحد يعتقدون

الخضوع له سرًّا وجهرًا، ليس من العبث (كما يدعي حر الأفكار) فإنهم إذا لم

يكونوا متفقين على خليفة واحد فهم متفقون على القرآن، وهو الإمام الأعظم

والمصلح الأول الداعي إلى كل هدى، والناهي عن جميع أسباب الردى، وقلنا:

إنه يجب على من يهمه ترقية شؤون المسلمين أن يدعوهم بالقرآن إلى العلم والعمل

والقيام بمصالح المعاش والمعاد مع مراعاة سنن الكون في السير، فحرَّف (حر

الأفكار) الكلم عن مواضعه، وزعم أنني أنكرت (أن للمسلمين اليوم خليفة حقيقيًّا)

و (أن سلاطين الدولة خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم والحق أنني إنما

أنكرت وجود إمام غير القرآن يخضع له جميع المسلمين سرًّا وجهرًا، وهذا لا

ينافي وجود خليفة حقيقي يخضع له البعض أو الأكثر دون الجميع، ومعلوم لكل أحد

أن مسلمي مراكش وإيران لا يخضعون لخلافة آل عثمان، فإذا كان الإخبار بهذا

يدل على الاعتقاد ببطلان خلافة سلاطين آل عثمان، فالإخبار بأن بعض الناس

ينكر وجود الله تبارك وتعالى يدل على اعتقاد المخبر عنهم بأنه ملحد مثلهم، والحق

أن حاكي الكفر ليس بكافر، وأنني ما تعرضت في مقالتي تلك للخلافة العثمانية بنفي

ولا إثبات، لا تصريحًا ولا تلويحًا وأن (حر الأفكار) حرَّف الكلم، ورماني بهذه

التهمة عن سوء قصد، لا عن سوء فهم فيما يظهر، والله أعلم بالسرائر.

فتبين للبيب مما بسطناه أن صاحب (المنار) ما وافق ولن يوافق ذلك الملقّب

بـ (مسلم حر الأفكار) وأغرب من زعمه الموافقة وأعجب أن كتابته تشيد عليه

إحدى الغميزتين: عدم فهم الإسلام، أو اعتقاد أن تركه سعادة للأنام، وهو مع ذلك

ينفي التهمة عن نفسه بالاعتزاز بالأوربيين، والتبجح بالانتماء إليهم، والأخذ

بتعاليمهم، وإنكار إطلاق لفظ الكفار عليهم، أو الحمل على هذا، حيث قال بعد ما زعم أنني موافق له على ما اتهمته فيه بالغدر والمروق ما نصه: وأغرب من ذلك

وأعجب أن صاحب (المنار) يعيرني بقوله عني (يصف نفسه بأنه مسلم حر

الأفكار، وما جاءت حريته إلا من رق الكفار، فمن هم الكفار الذين يعنيهم؟

الأوروبيون الذين يعيبني على الدرس في مدارسهم أم الإنكليز المحتلون لهذه

الديار) اهـ.

وأقول في الجواب: (أولاً) إنني ما عبته على الدرس في مدارس

الأوربيين؛ بل لا أعرف أين دَرَس، ولا أعرف شخصه الكريم أيضًا. (ثانيًا) إن

احتلال المحتلين لهذه البلاد أمر سياسي عسكري لا علاقة له بالكفر والإيمان، ولا نعلم

عن الإنكليز أنهم أكرهوا أحدًا على ترك دينه، اللهم إلا أن يُظهر مارق كفره

الذي أشربه من قبل، اعتزازًا بهم، واعتمادًا على منعهم قومه من إيذائه أو امتهانه.

(ثالثًا) إن الدين الذي ينتسب إليه ويتكلم في ترقي أهله يسمي كل من لم يكن مسلمًا

بالكافر، وهذا الاستعمال مستفيض في الكتاب والسنة وكتب الأئمة، وهو اصطلاح

شرعي لم يقصد به الذم والإهانة، كما بيّنتُ ذلك في العدد الأول من (المنار) معززًا

بالشواهد من كتب الدين واللغة. (رابعًا) إنني أنا قد ذكرت في ذلك العدد أيضًا أن

لفظ الكفر صار من أقبح ألفاظ السب والشتم؛ لأنه يطلق في اصطلاح كُتَّاب العصر

على من لا دين له، أو على من ينكر وجود الباري تعالى، وأنه ينبغي لذلك أن

يخصص في الكتابات العصرية بهذا المعنى، وذكرت هناك صورة فتوى شرعية

بعدم جواز مخاطبة الذمي بـ (يا كافر) إذا كان يستاء من ذلك، ولكن الاصطلاحات

الشرعية لا تتغير، ومثل هذه المسألة إنما خصصت بالحكم الشرعي المقرر

بالإجماع، وهو عدم جواز إهانة الذمي ونحوه، كالمعاهد والمستأمن (خامسًا) إن

الذي أملى على الفكر كلمة (رق الكفار) هو النكتة البديعية، فإن في العبارة

الطباق بين الرق والحرية، والجناس المطلق بين الأفكار والكفار، وأعني بالكفار

الذين يتعلمون العلوم الحديثة وهم ليسوا على شيء من الدين غير ما يتلقونه بالتقليد

الناقص وما يرونه بالمشاهدة ممن يعيشون معهم فيخرجون على غير دين بالكلية، لا

سيما إذا كانوا مسلمين وتعلموا في مدارس أجنبية، وذلك أن التلميذ المسلم لا

يتعلم في المدارس الأجنبية الديانة النصرانية فيكون نصرانيًّا، ولا يعرف الإسلام

فيكون مسلمًا وهؤلاء هم أضر على المسلمين من جميع العالمين، ويصدق

على المارقين منهم لفظ الكفر بمعنييه الشرعي والاصطلاحي.

هذا وإنني أختم كلامي بالنصيحة لحضرة الكاتب، كما ختم كلامه بالنصيحة

لي، وأحب كما يحب أن أعيش معه ومع جميع الناس بحب وسلام، فأقول: إذا

كنت تحب أن تتكلم في الشؤون الإسلامية، فيجب عليك أولاً أن تقف على علوم

الشريعة من عقائدها، وأصولها وفروعها، وتفسيرها وحديثها، وفقهها وآدابها؛

لتكون على بصيرة من أمرك وأمر ما تدعوإليه، كما هو شأن المسلم، بمقتضى قوله

تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف:

108) وإلا فالزم شأنك مكتفيًا بعلومك الأوروبية، والسلام على من اتبع الهدى.

_________

ص: 385

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحديث الموضوع

نشرت مجلة (الموسوعات) الغرَّاء مقالة تحت هذا العنوان لأحد الفضلاء

رأينا أن ننشرها في (المنار) إفادة للقراء وهي:

الحديث الموضوع هو: المختلق المصنوع المنسوب إلى رسول الله صلى الله

عليه وسلم زورًا وبهتانًا، وهو أشد خطرًا على الدين، وأنكى ضررًا بالمسلمين من

تعصب أهل المشرقين والمغربين؛ لأنه يصرف الملة الحنيفية عن صراطها

المستقيم، ويقذف بها في غياهب الضلالات حتى ينكر الرجل أخاه، والولد أباه،

وتطيرالأمة شعاعًا، وتتفرق بِدَادًا بَدَادًا لالتباس الفضيلة وأفول شمس الهداية،

وانشعاب الأهواء، وتباين الآراء، وأن تفرق المسلمين إلى شيعة ورافضية وبابية

ونصيرية وزيدية وخوارج ووهابية وسنوسية ودرزية ونيشرية إلخ - لهو أثر

قبيح من آثار الوضع في الدين، ولقد قام الحُفَّاظ الثقات، وكادوا يزهقون هذا الروح

الخبيث بضبطهم الحديث حفظًا وكتابة وتلقينًا، ومازوا الخبيث من الطيب، وقشعوا

سحب اللبس فتلألأ نور اليقين أحقابًا طويلة حتى ابتلي الإسلام بموت الحفاظ الذين

آخرهم جلال الدين السيوطي رحمه الله، فأطفئ المصباح من مشكاة مصر وأغلب

الشعوب الإسلامية، وعدا الباطل على الحق عدوانًا شديدًا، ولولا كتاب الله فينا

وبقية من أهل العلم صالحة، لقلت: إن الباطل خذل الحق خذلانًا لا يقوم بعده أبدًا.

ورب سائل يقول: أنى ساغ للمسلمين أن يضعوا في دينهم ما ليس منه،

فالجواب أن أسباب الوضع كثيرة منها غفلة المُحَدِّث، أو اختلاط عقله في آخر

حياته، أو التكبر عن الرجوع إلى الصواب بعد استبانة الخطأ لسهو مثلاً، ومنهم

قوم وضعوا الأحاديث لا يقصدون إلا الترغيب والترهيب ابتغاء وجه الله فيما

يزعمون، وآخرون وضعوها انتصارًا لمذهبهم، ومنهم طائفة أهمتهم أنفسهم

فاختلقوا ما شاءوا للتقرب من السلاطين والأمراء، أو لاستمالة الأغنياء إلى الإعطاء،

ومن هذا الصنف القصاص الذين انتحلوا وظيفة الوعظ والتذكير في المساجد

والمجامع، وأخذوا يهدمون من أركان هذا الدين لفلس يقتنونه، أو حطام خبيث

يلتهمونه، ولقد شاهدت منهم في المسجد الحسيني رجلاً بيده رقاع صغيرة فيها دعاء

يقول: إنه دعاء موسى، وأن من قرأه أو حمله تسقط عنه الصلوات المفروضة،

والزحام حوله شبيه بزحام الحشر، حتى لا تكاد ترى إلا عمائم وطرابيش وبرانس

وخمرًا وأيديًا ممتدة بفلوس أو دراهم، وهو في بهرة حلقتهم كأنه أبوزيد السروجي

يوزع الرقاع، ويجمع المتاع، ويخلب الأسماع، حتى كاد يبيح للمتصدقين

والمتصدقات كل ما دخل تحت الحرمة وشمله اسم النهي، هذا وقد بلغني أن بعضهم

نبه السيد التقي الورع النقي شيخ الجامع والسادات إلى إزالة هذا المنكر من مسجد

سبط الرسول، فأجاب بأن هذا تجسس، والله يقول:{وَلَا تَجَسَّسُوا} (الحجرات: 12) . ولا أدري - إن صح هذا عنه - من الذي أخطأ؟ أهو أم

عمر بن الخطاب الذي كان يطرد القصاصين أمثال هؤلاء من المساجد، مع أنهم لم

يكونوا بهذه المثابة من التغرير والتضليل.

(ولنرجع إلى الوُضاع) فمنهم زنادقة قصدوا إفساد الشريعة والتلاعب بالدين

{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} (التوبة:

32) فعملوا على لبس الحق بالباطل، وخلط السم بالترياق وهيأت لهم الفرص

في الأزمان الغابرة مجالاً فسيحًا لهذا البهتان حتى شحنوا الأذهان وسودوا الدفاتر،

وأفعموا الكتب بمفتريات ما أنزل الله به من سلطان.

وقد سرى هذا الداء في كتب التفسير والسير والتاريخ، وتلقتها العامة عن

سلامة صدر، إما لشهرة المعزوّ إليه، أو لاستبعاد كذبه على الرسول صلى الله

عليه وسلم، فخبطوا وحادوا عن الجادة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فمن

تلك الكتب التي تحرم قراءتها إلا على العالم المقتدر على درء باطلها تفسير الكلبي،

وتفسير مقاتل بن سليمان، وكتاب محمد بن إسحاق في المغازي، وكتب الواقدي،

ومنها (فتوح الشام) ، وكتاب (فضل العلماء) للمحدث شرف البلخي ومسائل عبد الله

بن سلام في امتحانه للنبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديث نسطور الرومي

ووصايا علي المبدوءة بـ (يا) إلا (يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى) ،

وقد وقع لطائفة من متأخري المفسرين والمحدثين كثير من هذا، لا يعرفه تحقيقًا إلا الواقف على الأحاديث الصحاح.

(وللحديث الموضوع علامات)

(1)

منها المجازفات التي لا يقول مثلها الرسول صلى الله عليه وسلم

مثل: من قال لا إله إلا الله خلق الله من تلك الكلمة طائرًا له سبعون ألف لسان

لكل لسان سبعون ألف ألف لغة، إلى آخر المفترى.

(2)

ومنها تكذيب الحس له، كحديث الباذنجان شفاء من كل داء، وحديث

إن القمر دخل في جيب النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من كمه، وحديث رد

الشمس إلى علي بن أبي طالب.

(3)

ومنها سماجة الكلام، وكونه مما يسخر منه كحديث لو كان الرز

رجلاً لكان حليمًا، ما أكله جائع إلا شبّعه، وحديث قدس العدس على لسان سبعين

نبيًّا آخرهم عيسى عليه السلام.

(4)

ومنها مناقضته لما جاءت به السنة الصريحة، فمن ذلك أحاديث

مَن اسمه محمد وأحمد وأن كل من يسمى بهذا الاسم لا تمس جسده النار، إذ

المعلوم من الدين أن النار لا يُجَار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجدة منها

بالإيمان والعمل الصالح المقبول.

(5)

ومنها قيام الشواهد الصحيحة على بطلانه، كحديث عوج بن عنق

من أن طوله 3360 ذراعًا، وأنه كان يشوي الحوت في عين الشمس، وأنه

قال لنوح احملني على قصعتك، يريد السفينة، وأنه قلع صخرة عظيمة على

قدر عسكر وأراد أن يسحقهم بها، فقورها الله على عنقه إلخ. إذ هذا يدل على

أنه عاصر نوحًا وموسى وأنه ليس من ذرية نوح مع أن الله يقول: {وَجَعَلْنَا

ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ} (الصافات: 77) وفي هذا الهذيان مناقضات أخرى

تدرك بأقل مسكة، وكحديث إن (ق) جبل من زمرذة خضراء محيطة بالدنيا،

كإحاطة الحائط بالبستان، والسماء واضعة أكتافها عليه فزرقتها منه، وحديث

الأرض على صخرة، والصخر على قرن ثور

إلخ

(6)

ومنها مخالفته لصريح القرآن، كحديث مقدار الدنيا، وأنها سبعة

آلاف سنة، وأن الذاهب منها كذا، فإن ذلك يدل على علم الساعة مع أن تعالى

يقول: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّه} (الأعراف: 187) .

(7)

ومنها اقترانه بما يبطله، كحديث وضع الجزية عن أهل خيبر؛

لأنها لم تكن نزلت إذ ذاك، وإنما نزلت بعد عام تبوك، ووضعها الرسول صلى

الله عليه وسلم على نصارى نجران واليمن.

(8)

ومنها مناقضته للفضيلة، كالأحاديث الدالة على الشره في الأكل،

كوصفهم أَكْلِه صلى الله عليه وسلم العنب بما لا مساغ لذكره، أو الدالة على

ترغيب في شهوة، كحديث النظر إلى الوجه الجميل عبادة.

(9)

ومنها مناقضته العقيدة كحديث لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه،

ولا بد أن يكون هذا من وضع المشركين عُبَّاد الأوثان، ولقد رسخ هذا الحديث

المزور في أذهان أغلب أهل هذا الزمان رسوخًا متينًا، حتى كاد يكون معناه

ملكة فيهم، فهم يتسابقون إلى العمل بمعناه أكثر مما يتسابقون إلى الجماعة

والصف الأول، حتى لو أنك نهيتهم عن التمسك بعامود السيد في مسجد

الحسين، أو شجرة الحنفي، أو باب زويلة (بوابة المتولي) أو أخشاب ضريح،

لأجابوك جميعًا بهذا الحديث، كأن الشيطان ما ترك نسمة فيهم إلا ولقَّنَها

الضلال البعيد.

ومن الأحاديث التي لا أصل لها أحاديث الحمام، واتخاذ الدجاج، وذم الأولاد

والتواريخ المستقبلة، وفضائل السور، ومدح العزوبة، والنهي عن الطعام في

السوق، وفضائل الأزهار والحناء، وحديث إن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم،

وغير ذلك مما يطول بي إيراده، ولست أعجب من العامة وصنعهم هذا، ولكن

العجب العُجَاب من أهل العلم الذين يرون هذا المنكر رأي العين صباح مساء،

ويتأولون له، كأنما أعمال هؤلاء السوقة وحي سماوي متشابه يجب تأويله في رأي

العلماء المتأخرين، اللهم ألهمنا السداد، ووفقنا إلى سبيل الرشاد.

والداهية الدهياء أن الناس الآن أخذت تروي الأحاديث من غير إجازة ولا

تلقين، وحَوَّل العلماء وجهتهم إلى فروع الفقه وآلات التفسير والتوحيد، وانصرفوا

عن الحديث إلا ما كان منه قراءة على سبيل التبرك، فراجت سوق الأراجيف

المعزوّة للدين، واختلط الباطل بالحق فمهدوا بهذا للطاعنين على الدين سبلاً كانت

عذراء، وخططًا كانت وعثاء، فلا تكاد ترى حمَّارًا، أو حوذيًّا، أو خادمًا أو طاهيًا،

أو أكارًا أو قصارًا، أو كناسًا أو رشاشًا، إلا ويستشهد في كل شيء من أعماله

بالحديث، سواء صح معناه ولفظه، أو لم يصح، فإذا جلست في مرتاض أو نادٍ،

أو سوق أو حانوت، أو محفل عرس أو مأتم، سمعت من خلطهم وخبطهم في الدين

ما تخرج لأجله النفوس من العيون، وتمشي له القلوب في الصدور، وربما كان في

مجلسهم عالم فيسئل عن اختلافهم، فلا يجيب إلا بأظن كذا، ويمكن أن يكون كذا،

والورع يقول: لا أدري حتى أراجع الصحاح، وقد يكون الحديث مشهورًا بين كل

الطبقات وهو موضوع، فيظن أنه صحيح لشهرته، خصوصًا على ألسنة بعض

الأشياخ، فيفتي بأنه صحيح، وهنالك الطامة الكبرى.

هذا ومما يؤسف عليه أنك لو سألت عمن هو أقرب إلى درجة الحفاظ في

مصر لقالوا: رجلان أحدهما توفي قريبًا وهو المرحوم محمد بك المكاوي، والآخر

العلامة اللغوي الشهير الشيخ الشنقيطي رضي الله عنه، ولا تكاد تسمع باسم ثالث.

ولقد كنت عقدت النية على أن أجمع طائفة من الأحاديث الموضوعة التي

يستدل بها الناس الآن على عقيدة أو حكم أو فضيلة أو نهي عن رذيلة، وأقترح

على حضرة الفاضل خادم الأمة والدين صاحب (المؤيد) أن يقف بضعة أسطر من

جريدته الغرَّاء على نشر حديث أو حديثين منها كل يوم ليُمَيِّز عامة المسلمين الخبيث

من الطيب، ويبتعد حملة القرآن وخطباء المنابر ووعاظ المساجد عن رواية

الأكاذيب المضادة للشرع والعقل باسم الدين وهم لا يشعرون، فلما علمت أن السيد

السند الجليل الشيخ محمود الشنقيطي هو ابن بجدتها ونسيج وحده في هذا الموضوع،

خلعت هذا من عنقي وجعلته في عنقه لتعينه لهذا الأمر الجلل، كما أجمع عليه

الثقات، فإن كان في علماء مصر وجهابذة العصر من يحب أن يسبق إلى خدمة

الدين ونصح المسلمين، وكان بهذا الشأن أحرى - فليتفضل، فإنما الغرض إحياء

السنة وإماتة البدعة ودرء المطاعن الأجنبية بشيء ليس من ديننا، وألتمس من

المتصدر لهذا الأمر أن يجمع أولاً الأحاديث المشهورة على ألسنة العامة والخاصة

في احتجاجهم وأمرهم ونهيهم ومعاملاتهم، فإن ضررها عميم، وخطبها جسيم،

وذلك كحديث حب الوطن من الإيمان الذي لا يفهم منه بعد التأويل والتحليل إلا

الحث على تفرق (الجامعة الإسلامية) التي تنشد ضالتها الآن، فإنه يقضي بتفضيل

مسلمي مصر مثلاً على من سواهم، وأن من في الشام يفضِّل إخوته هناك على

غيرهم، وهكذا، وهو الانحلال بعينه والتفرق المنهي عنه والله يقول: {إِنَّمَا

المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ولم يقيد الأخوة بمكان، ويقول: {وَيُؤْثِرُونَ

عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) وأقل ما فيه تفويت فضيلة

الإيثار، ومن ذلك (شاوروهنَّ وخالفوهنَّ) إلى غير ذلك.

ومما هو جدير بالعناية قصص المولد النبوي الذي اشتمل على كثير من الخيال

الشعري والأحاديث التي وضعها المطرون الغلاة، كحديث لولاك ما خلقت الأفلاك،

وقولهم: إن الميم من اسمه الشريف تدل على كذا، والدال على كذا، إلخ تصرفات

الخيال، ووصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بضروب من الغزل لا تليق إلا

بمتخذات أخذان مما يجل مقام النبوة عنه، وتنفر طبيعة الجلال منه، وكروايتهم من

المعجزات ما ليس له أصل كحديث الضب، وأن الورد من عرقه إلخ ما ينسبونه

للمناوي، ولا أظنه إلا مصطنَعًا باسم الشيخ رحمه الله ورضي عنه.

والخلاصة أنه يجب تدارك هذا الأمر الخطير وفينا حياة علمية، فعلى العلماء

المسارعة، وعلى أصحاب الجرائد القبول، ولا أظن صاحب (المؤيد) إلا مرتاحًا

لهذا الاقتراح، وعلى الله تمام النجاح.

...

...

...

...

(الناصح الأمين)

(المنار)

إن لنا كلامًا في المقالة وفي الموضوع نرجئه لأقرب فرصة تسنح.

_________

ص: 391

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني

في مثل يوم الخميس الماضي 31 أغسطس سنة 1876م (12 شعبان سنة

1293 هجرية) بويع سيدنا أمير المؤمنين السلطان الغازي عبد الحميد

خان بالخلافة الإسلامية، ورقى سرير السلطنة العثمانية، وقد هبَّ المصريون

للاحتفال بهذا العيد الوطني السعيد هبة واحدة، فعملوا في أيام ما كان يعمل في شهر

كامل، وأقيمت الزينة في كل مكان، والزينة الكبرى في حديقة الأزبكية، وكان

أبهج الاحتفالات الخصوصية احتفال جمعية (شمس الإسلام) احتفال حضره سعادة

محافظ العاصمة الهمام، والأستاذ الأكبر شيخ الإسلام والجامع الأزهر، وجماهير

العلماء والوجهاء، وبعد افتتاح الاحتفال قام الفقير منشئ هذه المجلة، فألقى خطبة

بَيَّن فيها من مآثر مولانا الخليفة ما ارتاحت له النفوس، وتلاه الخطباء والشعراء،

وكان تلامذة المدرسة التحضيرية التابعة للجمعية تُنشد الألحان الوطنية في مدح

الحضرة السلطانية والحضرة الخديوية، واخْتُتِم الاحتفال كما افْتُتِح بتشريف الأسماع

بتلاوة القرآن الكريم، وانفض الاجتماع بكل هدوء وسكون، خلافًا لما جاء في

(مقطم) أمس، فنرفع واجب التهنئة إلى أعتاب مولانا بهذا العيد السعيد، ونسأله

تعالى أن يعيده على الأمة في ظله بالعز والتأييد، آمين.

_________

ص: 396

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي

جاءنا في بريد (جاوا) الأخير كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي يقول فيه أنه

قرأ ما كتبناه في حث الأمم الإسلامية على الاعتماد في ترقيهم على أنفسهم، لا على

الدولة العلية، لا سيما أهل الهند والجاوا وأمثالهم ممن تحت سلطة الأجانب، ثم

قال: (اعلم أيها الفاضل أننا معاشر الجاويين ليس قصدنا بأن تكون ترقيتنا على يد

الدولة العلية، ولكن غرضنا الوحيد هو مساعدة الدولة العلية لنا في فك الأغلال التي

وضعتها حكومة هولندا في أعناقنا، وقيدت بها أرجلنا، وضيقت علينا في كل أمر

نقصده، فليس لنا مدارس، وليس لنا أساتذة، وتداخلت في كثير من أمورنا الدينية

كعقود الأنكحة، وتعطيل بعض المساجد من إقامة الجمعة بعد ما استمرت فيها

قرونًا عديدة، والتضييق علينا في شأن الاجتماع، فيمتنع أن يجتمع أكثر من

سبعة نفر بدون إذن الحكومة، ولو لقراءة المولد الشريف، أو وليمة زواج، ونحو ذلك، هذا كله في وقت الإقامة، وأما التضييق في السفر، فقد فرضت على كل من

يريد السفر، ولو ميلين أن يكون معه تذكرة لها شروط طويلة عريضة، بحيث يضيع

على الإنسان أكثر وقته في السعي بالحصول عليها، وتسمى عندهم (باسفور)

ولو شرحنا هنا شروط التذكرة في حملها وحطها لاحتجنا إلى كراريس، ولكن

بهذا القدر كفاية، واللبيب تكفيه الإشارة، فأنَّى لنا الترقي وهذا حالنا، فهل من

نصير، وهل من مجير لنا؟ فالمُشْتَكى إلى الله وحده، ونرجو أن تساعدنا الدولة

العلية في طلاب المساواة من حكومة هولندا؛ لأن هذه الحكومة تزن بميزانين،

وتكيل بمكيالين مختلفين، وتفعل كلَّ ما تريده بالمسلمين من العسف والجور، وليس

لها مُعَارِض ولا منازع، فإذا حصلت لنا مساعدة، وإنشاء مدارس في سائر مدائن

جاوا، ففي مدة قريبة ترى عجبًا؛ لأن الجاويين أهل ذكاء وفطنة، ليسوا كغيرهم،

هذا وإن أحببتم نشر هذا في (المنار) يكون بدون إمضاء والسلام) اهـ.

(المنار)

لا يخلو حال الدولة معكم معاشر الجاويين من ثلاثة أحوال:

(الأول) أن لا تكون عالمة بما حل بكم وما أصابكم من سهام الظلم

والاضطهاد، وماذا تنتظرون ممن يجهل من أمركم ما علمه العالمون، ومرت

عليه السنون؟

(الثاني) أن تكون عالمة بما أصابكم وهي قادرة على إغاثتكم، ولكنها لا

تبالي بكم، والأمر في هذا ظاهر لا يحتاج إلى ناهٍ ولا إلى آمر.

(الثالث) أن تكون عالمة بالمصاب والبلاء، ولكنها عاجزة عن الإغاثة

والإنجاء، والأمر في هذا أظهر وأبين، وهو الواقع لا ريب فيه، فتبين أن نصيحتنا

لكم ولأمثالكم بالاعتماد على جدكم وهمتكم حقيقة صادرة عن إخلاص وغيرة قلبية.

ولا تحسبوا أن سبب عجز الدولة العلية عن إنقاذكم ورفع الضغط عنكم هو

قوة الدولة المتسلطة عليكم، فإن مملكة هولندا ليست إلا كولاية من الولايات

العثمانية، ولو كانت متصلة ببلاد الدولة العلية لأمكن الدولة أن تدمرها في وقت

قريب، كما دمرت اليونان، ولكن السبب الصحيح هو أن الدول الأوروبية بعضها لبعض ظهير بإزاء الدولة العلية، فيُلزمنها باتفاقهن إجابة ما تطلبه كل واحدة منهن

لنفسها، أو للنصارى في بلاد الدولة، ولا يجبن لها طلبها فيما يتعلق بمصالحها

أو مصالح المسلمين الذي هم تحت رعايتهن، على أنه لو كان لها أسطول قوي يليق

بموقعها البحري لأجيب لها كل طلب، ولأمكنها أن تتبع للوصول إلى مقاصدها

كل سبب. فإن أمرالدول مبني على قاعدة بسمارك (القوة تغلب الحق) وأما ما

تُثَرثر به ساستهم وجرائدهم من العدالة والإنصاف، والمرحمة والإنسانية،

والتبري من التعصب الديني، فهي تمويهات خادعة وخلابة كاذبة.

اشتهر المستر غلادستون بأنه السياسي الفرد الذي أفاض على السياسة أمواه

الآداب والفضائل، فلانت قناتها وراعت العدالة رعاتها. ولقد كان يعلم أن أهل

جاوا يسامون من هولندا سوء العذاب، ويقاسون من الظلم والاضطهاد ما لم يقاسه

أحد في بلاد متوحشة همجية، وما كان ينبض له عرق ولا يهيج له انفعال، هذا

ودم القوة يجري في عروقه، وماء الفتوة يترقرق في أديم وجهه، ولما كبحت الدولة

العلية جماح بُغاة الأرمن الذين أضرموا نيران الثورة وخرجوا عن الطاعة، قام

على شفير قبره، وقد تبيغ دمه بعد ما كاد يغيض من الضعف والكبر، وتدفقت

الفصاحة من لسانه بعد ما أوشك يصاب بالحصر، وطفق يهيج الأمة الإنكليزية

خاصة، والأمم الأوروبية عامة على التنكيل بالدولة العثمانية، ومحو اسمها من لوح

البرية، شفقة على أولئك البغاة اللئام، والعصاة الطغام، حتى قال فيه البرنس

بسمارك: (إن المعلم غلادستون أضاع على دولته بغلوه في بضعة أيام ما اكتسبته

من وداد الدولة العلية في بضع عشرات من السنين) فليعتبر هؤلاء الشبان

الأغرار الذين يسمون أنفسهم بالأتراك الأحرار، وليكفوا عن طلب الإصلاح

بواسطة الأوروبيين، وليخدموا أمتهم بالتربية والتعليم إن كانوا صادقين.

_________

ص: 397

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(تابع مالية الدولة)

لما كان المُطَّلع على الجداول المتقدمة يمكنه أن يقتنع بما جاء فيها، فالنتيجة

العامة لأعمال سنة 1893م المتداخلة في سنة 1894م هي أحسن وأدل على التقدم

من نتائج أعمال السنين المتقدمة.

قد نشر أخيرًا تقريرالموسيو فنسان كيارد عن الدَّين الأهلي العثماني في سنة

1893م المتداخلة في 1894م، وهو يحتوي كالعادة على بيان مفيد لحالة دَين

المملكة العثمانية.

قال الموسيو فنسان كيارد في هذا التقرير: لا شك في أني أؤمل أن الإيرادات

المتنازل عنها للدائنين يمكن أن تزيد في كل سنة زيادة مهمة، كالتي تكلمت عنها في

تقريري عن أعمال السنة الماضية، وأن التقدم لم تظهر بعد علائمه كما ظهرت في

السنة المذكورة، إلا أن الأمور يظهر أنها ستجري في نفس مجراها.

قد زادت جملة الإيرادات إلى أن بلغت 2542735 جنيهًا مجيديًّا، يقابلها في

السنة الماضية 3508760 جنيهًا مجيديًّا، أو 1.35 في المائة، لكن من جهة

أخرى قد زادت المصاريف مبلغ 30332 جنيهًا مجيديًّا عنها في السنة الماضية،

وكان من ذلك أن صافي الإيراد لم تكن زيادته إلا مبلغ 3643 جنيهًا مجيديًّا، فإذا

قورنت سنة 1893م المتداخلة في سنة 1894م بسنة 1892م المتداخلة في سنة

1893م وجد أن زيادة الإيرادات في الأولى عن الثانية هي 110631 جنيهًا مجيديًّا

أو 5.38 في المائة.

السبب الأول في زيادة المصاريف هو زيادة أجر العمال، وهذه طريقة

اختارتها إدارة مصلحة الديون؛ لتكفل بها لنفسها الحصول على عمال أكفاء خبيرين

بالأعمال، فزيد في عدد المفتشين، وكانت نتائج ذلك حسنة، وسيكون أثر هذه

الإصلاحات أظهر في نهاية السنة الحالية.

لاحظ المسيو فنسان كيارد أيضًا من جهة أخرى أن تحصيل الإيرادات كان

يجري مع صعوبات عظيمة بسبب قلة الحاصلات الزراعية جدًّا، وانحطاط أثمانها

في جميع الجهات، ولكنه يفتكر أن المبلغ المتحصل لا بد أن يكون وافيًا بالمطلوب

وأردف هذا بقوله بعد في هذا الموضوع (سيتضح لك أن إيرادات سنة 1893م

المتداخلة في سنة 1894م أحسن من إيرادات السنة الماضية، نعم إنك لا تسر كثيرًا

في هذا الموضوع؛ لأن انحطاط أسعار الحبوب قد ثبَّط همم المزارعين، وقلل

موارد أرزاقهم، وهذه المصيبة أصيب بها أمة زراعية بطبعها، وهي الأمة التركية،

ولا يبرح عن ذهنك أيضًا الحجر الصحي الذي خرب آسيا الصغرى بسبب وجود

الكوليرا بها، وحينئذ ففي سنة لم تساعد فيها الظروف كهذه قد ظهر من أوائلها أن

الإيرادات حفظت نسبتها، مع أن الأحوال في هذه السنة كانت أبعد من أن تكون

أحسن منها في السنة الماضية، بل كانت أسوأ، لكني أظن من العبث أن نؤمل

استمرار زيادة الإيرادات، وإذا جرينا على ما جرينا عليه في السنة الماضية كانت

النتيجة راضية) .

وإليك عبارة الموسيو فنسان كيارد في تقريره عن مسألة المال الاحتياطي

بزيادة ربح الدَّين العمومي قال: إن المال الاحتياطي يصل في نهاية سنة 1893م-

1894م إلى مبلغ 224893 جنيهًا مجيديًّا، وسيصل في مارس سنة 1893ما

إلى مبلغ337000 جنيه مجيدي، فالآن إن أريد أن يدفع لمصلحة الدين مسانهة ربع

الاحتياطي زيادة عما يدفع لها اقتضى ذلك وجود مبلغ 292700 جنيه مجيدي،

وحينئذ يكون الدفع ممكنًا، ولكن لا يستنتج من ذلك إمكان حصوله عاجلاً؛ فإن

المادتين 10، 11 من الأمر العالي المكرم يظهر من فحواهما أن سعر الربح يلزم أن

يقرر قانونًا، وهذا هو السبب في إيجاد المال الاحتياطي، لم يكن ليتأتى

لواضعي هذا الأمر أن يطلعوا على الغيب فيعرفوا ما يتعاور أسعار الربح من

التغير، وما ينتج من ذلك من التشويش المشكل في إنقاذ مشروع الاستهلاك، ربما

أنهم كانوا يقصدون أن أسعار الربح إذا زادت تبقى على هذه الزيادة، ولكي يقدموا

لمجلس إدارة الديون الطريقة الكافلة لتحقيق هذا النتيجة منحوه الحق في إيجاد مبلغ احتياطي يمكن أن يؤخذ منه من المال حسب مقتضيات الأحوال ما يكمل به النقص من أحد نصفي السنة إلى نصفها الآخر، ومع ذلك فها هي عبارة موسيو فنسان كيارد في إبداء رأيه الذي هو متمسك به من غير شك، كما قال في صحيفة 17 من تقريره، قال هذا السيد:

(هذه المجازفة دون جميع المجازفات يظهر أنها أحسن تدبير في الأمور

المالية، ولا يمكنني مع هذا أن أنكر أن نص الأمر العالي فيه دليل معقول جدًّا

لأولئك الذين يريدون أن يدفعوا فورًا واحدًا في المائة من الربح الذي هو أربعة في

المائة، وقد دفعه أكثرهم حتى حصل من المال الاحتياطي المبلغ اللازم، ولم يعد ثَم

حاجة إلى البحث في أن سعر الربح يمكن أن يبقى على الدوام محفوظًا من التغيير، أو لا يمكن) اهـ.

(للرسالة بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 399

الكاتب: محمد رشيد رضا

كرامات الأولياء

يعلم الناظرون في تاريخ الأممِِ المختلفةِ الأديانِ والنِحَلِ أن كل أمة منها تدَّعِي

وقوع خوارق العادات وأنواع الكرامات على أيدي رجال الدين ورؤسائها الروحيين

وتنقل من ذلك في كتبها ما يتوهم الناظر فيها أنه بلغ مبلغ التواتر المعنوي على

الأقل، وأن أولئك الرؤساء يتخذون هذا الاعتقاد من الأمة ذريعة للتصرف في

إرادتها، ووسيلة للسيطرة عليها، بل لرفع أنفسهم إلى مرتبة الربوبية، وادعاء قوة

غيبية مفاضة عليهم من الحضرة الإلهية، يتصرفون بها في العوالم الكونية، وقد

كتبنا في العدد العاشر من هذه السنة مقالة في مسألة (التصرف في الكون) بَيَّنَّا فيها

أنه لا قوة غيبية وراء الأسباب الظاهرية إلا لله تعالى وحده، وحيث كنا لا ننكر أن

الله تعالى قد يهب لبعض أوليائه من الكرامة ما يهب لغيرهم، وَعَدْنَا في تلك المقالة

بأن نكتب مقالة مخصوصة في كرامات الأولياء، وقد آن لنا أن ننجز وعدنا.

والنظر في هذه المسألة من وجوه: حقيقتها والحكمة فيها، حجج القائلين

بجوازها ووقوعها، حجج المنكرين لها، ادعاء جميع الأمم لها، منفعة الاعتقاد بها

ومضرته، تمحيص الحقيقة فيما نقل من الكرامات. وقد فَصَّلنَا جميع ذلك في خاتمة

كتابنا (الحكمة الشرعية) وافتتحنا الكلام هناك بمقدمة في نواميس الكون وإثبات

الألوهية، والكلام في النبوات والمعجزات فالكرامات، وإننا نثبت ههنا معظم تلك

المقدمة لتكون أساسًا لبقية المسائل، وهي:

] يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ [[1]

جرت سنة الله تعالى كما اقتضته حكمته في هذه النشأة الأولى والحياة الدنيا

بأن يكون جميع ما يحدث فيها من الذوات والأعيان الحيوانية والنباتية والجمادية،

وما يطرأ عليها ويعتورها من الأحوال المختلفة، ويتناوبها من الشؤون المتبائنة،

وما بين أرضنا هذه وسائر كواكب النظام الشمسي من الارتباط - كل ذلك جارٍ على

نواميس لا اختلاف فيها، وسنن ثابتة لا يعتريها تبديل ولا تحويل، فهذه الحجارة

ونحوها من الأجرام التي تزيد على الهواء بالثقل النوعي تسقط إلى جهة الأرض،

والدخان، وجميع الأبخرة التي هي أخف من الهواء ترتفع إلى جهة العلو

حتى إذا ما تكاثفت وزاد ثقلها على ثقل الهواء في طبقة من طبقات الجو، وقفت

عن التعالي والارتفاع، وربما تكاثف ما فيها من الماء المتبخر بسبب البرودة؛

فعاد كما كان سائلاً أو جامدًا، وهبط لثقله إلى الأرض، ثم تخلل في الأتربة، وفي

هذه الحالة يدلي إليه النجم والشجر خراطيم جذوره، فيمتص منه ما يحتاجه لحياته

النباتية، وقد يتخلل الأرض ويسري فيها، فيعترض سيره صخور ونحوها،

فيجتمع إليها، ويزداد عليه الضغط من الجهة التي جرى منها حتى يندفع إلى سطح

الأرض ويتفجر، فيكون ينبوعًا يرد الحيوان الناطق والأعجم فيعل منه وينهل، وللناس في الماء منافع أخرى حاجية وكمالية، وناهيك ببخاره الذي هو روح العمران

في هذا الزمان، ولولا أن ذلك كله جارٍ على قوانين ثابتة وسنن مطَّردة لما تيسر

الانتفاع به للناس.

وهذا النبات الذي يسقى بماء واحد، وثبتت أصوله في تربة واحدة، وسبحت

أفنانه وشعابه في هواء واحد - حصل فيه التباين والتخالف في أشكال ثمراته وألوانها

وطعومها وروائحها وخواصها، فكان أنواعًا متمايزة، وأزواجًا متعددة،

ومع ذلك لا يحمل نوع منها ثمرة نوع آخر، ولا يزاحمه في خاصيته التي أودعت

فيه، وإلا لما اهتدى الناس للانتفاع بها، ولضل سعيهم بعدم حصول المرء على

مطلبه، أو إصابته غير غرضه، وربما أفضى بهم اختلال هذا النظام إلى

التلف، وألقاهم في مهاوي الهلكة، فإن بعض النبات مغذٍّ يقتات منه الإنسان،

وبعضها سام تهلك به الأبدان، فلو أن خواص العقاقير تنتقل أحيانًا إلى الفاكهة

وبالعكس، لوقع المحذور الذي أشرنا إليه.

وهذه الحيوانات العجم من نَعم وطير، ووحش وسمك وهوام؛ فإن كيفيات

معيشتها وتوالدها وحفظ ذريتها، وأشكال أعضائها، وبنيتها الموافقة للقيام بأود

حياتها، ككون الطير ذا منقار يلتقط به الحبوب، ونحو الصقر والشاهين ذا منسر

ومخلب يمزق بهما اللحم ليطعمه، وكون الطويل الأرجل منها طويل العنق على

نسبة طول رجليه؛ ليسهل عليه تناول الغذاء حيث لم يكن مما يتناوله بالأيدي،

وكون الضعيف منها أقدر على العَدْو والطيران، أو الحيلة والروغان من القوي الذي

من شأنه اقتناصه وافتراسه؛ ليكون استيلاؤه عليه من تقصيره لا من طبيعته ونقص

خلقته، وكونها تنفر مما يضرها بالطبع والإلهام إلى غير ذلك من الحكم التي لا

تحصى، كل ذلك جاء على نظام بديع وسنن مطردة، وبه تيسر للإنسان انتفاعه بما

يمكن الانتفاع به، واحترازه مما يخشى ضرره.

وهذا الإنسان في جميع أطواره وأدواره؛ من بداوة وحضارة، وشظف

ورفاهة، وعلم وجهل، وقوة وضعف، وعزة وسلطان، وذلة وامتهان، وسائر

أنواع السعادة والشقاء التي تتناوبه مجتمعًا ومنفردًا، كل ذلك منطبق على السنن

الإلهية والنواميس الكونية، فالأعمال - نافعها وضارها - تابعة لمعارف العاملين

وما انطبع في نفوسهم من العقائد والأخلاق، وما تربوا عليه من العادات، ولولا

أن لترقى الإنسان وتدليه سننًًا ثابتة وقوانين طبيعية مطردة، لما انتظم لهذا النوع

حال، ولما طمع ببلوغ مراتب الكمال.

خلق الله الإنسان في أحسن تقويم وهداه النجدين، فكان بفطرته مستعدًّا لتعرف

سنن الخليقة، واستخراج النواميس من سير الطبيعة، ولكنه ظل غافلاً عن هذه

السنن، ومنصرفًا عن استنباطها من جزئياتها إلا ما يبدو للنظر ويسبق إلى الفكر

حتى منحه الله تعالى بفضله الدين الإسلامي الذي هو دين الفطرة بمقتضى قوله

تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: 30) فاسْتَلْفَتَهُ القرآن إلى هذه السنن، وبين له أنها لن تتبدل ولن تتحول،

فالتفت هذا النوع بذلك إلى الخليقة، وصار يتعرف نواميسها رويدًا رويدًا بمقتضى

ناموس التدرج في الاتقاء، وقد شرح حكماء العلماء ما وصل إليه علمهم من تلك

النواميس والقوانين التي طبع الله عليها هذا العالم، وفصَّلوا ما عرفوه من سننه فيها،

وجعلوا ذلك فنونًا كثيرة كتبوا فيها الأسفار، ودونوا فيها الدواوين، ووضعوا لها

الاصطلاحات كما هو شأنهم في سائر فنون العلم، ولا ينفكون في كل عصر من

الأعصار التي استحكمت فيها الحضارة ينقبون عنها ويبحثون فيها ابتغاء الزيادة،

وحرصًا على كمال الاستفادة، وما كان أجدر هؤلاء الواقفين على أسرار الطبيعة

(وأعني بالطبيعة النظام الذي أنشأ الله الكون وطبعه عليه) أن يكونوا من أقوى الناس

إيمانا بالله الحكيم القدير الذي أحسن هذا الإبداع وأتقن هذا الاختراع و {أَعْطَى كُلَّ

شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) لكن قد ذهل الكثيرون منهم بإتقان الصنعة عن

وجود الصانع وعظمته، والمتأخرون الذين وصلوا إلى ما لم يصل إليه من كان

قبلهم، وعرفوا من سنن الاجتماع الإنساني ما لم يكن يعرفه الناس قبل هذا العصر

الذي مبدؤه ظهور الإسلام - قد غفلوا عن القرآن الذي كان منشأ استلفات الإنسان

إلى هذا النوع من العرفان، لا سيما وقد بَعُد العهد وطال الزمان، وأعرض المنتسبون

للقرآن عن فنون الطبيعة وعلم العمران.

اشتغلوا - كما - قلنا بالصنعة عن الصانع وغرَّهم شيطان الوهم الخادع بأن

هذه النواميس هي الفاعلة والمدبرة لهذه الأكوان مع أنهم ما علموا إلا أقل القليل منها

{وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء:85) وعَلَّلوا الكثير من ذلك القليل بعلل لا

يقبلها العقل، وقد صرح بعضهم أن النواميس ليست عللاً وأسبابًا للترتيب

والنظام الطبيعي، وأنّى يحكم العقل بأن ثبوت كل جرم من الأجرام الفلكية، وحفظ

النسبة بينه وبين الكواكب الأخرى إنما هو بِعِلَّة شيء مجهول أو معدوم، وهو الذي

سموه الجاذبية العامة، وأين هذه الجاذبية؟ وما حقيقتها؟ وما الدليل عليها؟ نعم

إذا قالوا: إنا وجدنا الأمر هكذا، فوضعنا له هذا الاسم، فإننا نسلم لهم إذ لا

مشاحة في الاصطلاح، ثم إننا نقيم الدليل من ذلك على أن له صانعًا حكيمًا،

وكذلك يقال في جاذبية النقل، وجاذبية الملاصقة والالتصاق وغيرها.

وأكثر الناس قد أرشدتهم الفطرة أو هداهم النظر إلى أنه لابد لهذا الكون المحكم

الصنع، البديع الإتقان من فاعل مدبر له، ثم أخطأوا في تعيينه لما عنَّ لهم من

الشبه في ذلك، فبعضهم زعم أنه الشمس أو كوكب آخر، وتخيل بعضهم أن صانع

العالم هو جوهر النار (وإذا التفتنا إلى قول المحققين: إن النار عرض يكون إله

العالم عند هؤلاء عرضًا تابعًا في وجوده لغيره) وبعضهم أسند الألوهية إلى بعض

الحيوانات، ومنهم من ارتقى به هذا الوهم، فأضافها إلى بعض البشر، إلى غير

ذلك من النِحَل التي لا تحصى، وشبهة الذين أشرنا إليهم هي ما شاهدوه من

المظاهر العجيبة التي أظهر الله تعالى بها الشمس والنار، أو قوة الحرارة وما خص

به بعض الحيوان من المنافع أو المضار، وما ظهر على أيدي بعض البشر من

الخوارق والعجائب التي لم تُعْهَد من أمثالهم، قالوا: ولولا أن سر الألوهية في هذه

الأشياء لما وجدت فيها تلك الخصائص أو المنافع دون غيرها، والحاصل أن البشر

يشعرون بفطرتهم أن للعالم إلهًا ومدبرًا به قامت الأكوان [2] ، ولما كان غيبًا مطلقًا

لم تهتد نفوسهم إلى التوجه إليه وعبادته وتعظيمه إلا بتقييده لما يعرفون، فكان من

أمرهم ما كان.

فتبين بهذا أن العقل البشري لا يستقل بما يجب من المعرفة الحقيقية لله تعالى،

وما ينبغي أن يقوم له به العبد من العبادة والشكر في مقابلة نِعَمه التي لا تُحصى،

ولذلك تفضل سبحانه وتعالى على الخلق فأرسل إليهم رُسلاً من أنفسهم جعلهم سفراء

بينهم وبينه في بيان ما يرضيه من الناس أن يكونوا عليه، وأيدهم بما يدل على

صدقهم من خرق بعض تلك النواميس على أيديهم، ووقوع بعض الأمور على

خلاف ما تقضيه السنن المطردة التي لم يعهد فيها خرق وانتقاض، أو فعل شيء لم

يعهد في العالم، ولا دخل فيه للبشر بصناعة ولا كسب، بحيث يجزم العقل بأنه لا

يقدر على ذلك إلا الذي سَنَّ تلك السنن ووضع تلك النواميس وأبدع جميع الأشياء

بقدرته الباهرة، فهدى الله تعالى بهم من شاء من الخلق فعرفوه بما يجب أن يُعرف

به، وعبدوه بما يجب أن يعبد به، وقد مضت سنة الأولين بأن المؤمنين بالأنبياء

يكونون في زمنهم بغاية الطاعة والخضوع وكمال الانقياد للشرائع والاتباع للهدى،

وأنه كلما طال الأمد على البعثة، وبعُد العهد بالأنبياء تقسو القلوب، ويميل الناس عن

الحق، ويؤولون تعاليم أنبيائهم بحيث تنطبق على أهوائهم، ومنهم من حَرَّفوا حتى في

اللفظ، ومن نسوا حظًّا مما ذكروا به، فكان لذلك من رحمة الله تعالى بعباده أنه كلما

طال الزمن من بعد رسول يبعث إليهم رسولاً آخر حتى ختم الله النبيين بالسيد

الأعظم، والسند الأقوى والأعصم، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم،

وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآلهم أجمعين، وكان مما أنذر به أمته في كتابه

العزيز قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ

الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ

وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) ولكن لا تبديل لسنة الله؛ فإنه كلما طال

الأمد وبَعُد الزمان تقسو القلوب، ويفسق الكثير عن أمر ربهم.

من مقتضى ختم النبوة أن تكون شريعة الخاتم عليه السلام باقية إلى آخر

الزمان، وأن تكون الآية الدالة عليها باقية ببقائها، ولذلك كانت المعجزة العظمى

للنبي صلى الله عليه وسلم محفوظة من التحريف والتبديل، وهي القرآن الكريم

الذي {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) وحيث قد جعلوا كرامات الأولياء تابعة للمعجزة، دالة على صدق

نبوة من ينتسب الولي إلى دينه، ويعرف بكمال الاتباع له، كان وجودها بمعنى

وجود المعجزة يجذب بالقلوب إلى مرضاة الله تعالى، والاعتصام بالدين، قال

البوصيري:

والكرامات منهم معجزات

حازها من نوالك الأولياء

وقال العلامة ابن حجر الهيتمي بعد أن ذكر أن الكرامة تحصل بكمال الاتباع:

(والحاصل أن كرامة الولي من بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن

لعظم اتباعه له أظهر الله بعض خواص النبي على يدي وارثه ومتبعه في سائر

حركاته وسكناته) ونقل عن الإمام الشافعي أنه قال: إن كرامات الأولياء من تتمة

معجزات النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تشهد بالصدق المستلزم لكمال دينه،

المستلزم لحقيقته، المستلزم لصدق نبيه فيما أخبر به من الرسالة، وكانت الكرامة

من جملة المعجزات بهذا الاعتبار. اهـ

وقال العلامة تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى:

(اعلم أن كل كرامة ظهرت على يد صحابي أو ولي، أو تظهر إلى يوم القيامة،

فإنها معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن صاحبها نالها بالاقتداء به، وهو

معترف له بأنه سيد البشر الذي من بحره تستخرج الدرر) اهـ

هذا ما جاء في كتابنا (الحكمة الشرعية) في معنى المعجزة والكرامة،

والحكمة فيهما، وسنذكر بقية المباحث في الأجزاء التالية، إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

(البقرة: 105) .

(2)

قرر هذا المعنى في درس التوحيد الذي قرأه في الأزهر الأستاذ الكامل الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، وقال: إن الشرذمة التي أنكرت وجود صانع الكون قد طرأت على نفوسها أعراض حرفتها عما في أصل فطرتها، فهي لقلتها وللمرض الروحي الذي طرأ عليها لا يصلح إنكارها نقضًا للقاعدة العامة التي ثبتت في جميع أصناف البشر، وهي الاعتقاد بالألوهية.

ص: 401

الكاتب: أبو حامد الغزالي

‌حقوق الأخوة

(3)

كنا شرعنا في بيان حقوق الأخوة والصداقة ملخصة من الإحياء، فذكرنا منها

حَقَّين، وهما المتعلقان بالنفس والمال، وحالت كثرة المواد دون شرح سائر الحقوق

(وهي ستة) فكففنا عنها ناوين الرجوع إليها عند سنوح الفرصة، وقد سنحت

الآن، فنقول:

(الحق الثالث) في اللسان بالسكوت مرة، وبالنطق أخرى، أما السكوت

فهو أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته، بل يتجاهل عنه ويسكت عن

الرد عليه فيما يتكلم به، وأن لا يماريه ولا يناقشه، وأن يسكت عن التجسس

والسؤال عن أحواله، وإذا رآه في طريق أو حاجة ولم يفاتحه بذكر غرضه من

مصدره ومورده لا يسأله عنه، فربما يثقل عليه ذكره، أو يحتاج إلى أن يكذب فيه

وليسكت عن أسراره التي بثها إليه، ولا يبثها إلى غيره ألبتة، ولا إلى أخص

أصدقائه، ولا يكشف شيئًًًا منها، ولو بعد القطيعة والوحشة؛ فإن ذلك من لؤم الطبع

وخبث الباطن، وأن يسكت عن القدح في أحبابه وأهله وولده، وأن يسكت عن

حكاية قدح غيره فيه، فإن الذي سَبَّك مَن بَلَّغَك، وقال أنس: كان صلى الله عليه

وسلم لا يواجه أحدًا بما يكرهه، والتأذي يحصل أولاً من المُبَلِّغ ثم من القائل، نعم

لا ينبغي أن يخفي ما يسمع من الثناء عليه، فإن السرور يحصل من المُبَلِّغ ثم من

القائل، وإخفاء ذلك من الحسد.

وبالجملة: فليسكت عن كل كلام يكرهه - جملة وتفصيلاً - إلا إذا وجب عليه

النطق بأمر بمعروف أو نهي عن منكر، ولم يجد رخصة في السكوت، فإذ ذاك لا

يبالي بكراهته، فإن ذلك إحسان إليه في التحقيق، وإن كان يظن أنه إساءة في

الظاهر، وأما ذكر مساويه وعيوبه ومساوي أهله فهو من الغيبة المحرمة، ويزجرك

عنه أمران (أحدهما) أن تطالع أحوال نفسك، فإن وجدت فيها شيئًا مذمومًا فهوِّن

على نفسك ما تراه من أخيك، وقَدِّر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة، كما

أنك عاجز عما أنت مُبتلى به، ولا تستثقله بخصلة واحدة مذمومة، فأي الرجال

المهذب، وكل ما لا تصادفه من نفسك في حق الله، فلا تنتظره من أخيك في حق

نفسك، فليس حقك عليه بأكثر من حق الله عليك، و (الأمر الثاني) إنك تعلم أنك

لو طلبت مُنَزَّهًا عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة، ولن تجد من تصاحبه أصلاً،

فما من أحد من الناس إلا وله محاسن ومساوٍ، فإذا غلبت المحاسن على المساوي

فهو الغاية والمنتهى، فالمؤمن الكريم أبدًا يحضر في نفسه محاسن أخيه لينبعث من

قلبه التوقير والود والاحترام، وأما المنافق اللئيم، فإنه أبدًا يلاحظ المساوي

والعيوب، قال ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات،

وقال الفضيل: الفتوة العفو عن زلات الإخوان، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:

استعيذوا بالله من جار السوء الذي إن رأى خيرًا ستره، وإن رأى شرًّا أظهره، وما

من شخص إلا ويمكن تحسين حاله بخصال فيه، ويمكن تقبيحه أيضًا، روي أن

رجلاً أثنى على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الغد ذَمَّه،

فقال عليه السلام: أنت بالأمس تثني عليه واليوم تذمه؟ فقال: والله لقد صدقت

عليه بالأمس وما كذبت عليه اليوم، أرضاني بالأمس فقلت أحسن ما علمت فيه،

وأغضبني اليوم فقلت أقبح ما علمت فيه، فقال عليه السلام: إن من البيان لسحرًا [1]

وكأنه كره ذلك، فشبهه بالسحر، ولذلك قال في خبر آخر: البذاء والبيان

شعبتان من النفاق، وفي حيث آخر:(إن الله يكره لكم البيان كل البيان)[2] ، ولذلك

قال الشافعي رحمه الله: ما أجد من المسلمين مَن يطيع الله عز وجل فلا

يعصيه، ولا أحد يعصي الله عز وجل فلا يطيعه، فمن كان طاعاته أغلب من

معاصيه فهو عدل، وإذا جعل مثل هذا عدلاً في حق الله، فلئن تراه عدلاً في حق

نفسك، ومقتضى أخوتك أولى، وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساويه يجب

عليك السكوت بقلبك، وذلك بترك إساءة الظن، فسوء الظن غيبة بالقلب، وهو

منهي عنه أيضًا، وحَدّه أن لا تحمل فعله على وجه فاسد ما أمكن أن تحمله على

وجه حسن، فأما ما انكشف بيقين ومشاهدة، فلا يمكنك أن لا تعلمه، وعليك أن

تحمل ما تشاهد على سهو ونسيان إن أمكن وهذا الظن ينقسم إلى ما يسمى تفَرُّسًا،

وهو الذي يستند إلى علامة، فإن ذلك يحرك الظن تحريكًا ضروريًّا لا يقدر على

دفعه، وإلى ما منشؤه سوء اعتقادك فيه، حتى إذا صدر منه فعل له وجهان فيحملك

سوء الاعتقاد فيه أن تنزله على الوجه الأردأ من غير علامة تخصه بها، وذلك

جناية عليه بالباطن، وذلك حرام في حق كل مؤمن، إذ قال صلى الله عليه وسلم: إن

الله حرم على المؤمن من المؤمن دمه وماله وعرضه، وأن يظن به ظن السوء

(هو في مسلم بلفظ آخر) وقال صلى الله عليه وسلم: إياكم والظن فإن الظن

أكذب الحديث، أي حديث النفس. وسوء الظن يدعو إلى التجسس والتحسس، وقال

صلى الله عليه وسلم في تتمة الحديث الذي ذُكِر آنفًا: ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا

تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا

يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك. رواه مالك وأحمد والشيخان

والترمذي، والتجسس يكون في تطلع الأخبار، وتعرف الأسرار بالواسطة،

والتحسس يكون بالمراقبة بالعين، واستراق السمع بالنفس لا بالواسطة، والتناجش

هو أن تستام السلعة بأكثر من ثمنها ليراك الآخر فيقع فيها، فستر العيوب

والتجاهل والتغافل عنها شيمة أهل الدين، وقد وُصف الله تعالى بالستر والتجاوز

والمَرضيّ عنده التخلق بأخلاقه، فإذا كنت تحب أن يرضى فيتجاوز عنك فتجاوز

أنت عمن هو مثلك أو فوقك، وما هو بكل حال عبدك ولا مملوكك. وقد روي أن

عيسى عليه السلام، قال للحواريين: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائمًا، وقد

كشفت الريح ثوبه عنه، قالوا: نستره ونغطيه، قال: بل تكشفون عورته، قالوا:

سبحان الله! من يفعل هذا؟ فقال: أحدكم يسمع الكلمة في أخيه فيزيد عليها،

ويشيعها بأعظم منها.

واعلم أنه لا يتم إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، كما ورد في

الصحيحين وغيرهما، وأقل درجات الأخوة أن يعامل أخاه بما يحب أن يعامله به

ولا شك أنه ينتظر منه ستر العورة والسكوت على المساوي والعيوب ولو ظهر منه

نقيض ما ينتظره اشتد عليه غيظه وغضبه، فما أبعده عن الإنصاف إذا كان ينتظر

منه ما لا يضمره له، ولا يعزم عليه لأجله، وويل له بنص كتاب الله تعالى حيث

قال: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو

وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: 1-3) وكل من يلتمس من الإنصاف أكثر مما

تسمح به نفسه، فهو داخل تحت مقتضى هذه الآية، ومنشأ التقصير في ستر العورة

أو السعي في كشفها الداء الدفين في الباطن، وهو الحقد والحسد؛ فإن الحقود

الحسود يملأ بطنه بالخبث، ولكن يحبسه في باطنه ويخفيه ولا يبديه مهما لم يجد له

مجالاً، وإذا وجد فرصة انحلت الرابطة وارتفع الحياء، ويترشح الباطن بخبثه

الدفين، ومهما انطوى الباطن على حقد وحسد فالانقطاع أولى، قال بعض الحكماء:

(ظَاهِرُ العِتَاب خَيْرٌ مِنْ مَكْنُونِ الحِقْدِ، ولا يزيد لُطف الحقود إلا وحشة منه،

ومَنْ في قلبه سخيمة على أخيه فإيمانه ضعيف، وأمره مخطر، وقلبه خبيث لا

يصلح للقاء الله تعالى) اهـ بتصرف

(له بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الحديث عند أحمد والبخاري وأبي داود والترمذي، وسببه أنه لما جاء وفد تميم كان فيهم الزبرقان وعمرو بن الأهتم، فخطبا ببلاغة وفصاحة، ثم قال الزبرقان: يا رسول الله، أنا سيد بني تميم، والمطاع فيهم، والمجاب لديهم، أمنعهم من الظلم، وآخذ بحقوقهم، وهذا يعلم ذاك، فقال عمرو: إنه شديد المعارضة، مانع لجانبه، مطاع في أذينه، فقال الزبرقان: والله لقد علم مني أكثر مما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد، فقال عمرو: أنا أحسدك؟ فوالله إنه للئيم الحال، حديث المال، ضعيف الطعن، أحمق الولد، والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولاً، وما كذبت فيما قلت أخرًا، ولكني رجل إن أُرضيت قلت أحسن ما علمت، وإن أغضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الأولى والأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحرًا.

(2)

هذا الحديث رواه ابن السني وهو ضعيف، والذي قبله رواه الترمذي وحسنه، والمراد بالبيان المذموم: بيان الخلابة الذي يُري الحق باطلاً والباطل حقًّا، فينخدع به الناس.

ص: 407

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقريظ وانتقاد

(التاريخ الأثري من القرآن الشريف)

كُتَيّب ألفه حديثًا الكاتب الأديب مصطفى أفندي الدمياطي المشهور فضله بما له

من الآثار القلمية في الجرائد، ويدل اسمه على أنه جمع ما جاء في القرآن الكريم

من قصص الأنبياء وأحوال الأمم، وبيَّنها بما لا يخرج عن معنى القرآن، وذكر في

فاتحة الكتاب أن الذي حمله على هذا التأليف هو مساعدة أهل النهضة العلمية

الحديثة على التربية الدينية، فقد قال فيها بعد تعظيم شأن الدين ما نصه: (فضلاً

عن ذلك، فقد قص المولى سبحانه وتعالى قصصًا شتى في الكتاب العزيز تكفي

لتربية العقول وتأصيل الاعتقاد به وبصفاته الكمالية، فكم في قصص الأنبياء عليهم

الصلاة والسلام من مرشد إلى حسن أخلاقهم وقوة جأشهم، وسعيهم في هداية الخلق

وتعليمهم أساليب التوحيد بما يحث على التمسك بالفضائل، ويحض على الكمالات

ذلك هو السبب الذي حملني على جمع هذا الكتاب بمثل هذا الأسلوب النافع، لعلي

أقوم ببعض الواجب علىّ نحو وطني العزيز) اهـ

وهذا الغرض كما ترى من أشرف الأغراض لو وفَّاه الكُتاب حقه، وأذكر أنني

ما قرأت القرآن من بضع سنين إلا وتمنيت لو كان له تفسير يجمع الآيات المنزلة

في كل مقصد على حدتها ويفسرها؛ فيكون للتوحيد والعقائد باب، وللأخلاق

والمواعظ باب، وللأحكام باب، وللقصص باب، ويذكر في كل قصة جميع ما جاء

فيها، ويبين الحكمة في تكرار المكرر إلخ ما لا محل هنا لشرحه، ولقد كنت عندما

تناولت هذا المؤلف الجديد حسبت أنه وفَّى ببعض مطلبي، ولما تصفحته ألفيته على

خلاف الحسبان، بل وجدت أن اسمه لم ينطبق على مسماه، وأنه ما وفَّى بالغرض

الذي أشار إليه في فاتحته، فإن الآيات التي أوردها لم يفسرها ويبين بعض ما فيها

من الحكم ووجوه الاعتبار، إلا أنه فسر بعض المفردات في ذيول الصحائف، وما

كان في الكتاب من كلام المؤلف فأكثره مأخوذ من الإسرائيليات وكتب القصص التي

لا يعول عليها عند المسلمين، وقد عاب العلماء المحققون كتب التفسير التي تشتمل

على هذه القصص، وحظروا قراءتها وكتابتها، وقد حوى هذا الكتاب على

اختصاره جميع ضروب الخطأ التي في تلك الكتب المطولة، فمن ذلك:

...

(1)

تحديده تاريخ الخليقة والأنبياء، وزعمه تبعًا للإسرائيليات أن تاريخ

الخليقة يبتدئ من سنة 4963 قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وهذا الزعم يكذبه

القرآن بمثل قوله: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} (الكهف: 51) ويكذبه علم الجيولوجيا الذي يدل على أن العالم وجد منذ ملايين

كثيرة من السنين، ويكذبه علم الآثار القديمة أيضًا، ومنه:

(2)

ما ينافي العقيدة الدينية، كقوله في الصفحة 48: (وأمات الله أولاد

أيوب عن آخرهم، وابتلاه بالمرض، إلى أن انتثر لحمه، وامتلأ جسده دودًا،

وجفاه الناس، وأخرجه أهل القرية إلى الخلاء، ولم يطق أحد شم ريحه إلا زوجته

فصبر وشكر) اهـ

والذي عليه المسلمون، لا سيما أهل السنة منهم، أن الله تعالى حفظ الأنبياء

من العاهات المنفرة للطباع؛ لأنها منافية لحكمة التبليغ، وقالوا: (إن هذا من

أصول الإيمان الواجب اعتقادها وتكذيب من خالفها) ومنه:

(3)

قوله في صفحة 78: (وعلم يونس بالأمر، فذهب مغاضبًا ربه)

والصواب أنه غاضَب قومه، لا ربه، ومنه:

(4)

إيراد ما لا يصح في السنة كحديث إن هذا أخي ووصيي وخليفتي

فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، يعني عليًّا رضي الله عنه، انظر صفحة 92.

وفي الكتاب خطأ وغلط وراء ما ذكرنا، وغير الأخبار التاريخية التي لا دليل

عليها من القرآن ولا من السنة، وهذه الأخبار كثيرة ربما تناهز المائة، كقوله في

صفحة 31 في إسماعيل عليه السلام: (تزوج بامرأة من جُرهم، وأولادها

أولاده الذين كانت منهم العرب) والصواب أن العرب أمة قديمة كانت قبل

إسماعيل، ويقال لأولاد إسماعيل منهم العرب المستعربة.

وكإدخاله في آية قرآنية ما ليس منها حيث كتب في صفحة 76 ما صورته

(وأذن سليمان بإحضار العرش، فلما رآه مستقرًّا عنده قال: هذا من فضل ربي

ليبلوني أأشكر إذ آتاني به قبل أن يرتد إليّ طرفي) اهـ

فما بعد لفظ (أأشكر) ليس من الآية، وكأنه كان يكتب الآيات من كتاب

تفسير امتزج عند هذه الآية فيه الأصل بالتفسير، أو نسي أن يضع شبه الضمتين

عند انتهاء كلمات القرآن، وكإيهامه بأن الصرح هو الذي اشتبه على ملكة سبأ

بعرشها، حيث قال بعد العبارة المذكورة آنفًا في أول صفحة 77 في ابتداء كلام ما

نصه: وأمر سليمان ببناء صرح للملكة، فبنوه من قوارير {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا

عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُو} (النمل: 42) ثم قال بعد هذا في ابتداء كلام: (وأذن

لها بدخول الصرح) إلخ، وكان ينبغي أن يقدم آية (فلما جاءت..) على قوله:

وأمر سليمان ببناء صرح إلخ لينتفي اللبس من الكلام.

هذا وإننا لم نقرأ الكتاب كله بالتدقيق، ولم نحاول إحصاء كل ما ينتقد فيه،

وإنما توسعنا بعض التوسع في انتقاده لأمرين، أحدهما: أن مثل هذه الكتب التي

من شأنها أن تقرأ وينتفع بها إذا كانت نافعة يجب أن تنقح وتمحص، وآلة

التمحيص هي الانتقاد دون سواه، ثانيهما: أننا نعلم أن حضرة المؤلف من الرجال

المهذبين الذين يقدرون الانتقاد حق قدره، فيكون باعثًا لهم على زيادة الكمال،

والمنتظر من عاقل مثله أن يعد انتقادنا من العناية بكتابه، وأن يكون باعثًا له على

تهذيبه وتشذيبه، وما يتذكر إلا أولو الألباب.

***

قصيدة من مديح الأستاذ صفوة المحققين ونابغة اللغويين، الشيخ محمد محمود

التركزي الشنقيطي من نظم الأديب محمود أفندي خاطر أحد موظفي نظارة المالية:

مثلت بالعرب جدًّا

ونلت بالجد جدًّا

وما عرفناك إلا

إمام علم مبدّى

وما سمعنا لسانًا

يقول قولك قصدًا

وما رأينا صحاحًا

بغير إذنك تهدى

ولا قرأنا عبابًا

يمد مثلك مدًّا

وأن نعمة ربي

لصفوة الخلق تسدى

وقد سرى لك منها

جمع به صرت فردًا

لا في العراق نظير

تراه يومًا تبدى

ولا ببغداد، كَلاّ

يلتمس الناس ندًّا

وليس يأوي ببصرى

وليس يسكن نجدًا

أهل الحجاز جميعًا

فاهوا بحمدك جدًّا

أمير مكة فخرًا

قد عد علمك مجدًا

أيام لم يجدن فيها

لك في العلم بدًّا

أيام أبرزت علمًا

على ذوي الجهل ردًّا

في كل قطر ومصر

يفوح مدحك ندًّا

بالحق ما أنت إلا

جسم من العلم يندى

أرسل علومك تبغي

من الأماجد جندًا

يأتوك طلاب علم

ولن يخافوا مردًّا

ومن تصدى لعلم

أفنى الليالي كدًّا

يستسهل الصعب حتى

ينال بالسعي سعدًا

وشيخنا التركزي قد

مهد للعلم مهدًا

فلا يصغِّر خلاًّ

ولا يُصَعِّر خدًّا

ولا يحقر قولاً

ولا يصدن صدًّا

فما علمنا عليه

شيئًا لذلك ضدًا

وقد سردنا قليلاً

من مكرماتك سردًا

أما الكثير فشيء

كالنمل والرمل عدًّا

وأنت في البر بحر

لم نستبن لك حدًّا

_________

ص: 410

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(الجيش العثماني)

ينقسم الجيش العثماني على حسب ترتيبه الحالي الذي هو من عمل جلالة

السلطان عبد الحميد إلى ثلاثة أقسام كبيرة وهي (الأول) القسم الموظف العامل،

وهو يتألف من قسمين: أولهما القسم النظامي، أي الموجود تحت السلاح، وثانيهما

القسم العامل المأذون. (الثاني) الرديف: القسم الاحتياطي من الجيش، وهو يتألف

أيضًا من قسمين. (الثالث) المحافظ، ومدة الخدمة العسكرية محددة بعشرين سنة،

هاك بيانها: للجيش العامل ست سنوات، أربعة منها للقسم الأول منه، واثنتان

للقسم الثاني، وللجيش الاحتياطي ثماني سنوات لكل من قسميه أربعه، وللجيش

المحافظ ست سنوات، ولا يُقبل في الخدمة العسكرية سوى المسلمين من رعايا

الدولة، وأما غير المسلمين فحق أداء الخدمة العسكرية يستعاض عنه برسم يدفعونه

يُسمى البدل العسكري، فكل ذَكَر من الرعايا العثمانيين غير المسلمين يدفع مسانهة

من حين ولادته هذا الرسم المسمى ضريبة الدم، وهذه الضريبة تجبيها كل طائفة

على حدتها، وتدفعها مسانهة للخزينة.

قد قرر قانون تشكيل القرعة العسكرية الصادر في سنة 1889م وجوب تأدية

الخدمة العسكرية على كل مسلم في المملكة العثمانية واستثنى من ذلك سكان العاصمة؛

بسبب وجود امتيازات قديمة لهم، وثلاثة أصناف لا تحسب من الجيش وهي

(1)

رجال الشرطة في العاصمة والولايات و (2) الجنود غير المنتظمة و (3)

ما يلزم تقديمه من العساكر على خديوي مصر. حدد سن القرعة من سنة 1886م

بواحد وعشرين سنة وحدد من يلزم اقتراعهم في السنة بعدد بين الخمسين والستين

ألفًا، القسم الذي لا يطلب من المقترعين لأداء الخدمة متجزئ جزئين، أحدهما:

يحسب في صف الجنود، ويلزمه أن يبقى تحت التعليم العسكري في كل سنة من شهر إلى ستة، بل إلى تسعة شهور بحسب درجة أهمية المكان الذي يقيم فيه العساكر

المؤلفون له، وثانيهما: لا يلزم بالتعليم إلا مرة في الأسبوع يوم الجمعة بعد الصلاة.

في زمن الحرب نرى في تحريك الجيش هذه الأعداد وهي:

(أ) 350000 من الجيش العامل بقسميه النظامي والمأذون. (ب) 450000

من الجيش الاحتياطي (الرديف) . (ت) 200000 من الجيش المحافظ، فترى

أن الجيش في زمن الحرب يبلغ نحو مليون مع 1512 مدفعًا سهليًّا، و330 مدفعًا

جبليًّا، وجميع القوى العسكرية للمملكة العثمانية منقسمة إلى فيالق، يرأس كل فليق

منها مشير أو قائد فرقة (فريق) ويدير مجلس التعليمات العسكرية بكل فليق

(أركان حرب) نظام الحركات العسكرية، أما مجلس الشعبة لكل فيلق فعليه النظر

في الأمور الإدارية.

وعدد الفيالق المذكورة سبعة، مراكز إداراتها في هذه الجهات هي،

القسطنطينية: فيها الفيلق الأول وهو فيلق الحرس الشاهاني. أدرنه: فيها الفيلق

الثاني. موناستير: فيها الفيلق الثالث. أزرنجان فيها الفيلق الرابع. دمشق: فيها

الفيلق الخامس. بغداد فيها الفيلق السادس. اليمن: فيها الفيلق السابع.

ويلزم أن يضاف على هذه الفيالق الفرقة العسكرية في طرابلس الغرب وفرقة

الحجاز.

نظارة الحربية أو السر عسكرية هي تحت أوامر جلالة السلطان الذي هو

رئيس الجند، وهو يديره ويراقبه بمساعدة المجلس الحربي الأعلى المسمى بدار

الشورى العسكرية، وهذا المجلس يتشكل من مشير وستة قواد فرق، وبمساعدة

مجلس الطوبجية المسمى بمجلس الطوبخانة العامرة، ولما كان رئيس الطوبجية معينًا

من قبل جلالة السلطان، ومتعلقة أعماله بجلالته وبنظارة الحربية بلا واسطة -

كان له بطبيعة وظيفته التي تجعل له اليد العليا على الطوبجية والمهندسين من

الاختصاصات ما يكاد يساوي في درجة أهميته اختصاصات ناظر الحربية.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 414

الكاتب: محمد رشيد رضا

خوارق العادات

والخلاف في الكرامات

عرَّف الجمهور الكرامة بأنها الأمر الخارق للعادة يظهر على يد العبد الصالح،

وهو مَن يقوم بحقوق الله تعالى وحقوق العباد، والأمر الخارق للعادة إما أن يكون

خرقه لها بمجيئه على خلاف سنن الكون المعروفة ونقيض ما تقتضيه، أو بكونه لم

تعرف له سنة طبيعية يندرج فيها، وإن كان في الواقع ونفس الأمر مندرجًا تحت

ناموس طبيعي غير معروف عند كافة الناس، مثال الأول العلم والتهذيب اللذين كان

عليهما نبينا عليه الصلاة والسلام مع كونه لم يتعلم ولم يتربَّ، وكانت نشأته في قوم

هم أبعد الناس عن العلوم التي جاء بها، كعلم التوحيد وعلم الشرائع وعلم الاجتماع

والسياسة المدنية والحربية، ومنه إحياء الموتى لسيدنا عيسى وعصا سيدنا موسى

عليهما الصلاة والسلام، ومثال الثاني المكاشفات ومعرفة بعض الأمور قبل وقوعها؛

فإن للنفوس البشرية والأرواح الإنسانية استعدادًا لهذا الأمر، ولله تعالى فيه سنة

روحية مخصوصة كسائر السنن الكونية، ولكن هذه السُّنَّة لم تزل من الأمور

الغامضة التي لم يهتد إليها أكثر الناس، وإن كثيرًا ممن كان لهم نصيب من الكشف

ومعرفة بعض ما يجيء به الغد لم يعرفوا حقيقة السبب في كشفهم، وأنه هو ما

اشتغلوا به زمنًا من تصفية الباطن وتقوية سلطان الروح بحيث يقدر صاحبه على

صرفه من عالم الحس وشواغل الجسد المتشعبة الكثيرة وتوجيهه إلى أمر واحد،

وإن من خواص الروح أن ينطبع في مرآته ما يتوجه إليه هذا النوع من التوجه.

وقد عرف هذه السنة الإلهية بعض الناس، ولكن طريقها لم يزل مشتبه

الأعلام، قاتم الأعماق، لا يستطيع قطعه كل سالك، وربما يجيء يوم ينجلي فيه

قتامه، وتظهر فيه أعلامه، فيذهب الالتباس، ويسهل سلوكه على أكثر الناس، وقد

بينَّا كون ما جاء به نبينا من العلم خارقًا للعادة في كتابنا (الحكمة الشرعية) عند

الكلام على معجزة القرآن العظيم، فنورده هنا إتمامًا للفائدة، وهو:

القرآن هو أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وإعجازه ليس مقصورًا

على أسلوبه البديع، وارتقائه أسمى درج البلاغة، وعلى إخباره بالمغيبات المستقبلة،

وسرده قصص الماضين من غير اطلاع عليها، بل فيما اشتمل عليه من العلوم

والمعارف في تهذيب البشر وبيان مصالحهم في أمور معاشهم ومعادهم - أعظم خارق

لحجب العوائد، لا سيما بالنسبة لمن ظهر على يديه، وإلى ذلك أشار البوصيري

رحمه الله تعالى بقوله:

كفاك بالعلم في الأميّ معجزة

في الجاهلية والتأديب في اليتم

وبيان ذلك أنه قد جرت عادة الله تعالى في خلقه بأن العلم لا يحصل للإنسان

إلا بالتعلم، لا سيما العلم الذي يتعلق برعاية الأمم؛ فإن القائم به يحتاج لمعرفة

أحوال البشر في بداوتهم وحضارتهم، واختلاف شؤون الشعوب في مذاهبهم

وعوائدهم، ويتوقف هذا على الوقوف على سير الأولين والحاضرين، مع دقة

النظر في موارد الأشياء ومصادرها، وعلل الحوادث في صعودها وهبوطها،

وغير ذلك من أحوال طبيعة العمران البشري، وإننا نرى المُبرّزين في علم

الاجتماع ومعرفة طبيعة العمران البشري وشرائع الأمم من أهل هذا العصر ما بلغوا

مبلغهم من العلم إلا بالنظر في معارف المتقدمين عليهم وضمها إلى ما اختبروه

بأنفسهم واستنبطوه من نظرهم وتجربتهم، وهم مع هذا كله عاجزون عن الإتيان

بقانون كافٍ وافٍ يضبط مصالح البشر في معاملاتهم فحسب، بل نراهم مع أخذهم

ببعض ما استنبطه علماء الإسلام من القرآن العزيز والسنة النبوية لا يستقيمون على

قانون مدة من الزمان إلا ويرجعون عن كثير من أحكامه ومسائله، ويستبدلون بها

غيرها مما يظهر لهم أنها خير منها، ولو أخذوا بأصول الشريعة الإسلامية وراعوا

قواعدها العامة لوجدوا فيها ما يطلبون، ونالوا منها ما يرغبون. وإن كان كثير من

أهلها عن ذلك غافلون.

فهل من المعهود في البشر والمألوف من عادهم أن يأتي بمثل هذه الشريعة أو

بما هو دونها رجل أمي نشأ وتربى بين الأميين، فلم يقرأ شيئًا من العلم على أحد

من الناس، ولا اطلع على سير الأمم السالفين؟ وقد أشار القرآن إلى ذلك فيما

تحدى به الناس بقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: 23) بناء على

أن المراد بالمِثل: النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد تقرير المعجزة على أكمل وجه، وإلا فقد عجز عن الإتيان بالسورة القارئون والكاتبون، والناس كلهم

أجمعون.

فإن قلت: أراك قد جعلت القرآن هو الأصل في أحكام الشريعة كلها، وهو إن

كان مبينًا لجميع ما يجب اعتقاده في الدين ولأصول التهذيب، فليس مبينًا لجميع

أحكام العبادات والمعاملات التي تدور عليها مصالح البشر، بل أكثر هذين القسمين

قد أخذ من السنة واستنباط الأئمة، أقول في جوابك: إن القرآن أصل السنة وينبوع

الاستنباط، وإليه يرجع الدين كله، وجميع ما فاض على لسان النبي صلى الله عليه

وسلم مستمد منه، وكل هاتيك الأنوار العلمية مقتبسة من شمسه المضيئة، ولقد كان

يفهم منه مالا يفهمه سواه، ولا ريب أن له طريقًا في الأخذ منه غير الطرق

المعروفة عند العلماء، وهو فيها على بينة من ربه، ومعصوم من الخطأ في الفهم

والأداء لها، قال تعالى: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ

اللَّهُ} (النساء: 105) وقال تعالى {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ

يُوحَى} (النجم: 3-4) وربما كان ذلك الطريق هو الإلهام، وهو غير تعليم

الملَك المعروف، وقد صرح الأئمة وأهل الأصول بأن السنة مبينة للقرآن وشارحه

له، وقد انتهر سيدنا عمر رضي الله عنه مَن تكلم في حضرته كلامًا رغب فيه عن

سماع السنة اكتفاءً بالقرآن، واستبان منه معرفة الصلوات الخمس من القرآن، فكان

جوابه العي والحصر، وإذا تسنَّى لفهمه تناول كونها خمسًا من نحو قوله تعالى:

{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ} (الإسراء: 78)

ومن قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ

وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (الروم: 17-18) فمن أين يتسنى له معرفة

كون الصبح ركعتين، والمغرب ثلاثًا والباقيات أربعًا أربعًا؟ وقد أرشد القرآن

إلى اتباع الرسول، واتباع سبيل المؤمنين، وإلى استنباط أولي العلم، وهذه هي

القواعد الثلاث التي يتفرع منها كل ما لم يؤخذ مباشرة من القرآن من أحكام الدين،

وظاهره أن المراد بسبيل المؤمنين هو ما يتفق أهل الاجتهاد والنظر الصحيح منهم

على أن فيه مصلحة أو درء مفسدة، وهو المسمى في الاصطلاح الأصولي

بالإجماع، وللعلماء في الاستنباط من القرآن طرقًا دقيقة المسلك، مَن تأمل فيها لم

يستبعد رجوع أمهات الأحكام إليه بلا واسطة، وذلك كاستنباطهم قاعدة (إن وكيل

الوكيل بإذن الموكل وكيل للموكل لا ينعزل بعزل الوكيل) من قوله تعالى في أهل

القرية: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} (يس: 14) حيث أسند تعالى الإرسال إليه،

وإنما كان من سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام بإذنه.

ومَن تأمل ما يتبع هذه القاعدة المستنبطة من هذه الآية من الأحكام، وما تفرع

عنها من المسائل التي لم تكن تخطر -عند تلاوتها- بالبال لم يستبعد كون جميع

الشريعة راجعة إلى القرآن، وكون السنة مستمدة من بحر كتاب الله الذي لم يفرط

فيه من شيء يتعلق بمهمات الدين، لا سيما بعد العلم بأن لمن أنزل عليه فهم خاص

بمراد الله منه، والله بكل شيء عليم. اهـ باختصار.

ولا ريب أن معجزة العلم من الأمي في مجموع الكتاب والسنة أظهر منها في

الكتاب وحده، سواء كانت السنة مبينة للكتاب فحسب، أم كان فيها مع البيان زيادة

علم سكت عنه القرآن إثباتًا ونفيًا، تفصيلاً وإجمالاً، بحيث لا يستند إليه إلا بالأمر

العام بطاعة الرسول واتباعه.

أما الخلاف في جواز الكرامات ووقوعها، فليس من أصول الدين وقواعده

الاعتقادية، ولذلك لم يكفر العلماء الأئمة من أنكرها، وهم المعتزلة والأستاذ أبو

إسحاق الإسفرايني والعلامة الحليمي من أكابر علماء أهل السنة، قال في (المواقف)

وشرحه ما نصه:

(المقصد التاسع: في كرامات الأولياء وأنها جائزة عندنا خلافًا لمن منع

جواز الخوارق (واقعة خلافًا للأستاذ أبي إسحاق والحليمي منا، وغير أبي الحسين

من المعتزلة) قال الإمام الرازي في الأربعين: المعتزلة ينكرون كرامات الأولياء

ووافقهم الأستاذ أبو إسحاق منا، وأكثر أصحابنا يثبتونها، وبه قال أبو الحسين

البصري من المعتزلة. اهـ ملخصًا بحروفه.

وأما حجج المنكرين فهي خمس أوردها التاج السبكي في الطبقات الكبرى

وأجاب عنها، واستدل بعد ذلك على الإثبات بحجج خمس ترجع إلى اثنتين،

وسنبين ذلك في العدد الآتي، إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 417

الكاتب: أبو حامد الغزالي

‌حقوق الأخوة

(4)

ومن حق الأخ على أخيه وصديقه في اللسان أن يسكت عن إفشاء سره الذي

استودعه إياه، وله أن ينكره وإن كان كاذبًا، فليس الصدق واجبًا في كل مقام، فإنه

كما يجوز للرجل أن يخفي عيوب نفسه وأسراره وإن احتاج إلى الكذب، فله أن

يفعل ذلك في حق أخيه [1] فإن أخاه نازل منزلته، وهما شخص واحد لا يختلفان إلا

بالبدن، هذه حقيقة الأخوة، وكذلك لا يكون بالعمل بين يديه مرائيًا وخارجًا عن

أعمال السر إلى أعمال العلانية، فإن معرفة أخيه لعمله كمعرفته بنفسه من غير فرق،

وقد قال عليه السلام: من ستر عورة أخيه ستره الله في الدنيا والآخرة [2] وفي

خبر آخر: فكأنما أحيا موءودة. رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، وقال عليه

السلام: إذا حدّث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة [3] . وقال: المجالس بالأمانة إلا

ثلاثة مجالس: مجلس يسفك فيه دم حرام، ومجلس يستحل فيه فرج حرام،

ومجلس يستحل فيه مال من غير حله [4] . وقال صلى الله عليه وسلم: المتجالسان

بالأمانة ولا يحل لأحدهما أن يفشي على الآخر ما يكره (هو مرفوعًا ضعيف،

مرسلاً جيد) وقيل لبعض الأدباء: كيف حفظك للسر؟ قال: أنا قبره، وقد قيل:

(صدورالأحرار قبور الأسرار)، وقيل: إن قلب الأحمق في فيهِ، ولسان العاقل

في قلبه، أي لا يستطيع الأحمق إخفاء ما في نفسه فيبديه من حيث لا يدري،

فمن ههنا يجب مقاطعة الحمقى والتوقي عن صحبتهم، بل عن مشاهدتهم. وقد قيل

لآخر: كيف تحفظ السر؟ قال: أجحد المخبر وأحلف للمستخبر، وقال

آخر: أستره، وأستر أني أستره، وعَبَّر عنه ابن المعتز فقال:

ومستودعي سرًّا تبوأت كتمه

فأودعته صدري فكان له قبرًا

وقال آخر وأراد الزيادة عليه:

وما السر في قلبي كثاوٍ بقبره

فإني أرى المقبور ينتظر النشرا

ولكنني أنساه حتى كأنني

بما كان منه لم أُحط ساعة خُبرا

ولو جاز كتم السر بيني وبينه

عن السر والأحشاء لم أعلم السرا

وأفشى بعضهم سرًّا له إلى أخيه ثم قال له: حفظت؟ فقال: بل نسيت، وكان

أبو سعيد الثوري يقول: إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه، ثم دس عليه من

يسأله عنك وعن أسرارك، فإن قال خيرًا أو كتم سرك فاصحبه، وقيل لأبي يزيد:

مَن أصحبُ مِن الناس؟ قال: مَن يعلم مِنك كما يعلم الله، ثم يستر عليك كما يستر

الله. وقال ذو النون: لا خير في صحبة من لا يحب أن يراك إلا معصومًا، ومن

أفشى السر عند الغضب فهو اللئيم؛ لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة

كلها، وقال بعض الحكماء: لا تصحب مَن يتغير عليك عند أربع: عند غضبه

ورضاه، وعند طمعه وهواه، بل ينبغي أن يكون صدق الأخوة ثابتًا على

اختلاف هذه الأحوال، ولذلك قيل:

وترى الكريم إذا تصرم وصله

يُخفي القبيح ويُظهر الإحسانا

وترى اللئيم إذا تقضى وصله

يُخفي الجميل ويُظهر البهتانا

وقال العباس لابنه عبد الله: إني أرى هذا الرجل (يعني عمر) يقدمك على

الأشياخ، فاحفظ عني خمسًا: لا تفشين له سرًّا، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا يجربن

عليك كذبًا، ولا تعصين له أمرًا، ولا يطلعن منك على خيانة، فقال الشعبي: كل

كلمة من هذه الخمس خير من ألف.

ومن ذلك السكوت عن المماراة والمدافعة في كل ما يتكلم به أخوك، قال ابن

عباس: لا تُمارِ سفيهًا فيؤذيك، ولا حليمًا فيقليك، وقال صلى الله عليه وسلم: (من

ترك المراء وهو مبطل بنى الله له بيتًا في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو

محق بنى الله له بيتًا في أعلى الجنة) (حسنه الترمذي) هذا مع أن تركه مبطلاً

واجب، وقد جعل ثواب النفل أعظم؛ لأن السكوت على الحق أشد على النفس من

السكوت على الباطل، وإنما الأجر على قدر النصب، وأشد الأسباب لإثارة نار

الحقد بين الإخوان المماراة والمناقشة؛ فإنها عين التدابر والتقاطع، فإن التناطع يقع

أولاً بالآراء، ثم بالأقوال، ثم بالأبدان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا تدابروا،

ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو

المسلم، لا يظلمه، ولا يحرمه، ولا يخذله، بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه

المسلم [5] . وأشد الاحتقار المماراة، فإن من رد على غيره كلامه فقد نسبه إلى الجهل

والحمق، أو إلى الغفلة والسهو عن فهم الشيء على ما هو عليه، وكل ذلك استحقار

وإيغار للصدر وإيحاش، وفي حديث أبي أمامة الباهلي قال: خرج علينا رسول الله

صلى الله عليه وسلم ونحن نتمارى، فغضب وقال: ذروا المراء لقلة خيره،

وذروا المراء فإن نفعه قليل، وإنه يهيج العداوة بين الإخوان [6] . وقال بعض السلف:

مَن لاحى (خاصم) الإخوان وماراهم، قلَّت مروءته وذهبت كرامته وقال عبد الله

بن الحسن: إياك ومماراة الرجال، فإنك لن تعدم مكر حليم، أو مفاجأة لئيم، وقال

بعض السلف: أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من

ظفر به منهم، وكثرة المماراة توجب التضييع والقطيعة وتورث العداوة، وقد قال

الحسن: لا تَشْتَرِ عداوة رجل بمودة ألف رجل.

وعلى الجملة: فلا باعث على المماراة إلا إظهار التمييز بمزيد العقل والفضل

واحتقار المردود عليه بإظهار جهله، وهذا يشتمل على التكبر والاحتقار، والإيذاء

والشتم بالحمق والجهل [7] ولا معنى للمعاداة إلا هذا، فكيف تضامَّه الأخوة

والمصافاة، فقد روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمارِ أخاك

ولا تمازحه، ولا تعده موعدًا فتخلفه (رواه الترمذي بسند ضعيف) وقال عليه

السلام إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بَسطَُ وَجهٍ وحُسْنُ خُلُقٍ

(حسنه أبو يعلى، وصححه الحاكم، وضعفه ابن عدي) وقد انتهى السلف

في الحذر من المماراة، والحض على المساعدة إلى حد لم يروا السؤال أيضًا،

وقالوا: إذا قلت لأخيك: قم، فقال: إلى أين؟ فلا تصحبه، وقالوا: بل ينبغي أن

يقوم ولا يسأل، وقال أبو سليمان الداراني: كان لي أخ بالعراق فكنت أجيئه في

النوائب، فأقول: أعطني من مالك، فكان يلقي إليّ كيسه فآخذ منه ما أريد، فجئته

ذات يوم، فقلت: أحتاج إلى شيء، فقال: كم تريد؟ فخرجت حلاوة إخائه من قلبي،

وقال آخر: إذا طلبت من أخيك مالاً، فقال: ماذا تصنع به؟ فقد ترك حق الإخاء،

واعلم أن قِوام الأخوة بالموافقة في الكلام والفعل والشفقة، قال أبو عثمان الحيري:

موافقة الإخوان خير من الشفقة عليهم، وهو كما قال. اهـ بتصرف

نقول: إن بُعدنا عن أخلاق ديننا وآدابه، صَيَّر سيرة سلفِنا في نظرنا من

الأعاجيب التي لا تكاد تصدق، وأين الذين يُنسَبون للإسلام اليوم؟ وأحدهم يعادي

أخاه في النسب، بل يقتل الأم والأب لأجل قليل من الحُطام - من أولئك الذين كانت

(الجامعة الإسلامية) كافية عندهم لأن يلقي أحدهم كيسه للآخر يأخذ منه ما شاء،

فلنرجع إلى الآداب، ولنُرَبِّ أولادنا عليها؛ يرجع إلينا مجد آبائنا الأولين، وإلا فإن

الأماني ودعوى الإسلام لا تغني عنا شيئًا، والسلام.

_________

(1)

الكذب مفسدة من أضر المفاسد، والقاعدة الشرعية العقلية هي:(ارتكاب أخف الضررين عند تعارضهما) ومهما وجد إلى كتمان السر سبيلاً لا كذب فيه، وجب عليه سلوكه وحرم عليه الكذب.

(2)

الحديث في الصحيحين بلفظ (من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة) ورواه غيرهما بألفاظ أخرى.

(3)

أي التفاته بمنزلة استكتامه قولاً، والحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي، واختلف في تصحيحه.

(4)

رواه أبو داود وسكت عليه؛ فدل ذلك على حسنه عنده، وقال غيره: في سنده مجهول ومتكلم فيه.

(5)

تقدم بعض هذا الحديث في نبذة الجزء الماضي بلفظ آخر، وكل رواياته في الصحاح.

(6)

رواه الطبراني والديلمي وإسناده ضعيف.

(7)

وهذا هو الفرق بين المماراة وبين المذاكرة بالحسنى ومراجعة القول لإظهار الحقيقة والاعتقاد بالإنصاف، وكل هذا من الفضائل التي لا يعرف قيمتها ويقدرها قدرها إلا الفضلاء، وقد قلت في أحد أخوافي أوحدهم من قصيدة طويلة:

يرنو بعين الانتقاد إن رأى

صفا وإلا فبعيني الرضى

متى رأى فضلاً أذاع وروى

وإن رأى ميلاًًً أجنّ وطوى

إن الذي يرضيه كل خلق

منك خليق أن يعد في العدا

والخل من ينتقد الخلال كي

يثني على الحسنى وينكر الفغا

بل هو مرآة يريك نورها

منكسًا عنك الذي لست ترى.

ص: 422

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الوثنية في الإسلام

جاءنا الكتاب الآتي من حضره الرحالة الشهير، والكاتب الفاضل السيد سيف

الدين اليمني نزيل سنكافور لهذا العهد فنشرناه برمته؛ لأن فيه عبرة لمن يعتبر،

وذكرى لمن يذَّكر وهو.

قال بعد رسوم المخاطبة:

السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، ولا زلتم في نعيم مقيم، لم أزل

كثير الإعجاب بما ترقمونه على صفحات (المنار) من النصائح المرشدة للمنهج

السوي والطريقة المثلى، وما توردونه من الحجج القاطعة الدامغة لشبه الملاحدة

المدلسين، أو الجهلة المغفلين وما جاءوا به مضادًّا للشريعة السمحاء من عند أنفسهم،

فإنهم استخدموا دقائق الحيل في هدم قواعد الإسلام {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التوبة: 30) حتى لقد أوهموا ضعاف العقول أنهم يحيون ويميتون، ويخلقون

ويرزقون، ولقد رأيت من بعض من تجله العوام أمورًا مضحكة يتلقاها عنه أقوام

من الأغبياء الأغنياء بالقبول على أنها شطحات من الكرامات، وأمور من وراء

طور العقول إلى غير ذلك مما يضيق نطاق الشرح عنه، وقد نشطني لرقم هذه

الكلمات الركيكة ما رأيته في جريدة المعلومات في أعدادها الأخيرة مما يصلح أن

يكون صدًا لما في (المنار) وهو نغمة جديدة ومظهر لم نعهده من تلك الجريدة.

فلنبتهل إلى المولى أن يجعل التوفيق لنا خير رفيق، ويكفينا جميعًا شر من يتعيشون

بترويج الترهات، وشر أنفسنا، وشر كل ذي شر، بمنّه وكرمه. على أن ما أشارت

إليه تلك الجريدة من شأن الموالد ليس أول مطر أصاب ذئب الفلاة. ولا أول أذان

أقيمت عليه الصلاة، وأن أمر البدع في الموالد والزيارات ومواسمها لخطب جلل،

سيما في البلاد الهندية، وعلى كثير من القبور وعلى سدنتها بالهند سيَّما بالممالك

الإسلامية أوقاف عظيمة تذهب غلتها الجسيمة طعمة لطغام مضرين للأنام، ولو

صرف ذلك في مدارس نافعة لكان فيه سداد من عوز، وقد شافهت بهذا الأمر

حضرة وقار الأمراء بهادر كبير وزراء الدولة النظامية بالهند، فلم يصادف قولي

قبولاً، ولقد جارى جهالُ مسلمي الهند مشركيها في كثير من العوائد الخسيسة،

فتراهم يسجدون للقبور وللدجالين كما يسجد مواطنوهم للأصنام، وقد شاهدت هذا

الأمر من عدد وفير وجم غفير، وأنكرت عليهم، فما كان جوابهم لي إلا قولهم:

ذلك وهابي ذو جدل، وقد رأيت بعض من يسمونه عالمًا يعتذر لهم ويقول: إنهم لم

يقصدوا السجود وإنما قصدوا تعفير الجباه ولثم التراب و

ومن عجيب ما رأيت

أني دخلت على رجل من مشايخ الطريق عندهم له جاه وصيت عظيم، وقد صف

تلامذته بحذائه، وكان منهم رجل لي معه بعض معرفة، وكنت أظن صلاحه، فما

هو إلا أن خروا لشيخهم ساجدين، فخرجت من عندهم مهرولاً محوقلاً، ولما لقيني

صاحبي عذلته على فعلته، فكان من جوابه قوله: إن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم

لسرٍّ هو بعينه الآن موجود في الشيخ، وقد علمنا ذلك بالذوق، فنحن نسجد له كما

سجد الملائكة لآدم لئلا نطرد كما طرد إبليس، أما مَن يعتقد منهم وحدة الوجود

والإباحة إلى غير ذلك فهم كثير، وليس اعتقاد إحدى الطائفتين ببعيد من اعتقاد

الأخرى، أي أهل الأصنام وأرباب الضريح.

وفي شرقي الهند أي ما بين مدراس ومليبار كثير من المشاهد، وهي عبارة عن

بناء يبنونه على اسم شخص مشهور، ثم يزورونه ويقيمون له سدنة، وينذرون له،

ويعملون له موسمًا، ويبنون له هيكلاً من خشب مزخرف على نحو هياكل

الأصنام، ثم يطوفون به وقت الموسم بالنيران والزمر والطبول، كما يطوف

المشركون بأصنامهم حذو النعل بالنعل، وبسنقافور منها بعض أبنية، ويسجدون لها،

ويوقدون عليها السرج ليلاً ونهارًا كما يفعل الوثنيون، وترى المعظَّم عندهم من

يختلق لهم رؤيا كاذبة في شأن تلك المشاهد، ويكثر الاعتكاف عندها،

ويحرضهم على ما هم فيه، نعوذ بالله من ذلك.

ولما وصلت بلد ناقور الكائنة بين ناقفتام وكاريكال الفرنساوية (محل بشرقي

الهند) وجدت هناك مسجدًا كبيرًا يقيم به طوائف من أهل الكسل بجوار قبر شخص

يسمونه شاه الحميد - إن سمح لي الزمان شرحت لكم شيء من أخباره - وقد

أوقدوا على ذلك القبر سرجًا كثيرة عديدة نهارًا، وبقربه رجال ونساء كثير بين

راكع وساجد، بعضهم من جهلة المسلمين، وبعضهم وثنيون، والسدنة يمسحونهم

بالدهن من تلك السرج، وينفضون على رؤوسهم ووجوههم الغبار بالمكانس التي

يكنسون بها ذلك المكان، فوقفت على مقربة من أولئك القيام، فأتى إليّ أحد السدنة

ليوسخ ثيابي بالدهن، فزجرته، فقال لي: ألست زائرًا؟ قلت: لا، بل متفرج،

فقال لي: ما مذهبك؟ قلت: الإسلام، فهز رأسه وقال: وهابي، وكان ناظر ذلك

المسجد قريبًا، فبصر بي وبنكوص السادن عني، فجاء واستفهم منه، وكان الرئيس

يحسن من العربية مقدار ما أحسن من الهندية، فاستفهمني فأخبرته أن ما يعملون

مضاد للشريعة السمحة، فأخذ بيدي وقال لي: افقه، ليس المقصود إلا جمع

الربيات، وبما ترى من الوسائط نستغل سنويًّا أكثر من مائة ألف روبية، وما

نبالي بما هدمنا إذا حصلنا

وأمثال هذا كثير، والمحذر معدوم خوفًا من نفرة العوام، أو لأجل حظ من

الحطام، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

في 15 ربيع أول سنة 1317هـ

_________

ص: 425

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقسيم أوربا الجديد

ذكرت (الحاضرة) الغرَّاء تحت هذا العنوان عن بعض الجرائد الأوروبية أن

سفير ألمانيا في باريز ذاكر الموسيو دلكاسة ناظر خارجية فرنسا بأن الإمبراطور

غليوم يرى أن الخطر الذي يتهدد السلم إنما يجيء من طمع إنكلترا وربما تتبعها

الولايات المتحدة، ثم قال: وظهر للإمبراطور أنه لا بد في إلزام إنكلترا باحترام بقية

الملل، وكفالة السلم من إجراء تقييم جديد للممالك الأوربية على قاعدة معقولة

المعنى، وهي أن تفسخ المحالفة الثلاثية وتمحى من لوح الوجود، وتتآلف الدول

على أساس طبيعي بحسب جنسيتها الأصلية، بين صقالبة وألمان ولاتين، فيكون

جميع شعوب الصقالبة تحت حكم دولة واحدة من جنسهم، وهكذا الألمان واللاتينيون،

ويكون فسخ عقدة التحالف الثلاثي في مدة غير بعيدة، نهايتها انتقال الإمبراطور

فرنسو جوزف إمبراطور النمسا بالموت، حيث توالت عليه المصائب، وطعن في

السن، وحينئذ ينتقض ملك النمسا والمجر حيث كانت هذه السلطنة مؤلفة من

عناصر شتى، مختلفي الأجناس والمذاهب، لا يفترون عن معاركة بعضهم بعضًا،

ويتم ذلك التقويض لملك النمسا بدون إزعاج، فتنخرط مملكة النمسا والولايات التي

سكانها من الألمان في سلك الممالك الجرمانية المتحدة وتضاف لها مملكة هولندا

والولايات الفلمنكية التابعة لمملكة البلجيك فتُمْحى دولتا هولندا والبلجيك من لوح

الوجود، وتستقل الروسية بجميع مملكة بولونيا ومملكة ترانسيلوانية وبوكوين، ثم

تستولي على الجبل الأسود فالصرب فرومانيا، وتستأثر فرنسا ببلاد والونيه

وولايات البلجيك التي سكانها يتكلمون باللسان الفرنسوي، كمداين لياج ومونس

وشارلروا وغيرها، وتتألف منها الممالك المتحدة اللاتينية بانضمام إيطاليا وأسبانيا

والبرتغال إليها، وبهذه الصورة تتألف ثلاث دول متحدة الجنس من الصقالبة والألمان

واللاتينيين، فتربطها روابط وثيقة العُرى قادرة بالتئامها على إلزام إنكلترا بحفظ

السلم.

قال الراوي: فلما أتم السفير كلامه، هتف جناب مسيو دلكاسي وزير خارجية

فرنسا قائلاً: ولكن ما القول في ولايتي الإلزاس واللورين، فأجابه السفير قائلاً:

إنني مأذون بأن أعلمكم أنه لما كان تشكيل الأمم وتقسيمها مؤسسًا على قاعدة الجنسية،

فلا يخطر ببالنا أن نرجع لكم الإلزاس، حيث كانت مملكة ألمانية يسكنها الألمان،

ولكن لكم ولاية اللورين، وتضيفون إليها مملكة لوكسانبورغ المتاخمة لولايات

البلجيك الفرنسوية، فتدخل في مشمولات حدودها طبعًا، ويرى متبوعي الأعظم أن

هذه المسألة من أدق المباحث التي شملها مشروعه، ولذلك لما كانت فرنسا حليفة

الروسية أراد أن تكون المذاكرة الأولى بباريز، ثم قال السفير: ويرى الإمبراطور

أنه لا يصعب إبراز هذا الغرض من القوة إلى الفعل بمجرد انتقال إمبراطور النمسا

كما هو في الحسبان، وبعد تأسيس دول أوروبا على هذا الأساس - أساس الوفاق

الصادق - يمكن إلغاء التجهيزات الحربية المهلكة مع إجراء الطرق السياسية

واستعمال قوة النفوذ في جميع أصقاع العالم سواء كان ذلك في آسيا أو في أفريقيا

لصد الأطماع وكبح الغوائل التي تظهر في الوجود؛ فيسود بذلك العدل، ويرتفع

شأن الحرية بين الأقوام، وتتوطد أركان السلم العام.

هذه خلاصة ما فاتح به سفيرُ ألمانيا جنابَ وزير خارجية فرنسا بالنيابة عن

متبوعه الإمبراطور، وعليه فيكون جناب مسيو دلكاسي قد توجه لعاصمة الروسية

على حين غفلة لمذاكرة رجال دولة القيصر حليف فرنسا في هذا الشأن، ويقال: إنه

وجد نفس جلالة القيصر مرتاحة كل الارتياح لموافقة ابن خالته إمبراطور ألمانيا في

هذا الرأي، وإن الدول الثلاث العظام يتذاكرون الآن في ما جادت به قريحة غليوم

الثاني من الرأي الخطير. اهـ

_________

ص: 428

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌نجاح الجمعيات الإسلامية

يسر كل مسلم وكل إنسان يحب الفضائل وترقي أبناء نوعه ما نالته جمعية

(شمس الإسلام) وجمعية (مكارم الأخلاق) من الترقي والانتشار، أما الأولى فقد

كان احتفالها الباهر بعيد جلوس مولانا السلطان الأعظم - نصره الله تعالى - سببًا

في زيادة الإقبال عليها وطيران صيتها، ومن توفيق الله تعالى لها على حداثة

نشأتها في هذه الديار أن حضرة الفاضل الشيخ محمد نور مؤسس المدرسة

التحضيرية المشهورة وأحد أعضاء الجمعية قد تنازل لها عن هذه المدرسة بجميع

أدواتها، وتلامذتها ثلاثمائة ونيف، فنقلت المدرسة من البغالة إلى محل الجمعية في

أول شارع درب الجماميز، وقد شرع أعضاء إدارتها ومنهم كاتب هذه السطور بتنظيم

شؤونها، وجعل التربية والتعليم فيها على منهاج الدين وسننه القويمة مع عدم

الإخلال بما يقتضيه سير المدارس الأميرية، وعزمت الجمعية على إنشاء مدرسة

أخرى لتعليم البنات، وكأنكم بالعمل قد ظهر وبهر بفضل الله وتوفيقه.

قد ساء هذا النجاح الباهر أعداء الإسلام من المارقين والطغام فحاولوا إطفاء

نور الله بأفواههم {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: 8) ، أشاع

أصحاب الجرائد الضلالية الذين تأبى النزاهة ذكر أسمائهم، أو أسماء

جرائدهم، أن الجمعية لا ترضي الحضرة السلطانية، فقالوا كذبًا وخلقوا إفكًا، وزعموا أنه قد كان ما لم يكن، وحسبنا أن الجم الغفير وفي مقدمتهم فضيلة شيخ

الأزهر وسعادة محافظ العاصمة يعلمون أن ما قيل كذب إن كان قد بلغهم، ويكفينا أن

(المؤيد) أصدق الجرائد في حب الدولة قد ذكر خبر الاحتفال كما شاهده

صاحبه الفاضل ونشر معظم خطبة منشئ هذه المجلة، وفيها الثناء على مولانا الخليفة

نثرًا ونظمًا، ولسنا نقصد بهذه الكلمات الرد على الجرائد الضلالية؛ لأنهم أقل من أن

يرد عليهم، ولكن نحب أن يعلموا أن الجمعية لم تحتفل بعيد الجلوس، وتجتهد في خدمة الأمة والملة لأجل جزاء تتوقعه من مولانا السلطان فيهمها سعايتهم

وأكاذيبهم، وإنما هي مندفعة إلى خدمة الملة بدافع الواجب الديني، وابتغاء مرضاة

الله تعالى.

وأما جمعية مكارم الأخلاق، فقد زرتها في اجتماعيها الأخيرين، وكنت شغلت

عن زيارتها طائفة من الزمن، وفي الاجتماع الأخير اقترح عليّ أن أخطب، فألقيت

خطبة ارتجالية في بيان ما يجب علينا أن نعمل، وهو تهذيب أنفسنا ونسائنا،

وتربية بناتنا وأبنائنا، وبينت ما يجب الأخذ به في ذلك، وأما الاجتماع الذي قبله

فقد افتتحه رئيس الجمعية المنطيق الذليق، واللسن المفوه بتلك الخطبة المؤثرة التي

يقابل فيها بين الشرقي والغربي، ويصف فيها المنكرات الشائعة وصفًا بليغًا، وهي

الخطبة التي كلما كررها الأستاذ تحلو في الأسماع، وترتاح لها الطباع، ثم تلاه

الأستاذ الواعظ، الشهير بالبراعة في التصوف الشيخ علي أبو النور الجربي،

فخطب خطبة مطولة، استغرقت نحو ساعة من الزمن، جاء فيها بضروب القول

في الوعظ والتذكير من حث وتنفير، وترغيب وترهيب، وتوحيد وأخلاق، وآداب

ورقاق، وأعطى الخطابة حقها من الإشارات والتمثيل، والمحاكاة والتخييل، حتى

أدهش الحاضرين، فنسأل الله تعالى الثبات ودوام الارتقاء لهذه الجمعيات؛ ليعم

نفعها إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 430

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(تابع الجيش العثماني)

قد اشتهرت عساكر المشاة العثمانية في كل زمان بقوة مقاومتها، وبشدة بأسها

في الهجوم على عدوها، فإذا هجمت عليه بأطراف الحراب كانت كصواعق آدمية

لا يتأتى دفع انصبابها إلا بقوةٍ تفوقها بكثير، وإذا دافعت عن حصن ترى العسكري

منها ملازمًا على الدوام لموقفه، كالصخرة ثباتًا ورسوخًا.

عدة العساكر المشاة العثمانية هي أبسط أنواع العدد وأكثرها نفعًا، فملابسها

هي مؤلفة من سترة وسراويل (بنطلون) ورباط الساق، وكلها باللون الأزرق القاتم

وطربوش، ويُستثنى منهم أورط الحرس الشاهاني؛ فإن لباسهم السترة الزواوية

(زواوة: قبيلة إفريقية تزيَّت بزيها الجنود الفرنساوية) والسراويل، ولا يمضي زمن

كبير حتى تتسلح المشاة ببنادق (موزر) ذات الطلقات السريعة التي قطر الواحدة

منها تسعة ملليمتر ونصف، والتي قررت الحكومة العثمانية في سنة 1887م

استعمالها بدلاً من بنادق (مرتيني هنري) وبنادق (رومنتون) التي كانت مستعملة إلى

ذلك الحين، وقد أبرمت الحكومة العثمانية مع شركة (موزر) اتفاقًا مُؤَدّاه تعهد هذه

الشركة بأن تورد لهذه الحكومة خمسمائة ألف بندقية من ذات الطلقات العديدة

للمشاة، واثنين وخمسين ألف منها للفرسان، وبدئ بتنفيذ هذا الاتفاق في سنة

1881م، وقد قاربت أقساط التسليم أن تتم.

إن الفرسان العثمانية تفوق كثيرًا الفرسان الأوروبية؛ بسبب أنها يمكن أخذها

من أمة معتادة من مهدها على ركوب الخيل، على حين أن هؤلاء العساكر في

أوروبا حيث يؤخذون من كل طبقة يكثر أخذهم من طبقات العمال والزراع كما

يؤخذون من الطبقات المعتادة على الركوب، ولما كانت الخدمة العسكرية للفرسان

أربع سنين لا ثلاثًا كما في فرنسا وألمانيا، كان في العساكر الفرسان العثمانية بسبب

طول مدة الخدمة مزايا لا ضرورة لإيضاحها؛ لأنها غنية عن ذلك، وقانون التعليم

العسكري وإن غير تغييرًا تامًا، الأحوال التي يجب أن تكون عليها تمرينات

الفرسان إلا أنه لم يقلل أهمية هذا القسم من الجيش بطريقة ما.

لم يبق موجب لاستعمال حشد الجيوش في ساحة القتال وللجهات الكبرى

للجيش برمته مع وجود البنادق ذات الطلقات السريعة والمدافع البعيدة المرمى، أما

الفرسان فهم عيون الجيش، وستاره الذي يختفي وراءه أثناء إجراء حركاته،

وحينئذ فاللازم في تشكيل الجيش تشكيلاً صحيحًا أن يكون فيه عدد عظيم من

الفرسان، وعدد الفرسان العثمانية خمسة وثلاثون آلايًا، كل منها مؤلف من خمس

أورط، وهذا العدد ربما ظهر للقارئ قليلاً بالنسبة لحالة تركيا الحربية، ولكن

جلالة السلطان قد وجد في حب رعاياه المخلصين لأوطانهم طريقة في مضاعفة هذا

العدد، بل في جعله ثلاثة أمثاله في زمن الحرب، وسلاح عساكر الفرسان العثمانية

يتركب من سيوف منحنية قليلاً، وبنادق صغيرة القطر، وبعض الآلايات لها رماح،

والمظنون أنها ستوزع على جميع العساكر الفرسان، وكسوة هؤلاء العساكر تتألف

من سترة بسيطة بصف واحد من الأزرار، وسراويل سنجابي اللون، ونعال

بروسيه، أما خيلهم فهي في الغالب من الجنس التركي الفارسي، أو العربي

الهجين (المختلط النسب) وهذه هي الخيل التي يغلب فيها القصر والضمور،

والمزاج العصبي، ومرونة السوق، والصبر على المشاق، وهي عظيمة الإدراك

والانقياد.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 431

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ماذا نعمل

؟

كثر الخوض في هذه الأيام في شؤون المسلمين والإسلام، فكتب في الجرائد

الكاتبون، وخطب في محافل الجمعيات الخاطبون، أما الجرائد فقد غلب على كل

منها ما يناسب وجهتها ويوافق مشارب ذويها، و (المنار) لم يختلف رأيه في هذه

الأثناء - أثناء خوض الجرائد في مباحث الجامعة الإسلامية - عن رأيه الأول الذي

قام يدعو إليه منذ أنشئ، وهو أنه لا يعود للإسلام مجده ويرجع إلى أهله عزهم إلا بتعميم التعليم الصحيح والتربية العملية على ما يرشد إليه هدي الدين الذي كان عليه السلف الصالح، وأن هذين الأمرين يتوقفان على أمور كثيرة منها إزالة

البدع، والرجوع إلى كتب الأئمة الأولين في اللغة والدين، والأخذ بكتب أهل هذا

العصر في العلوم الدنيوية، وقد بيّنا في السنة الماضية أن الإصلاح المطلوب لا بد

لتعميمه من وجود جمعية إسلامية عامة، يكون مقرها في مكة المكرمة، ولها شُعَب

في سائر البلاد الإسلامية، وبينا وظيفة هذه الجمعية وأعمالها، مبادئها وغايتها،

وقلنا: إن الرجاء فيها ضعيف الآن، ولكن لا بد أن توجد متى استعدت الأمة

لإيجادها، وزالت الموانع التي تحول دونه، ومن الأسف أن هذا الفكر قد لعب في

الأذهان، فتلاعبت به الخيالات حتى أبرزته في صورة غريبة، فطفق الكُتََََََّاب

يطلبون إنشاء مؤتمر إسلامي في الأستانة العلية، وزعموا أن مجد الإسلام وحياته

تناط بهذا المؤتمر، ولا يقول هذا القول إلا من انفصل عن عالم الوجود، فلم يعلم ما

يجوز وما لا يجوز، وزَجَّ بنفسه في عالم خيالي يجوّز المحال، ويصور نيل ما

لا ينال، ولا حاجة للاستدلال على أن إنشاء المؤتمر في الأستانة لا يكون، ولئن

كان فإنه يضر ولا ينفع، وإنما نقول شيئًا واحدًا، وهو أن سيدنا ومولانا السلطان

الأعظم لا يرضى بإنشاء هذا المؤتمر في عاصمته تحت رئاسته، ومما يصح أن

يستدل به على هذا عدم وجود دعوة جرائد الأستانة إليه واستحسانها له، مع علمها بما

كتبت الجرائد الأخرى فيه، وأسأل حضرة الكاتب الذي ما فتئ ينوّه به ويشيد، ويبدئ

القول ويعيد، أن يكتب مقالة في المسألة لإحدى جرائد الأستانة المعتبرة؛ ليعلم ما يكون من شأنها فيها.

وأما الجمعيات، فالمشهور منها في مصر ثنتان: جمعية (شمس الإسلام)

وجمعية (مكارم الأخلاق) وهناك جمعيات أخرى تقتضي حالها عدم التنويه بها،

فأما جمعية (شمس الإسلام) فقد ابتدأت بالتربية الصحيحة والتعليم القويم، فضمت

إليها المدرسة التحضيرية التي أسسها أحد أعضائها كما ذكرنا هذا من قبل، عهدت

إلى كاتب هذه السطور بقراءة درس ديني عام للأعضاء (انظر باب التربية

والتعليم) وأما جمعية (مكارم الأخلاق) فلم تزل وعظيّة محضة، يحشر إليها

الناس في كل ليلة جمعة يسمعون الخطب التي تشرح لهم مجد الإسلام الغابر،

وهوان أهله الحاضر، وتزجرهم عما فشا فيهم من الفواحش والمنكرات، وتحثهم

على عمل البر والمحافظة على الصلوات، لا يقال: إن هذه الأمور معلومة للجمهور،

فالكلام فيها لا يفيد غير التحبيذ لذي الفصاحة، والتأفف من صاحب العي والفهاهة،

فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وللخطابة شأن في نفوس السامعين، نعم لا مندوحة

لمن يتكلم في أدواء الإسلام عن شرح العلاج الحقيقي العام، وقول أولئك الخطباء:

عليكم بالاتحاد والإخاء، واعتصموا بالوفاق والوئام، واحذروا من التنازع والخصام،

وما أشبه هذه الأقوال التي يلوكها كل قوَّال هي كلمات مجملة، وفي نظر الجمهور

كالمهملة؛ لأنها لا ترشد إلى عمل معروف، ولا تهدي إلى الوقاية من مصارع

الحتوف.

ذكرت في (المنار) الذي قبل هذا أنني خطبت القوم في تلك الجمعية

خطبة في التربية، وما حملني على إجابة دعوة الداعي إلى الخطابة إلا أن أحد

الخطباء تكلم عن فساد الأمة، وأطنب في شرح حال الفحش وتهتك النساء في الشرق

بعد انتشار الغربيين في بلاده، ثم قال: وأما علاج هذا البلاء ودواء هذه الأدواء

فكلكم تعرفونه، والصواب أنهم إنما يعرفون الداء الذي شرحه؛ لأنهم هم المتلبسون

به كما قال، ولو عرفوا الدواء لعرفوا أن فيه سعادتهم، ومن عرف معرفة صحيحة

أن في شيء ما سعادة له، فإن إرادته تبعثه للعمل به طبعًا كما بيناه في مقالة

(تأثير العلم في العمل) وقد أحببت أن أكتب ملخص ما بقي في ذهني من تلك

الخطبة إجابة لطلب من استحسنها، وهو:

(أيها الإخوان، تكلم الخطباء الأفاضل في أمراضنا الروحية، وأدوائنا

الاجتماعية، فلم يدعوا مقالاً لقائل، ولا مجالاً لجائل، مثلوا الداء للأنظار حتى كاد

يحس، وصوَّروه حتى تخيلت أنه يلمس، فبقي علينا أن نتكلم في العلاج، ونشرع له

أقرب منهاج (أشرع الطريق: بيِّنه) وليس من قصدي الخطابة وإنما أحب أن أقول

كلمات ثلاث أبين بها ماذا يجب علينا أن نعمله لإرجاع مجدنا، أثار هذه الكلمات في

نفسي قول الخطيب الثاني: (كلكم تعرفون الدواء) وربما يكون قالها لتوجيه

نفوسكم للبحث في هذه المسألة المهمة، أو لعدم إيقاعكم في وهدة اليأس ولا أخاله

يعتقد أن علاج الأمم. يأخذه الكافة من أَمَم (قرب) يصاب أحدنا بوجع في

إصبعه، أو يخرج دمل في عضو من أعضائه، فيحار هو والناس في معالجته،

فماذا عسى أن يقال في معالجة أمة عظيمة يزيد عديدها عن الثلاثمائة مليون، وقد مر

عليها ثلاثة عشر قرنًا ونيف، وتبوأت كل أرض، وتكلمت بلغات كثيرة،

وحكمت من أمم ودول متعددة، وطرأ عليها من البدع والأهواء ما لم يطرأ على

سواها، فهل يقال: إن إرجاع مجدها إليها يعرفه كل أحد؟ كلا، إن علاج مثل هذه

الأمة أمر كبير لا يعرفه إلا الحكماء والراسخون في العلم، وقليل ما هم، كتبنا وكتب

الكاتبون، وقلنا وقال آخرون ، والبحث لم يزل في أوله، والجماهير لم تزل

تتخبط في دياجير الحيرة، وتهيم في أودية المشكلات، يقال لكم: عليكم بالإخاء،

عليكم بالاتحاد، وما أشبه هاتا، وهذا كلام إجمالي يخرج كل سامع له غير عالم بما

يُطلب منه، وما يجب أن يأخذ به، ولهذا أحببت أن أختصر القول بثلاث كلمات

ليعيها الواعون، ويعمل بها الموفقون، وهن بيان ما لما أجمله الخطباء والكتاب في

قولهم: إننا لا يرجع إلينا مجدنا إلا بالدين.

الكلمة الأولى: كيف نربي أنفسنا تربية دينية صحيحة؟ والثانية: كيف نربي

نساءنا؟ والثالثة: كيف نربي أولادنا؟ فهذه هي الفرق التي تتألف منها الأمة.

تربية الكبير أمر عسير جدًّا؛ لأن مناشئ العمل من العقائد والأخلاق والصفات

تكون راسخة فيه بالعمل يصعب اقتلاعها وانتزاعها، وبيان هذا أن الإنسان إذا

عمل عملاً يحدث لعمله أثر مخصوص في مركز مخصوص من دماغه، وكلما أعاد

العمل يقوى الأثر حتى يصير المركز العصبي هو الذي ينبه لذلك العمل ويزعج

الأعضاء لفعله كلما جاء وقته، أو عرض سببه، فيندفع الإنسان لفعله بلا رويّة ولا

تكلف، وهذا هو الذي يسمى الخُلُق والمَلَكة.

ثبت هذا التدقيق في الفلسفة الجديدة، ويشير إليه الناس بقولهم: العادة طبيعة

خامسة، الأعمال هي التي تطبع الملكات والأخلاق في النفوس، والأعمال التي

يندفع إليها المرء بطبيعته من غير تكلف إنما تنبعث عن الملكات والاعتقادات

الراسخة الممتزجة بالنفس، وهي التي عليها مدار السعادة والشقاء، لولا أن الإنسان

خُلِق قادرًا على التكلف بالعمل على خلاف ما يقتضيه خلقه وعادته لكانت تربية

الكبير متعذرة، ولاستحال أن يصلح من خلل أو يرجع عن زلل، ولكن العاقل إذا

ثبت عنده شرعًا أو عقلاً أن شيئًا مما اعتاده وتخلق به مضرٌّ له في دينه أو دنياه،

يمكنه أن يتكلف ترك العمل الذي ينشأ من تلك العادة أو الخلق، ويتكلف العمل

بضدها، وإذا واظب على هذ التكلف زمنًا طويلاً يضعف الخلق الأول، وينشأ له

خلق جديد، لا أنكر أنه لا يقدر على هذا العمل كل إنسان، لا يقدر عليه إلا أرباب

الفطرة الزاكية، والهمة العالية، والعزيمة الصادقة، ولابد من الاستعانة عليه

بأمرين، أحدهما كثرة المذاكرة في قبح القبيح الذي يريد تركه، وحسن الحسن الذي

يحاول استبداله به، وثانيهما أن يجعل بعض أصدقائه مهيمنًا ورقيبًا عليه، ويأذن له

بأن يذكره إذا نسي، ويؤنبه ويعنفه إذا أخل بما التزمه من ترك الرذيلة والتلبس

بالفضيلة، مَن يرضى منا أن يوصف بضعف الاستعداد الفطري للخير؟ من يرضى

أن يرمى بوهن العزيمة؟ من يرضى أن يغمز بقلة الهمة؟ لا يرضى أحد مِنَّا بهذه

المثالب، فعلى كل منا أن يجعل مرمى نظره، وقبلة عزيمته تهذيب نفسه وتزكيتها،

وإلحاقها بنفوس الكَمَلة، إن صح منك الهوى أرشدت للحيل، متى شرعنا في العمل

يفتح في وجهنا باب العلم بنفوسنا ومصالحها، فكلما أصلحنا شيئًا يلوح لنا غيره

فنشتغل بإصلاحه، وهذا هو معنى الحديث الشريف: من عمل بما علم ورثه الله

علم ما لم يعلم. يجب أن يبدأ كل منا بالرجوع عن كبائر ذنوبه، وبمعالجة أسوأ

أخلاقه، وهذه العظائم لا تخفى على أحد منا، الحلال بَيّن والحرام بَيّن، وإنما

يجهل الكثير من الناس الشبهات، ولا يتقي الشبهات إلا من اتقى الفواحش

والمنكرات.

(لها بقية)

_________

ص: 433

الكاتب: محمد رشيد رضا

دروس جمعية شمس الإسلام

(الدرس الأول)

قرر مجلس إدارة جمعية (شمس الإسلام) باتفاق الآراء انتداب هذا العاجز

منشئ (المنار) لإلقاء دروس دينية في الاجتماع العمومي الأسبوعي للجمعية،

فتلقيت أمر المجلس بالامتثال، بل أديت فرضًا عليّ لأمتي وملتي، وكان إلقاء

الدرس الأول في ليلة الاثنين الماضية، وبعد الفراغ منه اقترح عليّ وكيل الرئيس

أن أنشر ملخص هذه الدروس في (المنار) ليكون تذكرة للإخوان، ولينتفع به من

لم يحضره، لا سيما شُعَب الجمعية في خارج القاهرة، ورأيت الحاضرين ارتاحوا

لهذا الاقتراح، فتلقيته بالقبول، وهاؤم اقرءوا ملخص الدرس الأول.

(الدرس الأول - تمهيد ومقدمات)

ابتدأت بالبسملة والحمدلة والتصلية والدعاء، ثم قلت:

(1)

الدين: لم يبق سمع لم يطرقه الكلام في الشكوى من حال الإسلام،

وأن علاج ما نحن فيه من البلاء المبين هو الأخذ بتعاليم الدين، مقتفين آثار

أسلافنا الأولين، فما هو الدين؟ عرَّف الدينَ علماؤنا بأنه وضع إلهي سائق

لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى ما فيه نجاحهم في الحال وفلاحهم في المآل،

فهل ينطبق علينا هذا التعريف؟ هل نحن ناجحون في الدنيا؟ كلا إننا أمسينا وراء

جميع الأمم والشعوب، فاليهود الذين لا سلطة لهم يفوقوننا بالعلم والثروة

وارتباطهم بالإخاء المِلِّي، والوثنيون في الهند سابقون للمسلمين في الفنون

والصنائع، والأخذ بزمام الأحكام، ولقد كانت السيادة للمسلمين عليهم في كل

شيء مع كونهم أقل منهم عددًا، وإلى الآن لا يقدر الوثنيُّ على بلوغ شأو المسلم

إذا هو جاراه، ولو صرخ مسلم بمائة وثني لَوَلَّوا منه فِرَارًا ولَمُلِئوا منه رعبًا؛

بسبب ما بقي له من آثار وراثة أسلافه، من العجيب أنه لا يوجد شعب إسلامي

ناجح مع أن النجاح داخل في مفهوم دينه. عدم انطباق تعريف الدين علينا يدل

على أننا لسنا على الدين، لا أقصد بهذا أن كل من ينتمي للإسلام ليس على

الإسلام، وإنما أريد به ما تدل عليه المشاهدة من أن مجموع المسلمين منحرفون

عن تعاليم دينهم القويمة التي تؤدي بطبيعتها إلى النجاح، وتستلزم الفوز والفلاح،

كما وقع لأسلافنا الذين سبقونا بالإيمان.

صرَّح التعريف بأن الدين يوصل ذويه إلى سعادة الدنيا والآخرة، فعدم

وصولنا لإحدى السعادتين دليل على أننا لا نصل إلى الأخرى أيضًا؛ لأنه

ناشئ عن عدم أخذ الدين على وجهه الصحيح، القياس جلي ظاهر، وسنزيده

تفصيلاً عند الكلام على فروع العبادات والحكمة فيها، ككون الصلاة المَرضية

عند الله تعالى تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكفوائد الزكاة الاجتماعية، وغير

ذلك (توسعنا بهذه المسألة في الدرس) من التعاليم الفاسدة الزائغة بيننا، قول

عامتنا وخاصتنا فينا وفي المخالفين لنا في الدين: لهم الدنيا ولنا الآخرة، وهذا

مخالف لصريح القرآن، فإن الله تعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي

أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً

يَوْمَ القِيَامَة} (الأعراف: 32) فقد جعل الله الزينة والطيبات للمؤمنين

بالاستقلال، ولولا أن قال:{خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) لما

عُلِم أن غير المؤمن يستحق شيئًا منها، أليس من الجهل الفاضح أن نزعم أن

ديننا هو الذي قضى بحِرْمَانِنا من سعادة الدنيا، أي جناية على الدين أشد من

رجوع أهله به إلى ما هو أشبه بحالة الرهبانية الأولى من الإفراط في الزهادة

والخمول ومخالفة القرآن؟ إن الديانة الإسلامية وعزة الدنيا وسلطانها توأمان،

ارتفعا معًا وانْحطَّا معًا، ولا يمكن لنا أن نحفظ ديننا إلا بالثروة وبسطة العلم

والسلطان، وأن تلك التعاليم المخالفة لهذا المنهاج القويم هي التي أوقعتنا في

الرجز الأليم.

(2)

التعليم: إنما يؤخذ الدين بالتعليم، كذلك تلقاه النبي عن الروح

الأمين، وكذلك تلقاه عنه الصحابة وهكذا، كان التعليم بالقول والعمل، ثم

صار بعد ذلك صناعة، والصناعات تقوى بترقي العمران، وتضعف بتدليه،

وقد ضعف عمراننا؛ فضعف تعليمنا حتى كاد يكون فهم الدين منه متعذرًا، إن

دين الإسلام هو دين الفطرة، وهو أسهل الأديان تعقلاً، وأقربها مثالاً،

وأسهلها على النفوس، وقد قال صلى الله عليه وسلم بعثتُ بالحنيفية السمحة،

ليلها كنهارها، وكان الأعرابي يتعلم الدين من صاحبه في مجلس واحد، وإننا

نرى اليوم الذين يقدمون لتأدية امتحان التدريس في الأزهر، يخرج الكثير منهم

مجروحًا في العقائد والفقه والتفسير، ويكون قد قضى في الأزهر نحو عشرين

سنة ولم يفهم الدين، فإذا كان التعليم محصورًا في الطريقة الأزهرية، فمتى

يتأتى تعميمه بين المسلمين؟ ترون في الجرائد آنًا بعد آن خلقًا كثيرًا قد

دخلوا في الديانة الإسلامية، وأن سبب دخولهم فيها هو سهولتها وتعقل عقائدها

وأحكامها، سبب متفق عليه بين الجرائد الأوروبية والجرائد الإسلامية، هذا

وإن الدين لم يبق على سذاجته الأولى؛ لأن أحكامه امتزجت بمسائل الفنون

الحادثة في المِلَّة، ووجد في كتبه ما يتبرأ الدين منه، فما بالكم لو كان الدين

وأهله في هذا الزمن الذي اتصل به العالم بعضه ببعض على ما نعلم من حالهما

في النشأة الأولى.

(3)

البصيرة في الدين: لا يؤدي الدين إلى غايتيه اللتين ذكرناهما ما لم

يكن الآخذون به على بصيرة فيه، فإن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه

وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف:

108) ولا يكون الإنسان على بصيرة فيه إلا إذا كان موقنًا بعقائده لأخذها

ببراهينها، ومذعنًا بأن أحكامه وآدابه موافقة لمصلحته ومصلحة الأمة كلها

إذعانًا يمازج روحه، ويخالط وجدانه بحيث يصدق عليه قوله تعالى: {أَفَمَن

شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر: 22) ولا يتناوله

الويل المشار إليه بقوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ

مُّبِينٍ} (الزمر: 22) العلم بالدين على هذا الوجه لا نصيب منه لأهل التقليد

الذين يعتقدون لأن قومهم اعتقدوا، ويعملون لأن أباهم أو شيخهم عمل، وقد

عاب الله تعالى في كتابه هذا الفريق من الناس في آيات كثيرة، فإن قيل: إنك

تحاول بهذا أن يكون كل فرد ولو أميًّا عالمًا دينه بالدليل والبرهان، وهذا لم

يحصله إلا القليل ممن انقطع للعلم الديني، فكيف يحصله بتعليمك حتى الصناع

والزراع؟ أقول: إن المنقطعين للعلم إنما يتناولون الدين من كتب يتوقف فهمها

على إتقان علوم وفنون كثيرة لا يتقنها إلا قليل منهم، لسوء أساليب التعليم،

بل إنهم أهملوا المهم منها، كالتفسير والأخلاق، وعلم النفس والاجتماع،

وتركوا تطبيق العلم على ما في الوجود، إذا أنا قرأت لكم العقائد بالبراهين

المنطقية فلا شك في أنه لا يستفيد منها إلا نفر قليل، ما لي وللقياس الاقتراني

والاستثنائي، ولبرهان التطبيق والخلف، أنا أحب أن أشرح المسائل بعبارة

يفهمها كل سامع، وأقيم عليها الأدلة الواضحة التي تتقبلها العقول، وتشربها

القلوب، وتسكن إليها النفوس بحيث يكون متناولها على نور من ربه، فلا

يرجع عنها ولو رجع جميع العالمين، وبهذا القدر يخرج من مضيق التقليد

المذموم الذي هو الأخذ بقول الغير بغير بصيرة.

(4)

قواعد الدين: شرع الله الدين لتصحيح العقائد وتهذيب الأخلاق

وإصلاح الأعمال، فمقاصد علوم الدين ثلاثة، أما علم العقائد فخصصوا

مباحثه في ثلاث قواعد (1) ما يعتقد في الله تعالى و (2) ما يعتقد في الأنبياء

والرسل و (3) ما يعتقد تفصيلاً في عالم الغيب، أي ما جاء به الدين من

الأخبار التي لا تعرف إلا بالسمع، كوجود الملائكة والجنة والنار إلخ، يجب

الاعتقاد بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعُلِم من الدين بالضرورة

غير مختلف فيه، كوجوب الصلاة والزكاة، وتحريم الزنا والخمر، والحسد

والكبر، فمن كان لا يعتقد بهذه الأشياء لا يكون مسلمًا، وإنما قصروا علم

العقائد على القواعد الثلاث؛ لأن سائر ما يجب اعتقاده يبحث عنه في العلوم

التي تبين أحكامه بالتفصيل، وسيأتي كل شيء في محله إن شاء الله تعالى.

هذا مجمل الدرس ومن حضره يتذكر منه التفصيل، والله الهادي إلى سواء

السبيل.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 438

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المسلمون في روسيا

قدم على هذا القطر من عهد قريب العلامة الفاضل أحمد جان أفندي أحد كبار

علماء قزان من أعمال روسيا وقد اجتمعنا به فرأينا منه أفضل رجل، وأكمله علمًا

وعقلاً، وبصيرة ونبلاً، وذاكرناه في شؤون المسلمين في تلك البلاد، فعلمنا منه أن

حالهم أحسن من أحوال المسلمين في البلاد التي نعرفها بالخُبْر والخَبَر، وقد كان

صاحب جريدة (ثمرات الفنون) المفضال اجتمع به في بيروت قبل قدومه إلى هذه

الديار، واستعرف منه شؤون المسلمين في روسيا، وكتب في جريدته الغرَّاء

خلاصة ما اقتبسه منه في شأن النهضة العلمية، فرأينا أن نأخذ ذلك من (الثمرات)

نفسها، لا من حيث أخذت، اعترافًا لها بحق السبق، وحيث قد اعترفت هذه

الجريدة بأنها كتبت بعض ما استفادته من حضرة أحمد جان أفندي، واعترف هو

بذلك بعد اطلاعه عليها، فربما نزيد قرَّاءنا بيانًا في نبذة أخرى، قالت الجريدة:

(يبلغ اليوم عدد المسلمين في روسية عشرين مليونًا من الأنفس أو يزيدون،

وفي الجغرافية القديمة ثلاثة عشر مليونًا، وهم على جانب عظيم من التقوى وقوة

الإيمان، والتربية الحسنة، والغيرة والحمية، وقد شاهد البيروتيون أثناء الحج

السابق كثيرين منهم يتكلمون بلسان التتار، أي التركي القديم، فيهم عدد وافر من

العلماء يعرفون العربية كتابة وقراءة، ويتكلمون فيها بلسان فصيح، ويعرفون كذلك

التركية والفارسية، ولهم في ولاية أوفا من أعمال الروسية محكمة شرعية كبرى

هي مرجع المسلمين في جميع قضاياهم وشؤونهم الخاصة، فيها ثلاثة قضاة موظفين

من قبل الحكومة، راتب كل منهم في السنة ستمائة روبل (ريال) ومُفْتٍ واحد

وراتبه ضعفا ذلك، وهي تقيم في كل بلدة من البلاد التي يقطنها مسلمون إمامًا أو

إمامين ومؤذنًا يصلون بالناس في المساجد الصلوات الخمس والجُمَع والأعياد، وفي

كل جمعة يأمر الخطيب بالمعروف وينهى من المنكر، ويحض على التسابق في

الخيرات، والتعاون على البر والتقوى، وأكثرهم يمتثلون ذلك، ولهذا قلَّما تجد

مسلمًا في ملهى أو منتدى عمومي، بل ترى كلاًّ منهمكًا في شغله، فالتاجر في

تجارته، والصانع صناعته، والزارع في زراعته، وهلم جرًا، وأبغض الأشياء

إليهم تمضية الوقت عبثًا باللغو واللهو، ولهم في أكثر الولايات جمعية أو جمعيتان

تستدر الخيرات من أولي البر والإحسان، وتعين البائس الفقير، وللخاصة منهم

شغف في مطالعة الجرائد، خصوصًا الصادقة اللهجة، البعيدة عن الإطراء والمدح،

إذ يرونها أمرًا معيبًا مسقطًا للجرائد، مشينًا لها، قلَّما تجد امرأة في السوق، بل

يَقْررن في بيوتهن، ينظرن في شؤون منازلهن، وتربية أبنائهن، وللمسلمين لباس

خاص يمتازون به عن غيرهم، وأكثره من نسجهم، كالأجواخ والأصواف،

خصوصًا ألبسة الرأس والرجل، فإنهم لا يحتاجون في اصطناعهما إلى الأجانب قط.

ولهم في التجارة اليد الطولى، والقدح المعلَّى، سيما تجار قزان وقاسيم

وبنزه، ومنهم من يقيم في الصين ومنهم في الهند وبخارى والعجم والأستانة ومصر

وباريز ولندرا وبعض الثغور الأميركية والإيطالية، وهم مشهورون بالأمانة وحسن

المعاملة والبر، حتى إنه إذا عقد تاجران أو أكثر شركة تجارية يشترطون بادئ بدء

إنفاق الخمس من الربح أو أقل على المدرسة الفلانية أو غيرها من بيوت العلم،

وهي لعمري مزية حسنة امتاز بها التجار الروسيون على غيرهم، وللمثرين منهم

عدا ما تقدم ذكره مبرات جمة، كتأسيس المساجد والجوامع، وإشادة (كذا)

المدارس والمباني الخيرية وغيرها، وفي مدينة قزان وحدها 14 مسجدًا، وسكانها

المسلمون يبلغون نحو الخمسة والعشرين ألفًا، والحكومة الروسية تتداخل بالظاهر

في شؤون المسلمين الدينية، وهم يتقاضون القضايا الجزائية والجنائية في محاكمها

التي ليس لهم فيها أعضاء، غير أن القوم استيقظوا من سباتهم وانتبهوا من غفلتهم،

وأيقنوا أن لا قيام ولا قوام لهم إلا بالعلوم والمعارف، وأخذ كثير منهم يدرس اللغة

الروسية، وفتحت الحكومة لهم ثلاثة مكاتب في ولاية قزان لتعليم هذه اللغة لمن

يشاء منهم؛ إذ هي التي تخولهم الحق في مناصب الحكومة ومجالسها ومحاكمها؛

وهذه المكاتب الثلاثة خاصة بالمسلمين، وأقامت في كل مكتب معلمين مسلمين،

أحدهما لتعليم اللغة، والثاني للأمور الدينية، وبالجملة فإن القوم قد قاموا بنهضة

علمية جديرة بالذكر، ورجل هذه النهضة العلامة الأستاذ الغيور الهمام عالم جان

أفندي البارودي مؤسس المدرسة المحمدية في ولاية قزان التي سيأتي ذكرها، فإنه

- حفظه الله وأبقاه - عدا اهتمامه العظيم بترقية هذه المدرسة الكبرى والنهوض بها

في مدارج التقدم والنجاح تراه متجولاً من بلدة إلى أخرى، باثًّا في قومه روح الهمة

والنشاط، راقيًا بهم في مراقي الحضارة والعمران، حاضًّا لهم على التعاضد

والتعاون، وجمع شتات الكلمة، والتفاني في تحصيل العلوم والفنون، والانكباب

على إتقان الصناعات والزراعات، إلى غير ذلك من أسباب الإصلاح ووسائل

النجاح، وإليك بعض معلوماتنا عن المدرسة المحمدية التي على نظامها يُقاس أكثر

مدارس المسلمين في روسية:

أسس هذه المدرسة وشيد بنيانها الرجل الكبير والمحسن الشهير محمد جان بن

بنيامين علييف والد العلامة عالم جان أفندي المشار إليه، وهو من أكابر تجار قزان،

وعيون أعيانها، وذلك في سنة 1300 هجرية، أي منذ سبع عشرة سنة، وقبل

أن نخوض عُباب البحث عن هذه المدرسة الكبرى نرى من اللائق أن نلم ولو بشيء

يسير عن مؤسس بنيانها ومشيد أركانها، إذ يجدر - لعمري - بأمثاله من مثري

المسلمين وأغنيائهم الاقتداء به والنسج على منواله، فتحسن الحال ويعم النوال.

الرجل ذو همة علية عجيبة، وحسبك دليلاً على هذا أنه لما رأى البلاد في أشد

الحاجات إلى العلم الذي هو لها بمثابة الروح للجسم أشغل من أولاده الأربعة ثلاثة

في طلبه، فنشأوا بحسن نيته علماء صلحاء، أكبرهم عالم جان أفندي المنوه بذكره،

ثم صالح جان أفندي وهو الآن مُدرس في مدرسة إسلامية أخرى في قزان، وفيها

مائتا طالب، ثم عبد الرحمن أفندي وهو اليوم مدرس في المدرسة المحمدية السابق

ذكرها، وقد أسس هذه المدرسة من ماله الخاص، وصرف عليها أموالاً طائلة،

وأقام لها مديرًا شبله الأكبر الأستاذ عالم جان أفندي الذي حقق آمال والده بما اختصه

الله به - مع حداثة سِنِّهِ - من سعة العلم ووفور العقل، وعلو الهمة وفائق الغيرة،

فنعم الأب ونعم الابن، وهكذا تكون الآباء، بل هكذا تكون الأبناء، ورتب المدرسة على أبدع نظام وأحسن ترتيب، وقسم طلبتها إلى ثلاثة أقسام:

الأول قسم الفقراء الذين لم يك لهم من مكتسب يتعيشون به سوى المسألة،

فأغناهم عنها، وهم يقربون من مائة تلميذ، وعين لهم معلمين، الأول لتعليم مبادئ

القراءة والكتابة، والثاني للصناعة، وخصص كل تلميذ يوميًّا باثنتين وستين بارة

ونصف، وهم يقيمون كل يوم أربع ساعات يتعلمون فيها على مرتين ثنتين القرآن

الكريم والضروريات الدينية والدنيوية، والكتابة ومبادئ الصناعات، والنفقات التي

تنفق على هؤلاء يقوم بها أغنياء البلدة، منهم من يتكفل بتلميذ واحد، ومنهم باثنين،

ومنهم بخمسة وهكذا، فينشأ هؤلاء وقد تلقوا مبادي القراءات والصناعات،

يعبدون الله على علم ذوو تربية حسنة تخولهم معرفة التعيش برضاء وهناء.

القسم الثاني لتعليم الطبقة الوسطى، وهم يقربون من ثلاثمائة تلميذ يؤخذ من

المستطيع منهم راتب يتفاوت بتفاوت غناء آبائهم وذويهم، فمنهم من يؤدي روبلة

واحدة في الشهر، أي اثني عشر قرشًا ونصفًا صاغًًا، ومنهم نصف ذلك أو ربعه أو

ضعفه أو أربعة أضعافه إلى عشرة أضعاف، ومنهم من لا يؤخذ منه شيء، ومدة

تعليم هذا القسم سبع سنين، ثلاث ابتدائية، وأربع رشدية (تجهيزية) حتى إذا

أتموها أصبح لكل منهم الخيار في الاشتغال بالتجارة أو الصناعة أو الزراعة، أو

غير ذلك مما يصلح لهم، أو يدخل الطبقة العالية في المدرسة، وهي القسم الثالث

منها، يشتمل هذا القسم على نيف وثلاثمائة طالب، وتارة يبلغون الأربعمائة،

وأكثرهم من البلاد الشاسعة النائية، يقرأون النحو والصرف والمنطق، والمعاني

والبيان والبلاغة، والحساب والحكمة، والتاريخ والجغرافيا، والأصول والحديث

والتفسير إلى غير ذلك من أنواع العلوم العربية كلها، فيخرج الطالب إمامًا أو

مدرسًا في قرية أو بلدة.

ولهذا القسم الذي هو الركن الأعظم للمدرسة المحمدية عشرون مدرسًا سوى

رئيس المدرسين الأستاذ عالم جان أفندي الذي يدرس فيها مرتين في اليوم أيضًا،

ولكل مدرس منهم درسان أو ثلاثة في اليوم، حسب البرنامج (البروغرام) المتفق

عليه من هيئة المدرسين، وهذه الهيئة تجتمع خمسة أو ستة أيام متوالية في آخر

شهر آب (أغسطس) من كل عام، أي قبيل افتتاح المدارس، وقد تجتمع

أيضًا بضع مرات بعد افتتاحها، فإذا انتظم عقد الهيئة يعرض الرئيس عليها رأيه

كتابة في بيان العلوم والفنون التي يجب أن تدرس في العام المقبل في المدرسة،

وكذلك الطرق التي ينبغي أن تسير عليها في تعاليمها مبينًا ذلك مسألة بعد أخرى،

فتوضع هذه اللائحة موضع المذاكرة والمداولة، فإذا وافقت الهيئة عليها، إما

بالإجماع أو بالأكثرية يبين الرئيس الكتب التي يناسب إقراؤها، فتذاكر الهيئة بذلك

أيضًا ولكل عضو من أعضائها الحرية التامة في بيان الرأي الأصلح والأخذ به،

ونبذ غير الموافق منه، فإذا أتمت الهيئة وظيفتها هذه يوضع البرنامج ويسير

المدرسون على منهاجه السنة كلها، إلا إذا رؤي خلال السنة لزوم لتبديل شيء أو

تغييره، فيكون بالاتفاق من هيئة المدرسين على ما بَيَّنا.

أما نفقات هذه المدرسة فبعضها من العقارات الموقوفة عليها من الأغنياء،

وبعضها يتبرع به المحسنون سنويًّا، والباقي يجمعه الأستاذ رئيس المدرسة، فيدعو

لناديه أغنياء البلدة مرة في السنة، ويبين لهم حالتها ودخلها وخرجها فيتبرع كل بما

يلهمه الله به، وفي هذا المجتمع ينتخب خازن المدرسة ومعاونه، فالخازن يأخذ

ويعطي، ويقوم بلوازم المدرسة كلها، ويعمر ما اندرس منها، ويصلح ما فسد حتى

إذا تمت السنة يعرض حسابه على الهيئة، ولا يأخذ تلقاء ذلك أجرة لا هو ولا

معاونه، وهما إنما يكونان من أكابر البلدة، معروفين بالأمانة والصداقة والثراء،

ويفتخران بهذه الخدمة أيما افتخار، وكثيرًا ما يؤثرانها على أشغالهما وتجارتهما،

ولا بد أن يزورا المدرسة في كل يوم، يفتقدان حالتها ونظافتها، وحسن ترتيبها،

ومذاكرة القادم إليها والنازح منها، ويبحثان عن حالة المرضى، ويحضران لهم

الطبيب إن احتيج إليه ونحو ذلك، وبالجملة فإن كل ما يقتضي للمدرسة وطلبتها،

سوى التعليم والامتحان فهو منوط بالخازن ومعاونِه، وكثيرًا ما يستشيران رئيس

المدرّسين أو الهيئة بتمامها إذا رأيا احتياجًا ولزومًا.

والامتحان العمومي للمدرسة إنما يكون في شهر نوار (مايو) من كل عام، أي

بعد أن يجري اختيار الطلبة - مدة شهر، فتوزع بطاقات (الدعوة) على أرباب

المدارس والمكاتب، والعلماء والوجهاء، فيحضر السواد الأعظم منهم، وكثير من

المعلمين ما ينظر إلى الامتحان بعين الانتقاد أو الاستحسان، وفي الانتقاد الصحيح من

الفوائد الجمة ما لا يخفى، حتى إذا تم الامتحان وزعت الجوائز على مستحقيها، ثم

يجتمع الوجوه من الحضور والأساتذة وغيرهم، فيشكرون الله تعالى وأرباب النعم

والخيرات من المدرسين والمحسنين، ثم يتضرع بعضهم إلى المولى تعالى بإخلاص

وخشوع، ويدعو بالتوفيق والنجاح فيؤمِّن السامعون، وببركة هذا الاجتماع يصبح

الناس على قلب رجل واحد، فيعقد كل منهم النية على عمل شيء ينال فيه رضاء

الله، إما بتعلم أو تعليم، أو وعظ أو تحرير، أو تجارة أو صناعة أو زراعة،

ونحو ذلك، ويهيئون أنفسهم لخدمة الدين، ولا يرون في أنفسهم ومالهم حقًّا لهم،

بل عباد الله وخَدَمة لدينه، لا يبذرون في مأكل أو مشرب أو ملبس، ولا يمضون

أوقاتهم في اللهو واللغو، ويعدونهما خيانة في حقوق الله وإخلالاً بالواجب عليهم.

هذا بعض ما علمناه من الأخ بالله العالم القزاني عن أحوال إخواننا المسلمين

في روسية والمدرسة المحمدية الكبرى في قزان التي فيها خمس مدارس أخرى،

وعليها تقاس سائر مدارس المسلمين في ولايات لوقا وأورنبوغ وحيستابول

وترويسكي وسمير وضامار وبنزة ويوا وجابق وقارغالي واسترلي تماف

وغيرها من الولايات والمتصرفيات، ولا نزيد بعد هذا كلمة في بيان فضائل

التعاضد والتعاون وجمع الكلمة، إذ فيما تقدم كفاية ومقنع بما ينتج عن ذلك للأمة من

أسباب النجاح والفلاح، والعروج بالبلاد في معرج الحضارة والعمران، ولا عبرة

بما يتشدق به اليوم بعض من تطفلوا على مباحث فضلاء الأمة وكتابها بالجامعة

الإسلامية، والله سبحانه الموفق والمعين، هو حسبنا ونعم الوكيل.

_________

ص: 442

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأميرة الفاضلة صاحبة الدولة

البرنسس نازلي هانم أفندي

بلغنا أن وزير خارجية حكومة المغرب الأقصى قد استعلم من الحكومة

الفرنساوية عن الأميرة الفاضلة صاحبة الدولة البرنسس نازلي هانم أفندي وذلك

عندما بلغ حكومته أنها قاصدة زيارة بلادهم، فورد له الجواب بأنها لم تزل في

الجزائر، ومتى توجهت لمراكش يطير إليه الخبر في البرق، وستلقى هذه الأميرة من

الحكومة المراكشية الحفاوة التي تليق بها.

_________

ص: 447

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(تابع الجيش العثماني)

يتألف معسكر الطوبجية من 252 بطارية، لكل بطارية ستة مدافع، وجميع

عدد الطوبجية المعسكرة والقلاعية ومنها المدافع وملحقاتها يستحضر من معامل

كروب في آسين ولكن بعض المدافع أيضا يصنع على شاكلة مدافع كروب في

المعامل الكبيرة للطوبجية بالقسطنطينية، أعني في الطوبخانة.

والبطاريات الجبلية جديرة حقًّا بتنويه خصوصي من حيث الحذق البديع الذي

يُرى في تحريكها، فالمدفع وذخيرته تحمله أربعة بغال ترفع أحمالها، ويعد المدفع

للعمل في أقل من دقيقتين، وكسوة الطوبجية عبارة عن دولمان أزرق قاتم وقرج

أسود، وسراويل سنجابي، ونعلين، وعوضًا عن الطربوش الذي تلبسه المشاة

تلبس الفرسان والطوبجية قبعة من شعر أسود شبه بالذي كان يلبسه قبل سنة 1870م

الصيادون الفرسان، وفرقة الفرسان الفرنساوية المسماة بالهوسار، تؤخذ فرقة

الضباط من (الصف ضباط) وتلامذة المدارس الحربيين في قومبر خانة وبنغالدي

والأولى للعلوبجية، والثانية للمشاة والفرسان وأركان حرب، لم تكن فرقة أركان

حرب أنشئت في تركيا حتى الحرب الأخيرة (حرب الروسيا) ويمكن أن ينسب بلا

شك لعدم وجودها تأثير عظيم في نتيجة الوقائع الحربية، فشكرًا لجلالة السلطان عبد

الحميد إذ قد سد هذا الخلل، فإنه قد أنشأ من سنة 1884م في مدرسة بنغالدي قسمًا

لأركان حرب يقابل للمجمع الحربي في ألمانيا والمدرسة العالية الحربية في فرنسا،

تدخل التلامذة مدرسة الطوبجية والمهندسين في الخامسة عشرة من عمرهم،

ويمكثون أربع سنين في القسم التجهيزي، وسنتين في القسم التالي، ثم يرقون إلى

وظيفة ملازم ثانٍ، وبعد أن يقضوا سنة في إتمام دروسهم يخرجون من المدرسة

برتبة ملازم أول.

أما في مدرسة بنقالدي فيمكث التلامذة ثلاث سنين، ثم يخرجون برتبة ملازم

ثانٍ، والفائقون منهم لإخوانهم المعدون للدخول في فرقة أركان حرب يقضون في

المدرسة ثلاث سنين أخرى، ثم يخرجون بوظيفة يوزباشي.

نظام هاتين المدرستين العظيمتين لا يعوزه من الكمال شيء من حيث التربية

والتعليم النظري والعملي، وتعليم اللغات الأجنبية فيهما أكثر تقدمًا منه في المدارس

الحربية للبلاد الأخرى، ويوجد تحت مدرستي قمبرخانة وبنقالدي مدارس تجهيزية

تسمى بالمكاتب الإعدادية الحربية بكل من أدرنه ومناستير وبروسه وأرضروم

ودمشق وبغداد وقبيلي وفي ضواحي القسطنطينية على الجنب الأسيوي للبوسفور

ويدير هذه المدرسة الأخيرة أميرلواء، أما المدارس الأخرى فيديرها قائمو مقام، أو

رؤساء طوابير ويدخل التلامذة هذه المدارس في سن الثانية عشرة ويقضون فيها

ثلاث سنين.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 447

الكاتب: محمد رشيد رضا

حجج منكري الكرامات

أتينا في جزء سابق على ذكر الخلاف بين المسلمين في الكرامات، ووعدنا

بذكر حجج المنكرين والمثبتين والنظر فيها، ونبدأ بذكر حجج المنكرين الخمس التي

أوردها العلامة السبكي مع ردها وسمَّاها شُبَهًا، ولا يقتضي تسميتنا إياها حججًا،

اعترافنا بحقيتها ولا عدمه؛ فإن بعض الحجج داحضة.

(الحجة الأولى) قالوا: إن تجويز الكرامة يفضي إلى السفسطة إذ يقتضي

تجويز انقلاب الجبل ذهبًا إبريزًا، والبحر دمًا عبيطًا، وانقلاب أوانٍ تركها الإنسان

في بيته أئمة فضلاء مدققين، قال السبكي: والجواب من وجوه، الأول: إنا لا نسلم

بلوغ الكرامة هذا المبلغ كما اقتضاه كلام الإمام القشيري، الثاني: نسلم

(جدلاً) لكن نمنع اقتضاءه سفسطة؛ لأنه بعينه وارد عليكم في زمن النبوة،

الثالث: أن التجويزات العقلية لا تقدح في العلوم العقلية، وجواز تغيرها بسبب

الكرامة تجويز عقلي فلا يقدح فيها. اهـ

أقول: كلام السبكي - كغيره - صريح في أن الكلام في جواز الكرامة لا

في وقوعها، ومعلوم أن العقل يجوِّز ما دون المحال، وإنما المحال العقلي هو اجتماع

النقيضين أو ارتفاعهما، وأكثر الناس يطلقون لفظ المحال العقلي على كل مستبعد غير

مألوف، وفيما أظهرته الصناعة والعلوم الطبيعية الكثير من تلك الأمور المستبعدة

التي كان يجزم الناس باستحالتها لو لم تقع فعلاً، كالتلغراف وغيره.

ومن الأمور التي تستبعد العقول وقوعها إذا هي تصورتها ما يكون له سبب

طبيعي مجهول يوجد بوجوده، واهتداء الناس إليه ومنها ما ليس كذلك، وكلا

القسمين جائز الوقوع في نظر العقل، ولكن ما كل جائز عقلاً يقع فعلاً، وقوله: إن

الكرامة لا تبلغ هذا المبلغ، هو التحقيق، وإن كان الجمهور على خلافه، وسيأتي

بيانه.

(الحجة الثانية) قالوا: لو جازت الكرامة لاشتبهت بالمعجزة، فلا تدل

المعجزة على ثبوت النبوة، قال السبكي: والجواب منع الاشتباه لقرن المعجزة

بدعوى النبوة دون الكرامة، فهي إنما تقرن بكمال اتباع النبي من الولي، وأيضًا

فالمعجزة يجب على صاحبها الإشهار والكرامة مبناها على الإخفاء، ولا تظهر إلا

على الندرة والخصوص، لا على الكثرة والعموم، وأيضًا فالمعجزة يجوز أن تقع

بجميع خوارق العادات، والكرامة تختص ببعضها كما بيناه من كلام القشيري وهو

الصحيح. اهـ.

أقول: أين هذا مما هو مستفيض بين الناس في هذه الأزمنة من أن الكرامات

صارت عند الشيوخ من الأمور الاعتيادية بحيث ينقلون عن الواحد منهم الألوف

منها، أو كما قال الأستاذ مفتي الديار المصرية في رسالة التوحيد فيهم: (يظنون

أن الكرامات وخوارق العادات أصبحت من ضروب الصناعات، يتنافس فيها

الأولياء، وتتفاخر فيها همم الأصفياء، وهو ما يتبرأ منه الله ودينه وأولياؤه وأهل

العلم أجمعون) وستقف على توضيح هذا.

(الحجة الثالثة) قالوا: لو ظهرت لولي كرامة لجاز الحكم له بمجرد دعواه

أنه لا يملك نحو فِلس لظهور درجته عند الله، المانعة له من الكذب في هذا النزر

القليل، لكنه باطل بالإجماع المؤيد بخبر البينة على المدعي، قال: والجواب أن

الكرامة لا توجب عصمة الولي ولا صدقه في كل الأمور، ونقل إن الجنيد سئل؛

هل يزني الولي؟ فقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) ، ثم

قال السبكي: وهَبْ أن الظن حاصل بصدق دعواه إلا أن الشارع جعل لثبوت

الدعوى طريقًا مخصوصًا، ورابطًا معروفًا لا يجوز تعديه ولا العدول عنه، ألا

ترى أن كثيرًا من الظنون لا يجوز الحكم بها لخروجها عن الضوابط الشرعية.

(الحجة الرابعة) قالوا: لو جاز ظهور خوارق العادات على أيدي الصالحين

لما أمكن أن يستدل على نبوة الأنبياء بظهورها على أيديهم لجواز أن تظهر على يد

الولي سرًّا، فإن من أصول معظم جماعتكم أن الأولياء لا يظهرون الكرامات ولا

يدعون بها وإنما تظهر سرًّا وراء ستور ويتخصص بالاطلاع عليها آحاد الناس،

ويكون ظهورها سرًّا مستمرًّا بحيث يلتحق بحكم المعتاد، فإذا ظهر نبي وتحدى

بمعجزة جاز أن تكون مما اعتاده أولياء عصره من الكرامات، فلا يتحقق في حقه

خرق العادة، فكيف السبيل إلى تصديقه مع عدم تحقق خرق العوائد في حقه؟

وأيضًا تكرر الكرامة يلحقها بالمعتاد في حق الأولياء، وذلك يصدهم عن

تصحيح النظر في المعجزة إذا ظهر نبي في زمنهم.

وقال في الجواب: لأئمتنا وجهان: (الأول) منع توالي الكرامات واستمرارها

حتى تصير في حكم العوائد، وإنما يجوز ظهورها على وجه لا تصير عادة،فلا يلزم

ما ذكروه، و (الثاني) - وهو لمعظم أئمتنا - قالوا: إنه يجوز توالي الكرامات على

وجه الاختفاء بحيث لا يظهر ولا يشيع ولا يعتاد؛ لئلا تخرج الكرامات عن كونها

كرامات [1] ثم قالوا: الكرامة وإن توالت على الولي حتى ألفها واعتادها فلا يخرجه

ذلك عن طريق الرشاد ووجه السداد في النظر إذا لاحت له المعجزة، إن

وافقه التوفيق، وإن تعداه التوفيق سلب الطريق ولم يكن بولي على التحقيق.

والمعجزة تتميز عمن تكررت عليه الكرامات بالإظهار والإشاعة والتحدي

ودعوى النبوة، فإذا تميزت الكرامة عن المعجزة لم ينسد باب الطريق إلى معرفة

النبي.

قال العلامة السبكي: ومن تمام الكلام في ذلك أن أهل القبلة متفقون على أن

الكرامات لا تظهر على أيدي الفسقة الفجرة [2] وإنما تظهر على المتمسكين بطاعة الله

عز وجل، وبهذا لاح أن الطريق إلى معرفة الأنبياء لا ينسد، فإن الولي بتوفيق الله

تعالى ينقاد للنبي إذا ظهرت المعجزة على يديه، ويقول معاشر الناس: هذا نبي

فأطيعوه، ويكون أول منقاد له ومؤمن به، قال: ثم ما ذكره الخصوم من اشتباه

النبي صلى الله عليه وسلم بغيره، فقد تبين لك وجه الانفصال عنه، وأنا أقول:

معاذ الله أن يتحدى نبي بكرامة تكررت على يد ولي، بل لا بد أن يأتي النبي بما لا

يوقعه الله على يد الولي، وإن جاز وقوعه فليس كل ما جاء في قضايا العقول واقعًا،

ولما كانت مرتبة النبي أعلى وأرفع من مرتبة الولي، كان الولي ممنوعًا مما يأتي

به النبي على وجه الإعجاز والتحدي أدبًا مع النبي. اهـ.

أقول: وللشيخ الأكبر في هذا المعنى كلام في الفتوحات اتّفق فيه مع السبكي،

وظاهر أن الكلام كله في التجويز العقلي، ولو كان ذلك واقعًا ما اختلف فيه، وقد

صرح السبكي بما قلنا من أنه ليس كل جائر واقعًا، ثم ذهب إلى أن هذه النظرية

ممنوعة بالنسبة لهذه الأمة؛ لأن نبيها خاتم الأنبياء، ومعلوم أن الكلام في النظريات

يكون عامًّا ومطردًا.

(الحجة الخامسة) قالوا: لو كان للكرامات أصل لكان أولى الناس بها

الصدر الأول، وهم صفوة الإسلام، والمفضلون على الخليقة بعد الأنبياء، عليهم

السلام. وقد أجاب السبكي عن هذه الحجة بسرد الكرامات المأثورة عن الصحابة

عليهم الرضوان بعد مقدمة أثبت فيها أن الكرامة لا يجوز إظهارها إلا لسبب ملزم

وأمر مهم، وبين لكل كرامة ذَكَرها سببًا في إظهارها ، وإننا نعد لك تلك الكرامات

عند ذكرحجج الإثبات عدًّا، ونتبعها تأييدًا أو رَدًّا، وأما البحث في إخفاء الكرامة

فسنخصه ببحث نذكر فيه كلام السبكي وغيره.

هذا ما أورده السبكي من حجج منكري الكرامات، وهناك حجتان هما أقوى

من هذه الحجج كلها، وهما مخصوصتان في حال كون الكرامات أمورًا خارقة

لنواميس الكون، ومخالفة لسنن الله تعالى في الخلق، ولا يردان على من يقول: إن

الكرامة هي الأمر الخارق للعادة دون السنن الكونية، كالمكاشفة وشفاء المريض

بالرقى، ونحوهما مما له أسباب نفسية وسنن روحية اختص بها بعض العباد من

دون الكافة كما ألمعنا إلى هذا في بيان الخوارق والكرامات، ونلحق الحجتين بما

مضى في العدد وهما:

(الحجة السادسة) أن الله تعالى قد أقام نظام هذا الكون على سنن ثابتة

مطردة كما بيناه في المقالة الأولى من هذا البحث، وقال تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ

اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) وهذا نص قطعي لا

يعارَض إلا بقطعي مثله من مشاهدة - وهي إنما تكون حجة على المشاهِد فقط - أو

تواتر صحيح، والمثبتون يدعون هذا التواتر، وستعلم ما فيه.

(الحجة السابعة) : عقلية، وتقريرها أن غاية ما يقال في خوارق العادات أنها

ممكنة عقلاً بالإمكان الخاص، والممكن ما يكون وجوده بوجود علته، وعدمه لعدمها،

فمن قال: إن شيئًا يوجد بدون سبب، فقد أخرج الممكن عن معناه، وكذب المشاهد

من نظام الكون، فإن قيل: إن الله الذي جعل لكل شيء سببًا قادر على أن يوجد

الكرامة بدون سبب كما أوجد المعجزة التي ثبتت قطعًا، نقول: نعم إنه قادر وأوجد

المعجزات على غير المعروف في نظام الكون، ولكن مثل هذا الأمر الذي جاء على

خلاف الأصل لا يقاس عليه، والسر في المعجزة ظاهر، فلا ينافي الحكمة والنظام

مجيئها بغير سبب، بل ذلك مما اقتضته الحكمة، ومن فوائده تقرير أن النبوة لا

تنال بالاكتساب ، ولا يتوصل إلي آيتها بالأسباب، فإن قيل: إن الحكمة في الكرامة

في معنى الحكمة في المعجزة، نقول: كلا، فقد كان كلما طال الأمد على أمة بعد

بعثة رسول فيها، يرسل الله تعالى إليها رسولاً آخر، فلا يحتاج إلى كرامة الولي

لإذعان النفوس وخضوعها لسلطان الدين، وأما خاتم النبيين فإن معجزته باقية إلى

آخر الزمان، ومهما منحُ الأولياء من الكرامات لا يُمنحون مثل القرآن، وكيف

يحتاج القرآن وما تواتر من حالة النبي التي كانت من أعظم الخوارق وأظهرها إلى

التعضيد بخارقة يجب سترها؟ هذا ملخص الحجة وما يقال فيها، وإذا أمكن إثبات

الكرامات بدليل قطعي كالتواتر الصحيح، أو النص القرآني الصريح، فهناك حجة

الإثبات الناهضة التي تدع كل حجة على الإنكار داحضة، والموعد لبيان هذا

الجزء التالي إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

تبين من هذين القولين أن بعض أئمتنا يمنع توالي الكرامات وتكرارها، ووافقهم من أئمة الصوفية الشيخ الأكبر قُدس سره، وبعضهم يجوِّز تواليها تجويزًا عقليًّا وهو ما لا ينبغي فيه الخلاف، والكل متفقون على أنها تكون خفية بحيث لا تظهر ولا تشيع، فالذين يشيعون من الكرامات عن الشيوخ والأولياء ما هو أكثر من المطر وورق الشجر، مخالفون لأئمة المسلمين وصنيعهم، هذا قادح في المعجزات، ومخرج للكرامات عن كونها كرامات.

(2)

بهذا تعرف أن ما في كتب الباجوري وغيره من المتأخرين أن الخوارق تظهر على أيدي الفساق، بل والكفار، ولكن لا تسمى كرامات، غير صحيح؛ لأنه يفضي إلى الطعن في المعجزات ولا دليل عليه أصلاً.

ص: 449

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌القسم الثاني

من خطبتنا في التربية

(مكارم الأخلاق)

وأما تربية النساء فهي أعسر الأمور، ومن أجدرها بالعناية؛ لأن هناء العيش

في الحال وسعادة الوطن في الاستقبال؛ إنما يكونان بتدبير المنزل ونظامه،

وبتربية الأولاد، ومقاليد ذلك بيد النساء؛ لأن المرأة هي ربة البيت المنوط بها

إصلاحه ونظامه، وهي التي تخط في ألواح نفوس الأولاد المبادئ الأولى التي

تكون جراثيم للخيرات أو للشرور، قلنا: إن تربية الكبير عسيرة جدًّا وإنها لا

تتسنى إلا لأرباب النفوس الزاكية، والهمم العالية، والعزائم الصادقة، وهذا الكلام

مخصوص بتربية الإنسان لنفسه، أما تربية غيره فلابد فيها مع ذلك من الحكمة

والبصيرة من جانب المربي، وإذا أضيف إليها الحب والاحترام له ممن يحاول هو

تربيته كان الرجاء في حصول المقصود أتم، وحيث كانت هذه الأمنية غير متحققة

عندنا بالنسبة للكافة كنا صادقين في قولنا: إن تربية النساء أعسر الأمور.

لا نطيل الشرح في المسائل النظرية والقواعد الكلية؛ لأن الإجمال قلما يفيد

غير الحكماء الذين يتذكرون به ما انطوى في نفوسهم من التفصيل، لا يصح أن

نيأس، فلكل مجتهد نصيب، وعلينا أن نأخذ النساء بالرفق، ونعاملهن بالحكمة

واللطف، لا بالقسوة والعنف، وأن نستعين عليهن بدقة شعورهن، ونستميلهن إلى

الخير برقة عواطفهن، ونثنيهن عن الشر بزمام حيائهن، شبههن النبي عليه السلام

بالقوارير، والضغط على الزجاج غايته التكسير، أضرب من المثل ما يقاس عليه،

ويصح أن يرمي المربي إليه، إذا جئت من دكانك أو ديوانك، ووجدت بعض

ماعون البيت في غير موضعه المعد له، فلا تنبز ربة البيت بالألقاب، ولا تقابلها

بالشتم والسباب، ولكن قل لها: لا شك أن الست [1] كانت مشغولة بأمر مهم صرف

نظرها أو أنساها أن هذا الماعون أو الثوب موضوع في غير موضعه، ولذلك ما

أرجعتْه إلى مكانه أو لم تأمر الخوادم بذلك، يختلف التعبير باختلاف الطبقات؛

لأن أهل الثراء والبسطة إنما تدير نساؤهم نظام المنزل بالرأي وإرشاد الخوادم إلى

الأعمال، ونساء سائر الطبقات يباشرن الأعمال بأنفسهن، وهن المسئولات على

كل حال وفي كل طبقة من الطبقات.

وإذا كنتَ صاحب همة وأردتَ إتمام الحكمة، فبادر بنفسك إلى وضع ذلك

الشيء في موضعه قائلاً: يمكنني الآن أن أقوم بهذا العمل نيابة عن الست، وإن كنت

تعبان محرورًا (أقول هذا بالنسبة لغير الطبقات العالية الذين يكتفي أحدهم بالنيابة عن

الست بالأمر دون العمل، ولكل مقام مقال) وعند ذلك لا بد أن تسابقه فتسبقه إلى ما

نهض إليه، إلا أن تكون لا خلاق لها، ولكل من المعاملة اللطيفة ما يليق بها،

وبتكرار مثل هذه المعاملة ترجع عن قريب، فيزول الخلل، ويمنع الخطل [2] .

...

وإذا علم أن بعض الفاسدات الأخلاق والآداب تزور منزله، وتعاشر قرينته،

فينبغي أن لا يبادر إلى نهيها عن قبولها وأمرها بطردها، فإن مثل هذا الأمر

إغراء، لا سيما مع التحكم والاستعلاء، وإنما يسعى أولاً بقطع رجل تلك المرأة

بأساليب لا تشعر بها امرأته، هذا وإن الوقائع الجزئية لا تحصى، واللبيب تكفيه

الإشارة، ومن أحس من نفسه العجز عن هذه السياسة فعليه أن يستشير من يثق

به من أهله وإخوانه مع ملاحظة أن التهذيب والتربية بالإلزام والإشراف على المرأة

بالأمر والنهي من شواهق القوة والسيادة، كل ذلك مما يفضي إلى النفور

والبغضاء، واستثقال المرأة كل ما يأمر به الرجل، وتعمدها مخالفته ومنصابته،

إذا فقد الحب الصادق الذي هو روح الحياة الزوجية، وملاك السعادة المنزلية،

فلا بد من المداراة وتكلف المجاملة، وإلا ساءت الحال، وتفاقم خطب الاختلال.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هذه الكلمة ليست عربية بهذا المعنى، ولكنها لقب التعظيم المستعمل، فلا مندوحة عن ذكرها.

(2)

تذكرت هنا كلمة كنت قلتها في إحدى دروسي في المسجد الحسيني، وهي أن المرأة تتربى في بيت زوجها تربية جديدة، لا سيما إذا تزوجت في طور الحداثة، وكانت بكرًا، فيجب على الزوج أن يبدأ بتربيتها على ما يحب من الليلة الأولى، فإذا أحب أن تكون مصلية، فليسألها عند الخلوة بها هل صلَّتِ العشاء؟ فإن لم تكن صلت - كما هو الغالب - يحملها بعبارات اللطف والمجاملة على أن تصلي، والأولى أن يصلي معها - وإن كان قد صلى - ويستمر معها على هذه المعاملة، يراها في مدة قريبة لا تتهاون بالصلاة قط، وهكذا يعاملها في شأن تدبير المنزل.

ص: 455

الكاتب: محمد رشيد رضا

دروس جمعية شمس الإسلام

(2)

(أمالي دينية - الدرس الثاني - تمهيد ومقدمات)

(5)

الدين والعقل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ*

إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 1-2) العقل مشرق أنوار

الدين، والإيمان هو تصديق العقل بأن جميع ما جاء به النبي حق، فالدين الإسلامي

والعقل توأمان، وقد أجمع أئمتنا على أنه ليس في الدين شيء يمنعه العقل أو يحيله،

وأن من علامة الحديث الموضوع، أي المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم

استحالة معناه عقلاً، ومن المقرر عندهم أن ما عساه يوجد من النقول الصحيحة

مخالفًا في ظاهره للعقل، فلا بد من تأويله وتخريجه على وجه صحيح يقبله العقل،

وإلا استحال الإيمان به، القرآن لا يخاطب إلا العقل، لا سيما في قضايا الإيمان

ومسائل الاعتقاد التي يطلب فيها العلم، ويرفض الظن وإن كان راجحًا، فقد قال

ناعيًا على المشركين تمسكهم به: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ

جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى} (النجم: 23) {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا

يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم: 28) وقد أناط الصدق في الإيمان بإقامة البرهان،

فقال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) .

الآيات القرآنية التي تنيط الدين بالعقل هي من الكثرة بحيث لا يمكنني

استحضارها، وما منكم إلا من يقرأها أو يسمعها كل يوم، افتتحنا الكلام بآية منها،

وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} (الأنفال:

22) وقال عز وجل: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (يس:

62) وقال عز من قائل: {وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} (يس:

68) وقال تبارك وتعالى: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ

وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) وقال تبارك اسمه: {إِنَّ فِي

ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4) وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ

وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (آل عمران: 190) وقال: {إِنَّ

فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} (طه: 54) ومثل هذه الآيات كثيرة جدًّا، وأكثر ما

ترد بعد وصف ما في الطبيعة من مظاهر القدرة والحكمة، وسرد أحوال الأمم

والشعوب، وظاهر أن الألباب والنهى هي العقول، وكذلك ذكر العلم والتفكر في

مثل هذه المواضع كثير جدًّا، ولقد قرأت الكتب المقدسة عند بعض الملل الأخرى، فما وجدت فيها شيئًا من هذا، إن أمة هذا كتابها وأصل دينها، حقيقة بأن تكون

أبعد الأمم عن الأوهام والخرافات، وأشدها تمسكًا بالحقائق، لا تأخذ إلا باليقين ،

ولاتلتفت لما لا تقوم عليه البراهين، ولكن لما فسد التعليم، وغلبت الجهالة، وصار

القرآن يتلى للتغني لا يتدبره متدبر، ولا يعتبر به متفكر - هجمت علينا زحوف

الأوهام والخرافات من الأمم التي جاورناها ومازجناها، ففتكت بنا كما فتكت بهم،

وهبطت بعقولنا ومداركنا كما فعلت بهم من قبل، حتى ضعفت الأنظار واختل

نظام الأفكار، فطوحت بنا الطوائح، واجتاحت عمراننا الجوائح، ولقد شفي بعض

من سرت إلينا عدواهم، ونحن لا نزال مرضى، وانتظمت مدنيتهم ونحن ما فتئنا

فوضى.

(6)

الاجتهاد والتقليد: تكلمنا في الدرس الماضي عن البصيرة في الدين،

وبيَّنا أنها من أصول الإسلام، وأنه لا يؤدي إلى غايتيه - سعادة الدنيا وسعادة

الآخرة - إلا بها، وبينا أن الكتاب العزيز ذم التقليد وأهله، ونزيد المسألة وضوحًا

ليعرف خطر التقليد من لم يعرفه، فيزيد نشاطًا في فهم دينه، ويتبين الحق أخونا الذي

زعم أنه رأى في بعض الكتب أن المقلد أفضل من المجتهد (وكان بعض أعضاء

الجمعية وقف خاطبًا فقال هذه الكلمة) .

ولا أعلم أن أحدًا من العلماء الذين يُعْتَد بقولهم قال هذه الكلمة، ولو كان هذا

القول صحيحًا لكان هؤلاء السوقة والغوغاء أفضل من الأئمة المجتهدين، كلا، إن

هذا القول مصادم للنقل والعقل، ومحقر للعلم، ومفضل للجهل.

إن العلماء قد اختلفوا في صحة إيمان المقلد، فذهب أكثر المحققين - لا سيما

المتقدمين - إلى أن إيمان المقلد لا يصح ولا يعتد به، ونقل بعض العلماء

الإجماع على هذا القول، واستدلوا عليه بالآيات القرآنية الكثيرة، كقوله تعالى:

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} (محمد: 19) وقوله {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ

شَيْئا} (يونس: 36) أي فيما يطلب فيه العلم، كالاعتقاد، وقوله: {قُلْ

هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) وقوله: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ

يُوقِنُونَ} (البقرة: 4) قال البيضاوي: اليقين إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عن

نظر واستدلال وليس للمقلد من ذلك نصيب. وبالآيات التي تأمر بالنظر والاستدلال،

كقوله تعالى: {قُلِ انظُرُوا} (يونس: 101) وقوله: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ

فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) وبالآيات التي تذكر

المقلدين في معرض التوبيخ والتقبيح، كقوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا

عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22) وقوله عز وجل: {وَإِذَا

قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا

يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) والآيات في هذه الأنواع الثلاثة كثيرة

جدًّا، ومنها جميع ما أوردناه آنفًا في مخاطبة العقل وإناطة الدين به، هذا ما أرشد إليه

القرآن، وإذا وَلَّيْنا وجهنا شطر الاختبار ألفينا أن إيمان المقلد عرضة للزلزلة

والاضطراب؛ بل وللزوال والانقلاب، ألم تر إلى السحرة الذين آمنوا بموسى

عن برهان لتفرقتهم بين السحر والمعجزة كيف هددهم فرعون بما حكى الله بقوله:

{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ

وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا

لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ

الحَيَاةَ الدُّنْيَا} (طه: 71-72) إلخ الآيات، فانظروا كيف عرَّضوا

أنفسهم لأشد العذاب ولم يضطرب إيمانهم، وانظروا إلى بني إسرائيل الذين سلموا

لموسى لأنه منهم، وخلصهم من العذاب لا لأنهم فهموا ما جاء به من الآيات،

كيف عندما {أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً

كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون} (الأعراف: 138) فهذا هو الفرق بين

الإيمان بالدليل، والإيمان بالتقليد.

قال قائل: إننا نرى العامة لا يرجعون عن شيء من الدين مهما أورد عليهم من

الشكوك، فقلت له: إن العاميّ لا يقبل كلام مثله فيما أخذه باسم الدين، وإن كان

باطلاً ليس من الدين في شيء، ولكن إذا شككه من يعتقد بعلمه أو صلاحه فإنه لا

يلبث أن يشك ويرتاب، قال القائل: لا يمكن أن يشك العاميّ في وجود الله تعالى

وإن شككه جميع العلماء والصلحاء، فقلت له: سيأتي معنا أن الاعتقاد بوجود الله

تعالى هو من الإلهامات الفطرية للإنسان، حتى قال كثير من العلماء: لا حاجة

للاستدلال عليه مطلقًا، ولكن أي عامي ألقيت عليه من صالح أو عالم عقيدة فاسدة

يتلقاها بالقبول لا سيما إذا كان لها شبهة مما عليه المسلمون، كأن يقول له: إن الله

تعالى قد جعل فلانًا النبي أو الولي وكيلاً له في الأرض، وصرفه في خلقه بحيث

صارت إرادته كإرادة الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن

فَيَكُونُ} (يس: 82)[*] أو أن الله تعالى حل فيه، أو أنه قاعد على العرش، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآه كما يرى بعضنا بعضًا وسمع كلامه بصوت

وحرف، أو أنه تعالى قد وجد قبل العالم بألف ألف سنة مثلاً، فإنه يعتقد

هذا كله، ولا يشك فيه، وقد جربت هذا بنفسي فيهم.

لمَّا فشا الجهل في المسلمين رأى العلماء المتأخرون أن القول بكفر المقلد في

الإيمان يفضي إلى تكفير معظم المسلمين، فأفتوا بصحة إيمان المقلد بشرط أن يأخذ

العقيدة على حقيقتها، ويجزم بها جزمًا قاطعًا بحيث لا يشك فيها مهما شُكك، ولا

يرجع عنها، وإن رجع مقلده وجميع العالمين، قال في الجوهرة:

إذ كل من قلد في التوحيد

إيمانه لم يخل من ترديد

ففيه بعض القوم يحكي الخلفا

وبعضهم حقق فيه الكشفا

فقال: إن يجزم بقول الغير

كفى وإلا لم يزل في الضير

ولكن لا خلاف بين العلماء في وجوب النظر والاستدلال على من يقدر عليه،

وفي عصيان من يتركه مع القدرة ويكتفي بالتقليد، فتلخص أن المقلد إما كافر وإما

عاصٍ بترك النظر، اللهم إلا إذا كان ضعيف العقل بعيد الفهم، غير قادر على

النظر والاستدلال.

المنتسبون للإسلام ينقسمون إلى أربعة أقسام (القسم الأول) المجتهدون

الذين يقدرون على إقامة البراهين على كل مسألة من مسائل الاعتقاد، ويُردُّون كل

شبهة تَرِد على العقيدة أو على الدليل ومقدماته، ولا يشترط أن يكون هذا على

طريقة أهل النظر، ومن هؤلاء من يهبه الله نورًا في بصيرته، فيرتقي علمه بالله

تعالى وبدينه إلى درجة تحاكي المشاهدة للمحسوسات، ويعطيه لسنا وحذقًا في

صناعة الحجة بحيث يقدر على الإقناع والإلزام، ويبوء مناظره بالحصر والإفحام.

(القسم الثاني) العلماء الذين يتعلمون العقائد ببراهينها، فيفهمون الدليل

بحيث تطمئن قلوبهم، ويكونون في بعد عن الشبهة والريب، ولكن لا يقدرون على

إقامة البراهين من عند أنفسهم، وهؤلاء مقلدون في الدليل والمدلول معًا، وهم في

مأمن من الشكوك ما بعدوا عن مَهابِّ الأهواء ومجاري تيارات الشبهات، فإذا

تعرضوا لذلك فلا يسلم إلا من أيده الله تعالى بمعونته، (القسم الثالث) المقلدون

الذين يأخذون العقائد الصحيحة عن العارفين بها من غير دليل ولا برهان إلا الإقناع،

وما يقرّب المسائل للفهم من الأمثلة والشواهد الظاهرة، ومن هؤلاء من يفهم

الدليل إجمالاً على بعض العقائد دون كلها، وهؤلاء إيمانهم تابع لإيمان غيرهم، فإن

كانوا بحيث لو رجع من قلدوه عن اعتقاده لا يرجعون وإذا شُككوا لا يشكون، كانوا

من المؤمنين على ما علمت من الراجح عند المتأخرين، (القسم الرابع) هم الذين

لا يعرفون من الإسلام إلا الظواهر والأقوال والأفعال التي يسمعونها ويرونها من

الذين تربوا بينهم، فلا يأخذون العقائد عن العلماء العارفين، وهم عرضة لشكوك

المشككين وإيهام الواهمين، وما أولئك بالمؤمنين، لا أعني بهذا أن هؤلاء الغوغاء

من العامة الذين يغشون مجالس العلم كلهم كفار لا يعاملون معاملة المسلمين، بل لا

أكفر أحدًا بخصوصه ما لم أر أو أسمع منه ما يخالف الاعتقاد الصحيح بالتصريح

الذي لا يحتمل التأويل، ولكنني أعلم بالاختبار والوجدان وبالنقل الصحيح أنني لو

سألت الألوف منهم عن اعتقادهم بصيغة الشك ما اهتدوا إلى الجواب الصحيح، لا

لضعف في اللسان، بل لمرض في القلب والجنان، وهو مرض الجهل الفاضح،

واعلم أن هذا الجهل في النساء أشد منه في الرجال، إذ لا يوجد في النساء عالمات

بالدين يمكن أن يقتبس منهن - ولو في أثناء المحاورة والمسامرة - غير

المتعلمات، والرجل الذي لا يأتي المساجد والمدارس متعلمًا قد تضمه مجالس الأندية

والسّمار (مجالس السهر) فيقتبس منهم شيئًا من دينه، وإذا أكثر من مثافنة الخيار

منهم المغرمين بإفادة الناس ربما يأخذ منهم ما فيه غناء له في دينه، وأنى للنساء

بذلك.

إننا نشكو من جهل نسائنا بالأمور الاجتماعية، ونغفل عن جهلهن بأصل الدين،

وإن من نتائج هذا الجهل عدم صحة نكاح المرأة التي لا تعرف عقيدتها على الوجه

الصحيح، وإذا لم يصح نكاحها كان غشيانها من الزنا في الحقيقة (وفي الظاهر

وطء شبهة أو نكاح صحيح) وكان أولادها منه (أولاد حرام) وناهيك بهذه

المفاسد وما يحتف بها.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (التحريم: 6) هذا أمر الله لكم فأطيعوه، فقد أورد الإمام الغزالي في (الإحياء) أن

أول من يتعلق بالرجل يوم القيامة من خصمائه نساؤه وأولاده يقولون: يا ربنا خذ لنا

بحقنا منه، فإنه كان يطعمنا الحرام وكان لا يعلمنا ما نجهل، وقال الفقهاء: يجب

على الرجل أن يُعَلم امرأته ما تحتاج إليه من أموردينها، فإن عجز عن ذلك وجب

عليه أن يبعث بها إلى العلماء لتسأل منهم، ويحرم عليه منعها من ذلك.

تطلبون عفة النساء وكمالهن وقيامهن بشؤون منازلكم، ولا تنالون شيئًا من

هذه الأمنية إلا بتعليمهن الدين، وإشعار قلوبهن خشية الله تعالى ومراقبته بكثرة

التذكير والوعظ فعلى كل من سمع هذه النصيحة أن يعطيها جانبًا كبيرًا من العناية،

ويبدأ بتعليم أهله ما يعلم من هذا اليوم، إنني سمعت بعض شبان النصارى الذين لا

يعتقدون بالدين يقولون: إذا حضر نساؤنا مجلسنا، ونحن ننتقد رجال الدين أو

بعض أحكامه وقضاياه، نلجأ إلى الصمت لئلا يفسد اعتقادهن، ومتى فسد اعتقاد

المرأة فسدت عفتها، ولو ضرب عليها ألف حجاب، فالدين الدين، لقنوهن إياه

بالتربية والتعليم، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) في عامة كتب الرفاعية الحديثة أن الشيخ الرفاعي كان يقول: إن الولي يصل إلى مرتبة تكون في إرادته شعبة من الإرادة الإلهية بحيث يقول للشيء كن فيكون، فإذا سمع العامي هذا في كتاب إسلامي يصدقه؛ لأن العامة تعتقد أن جميع ما في الكتب حق، لا سيما إذا كان منسوبًا للأولياء (حاشاهم) .

ص: 457

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(العمارة البحرية العثمانية)

إن العمارة البحرية العثمانية وإن كانت قد أبلت أحسن بلاء في حرب سنة

1877-

1778م إلا أنها قد خرجت منها بعد أن وضعت أوزارها متضعضعة مختلة

النظام بعض الاختلال، واقتضت حالتها هذه تجديدها أيضًا، كما اقتضت التجديد

أيضًا حالة الجيش، وقد عملت جلالة السلطان على هذا التجديد حتى تم الآن

(مبالغة) بما أوتيته من بُعد النظر في عواقب الأمور، وصدق العزيمة الذي

يقارن تنفيذ جميع مشروعاتها الإصلاحية، فلم يبق إلا مجرد الاختبار النهائي الذي

يعقب تحريك العمارة تفصيلاً، وهو أمر تابع لأصول الإصلاح التي وضعت،

أصبحت العمارة العثمانية اليوم تشتمل كما في الإحصاء الأخير لسنة 1894م هذه

السفن وهي:

من المدرعات سبع بوارج كبيرة وثلاثة يخوت ملوكية، وثلاث سفن صغيرة

وواحدة وعشرون من النسافات (التوربيد) وقد تضاعف هذا العدد الآن،

وسفينتان غواصتان من طراز فوردنفيلد تسع جميعها 69697 طونولاتو وقوتها

الاسمية قدرها 39946 حصانًا بخاريًّا، وفيهما 360من مدافع كروب واسترونج

وفوردنفيلد، وعدة عساكرها5420جنديًّا يديرهم 505 ضباط، واثنتي عشرة من

السفن الخشبية التجارية، وثلاث بوارج، وسبع سفن صغيرة، و 12 سفينة من

حافظة الشواطئ و18 من ذات الدقلين، فجملتها أربعون سفينة تسع 40912

طونولاتو وقوتها الاسمية 1913 حصانًا بخاريًا، وفيها 318 مدفعًا مختلفة

الأقطار، وعدة عساكرها 7454 جنديًا يديرهم 695 ضابطًا، من السفن الشراعية،

واحدة من السفن الجارة وأخرى من ذات الدقلين، وواحدة من السفن المستطلعة،

و30 من السفن النقالة، وجميعها تسع 8275 طونولاتو، من البوارج المدرعة

يجب أن نذكر البارجة الحميدية التي ركبت البحر في سنة 1885م من معمل

الأميرالية في القسطنطينية وهي سفينة فاخرة تدل على أن الأتراك في صناعة

البوارج البحرية يقدرون على مجاراة الدول الأخرى ذات القوى البحرية، تشتمل

الآن المعامل العثمانية في القسطنطينية وأزمير بإصلاح عدد من السفن الكبيرة

والصغيرة، وتجربتها لجعلها ملائمة للحركات العصرية.

قد اختارت حكومة جلالة السلطان للمدافعة عن شواطئ المملكة وتسليح

مدرعاتها المواد النسافة، وذلك لبساطة تركيبها وعظيم أثرها، فلو أن عمارة أجنبية

حاولت الهجوم على بوغاز الدردنيل لتدخله، لصبت عليها مصائب عظمى من

الخسائر، فإنها تكون محصورة بين نيران الحصون التي على الشاطئين- الأوروبي

والآسيوي - ومعرضة في كل دقيقة لنسف النسافات (التوربيد) التي بتوالي

صفوفها تقطع عليها طريقها، ولا تمكنها بحال من الأحوال من وصولها إلى

رأس نجارا، ومع ذلك لو أن بعض السفن الحربية الأجنبية نجحت بقوة التيار

في اجتياز هذا المعقل الأول، فلا بد لها أن تصادف السفن الحربية العثمانية،

وتكون ملاصقة له، فتحطم منها هذه في أقرب وقت بمساعدة القلاع المتواصلة

على الشاطئ ما بقي سليمًا بعد اجتياز ذلك المعقل، وفضلاً عن ذلك فإن من

يملك بوغازالدردنيل فهو الذي يملك الشاطئ الأوروبي؛ لأن الشاطئ الأسيوي أقل

منه أهمية، فأي محاولة من العدو في إنزال جنوده عليه - إما في شبهة جزيرة

غاليبولي أو غربها - لا بد أن تؤدي به إلى هزيمة فاضحة، وبعد أن تطحن جنودَه

قوى الجيش العثماني المراقب الفائق عليه يبلغ به العجز إلى حد أنه لا يمكنه أن يجد

سبيلاً للالتجاء إلى مراكبه، ويضطر بلا شك إلى تسليم أسلحته.

مدة الخدمة في العمارة البحرية اثنتا عشرة سنة، خمسة منها في القسم العامل

(النظام) وثلاثة في القسم الاحتياطي لهذا القسم، وأربعة في القسم الاحتياطي

الحقيقي (الرديف) .

لا ينقص فرقة الضباط التي تخرج من مدرسة حلقى البحرية شيئًا تحسد عليه

ضباط فرنسا وإنكلترا البحريين، قد شغفت جلالة السلطان بأن تمنح للعمارة التجارية

ما يلزم لانتشارها من وسائل التشجيع والتنشيط، فالفضل لحكومتها الحالية في إسداء

تركيا المدرسة التجارية البحرية التي أسست في حلقى من أربع سنين، وهي

تربي رؤساء السفن (القبودانات) الكبيرة والصغيرة التي يتجر بها على الشواطئ،

كما تخرج رؤساء السفن المعدة للاتّجار في البلاد البعيدة الذين سيكون لهم خدم مشهورة

في التجنيد البحري، يتعلق بنظارة البحرية أيضًا من مشاة العساكر البحرية ما عدده

5000 أو 6000 عسكري، تستحق النظر هنا لأنها مختارة من أحسن جنود

المملكة العثمانية.

تنقسم تركيا من حيث ترتيب العمارة البحرية إلى تسعة مراكز بحرية وهي:

القسطنطينية وأسكودار وتشيو وبريفيزا وسالونيك وكريت وطرابلس الغرب

والبصرة وفيها خليج العجم، وجدة وفيها البحر الأحمر، قد قضت فرنسا بعد مصائب

حرب 1870و 1871 عشرين سنة في إصلاح خلل نظامها الحربي، وإعادته إلى

ما كان عليه، أما تركيا فقد نجحت في إتمام هذا العمل نفسه في نصف هذا الزمن،

وهو أحسن مدح يمكن للإنسان أن يمتدح به الدولة العلية ومليكها القادر (مبالغة) .

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 462

الكاتب: أحد الفضلاء

‌رد على باحث في كتاب

سر تقدم الإنكليز السكسونيين

(لحضرة الكاتب الفاضل صاحب الإمضاء)

قامت نهضة الأقلام في هذه الأيام الأخيرة تكيّف الداء الذي ألمَّ بحال الأمة

وتُتبعه بوصف العلاج الناجع لها، وقد دارت أبحاثها على أن الدواء الصحيح

لشفائها من هذا الضعف القَتَّال هو الرجوع إلى الدين، وهذا ضياء في القلوب قد

سطع، ويشرح قلب المؤمن الغيور على أمته، ولكننا نأسف كل الأسف من أن هذا

الشعاع الذي ظهر ما أوشك أن يتم نوره حتى خالطه غيم في الأفكار، واختلاط في

الشعور، وإفراط في النزعة.

فقد ينزع بعض الكاتبين إلى التشديد على كل فكر يبديه صاحبه في إصلاح

الأمة إذا لم يفتتحه باسم الدين، ولم يعلق كل مقدمة منه بنص من نصوص الدين،

وإلا نقد كل مؤلف عرضت فيه سنن الله في خلقه، وشؤونه في عباده متى لم يذكر

فيه اسم الدين، وإن كان جلّ ما فيه من مخ الدين، كما فعل الباحث في كتاب (سر

تقدم الإنكليز السكسونيين) الذي نقله سعادة أحمد بك فتحي زغلول إلى لغتنا العربية

الشريفة في مقالته التي نشرت في العدد الأخير من جريدة (الموسوعات) الغرَّاء

حيث بنى نقد الكتاب وترجمته على أنه لا يرجى للأمة الإسلامية خيرٌ إلا من

الدين حتى يخيل لقارئه أن جميع ما في الكتاب يناقض الدين مع أنه لا شيء مما

يوهمه مقاله بمتوهم.

نعم، الدين خير الوسائل لإصلاح الأخلاق وتقويم النفوس وتطهير الأرواح،

وهو المرشد الأول إلى النظر في دقائق الكون وما أودعه الله من سر ارتباط

الأسباب بمسبباتها، وقد دعانا إلى أن ننظر في أحوال الأمم الغابرة، ونحيط بما

حولنا من شؤون الأمم الحاضرة، ونتأمل في تاريخ هذا الوجود وفي أطواره، وفي

تصرف الله في شؤونه، وفتح لنا مجال الأفكار وميدان الإدراك، وأمرنا بالتفكر

والاعتبار، كل هذا لنزداد في عقائدنا قوة، وفي يقيننا ثباتًا ومتانة، وفي أمرنا

رشادًا، ولنتقي ما عساه يصل إلينا ممن يطمع فينا، أو يعدو ببغيه علينا.

وهذا قرآننا الشريف غالب آياته عبر وروايات عن حوادث الشعوب الأولى،

ومرآة للتواريخ الماضية قد ساقها الله لنا في خلال أوامره ونواهيه؛ لتكون أقرع

في الحجة وأوقع تأثيرًا في القلوب الحيَّة.

وقد مثل لنا كتاب (سر تقدم الإنكليز) حال أمة رقت في المدنية درجة رفيعة

عرفها لها أعداؤها، وبهذه المدنية نفسها أصابنا منها ما نشكو إلى الله عواقبه،

ونلوم أنفسنا على ما جرَّ بِنا إليه، وقد جعلت من أهم أصول التربية عندها من القوى،

ووجهت عنايتها لغرس الوطنية الصادقة في القلوب مع تنظيم أماكن تعليمها،

وترقية زراعتها وصناعتها، ثم قابل بينها وبين أمة تركت الاعتماد على العمل،

وأهملت كثيرًا من تلك الوسائل في سيرها إلى الغاية التي تسير إليها الأمم، وكانت

النتيجة سيادة الأولى وانحطاط الأخرى.

أليس يجب أن يكون هذا الكتاب خير موعظة تهدى للاعتبار، وخير ذكرى

تقدم لأمة من أصول دينها النظر في الموجودات؛ لتزداد بصيرة في قدرة الله

وتدبيره في خلقه، ولتحتاط لنفسها بالعمل على ما تراه من سنن الله في غيرها وفيها،

والمقابلة بين السنتين والنظر في سبب تباين الطورين مع الرجوع في ذلك كله إلى

أصول دينها.

وقد قصد سعادة المترجم بكتابه هذا تنبيه الأفكار إلى معنى جليل ربما لم يخطر

على بال الباحث، ولكنه يخطر على بال المتأمل، قصد أن يثبت لأمته أن الأخلاق

الفاضلة والتربية الصحيحة أينما حلت في أمة رفعتها لذروة السعادة، وصعدت بها

في معارج السيادة، فكيف بنا إذا أخذناها عن ديننا، وهي من أخص مزاياه؟ لا

شك أن تأثيرها يكون فينا أعظم، وفعلها في طباعنا أنجح.

أي تنديد يسمح به دين الباحث يصح توجيهه إلى مثل سعادة المترجم، وقد

أهدى أمته مرآة عِبَر يرى في أحد وجهيها أمة راقية أوج المدنية ببركة التمسك

بالعوامل السليمة، وأخرى هابطة من رفعتها بسبب إهمالها تلك العوامل،

خصوصًا إذا اعتبرنا أن روح الترقي وهو الاستقلال الشخصي هو بعينه روح الدين

الإسلامي، والإسلام هو أول دين أفضى بالعبد إلى ربه مباشرة بلا واسطة رئيس

ولا نائب، وهو الذي دعا إلى العمل بالأسباب، وقضى بأن لا سبيل إلى السعادة إلا

بالعمل بعد الاستعانة به وحده.

وكأني بالباحث يميل إلى القول بأن سعادة المترجم لا يروق في نظره تهذيب

الدين وآدابه، ولهذا اختار النصح لأمته من الطريق الذي سلكه، ولكن هذا سَبْق

نظر أو سوء ظن بدون قرينة عليه، ومن يطلع على كتابات سعادة المترجم، أو

يتلو شيئًا من كتاب (الإسلام) الذي نقله إلى العربية يعلم قوة إخلاصه في دينه

وغيرته على يقينه، وهذا كتاب (سر تقدم الإنكليز) قد ختم بفصل في الكلام على

الدين، وبيّن أن سعادة الأمم بصلاح الدين، وشقاءها بفساده.

وقد ذهب حضرة الباحث في مقالته إلى أن حب الخير وحده ليس كافيًا في

سعادة الأمة، بل لابد من بث الرغبة أو الرهبة أو كليهما في الناس، وتلك الرغبة

أو الرهبة إن لم تكن من الله تعالى فمن السلطان، وهذا لا نخالفه فيه، وسعادة

المترجم لا يطالب الناس بالانسلاخ عن دينهم والابتعاد عن الله تعالى، ولا مخالفة

السلطان عند مطالعة كتابه، وأعجب من هذا أن حضرة الباحث قال في مقالته:

(لو أراح المؤلف نفسه من عناء التحرير والتحبير، ودعا الناس إلى أخذ علم الدين

والأخلاق عن أهله وعلمائه، لأفاد وأجاد، وفينا بحمد الله تعالى من علماء الدين

وأطباء النفوس من يعدون بالمئات) .

وإنا نسأله بحق دينه أن ينبئنا بأسماء عشرة من تلك المئات حتى ندعو الناس

إلى دروسهم، وليخبرنا بدروس الأخلاق والآداب التي يلقونها وأوقاتها، ولا شك أن

سعادة المترجم وغيره من أهل الغيرة ينهضون لحث الناس للتربع في حلقات

دروسهم.

فإن كان من تؤخذ عنه الآداب المصعدة للأمم في درجات الترقي يبلغون هذا

العدد، فَلِمَ لَمْ يؤلفوا بأنفسهم الجمعيات لدعوة الناس إلى تلقي الآداب وسماع المواعظ

عنهم؟ ولِمَ لَمْ يبدءوا على الأقل بإصلاح خطب أيام الجمعة، ووضعها في عبارة

تفهمها العامة، وإيداعها معاني تنفذ في أفئدتهم ويظهر أثرها في عملهم، وأما الجامع

الأزهر فإنَّا نسأل الله أن ينبه في علمائه عين الدين، ويوقظ في أرواحهم النظر إلى

مصالحه، بل ومصالح أنفسهم.

وليت شعري علام عمت الشكوى من المحاكم الشرعية، وحار المصريون في

إصلاحها، وما الذي بعث الأجنبي على التداخل في شؤونها، وحمل جميع الكاتبين

على الإقرار بوجود الخلل والفساد فيها، وإنما لاموا الأجنبي في الهجوم عليها،

وطلبوا منه أن يدع الأمر لأهله، وأن يَكِل إصلاحها إلى أهل الدين حتى يكون قوام

الإصلاح هو الشرع القويم.

هل قال أحد بأن الشرع قائم في محاكمه؟ هل اعترف أحد بأن العدل غالب

على القضاة في تلك المحاكم؟ بل هل أقر أحد بأن النصف من عددهم قائم بالعدل

في أحكامه، بعيد عن الهوى في مذاهبه وآرائه؟ فإن لم نجد الصلاح في أولئك

القضاة غالبًا، وهم منتخبون من علماء ذلك الجامع المعمور، فهل نجد من يسمع

قولنا إذا دعونا العالم لحضور مجالس من تلقوا عنهم. إنهم تلقوا وغيرهم يتلقون

دروس الفقه، وشيئًا من دروس العربية، يحضرون تلك الدروس على أنها

صناعات، بل على أنها عبارات يجب على الطالب أن يفهمها؛ لأنها ألفت في كتبها

لا لأجل أن ينتفع بما دلت عليه كما هو معلوم، أما الآداب السامية فهي في بطون

الكتب التي لا يقرءونها، ويعدها الكثير منهم من سقط المتاع، فهل من واعظ يعظ

من يحق لهم أن يعظونا؟

تكلم الكاتب على النظافة - نظافة الظاهر ونظافة الباطن - فهل نجد بها عناية

في ذلك المحل الذي يجدر به أن يكون أنظف مكان وأقدسه وأشرفه، إلا أننا نستجير

بمثل الكاتب في إرشاد أهله ومتولي شؤونه أن يجعلوه ومن فيه قدوة في النظافة

ظاهرًا وباطنًا.

إن الكاتب لم يذكر إلا شخصًا واحدًا من أهل العلم ألَّف جمعية (مكارم

الأخلاق) فنعم الصنيع صنيعه، ونسأل الله أن يرشده إلى أقوم السبل فيما هدي إليه

وأن يقيه شر العجلة واستسهال نيل الغاية حتى يظهر لعمله من الأثر ما نحبه

لعامتنا.

فهذا كله يحملنا على أن ننظر في سِيَر غيرنا لنعلم كيف وصلوا إلى السيادة

على غيرهم، فإذا رأيناهم وصلوا بالعمل لا بالقول، ورجعنا إلى ديننا فوجدناه قائمًا

على رؤوسنا ينادينا بقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (التوبة:

105) استحينا وخجلنا، وقلنا: ما كان أجدرنا بأن يعمل كل منا بما هو ميسر له،

وما كان أولانا بالجد وترك الهزل، وما أحقنا بالنظر إلى الغايات دون النظر في

تحقيق العبارات.

وإني أرى من الواجب على حضرة الباحث وهو أعلم منا بمعاهد التربية

ودروس الآداب أن يبدأ بتأليف جمعية من الشبان إن كان شابًّا، ومن الكهول إن كان

كهلاً، ومن الشيوخ إن كان شيخًا، فنذهب إلى تلك الدروس ونتلقى من الآداب ما

يعيد إلى الأمة ما فقدته من دينها، ويحيي فيها ما أماتته التقاليد من عقائدها، وعليه

أن يعلن ذلك، فأكون أول الساعين معه إليها، وأنا في انتظار ذلك إن شاء الله.

...

...

...

...

... (ح. ع)

_________

ص: 464

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌القسم الثاني

من خطبتنا في التربية

وأما تربية الأطفال العملية فهي التربية النافعة الحقيقية، وبها تناط سعادة الأمة

والبلاد إذا هي سارت على نهج الحكمة والرشاد، لنا من نفوس هؤلاء الأطفال

ألواح صقيلة قابلة لكل نقش، ومن أدمغتهم قراطيس بيضاء نظيفة مستعدة لكل رسم،

فعلينا أن ننقش فيها آيات الحكمة والفضيلة، ونرسم فيها تعليم المبادئ التي تؤدي

إلى الغايات الجليلة، علينا أن نعوِّدهم على الصدق في القول والعمل، وعلو الهمة

وإطراح الإهمال والكسل، إلى غير ذلك من الأعمال النافعة والخصال الرافعة؛

لتنطبع في نفوسهم الملكات الشريفة على الوجه الذي بينّاه أولاً.

تقرؤون في الجرائد الإسلامية، وتسمعون في المجامع الدينية أن نجاح

المسلمين لا يكون إلا بالرجوع إلى تعليم الدين، وأن المدارس الأميرية قد نسخت

الدين ومسخت العربية، والمدارس الأهلية تحذو حذوها وتقتفي أثرها، فماذا

نعمل؟ وكيف السبيل إلى بلوغ المأمل وهذه المدارس لا غناء عنها؛ لأن الموظفين لا

يكونون إلا منها؟

وتعليم الأزهر مقصور على كتب مخصوصة، قصاراها فهم أحكامها

المنصوصة، لا تجمع بين الدنيا والدين كما هو الواجب على المسلمين.

يسهل على الغني منا أن يتخذ لأولاده أستاذًا مخصوصًا يعلمهم الدين، ولكن

هل يكفي هذا لحصول الغرض الذي نبتغيه؟ كلا، لا بد من تعميم التعليم،

ولا بد من التربية بالعمل، أما تعميم التعليم على المنهاج الديني فلا بد له من تأليف

الجمعيات الإسلامية وها أنتم أولاء قد بدأتم بهذا العمل الشريف، فأنشئت فيكم

جمعيتان إحداهما هذه (مكارم الأخلاق) التي كنا نخطب فيها، والثانية جمعية (شمس

الإسلام) أما شمس الإسلام فقد شرعت بالتربية والتعليم بالفعل، وأما هذه الجمعية

فإنها تنتظر من حميتكم الملية، وغيرتكم القومية أن تمدوها بالمساعدة المالية للقيام

بتحصيل هذه الأمنية، وكأني بالدعاء وقد أجيب، وبالعمل قد ظهر عن قريب. وأما

التربية العملية فهي الركن الأول، وعليها الاعتماد والمعول، ولكن أنَّى لنا بمن

يحسنها ويقوم بها.

كتبت في مقالة أننا إذا نظرنا في ضعفنا وبحثنا في علاجه نرى أننا في حاجة

إلى أشياء كثيرة، وإذا ارتقينا في الأسباب ننتهي إلى شيء واحد إذا وجد أوجد كل

شيء ألا وهو الرجال العارفون بطرق المعالجة معرفة صحيحة تبعث على العمل،

إذا كنا نرى الأساتذة والمعلمين لا يحسنون التربية التي بها نرجو الحياة السعيدة فمن

عساه فينا يحسنها؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه، ولولا أن فينا بعض قوم من

العارفين نرجو أنْ يُزْهِقَ حقُّهم الأباطيلَ ويمحو نورُهم هذه الظلماتِ لغلب الخوف

على الرجاء، واستحوذ اليأس على الأمل.

ما لا يدرك كله لا يترك قِله، فعلينا أن نوجه العناية التامة إلى تربية أبنائنا

وبناتنا بكل ما في استطاعتنا. البحث في هذه التربية طويل الذيل، متدفق السيل،

وإنما وقفت لأبين بالاختصار ما يجب أن نتوجه إليه، ومتى صح القصد وصدق

العزم نهتدي إلى سواء السبيل، فالعمل يمد العلم، والعلم يقوّم العمل، ولكن لا بد من

تنبيه وجيز يسهل على كل أحد تعقله والأخذ به، أهم شيء أنبه إخواني عليه أن

التربية لا تكون بالقول بل بالمعاملة، لو كان الإنسان يتربى ببيان الرذائل له، وقولنا

له: اتركها، وسرد الفضائل له وقولنا له: الزمها، لكان الأجدر بها العقلاء الكبار

دون الأطفال الصغار؛ لأن الكبير أوعى للقول وأفهم للخطاب، لا يكاد أحد من

الجماهير المجترحين للسيئات - لا سيما الكبائر - يجهل أنها محرمات، وما عساه

يوجد من جاهل بها، فحسبه أن يعلم معظمها في حضور مثل هذا الاجتماع، وإنما

التربية المثلى تكون بالمعاملة الحسنى، فإذا أردت أن يكون وليدك أو تلميذك صادقًا

مثلاً، فعامله بالصدق، وحُلْ بينه وبين الكاذبين لا سيما من أخدانه وأترابه؛ فإن

الصغير يقلد كل ما رآه، ويقتبس من كل من عاشره، وتتكيف نفسه بكل ما يرد

عليها من أي طريق جاء. سبحان الله ما أشد غفلتنا، يكذب أحدنا على ولده من

أول النشأة بالقول والفعل، ولا يمنعه من معاشرة الكذابين والمجرمين؛ فتنطبع في

نفسه ملكة الكذب حتى إذا ما شب ورأى والدُه مضرة ذلك ومعرّته فيه قال: يا بنيّ لا

تكذب؛ فإن الكذب حرام، فأنّى تمحو هذه الكلمة ما رسخ في نفسه بكرور السنين،

وصار صفة من صفاته؟ إن فشوّ وباء الرذائل جعل التربية عسيرة على العارف

بها والبصير بدقائقها، فكيف حال الغافل الجاهل؟ ربما يتيسر للغني حجب ولده عن

قرناء السوء من أترابه، وأن ينتقي له أصدقاء مهذبين، ويتخذ له ولهم في داره من

الألاعيب والألاهي ما فيه غنية عن الرياضة في خارج الدار، ولكن أنّى يتسنى

للفقير مثل ذلك، لا يزيل هذه العقاب والعواثير من طريق التربية إلا العزيمة

الصادقة المنبثقة عن العلم بأن بوجود هذه التربية حياتنا، وفقدها موتنا وهلاكنا.

جماع ما يؤخذ به في تربية الأولاد: (1) المنع عن قرناء السوء، فإن الولد

يستفيد من مثله أكثر مما يستفيد من أبيه وأمه؛ لأن أفكار تِرْبِه في درجة أفكاره،

ورغباته من جنس رغباته، وأعماله من قبيل أعماله (2) الحيلولة بينه وبين كل

ما يضره الاطلاع عليه أو التلبس به في جسده أو عقله ونفسه، ولكن من حيث لا

يشعر؛ إذ أحب شيء إلى الإنسان ما منع منه، والمحبوب مطلوب والنهي عنه إغراء

به، و (3) أن يحمل على كل ما يطلب منه بالعمل، وأن يكون الباعث له على

العمل التشبه والاقتداء، ولذلك كان بعض شيوخ الصوفية يرتاض مع مريديه حتى

كأنه سالك مثلهم، و (4) أن يرجح الترغيب على الترهيب. هذا ما يجب أن نأخذه

بقوة واجتهاد {مَا أُرِيكُمْ إِلَاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: 29) .

اهـ.

هذا ملخص الخطبة، وقد كتبت منها أكثر جملها وتركت بعضها عمدًا؛ لكونها

جاءت في (المنار) من قبل، أو لعدم فائدتها، وما كتبته فهو قريب مما قلته في

اللفظ والفحوى، ومن عادة الرئيس أن يتعقب كل خطيب بكلام يثني عليه به ويلم

بمعنى ما تكلم به إجمالاً، وقد جاء في تعقبه إياي بكلمات أبان فيها عن ارتياب في

كون الأولاد يقتبسون العادات والأخلاق من معاشريهم، وحصر ذلك في الآباء

مستدلاًّ بالقول المشهور (الولد سر أبيه) وصرح بأنه يكتفى في تربية الولد

التربية الصالحة أن يرى أباه يعمل الصالحات، وهذه غفلة من حضرة الأخ الفاضل

الشيخ زكي الدين عن الوجود؛ لأننا نرى أكثر أولاد الصالحين فساقًا لاشتغالهم

بأنفسهم عن تربية أولادهم، ومن الأمثال المشهورة في هذا (خبث الرجل الصالح

في منيه) وهو تعليل شعري، والعلة الصحيحة هي عدم التربية الصحيحة، أما

قول (الولد سر أبيه) فهو إشارة إلى الوراثة، وللوراثة أثر لا ينكر في الاستعداد

والقابلية، ولكنّ الاعتماد على التربية فهي التي لا يغلب سلطانها، وليست التربية

إلا العملية كما قلنا. وألمَّ أيضًا بما قلته من أن المرأة يثقل على طبعها أن يحملها

الرجل على ما يريده بالقوة والإلزام، وأن الأولى أن يأخذها بالرفق واللين، وسبق

إلى فهمه أن هذا منافٍ أو مناقض لقولي، ينبغي لمن يحاول تربية نفسه أن يستعين

على ذلك ببعض آخوانه وأصدقائه، بأن يجعله مسيطرًا عليه ومنتقدًا له، يذكّره إذا

نسي ما التزمه من ترك المنكر وعمل المعروف، ويعاتبه بل ويؤنبه إذا هو نقض

العهد عمدًا.

وصرحت حضرته في التعقيب بأنه كيف يثقل على المرأة إشراف زوجها

عليها بالأمر والنهي من سماء السلطة، ولا يثقل على الرجل مثل ذلك من صديقه

وليس له عليه من السلطة مثلما للرجل على المرأة؟ والجواب عن هذا ظاهر من

وجوه (أحدها) أن ما يكون من الصديق لصديقه لا استعلاء فيه؛ لأنهما كفئان فلا

يثقل على النفس. (ثانيهما) أننا قلنا: إن ذلك ينبغي أن يكون بالمواطأة بينهما،

وأنه هو الذي يجعل صديقه رقيبًا عليه، ومهيمنًا على أعماله، ومن يثقل عليه هذا

لا يأتيه، وإذا وجدت امرأة عاقلة تواطأت مع زوجها على أن يؤنّبها إذا هي قصرت

بما يطلب منها، فيكون حكمها حكم الصديق. (ثالثها) إن النساء أسرع من الرجال

انفعالاً، وأقل منهم احتمالاً، ولذلك شبههن النبي صلى الله عليه وسلم بالقوارير،

ولو أنه ذاكرنا في المسألتين قبل أن ينتقد لانجلت الحقيقة، ويمكنه بعد ذلك إيضاحها

للجمهور، ولكنه تعجل في بيان ما اعتقده عملاً بأثر (خير البر عاجله) وحيث ألقى

الكلام للجمهور اضطررنا أن نبينه لهم بهذه الكلمات لئلا تكون الشبهة علقت ببعض

الأذهان فتصد أصحابها على العمل الذي حملناهم عليه، ولم نشأ أن نتعقبه بالقول

في محل رئاسته أدبًا معه، ولئلا نحفظ قلبه، فإن وداد مثله من الفضلاء نعده من

أعلاق الذخائر.

إذا تأمل هذا الذين لم يفهموا قولنا الذي نكرره دائمًا: (إن العلم اليقيني الذي

يمتزج بالنفس هو الذي يحملها على العمل جزمًا) يتجلى لهم السبب في عدم عمل

الناس بالنصائح التي يسمعونها، فإنها إذا كانت مجملة كاتحدوا واتفقوا، واتركوا

المحرمات وتمسكوا بالصالحات، لا ترشد سامعها إلى ما يجب أن يعمله، وإذا كانت

مفصلة يعرض للتفصيل مثل هذه الشَََُّبَه التي عرضت لرجل من أمثل وعاظنا، فما

بالك بالشُّبَه العامة التي ذهبت بالجزم على الوعيد من النفوس كقول بعض العلماء:

يجوز أن يخلف الله تعالى وعيده، وكالاعتقاد بالمكفرات والشفاعات إلخ ما بيناه في

مقالة (تأثير العلم بالعمل) وعسى أن يحمل حضرة الفاضل الشيخ زكي الدين

كلامنا على الإخلاص فيتلقاه بالقبول، فالحكمة ضالة المؤمن، والعصمة في تبليغ

الحق إنما هي للأنبياء دون سائر البشر، والسلام.

_________

ص: 470

الكاتب: محمد رشيد رضا

دروس جمعية شمس الإسلام

(3)

(أمالي دينية- الدرس الثالث)

(7)

الدين توحيد: بسم الله الرحمن الرحيم {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا

وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا

الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ

وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (الشورى: 13)

دين الله تعالى واحد يجب أن لا يكون فيه تفرق ولا اختلاف؛ لأنه إنما وضع

لإسعاد البشر، والسعادة إنما تكون في الاجتماع والتوحيد، لا في التفريق والتعديد

ومن فهم معنى الإنسان وشاهد تصرفه في الأكوان علم أنه خلق ليعيش مجتمِعًا لا

منفردًا، ومؤتلِفًا لا مختلِفًا، وهذا هو معنى الكلمة المشهورة:(الإنسان مدني الطبع)

فإذا جاء الدين على خلاف ما تقتضيه الفطرة كان شقاء لا سعادة، ومحنة لا

منحة، وأي جهول يجرؤ على أن يرمي دين الله بهذه النقيصة الكبرى والمَعَرَّة

الشنعاء؟

أول اجتماع بشري هو اجتماع الأسرة (العائلة) المؤلفة من أبينا آدم وأمنا

حواء عليهما السلام ومن أولادهما، وقد كان آدم نبيًّا يتلقى عن الله من الدين ما

يسوس به ذلك الاجتماع الصغير، وقد فسق بعض ولد آدم عن هدي والده فقتل أخاه

فكانت بذلك مخالفة الدين سُنَّة في الإنسان باقية إلى ما شاء الله، ثم اتسعت دائرة

الاجتماع فكانت الشعوب والقبائل والأقوام والأمم، وكان الله تعالى يرسل إلى كل

قوم نبيًّا {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) يعلّم التوحيد ويدعو إلى

ما يتم به نظام الاجتماع من التهذيب والتأديب، وكانت آفة كل دين شرعه الله تعالى

لعباده اختلاف أهله فيه وتفرقهم إلى مذاهب متعددة يضلل أهل كل مذهب أتباع

المذهب الآخر، وينصرون مذهبهم ولو بالتأويل والتحريف، وينتهي ذلك

باضمحلال الدين وذهاب فائدته بالكلية، بصيرورته مشقيًا لذويه، مخزيًا لمجموع

متبعيه.

ولما استعد النوع الإنساني بمقتضى سُنة الارتقاء لاجتماع جميع أممه وشعوبه

واتصال بعضهم ببعض، وهبه الله تعالى الدين الأخير الذي ترشد تعاليمه إلى نظام

هذا الاجتماع الكبير، فجاء كتابه (القرآن) ينهى العالمين عن الاختلاف والتفرق

في الدين حيث كان ذلك هو الذي شتت شمل الغابرين، وجعلهم سلفًا ومثلاً للآخرين

سمعتم الآية الكريمة التي افتتحنا بها الدرس، وكيف صرحت بأن دين الله تعالى

على لسان جميع الأنبياء واحد لا ينبغي التفرق فيه، والمراد به أصول الدين

وقواعده العامة في الإيمان والتهذيب واجتماع الكلمة، وكون الأعمال الشخصية

دائرة على محور المنافع الشخصية، والمعاملات دائرة على محور المصالح

العمومية، وأما قوله تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48)

فهو بيان للواقع، ومخصوص بفروع الأحكام التي تختلف باختلاف المصالح

والمنافع التي تتغير بحسب الأزمنة والأمكنة، بل مثل هذه الأحكام تتغير في

الشريعة الواحدة بمثل هذا التغير والاختلاف، ولذلك كان من أصول الشريعة

الإسلامية تحكيم العرف الذي تجري عليه الناس، ومثل هذا لا يعد اختلافًا وتفرقًا؛

لأنه تغيير في الصورة والعرَض لا في الحقيقة والجوهر، وفي المعنى اتفاق على

اجتناب المضار واجتلاب المنافع، وما هذا إلا لُباب الدين الذي تزداد به المحبة

وتنمو الألفة، ويكون أهله جسمًا واحدًا لا شيعًا مختلفة، وإنما نهى الله تعالى عن

التفرق الحقيقي الذي يجعل أهل الدين الواحد شيعًا مختلفة يتباغضون ويتحاسدون،

يتلاعنون ويتقاتلون، ويزعمون أنهم ينصرون بذلك الدين، ودين الله بريء منهم

أجمعين، بالغ القرآن في ذم هذا التفرق حتى قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا

شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} (الأنعام: 159) وحسبك تبرئة الله تعالى رسوله منهم

في كل شيء دليلاً على بعدهم عن دينه وتنائيهم عن مرضاته، وقال تعالى: {وَلَا

تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} (آل عمران: 105)

كان الخلفاء الراشدون وعلماء الصحابة وأكابر أئمة السلف يحافظون أشد

المحافظة على عِقد الدين أن يتناثر بالخلاف والشقاق، ويحذرون على وحدة الإسلام

أن تثلم بالتمذهب والافتراق، فما ظهر للبدعة نبت إلا حصدوه، ولا نَجَم في

رءوس الفتنة قرن إلا قلعوه، وناهيكم بما فعل سيدنا عمر بصبيغ التميمي، وما كان

الأئمة يجيبون به من يسأل عن المتشابه وتأويل القرآن من الزجر والنهر حتى رزئ

الإسلام بفتنة الخلافة التي كانت ينبوع الفتن وبركان الإحن.

فعمَّ البلاءُ الخلفاء والعلماء والملوك والأمراء، وانقسم المسلمون إلى مذاهب،

وظهر فيهم تأويل قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْض} (الأنعام: 65) وغلا بعضهم حتى صاروا أبعد عن الدين من سائر المشركين،

واشتعلت بينهم نيران الحروب فكانوا عونًا لأعدائهم على امتصاص دمائهم وتمزيق

أشلائهم، وهدم بنياتهم وأضعاف سلطانهم، وأخص بالذكر الفرقتين العظيمتين أهل

السنة والشيعة اللتين لا ينظر في تاريخهما عارف بحقيقة الدين وغيور على

المسلمين إلا ويتفطر فؤاده من الغم، ويرسل الدمع ممزوجًا بدم؛ لأن مثار الخلاف

بينهما مسألة فرعية ذهب وقتها وذهبت فائدة ظهور الصواب فيها بحيث لا مبعث

للتنازع ولا مجال للتقاطع لو أنصف الفريقان وتعاملوا معاملة الإخوان التي يوجبها

عليهم القرآن الذي يذعن له الاثنان. اشتد كل فريق في مجادلة الآخر ومجالدته،

ومناهضته ومواثبته، ولو سلكوا طريق القرآن لوضح الحق واستبان.

أمر الله نبيه أن يحاج المشركين بمثل قوله: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَوَاتِ

وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قُل لَاّ تُسْأَلُونَ عَمَّا

أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 24-25) أين هذا التلطف في الدعوة إلى

الحق الذي أسند به النبي - بأمر الله - الإجرام إلى نفسه والمؤمنين مجاراة

للمشركين وحكاية لألفاظهم، وسمى به شركهم عملاً، ولم يصفه بكلمة ذم لئلا ينفروا

من سماع الحق؟ أين هذا مما جرى عليه المسلمون مع إخوتهم في الدين حيث

يسمع أحدهم عن الآخر كلمة يريها إياها فهمه السقيم أو السليم خطأ فيملأ عليه

الدنيا تشنيعًا، ويؤلف الكتب في الرد عليه وتضليله أو تكفيره، فيضطره إلى مقابلته

بالمثل، ويعمى عن الحقيقة إن كان مبطلاً، وينتصر لكل منهما المنتصرون فتعظم

الفتنة وتعم المحنة؟ هذا ما كان وهذا ما هو كائن فالطف اللهم بنا فيما سيكون.

أمر الله تعالى نبيه أن يدعو أهل الكتاب بمثل قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا

إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَاّ نَعْبُدَ إِلَاّ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً

أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) وأن

يلاطفهم بمثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ

بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا

هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) بل ووعدهم بأنهم إذا دخلوا في الإسلام يؤتون أجرهم

مرتين، وإذا ظلوا على دينهم كان لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وندافع عنهم بما ندافع

عن أنفسنا.

فهل يصح لأهل هذا الدين أن يجادل بعضهم بعضًا بالتي هي أسوأ، والله

تعالى يقول لهم: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت:46)

أما وسر الحق لو أن قومنا ساروا على منهج القرآن في مقارعة البدع لما اتسع

الخرق على الراقع، وقد كان شأن قومنا في ذلك كما قال أستاذنا الأكبر في رسالة

التوحيد وهو: بقيت علينا جولة نظر في تلك المقالات الحمقى التي اختبط فيها القوم

اختباط إخوة تفرقت بهم الطرق في السير، إلى مقصد واحد، حتى إذا التقوا في غسق

الليل صاح كل فريق بالآخر صيحة المستخبر، فظن كل أن الآخر عدو

يريد مقارعته على ما بيده، فاستحرَّ بينهم القتال، ولا زالوا يتجالدون حتى تساقط

جلهم دون المطلب، ولما أسفر الصبح وتعارفت الوجوه رجع الرشد إلى من بقي

وهم الناجون، ولو تعارفوا من قبل لتعاونوا جميعًا على بلوغ ما أمَّلوا، ولوافتهم

الغاية إخوانًا بنور الحق مهتدين.

كتب الأستاذ هذا بالنسبة لمسألة واحدة وهي تصدق علينا في كل مسألة مما

اختلفنا فيه، فكنا به شيعًا ومذاهب، وإلى الآن لم نتعارف ولم نطلب الأخوة

الإيمانية الصحيحة، وإنما يكون ذلك بتعميم التعليم الذي نريده، وهو مبني على أن

الإسلام ضد التمذهب؛ لأنه جاء لجمع الملل وتوحيدها، والتمذهب إنما كان لتفريق

الملة الواحدة وتعديدها، فالاعتقاد الذي نعلمه هو ما أجمع عليه الذين يعتد بإسلامهم

وكل ما اختلفوا فيه لا يتوقف الإسلام عليه ويجب أن يكون الاختلاف فيه كالاختلاف

في سائر المسائل العلمية لا يثير شغبًا ولا يحدث مذهبًا، مثلاً: إن المسلمين مجمعون

على أن الله عالم لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، ومختلفون

في ذلك العلم هل هو صفة وجودية زائدة على الذات، أو هي عين الذات، أو لا

عين ولا غير، ولا شك أن هذا البحث أقرب إلى الفلسفة منه إلى الدين، وهو لم

يذكر في القرآن ولا في السنة، ولا ورد في آثار السلف الصالح، وكذلك مسألة

الخلافة التي كانت علة العلل لجميع الانحراف والزلل، فإنها ليست من أركان الدين

وأصوله كما قلنا آنفًا.

لا أذكر في دروسي هذه من مسائل الخلاف إلا ما عساه يتوقف عليه فهم

المتفق عليه، ولا أخوض في شُبَه المبتدعة لئلا يعلق منها شيء في الأذهان

الضعيفة فيفسدها ويميتها، فقد علمنا ما فعل ذلك بمن قبلنا ممن كانوا خيرًا منا علمًا

وعملاً بحيث لا تقاس علماؤنا في الغالب بعامتهم، فضلاً عن أن نقيس دهمائنا

بدهمائهم، ونسائنا بنسائهم، بل لا يجوز لأحد سرد تلك الأقاويل المفرقة والشُّبَه

المضللة على العامة، من أحب الوقوف على مسائل الخلاف فعليه أن يتبع قوة

الدليل إن كان من أهل النظر، وإلا فليقلد الجمهورالأكبر، ولا يكفرن من خالفه فيما

اعتقده، ولا يجعلن الخلاف مانعًا من أخوته الإيمانية، وإذا ذاكره أو كاتبه في ذلك

فليسلك معه مسالك الإخوة في مذاكرتهم بمصالحهم ومنافعهم.

السنيّ والشيعي والمعتزلي والوهابي إلخ كلهم مسلمون، وإمامهم القرآن،

ونبيهم محمد عليه السلام فيجب أن يكونوا إخوة، فمن شذ عن هذه الأخوة

يجب أن نتلطف بجذبه إليها لا أن نعاديه وننفر منه، هذا هو صراط المؤمنين إذا

سلكناه نجونا، وإلا ازددنا هلاكًا ودمارًا، ولا نجد لنا من دون الله أنصارًا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 475

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شذرات

احتفلت الحكومة أمس بمولد سمو العزيز أفندينا عباس حلمي باشا الخديوي

المعظم، فنسأل الله تعالى أن يعيد على مصر أمثال هذا الاحتفال، وسمو الأمير في

كمال عز وإقبال ما تعاقبت الأعوام والأحوال.

***

أخّرنا مقالة (حجج مثبتي الكرامات) لنشر المقالة الافتتاحية التي جاءتنا من

أحد الأفاضل، فأغنتنا عن الرد على ذلك الباحث الذي اشتبه عليه الأمر، فاشتبهت

بكلامه الحقيقة على كثير من الناس لما في كلامه من المسائل الدينية التي هي

صحيحة في ذاتها، ولكنها وضعت في غير موضعها، والمسائل التي يحقّر بها

الإفرنج وهي غير صحيحة، كقوله إنهم يبتدئون التربية في السنة السابعة للولد وأن

اشتباه هذا الأمر على مثله كاشتباه تينك المسألتين على رئيس جمعية (مكارم

الأخلاق) التي هي موضع رجائه في إسعاد الأمة - يدلنا على أننا في أشد الحاجة

إلى علم واسع واختبار تام لا نجدهما في كتبنا، ولا في دروسنا وجمعياتنا، لا سيما

ما يتعلق بشؤون عصرنا الذي اختلفت فيه طرق المعيشة وأساليب العمران عن

عصور أسلافنا، وفُتن سادتنا وكبراؤنا - إلا قليلاً - بزخرف مدنية أوروبا وتركوا

محامدها وفضائلها؛ فصرنا محتاجين لإرجاعهم إلى القيام بمصالح العامة من

الطريق الذي له مكانة عليا في نفوسهم، فجزى الله سعادة أحمد فتحي بك أفضل

الجزاء على تصديه لذلك، والله لا يضيع أجر المحسنين.

***

حكم على ديفوس بالسجن عشر سنين، ثم عفي عنه لأن الحكم عليه كان

سياسيًّا لا قضائيًّا عادلاً، وهذا دليل على براءته التي أفصحنا عن اعتقادنا إياها في

ابتداء الفتنة.

زار سفير فرنسا في الأستانة العلية سماحة شيخ الإسلام من مدة، وقد ذكرت

الجرائد هذا الخبر الغريب؛ لأنه لم يسبق للسفراء من قبل زيارة مشايخ الإسلام،

ويظن أن ذلك لأمرٍ مهم لم يظهر سره لأحد.

***

صدرت مجلة (الجامعة) في شكلها الجديد، شكل المجلات المعتادة، وقد زيد

فيها ثلاثة أبواب: (1) تدبير الصحة و (2) نشر صفحات مطوية، ويذكر فيه

منتخبات من كلام كبار الكُتَّاب الذي لم يشتهر (3) صدى المجلات، ويذكر فيه ما

تشتمل عليه المجلات العربية من المواضيع إجمالاً، وحق على أصحاب هذه

المجلات أن يعترفوا لهذه المجلة بالفضل على هذا ويشكروه لها، ومن الشكر أن

ننبه قراء مجلاتنا على فائدة (الجامعة) ونرغبهم في قراءتها، فنهنئ صديقنا

الفاضل منشئها، ونرجو له مزيد النجاح والفلاح.

***

أرجف المرجفون بأن سفر الأميرة الفاضلة صاحبة الدولة البرنسس نازلي هانم

أفندي إلى بلاد المغرب يقصد به السعي في إنشاء الخلافة العربية، فانتقِم اللهم من

هؤلاء المفسدين الذين يصورون المحال وينفثون سموم الفتنة بين أمراء المسلمين

وملوكهم، آخر ما علمناه من أخبار دولة الأميرة الواردة منها إلى بعض ذويها في

مصر أنها تصل في 9 أكتوبر إلى طنجة وبعد أن تقيم هناك أيامًا تعود إلى مصر

عن طريق مرسيليا لأن إجازة الصيف قد انقضت، والأميرة- فيما نعلم - أعقل

أميرات المسلمين، ومخلصة للخلافة الحميدية أشد الإخلاص، ولكننا بُلينا بقوم

يدفعهم ذلك الشيطان إلى إشاعة الزور والبهتان.

فما راشنا بالسوء إلا لسانه

وما خرَّب الدنيا سوى ما أشاعه

***

في يوم الإثنين الماضي عصفت في الإسكندرية ريح زعزع أهاجت البحر

واقتلعت كثيرًا من الأشجار، وعقبها غيث مدرار.

وفي ليلة الأربعاء لاح في سماء القاهرة سحاب مركوم، ثم غلظ واكفهر

وتبوجت فيه البروق وارتعجت (اضطربت وكثرت متتابعة) وقصفت فيه الرعود

وهدهدت، ثم انبعق بالوابل الهتان نحو ساعة من الزمان، فكان منه سيل جارف

دمَّر في القاهرة وضواحيها المساكن والدور، لا سيما في عزبة الزيتون، واخترق

المطر سقوف أكثر البيوت حتى قصور القاهرة العظيمة فأتلف الكثير من أثاثها،

وانقضَّت صاعقة على حديقة دار عطوفة مصطفى باشا فهمي رئيس النظار،

واتصلت بغرفة مكتبه فاشتعلت النار باتحاد كهربائيتها بكهربائية المكان؛ فأحرقت

جميع ما في المكتب من الأسفار والأوراق والرياش، ويقال: إن ثمن الكتب فيها

نحو ألف جنيه، ولولا إسراع رجال لمطافئ بطفئها لأحرقت الدار كلها ، ولا شكَّ

أن المطر كان في بعض الجهات أقوى منه في غيرها، فكل ما نزل في جوار

المرصد الفلكي بالعباسية نحو عقدة، ولكن السيل بقي في ضواحي القاهرة بعد

انقطاع المطر نحو ساعتين، ويقول الشيوخ: إنهم لم يعهدوا فاجعة كهذه في حياتهم

قط.

_________

ص: 479

الكاتب: محمد رشيد رضا

حجج مثبتي الكرامات

ذكرنا في مقالة سابقة حجج منكري الكرامات، وبحثنا فيها، ونذكر في هذه

المقالة حجج المثبتين وننظر فيها، وهي خمس على ما استقصاه السبكي.

(الحجة الأولى) هي ما عبر عنها بقوله: (أحدها) وهو أوحدها ما شاع

وذاع، بحيث لا ينكره إلا جاهل معاند من أنواع الكرامات للعلماء والصالحين، وفي

هذه الحجة أن ما نقل من الأمور التي سموها كرامات على ضربين:

(أحدها) ما فيه خرق لنواميس الكون ومخالفة لسنن الخلق التي ثبت في القرآن

وفي العلم الطبيعي أنها لا تتغير ولا تتبدل، وهذا النوع قليل جدًّا ولا يكاد يثبت منه

شيء برواية صحيحة توجب الظن إلا قليلاً، والظن في هذا المقام لا يغني فتيلاً

لمعارضته للقطعي (ثانيهما) ما ليس كذلك، كمكاشفة وشفاء مرض وقضاء حاجة،

وهذا النوع هو الذي شاع وذاع وملأ الأسماع، وطاف في سائر البقاع، وكما يكثر

هذا ويقل ما قبله فيما نقل عن صالحي هذه الأمة، كذلك الشأن فيما نقل عن سائر الأمم، وسيأتي بيانه.

(الحجة الثانية) قصة مريم من جهة حبلها من غير رجل، وحصول

الرطب الطري لها من الجذع اليابس، وحصول الرزق عندها في غير أوانه من

غير حضور أسبابه، كما أخبر الله تعالى عنها بقوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا

المِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ

يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران: 37) ، وبين السبكي بعد ما أورد هذا

أنها لم تكن نبية، فتعين أن يكون ما جرى لها من الكرامة، ونقول ننحن في هذا

المقام: إن لله تعالى في خلقه آيات تدل على أن قدرته تعالى، حاكمة على سنن الكون

لا محكومة بها ، وقد قال تعالى:{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} (المؤمنون: 50)

فحبلها على غير النحو المعهود في الخلق ليس لها فيه كسب ولا عمل بوجه ما،

بل كانت كارهة له، فإن كان يعدّ مما نحن فيه فقصارى ما يدل عليه جواز وقوع

مثله، وهذا هو مراد السبكي وغيره بالاستدلال به وبنحوه مما يأتي، أما الوقوع

بالفعل فلا يثبت إلا بدليل قطعي، كالمشاهدة وكنص القرآن أو الخبر المتواتر تواترًا

حقيقيًّا مستندًا إلى الحس الذي لا شبهة فيه.

قال بعض المحققين: لو كان ما ينقله قومنا من الكرامات التي لا تُحصى واقعًا

حقيقة لما احتاجوا في إقناع المعتزلة إلى الاستنباط من الآيات بالوجوه الخفية التي لا

تفيد المطلوب، ولا تثبت المدعى وهو أن الخوارق واقعة فعلاً على أيدي

الصالحين، بل كانوا يفقئون أعينهم بكرامة واحدة من تلك الكرامات التي لا

تحصى، وإن المتأخرين ليعدون أولياء تلك الأزمنة التي حمي فيها وطيس الجدال

بين سلفهم والمعتزلة بالألوف، أما وجه الآية في ابن مريم النبي وأمه المختلف في

نبوتها فهو أن الأقسام العقلية في خلق الإنسان أربعة: (الأول) ما كان بغير

واسطة ذكر ولا أنثى وقد خلق الله تعالى آدم أول البشر كذلك. (الثاني) ما كان

بواسطة ذكر فقط وكذلك خلق أمّنا حواء. (الثالث) ما كان بواسطة ذكر وأنثى

وهو الناموس العام والسنة الإلهية المطردة، ولما نفذت قدرته تعالى في الأقسام

الثلاثة أراد أن ينفذها في القسم (الرابع) وهو ما كان بواسطة أنثى فقط ليعلم من بلغه

ذلك بالخبر الصادق أن قدرة الله تعالى حاكمة على نواميس الكون لا محكومة بها وأن

الله على كل شيء قدير، فلا يعتمد فيما وراء الأسباب الظاهرة التي أناط بها الأمور

إلا عليه وحده، فانجلى بهذا أن هذه الآية الإلهية ليست مما نسميه كرامات الأولياء،

فلا تصدق أنثى غيرها بمثله.

وأما حصول الرطب الطري من الجذع اليابس فهو ليس في القرآن، وإنما

المذكور في القرآن قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِياًّ} (مريم: 25) وهو يصدق بالنخلة المثمرة، بل هو المتبادر ولو كان الجذع

يابسًا لوصف باليبس لإ ظهار الآية، ومثل هذا يقال في مسألة الرزق، فإن قولهم:

إن زكريا كان يجد عند مريم فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف

ليس في القرآن ما يدل عليه وإنما فيه أنه كان يجد عندها رزقًا، وقد سألها: {أَنَّى

لَكِ هَذَا} (آل عمران: 37) حيث كان هو الكافل لها والقائم بالإنفاق عليها

{قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران: 37) ومثل هذا الجواب معتاد من

المؤمنين، فما من أحد منا إلا وقد رأى في بيته في وقت ما رزقًا لم يكن يتوقع

وجوده، وسأل عنه فأجيب من أهله بمثل:(الله بعثَه) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ

مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران: 37) لا يستلزم ما ذكروه لأنه يصدق

بالهدية والهبة من حيث لا تنتظران، وقد قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ

مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِب} (الطلاق: 2-3) وهو يصدق بتهيئة

الأسباب التي لم تكن في حسبان الإنسان أيضًا، وليس المعنى أن يرزقه بالكرامات

وخوارق العادات، ومن المفسرين من قال: إن معنى الحساب في الآية الاستحقاق،

هذا وإن وجود فاكهة الصيف في الشتاء ليس من الخوارق كما لا يخفى على الخبير،

رب معترض يستدل بقوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ

ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران: 38) على أن ما رآه عند مريم كان

من خوارق العادات، ولذلك طلب من الله تعالى أن يمنحه كما منحها، ويهب له

الذرية على كبر سنه ويأس أهله، ونقول في الجواب: ما كان لمؤمن أن يقول أن

نبيًّا علم جواز خرق العادة من ولي أو ولية، فحمله ذلك على طلب مثله لنفسه، وإن

كان يقتضيه كلام طائفة من المفسرين، ويكفي لإثارة ذلك الدعاء في نفس سيدنا

زكريا عليه السلام عند مريم سماعه إسنادها الرزق لله تعالى والثناء عليه بلطفه

بعبده حيث يرزقه بغير حساب، فإن المؤمن الكامل كلما سمع ذكر الله والثناء عليه

تنمو عظمته في قلبه، وكلما رأى إنعامه على خلقه يزيد رجاؤه في فضله وكرمه،

وحسبنا في هذا الجواب بيان أن الدعاء لا يقتضي أن يكون ما رآه من الخوارق،

وإن كان لا ينفيه أيضًا، وسيأتي الكلام على ما روي في تفسير الآيات؛ لأن كلامنا

الآن في الدليل القطعي.

اعترف بعض منكري وقوع الكرامات بأن ما وقع لمريم عليها السلام من

الخوارق، وأجابوا عنه بجوابين:(أحدهما) أنها كانت نبية، ونقل السبكي عن

القاضي أنه قال: (لم يقم عندي من أدلة السمع في أمر مريم وجه قاطع في نفي

نبوتها أو إثباتها) وأنّى يقوم له الدليل وهو على رأي من يقول: ما جاز أن يكون

معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، وهؤلاء لم يجعلوا فاصلاًًًًً بين النبي والولي

إلا دعوى النبوة والتحدي بالخارقة، وإلا فخطاب الملائكة لمريم وأمرهم إياها عن

الله بالركوع والسجود أوضح دليل على نبوتها، فإن هذا تشريع، وقد قالوا: إن

النبي هو من أوحي إليه بشرع يعمل به، فإن أمر بأن يعلمه الناس كان نبيًّا ورسولاً

وإذا لم تكن مريم نبية كما هو رأي الجمهور الذين يشترطون في النبي الذكورة،

فكرامتها الحقيقية هي كلام الملائكة، وهذا ليس من خرق السنن الإلهية، ولكنه من

خرق العوائد بالنسبة لمجموع البشر؛ لأنه مما اختص الله تعالى به طائفة من خلقه

أهَّلها له باستعداد روحاني مخصوص، والله يختص برحمته من يشاء، و (الجواب

الثاني) : إن ما وقع لمريم كان إما معجزة لزكريا وإما إرهاصًا لعيسى - عليهما

السلام - والإرهاص عندهم ما يتقدم بعثة النبي من الخوارق؛ لتُعد النفوس لقبول

الرسالة وتصديق الدعوة، وأجيب عن الشق الأول بأن المعجزة للنبي هي ما يصدر

على يده لا على يد غيره، وعن الثاني بمثل هذا وهو ليس بسديد؛ لأن ما يحصل

للأم يصح أن يكون تمهيدًا لتصديق دعوة الابن، لا سيما إذا كانت الخوارق محتفة

بحمله وولادته ومتعلقة بشؤونه، وقولهم: (لو جاز هذا لجاز أن تكون كل معجزة

لنبي إرهاصًا لنبي آخر يأتي بعده، فيمتنع الاستدلال بها على نبوته) ممنوع، فإنه

إنما يتحدى بها مستدلاًّ على صدقه فيما يبلّغه عن الله تعالى، وعجيب من السبكي

وأمثاله كيف غفلوا عن هذا.

قال السبكي: وقريب من قصة مريم قصة أم موسى وما كان من إلهام الله إياها

حتى طابت نفسها بإلقاء ولدها في اليَم إلى غير ذلك مما خصت به. قال إمام

الحرمين: ولم يصر أحد من أهل التواريخ ونقلة الأقاصيص إلى أنها كانت نبية

صاحبة معجزة. اهـ. ونحن لا نرتاب في أن الإلهامات الصادقة هي مما يكرم الله

تعالى بها أصحاب الأرواح الطاهرة والنفوس الزاكية من عباده، وهذا من خوارق

العادة بالنسبة إلى الجمهور، ولكنه ليس خارقًا للنواميس الطبيعية، ولا مخالفًا للسنن

الكونية، وهكذا تكون الكرامات الحقيقية.

(الحجة الثالثة) التمسك بقصة أصحاب الكهف، قال السبكي: فإن لبثهم في

الكهف ثلاثمائة سنة أو أزيد من غير آفة مع بقاء القوة العادية بلا غذاء ولا شراب

من جملة الخوارق، ولم يكونوا أنبياء، فلم تكن معجزة فتعين كونها كرامة،

وادّعى إمام الحرمين اتفاق المسلمين على أنهم لم يكونوا أنبياء، وإنما كانوا على

دين ملك في زمانهم يعبد الأوثان فأراد الله أن يهديهم فشرح صدورهم للإسلام ولم

يكن ذلك عن دعوة داعٍ دعاهم ولكنهم لما وفقوا تفكروا وتدبروا ونظروا؛ فاستبان

لهم ضلال صاحبهم، ورأوا أن يؤمنوا بفاطر السموات والأرضين ومبدع الخلائق

أجمعين، ثم أسهب في بيان أنهم لم يكونوا أنبياء، وفي هذه الحجة أبحاث (1) إن

أصحاب الكهف كانوا من آيات الله تعالى لقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ

أَنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} (الكهف: 9) وقوله تعالى بعد

ذكر حالتهم في الكهف: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} (الكهف: 17) فليس هذا مما نحن

فيه كما سبق القول في حَبَلِ مريم عليها الرضوان، ويوضحه البحثان التاليان له

(2)

إن قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} (الكهف: 25) هو من حكاية أقوال المختلفين فيهم، صرح بهذا المفسرون،

ويرجحه على قول من قال: إنه إخبار من الله تعالى أمران: (أحدهما) أن الله

تعالى عندما قص نبأهم بالحق قال: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكَهْفِ سِنِينَ

عَدَداً} (الكهف: 11) قال البيضاوي وغيره: وهذا يحتمل التكثير والتقليل، وإنما

ذكر التحديد في العدد في سياق حكاية أقوال الخائضين في قصتهم و (ثانيهما) أنه

عقب على هذا القول بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ

وَالأَرْض} (الكهف: 26) وهو كالصريح في أنه غير صحيح (3) قلنا

في كتابنا (الحكمة الشرعية) : إن مقتضى كلام إمام الحرمين أنهم كانوا مشركين،

ثم هداهم النظر إلى رفض الشرك واعتقاد توحيد الله تعالى كما هو ظاهر القرآن،

وعلى هذا، هل تتحقق في حقهم الكرامة التي اشترطوا فيمن تظهر على يديه أن

يكون مؤمنًا ظاهر الصلاح، وعرفوا الصلاح بالقيام بحقوق الله تعالى وحقوق

العباد؟ وهذا لا يعرف إلا بالشرع، لا سيما عند الأشاعرة، وإمام الحرمين من أجَلّ

أئمتهم، والسبكي من أكبر علمائهم الذاهبين إلى أنه لا حكم قبل الشرع لا في

الأصول ولا في الفروع.

(4)

يروى عن ابن عباس رضي الله عنه: أنهم كانوا بعد الإيمان

على شريعة سيدنا عيسى عليه السلام وليس عندنا دليل على أنهم كانوا بعد

عيسى أو في زمنه، وأكثر ما ينقل عن ابن عباس في التفسير لا يصح عنه، وربما

كانوا في زمن تختلف أحواله الطبيعية عن هذه الأزمنة والله أعلم.

(الحجة الرابعة) مما أورده السبكي: التمسك بقصص شتى مثل قصة آصف

ابن برخيا مع سليمان عليه السلام في حمل عرش بلقيس إليه قبل أن يرتد إليه

طرفه على قول أكثر المفسرين بأنه المراد بالذي عنده علم من الكتاب، وما قدمناه

عن الصحابة [1] وما تواترعمن بعدهم من الصالحين وخرج عن حد الحصر. اهـ.

أقول: كان من حقه أن يجعل ما استنبطه من قصص الكتاب حجة واحدة،

وما ورد في غيره حجة واحدة؛ لأن التعدد إنما هو في الجزئيات، ولكنه أراد

التكثير ليجعل حجج الإثبات بعدد حجج الإنكار، والشق الثاني من هذه الحجة هو

عين الحجة الأولى، أما قصة الذي عنده علم من الكتاب فلا تنهض حجة لاحتمال

أنه كان نبيًّا، أو أن الإتيان بالعرش معجزة لسليمان أثبت بها نبوته لملكة سبأ ولا

ينافي هذا أنه جاء على يد غيره؛ لأن ذلك الغير من أتباعه وهو الذي أمره به فكان

آية من الآيات التي أعطاه الله إياها قد استتبعت آية أخرى، ويدل على أن الإتيان

بالعرش من نعم الله على سليمان عليه السلام شكره لله تعالى عليه {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِراًّ

عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُر} (النمل: 40) فلا يأتي هنا

قولهم: إن المعجزة لابد أن تظهر على يد النبي نفسه، قال البيضاوي في تفسير

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (النمل:

38) ما نصه (أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله به من العجائب الدالة على

عظيم القدرة وصدقه في دعوى النبوة) ومن المفسرين من قال: إن الذي عنده علم

من الكتاب هو سليمان نفسه، قال البيضاوي: فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على

شرف العلم، وأن هذه الكرامة كانت بسببه، وقال: إنه جبريل أو ملك آخر.

فتلخّص مما تقدم أن قصارى ما يحتج به من الآيات الكريمة أن الله أكرم أم

موسى بالإلهام الصحيح، وأكرم السيدة مريم بكلام الملائكة، وليس في شيء من

هذين الأمرين مخالفة لسنن الله تعالى في الخلق، وأن لله تعالى في خلقه آيات لا

تنطبق على سنن الكون المعروفة، كحبل مريم وولادتها من غير اقتران برجل،

وكالضرب على آذان أهل الكهف سنين عددًا، فأما الإلهام فإنه لا يزال يقع في كل

عصر لأصحاب النفوس العالية، فهو كرامة اختُصوا بها من دون سائر الناس،

وأما كلام الملائكة للناس فلم يثبت لغير الأنبياء بوجه قطعي إلا لمريم، فإن كانت

غير نبية فهو كرامة قطعية لها تدل على جوازه لغيرها، وورد في آثار ظنية وقوع

ذلك لغيرها، ولعل كلامهم لغير الأنبياء من قبيل الإلهام، وقد وفينا هذا البحث حقه

في كتابنا (الحكمة الشرعية) وأما الآيات الأخرى فإنها توجد في كل عصر

ويسميها الفلاسفة (فلتات الطبيعة) والمؤمن يستدل بها على قدرة الله تعالى، ولا

يستنكر أن يكون لها أسباب خفية لم يطلع الله تعالى عليها عباده: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ

العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هو ما أشرنا إليه في الحجة الخامسة من حجج المنكرين، ووعدنا بسرد تلك الكرامات التي أسندها إليهم والبحث فيها عند ذكر حجج الإثبات، ولكن قد طالت هذه المقالة فاضطررنا إلى تأخير ذلك لمقالة أخرى.

ص: 482

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

عبد العزيز محمد

ورد إلينا ما يأتي من حضرة الكاتب الفاضل عبد العزيز أفندي محمد وكيل

النيابة في محكمة الزقازيق، فتلقيناه بالقبول مُقرِّين بفضله شاكرين له سعيه وهو:

حضرة الأستاذ الفاضل صاحب مجلة (المنار) المفيدة:

لما رأيت أن مجلتكم التي هي مجنى الفوائد العلمية وملتقى الشوارد الحكمية

قد وسعت في صفحاتها مكانًا لنشر ما يختص بالتربية والتعليم، ورأيتكم تنتقون من

ذلك أقوم الطرق وأجلها أثرًا - رجوت أن تتفضلوا عليّ بتخصيص موضع وإن

صغيرًا منها أُقدم فيه لقراء هذه المجلة كتابًا جليلاً في التربية العملية، أنا مشتغل

بنقله من الفرنساوية إلى العربية، وأود نشره فيها تباعًا، الكتاب من تصنيف الحكيم

المربي ألفونس أسكيروس سمّاه (أميل القرن التاسع عشر) عارض به الحكيم

الشهير جان جاك روسو في كتابه المؤلف في التربية المسمى (أميل القرن الثامن

عشر) .

هذا الكتاب النفيس حكى فيه مؤلفه حكاية زوجين فرنساويين قضى عليهما الله

بالتفرق لسجن الزوج في فرنسا بسبب جريمة سياسية على ما يظهر، واغتراب

الزوجة في إنكلترا، وقد شعرت الزوجة في أوائل أيام الفراق أنها حُبلى، فأخذت

تكاتب زوجها ويكاتبها في طرق التربية اللازم اتباعها في شأن الولد، وقد تضمَّنتْ

هذه الرسائل من تلك الطرق أصحها وأكفلها بوصول الإنسان إلى السعادة، ولا أريد

أن أطيل في وصفها ففي الاطلاع عليها غناء.

وفي هذا المقام يجب عليّ أن أخلص الشكر لحضرة الأستاذ الأكبر صاحب

الفضيلة الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية؛ فإنه - حفظه الله - هو الذي

نبهني إلى هذا الكتاب المفيد، وحثني على ترجمته ونشره كما هو شأنه في الإرشاد إلى كل ما ينفع الأمة والوطن، فجزاه الله عنهما خير الجزاء.

وها أنا ذا مقدم لحضرتكم ما تيسر لي الآن تعريبه، وواثق منكم بقبول ما

طلبته، ولكم مني ومن الناس خالص الشكر.

...

...

...

...

(عبد العزيز محمد)

(أميل القرن التاسع عشر)

(الباب الأول)

(الأم)

من الدكتور أراسم إلى زوجته في 3 يناير سنة -185 [1]

قد مضى عليّ يا عزيزتي هيلانة ثمانية أيام طوال، عجزت فيها عن الكتابة

إليك، وأعوزتني العبارة التي أرضاها لوصف ما أعانيه من مضض الألم، ليس ما

يقاسيه الأسير من عذاب الأسر هو الحرمان من الغدو والرواح، والعجز عن الشيء

مطلق السراح، بل عذابه الأكبر هو ضيق الصدر وابتئاس النفس، تلك القباب التي

تواجه المسجون نفسها، وتلك الأعمدة ذاتها، وتلك الدهاليز بعينها هي التي تبلبل

منه الأفكار وتوقعه في الدوار حتى يقذفه هذا العناء في مهواة الفناء، وهذه

الأحجار- أحجار البناء - تمسخه فتحيله حجرًا مثلها.

في أول عهدي بالسجن كنت صنمًا لا أرجع للناس قولاً، ولا أملك لهم ولا

لنفسي ضرًّا ولا نفعًا، وكدت أعدم حركة الفكر وبقايا الشعور، بل كان يخيل لي

أني فقدت وجودي، وفنيت عن نفسي، وانتقلت حياتي إلى السجن نفسه لحصره

إياي في دائرة من الوجود مشؤومة صناعية لا جولان للفكر فيها، وإني أؤكد لك أن

مَنْ هذه حاله يلزمه عمل كبير للرجوع إلى وجوده، وهذا العمل قد قمت أنا به،

والآن قد ثابت إليّ نفسي وأصبحت مالكا لحسي، لا ترجنّ مني أن أصف لك....

فإن المسجون قلّما يعرف ما يسكنه من المحال، وإني قد نقلت من.... في غروب

الشمس، ولما وصلنا إلى السجن كان الليل قد أرخى سدوله، ولم يبق لي من

الضياء إلا بقية لا أكاد أميز بها غير الأشباح السوداء لبروج السجن الصغيرة،

وأسهمه وأسنته الحجرية المتطاولة إلى السماء المظلمة، وكان يخيل لي أن البناء

قصر شيد بالظلمات، نزلنا من العجلة وصعدنا مشاة إلى طريق مدرّج منحوت في

الصخر ومؤدٍ إلى سجن الحكومة، وكنت أمشي وأراني كأني في حلم، ومع هذا فقد

راعني منظر شيئين، وهما الجمال الباهر في بناء السجن المتوج لقمة الجبل المظلم،

والبحر التي تصطخب أمواجه وتضطرب، وقمة هذا الجبل ليست إلا قطعة من

الصوان برزت من صحراء رملية، ورمل هذه الصحراء يمتد إلى البحر وعليه

علائم الكآبة والحزن، وكنت أميز المحيط من بعد في ضوء الصفائح المائية

المضطربة، وليس الحال كذلك في جميع الأوقات؛ لأن المحيط في إبان المد يغمر

الساحل ويعلو ويصطخب ويحدق بالجبل من كل جانب فتتكسر عليه أمواجه.

يصل النور إلى مخدعي من السجن - وهو مقابل للمحيط - من كوة صغيرة

ككوى الأسلحة النارية في المعاقل، أو كالذي يسميه المهندسون (بربخًا) فكانت

على ضيقها مسرحًا للنظر لا نهاية له، وهي من الارتفاع بحيث لا أشاهد منها

سطح البحر إلا قائمًا على أطراف أصابع الرجلين، فإذا جلست لا يبقى لي ما أُمتع

به نظري إلا السماء، ولا بأس في ذلك علي، أليس لي بمشاهدة السماء جزء من

الكون؟ ! إني أشاهد في ساعات كاملة طائفة من ظواهر هذا العالم لم تكن

تستلفتني إليها إلى هذا العهد وهي ألوان الضوء المتغيرة والصاعقة، وحبوب الثلج

المتناثرة، والضباب والجمال الخيالي المظلم للأحداث الجوية، غيري من الناس

يحب أن يشاهد السماء في البحر حيث تنظر في مرآته السحب إلى نفسها، أما أنا

فعلى العكس منها، فإن البحر بالنسبة إلي هو الذي ينعكس على السماء فأراه في

مرآتها.

قد رأيت مما ذكرت أن لي منفذًا أشاهد منه العالم، فما الذي يمنعني من أن

أتخيل في السحب سلاسل جبال، وفي سهول الأثير أريافًا ومزارع زرقًا، تلك

المناظر الخلوية المعلقة في الهواء ليست كما أعلم إلا ظلالاً طافية لأفكاري وما أتذكر

من معلوماتي، تبعث الإنسان وحدته على البحث في خياله عن صور الأماكن التي

عرفها، والأشخاص الذين أحبهم، فأنا الآن بسبب استحضار مرائي ماضي الجميلة

في حيز من النور قد انفتح فوق رأسي، وفي هذا الحيز أراك، هل أقدر على أن

أصير خياليًّا؟ إن كان ذلك فهذا آخر عقاب لعقل لم يشتغل منه عشرين سنة بغير

العلوم الحقة على أنني لست أشكو من شيء، فطوبى لمن يمكنه عند سقوطه أن

يرتكن على فكرة أنه دافع عن حوزة القانون، وكان سبب دفاعه حقًّا، وإذا كنت أتألم

فليس ذلك إلا لأني كنت سببًا في تألمك. اهـ

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

عن يمين رقم (5) في الأصل الفرنساوي نقط لإبهام السنة، والاكتفاء بأن ذلك في النصف الثاني للقرن، وقد جعلنا بدل النقط خطًّا عرضيًّا.

ص: 489

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقاريظ

(كتاب الوجيز)

يَعلم القرّاء أن جمعية تألفت في القاهرة لطبع الكتب العربية النافعة لما في هذا

العمل من المساعدة على نشر العلوم وإحياء تصانيف سَلَفِنا الأولين الذين نقتبس من

أنوارهم ونفتخر بآثارهم، وقد كان باكورة عملها طَبْع كتاب (الوجيز) في فقه

مذهب عالم قريش الإمام الشافعي رضي الله عنه الذي صنفه حجة الإسلام الإمام

الغزالي رحمه الله تعالى، وإن نسبته إلى هذا الإمام كافية في تقريظه؛ لأن المشتغلين

بالفقه يعلمون أنه هو الذي حرر المذهب، وجمع شوارده وقيد أوابده، وأن كتب

الشيخين الرافعي والنووي مأخوذة من كتبه، ولكن لا بد في التقريظ من

بيان أمر تعرف به قيمة الكتاب، وهو أنه كان من رأي الإمام أن يؤلف في كل علم

وفن ثلاثة كتب: مختصر ومتوسط ومطول، يذكر في المختصر أمهات المسائل التي

لا بد منها لمحتاج ذلك العلم، وفي المتوسط ما يحتاج إليه من يريد أن يكون عالمًا به

من بسط المسائل وإيضاحها بالأدلة والشواهد، ويكون المطول جامعًا للنوادر

مستقصيًا أتم الاستقصاء ليكون مرجعًا عند الحاجة، وقد ألف كتبه الفقهية

الثلاثة (الوجيز والوسيط والبسيط) طبق هذا الرأي، وأشار بأن يكون المتعلمون

ثلاث طبقات: مبتدئون يقرأون الوجيز، ومتوسطون يقرأون الوسيط، وأن يكون

البسيط بمراجعة العلماء المنتهين.

ولا تحسبن الوجيز من الكتب المختصرة اختصارًا مخلاًّ التي قلنا من قبل أنها

كانت مبدأ ضياع العلم وفساد التعليم، والسبب في وضع الشروح والحواشي والتقارير

المضرة، كلا إنه سهل العبارة، وقد طبع في مجلدين، وكان الإمام المؤلف استطاله

على المبتدئين فألف لهم الخلاصة، وإن فيه كثيرًا من الفروع النادرة والمسائل التي

تكاد تقع، ولو أنه ألف هذه الكتب في نهايته بعد تأليف (الإحياء) ووقوفه التام على

مقاصد الشريعة لأدخل الفقه في طور جديد من الإصلاح، فإن انتقاده على الفقهاء

بالتوسع وغيره يصيب بعض ما في كتبه الفقهية، ولولا هذا ما اهتدى إلى ذاك، ومن

فوائد الوجيز: الإشارة بالرموز إلى خلاف الإمامين أبي حنيفة ومالك وخلاف

المزني من أكابر أصحاب الشافعي رحمهم الله أجمعين، وإلى الوجوه البعيدة

للأصحاب، والكتاب مطبوع في مطبعة الآداب والمؤيد بحرف جميل على ورق

نظيف وثمن النسخة عشرون قرشًا.

***

(المسامرة شرح المسايرة)

أما (المسايرة) فمتن في العقائد اختصر فيه العلامة الكمال بن الهمام الحنفي

الرسالة القدسية للإمام الغزالي، وزاد عليها مسائل كثيرة، فكان كتابًا مستقلاًّ،

وشرحه تلميذه العلامة الكمال بن أبي شريف الشافعي شرحًا لطيفًا، وكتب عليها

حاشية تلميذه المدقق الشيخ زين الدين قاسم، وقد طبع كتاب (المسايرة) مع شرحه

وحاشيته بمعرفة الفاضل الشيخ فرج الله زكي الكردي في المطبعة الأميرية

المصرية، فجاء المجموع كتابًا تزيد صفحاته على 350 صفحة بالقطع الصغير،

والكتاب من أحسن المختصرات التي ألفت في العقائد تحقيقًا وتحريرًا، فنحث

المشتغلين بالعلم على الإقبال عليه.

***

(تهذيب الأخلاق)

إن الكتب العربية لدينا كثيرة في جميع العلوم والفنون التي ألف فيها سلفنا إلا

ما نحن في أشد الحاجة إليه، ولا نحيا الحياة الإنسانية الحقيقية إلا به، وهو

تهذيب الأخلاق، بل إن هذا العلم قد كان حظه أقل من حظوظ سائر العلوم في أمتنا

أيام كانت أمة عزيزة (إذا الناس ناس والزمان زمان) فكيف يكون شأننا

اليوم؟ ويسرنا أن نرى النهضة العلمية الحديثة قد نبهت فينا الشعور بجميع

ضروب الإصلاح الذي نحتاجه، ومن ذلك طبع كتب الأخلاق والتربية، فقد

طبع حديثًا الكاتب الفاضل عبد العليم أفندي صالح المحامي (كتاب تهذيب الأخلاق

وتطهير الأعراق) للفيلسوف الإسلامي أحمد بن مسكويه من علماء القرن الرابع

الهجري، وهذا الكتاب أحسن ما رأيت في لغتنا الشريفة في فلسفة الأخلاق (الحكمة

العملية) وقد عشقته عند اطلاعي عليه فطالعته غير مرة وانتفعت به، وقرأته درسًا

لبعض طلاب العلم، ولا أزال أحض كل مشتغل بالعلم ومحب للفضيلة على مطالعته

المرة بعد المرة، ومن فوائده أنه يعطي مطالعه مادة للكتابة، وعبارته بليغة يستفيد

المطالع من لفظها كما يستفيد من معانيها، وقد طبع في مطبعة الترقي ذات

الحروف الجميلة والإتقان المشهور، وفي مقدمته مقالة مفيدة للكاتب البليغ الأستاذ

الفاضل الشيخ عبد الكريم سلمان أحد الأعضاء في المحكمة الشرعية العليا في

القاهرة وفي مجلس إدارة الأزهر الشريف بَيَّن فيها وجه شدة الحاجة إلى مثل هذا

الكتاب، وتليها مقالة من إنشاء ملتزم الطبع في مقاصد المؤلفين، ونبذة في ترجمة

المؤلف، وثمن النسخة 15 غرشًا، وهي ليست بشيء في جانب فائدة الكتاب.

_________

ص: 492

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(المعارف العمومية والمدارس)

كان تعليم المسلمين بتركيا - فيما سبق - محصورًا كله في المساجد، وكان

لمدارس القسطنطينية شهرة عامة، وذلك بسبب هذا الحديث (طلب العلم فريضة على

كل مسلم ومسلمة) فكان يوجد في ذلك العهد نوعان من المدارس وهما المكاتب أو

المدارس الابتدائية المعهود بإداراتها لأئمة المساجد في الجهات المختلفة،

والمدارس أو معاهد تلقي علوم الكلام والفقه والفلسفة، وهي ملحقة بالمساجد الكبرى،

وجميعها تنفق عليها إدارة الأوقاف، ولم يكن في تركيا مدارس وسطى، فكانت التلامذة لهذا السبب تنتقل من المدارس الابتدائية إلى المدارس العليا بدون استعداد

كافٍ يؤهلها للاستفادة من دروسها، وقد أصبح التعليم في مدارس الحكومة بديلاً من

التعليم في المساجد بسبب خروج أمر التعليم العام من يد علماء الدين إلى يد

الحكومة، إلا المدارس الدينية العليا فإنها لا تزال في دائرة اختصاص مشيخة

الإسلام، ومثل هذا التغير لم يتم دفعة واحدة، فإنه من الضروري في تنفيذ

مقتضى ما يكتب في الأوراق من أوامر الإصلاح من مضيّ زمن تحصل فيه التجربة

والاختبار، فالقواعد النظرية إن لم تصحبها طريقة مثلى للعمل بها كانت مقضيًّا عليها

بالعقم وإن كانت من أسمى القواعد، تلك الطريقة المثلى هي التي كانت تعوز الحكومة

العثمانية ولم يتأت لهذه بما بذلته من الثبات والهمة الوصول إلى النتائج المطلوبة.

قبل سنة 1876م كانت المعارف العمومية فيما يختص بالمسلمين قد وصلت

إلى دائرة ضيقة جدًّا ما عدا بعض مدارس للتعليم العالي أبقتها الحكومة في

القسطنطينية، فالمدارس الابتدائية بسبب أنها كانت مؤسسة على نظام قديم جدًّا لم

يكن صغار التلامذة المسلمين يحصِّلون فيها إلا تربية في غاية النقص؛ إذ كانوا لا

يتعلمون هناك إلا مجرد القراءة والكتابة خصوصًا في مدارس الأقاليم حيث كان

درسا التاريخ والجغرافية مهملين لا حظ لهما من العناية، ولم يكن التعليم الثانوي

والتعليم العالي أحسن حظًّا وأوفر عناية من التعليم الابتدائي، ثم إنه لا ينكر أن

الشبان في القسطنطينية من الطبقات الممتازة من الأمة كان لديهم من الوسائل ما

يمكنهم من دخول مدارس الحكومة الخصوصية أو المدارس الأجنبية إلا أن هذا

يختص بما عدا المدارس الابتدائية.

أما الآن فقد تغير الحال تغيرًا كليًّا، فالمعارف العمومية قد سطعت شمسها في

سماء تركيا فقشع ضوؤها ظلام الجهل، ووصل إلى أبعد أرجاء المملكة، فإن جلالة

السلطان عبد الحميد لما كان معتقدًا أن في نشر العلم زيادة لصولته وتأييدًا لدولته

عمل بمقتضى الحديث الشريف (اطلبوا العلم ولو في الصين) وسار بالمملكة

العثمانية في هذا الطريق حتى أحلها المحل الأول في التربية العقلية (مبالغة) قسم

القانون الأساسي للمعارف العمومية المدارس تقسيمًا نظريًّا إلى قسمين وهما:

المدارس الأميرية التي تتعلق إدارتها بالحكومة دون غيرها، والمدارس الخصوصية

التي ليس للحكومة عليها إلا مجرد المراقبة، وهي التي يؤسسها ويديرها بعض

الأفراد والطوائف (ومن هذا القسم المدارس الدينية الإسلامية، والمدارس غير

الإسلامية) إلى ثلاث درجات وهي التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي والتعليم العالي.

(التعليم الابتدائي)

يشمل التعليم الابتدائي ثلاثة أنواع من المدارس وهي مكاتب الصبيان التي

يمكن تشبيهها بمعاهد تربية الأطفال في أواسط أوروبا والمدارس الابتدائية أو

المدارس الابتدائية الحقيقية والمدارس الرشدية أو المدارس العالية الابتدائية،

فالابتدائية مدة التعليم فيها أربع سنين، ومواده هي مبادئ التهجية للغة التركية وحفظ

آيات من القرآن والقراءة التركية، والخط ونحو اللغة التركية والحساب والجغرافية

والتاريخ. التعليم الابتدائي في حق المسلمين مجاني وإجباري فيجب على رؤساء

العقارات على حسب ما يقضي به القانون أن يتقدموا إلى رئيس بلدية المحلة التي

يقطنونها المسمى (بالمختار) لأجل أن يسجلوا لديه أسماء أولادهم ذكورًا وإناثًا متى

كانوا في السادسة من عمرهم في سجلات الصبيان، أو الأبدانية ما لم يُثبتوا أن

لديهم وسائل للتربية الابتدائية المنزلية.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 494

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أخبار وآراء

روى مكاتب (الستندرد) في الأستانة أن جلالة السلطان قد اهتم أخيرًا

اهتمامًا عظيمًا بأمر حكومة شبه جزيرة العرب، وأنه عازم على إنشاء

حكمدارية فيها تشبه خديوية مصر (كذا) فتنقسم ولاية اليمن إلى ثلاث

عمالات يتولى حكومتها دولتلو حسين حلمي باشا الذي نال منزلة سامية في

عين جلالته، ويكون له الحق قي تعيين رجال الأحكام الذين يريدهم، ولكن

بعد موافقة الباب العالي على تعيينهم، ويكون القائد العسكري في الولاية

خاضعًا للحاكم العام رأسًا، وربما استقدم القائد الحالي دولتلو المشير عبد الله

باشا وعَيَّن قائدًا آخر بدلاً منه، وستوضع أيضًا خطة جديدة للجيش تقضي

بتجنيد قبائل العرب، وتأليف ستين إلى مئة فرقة من الخيالة على النمط المتبع

في تشكيل الفرق الحميدية، ويكون أكابر ضباطها كلهم من الأتراك، وتنظم

الضرائب تنظيمًا جديدًا بحيث يصبح دخل الدولة العلية منها ستة ملايين ليرة

عثمانية، قال الكاتب: وإن الحزب العربي في المابين الذي يرأسه سمحاتلو

السيد أبو الهدى أفندي الصيادي الرفاعي مجمع على استحسان هذا التغيير،

وأنه يحض جلالة السلطان على إجرائه، وأنه إذا تم هذا الإصلاح الجديد

اضطرت الدول ذات المصالح في المسألة الشرقية إلى زيادة الحذر والمراقبة.

...

...

...

...

... (الأهرام)

***

يتوقع الناس في كل يوم نشوب الحرب بين إنكلترا وجمهورية الترنسفال

التي يبلغ أهلها نحو سُبع أهالي لندرة عاصمة بريطانيا العظمى السائدة على

نحو ثلث العالم، والأخبار البرقية الأخيرة أفصحت عن وقوع ما يتوقع ، ولما

ظهرت بوادر الحرب وآياته المنذرة، اشتغل بها العالم المتمدن، فمن عاذل

لإنكلترا أو غامز لها على طمعها الذي ألجأت به الترنسفال إلى مناصبتها،

ومن متعجب من إقدام هذه الشرذمة الصغيرة على مناهضة هذه الأمة الكبيرة،

وسنبين في الجزء الآتي أنه لا لوم على الأولى، ولا عجب من الثانية؛ لأن

كلاًّ منهما لم تخرج عما اقتضته طبيعة عمرانها.

***

زلزلت الأرض زلزالاً شديدًا في مدينة (آبدين) دَمَّر الألوف من المباني في

أقل من دقيقة واحدة، وتصدع كثير من المباني القوية، وتداعى للسقوط،

وحصل خسف في بعض الجهات، وكان من شدة الزلزال أن شعر به في

جزيرة ساقزومتلين، وتعدَّى أثره في الخراب إلى القرى المجاورة للمدينة،

والخسائر عظيمة جدًّا، وقد أنعم مولانا السلطان الأعظم على المصابين بمبلغ

عظيم من المال، وصدرت الأوامر بجمع الإعانات لهم، فبوشر بذلك وعسى

أن يقدم بعض كرام المصريين بتأليف لجنة لإعانة إخوانهم المنكوبين، فهم أهل

المكرمة.

***

صدرت الإرادة السنية بإنشاء أربعة مستشفيات في مكة المكرمة والمدينة

المنورة وينبع وجدة لأجل معالجة الحجاج الذين يمرضون في السفر، فلا

زال مولانا أمير المؤمنين عونًا لهم على ممر السنين.

_________

ص: 496

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فلسفة الحرب الحاضرة

حكومة صغيرة ينقص عدد رعاياها عن مليون واحد تهضم حقوق دولة عظيمة

رعاياها ثلاثمائة مليون أو يزيدون، ثم تنذرها بالحرب ثم تبدأها بالقتال ويكون لها

الظفر غير مرة؟ إن هذا لشيء عجاب! ! أما هضم الحقوق فهو دعوى بريطانيا

العظمى على الترانسفال الصغرى ويقول الساسة من غير الإنكليز: إنه لا ذنب

للترانسفال إلا الإباء من ضيم إنكلترا والمحافظة على استقلالهم في جوارها، وإن

الإنكليز خلقوا للترانسفاليين ذنبًا ليتخذوه حجة لهم أمام أوروبا على اضطرارهم

للإيقاع بهم وعدم خروجهم عن سنن التمدن والإنسانية في إلزامهم بإجابة ما يطلبون،

وإن غرض الإنكليز الحقيقي الأخذ بثأر الدكتور (جمسون) الذي نكل به

الترانسفاليون من قبل، والتمهيد لمشروع (سسل رود) في جعل القسم الشرقي من

إفريقية مستعمرة إنكليزية من رأس الرجاء الصالح إلى الإسكندرية.

ومهما يكن من الأمر فحسب الترانسفال أن معاملتها مع بريطانيا العظمى في السلم والقتال معاملة الأكفاء والأقتال.

الجرائد في الغرب والشرق تصف الإنكليز بالطمع والجشع، ويرى ساستها

أنه ليس لهذه الدولة حجة قيّمة في التعدي على الترانسفال، ويقولون: إن

البريطانيين المقيمين في تلك الجمهورية للتجارة واستخراج المعادن لا يشكون من

حكوماتها ولا يبالون بحقوق الانتخاب؛ لأنهم لا ينوون الإقامة فيها واتخاذها وطنًا،

وإن حكومتهم هي التي حملتهم على التبرم والشكوى؛ لتتخذ ذلك ذريعة لمناصبة تلك

الجمهورية، كما صرح بذلك بعض من عاد إلى أوروبا منهم في هذه الأيام، ونحن

نقول: إنْ هذه الحجة إلا كسائر الحجج التي تحتج بها الدول الأوروبية في فتوحاتها

تمويهًا للعدوان وإرضاءً للتمدن بالبهتان، كنشر لواء الحرية واستبدال التمدن

بالهمجية، وإبطال الاسترقاق، وتعميم المعارف في الآفاق، اتحد المعنى وتعددت

العبارات، والصيد واحد والشباك مختلفات.

وإنما يعذل الأوروبيون بعضهم بعضًا بالخروج عن التعلات المعتادة، حسدًا

من عند أنفسهم للدولة السابقة في ميدان الاستعمار، وما الاستعمار إلا فتوح وتغلب

بالحيلة والخداع مهما أفادا، وإلا فبالحرب والجلاد، وما كانت الحرب غاية يلجأ

إليها بعد فراغ جراب الحيل إلا لأجل الاقتصاد في المال والرجال، لا كما يقولون:

إنها شفقة على الإنسانية، وأدب من آداب المدنية، فقد كان تنكيل الإنكليز بدراويش

السودان مما تقشعر له الأبدان، ويدل على أن الأوروبي لا يرى غير قومه من نوع

الإنسان، هذا والإنكليز أبعد الأمم الأوروبية من الضراوة بالحرب، وأقربها إلى

اختيار السلم.

هذا مجمل ما يقال في انتقاد الأوروبيين على الإنكليز وفي حقيقة أمرهم، وأما

هذه الجرائد الشرقية فهي تُرجع صدى أقوالهم وتضيف إليها ما شاءت السياسة من

ذم الإنكليز وتنكبهم صراط العدالة وانحرافهم عن سنن الفضيلة، وأما نحن فنقول:

إن إنكلترا ما جاءت في المدنيّة أمرًا فريًّا، فإن طبيعة الاجتماع البشري كطبيعة كل

موجود حي، ألم تر إلى كل جسم حي من نبات وحيوان كيف يطلب التغذية من

الخارج ما دام حيًّا، وما يدخل في بنيته من الغذاء ينميه ويمده في بعض الأطوار

ويحفظ عليه وجوده وقوته في طور آخر، حتى إذا ما أذن بارئ الكون بانحلاله

وعدمه يعجز عن تناول الغذاء الكافي لحفظ وجوده، فتفتك فيه عوامل الانحلال حتى

يصير إلى الفناء والاضمحلال؟

وقد تتعطل وظائف التغذي في الجسم لعلة عارضة ثم تزول تلك العلة بسبب

من الأسباب كالمعالجة، فترجع إلى الجسم صحته؛ فيعود متغذيًا يطلب المدد لقوام

حياته من الأجسام الأخرى التي من شأنها أن تكون غذاء له.

هذا الذي نشاهده في أشخاص الحيوان والنبات في الأدوار الثلاثة: النمو

والوقوف والانحلال الذي يعقبه الفناء، هو بعينه مشاهد في الأمم والدول، وهو فيها

اضطراري لا اختياري، وإن كانت جزئيات الأعمال تؤتى من الأفراد بالاختيار،

فليس في طاقة الدولة القوية ذات الأمة العزيزة أن تمتنع عن طلب السيادة على

غيرها وتوسيع دائرة نفوذها في الأمم الضعيفة كما أنه لا طاقة للأفراد من الإنسان

وغيره من الأحياء على ترك الغذاء بالمرة؛ لأن مصادمة الطبيعة ومقاواتها لإبطال

عملها مما لا يستطيعه الناس، نعم يقدر الإنسان على تأخير الغذاء عن وقته أو

تقديمه عليه ويفضل غذاء على آخر مما في استطاعته تناوله، والترجيح في هاته

الأحوال تابع للعلم بالمصلحة والمنفعة، ولكنه لا يترك الغذاء بالمرة مع الاستطاعة

عليه إلا لعلة في الجسم أو النفس.

وكذلك شأن الدول في الفتوح والاستعمار لا تتركهما إلا بعلة العجز ولكنها

تختار بلادًا على أخرى، وقد تتعجل بشيء من ذلك أو تؤخره عن الوقت المناسب

إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما تؤكل الفاكهة قبل بدوّ صلاحها والطعام قبل نضجه

إما لشدة الجوع وإما خشية أن يحال بينها وبين الأكل، وكما يؤكل اللحم قديدًا حيث

لا يوجد غريضًا طريًّا. لا جرم أن تعدي إنكلترا على الترانسفال ومحاولة التهامها

من الابتسار (أخذ الشيء قبل أوانه) ولكن الشديد القرم يأكل اللحم النيئ وربما

حملته الضراوة على نهش لحوم الأحياء.

لا يرتاب أحد في أن شعب هذه الجمهورية شعب حيّ حافظٌ لوجوده متمتعٌ

بجميع ما تتمتع به الأمم الحية من المزايا الصورية والمعنوية، ومن طبيعة الجسم

الحي المتمتع بالمزاج المعتدل الصحيح أن يدافع ما يعرض لمزاجه ويقاوي ما يعدو

على حياته، ولا يستسلم لعوادي البلاء ويستهدف لعوامل الفناء، ومَن يقول: إن

طبيعة الأشلاء كطبيعة أولي القوة من الأحياء، فما ظهر من كل من إنكلترا

والترنسفال هو ما اقتضته طبيعة عمرانها، فلا لوم على الأولى ولا تثريب، وليس

ما جاءت به الثانية بالأمر العجيب، وهذا هو ما وعدنا ببيانه في (المنار) الماضي.

يقال: إن بين الإنسان وبين سائر الأحياء فرقًا، فهو يعمل منفردًا ومجتمعًا

بالاختيار لا بسائق الفطرة فقط، ويوصف بالاعتدال في أعماله ومناشئها من

أخلاقه وسجاياه فيمدح، ويرمى بالتفريط أو الإفراط في ذلك فيذم، وهو مكلف بأن

يعدل في تصرفه بالطبيعة ويقف في تحصيل مطالبها عند الحدود المشروعة

والمعقولة، وإننا نرى الترنسفال في المدافعة أقرب إلى الإفراط من إنكلترا في

التعدي والمهاجمة، بل إنها هي التي ألجأت إنكلترا للحرب بإنذارها الشديد المعلوم،

فكأنما هي التي ابتدأت الحرب، بل هي التي ابتدأتها حقيقة.

نقول: إن هذا الكلام صحيح، وإن حكومة الترنسفال قد تهورت ولكن لها

عذرًا في التعجل بالحرب؛ لأنها علمت أن ذلك واقع ما له من دافع، وأن الفائدة في

التأخير إنما هي لعدوتها حيث تستكمل جمع القوة اللازمة لإبادتها، على أنها تُلام

على عدم التساهل في الدفع بالتي هي أحسن قبل أن تكتب إنكلترا الكتائب وتسوق

الجنود إلى الحدود، اللهم إلا أن تكون على بينة من أن تلك المطالب تعبث

باستقلالها، فإنها حينئذ يصدق فيها قول الشاعر:

إذا لم تكن إلا الأسنة مركبًا

فلا يسع المضطر إلا ركوبها

فكيف بها إذا شعرت بأن غاية هذه المطالب محو وجودها القومي وإدغامها في

المستعمرة الكبرى التي تَجِدُّ بريطانيا العظمى في إنشائها، وقد تجاوزت في التمهيد

لها من الشمال الخرطوم وأم درمان وتعلم (أي الترنسفال) أنها هي العقبة الكؤود

التي لا بد من تمهيدها في الجنوب؟ أليست جديرة في هذه الحال بأن تتمثل بقول أبي

الطيب:

وإذا لم يكن من الموت بد

فمن العجز أن تعيش جبانًا

بلى، الجبن والاستبسال هما عاملا الفناء والزوال، وعاقبة الشجاعة والإقدام،

إما الظفر وإما ميتة الكرام، وليس استبسال شعب البويرس واستماتته لأجل الأمر

الثاني (ميتة الكرام) كما يظن أكثر الناس، بل هو يطمع بالظفر بعدوّه ويرجو أن

يكون له الغلب عليه لأسباب منها إعجابه بنفسه واستهانته بخصمه، لا سيما بعد

الظفر بحملة الدكتور (رجمسون) الإنكليزي، فإن البويرس يعتقدون بأنفسهم

أنهم أشجع الخلق وأبسلهم، والباسل لا يستبسل، ومنها أن التعليم العسكري عام فيهم،

ومتى دخل العدو بلادهم فإنهم يتألبون عليه كبارًا وصغارًا، نساءً ورجالاً حتى

يظفروا به فيفنوه أو يبيدهم عن آخرهم، وبمثل هذه المزية تحفظ الشعوب

الصغيرة استقلالها، وبتركها حَل الدمار بأقوى الأمم وأعظمها، ومنها أن لهم من

ولاية الأورانج الحرة حليفًا وظهيرًا، ومنها أنهم مدافعون وخصمهم مهاجم، ومنها

أنهم يتوقعون أن يثور أبناء جنسهم في مستعمرة الرأس على خصمهم إذا لم يُبقوا فيها

حامية كافية لمنع الثورة، وإبقاء الحامية مفرق لقوتهم ومضعف لهم، والظاهر أن

بريطانيا العظمى على عظمتها إنما تقدر على التنكيل بالترانسفال بالمطاولة

لا بالمناجزة، ولا عار على أمة أن تغلبها أمة يزيد عدد رعاياها على عددها أكثر من

ثلاثمائة ضعف، ولها الفخر الأكبر والشرف الأعلى في الشجاعة إذا هي طاولتها

في القتال، أو كانت الحرب بينهما سجال، فكيف إذا هي ظفرت ولو في بعض

الأحوال؟ !

هذا خير مثال للأمم الحية والأمم التي تعد في الموتى، وبه يفهم قول اللورد

سالسبري: إن الأمم الحية تزداد حياة والمائتة تزداد موتًا، ولكننا بَيَّنا أن الأمم التي

ظهر فيها الانحلال يجوز أن ترجع إلى صحتها بإزالة العوارض التي طرأت عليها

فغَلَّبت التحليل على التركيب، فعسى أن يكون في كلامنا موعظة وذكرى {وَمَا

يَتَذَكَّرُ إِلَاّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) .

_________

ص: 498

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

(2)

من أراسم إلى هيلانة في 6 يناير سنة -185م.

حدث بالأمس بين الساعة العاشرة والحادية عشرة صباحًا ضباب كثيف غمر

الشاطئ كله، والعادة في مثل هذه الحالة أن تدق الأجراس إيذانًا بالخطر، فلذلك

طفقت أجراس القرية القريبة من السجن تطنطن، وتيسر لي أن أفهم المقصود من

هذه الإشارة، الساحل المحدق بنا ممتلئ بالأخطار لأن الرمال المتحركة

ومستنقعات الماء الراكد والمد والجزر كلها حبائل تترقب اصطياد السائح الضال،

كامنة له تحت أستار الضباب، لذلك تناديه أصوات الأجراس وتحذره من الوقوع

في الخطر، وترشده بمصدرها إلى الطريق الذي يلزمه سلوكه ليصل إلى سفح

الجبل أسرع ما يكون، وقد سألت في مساء هذا اليوم سجانًا لنا يسكن أهله القرية

عما حدث، فأخبرني بأن طفلين مسكينين قد فاجأتهما أمواج البحر في إبان المد

فأحاطت بها وكادا يغرقان لولا ما بذله من الجهد والهمة صيادو الشاطئ من ذوي

النجدة والبسالة في إنقاذهما من مخالب الموت غير مبالين بالخطر الذي كاد يذهب

بقواربهم، من هنا ترين أنني على بعدي عن العالم وحرماني من معرفة ما يحصل

فيه قد قدرت أن أتحفك بهذا الخبر السار. اهـ

(3)

من أراسم إلى هيلانة في 8 يناير سنة - 185م

أنا في السجن تتعاقب عليّ الساعات، وكلها متشابهة لا اختلاف بينها، فليست

الحياة هنا إلا يومًا واحدًا بسبب ما يحرج الصدر ويضيق على النفس من توحد

الأشياء وتشابه الأطوار وعدم تغير شيء منها، آه لو عادت إليّ نعمة العلم بما يقع

في الخارج، وليتني أعرف شيئًا من أخبارك، قد منحتني إدارة السجن الحق في أن

أخرج من مخدعي للتنزه كل يوم ساعة أو ساعتين على رصيف مرتفع للسجن، فأنا

أصرف هذا الزمن في إجالة نظري والسياحة به فيما حولي من الأشياء لأتعرفها،

فإني للآن ما كنت أعرف شيئًا في هذا المكان، بل كنت أجنبيًّا منه بالمرة إذ كنت

كمَيتٍ أُلقي في مكان لا يدري أين هو، وقد ابتدأت منذ أسبوع أن أعرف أين

مستقري، فتجدينني الآن أهتم بتعرف شكل الأماكن المحيطة بي تعرفًا صحيحًا،

يبعثني على ذلك وجدان لا أشك في أنه عام في جميع المسجونين، لا ينفك ناظراي

عن اكتشاف ما لم أكن رأيته حال دخولي في السجن، وأخالني قادرًا على أن

أرسم في الورق صورة ما أحدثه البحر في الشاطئ من التقطع؛ فنشأت عنه الخلجان

والرؤوس التي تمتد كالألسنة امتدادًا أفقيًّا، وصورة الصخور التي تظهر قممها

أحيانًا في ضوء الشمس ويختفي نصفها أحيانًا في ظلام الضباب البعيد، وقد عرفت

أيضًا رسم البناء الذي يحويني، وأوضاعه الهندسية الجميلة، وتنظيماته الحربية،

ومعاقله الطبيعية ومنحدراته، ومناطق أسواره، لم يكن اهتمامي بمعرفة ذلك مبنيًّا

على تدبير حيلة للهرب، كلا، فقد حاول ذلك غيري من المسجونين وردوا

بالخيبة؛ لأننا إذا أمكن أن ننجو ممن يقومون على حراستنا من العساكر والسجانين

الذين يتعسر أن نخدع يقظتهم والتفاتهم، فإننا لا ننجو من المحيط والرمال

الخاتلة بوعوثتها، والعقبات الكثيرة الأخرى، وإنما أنا أبحث في ذلك عن طريقة

أُسلي بها نفسي وأشغل بها فكري، فلا شيء مني يريد الهروب والتخلص من

السجن سوى عقلي. اهـ.

(4)

من أراسم إلى هيلانة في 10 يناير سنة -185م

أتعلمين ما للسجن عليّ من الفضل؟ إنه ليعلمني أن أكون حرًّا ويرشدني إلى

معرفة أن الإنسان عاجز عن الاستيلاء على إنسان مثله، فإني أحس بذلك كلما

تعاقبت عليّ الأيام فيه، وأجد في نفسي نوعًا من الفرح مشوبًا بمرارة عندما أشعر

من نفسي أنها أكبر وأقوى من أن يبهظها ثقل وطأة الظلم، ليست أسوار السجن

الصوانية وأغلاقه الحديدية وحفظته الأيقاظ إلا هباء في طريق العقل، لا حوائل

تحبسه وتمنعه من الجولان، بل إن أشعة نوره تتخطى كل هذه العوائق ولا تقف

عند شيء منها، إن عزيمة المسجون لتقاوم عزيمة ساجنه ومصفده، وأنه مهما جدّل

وصرع فلا يستسلم، وأنه إذا كان على شيء من العدل والحق فهو أشرف وأسمى

مكانًا من غالبه، عبثًا يحاول هذا الغالب، فالفكر كالهواء لا يدخل في قبضة أحد،

إنه ليتيسر له أن يشد وثاق مسجون، فليصل بعد إلى أعماق قلبه، وليأسر ما هنالك

من عزة نفسه ومنعة وجدانه إن كان ذلك في قدرته، هيهات هيهات تلك المنعة التي

أجدها في نفسي تدعوني إلى الثقة العظيمة بالمستقبل، لا أقسم بمخادع السجن

الضيفة المظلمة ولا بأشباح أولئك الذين ماتوا هنا في زوايا النسيان (مخادع في

السجن مسماة بهذا الاسم معدة للمحكوم عليهم بالسجن طول الحياة) أو في أقفاص

الحديد، فإن الحق والحرية سيكون لهما النصر والظفر في هذه الدنيا.

(5)

من أراسم إلى هيلانة في 12 يناير سنة -185م

قد اهتديت بعد العناء إلى طريقة إيصال هذا المكتوب إليك، فسيصلك على يد

الذي تفضل عليّ بأن يكون رسولاً بيننا، على ما في ذلك من المخاطرة بنفسه، هذا

يدلك على أن الإنسان إن كان يحتف به في حالة الرخاء الجلساء المتملقون، فهو لا

يعدم في الشدة أن يرى حوله أحيانًا أصدقاء خاملين يخلصون له الود.

وأختم قولي بأنى لك طول حياتي.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 502

الكاتب: محمد رشيد رضا

دروس جمعية شمس الإسلام

(4)

(أماليّ دينية - الدرس الرابع)

(8)

أحكام العقل: الإيمان هو تصديق العقل بقضايا الدين جزمًا في البعض

وظنًّا في البعض الآخر، وقد قلنا في درس سابق أن العقل مشرق أنوار الدين، وأنه

يجب أن لا يكون في الدين ما يجزم العقل بامتناعه، وأكثر كتب التوحيد التي يعلم

بها في المساجد والمدارس مبنية على أن العقيدة الإسلامية هي معرفة ما يجب لله

تعالى وما يستحيل في حقه وما يجوز له، وما يجب ويستحيل ويجوز في حق

الأنبياء عليهم السلام، وما ثبت بالسمع من أحوال عالم الغيب الجائزة عقلاً،

والتصديق الذي فسرنا به الإيمان حكم من أحكام العقل، والوجوب والاستحالة

والجواز التي بنيت عليها كتب العقائد التي أشرنا إليها هي أنواع الحكم العقلي التي

ترجع إليها جميع الجزئيات، ولذلك أراني مضطرًّا لبيانها وإن كنت أخذت على

نفسي أن أجلي لكم المسائل الدينية غير متقيد بالاصطلاحات العلمية.

قال إمام الحرمين: من لم يعرف أنواع الحكم العقلي ويفرق بينها فهو ليس

بعاقل، أبين مفهوم هذه الكلمات الثلاث بعبارة سهلة أرجو أن يتناولها فهم كل سامع

سالكًا مسلك السنوسي في جعلها أقسامًا للحكم العقليّ لا للمعلوم كما جرى عليه بعض

العلماء، فقد حقق أستاذنا الأكبر في رسالة التوحيد أن المستحيل لا حقيقة له فَتُعْلَم،

وإنما يسمى معلومًا مجازًا، وبين هذا بما لا محل لشرحه هنا لما فيه من الدقة التي

تنافي ما توخيناه من التسهيل، أبدأ بالبديهي من ذلك وأوضحه بضرب المثال

فأقول:

(9)

الوجوب والواجب: لا ريب أن الإنسان لا يستطيع أن يتصور جسمًا

غير متحيز أي آخذ مقدارًا من الفضاء الموهوم بقدره، فحكم العقل بالتحيز للجسم

الذي في يدي مثلاً حكم جازم لا يقبل الانتفاء، وهذا النوع من الحكم العقلي هو الذي

يسمونه الوجوب العقلي، والمحكوم به يسمى واجبًا، فالتحيز للجسم واجب عقلاً لا

يمكن انتفاؤه، ولا يتصور في العقل عدمه.

(10)

الاستحالة والمستحيل: إذا قيل لكم: إن هذا الجسم متحرك وساكن في

حالة واحدة، فإن عقل كل واحد منكم يحكم بأن هذه الدعوى كاذبة لا تقبل لذاتها

الثبوت؛ لأنه لا يستطيع أن يتصور جسمًا متحركًا وساكنًا في آنٍ واحد، كما لا

يستطيع أن يتصور شيئًا موجودًا ومعدومًا في آن واحد، وهذا النوع من الحكم

يسمى الاستحالة، والمحكوم عليه بالاستحالة يسمى مستحيلاً ومحالاً عقليًّا.

(11)

الإمكان والممكن؛ إذا قلت: إن في جيبي الآن تفاحة، فلا شك أن كل

عاقل يحكم بأن مفهوم هذا القول يجوز أن يكون ثابتًا متحققًا، ويجوز أن يكون

منتفيًا لا حقيقة له، وهذا الحكم هو الذي يسمى الإمكان، فوجود التفاحة في جيبي

ممكن قطعًا.

(12)

البديهي والنظري: لا يرتاب فيما ذكرنا ذكي ولا بليد؛ لأن الأمثال

التي ضربناها بديهية، ولا يحتاج في فهمها إلى نظر واستدلال، ومن هذه الأحكام

ما لا يعرف إلا بالنظر العقلي والاستدلال، ولكن الدليل الصحيح لا بد أن ينتهي إلى

البداهة المعلومة بالضرورة بعمل فكري كثير، بل يحكم العقل بالتفاتة واحدة

باستحالة الترجيح من غير مرجح.

(13)

الترجيح بلا مرجح: هذه الكلمة تدور على ألسنة المتكلمين في

الاستدلال على وجود الله تعالى وتنزيهه عن الحدوث، ومشابهة المحدثات،

ويعدونها من البديهات في العقليات، كما هي في الحسيات، فإن الميزان إذا تساوت

كفتاه لا يمكن أن ترجح إحداهما على الأخرى إلا بمرجح كجسم يقع فيها أو هواء

يحركها، ومن هنا يجيء المثال الذي لا بد فيه من عمل فكري كثير، ولنجعله

حدوث العالم.

(14)

حدوث العالم: من العالم ما نشاهد حدوثه بأعيننا كأشخاص الحيوان

والنبات، وما لم نشاهد حدوثه، فإننا نلقيه إلى العقل ليحكم عليه بأحد أحكامه

الثلاثة، أما الاستحالة فلا تأتي ههنا؛ لأن المستحيل ما لا يتصور وجوده، وهذا

موجود قطعًا، ولا سبيل للحكم عليه بالوجوب؛ لأن الواجب هو ما لا يتصور العقل

عدمه، ولا موجود في هذا العالم يمنع العقل عدمه، وكل ما تساوى في نظر

العقل وجوده وعدمه فهو ممكن، فإذا وجد الممكن فلابد من مرجح لوجوده على عدمه

المتساويين؛ لأننا أثبتنا أنهما متساويان، ورجحان أحدهما ينافي التساوي، فيلزم

أن يكونا متساويين وغير متساويين في آن واحد، وهذاهو التناقض المحال، فثبت

أنه لابد من مرجح لوجود العالم على عدمه والمسبوق بالترجيح حادث لا محالة بل لا

معنى للحدوث إلا هذا، ولك أن تقول: إن الترجيح فعل، وهو لا يعقل إلا حادثًا ومتى كان حادثًا فمفعوله حادث، فالعالم حادث لا محالة، وللاستدلال على هذا

الحدوث طرق أخرى لا حاجة لبيانها هنا.

(15)

حكم الواجب والمستحيل: يشترك الواجب والمستحيل العقليان في أنهما

لا تتعلق بها قدرة الله تعالى؛ لأن وظيفة القدرة الإيجاد والإعدام، والواجب

وجوده لذاته فهو قديم ويستحيل عدمه، والمستحيل منتف لذاته ولو أمكن أن يوجد لم

يكن مستحيلاً، فلا يُقال: إن الله تعالى قادر على إعدام الواجب كذاته تعالى وتقدس،

أو إيجاد المحال كجعل الشيء موجودًا ومعدومًا، أو ساكنًا ومتحركًا في آنٍ واحد،

ولا يقال: إنه ليس بقادر إذ ليس هذا من وظيفة القدرة فيثبت لها أو ينفي عنها،

وقد غفل الجلال السيوطي عن هذا فقال في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ

شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة: 120) هذه العبارة (وخص العقل ذاته فليس عليها بقادر)

وفاته أن العموم في كل شيء بحسبه، فإذا قلت: إنني أبصر كل شيء في هذا

المكان لا يدخل في عموم قولي الأصوات والروائح؛ لأنها ليس من شأنها أن تبصر،

ولا يعد هذا نقصًا في القدرة الإلهية، كما لا يعد عدم إدراك الأصوات والروائح

نقصًا فيها.

(16)

العقليّ والعاديّ: يشتبه على كثير من الناس المُحال العقلي بالمُحال

العادي، ولا يكاد يسلم من هذا الاشتباه إلا الذين درسوا العلوم العقلية بالإتقان، ثم

سألت القوم: هل يجوز في العقل أن تثمر شجرة النخل تفاحًا أم يستحيل؟ فأجاب

طائفة من أمثل الحاضرين (يستحيل) فقلت لهم: إن العقل كما يتصور ظهور

الثمرة التي تسمى بلحًا من هذه الشجرة يتصور أيضًا أن تظهر منها الثمرة التي

تسمى تفاحًا، ولكن هذا إنما يمتنع في العادة دون العقل، أرأيتم إذ قلت: هل يقدر

الله تعالى على إخراج التفاح من شجرة النخل، فما أنتم قائلون؟ فأجاب أنه قادر

على ذلك، فقلت: وهل يقال إنه قادر على جعل النخلة موجودة ومعدومة في آنٍ

واحد، فقالوا: كلا، فقلت: قد اتضح الفرق، وليس لنا أن نقول: إن هذا الشيء

مُحال عقلاً إلا إذا كانت استحالته بديهية أو عليها دليل ينتهي إلى البداهة كالجمع بين

النقيضين، وما عدا ذلك مما لم تجر العادة بوجوده إما لعدم وجود سبب وعلة

تقتضيه، أو لأنه مخالف لسنن الكون - فهو ممكن في نفسه مُحال في العادة، كما

اهتدى الإنسان إلى جعل الشجرة تأتي بثمرة شجرة أخرى من فَسيلتها بالطريقة

المعروفة، يجوز أن يهتدي إلى طريقة طبيعية أخرى في الأشجار التي ليست من

فصيلة واحدة كالنخل والتفاح، إن هذا الأقرب في نظر العقل من وصول الأخبار

إلينا من الصين وأميركا في نحو دقيقة واحدة بآلة التلغراف، ومن مخاطبة أهل

الأنحاء الشاسعة بعضهم بعضًا بآلة التليفون، لولا الجمع بين النقيضين وما في معناه

أو يؤدي إليه لكان من الصواب ما قال نابليون الأول أن يحذف لفظ المستحيل من

معاجم اللغة، وفي هذا القدر من البيان غناء لقوم يتفكرون.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 505

الكاتب: أحد الأفاضل في بتاوي الجاوه

‌الشكوى من ظلم هولندا

لأحد الأفاضل في بتاوي الجاوه

لقد سرَّني وسرَّ جميع المسلمين في هذه البلاد ما نشرته جريدة (معلومات)

في عددها131 المؤرخ في 23 ربيع الآخر من هذه السنة جوابًا عن الرسالة الواردة

إليها من جاوه بتاوي وقد أصابت الغرض الذي نرمي إليه، وجميع المسلمين واثقون

بقولها ومرتقبون لنتيجة ما كتبته في عدد 94 في شأن التابعية العثمانية، وما تقرر

بين دولتنا العلية وهولندا، ويلهج بقرب وفاء الوعد النساء والأطفال فضلاً عن

الرجال، أما هولندا فقد زادها عُتوًّا ونفورًا، وأنشأت تموه وتعلن أن ما جاء في عدد

94 من معلومات قول لا يقصد به الفعل وأمين بك شهبندر الدولة العلية ساكت على

ذلك فاعتُبر مُقِرًّا له، وفي الشهر الماضي كتبت جريدة (بنتغ بتاوي) في عددها

188 المؤرخ في 18 (أكوس) سنة 1899م كلامًا أساءت فيه الأدب مع الحضرة

الشاهانية اقشعرت له قلوب العالم الإسلامي في هذه البلاد، وكتبوا عرائض الحال

للشهبندر أمين بك وقَدّموا له عدد الجريدة المشتمل على الطعن.

نشكر لجريدة (المنار) ما كتبته في عدد 25 المؤرخ في 26 ربيع الثاني

جوابًا على الرسالة الواردة إليها من (بتاوي - جاوه) وما ذكرت من العقبات التي

أمام دولتنا العلية -أعزها الله إلى آخر الدوران- المانعة لها من إنقاذ المسلمين من

ظلم هولندا، احتج (المنار) واعتذر عن الدولة العلية أولاً بأن أسطولها ناقص

يعوزه زيادة المدرعات، وثانيًا بأن هولندا بعيدة في البر عن حدود الدولة العلية،

وأنها لو كانت قريبة لدمرتها بمثل ما دمرت اليونان، ونحن معاشر الجاويين

المسلمين نظهر في (المنار) وبواسطة كل من له غيرة على المسلمين، أنه إذا

أرادت الدولة العلية إنقاذنا من ظلم هولندا ارتجّ لها العالم بأسره، ونطلب من الدولة

بمرأى ومسمع من معتمدها أمين بك أولاً أن تحارب هولندا بالحجة والإقناع، ثانيًا

أن باب المندب ليس ببعيد عن دولتنا العلية، وحياة هولندا وموتها هناك، ثالثًا

الضغط على رعاياها في الممالك المحروسة وإبطال امتيازات قناصلها حتى لا يبقى

لقنصل هولندا إلا المحافظة على بنديرة (عَلَم) دولته كما هو شأن قنصل الدولة

العلية في بتاوي، فإنه لا يفوه ببنت شفة أمام الهولنديين دفاعًا عن رعايا دولته

وحفظًا لحقوقهم.

فإننا تحت ظلم هولندا يكال ويوزن لنا بالموازين والمكاييل الناقصة، وقد

فضلت الهرباوين واليابان علينا في الموازين أعني القوانين والامتيازات. ونحن

نعتقد أن دولتنا العلية أقوى في جميع الوجوه من اليابان، وإن اليابانين منذ عهد

قريب حازوا الامتيازات من هولندا، وكانوا يعاملون مِثلنا ولمّا رفعوا شكواهم إلى

(الميكادو) أغاثهم حالاً وأنذر هولندا بأنها إذا لم تعامل رعاياه كمعاملة الهرباوين يعلن

عليها الحرب حالاً، وعندما وصل الإنذار إلى والي بتاوي أمر حالاً بأن يعامل

اليابانيون في جميع مستعمرات هولندا كمعاملة الهرباوين في جميع الامتيازات.

وأخيرًا نستلفت أنظار دولتنا العلية أن ترحمنا وترق لما نحن فيه من الظلم

وأن ترسل إلى مياهنا ولو سفينة حربية اقتداء بالدول كي تقرّ أعين المسلمين وتطمئن

قلوبهم برؤية الهلال والعساكر الأهلية وما ذلك عليها بعسير؛ فإنها هي المسئولة

عن ذلك بين يدي الله عز وجل بما لها من القوة في الوقت الحاضر، وجميع

المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها متمسكون بالسدة الملوكية، والمرجو من

حضرات محرري الجرائد التركية والعربية، والفارسية والهندية، ومن له غيرة

على المسلمين أن ينادوا ويحرروا ويعلنوا ما نحن فيه من الظلم والاعتساف من

هولندا؛ حتى يُسَخِّر الله لنا مَن يُحامي عنّا وأجر الكل على الله وحده، والسلام.

...

...

...

...

محب الدولة والملة

...

...

...

...

ناصر الدين

(المنار)

لو أن قناصل الدولة العلية في بلاد جاوه من الرجال المُحَنكين في السياسة،

الصادقين في الخدمة، لأمكنهم أن يُخففوا البلاء على المسلمين هناك، ويحملوا

حكومة هولندا على إعطائهم حقوقهم كلها أو بعضها، ولكننا بُلينا بقوم خونة يكون

أحدهم وكيلاً للدولة العلية ليحافظ على حقوق رعاياها فيتفق مع الحكومة المحلية

على أن يكتم عن دولته الحقيقة، ويخبر عما يجري بخلاف الواقع، يشتري بذلك ثمنًا

قليلاً {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُون} (البقرة: 79) أما

الوجوه التي ذكرها الكاتب فهي مما يُقال ويخطر بالبال، ولكن هولندا تجيب الباب

العالي إذا هو احتج عليها بضياع حقوق رعيته أو سائر المسلمين في جاوه بأن أخبار

الجرائد كاذبة، وأن الصحيح ما يقول القنصل الرسمي، وقد علمنا أن القنصل يكتب

لدولته ما تحب الحكومة الهولندية وترضى، وإذا وصل للدولة العلية خبر رسمي

صحيح ينطق بثبوت تلك المظالم واحتجت به تقابلها هولندا بالوعود الكاذبة حيث

هي آمنة من الإلزام بالقوة، وأما التعرض لمراكب هولندا في باب المندب فهو لا

يجوز إلا إذا وقعت بين الدولتين حرب رسمية، ولا مجال للحرب لما ذكرنا قبلاً

من بُعد بعض البلادين عن بعض وضعف أسطولنا، وأما الضغط على رعايا

هولندا في الممالك المحروسة فهو يفيد لو كان لهولندا رعايا في بلاد الدولة العلية،

ولكن هولندا دولة صغيرة إذا خرج بعض أهلها من بلادها للاتجار والكسب،

فإنما يقصدون مستعمرتهم أو أرضًا غنية أخرى يسكنها قوم من جنسهم كجنوبي

إفريقيا، ولا يوجد منهم في بلاد الدولة العلية إلا قليل، على أنه يصعب على

هولندا أن تحرمها الدولة العلية الامتيازات الممنوحة لغيرها من دول

أوروبا لما فيه من الإهانة لها، ولا نخال أن الدولة تفعل هذا، وأما اعتقاد الكاتب

وغيره أن دولتنا أقوى من دولة اليابان فهو إن صح لا يلزم منه أن تعامل الدولة

العلية كما تعامل اليابان؛ لأننا مُقِرّون بأنه لا سبيل للدولة إلى حرب هولندا للبعد في

البر وعدم استعداد أسطولنا لحرب البحر على أن بحرية هولندا ضعيفة أيضًا.

ونحن نرى أن يستصرخ إخواننا الجاويون العالم المتمدن بالكتابة في الجرائد

عامة والأوروبية خاصة بأن يبينوا فيها مظالمهم من غير تحامل، ويحددوا فيها

مطالبهم تحديدًا وأخال أنه يوجد فيهم من يحسن الكتابة في اللغتين الإنكليزية

والفرنسوية.

ومع هذا فإننا لا نأتلي أن نستصرخ لهم مولانا السلطان الأعظم، ونستنجد

عواطفه الشريفة، ونستغيث بمراحمه، ونستجدي مكارمه، ونرغب إلى سائر

الجرائد الإسلامية بمساعدتنا على ذلك، عسى أن يوفقه الله تعالى لحل هذا الإشكال

بطريقة لا تخطر على البال، فتتحقق بجلالته وبدولته الآمال، وعلى الله الاتكال.

_________

ص: 508

الكاتب: محمد رشيد رضا

تهاني الجرائد

نهنئ صديقنا الكاتب الفاضل، المؤرخ المدقق جرجي أفندي زيدان بإكمال

مجلته الهلال الأغر سبع سنين، بلغت فيها بجده واجتهاده وحسن اختياره

للمواضيع المستعذبة مبلغًا في الانتشار سبقت فيه جميع المجلات العربية فيما نعلم

بحيث صار هلالها بدرًا كاملاً، فلا زالت بسعيه مشرفة على الأقطار، مشرقة

بأنوار المعارف التي هي أنفع من أنوار الأهلة والأقمار.

***

ونهنئ الكاتب الأديب عوض أفندي خليل صاحب مجلة (السمير الصغير)

باستقبال مجلته السنة الثالثة بشكل المجلات الكبرى؛ فارتقت من أربع صفحات

إلى 16 صفحة كبيرة، وبذلك زادت فوائدها، فنحث أبناء المدارس على زيادة

الإقبال عليها.

***

ونهنئ جريدة (السلام) الغرّاء ببروزها من حجابها، وعنايتها بعده بالمباحث

الإسلامية، مستلفتين أنظار من يحررها إلى عدم التحامل في الانتقاد على العلماء،

فقد اتخذتهم في إحدى مقالاتها هزؤًا وسخريًّا، ولا ننكر أننا ربما كنا أول من فتح

باب الانتقاد عليهم في شؤون العلم والتعليم، ولكننا لم نمس كرامتهم الشخصية،

وعلى أن مجلتنا علمية دينية، ونحن من الصنف، وبهذا ربما يقبل منا ما لا يقبل

ممن ليس كذلك، ولا يتوهم أننا نقصد حجر هذه الأبحاث على غير (المنار) فإننا

- يعلم الله - نحب أن توافقنا كل الجرائد وتساعدنا فيما نحن فيه، وإننا قد سُررنا

بمشرب (السلام) الجديد، ولكنا نرجو أن تكون فيه على بينة واعتدال ، وأن

تتحري في المديح الشخصي كذلك فلا تطلق الألفاظ التي تخصها الجرائد المعتبرة

بأمير البلاد (كشرفنا أو شرف الثغر) على أوساط الناس، فضلاً عن أدنائهم. ولما

رجونا منها الخير أبدينا لها النصيحة، والله عليم بذات الصدور.

***

أخبار الحرب نلخصها في الرسائل البرقية، على أن مصادرها إنكليزية:

قضت الحال أن يكون الترانسفاليون مهاجمين مع أن الأصل أن يكونوا مدافعين،

وقد أوغلوا في بلاد ناتال الإنكليزية من مضيق لنجسنك وكذلك جند الأورانج حلفاؤهم

تعدى حدودها، وهجم البويرس أيضًا على بلدة ما فكنج فحاصروها وربما كانوا قد

استولوا عليها وقد دمروا هناك القطر الحديدي الحربي المدرع الذي كان معتمد

إنكلترا في حماية تلك الجهة بعد ما أزاغوه عن صراطه،وقد أسروا جميع من كان في

القطار إلا رجلاً مهندسًا أو رجلين، وحاصروا أيضًا مدينة كمبرلي التي فيها

المسترسل رودس صاحب المشروع الإفريقي العظيم واحتلوا النكس نك، وآخر

الأخبار البرقية أن جندهم في تقدم مستمر إلى الأمام، وأنه يقصد إلى الإحاطة

بمدينة لادي سميث، والمدد البريطاني متواصل.

_________

ص: 511

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌وفاة والدة عبد الحليم أفندي حلمي

نعى إلينا بريد سوريا الأخير وفاة والدة مدير جريدتنا عبد الحليم أفندي حلمي

قضت نحبها في ميناء طرابلس الشام عن عمر ناهز السبعين، قضت معظمه بالعمل

الصالح والبر والإحسان، فرحمها الله رحمة واسعة، وعزّى أولادها وإخوتها،

وألهمهم الصبر الجميل.

_________

ص: 511

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ذكرى لرؤساء الأمة

] إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا [[1]

ويلٌ للمفرِّطين الذين هم في غمرة ساهون، تلمع لهم بروق الهداية ولا

يبصرون، وتصيح بهم رعود النذر ولا يسمعون، وتفيض عليهم سماء النعم ولا

يشكرون، أنذرهم الله بطشته بسوء الحال وقلة المال وزلزلة الاستقلال، فتماروا

بالنذر- وأعرضوا عن الآيات والعبر، واعتذروا بالقضاء والقدر، وما أذنب

القضاء ولكنهم هم المذنبون، وما قصر القدر ولكنهم هم المقصرون، يجادلونك في

الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، وما هي إلا كلمة واحدة

تذهب باستقلالهم، وتقطع حبال آمالهم، وتجتاح ثمرات ما كان من أعمالهم،

أستغفر الله لأنهم قوم لا يعملون، ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم

يخصمون.

ويل للغافلين الذين هم في سكرة يعمهون، أضلهم الهادون، وأغواهم

المرشدون، وفتك بهم الحرَّاس الحافظون، فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون،

تفرقت بهم السبل فأعيتهم الحيل، واختلف فيهم الأدلاء فلا يدرون كيف العمل،

وغلبت العادات السيئة فكثر الخلل، وقوي سلطان التقاليد الباطلة فعمّ الزلل، فإذا

قيل لهم: ارجعوا إلى قرآنكم، قالوا: إنما نحن مقلدون، وإذ قيل حَكِّموا العقل، قالوا: إنما نحن مؤمنون، كلا، إنه لا يشقى بالإيمان العالمون {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم

بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106)

ويل للمرءوسين من الرؤساء، وويل للرؤساء من المرءوسين، ويل لعلماء

السوء، وويل لخطباء الفتنة، ويل للذين يغرون الناس بأقوالهم، ويفتنونهم بأفعالهم

وأحوالهم، يزهدونهم وهم طامعون، وينفثون في أرواحهم سموم الخرافات وهم

يعلمون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ

المُفْسِدُونَ وَلَكِن لَاّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12)

ويل للأمراء الظالمين، والسلاطين الجائرين، الذين جعلوا الرعية عبيدًا، بل

حسبوها حجارة أو حديدًا، يستعبدونها كما يشاؤون، ويستعملونها بما يشتهون، لا

يتقيدون بشريعة ولا قانون، ويرى كل منهم أنه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون} (الأنبياء: 23) .

حسبكم حسبكم أيها الرؤساء، وأفيقوا من نومكم أيها المرءوسون، فقد ذهبت

تلكم الأزمان، وتغيرت طبيعة العمران، ودخل البشر في طور جديد، فمنهم شقي

وسعيد، فأما الذين سعدوا في دنياهم، وكاد يخلص لهم ملكها دون من سواهم، فهم

الذين نظروا في الأكوان واسترشدوا بسنتها، وسبروا أحوال الأمم الأمم فأخذوا

بنافعها ومستحسنها، وطهروا أنفسهم من ضارها ومستهجنها، وبذلوا جل العناية في

اختبار طرق التربية والتعليم، واختيار ما ثبت لهم أنه الصراط المستقيم، وإنما

تعرف المبادئ بغاياتها، وصحة الأسباب بصحة مسبباتها، وهذه آثارهم بين أيديكم،

وهي أكبر حجة عليكم، يدير الواحد منهم شؤون الملايين من سائر الأمم، كأنه يدير

الآلات الصماء أو يرعى النَّعَم.

وأما الذين شقوا فهم الذين تنكبوا الطريق الأَمم، وأعرضوا عن النظر في

أحوال الأُمم، وجهل علماؤهم سنن الله في الخلق، وزعموا أن في تعلمها إعراضًا

عن الحق، بل أوهموا أمتهم أن سنن الله وأحكامه في خليقته، مخالفة سننه وأحكامه

في شريعته، وأن العالم بالخليقة كافر أو منافق، والمشتغل بكتب الفقه

(التي زعموا أن الشريعة محصورة فيها) هو المؤمن الصادق، هيهات هيهات،

لقد أضل الواهم قومه وما هدى، وإنما {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ

قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) وهم الذين يحاربون الإصلاح باسم الدين، وهو

ما كان عليه آباؤهم منذ مائة سنة أو خمسين، فيقولون: ليس في الإمكان، إلا إبقاء

ما كان علي ما كان؛ لأن سعادة الأمة في حاشيتي التجريد والصبان، ومعرفة حكم

مناكحة الإنس والجان، وقطع السنين الطوال في أمور لا تتعلق بها الأعمال،

كأبواب الرقيق وما فيها من التدقيق، وإذا قيل لهم: اقتدوا سلفكم الأولين من

الصحابة والتابعين، ومن يليهم من الأئمة الوارثين، الذين جمعوا بين مصالح الدنيا

والدين، ولم يكن عندهم الصبّان ولا ابن عابدين، فارجعوا إلى كتبهم، وتأدبوا

بأدبهم، واستمسكوا بسببهم، فأما أدبهم فالسنة الصحيحة والقرآن، وإتقان لغتهما

بالكتابة واللسان، وأما سببهم فالاستعداد للقوة بقدر الإمكان، بحسب حال الزمان

والمكان، وبذلك فتحوا البلدان، ودوخوا الفرس والرومان، إذا قيل لهم هذا يقولون:

أما اقتفاء آثارهم في الآداب والعرفان، فلا يستطيعه اليوم إنسان، لفساد طبيعة

الزمان

وأما اتباعهم في القوة، والنجدة والفتوة، فهو مطلوب من الحكام، لا من

العلماء الأعلام، فإذا قلت: كيف؟ وإن المدافعة عن الأوطان هي عند كم من

المفروض على الأعيان، حيث تحقق شرطه في هذا الزمان، وهي متوقفة علي علم

تقويم البلدان، ونحوه من العلوم التي يذمها منكم الجمهور الأكبر، ويقولون: يجب

أن لا يتلوث بها الأزهر - يجمجم قوم ويهمهم آخرون، ويعرض عن الجواب

المتكبرون، انظر كيف نصرّف الآيات لعلهم يفقهون، لكل نبأ مستقر وسوف

تعلمون، وهم الذين استبدل حكامهم قانون الإفرنج بقانون الديّان؛ لأن سوء التعليم

أبعد الفقه عن متناول الأذهان، وجهل الفقهاء بأحوال العصر جعله غير منطبق على

مصالح الإنسان، وتجاوزوا الحد في الاستبداد، والعلو في الأرض والفساد، فجعلوا

لأنفسهم الحق في إبطال الشريعة الإلهية، والعفو عمن يحكم عليها بأحكامها العدلية،

على إنهم لم يتقيدوا بالقوانين الوضعية، ونظام الأمم المتمدنة الغربية، فيالها من

تجارة بائرة، وصفقة خاسرة، وما هو إلا خسران الدنيا والآخرة {وَمَن لَّمْ يَحْكُم

بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) لا أٌطيل في القول، فشقاء

أمتنا في كل مكان، قد شعر به مِنَّا كل إنسان، ولم يزل منزلة الرؤساء من الأمة

منزلة الوالدين من الولدان، وأمام هؤلاء الرؤساء الآن فرصتان لإصلاح الشان،

إحداهما في مصر وهي العلمية الدينية، والثانية في بلاد الدولة العليّة، وهي

السياسية الإدارية، فإذا انتهز علماؤنا وفضلاؤنا الأولى، ودولتنا الثانية، فُزْنَا إن

شاء الله تعالى بالعيشة الراضية، وإلا أضاعوا ما تنتظره الأمة من المجد في دنياها

وهم غافلون، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.

_________

(1)

(المزمل: 19) .

ص: 513

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

(6)

من هيلانة إلي أراسم في يناير سنة -185

قد تلقيت مكتوبك أيها الحبيب من يد البريد السري، فكان له عليّ أحسن أثر

وأنفعه، فإني كنت في حاجة عظمى إلى شيء يسليني ويسرّي عني بعض الألم،

فلشدّ ما قاسيته منه مدة شهر، قد ضعفت صحتي وانحطت قوتي، وللطبيب الذي

يداويني في غيبتك ويوجه إليّ كثيرًا من الأسئلة فكرة في سبب هذا المرض أراها

تَشِف عن جنونه فإنه يزعم أني

كلا، إنني لموقنة بخطئه في ذلك.

مهما كان الأمر أريد أن أراك، فإن هذا الفراق العاجل بعد الزواج الذي لم

يمض عليه أكثر من سنة خَطْب هائل لا يطاق، ولا يمكنني أن أعيش معه، وإني

مسافرة مساء هذه الليلة من باريس ومعي إجازة موقع عليها من ناظر الحقانية بالإذن

لي بزيارتك، فلا بد أن يُسمح لي بدخول السجن، ولا يمكن أن ما عقدته رابطة

الحب يحله استبداد المستبدين.

لا تخش من شيء في هذه المقابلة، فأنا لم أقصد بها الرغبة إليك في أن

تستَميح الحكومة عفوًا عنك، فإني وإن كنت أتألم لغيبتك كثيرًا إلا أني أحترم

وجدانك وهواجس نفسك، وإن لم أفهمها حق الفهم، اعلم أن فيّ ما في بقية النساء

من مواضع الضعف ومظان العجز إلا أني منزهة من دناءة الخدين وخيانتها

لصاحبها، فإن شرفك داخل فيما أحبه منك، وإنك على احتباسك عني وبعدك عن

ناظري بما فيك من عزة النفس والشهامة وإباء الضيم لأجَلُّ في نفسي منك وأنت

بين يدي أرى مبادئك ومعتقداتك التي جريت على سننها طول حياتك، إني لما

تزوجتك تزوجت شيئًا آخر معك ألا وهو ضميرك ووجدانك، فإن بقيت على ولائه

متبعًا ما يرشدك إليه أقسمت لك أني أكون في الإخلاص لك كما تكون في الإخلاص

له مدة حياتي، أودعك الآن لأراك قريبًا إن شاء الله، وأكاشفك محبة قلبي إياك

وامتلاءه بالإشفاق عليك.

(7)

من هيلانة إلي أراسم في 20 يناير سنة - 185

إني لم يتيسر لي أن أحدثك بشيء مما أردت محادثتك به عند اللقاء مع أن

حديثي ذو شجون، من أجل ذلك أردت أن أعتاض عما فاتني منه بالمكاتبة

فسطرت لك هذه الكلمات.

كان مجيئي إلى السجن بالأمس واستفتاحي بابه في الساعة الثانية بعد الظهر

وبعد أن تحادثت مع مديره برهة أقبل نحوي أحد خزنته يهدج في مشيته وأنا أسمع

خفق نعليه بشدة على البلاط، وأخذني إلى الغرفة التي كنت أنتظرك فيها، كان قلبي

قد وعدني قبل دخولي السجن ورؤيتي ما فيه أن يستجمع كل ما لديه من الجراءة

والثبات؛ ليدفع بذلك عني بوادر الجزع وخواطر الهلع، فلم يلبث بعد دخولي هذه

الغرفة أن نقض ميثاقه وحل وثاقه، وأعوزتني رباطة الجأش وثبات الجنان لما

رأيتني وحيدة لا أنيس لي، وجمد الدم في عروقي لما استولى عليّ من الدهشة

والوحشة مع انقطاع الصوت في قباب السجن إلا ما يكون من صرير الأبواب

وصلصلة أغلاقها من بعيد أثناء فتحها وإقفالها، فلما بدا محياك لناظري فقدت بقية

رشادي وغبت عن وجودي، فإن فرحي برؤيتك بعد احتجابك عني وحزني لوجودك

في مثل هذا المكان قد أثارا عليّ جميع ضروب الانفعال ففدحتني وصرعتني، ولم

تبق لي من القوة سوى ما أسكب به العبرات، وأردد الزفرات، فألقيت نفسي عليك،

وكنت كما تعلم بين يديك، إنني رأيتك وقت التلاقي شاحب اللون متمقعه، فهل

كنت مريضًا؟ وليس من العجيب أني نسيت أن أسألك عن ذلك، فإنني إذ ذاك كنت

فانية فيك، فما كنت أفتكر ولا أرى ولا أحس ولا أقول شيئًا.

أتعلم ماذا كان يقلقني من الأفكار فوق ذلك؟ إنه كان يخيل لي أن لتلك

الجدران - جدران السجن - المخيفة أبصارًا وأسماعًا وإدراكًا، وأنها تحس بي لو

صافحتك، وتراني لو أشرت إليك إشارة ما، وتسمعني لو أفضيت إليك بسر فتذيعه.

لما عاد إلينا خازن السجن ونَبَّهنا إلى أن وقت التلاقي الممنوح لنا قد انقضى

من بضع دقائق قفّ شعري واقشعرّ جسمي وطار لُبّي، ولو أقسمت له عن سلامة

صدر بأنه لم يمض على دخولي السجن شيء من الزمن وأن في الساعة خللاً أدّى إلى

هذا الخطأ - لما كنت في اعتقادي حانثة، ووددت لو بعت حياتي وجميع ما أملكه

من حطام الدنيا - وإن قلّ - بساعة أخرى أقضيها معك.

لم تكن لي مندوحة من فراقك على غصتي بمرارته، ففارقتك مملوءة الفؤاد

من الحزن، مستفرغة الدموع من العينين، معتقلة اللسان من الوجوم على شرفٍ من

فقد الإدراك والشعور، واجتزت مكان الأسلحة يتقدمني دليل يحمل مصباحًا، فإن

الليل كان قد جنَّ على ما ظهر لي، لم يكن ابتعادي عن حضرتك حائلاً بيني وبينك،

ولا شاغلاً قلبي عن الاستغراق في شهودك، كلا إنني كنت أخالني في كل خطوة

أخطوها أسمعك تناديني مسترجعًا إياي، ولقد التفتُّ مرة لأتبين هذا النداء الوهمي

فلم يقع نظري إلا على وجه من الحجر، ذلك هو أحد البابين العظيمين

الحافظين لمدخل القرية.

سار بي ذلك الدليل الخرّيت الواسع الخبرة بشاطئ المحيط ومواقعه على حافة

الساحل متجهًا نحو قرية

حيث يجب أن أقضي ليلتي هناك في ناموس [1]

الصيادين، هذا الطريق وعثٌ، وقد أمضني فيه الحزن والنصب حتى لقد حدثتني

نفسي غير مرة بأن أجلس فيه وأقضي ليلتي على تلك الرمال، وإني أستميحك العفو

عن ذلك، فإني كنت أعلل النفس بقولي: إنني بجلوسي هاهنا أنام بالقرب من سجنه

على الأقل، وإذا اغتالتني الأمواج فحسبي أنني قضيت نحبي وأنا على مقربة منه،

كنت في سبيل توطين نفسي على الصبر وتشجيعها على احتمال المكروه أردد

النظرإلى جهة

وكان الليل ساكنًا إلا أنه كان حالك الظلام مخيفه، فلا كوكب يبدو

فيه ولا قمر، وكان يزيد في كثافة حجب الظلام ذلك السحاب المركوم وما يجود به

من الرذاذ البارد، أما البحر فكنت أسمع له من بعيد زمجرة وهديرًا، وأرى فوقه

أبخرة سنجابية اللون قد تنوّرت - على ما وصفت لك من شدة الظلمة - ضوءًا

ضعيفًا كان يظهر بصيصه من نافذة في جهة الجبل، وتعذر عليّ أن أحكم إن كان

هذا الضوء المتذبذب منبعثًا من السجن أو من أحد مساكن القرية، وكنت مع هذا الشك

الذي كان يخامرني في مصدره أنظر إليه نظر المحب إلى أثر حبيبه، وكنت أفتكر أنه

إن انطفأ ينطفئ معه نبراس حياتي.

قد وصلنا بفضل همة الدليل وخبرته بعد الجد في السير إلى نقطة تقابل

فلم

يبق بيننا وبينها سوى جدول يُجتاز على المركب، جلست في المركب على مقعد من

الخشب أرشدني إليه الجدافون لما أضنتني الأفكار ونهكت قواي الخواطر، فكانت

هذه الراحة والسكون المستتب حولي سببًا في توجيه أفكاري إلى فكرة جديدة، فبينا

أنا أفكر فيما كنت أفضيت به إليك من حالة صحتي وما استنتجه العلم منها إذ شعرت

على الفور بحركة شيء حي تحت منطقتي - الله اكبر - إن الطبيب كان مصيبًا،

فسأكون عمّا قليل أمًّا، لا أحسبك نسيت أن أعظم أمنية كانت لنا في أيام الهناء

الماضية هي أن يرزقني الله ولدًا منك، وإنني لترتعد فرائصي عند التفكر في ذلك.

ومهما كان من الأمر فلا أُخفي عليك نتيجة شعوري بالحمل، وهي أني بعد أن

تكدرت برهة أحسست بأن شعاعًا من الفرح والعزة يضيء في جوانب ظلمات حزني

وأني في رجوعي من عندك لم أكن فريدة محرومة من الرفيق، وخِلتُ أني قد

وجدتك بعد فقدك، نعم أدركت مع الزهو والإعجاب أن ذلك الذي يجنه حشاي

وتنضم عليه جوانحي هو أنت أيها الحبيب، وهل هو إلا مثالك الحي وبضعة من

لحمك ودمك؟ ثم خُيل لي بعد ذلك بلحظة أن الأمواج المضطربة تُحَييني بلسانك

تحية الزوجة والأم، وقلت في نفسي: إنني الآن في وسعي أن أقتحم ظلمات الليل

والرمال الوعثة، ولا أبالي بالسجن ولا بأوامره الشديدة وحرَّاسه وسجانيه، وصحت

بأن هؤلاء ليس في قدرتهم أن يأخذوه مني، وأنه هو في الجملة أبوه، أو على الأقل

بضعة منه يمكنني أن أخفيها في مستقري فأجعلها حرة بعيدة عن عدوان المعتدين،

كما تخفي اللبؤة الجريحة شبلها في عرينها.

أقول هذا ولكنني أرى أمرًا يروعني ويبلبل فكري وهو طريقة تربية هذا الولد

فإني طالما سمعتك تتكلم فيما يجب على الوالدين لأولادهم بعبارات هي من سمو

البلاغة، وقوة التأتير بحيث إن قلبي كان يخفق لسماعها أملاً في أنه سيكون المقصود

بها، واليوم قد اقترب تحقق هذا الأمل، وأنا مِن تَحَقُّقِهِ في إشفاق ورعب.

مَن ذا الذي يقوم بتلك الفروض التي أنت تعلمها أكمل العلم، فقد كنت تقول

لي: لو رزقني الله ولدًا لوقفت حياتي على تعليمه وتربيته، وكنت تجاهر كل

المجاهرة بإنكار الطرق السائدة في تربية الناشئين واستهجانها شديد الاستهجان، كل

ذلك لا يزال منقوشًا في ذاكرتي، لكني بقدر ما كنت أعجب بأفكارك ومقاصدك

تعتريني الآن رعدة خوف أمام هذا التكليف الذي سيقع ثقله عليَّ وحدي، فقد فرَّق

بيننا قانون الإنسان بهوّة حفرها لتكون حاجزًا يحول بيني وبين الوصول إليك في

وقت أكون فيه أشدّ حاجة إلى الاسترشاد بنصائحك والاستضاءة بنور معارفك

والاعتماد على معونتك الأدبية، ليت شعري ما سيكون من أمر هذا الولد إذا كبر

وهو محروم من رعاية والده وعنايته؟ وما عسى أن أفعله له وأنا كالقصبة الضئيلة

قد رزحت بضعفي وضعضعني سقمي؟

قد وجدت قوبيدون الزنجي البارّ الذي أحضرته معك من أمريكا في انتظاري

هو وزوجته على الشاطئ الآخر للجدول، فلما رأياني أرادا تقبيل يدي رغمًا عني

قائلين: إن هاتين اليدين صافحتا يديك، وإن لك الفضل عليهما في الحصول على

حريتهما، ما وصلت إلى الشاطئ إلا وأنا في قفقفة من البرد قد وصل أثرها إلى

أعماق نفسي، وكانت ثيابي مبللة، فوجدتهما والحمد الله قد أعدا لي فراشًا في أحد

نواميس الصيادين التي على ضفة الجدول، وأذكيا لي بها نارًا من قضبان أشجار

يابسة، فأخذ البرد يزول عني تدريجًا بتوقد اللهب في المستوقد، وارتحت لما كان

يبديه لي كل من هذين الشخصين من إخلاصه في الحب والولاء، ما أشد عدوى بِر

الإنسان وأعظم أثر إحسانه، فإني قد نِمت هذه الليلة أحسن من نومي في سوابقها

بعد ذلك النهار- نهار التعب الجسماني والنفساني- الذي كدت فيه أن أسخط على

الحياة وأسأمها، وأنا أكتب إليك الآن في ناموس الصيادين بعد استيقاظي من النوم

صباحًا.

تجد مكتوبي كما اتفقنا بالأمس مخبأ فيما أرسله لك من الملابس التي توليتُ

طيها وإصلاحها بنفسي، ورق هذا المكتوب وإن كان رقيقًا إلا أنه متين، وقد

طويته طية جعلته فيها على شكل زر، فليت شِعري هل يتيسر لك قراءة خطي الذي

هو كأرجل الذباب؟ !

سأعود بعد غد إلي السجن، فقد وُعدت بأن يؤذن لي في الدخول من الساعة

الأولى مساء، وعسى أن أتجلد في هذه المرة فأستجمع شتات فكري، أُقَبِّلك الآن

قُبلة الوداع بكل ما في نفسي من قوة الشوق، والملتقى قريب إن شاء الله. اهـ

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الناموس لفظ مشترك بين جملة معانٍ منها منزل الصيادين.

ص: 516

الكاتب: محمد رشيد رضا

دروس جمعية شمس الإسلام

(5)

(أماليّ دينية - الدرس الخامس)

(17)

وجود الواجب: عرفتم من الدرس الماضي معنى الواجب والمستحيل

والممكن، وأن وجود هذا العالم ممكن، وأن الممكن يحتاج في نظر

العقل إلى مرجح يرجح وجوده على عدمه، لأنهما متساويان عنده، وترجيح أحد

المتساويين بلا مرجح محال، والآن نقول: إن المرجح لوجود هذا العالم الممكن

على عدمه لا بد أن يكون واجبًا، وبيانه أن ترجيح وجود الممكن عبارة عن إيجاده،

وموجد الشيء لابد أن يكون غيره، ولا موجود غير الممكن إلا الواجب، فتعين أن

يكون ما يستند إليه وجود الممكن واجبًا، أما كون موجد الشيء لا بد أن يكون غيره

فهو بديهيّ، لأنه لو أوجد نفسه لكان سابقًا عليها في الوجود إذ المؤثر سابق على

أثره طبعًا، فيقتضي أن يكون موجودًا قبل وجوده، أي موجود غير موجود في آنٍ

واحد وهو محال بالبداهة، فإن قيل: إنما يصح هذا بالنظر إلى طبيعة الممكن التي

تشمل جميع الممكنات، ولنا أن نقول: إن بعض هذه الممكنات أوجد البعض الآخر،

نقول في الجواب: إذا لم نقم لكم الدليل في جملة الممكنات فإننا نقيمه في أول

جزء وجد منها، فإنكم سلَّمتم أنه لا يكون إلا حادثًا وأنه يستحيل أن يحدث الشيء

نفسه، فتعين أن يكون الذي أحدثه هو الواجب؛ لأننا فرضنا أنه لا ممكن قبله فثبت

المطلوب.

(18)

ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الاعتقاد بوجود بارئ الكون فطري

في الإنسان، بل قال بعضهم: إنه فطري في الحيوان؛ لأنك إذا ضربت الهرة من

ورائها أو صِحت بأي حيوان، يلتفت لما؛ هو مركوز في فطرته من أن كل فعل

لا بد له من فاعل، وكل حادث لا بد له من محدث، وقد سُئل أعرابي عن الدليل على

وجود الله تعالى، فقال: البَعْرة تدل على البعير، وآثار الأقدام تدل على المسير،

فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فِجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على وجود

العليم الخبير؟ ! استدل أهل هذا المذهب بالاستقراء التاريخي، فإنه لم توجد أمة من

الأمم ولا شعب من الشعوب إلا وهو يعتقد بإله للكون وموجد للعالم، أجمع على

هذا الاعتقاد في الجملة المتمدنون والهمج، حتى زنوج إفريقيا وسكان جزائر المحيط

من أكلة لحوم البشر وغيرهم، ويدل عليه ما جاء في القرآن من محاجة الأنبياء

لأقوامهم، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ

وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ

وَقَالُوا إنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي

اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ

مُّسَمًّى قَالُوا إنْ أنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أن تَصُدُّونَا عَمَّا كَأنَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا

بِسُلْطَأنٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إن نَّحْنُ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ

مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَأنَ لَنَا أن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ

المُؤْمِنُونَ} (إبراهيم: 9-11) فجواب الأمم لأنبيائهم عن قولهم:] أَفِي اللَّهِ

شَكٌّ [بقولهم:] إنْ أنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا [يدل على أنهم لم يكونوا شاكين في وجود الله

تعالى، وإنما كان شكهم في النبوات لاستبعادهم أن يمتاز بشر مثلهم بالسفارة بين الله

تعالى وبين خلقه، وقد أجابهم الأنبياء بما سمعتم في الآية، وسيأتي توضيحه

في محله إن شاء الله تعالى، حقًّا إن أهم مسائل علم العقائد مسألة الوساطة بين الله

تعالى وبين الناس، فقَصْرُهذه الوساطة على التبليغ فقط يشمل أمرين (أحدهما)

التوحيد الذي يصطلم جراثيم الوثنية التي أهلكت جميع الأمم (وثانيهما) النبوة التي

أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، أما وجود الله وعلمه وقدرته فلا يشك فيها

عاقل.

يقول قائل: إن من الناس مَن أنكر وجود صانع للكون، فكيف يكون الاعتقاد

به فطريًّا؟ والجواب: إن هؤلاء شرذمة قليلة كما قال بعض علمائنا، وأظنه السعد

التفتازاني وعبارته التي أذكرها هي: (اتفق الناس على وجود الصانع تعالى خلا

شرذمة قليلة ذهبت إلى أن وجود العالم أمر اتفاقي، وهو بديهي البطلان) وقد رد

عليهم العلماء بالأدلة النظرية كالدليل الذي تشير إليه العبارة من أن هذا الاعتقاد

يستلزم أن يكون العالم وجد بالمصادفة والاتفاق من غير فاعل يرجح وجوده على

عدمه، وهذا كما قال بديهي البطلان وملزومه كذلك بالضرورة، وإنما قلت: يستلزم

ما ذكر لأن منكري الصانع من المشتغلين بالعلوم العقلية لا يقولون بالمصادفة بل

ينكرونها أشد الإنكار، ولئن قال بها بعضهم فلا يقول بها كلهم، والجواب الصحيح

إن هؤلاء الشذّاذ قد أصابهم مرض في عقولهم خرج بهم عن مزاج الفطرة المعتدل

بالنسبة لهذه العقيدة، والعقول تمرض كما تمرض الأجسام فلا تؤدي وظائفها على

الوجه الذي تقتضيه الفطرة المعتدلة، ألا ترى أن الصفراوي يذوق العسل مُرًّا،

والأحْوَل يرى الواحد اثنين، هذا ما أجاب به أستاذنا الأكبر مفتي الديار المصرية

لهذا العهد، وهو جواب لا أحسن منه، ولا يصدنكم عن قبوله أن ممن ينكر الباري

بعض الفلاسفة وهم من أكبر الناس عقولاً، لأنه كما يطرأ الضعف على الجسم

القوي فيعطِّل بعض أعضائه عن وظائفها ويبقى سائر الجسم قويًّا كذلك يفعل بالعقل،

فقد ثبت في العلم الحديث أن لكل نوع من أنواع الإدراك مركزًا مخصوصًا في

الدماغ، وأن المرض قد يطرأ على بعض هذه المراكز دون بعض، وقد اهتدوا

بمعرفة هذا إلى معالجته بالطرق الجراحية، من ذلك أن بعض الناس نسي بعض

الأرقام الحسابية لجلطة دموية أصابت المركز الذي يدركها من الدماغ، فصار لا

يقدر على حل مسألة حسابية فيها ما نسي من الأرقام حتى عولج معالجة جراحية

وشفي، وثبت أيضًا أن من الناس من تختل بعض مراكز الإدراك في دماغه بحيث

يكون مجنونًا، ويقوى مع ذلك بعضها بحيث يفوق في إدراكه به أعقل العقلاء، كان

بعض المجانين يُسأل عن أعوص مسائل الحساب والجبر، فيجيب عنها بالبداهة،

ولو سئل عنها أمهر الرياضيين لاحتاج في حلها إلى ساعات، وحاصل القول إذا لم

يثبت أن الاعتقاد بوجود صانع الكون مودع في غرائز البشر وفطرهم، فإن

البراهين النظرية على ذلك كثيرة، ومنها ما أوردناه في صدر الدرس: {إنَّ فِي

خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (آل عمرأن: 190){وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 20-21) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 522

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(تابع المعارف)

تقبل التلامذة في المدارس الرشدية في العاشرة أو الثانية عشرة من عمرهم

ويمكثون فيها أربع سنين، ومواد التعليم في هذه المدارس هي: النحو والصرف

للغات التركية والعربية والفارسية، والإملاء والتأليف والتحرير، وتاريخ الدولة

العثمانية، والتاريخ العام، والجغرافية، والحساب، ومبادئ الهندسة، والرسم

الخطي، ولغة إحدى الطوائف غير الإسلامية المقيمة بالجهة التي بها المدرسة (لا

نعرف فيها غير الفرنساوية، وفَاتَه ذِكر مبادئ الدين الإسلامي) .

أما تعليم البنات فيشمل المبادئ الدينية، ونحو اللغة التركية، ومبادئ النحو

للغة العربية والفارسية، وبعض إشارات إلى فن الإنشاء، والتاريخ والجغرافية،

والحساب، والتدبير المنزلي، وشغل الإبرة والرسم والموسيقى، وهذا الدرس

الأخير بالاختيار.

كل قرية فيها خمسمائة بيت للمسلمين يجب أن يكون فيها مدرسة رشدية،

والتعليم الابتدائي العالي هو أيضا مجاني، إلا أنه ليس إجباريًّا، فجميع النفقات

اللازمة لحفظ المدارس وأجور المعلمين، وأثمان الكتب وأدوات التعليم اللازمة

للتلامذة تدفعها خزينة الدولة.

يتضح من الإحصاء الأخير الذي نُشر من بضع سنين أن المدارس الابتدائية في

العاصمة كانت كما ترى:

مدارس الصبيان263 منها 142 للذكور، و123 للإناث يتعلم فيها 6909 من

الصبيان، و 4734 من البنات.

مدارس ابتدائية 40 منها 32 للصبيان، و8 للبنات، وفيها 601 من الصبيان، و 93 من البنات.

مدارس رشدية 29 منها 19 للصبيان، و 10 للبنات، وفيها 1180 صبيًّا،

و353 بنتًا.

أما في الأقاليم، فكل قرية مهما كانت صغيرة لها مدرسة للصبيان، والقرى

التي لها نوع من الأهمية لها مدرسة ابتدائية (هذا غير صحيح فأكثر القرى لا

مدارس للحكومة فيها إلا أن يكون هذا مخصوصًا بنواحي الأستانة) يكثر توارد

التلامذة على المدارس الابتدائية في كل سنة، ويمكن للإنسان أن يقول غير مبالغ:

إنه في حكم جلالة السلطان الحالي كل مائة تلميذ فيها 98 على الأقل يتربون تربية

ابتدائية جيدة (مبالغة) وعدد المدارس الرشدية في الأقاليم 371 مدرسة، ثلاث

منها للبنات - اثنتان منها في بيروت والثالثة في بروسه وعدد التلامذة في تلك

المدارس 14914، وقد زاد الآن عددهم زيادة محسوسة.

(التعليم الثانوي) يشمل هذا التعليم نوعين من المدارس، وهما المدارس

الإعدادية أو التجهيزية والمدارس السلطانية أو الكليات، أما المدارس الإعدادية فهي

مختلطة إذ يقبل فيها التلامذة المسلمون وغير المسلمين الذين تلقوا جميع دروس

المدارس الرشدية ونجحوا في الامتحان، وكل مدينة فيها 1000 بيت لها مدرسة

إعدادية ومدة التعليم في هذه المدارس ثلاث سنوات، ومواده هي فن الإنشاء في

اللغة التركية، وصناعة الترسل، واللغة الفرنساوية، وعلم البيان، ومبادئ علم

الاقتصاد السياسي، والجغرافية والتاريخ العام، والحساب والجبر، والهندسة

والمساحة، والطبيعة والكيمياء، والتاريخ الطبيعي والرسم، والكليات يجب أن

تؤسس في عاصمة كل ولاية أو في أَشْهَر بلد فيها، وتنقسم الكلية إلى قسمين:

أحدهما لتعليم نحو اللغة وفيه ما في المدارس الإعدادية من الدروس، والثاني ما هو

أعلى منه ينقسم إلى قسمين: قسم لآداب اللغة، وقسم للعلوم، ومدة التعليم في كل

من هذه الأقسام ثلاث سنين، وهذه الكليات التي ستفتح على التوالي متى ضمنت

الميزانية النفقة اللازمة لفتحها وبقائها ستكون على مثال كلية سراي غلطة أي

المكتب السلطاني في بيرا الذي أسس على نسق الكليات الكبرى للتعليم الثانوي في

فرنسا، وهيئة المعلمين في هذه الكليات مؤلفة من الأوروبيين والوطنيين، والتعليم

يعطى فيها باللغة الفرنساوية إلا أن تدبير أمور هذه الكليات وإدارتها للحكومة

العثمانية، ومدة التعليم فيها خمس سنين غير السنين الثلاث اللازمة للدراسة في

المدارس التجهيزية على التلامذة الذين عند قبولهم في الكلية لا يكون لديهم معلومات

كافية من مواد التعليم الابتدائي.

مواد التعليم في الكليات تشتمل طبقًا لما قررته أخيرًا حكومة جلالة السلطان

هذه الدروس، وهي اللغات التركية والعربية والفرنساوية، والخط التركي

والفرنساوي، وآداب اللغتين التركية والفرنساوية، والترجمة من التركية إلى

الفرنساوية وبالعكس، والفلسفة وتاريخ الدولة العثمانية، ومبادئ اللغة اللاتينية

اللازمة لدراسة فن الصيدلية، والطب والقانون، والجغرافية بأقسامها السياسية

والإدارية والتجارية والزراعية والصناعية للحكومات الشهيرة، وخصوصًا للمملكة

العثمانية، والحساب، والتقييد في الدفاتر، والرسم الخطي، واللغات اليونانية

والأرمنية، والألمانية والإنكليزية، والتليانية، وتعلم هذه اللغات اختياري.

تعطي كلية سراي غلطة لمتخرجيها شهادة بكالوريا تساوي الشهادة البكالوريا

التي تؤخذ من فرنسا.

من المدارس المعدودة من طبقة مدارس التعليم الثانوي هذه المدارس وهي:

أولاً: المكتب الملكي الشاهاني في استامبول الذي أسس على نفقة جلالة

السلطان خاصة، ووضع تحت رعايته وهو الذي ينفق عليه من ماله، وفيه يعلم

الشرع الشريف والإفتاء، وقانون التجارة والقانون المدني، والتاريخ العام وعلم

الاقتصاد السياسي، وعلم طبع الكتب والجرائد والتقييد في الدفاتر والجغرافيا

والفرنساوي، والتاريخ الطبيعي والكيمياء والتلامذة الذين ينجحون في الامتحانات

النهائية ويمنحون الشهادة يكون لهم الحق في نوال وظيفة قائمقام في الإدارة بالأقاليم،

أو نوال وظيفة مساوية لها في الجهات المختلفة للحكومة.

ثانيًا: المدرسة المختلطة العثمانية للبنات الصغيرة، وهي مؤسسة في سنة

1880م في استامبول بعناية جلالة السلطان عبد الحميد الذي دائمًا يظهر اهتمامه

الأكبر بتربية البنات، ومواد التعليم في هذه المدرسة هي اللغات التركية والأرمنية

واليونانية والفرنساوية والألمانية والإنكليزية والروسية وتعلم الأربعة الأخيرة منها

بالاختيار، والجغرافية والتاريخ الطبيعي والبيانو والموسيقى الصوتية وشغل الإبرة.

بمقتضى القانون النظامي للمعارف الصادر في سنة 1884م يوجد في كل

ولاية مكتب إدارة وتفتيش للمعارف.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 525

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أهم أخبار الحرب

حصلت ملحمة في جلانكوي كان الغلب فيها للبويرس، وقدرت خسائر

الإنكليز بثلاثمائة رجل، منها 10 ضباط قتلوا، وجرح 22 ضابطًا وجرح الجنرال

السر وليم سيمونس القائد ثم مات، وقدرت خسائر البويرس بعشرة قتلى و 25

جريحًا، وقررت حكومتا الترانسقال وأورانج إلحاق بلاد بشوانالاند بجمهورية

الترانسفال، وإلحاق جميع الأراضي التي في شمال نهر الأورانج بحكومة الأُورانج،

وهذه البلاد كلها إنكليزية، وحصلت مناوشات بالقرب من لاديسميث وغيرها تشبه

أن تكون سجالاً، ولكن النصر في الجملة للبويرس، ودخل فيلق من البويرس إلى

بلاد الزولو البريطانية حتى قربوا من مدينة ملموث، وزحف جيش منهم لتشديد

الحصار على كمبرلي وأشيع أمس أنهم أخذوا مافكنج المحصورة، أما الإنكليز

فيوالون الإمداد من كل بلادهم وقد أمر أسطول بحر المانش أن يذهب إلى جنوب

أفريقيا ويظن أن سبب الاستعدادات البحرية الخوف من تداخل الدول الأوروبية.

ونقول: إن أعظم ما تخسره إنكلترا في هذه الحرب وراء الخسارة الأدبية فقد

العدد العظيم من الضباط.

_________

ص: 528

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌شكر

يشكر حضرة مدير جريدتنا لأفاضل المحبين عنايتهم بتعزيته على فقد والدته

قولاً وكتابة، ويسأل الله أن يقيهم فاجعات المصائب، ويحفظهم من النوائب.

_________

ص: 528

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الفرصتان

مِن المُجْمَع عليه أن المسلمين في هذه الأزمنة متأخرون عن جميع الأمم في

حياتهم الاجتماعية، فما من ملة من الملل إلا وقد سبقتهم إما في بسطة المال وسعة

الرزق وخفض العيش فقط كاليهود، وإما في هذا وفي العزة والسيادة وقوة السلطان

وسطوة الملك أيضًا.

ومن المجمع عليه أن الأمة في أشد الحاجة إلى إصلاح يحفظ لها ما بقي لها

من تراث أسلافها، ويؤهلها لاسترداد ما سلب منه، ولا ريب في أن هذا الإصلاح إذا

قامت به الحكومات والأمة معًا يكون أقرب حصولاً وأتم فائدة وأدنى لإزالة المرض

وإصابة الغرض، وأنه لولا قدرة الحكومات على حمل الأمة على ما تريد منها

طوعًا أو كرهًا لما كان يتأتى الإصلاح من قبلها، ولولا أن صلاح الأمة يستلزم

صلاح الحكومة لما كان إصلاحها كافيًا لبلوغ الغاية التي تقصد منه، أما وجه اللزوم

فظاهر، وهو أن الحكام أفراد من الأمة تختارهم هي لإدارة نظامها وتنفيذ أحكام

شريعتها، والصالح لا يختار إلا مثله: {الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ

وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (النور: 26) ولكن الإصلاح إذا بَدأ في

الأمة دون الحكومة فإنما يتعدى أثره للحكومة بعد زمن طويل، وإذا بدأ

في الحكومة أولاً يظهر أمره في الأمة في وقت قريب لما مررت به من التعليل،

فوجب على المطالبين بالإصلاح أن يستصرخوا الحكومة والأمة معًا عسى أن تلبي

الدعوة إحداهما أو كلتاهما، ولكن كثيرًا من المتنبهين لوجوب الإصلاح يائسون منه

لما يرونه من تقدم أوربا السريع وتأخر شرقنا المريع بل موته الذريع، وأعني

بموته قيام الغربيين بأعماله، واستئثارهم بأمواله، وذهابهم باستقلاله، وما كان

لمؤمن أن ييأس {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَاّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف:

87) فكم سنحت الفرص وما انتهزناها، وكم نادتنا النهز وما لبيناها، وقد قلنا في

(المنار) الماضي: إن أمامنا الآن فرصتين للإصلاح: إحداهما في مصر وهي

العلمية الدينية، والثانية في بلاد الدولة العلية وهي السياسية الإدارية، وإننا مبينون

هاتين الفرصتين في هذه المقالة بعض البيان.

أما التي في مصر فحرية التعليم والتصنيف والتحرير والطبع والنشر والخطابة

وتأليف الجمعيات بأنواعها، وهذه هي سلاليم الترقي التي ترتقي فيها الأمم، ولا

يوجد تحت السماء بلاد إسلامية متمتعة بتمام الحرية فيها كالبلاد المصرية، والسبب

في هذا ظاهر، فإن فقد الحرية في مثل هذه الأمور النافعة إنما يكون من فساد

الأحكام واستبداد الحكام، وزمام السلطة في هذه البلاد بأيدي المحتلين، وقد اقتضت

سياستهم أن لا يتعرضوا لهذه الأمور إما لأنهم لا يشاءون التعرض لها كرمًا منهم

وفضلاً على خلاف ما يفعلون هم وسائر الأوربيين في كل بلاد تنفذ فيها شوكتهم

وتعلو كلمتهم، وإما لأن حكمة التدريج الذي يسيرون فيه اقتضت أن يبدءوا بالأعمال

المالية والإدارية والسياسية ويكتفوا من الأمور المعنوية بإدارة المدارس الأميرية

على محور سياستهم، وإما لأسباب أخرى، ومهما كان من السبب فإن هذه الحرية

فرصة تغتنم، فإذا فرَّطنا فيها ندمنا حيث لا ينفعنا الندم، إذ ربما تأتي أيام نحاسب فيها على خطرات القلوب وهواجس النفوس، ونجبر على التعليم الذي يراد ونمنع من التعليم الذي نريد.

وأما انتهاز هذه الفرصة فبإصلاح التعليم في الأزهر الشريف، وبالاجتهاد

بتعميم المدارس الأهلية على الوجه المرضي، ولا مجال هنا لبيان الإصلاح

الأزهري، فإن لجنة من أكابر علمائه تبحث في هذه الأيام بطرق هذا الإصلاح

فنرجئ الكلام فيه إلى أن تفرغ من بحثها ونعلم ما تقرره، فإما ثناءً وتحبيذًا، وإما

انتقادًا وتفنيدًا، وأظهر الدلائل على فساد طريقة التعليم المتبعة فيه من قبل أن

الكثيرين أو الأكثرين من الذين يمتحنون للتدريس يجرحون فلا يمنحون درجة من

درجات التدريس على ما في الامتحان من السهولة، وما منهم إلا من يقضي خمس

عشرة سنة في التعليم على الأقل، على أن الذين يمنحون شهادة العالمية ويؤذن لهم

بالتدريس لا يوجد واحد في المائة منهم يحسن لغة الدين قولاً وكتابة بحيث يقدر على

الكلام والخطابة باللغة العربية الصحيحة، ويكتب بالأسلوب العربي البليغ، ولا

يعقل أن أحدًا يفهم القرآن والحديث الذين هما ينبوعا الدين من غير أن تكون ملكة

اللغة راسخة في نفسه، ولذلك ما ورد أحد من علماء المسلمين وغيرهم إلى هذه

الديار واختبر تعليم الأزهر إلا وذمه، وقال: إنه لا يرجى منه خير للمسلمين،

فالأستاذ الشنقيطي من علماء المغرب، والأستاذ الشيخ شبل النعماني مدرس العلوم

العربية في كلية عليكرة في الهند، والأستاذ الشيخ أحمد جان القازاني مدرس العلوم

العربية في مدرسة عالمجان في بلاد قزان الروسية - اتفقت كلمتهم مع اختلاف

أقطارهم على أن التعليم الأزهري لا يرجى منه خير للمسلمين إذا بقي على حاله، وأمثالهم كثير ولا حاجة للاستشهاد بكلام الإفرنج؛ لأن قومنا لا يقيمون لكلامهم

وزنًا ويرجمون من يعبأ بكلامهم بأسوأ الظنون، ولا ننكر أن تعليم الأزهر - على

عِلاته - وُجُوده خيرٌ من عَدَمِه بالكلية، كيف وقد حفظ لنا بعض علومنا وآثار سلفِنا

حفظًا يُحمد عليه، وإن كان ناقصًا لا يبعث على العمل الذي تحيا به الأمة، ولا يُرجى أن تفيض الحياة الملية على الأمة إلا إذا صار المتخرجون منه متقنين

لوظيفتهم التي أنشئ الأزهر ووقفت عليه الأوقاف لأجلها، وهي حفظ الدين

ولغته بحيث يقدرون على القيام بمنصب القضاء الشرعي على الوجه الصحيح العادل الذي لا يثلم به شرف الملة والأمة، وعلى إرشاد الخاصة والعامة والتعليم في

المدارس النظامية ليبثوا الدين في جميع طبقات الأمة ويخاطبوا كل إنسان على قدر

عقله وعلمه، ويدفعون عنه الشبهات العصرية، ولن يقدروا على شيء من هذا

إلا بتغيير أساليب التعليم، وبالاطلاع على أحوال العصر وفنونه المتداولة ولو في

الجملة، وسنفصل ذلك في وقته إن شاء الله تعالى.

وأما فرصة الدولة العلية فهي اشتغال روسيا فإنكلترا وسائر دول أوربا الكبرى

عنها بالمسألة الصينية، وإنما الخطر على الدولة من روسيا التي يعرف الناس أن

سياستها التقليدية تقتضي محو اسمها من لوح الدول وضمها إلى الإمبراطورية

الروسية العظمى، أو من اتفاق أوربا على تقسيمها، يدل على شغل روسيا عنها

بالطمع في الصين الفيحاء البعيدة الأرجاء، أن هذه الدولة قد عزمت على تعزيز الخط الحديدي العظيم الذي أنشأته في سبيريا (وطوله 4695 ميلاً) بخط آخر

ينشط من الطريق الأعظم في بلاد منشوريا التي هي في الشمال الشرقي للصين ممتدًا

إلى ميناء (آرثر وينوشوتفم) ويقرب أن تُمدد من هذه إلى بكين عاصمة الصين،

ويقدر المال اللازم لهذا الناشط بعشرين مليون جنيه، كما قدر المال اللازم

لطريق سبيريا الأعظم بستة وخمسين مليون جنيه إذا مدّ عليه خط واحد، وأنها

قررت إنفاق 9 ملايين جنيه لتعزيز أسطولها بالبوارج من الطراز الجديد، فخمسة وثمانون مليونًا من الجنيهات من دولة لا تعد من الدول الغنية ليس إلا لتلك الغنيمة

الكبرى التي تتوقعها في الصين، ويؤكد ذلك تقوية الأسطول مع أمنها على ثغورها في أوربا من الدول البحرية وعلمها بأن اليابان لا تقدم على محاربتها فتخاف منها

على فلاديفوستوك وميناء آرثر، ولا يخشى على هاتين الحاضرتين من غير

اليابان، هذا، ولا بد لإنكلترا وفرنسا وألمانيا من مزاحمة روسيا، ولا بد أن يمتد

اشتغالهن بتلك المملكة إلى سنين كثيرة، فيجب على الدولة العليا أن تشتغل

بنفسها ما دام الطامعون في شغل عنها، فقد مضى عليها نحو نصف قرن وهي

مشغولة بالسياسة الخارجية عن الإصلاح الداخلي والدول الأوربية تطالبها

بالإصلاح، وهي التي تحول بينها وبينه، وقد بَيَّنا رأينا في الإصلاح والواجب من

قبل في مقالات نشرت في (المنار) وأخرى في (المؤيد) وأهمها تعميم التعليم

العسكري وتقوية الأسطول، ومساعدة الرعية على تعميم المعارف، وانتقاء العمّال

والحكام من الأكفاء، والدولة العلية وسلطانها الأعظم - أيده الله تعالى - أعلم منا بما

ينبغي ويجب من ذلك.

وقد وجه مولانا الخليفة أنظاره في هذه الأيام إلى هذا الأمر المهم؛

فتعلقت إرادته السنية بزيادة الجيش لا سيما الألايات الحميدية، وأمر من عهد قريب

بإنشاء بارجتين جديدتين ويخت سلطاني، وبإصلاح بعض السفن القديمة، كما أمر

بإنشاء المكاتب والمدارس في بلاد اليمن وغيرها من الولايات المحروسة، ونسأل الله

تعالى أن يلهم قلبه الشريف أن يصدر إرادته لجميع الولاة بترغيب الرعية في

تأليف الشركات المالية وإنشاء المدارس الوطنية، ولجميع الفيالق العسكرية بتعميم

التعليم العسكري، وبالله التوفيق.

_________

ص: 529

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

(8)

من أراسم إلى هيلانة في 16 يناير سنة - 185

أكتب إليك هذا وقد استيقظت في الساعة السادسة من صباح اليوم،

وعلمت أن عشرين مسجونًا - أنا منهم - قد فصلوا لإرسالهم إلى سجن

وبلغني

أن أمر نقلنا وصل إلى هنا ليلاً من باريس، فلم يكن لي من وسيلة لإحاطتك علمًا

بهذا الخبر قبل الآن، ولم يبق لي أمل في لقائك؛ فإن السفر سيكون في الساعة

السابعة صباحًا، سيصلك هذا المكتوب وأنا في طريقي إلى الجزيرة التي جعلت مقرًّا

لي، فأودعك وداع محب ثابت على عهده لا يثنيه عن حبك اعتراض الحوائل، ولا

يلويه عن ذكراك تطويح المطاوح.

غرام على يأس الهوى ورجائه

وشوقي على بعد المزار وقربه

(9)

من هيلانة إلى أراسم في 17 يناير سنة - 185

جئت اليوم إلى السجن لزيارتك، فمثل لنفسك ما عراني من هزة

الطرب ونشوة الفرح لمّا علمتُ بأنك أخرجت منه، ما كان أبعدني عن العقل

وأقربني من الجنون في تلك الساعة إذ ظننت أنك فزت برجوع نعمة الحرية إليك،

لكن لم يلبث كاتب سر السجن أن أبان لي خطأي إذ أخبرني بأنك قد وجَّهت (هكذا

عبارته) إلى جزيرة

وإني سأتبعك قاطعة أجواز البحار، مقتحمة في سبيل

القرب منك جميع الأخطار، فأينما تكن - وإن في آخر الدنيا - لا بد لي من اللحاق

بك، لا يعوقني عنك هجير الشمس المحرقة، ولا أخطار مجاهيل الصحاري والقفار،

ولا اعتراض سلاسل الجبال الشامخة دونك؛ لأن غايتي التي أسعى إليها هي أن

نعيش مجتمعين، فأكتب لي حتى آتيك لأمتع النفس بلقائك. اهـ

(10)

من أراسم إلى هيلانة في 2فبراير سنة-185

أنا واثق أيتها العزيزة بحبك إياي، وأقسم عليك بأطهر ما يوجد في

هذا العالم وأجدره بالتقديس أن لا تقاربيني، وأن تهربي مني هربًا، إنني منذ شهر

أو شهرين كنت أقبل منك هذا الإخلاص الشريف طيبة به نفسي، منشرحًا له صدري

حيث لم أكن عالمًا بحملك، وكنت أجد فيك وحدك حينًا بعد حين تفريجًا لكربتي في

وحدتي، وإيناسًا من وحشتي، وكنت لاعتزازي بوجودك معي، واغتباطي لقربك

مني ولو ساعة من نهار، أنسى كل ما أقاسيه في لحظة من ألحاظك، أما اليوم فقد

تغيرت الأحوال، وتبدلت الشؤون تبدلاً عظيمًا، فأصبحنا أنا وأنت لا نملك من

أمرنا شيئًا حتى حرية التَّحابِّ والتَّواد، أصبح ما هو في العادة سبب اتصال

واقتراب بين الرجل والمرأة سببًا لانفصالنا، وحائلاً دون اجتماعِنا، وذلك للحال

السيئ الذي نحن فيه، ألا يجب أن نهيئ هذه المجاملات وتلك الآداب لذلك الذي لم

يوجد بعد الوجود الكامل الذي يطلق عليه هذا اللفظ إلا أنه قد وجبت له علينا حقوق

نحن مطالبون بأدائها، إياك أن تنسي أنك مسئولة أمام الله عمّا وهب لك من حلية

الشرف بأن أهَّلك بأن تكوني أمًّا.

إني أخاطبك من حيث أنا طبيب وزوج - وأخشى أن أتعجل فأقول: أب-

بأن الذي يلزمك الآن هو شيء من السكينة والاستقرار، وأنصح إليك بأن تغادري

بلادنا الآن، وتهاجري من هذه الأرض التي تميد بزلازل الفتن، فهي نصيحتي

واتبعيها، واعلمي أن لي صديقًا في إنكلترا من رصفائي الأطباء يناجيني، حسن

اعتقادي فيه أنه سينفعك ويرشدك إلى كل ما يلزمك علمه مما يتيسر لك به تَوطُّن

تلك البلاد على حالة موافقة، إن لنا والحمد لله فيما جمعته بكدي من يسير المال

سدادًا من عوز - بل كفافًا من العيش - فاستجمعي به أولاً لنفسك الراحة ومعدات

المعيشة الطيبة، ثم احفظي ما بقي لتربية ولدنا. آه لو أدري عاجلاً أنك قد فارقت

فرنسا، وابتعدت عن مشاغب الشقاق الداخلي، فعجِّلي بالرحيل أيتها الحبيبة.

أقول - والله على ما أقول شهيد -: إنك لم تكوني في زمن من الأزمان

أعزّ على نفسي وأغلى قيمة عندي منك في هذه الساعة التي أرغب إليك فيها بعدم

اللحاق بي في سفري المحزن، لا تكثري همك بما قُدِّر عليّ واعلمي أن جل ما

يعانيه المسجون من الشقاء هو إحساسه بأن لا نفع في وجوده، وقد ذقت أنا هذا الألم

النفسي، وبلوت مرارته، لكني اليوم قد كلفت بواجب جديد يلزمني أداؤه، وإني

لأرجو أن أقوم به مهما حالت دونه الحوائل.

***

(حاشية)

إني مرسل طي هذا مكتوبًا للدكتور وارنجتون في لندره.

(11)

من هيلانة إلى أراسم في 15 فبراير سنة - 185

قد أطعتُ أمرَك وسمعتُ نصحك، وسأسافر غدًا إلى إنكلترا، وإني

قد استرجعت جزءًا من ثبات جناني، وقد فتح مكتوبك لي أبوابًا أرى منها مشاهد

جديدة لتفن صفة الزوجية في صفة الأمومة، فتلك سنة الله في خلقه لا محيص لي

من اتِّبَاعها، على أن هذا الولد الذي وعدت به سيكون الرابطة بيننا ويقرب مشقة

البين التي تفصلنا بعض التقريب، إني أرغب في الحياة من أجله ومن أجلك،

فإنه سيكون يومًا يَمُنُّ الله علينا بانتظام الشمل موضوع سلوة لأحزاننا، وقرَّة

لأعيننا وعزة لأنفسنا.

حقق الله ما نرجوه من الأمل، ووقانا بفضله عوادي السوء إنه سميع

الدعاء. اهـ.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 534

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقاريظ

(الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية)

ذكرنا هذا الكتاب في فاتحة العدد الخامس عشر من منارهذه السنة، ونشرنا

الدرس السابع منه ليكون نموذجًا للقرَّاء، ولم يكن قد تم تأليفه يومئذ، وقد تم الآن

وطبع في جزء صغير الحجم كبير الفائدة ولم ينسَ قرّاء (المنار) أن مصنفه هو

صديقنا الكاتب الفاضل والسري الكامل رفيق بك العظم الشهير، والذي بعث

همته لوضعه هو الغيرة علي الناشئة الإسلامية المنكبة علي تحصيل العلوم

والفنون في المدارس النظامية حيث ألفاها محرومة من تعليم آداب الدين ومبادئ

علم الاجتماع، وقد كان يكتب هذه الدروس ويلقيها على الفرقتين الثالثة والرابعة من

تلاميذ المدرسة العثمانية الأهلية أيام كان ناظرها، وقد جعلها ثلاثة أقسام: مبادئ

وروابط ومقومات، فالقسم الأول أربعة دروس:(1) في ضعف الإنسان و (2)

عقله و (3) مدنيته و (4) كماله، وتكلم في القسم الثاني عن حاجة البشر إلي

الدين ووجوب معرفته وضرورة الحكومة للاجتماع و (الحكومات والإسلام) والعدل

في الإسلام، والمرتبة الأولي من مراتب العدل وهي العدالة في الأحكام، وقد جعل

العدل ثلاث مراتب بتقسيم انفرد به غير التقسيم المعروف، وذكر في القسم الثالث

المرتبة الثانية منها وهي عبارة عن المساواة بين الناس في أنفسهم مهما اختلفت

أنسابهم، وذكر الحرية والمقابلة بين الحرية الغربية والحرية الإسلامية، ثم

المرتبة الثالثة من مراتب العدل وهي ما يكون في المعاملة بين الناس، ثم المداهنة،

فالخيانة والتغرير، فالثبات والصبر، فالاعتماد بعد الله على النفس، فالعلم والتعليم،

فالعلم بالعمل، فالتربية والأخلاق، فبيان مخصوص في الأخلاق، فحب الوطن،

فحب الناس، وجعل آخر الدروس (خاتمة فيها تذكير) وقد سردنا جميع عناوينها

فهي 27 درسًا، وكل درس مفتتح بآية قرآنية، وهذه العناوين تدلك على أن هذا

الكتاب يفتح لعقول التلامذة أبوابًا من الفكر النافع، ويحلي نفوسهم بالأدب الصحيح،

ومن ثم قررت الجمعية الخيرية الإسلامية في مصر تدريس هذا الكتاب في

مدارسها، فحبذا لو اقتدت بها سائر المدارس الأهلية، ولا يصدنهم عن هذا ما

يتراءى من أن بعض مواضيعها تعلو على أذهان التلامذة، فإن المؤلف لم يذهب فيها

مذاهب بعيدة عن أفهامهم، كيف وقد وضعها لهم، وتحرى فيها غاية الاختصار مع

السهولة في البيان لكي تحيط بها تلك الأذهان؟ ! وقد قرأت عدة دروس منها، فلم

أجد فيها شيئًا من التعاليم الفاسدة الضارة التي قلما يخلو منها كتاب من كتبنا في

الأخلاق والآداب، فالكتاب سالم من الانتقاد من حيث كونه كتابًا مدرسيًّا، ولكنه لا

يخلو من النظر في بعض الألفاظ أو المعاني كالتقسيم والتعريف، فقد عرَّف العلم

بأنه العقل الغريزي إذا ترقى إلى متناول المعرفة بحقائق المحسوسات، وعرَّف

الفضائل بقوله: (هي الأعمال النفسية والبدنية التي روعي فيها جانب العدل)

والخطب في هذا سهل.

(المبادئ الأولية في الدروس الجغرافية)

كتاب يحتوي على ما هو مقرر من هذا الفن لتلامذة السنة الثانية والثالثة من

مدارس الابتدائية بحسب ترتيب نظارة المعارف، ألَّفه أخونا في الله سيد أفندي

محمد مدرس الجغرافية والتاريخ واللغة الفرنساوية في المدارسة التحضيرية، وقد

أهداه إلينا من نحو ثلاثة أشهر، وأخرْنا تقريظه رجاء أن تسمح لنا الفرص بقراءته

لانتقاده حيث عهد إلينا من حضرة المؤلف بهذا، ولما لم تسمح لنا إلى الآن كتبنا

هذه الكلمات مكتفين من الدلالة على فائدة الكتاب بما هو معروف من فضل مؤلفه

وبراعته في التعليم. وعسى أن يُقبل التلامذة من سائر المدارس على اقتناء هذا

الكتاب ومطالعته؛ فيحملوا بذلك حضرة مؤلفه على تأليف كتاب آخر يستوفي فيه

مهمات هذا العلم.

(رسالة في صداق سيدتنا فاطمة الزهراء صلى الله على أبيها وعليها وسلم)

...

وَرَدَت لنا هذه الرسالة من الهند وهي من تأليف جامع المعقول والمنقول،

حاوي الفروع والأصول، إمام العلماء مولانا مولوي محمد صبغة الله قاضي الإسلام

قاضي بن مولوي محمد غوث - غفر الله لهما - ذكر مؤلفها الخلاف في المسألة

والراويات المختلفة فيها ووزنها بميزان النقد الصحيح، فجاء بعضها في كفة الترجيح

وبعضها في كفة التجريح، وجمع بين الأقوال على أحسن منوال، وحاصل ما حققه

أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج السيدة فاطمة من عليّ رضي الله عنهما على

درعه الحطمية، وكانت تساوي أربعمائة درهم، لكنها بيعت بأربعمائة وثمانين

درهمًا، وروي أن الذي اشتراها عثمان ولعله زاد في الثمن عمدًا، وقيل ضم

عليها عليّ شيئًا آخر، وبهذا جمع بين قول من قال: إن الصداق كان درعًا،

ومن قال: أربعمائة درهم، ومن قال: أربعمائة وثمانين، وبين أن لفظ المثاقيل

الذي جاء في بعض الراويات مراد بالمثقال فيه مطلق المقدار؛ لأنه يرد في اللغة

كذلك. فحيّا الله تعالى علماء الهند جزاء اشتغالهم بالحديث رواية ودراية، وقد أهمله

العلماء في هذه البلاد حتى لا يكادون يقرءونه إلا لأجل التبرك، ولذلك لا يشتغلون

بالرواية والبحث في الأسانيد زاعمين أن المتقدمين قد كفوهم ذلك على أن المتقدمين

يختلفون، فلا بد من معرفة وجه الترجيح إلا عند من لا يهمهم الجزم بالمسائل؛ لأن

العلم عندهم هو الاطلاع على أن فلانًا قال كذا، وفلانًا قال كذا، فلا حول ولا قوة إلا

بالله العظيم.

(تغافل الرجال عن تهتك ربات الحجال)

قصيدة همزية من نظم الشاعرالأديب الشيخ محمد الجمل المجاور في

الأزهر الشريف، وهي إحدى قصائده التي تلاها في جمعية (مكارم الأخلاق)

فنالت استحسانًا عامًّا، وقد طبعها في مطبعة حجرية، وأهدانا نسخة منها، فأجلنا

فيها الطرف، فرأينا فيها نصائح وآدابًا جمة، وبيانًا لحكمة الحجاب، وإسهابًا في

مضار اختلاط النساء بالرجال، وقد انتقدنا على حضرة الشاعر وصف محاسن

النساء في خروجهن مسفرات متهتكات فوصف النهود والقدود، والحواجب الزج،

والعيون الدعج، والرقص والتثني، والتصبّي والتجني، وانتقل إلى أطوار العشق

ومراتبه، وفنونه وغرائبه، وصفًا يهيج بقلب المتنسك، فكيف فعله بنفس المتهتك؟

فكانت القصيدة بهذا نفثة من نفثات حضرة رئيس الجمعية وخطيبها الفاضل،

فإنه ينحو بخطبه العذبة هذا المنحى، ويسلك هذه المسالك، بل يبالغ في القول

إلى الكناية عما هنالك

وطالما تمنيت أن أجتمع بحضرته على انفراد لأسرّ إليه

هذا الانتقاد، وأبين له أن هذه الأقوال تحرك سواكن الانفعال، وتشوق النساء إلى

الرجال، على ما وصفن به من الأحوال، ولذلك انتقد العلماء على العلامة ابن

الوردي حيث وصف محاسن الأمرد عند نهيه عن عشق المردي، وانتقد عليّ بعض

فضلاء مصر عندما أوردت في (المنار) بيتين فيهما ذكر العناق، وقال: إن

(المنار) إنما أنشئ لتغذية العقل والروح لا لتغذية النفس والشهوة، تمنيت هذا

الاجتماع فما أصبت منه الغرض؛ لأنني ما تحريته ولا هو حصل بالمصادفة

والعَرَض، وكنت حسنت الظن بأن ما سمعته لا يعاد، ولا ينشأ عن شيء من

الفساد، فلما رأيته قد أثر في أمثل من يحضر ذلك الاجتماع (كصاحب القصيدة)

علمت أن أثره أكبر في الجهلة والرعاع، ولذلك نبهت عليه في الجريدة راجيًا أن

تكون ذكرى عامة مفيدة، وعسى أن لا يثقل على الخطيب والشاعر كلامي كما أنه لم

يثقل عليّ كلام مَن انتقد عليّ بمثل ما انتقدت به عليهما، بل قد انتقد بمثله على من

هو خير مني ومنهما {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات:55) .

(جريدة الأهرام)

هي أقدم الجرائد العربية (غير الرسمية) في مصر، وهي من الشهرة

والانتشار بحيث تستغني عن تقريظ جريدة هي أقل منها انتشارًا، وإنما نقصد بهذه

الكلمات أن نثبت في تاريخيات مجلتنا ما وفق له سعادة صاحب هذه الجريدة الهمام من

إنشاء (أهرام) أخرى في القاهرة مع بقاء (أهرام) الإسكندرية، وقد جعل نسخة

العاصمة بحجمها الكبير المعتاد، وقيمة الاشتراك فيها 150 غرشًا، ونسخة

الإسكندرية بحجم سائر الجرائد المعتاد، وثمنها 100 غرش، وقيمة الاشتراك

في الأهرامين معًا 200 غرش، فنهنئ سعادته بهذا النجاح الباهر، بل بهذه الكرامة

وهي أن جريدته قد جاءت بالذرية الطيبة بعد ما بلغت سن الشيخوخة، وقد صدر

العدد الأول من نسخة القاهرة في يوم الأربعاء الماضي أول نوفمبر مملوءًا بالأخبار

المفيدة والآراء السياسية، فعسى أن يصادف الأهرامان من الإقبال أكثر مما يبذل لهما

من زيادة المال.

_________

ص: 537

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أهم أخبار الحرب

استولت طلائع البويرس على 1500 بغل بالقرب من لاديسمث، ولم يذكر

ما تحمله أو تجره هذه البغال من الذخائر والأثقال، إلا أن روتر قال: إنها جرّت

معها جملة من المدافع، واعترف روتر بأن البويرس يحسنون الرماية، وفي 31

أكتوبر حمل البويرس على لاديسمث حملة منكرة، وكانت هذه ملحمة عظيمة فازوا

فيها فوزًا مبينًا، وأظهروا من البراعة في فن الحرب ما خدعوا به قواد الإنكليز

وضباطهم الذين جُبِلَتْ طينتُهم بماء الخداع، قال روتر: إنهم أفسدوا بالخدعة التدبير

الحربي الذي وضعه الجنرال السر جورج هوايت، فإنهم غادروا المركز الذي كان

يظهر في نظر الإنكليز أنه الموقع الأساسي لهم، ثم هجموا على جناحنا الأيمن

الذي كان ينبغي تعزيزه بقوة من جناح القلب، فأمطروا عليه نارًا حامية، فارتد

الإنكليز على أعقابهم، وقال: أُعلن رسميًّا أن فرقتي الإيرش فوزيلرس

وجلوسترشير والبطارية العاشرة التي كانت انتزعت للدفاع عن الجناح الأيسر قد

اضطر الجميع إلى التسليم بعد خسائر جسيمة جدًّا، وكان البويرس أحاطوا بالجنود

التي أُلجئت إلى التسليم، ويبلغ عددها 42 ضابطًا و200 جندي، ثم ذكر أسماء

الضباط الذين جرحوا وقال: إن الجنرال هوايت إنه وحده المسئول عن هذا

المصاب الفادح، هذا ملخص الخبر الرسمي، ولم يذكر أحد عدد القتلى، ولا شك

أنه كثير جدًّا، وقد وقع خبر هذا الانتصار في إنكلترا أسوأ وقع، حَمَل الحكومة على

زيادة الاستعداد، وشمتت بهم أوربا عامة وفرنسا بوجه خاص.

وبعد هذه الملحمة انقطعت هذه الأخبار البرقية بين مدينة لاديسميث وبين

غيرها، وآخر الأخبار عنها أن البوير أحاطوا بها من كل جانب، وفي برقيّات

(أي الأخبار البرقية، وسنستعمل هذه الكلمة بمعنى التلغرافات دائمًا) أمس أنه

قتل في معركة يوم الاثنين بالقرب من لاديسميث ستة ضباط و54 رجلاً، وجرح 9

ضباط و231 رجلاً، وقتل اللفتننت مكدوكال من الطوبجية الملكيين والميجربوس،

واللفتننت ماردن وفورستر من الفرقة (الأورطة) 60 من آلاي ريفل، والماجور

جراي، ونضرب صفحًا عن ذكر أسماء الجرحى من الضباط إلا قائدهم الجنرال

هوايت، وفيها أن البويرس احتلوا بلدة كولنسو وهي تبعد عن لاديسميث 13 ميلاً من

جهة الجنوب، وقال (المقطم) : إنه قد بلغ عدد من قتلهم وجرحهم البويرس من

الإنكليز 3500 رجل.

_________

ص: 541

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عودة الخديوي وأسرته

شرَّف القُطر عائدًا من مصيفه مولانا الخديوي المعظم وأسرته الكريمة،

فنهنئ الوطن بسموه، ونسأل الله أن يحفه بالتأييد في كل زمان ومكان.

_________

ص: 541

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌منع جريدة المشير

يعلم القرَّاء أن الحكومة أرادت محاكمة صاحب هذه الجريدة؛ لطعنها

بالحضرة الشاهانية، فهرب من وجه القضاء واختفى، وقد ظهرت جريدته في هذه

الأثناء في العاصمة على أقبح ما كانت، فنشرنا مقالة بصفة ملحق بإمضاء مدير

جريدتنا، استصرخنا فيها الحكومة السنية بأن تمنعه من دخول هذه البلاد، وتعاقب

من ينشره بعد التحري عنه والعلم به، كما نصحنا إخواننا المصريين بأن لا

يبتاعوه لما في ذلك من الخيانة لخليفتهم وسلطانهم، وببركة الإخلاص وقع كلامنا عند

الحكومة أحسن موقع، فقد بلغنا أن نظارة الداخلية كتبت لنظارة الحقانية بوجوب

إجراء ما يقتضيه القانون من منع انتشار جريدة (المشير) فأجابتها نظارة الحقانية بأنه

ينبغي أن تأمر المحافظة بالبحث عن بائعي هذه الجريدة والاستعلام منهم عن

مصدرها الذي يأخذونها منه ليحاكم متى عرف، فنثني على الحكومة أطيب الثناء.

_________

ص: 541

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المدرسة العثمانية

في يوم الخميس الأسبق احتفلت المدرسة العثمانية احتفالها السنوي بكمال

الإتقان والانتظام على أعين الجماهير من الوجهاء والفضلاء، فحاور بعض التلامذة

بعضًا باللغات العربية والإنكليزية والفرنسوية، وحلّوا بعض المسائل الحسابية،

ونقلوا بعض العبارات من لغة إلى أخرى قولاً وكتابة، ثم كان من التلميذات بعض

ما كان من التلامذة، وقد أُعجب الحاضرون بمحاورة بين التلميذات كانت من آيات

التهذيب البينات؛ لما حوته من انتقاد سيئ العادات كالزار وبِدَع المآتِم، وما فيهما

من المآثم، وكتبذيرات الأفراح المولدة للأتراح، وكان مبدأ المحاورة في المفاضلة

بين العلم والأدب، وبين الحسن والنشب، وما يتبع الأخيرين من الأنس والتمتع

بشهوات النفس، ومما استلفت الأنظار من أصحاب الذوق والأفكار أن الفتاة التي

فضلت التبرج واللهو والقصف والزهو، وتصبِّي الشبان لأجل الافتتان، كان عليها

من الحياء الفطري والخفر الطبيعي ما يدل على طينة طيبة، وعرق طاهر وأدب

باهر بحيث كان ما جرى على لسانها مخالفًا لما هو راسخ في وجدانها، على أنها ما

أنطقت به إلا لترجع عنه، وما حملت على ذكره إلا لتتنصل منه، وقد جرت

محاورتان أخريان هزليتان في ظاهرهما، جديتان في حقيقتهما؛ لأنهما في بيان

سوء مغبة إهمال التربية والتعليم، ومضرات تضييق الأغنياء على أولادهم،

واضطرارهم إياهم بذلك إلى الاستدانة بالرباء الفاحش، وقد قام قبل انتهاء الاحتفال

حضرة الخطيب الشهير عزتلو إسماعيل بك عاصم فحمد ما رأى من نظام المدرسة

ونجاحها، وأثنى على سعادة صاحبها رضا بك العظم وعلى ناظرها السابق السري

الفاضل رفيق بك العظم وناظرها الآن محمد بك السيد، ثم أفاض في بيان شدة

الحاجة إلى التعليم الديني، وانتقد على المدرسة بأنه لم يسمع من التلامذة شيئًا في

الدين، وانتقد على بروز بعض البنات المراهقات حاسرات عن وجوههن ورؤوسهن

وعلى عبارة جاءت في المحاورة الهزلية وهي أن أحد المتحاورين ذم أباه وسبه

ونسب إليه ما هو فيه من الشقاء حيث لم يعلمه ولم يربه، فصفق له النادي مرَّات

كثيرة، ولما فرغ انبرى أحد التلامذة الصغار (وهو صلاح الدين أفندي ابن عبد

الحليم أفندي حلمي مدير جريدتنا) وبَيَّن للملأ بعض الأحكام الدينية ككيفية الوضوء

وقال: (لولا ضيق المقام لبَيَّنا أحكام الصلاة بالتفصيل) فَسُرَّ الناس بذلك سرورًا

كبيرًا، وتصدى البعض للرد على حضرة الخطيب لاعتقادهم أن هذا الانتقاد مقصود

لأمر ما كما صرح بذلك بعض أساتذة المدرسة لكثير من الناس، ولكن العاقل من

ينظر في الكلام دون نية المتكلم وقصده، ولا شك أنه ينبغي تعويد البنات المراهقات

على التقنع، لا سيما إذا أردن البروز من خدورهن، وأنه كان ينبغي أن تشتمل

المحاورة الهزلية على من ينهى سابّ أبيه ويبين خطأه، أما الدين فقد بلغنا أن

المدرسة باذلة العناية في تعليمه والتربية عليه بإلزام التلامذة بالصلاة، وقد رأينا

في (بروغرام) الاحتفال ذكر الدين، ولكن كانت الخطبة قبل تمام الاحتفال، وبالجملة

قد كان الاحتفال بغاية الانتظام، ودل على نجاح المدرسة وتقدمها فحمدًا لسعادة

صاحبها السرّي الكامل محمد رضا بك العظم على ما بذل، ثم لحضرة ناظرها على ما

فعل.

_________

ص: 542

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إزالة وهم تاريخي

تَوهَّم بعض مؤرخي المسلمين وعلمائهم أن ذا القرنين المذكور في القرآن

الكريم هو إسكندر المكدوني ، وهذا غلط فاحش ووهم لا شبهة عليه، فذو القرنين من

كُنى ملوك اليمن العرب المعروفين بالأذواء كذي يزن وذي نواس وذي الكلاع،

والإسكندر رجل يوناني، وذو القرنين مختلف في نبوته، وإسكندر مقطوع بكفره

وضلالته، وذو القرنين كان في زمن أحوال العمران فيه مخالفة لأحواله في زمن

الإسكندر المكدوني، كما يُعلم مما قصه الله علينا من أخباره، فإنه طاف مشارق

الأرض ومغاربها بأسباب طبيعية كانت متبعة في ذلك العصر، فإنه يقول: فأتبع

سببًا حتى إذا بلغ كذا، ثم أتبع سببًا حتى إذا بلغ كذا، والراجح أنه كان قبل

الإسكندر المكدوني بآلاف من السنين بحيث طمس أثر ذلك العمران، فعسى أن لا

يغتر الناس بما يرونه في كتب التفسير والتاريخ، وفي الجرائد من هذا الوهم،

وإننا نتعجب من مثل أصحاب (المقتطف) و (الهلال) كيف يكنون إسكندر

المكدوني بذي القرنين مع رسوخ أقدامهم في علم التاريخ، ولعلهم فعلوا ذلك لمجرد

مجاراة بعض مؤرخي الإسلام، أو لرأي لهم آخر في المسألة، والله عليم بذات

الصدور.

_________

ص: 544

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بعض التفصيل

ألمعنا في المقالة الافتتاحية إلى توجه عناية مولانا السلطان الأعظم لإصلاحات

جديدة في اليمن وغيرها، فمن ذلك أن تجعل بلاد اليمن ثلاث ولايات ينتخب لها

العمال من خيار الأكفاء نزاهة وسياسة، يقيمون نظام جباية الأموال على الأصول

العادلة، ويسوسون البلاد سياسة دينية مدنية، وأن تنشأ في كل مدينة كبيرة مدرسة

إعدادية أو رشدية، وفي مركز كل ولاية مدرسة ملكية ومدارس للصنائع والفنون،

ومدارس حربية ابتدائية، وأن يختار لهذه المدارس وغيرها من المدارس الابتدائية

التي ستكون عامة أمهر المعلمين وأحسنهم سيرة، وأن يعلم فيها الدين، وقد قلنا من

قبل: لو أن الدولة العلية ساست بلاد اليمن سياسة دينية لما حصل فيها ما حصل من

الثورات والفتن، فعسى أن يكون انتخاب العمال والمدرسين كما يشاء مولانا السلطان

لا كما تشاء الأهواء والأغراض.

ومنها ما جاء في أخبار ولاية قونية الرسمية أنه قد افتتح فيها 32 مدرسة كانت

أسست في العام الماضي، وتم إصلاح 120 مدرسة.

_________

ص: 544

الكاتب: محمد رشيد رضا

الكرامات المأثورة

وهي الخامسة من مقالات الكرامات

نتخوَّل القراء بمباحث الكرامات تخوّلاً خشية السآمة من اتصال الكلام في

الموضوع الواحد، وإنما نصدقهم الوعد بالتدريج بحيث لا يملّون ولا يسأمون، ولا

نحن نغفل ما يسنح لنا من المباحث الأخرى بمناسبات الزمان واختلاف الأحوال.

تبين في المقالة الرابعة أن حجج مثبتي وقوع الكرامات على ضربين: أحدهما

ما ورد في الكتاب العزيز، وقد ذكرنا ملخص ما قالوه في الآيات القرآنية التي يدل

ظاهرها على وقوع الخوارق لغير الأنبياء، وحققنا أن قصارى ما يحتج به منها

على ثبوت كرامات الأولياء هو الإلهام الصحيح لبعض أصحاب النفوس الزاكية كأمّ

موسى عليه الصلاة والسلام، وما في معناه ككلام الملائكة لمريم عليها السلام، وأنه

يحتمل أن يكون هذا مما قبله، فثبت أن الإلهام هو مما يكرم الله به أولياءه وأصفياءه

بإشرافهم أحيانًا على ما يعزب عن علم غيرهم، فنقف عند حد ما ورد وثبت، ولا

نقيس عليه غيره؛ لأن ما جاء على خلاف القياس وغير المعهود لا يصح أن يقاس

عليه كالأحكام الشاذة في سائر العلوم والفنون، وقد قضت الجهالة بالدين والعلم بأن

تخضع الأمة لكل مَنْ يظهر على يديه شيء غريب عما ألفت واعتادت، وإن كان

شعوذة أو مبنيًّا على صناعة خفية مهما ظهر صاحبه بلباس الدين وزيّ النساك أو

المجانين.

(الضرب الثاني) ما ورد عن سلف الأمة ومن بعدهم إلى يومنا هذا، وقد

سبق القول في مقالة (حجج منكري الكرامات) بأن حجتهم الخامسة هي أنه لو كان

للكرامات أصل لكان أولى الناس بها الصدر الأول، فإنهم صفوة الإسلام وأشد

استمساكًا به ممن بعدهم، وقلنا هناك بأن السبكي قد أجاب عن هذه الحجة بسرد

الكرامات المأثورة عن الصحابة عليهم الرضوان، ووعدنا بأن نعد هذه الكرامات في

حجج الإثبات عدًّا، ونتبعها تأييدًا أو ردًّا، وقد ضاقت عن ذلك مقالة حجج المثبتين

الماضية فنذكرها ههنا وهي:

(1)

على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذكر أثر عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وفيه أن أباها أخبر في وصيته لها عن

وفاته، وعن حمل له لم يكن معروفًا وعيَّنه بأنه أنثى حيث قال في سياق كلامه:

وإنما هما أخواك وأختاك فقالت: إنما هي أسماء فمن الأخرى؟ فقال: إن ذا بطن

بنت خارجة أراها جارية، فكان كما قال، أقول: وهذا من الإلهامات الصحيحة

التي أثبتناها، وقد ورد في الصحيح أنه كان من الأمم قبلنا محدَّثون (بفتح الدال

المشددة) أي ملهمون، وإن عمر بن الخطاب من المحدثين في هذه الأمة، وأجدر

بأبي بكر أن يكون محدثًا أيضًا.

(2)

ثم ذكر حديث عبد الرحمن ولده رضي الله عنهما في الإطعام،

وفيه أن الطعام كثر في القصعة ببركة أبيه، قال عبد الرحمن: وايم الله ما كنا نأخذ

لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، قال حتى شبعنا وصارت بعد ذلك أكثرمما كانت

بثلاث مرار، أقول: إذا ثبت هذا فهو الخارق الحقيقي؛ لأن زيادة الطعام حقيقة لا

تكون إلا بخلق جزء منه يوجد من العدم؛ لأن النموّ بالاستمداد من الأجسام الأخرى

كما في الحيوان والنبات لا يتأتى فيه، وقد حار العقلاء في سر الخلق وكيفية الإيجاد

من العدم حتى كاد هذا الأمر أن يكون وراء ما يقدر البشر على تصوره، ومثله

إعدام الوجود، فالإيجاد والإعدام من الأسرار الإلهية التي لم يطلع الله عليها أحدًا من

خلقه، والحكماء متفقون على أن القوة البشرية عاجزة عن إيجاد نحو ذرة أو رملة،

وعن إعدام نحو نقطة ماء من الوجود وإن بلغت من العلم ما بلغت، ولكن البراهين

العقلية تثبت أن وجود هذا العالم ممكن لا واجب، وأن الممكن لا وجود له من ذاته؛

لأنه لا يكون إلا حادثًا، وهذا هو الدليل على أن الله تعالى خالق كل شيء، أما

الخبر فهو عند الشيخين، وهو من أخبار الآحاد التي تفيد الظن لذاتها، وليس

الموضوع في نفسه من قضايا الدين، فمن اطمئن قلبه له وصدقه لثقته بروايته فله

أن يبقيه على ظاهره ويعدّه من الخوارق، وله أن يأوِّله ليطابق المعروف

في العلم موافقًا لما في الدين من أن الله تعالى جعل لكل شيء يحدث في هذا الكون

سببًا، ولذلك سُمي عالم الأسباب، فالله تعالى خلق مادة الكون بمحض إرادته المعبر

عنها في الكتاب بلفظ (كن) ثم جعل بعد ذلك لكل شيء سببًا كما هو مشاهد،

وبعض أئمة الصوفية الشيخ الأكبر يسمي ما وجد أولاً بمحض الإرادة (عالم الأمر)

وما خلق بعد ذلك بالأسباب المعبر عنها في لسان الشرع بالسنن الإلهية (عالم الخلق)

ولله الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين.

أما طريق التأويل فمن المعهود عند الناس أن يقولوا: كأنَّ هذا الطعام أو الماء

قد زاد وبورك فيه، وكأن الإناء ينبوع إذا كفاهم من حيث يظنون أنه لا يكفيهم،

وإذا زاد مع ذلك عن الحاجة يبالغون في القول فيقولون: إنه قد زاد أو تضاعف أو

صار أكثر مما كان، وإن الإناء لينبع نبعًا، كما يقولون: إن الأرض قد طويت إذا

قطعوا المسافة في مدة أقصر مما كانوا يتوقعون، وكل هذا من قبيل التشبيه البليغ

المعهود في اللغة العربية بكثرة، ولا تكاد تخلو منه لغة من اللغات، لكن التعبير

بقوله أكثر مما كان بثلاث مرار ينأى بالكلام عن التجوز ويدنيه من إرادة الحقيقة،

وكثيرًا ما كانوا يروون الأحاديث بالمعنى، فلسنا على ثقة من نص عبارة عبد

الرحمن رضي الله عنه على أن هذه الكرامة مسندة إلى النبي صلى الله عليه

وسلم، فالبحث فيها إنما هو بحث في خبر تاريخي، وإنما سَمَّينا الكلام حديثًا؛ لأن

فيه أن الطعام حمل بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منه الخلق الكثير.

(3)

ما روي عن عمر الفاروق رضي الله عنه، وذكر السبكي في مقدمته

قصة سارية بن رستم الجلحي وهي مشهورة، وفيها كرامتان: إحداهما أنه اطلع

وهو على منبر حرم المدينة على جيش سارية مع العدوّ في نهاوند وأن العدو أعدَّ له

كمينًا في الجبل، والثانية أنه ناداه: يا سارية، الجبل، فأسمعه، ونحن نقول: إن

هذه القصة مما تتوفر الدواعي على نقله بالتواتر؛ لأنها وقعت والمسلمون كلهم

مجتمعون في المسجد يسمعون الخطبة، وهي من الغرابة في نفسها وعظم الشأن في

موضوعها بالمكانة التي نعرفها، ولو حدَّث بها الجم الغفير من الصحابة لحدَّث بها

أضعاف أضعافهم ممن بعدهم؛ لأنهم كانوا أسمع للغرائب، وأولع بالعجائب، ومع

ذلك ما رواها البخاري ولا مسلم ولا أصحاب السنن الأربعة، ولا أصحاب المسانيد

من قبلهم، وإنما انفرد بها البيهقي من المحدثين، وتناقلها كثير من المؤرخين الذين

جمعوا بين الغث والسمين، وقد وطن قومنا نفوسهم على قبول جميع ما يسند إلى

عظماء الأمة على علاته صح أم لم يصح، ومن بحث في ذلك ينسبونه إلى التقصير

في تعظيم السلف، وما تعظيم السلف إلا بالاقتداء بهم، حتى إن عالمًا مثل التاج

السبكي قال في بيان هذه الكرامة: إن عمر رأى القوم في نهاوند عيانًا، وكان كمن

هو بين أظهرهم، أو طويت له الأرض وصار بين أظهرهم حقيقة وغاب عن

مجلسه بالمدينة، فكيف جوَّز انتقال عمر من المدينة إلى نهاوند وإرشاده أمير الجيش

ورجوعه كلمح البصر - ولو حصل هذا لملأ خبره الخافقين - مع أنه لم يقل به أحد

قط، اللهم إن غرامنا بالتأويل قد أطفأ فينا نور الفطرة والعقل وطمس معالم العلم

والدين، فأنقِذنا اللهم من الاحتمالات والتأويلات، وأتحفنا بعلم اليقين، إنك على ما

تشاء قدير.

(4)

ومنها قصة الزلزلة ، نقل السبكي عن الشامل لإمام الحرمين أن

الأرض زلزلت في زمن عمر رضي الله عنه تعالى - فحمد الله وأثنى عليه،

والأرض ترتجف وترتج ثم ضربها بالدرة وقال: قري ألم أعدل عليك؟ فاستقرت

من وقتها. اهـ.

أقول: إن الزلزلة ليس لها زمن معين، فيقال: إنها استقرت قبل انقضائه

كرامة لعمر- رضي الله تعالى عنه - ولا أذكر أنني رأيت لهذا الأثر رواية صحيحة،

ولئن صحت الرواية فقد علمت ما فيها، وقد أطال السبكي الكلام في هذه المسألة

وزعم أن الفاروق كان يؤدب الجمادات كالأرض كما يؤدب الناس؛ لأنه خليفة في

الظاهر والباطن، وزعم أن الأرض لا تزلزل إلا لسببين: جور الحكام واليوم المعلوم

المشار إليه بقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: 1) وتكلم

في تفسير السورة بما يخالف الجماهير، وقد بيَّنا الحق في هذا كله، وبينا أسباب

الزلازل بحسب ما يدل عليه العلم في كتابنا (الحكمة الشرعية) ، وأنها لا علاقة لها

بالجور ولا بالعدل.

(5)

ومنها قصة النيل ، قال السبكي: إن النيل كان في الجاهلية لا يجري

حتى يلقى فيه جارية في كل عام فلما جاء الإسلام وجاء وقت جريان النيل أتى

أهل مصر إلى عمرو بن العاص فأخبروه أن لنيلهم سُنَّة، وهو أنه لا يجري حتى

يلقي فيه جارية بِكْرٌ بين أبويها، ويجعل عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون،

فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون، وإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا ثلاثة أشهر لا

يجري لا قليلاً ولا كثيرًا (لعله يريد أنه لا يجري زيادة عن العادة) حتى هموا

بالجلاء، فكتب عمرو بذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: قد أصبت،

إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد بعثت إليك بطاقة فألقها في النيل، ففتح عمرو البطاقة

فإذا فيها (من عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد، فإن كنت تجري من

قِبَلك فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك نسأل الله الواحد القهار

أن يجريك) فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب، وقد تهيأ أهل مصر

للجلاء والخروج منها، فأصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا، قال السبكي:

فانظر إلى عمر كيف يخاطب الماء يكاتبه ويكلم الأرض ويؤدِّبها.

أقول: إن هذه الحكاية مبنية على أن التصديق بأن النيل كان قبل الإسلام لا

يفيض فيضانه إلا بعد وضع الجارية العذراء فيه، وإنها لخرافة إذا جاز أن يصدقها

أغبياء الوثنيين الذين يعتقدون أن النيل من الآلهة لا يفيض إلا إذا أرضوه بمثل ذلك،

أو أن الآلهة يُجرونه بحسب أهوائهم، وأن إلقاء الجارية من ذرائع استجدائهم،

فلا يجوز أن يصدقها مسلم يعتقد أن الحكيم العليم أقام هذا الكون بنظام ثابت وسنن

مطردة لا تتغير ولا تتبدل، منها أن الأنهار تجري من ينابيع كالعيون الصغيرة

تتفجر من بطن الأرض وتستمد في أيام الشتاء من الجداول والوديان التي يجتمع

ماؤها من المطر، وإن ماء الينابيع من المطر على ما بيناه في المقالة الأولى من

مقالات الكرامات {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْض} (الزمر: 21) وقد عُلم أن النيل يجري من بحيرتين عظيمتين في الأقاليم

الاستوائية، وإنما يفيض على مصر فيضانه المعلوم في فصل الصيف؛ لأن صيف

هذه البلاد شتاء في تلك البلاد، ولا يكون الفيضان إلا تدريجًا؛ لأن المطر يكون

كذلك، وإنما يقل الفيضان ويكثر بقلة المطر وكثرته في تلك البلاد التي ينبع منها

ويستمد مما دونها، ويجوز أن يقل الفيضان في أول عهده، ثم يكثر في آخر المدة تبعًا

لأحوال المطر، ولكن لا يتأتى أن يجري في يوم واحد ستة عشر ذراعًا، ولو

حصل ذلك لكان ضرره أضعاف نفعه، فإن زيادة عظيمة كهذه في نهر عظيم كالنيل

إذا جاءت دفعة واحدة لا يكون شأنها إلا هائلاً وعظيمًا.

وحاصل القول: إنه إن صح أن فيضان النيل كان يتوقف قبل الفتح الإسلامي

على إلقاء البنت العذراء فيه وأن هذا بطُل بالإسلام، فإن الخارق للعادة والآتي على

خلاف سنة الكون هو ما كان قبل الإسلام لا ما بعده، وهذا قلب لقصد القائلين

بالكرامة هنا، ولو بنيت هذه القصة على أصل معقول لكانت هكذا، كان قدماء

المصريين يعتقدون أن النيل نهر مقدس كما يعتقد الهنود بنهر الكنج ، وكان من

تقاليدهم أنه متى جاء وقت الزيادة فيه يزينون إحدى بناتهم ويلقونها فيه معتقدين أن

الزيادة لا تأتي أو لا تفي بحاجة البلاد إلا إذا فعلوا هذا كما يلقي الهنود أنفسهم في نهر

الكنج اتباعًا لتقاليدهم الدينية، وإن عادة المصريين استمرت إلى عهد الإسلام، وأن

الفاروق رضي الله عنه أمر بإبطالها لاعتقاده ببطلانها ومخالفتها للإسلام، وأنه

اتفق أن الزيادة كانت قليلة في أول تلك السنة، والفيضان بطيئًا، وأن عمر لما بلغه

ذلك تضرع إلى الله تعالى أن يغيث عباده ويزيد في النيل؛ لئلا يعتقدوا أن منعهم

من إلقاء البنت هو الذي منع فيضان النيل، وإن الله تعالى رحم تضرعه واستجاب

دعاءه بأن كثرت الأمطار في تلك الأثناء في البلاد التي ينبع النيل منها ويجري فيها،

وأن كتابه ما وصل إلى عمرو بن العاص إلا والنيل قد طفق يزيد زيادة صالحة

حتى وصل في يوم عيد الصليب إلى ستة عشر ذراعًا، وهي الزيادة المعتدلة التي

تكفي البلاد كما هو مقرر في كتب التواريخ {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (الأعراف: 118) وإن هذه الزيادة الكثيرة في أواخر مدة الفيضان كانت من

زيادة المطر قطعًا، فإن كانت مما اقتضته طبيعة تلك السنة كما يكون في بعض

السنين في كل عصر، فذلك توفيق من الله على يد أمير المؤمنين حكمته إبطال تلك

العادة السيئة، وإن كان حصل بدعاء عمر فهو كرامة له؛ لأن استجابة الدعاء بما

يخالف العادة المطردة في الخلق كرامة بلا ريب، ولكل أحد أن يعتقد من ذلك ما

ترتاح إليه نفسه، هذا وإن الحكاية لم ترد بطرق صحيحة موثوق بها، فتستحق هذه

العناية، ولكن العناية والرحمة تجبان لأمة يصدّق أكابر علمائها (كالتاج السبكي)

صاحب (جمع الجوامع) بأن النيل لا يجري إلا إذا ألقيت فيه فتاة صفتها كيت

وكيت، وإن عمر أدّبه بكتابه له، فرجع عن غيه، وقد ابتليت هذه الأمة بتقديس

الأموات والتسليم لهم بكل ما قالوا، ولولا أن حالة العصر أنارت بعض الأذهان

وأعدتها لقبول الحقائق ورفض الخرافات لما كان لنا أن نكتب ما كتبنا، والله

الهادي إلى سواء السبيل.

(للكلام بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

ص: 545

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

(12)

من هيلانة إلى أراسم في 25 مارس سنة -185

كتابي إليك وقد استقرّ بي النوى الآن في إنكلترا أكاشفك فيه ما وجدته

في هذه البلاد فأقول: استأجرت مساء يوم الإثنين الماضي عجلة اجتزت بها ما

بين القنطرة المسماة بقنطرة لوندره (لندن بريدج) والميدان المعروف بميدان أوستون

وكأني بك سائلي عما شاهدته من عاصمة الجزائر البريطانية، إني لم أر منها شيئًا،

أو أن ما رأيته لا يكاد يكون شيئًا يذكر، كنت أحس أحيانًا بأني أدور في الظلام

مع العجلة أثناء جريها في الميادين الفسيحة المحتفة بالبساتين والبيوت التي كنت

أخالها مهجورة، وكنت أرى عقيب ذلك من كوَّتي العجلة شوارع طويلة تمتد ذات

اليمين وذات الشمال تحيط بها المخازن التجارية من الجانبين، ويمتد في كل منها

على جانبيه صفان من المصابيح الغازية، فكنت تارة أجدني في ظلمات متكاثفة

الحجب وأخرى كنت أراني بين طوائف من تلك المصابيح غير منتظمة، وقد كان

منظر ضوئها المنعكس على رصف الشوارع المبللة وعلى وقائع [1] الطريق، وجملة

أهل المدينة الذين كانوا يغدون ويروحون، وسمات الهمّ والاشتغال بادية على

وجوههم وجلبة الغوغاء [2] التي كان يتعاورها السكوت فجأة، كل ذلك كان غريبًا

عندي غير معهود لدي، كانت السماء تمطر وكأن لا مطر، ذلك أنها كانت ترهم

إرهامًا خفيفًا جدًّا [3] يقول رائية: إنه لابد أن يستمر هكذا ألف سنة. قد حصل في

ذهني من سفري هذا في سدف الظلام مجتازة مستنقعات الماء، جائلة فيما أجهله من

الأماكن صورة مدينة لا أول لها ولا آخر، فيها كثير من ضروب العظمة والبذخ،

وكثير من أنواع الحقارة والمسكنة، فهل هذه لوندره؟

تبوأت النزل الذي كانت وصفته لي السيدة

فألفيت كل ما فيه غاية في

النظافة والهدوء والنظام، قدم لي العشاء في غرفة خاصة منه فيها كفايتها من الفرش،

وهي ملاصقة للغرفة التي أعدت لنومي، وقد راعني من خادمة المائدة جمالها

البارع، فبعثتي ذاك على مراجعة ذاكرتي لادّكارالقليل من الإنكليزية الذي كنت

تعلمته في المدرسة لمخاطبتها بلغتها، فكانت أجوبتها لي في غاية الاختصار، ولم

ألبث أن فهمت من احتراسها في كلامها وظهور سيما الحيرة على وجهها أن

الخادمات الإنكليزيات لا يحفلن بخطاب المخدوم إياهن خلافًا للفرنساويات، إن الذي

أدهشني كثيرًا في هذا النزل أن أهله لم يسألوني عن اسمي، ولا عن حقيقة أمري،

عجبًا لهذه البلاد التي لا يظهر أن أهلها يعتقدون أني ما أتيت بلادهم إلا لقلب

حكومتهم (تريد التعريض ببلادها الفرنساوية) .

اتباعًا لنصائحك قد اهتديت إلى محل الدكتور وارنجتون وذهبت إليه في ثاني

يوم من وصولي، وقدمت إليه مكتوبك، فما كاد يأتي على آخره حتى تذكر اسمك،

وتلقاني تلوح عليه علائم الوقار الفطري.

أنشأ هذا الدكتور يخاطبني بالفرنساوية وهو يحسن الكلام بها بعض الإحسان

فقال: لقد أصاب زوجك في إرسالك إلى بلاد أجنبية، فسترتاح نفسك إلى المقام

في إنكلترا بما ستجدينه فيها من اعتدال الصحة، إلا أني أنصح لك بأن تقيمي في

الأرياف؛ فإنها أجود مناخًا وأصفى هواءً؛ فإن السكنى في الحواضر العظيمة لا

تلائم النساء في الطور الذي أنت فيه الآن، ولا تلائم الأطفال أيضًا، وقد أنشأ

الكبراء من تجارنا في لوندره يفهمون مزايا الإقامة في القرى، ويقدرونها حق قدرها،

فترينهم لا يعبأون بالسفر مرتين كل يوم في السكة الحديدية، ولا بما يضيعه

عليهم هذا السفر من الفوائد الكثيرة التي منها الحضور في ناديهم مثلاً، وذلك

ليمتعوا أسرهم بقليل من نضارة الخضرة ومنافع الشمس، فهم يصرفون بذلك

نساءهم عن التردد على معاهد التمثيل ومواطن اللهو الليلي، لكل امرئ منهم

نصيب من فائدة هذه الإقامة، وللأطفال الحظ الأوفر منها حيث ينشأون في كمال

الصحة من هذه المعيشة المطلقة في هواء الفضاء، ولا يكاد يرغب عن ذلك إلا

الغانجات المتورّنات [4] اللاهيات بالتافه والمحقرات، ولكن ما الحيلة في إرضائهن،

وللأمومة واجبات لا بد من أدائها؟ تأملي في الأطفال الذين يتربون في المدن الكبيرة،

ألا ترين معظمهم شاجي الألوان، سقيمي الأجسام كالنباتات الموشمة (النابتة) في

الظل المحرومة من ضوء الشمس وحرارتها؟ أتظنين أنهم على هذا الضعف

يزدادون في عقولهم بقدر ما يخسرون من صحتهم؟ ! كلا، إنني لا أرى هذا صوابًا؛

لأن جوّ المدن الذي أفسده ما فيها من ضروب اللذائذ وصنوف الأعمال لا يلائم

بحال من الأحوال نموّ العقل الخلقي، وأن الأطفال ليبلغون سن الرجولية قبل إبّانه

بتأثير تلك الحرارة الصناعية التي في المدن، إلا أنهم في الغالب يكونون رجالاً

ناقصين لا يبلغون في الكمال الدرجة المطلوبة.

فاه الدكتور بهذه الكلمات الأخيرة، وابتسم ابتسامًا انتهى بظهور خطوط أفقية

على وجهه السكسوني المستدير الذي يشرف منه على خديه شعر الصدغين القصير

الذي قد وخطه الشيب، ثم استأنف الخطاب فقال:

دعيني أتولى أمر سكناك في الخلاء، فإن لي صديقًا يملك في قرية مرازيون

بيتًا للنزهة، فيه شيء من الجمال والنظام، وموقعه تجاه خليج بينزاس وهو يبحث

عن مستأجِر يؤجره له بجميع أثاثه ورياشه؛ لأنه على وشك الرحيل إلى إيطاليا

للمقام بها لأسباب صحية، فأنا أرغب إليك في الذهاب إلى هذا البيت ورؤيته وأحثك

على ذلك، وأرى أن في هذا السفر تسلية لك وترويحًا، وإني لو كنت طبيبك لكان

من أول ما أصفه لك تبديل الهواء، كوني على ثقة بأن آلام النفس تزول بتغير

المؤثرات، فقلما يوجد من هذه الآلام ما يتعاصى على التغير كما ثبت بالتجارب،

فإن الإنسان إذا رأى مشاهد خلوية جديدة يحيا حياة جديدة، وليس لي أن أمدح لك

أميريّة (كونتيّة) كورنواي [5] فإنها مسقط رأسي، على أن الناس قد أجمعوا على

القول بأنها أكثر جهات بريطانية العظمى اعتدالاً في الإقليم، وإنها هي التي يعيش

في أرضها الريحان والعطر والعود معرضة لهوائها المطلق في جميع الفصول، إن

كنت ممن يروقهن منظر الصخور، فإنك ستشاهدين هناك منها جميع الأشكال في

أبهج الأوضاع وأجدرها بالتصوير، أنا لا أعرف حق المعرفة مقدار الأجرة التي

يطلبها صديقي في سكنى بيته، لكني لا أشك في أنه لا يخرج عن الاعتدال فيما

يطلبه، ستجدين في بنزانس زوجتي السيدة وارنجتون، فإنها هناك هي وأسرتها

حتى الآن، وستغتبط باستقبالك، أما أنا فأذهب لزيارتها واستنشاق هواء مولدي

كلما تيسر لي الخلاص من أشغالي في لوندره، فإننا معشر الإنكليز لا نقدر على

إطالة الثواء في مكان واحد، فالحركة والفضاء من حاجاتنا، ما كان أجدرنا باختراع

الآلة البخارية، وقد اخترعناها ولا عجب، وأصبحنا بسبب هذا الاختراع أقل الأمم

تغيرًا، فإننا مع سفرنا الدائم في إقامة مستمرة؛ لأنَّا في أوطاننا أينما كنا.

افترقت أنا والدكتور على أحسن حال من الوفاق والمودة، وقد خاطبني في

شأنك بما شف لي عن كثرة إجلاله لك وإعظامه لقدرك، ولقد لمَّح لي مرة واحدة في

مطاوي كلامه تلميحًا خفيًّا إلى ما أنا فيه من الفرقة الحاضرة، فأبان لي به عن

عطف عليّ وميل إليّ، ولم يسترسل استرسال الناس في عبارات التعزية والتسلية

التي كثيرًا ما أذلتني وهضمتني حق إدلالي بصفة الزوجية.

تم الاتفاق بيننا على أن أسافر في الغد إلى كورنواي وإنما عجلت بالسفر

لأستقر في مكان ما، وقد رضيت هذه البلدة لي مقرًّا؛ لأن جميع الأمكنة التي لا

أراك فيها سواء عندي.

لما وصلت إلى بنزنس أثناء الليل تلقتني السيدة وارنجتون عند

نزولي من عجلة المسافرين، وكانت في انتظاري لأن زوجها كان كتب إليها

بذلك، إذا أردت أن تتخيل صورة هذه السيدة فمثل لنفسك امرأة في نحو الخامسة

والثلاثين من عمرها ليست حسنة الوجه ولا دميمته، ولكنها محبوبته سوداء العينين

والشعر، خنساء الأنف، عظيمة الفم باسمته، سمينة قصيرة، على أنها خفيفة

نشيطة قد أوتيت حظًّا وافرًا من الحنان والرأفة، لقد كثر ما لاحظت أنه في بعض

الأحوال يوجد بين شخصين مختلفين في الذكورة والأنوثة والموطن تشابه كالذي

يوجد بين أفراد أسرة واحدة، مع أن كلاً منهما يكون أجنبيًّا من الآخر من كل

الوجوه، أتدري من الذي حضرت صورته في ذهني لما وقع بصري على السيدة

وارنجتون؟ ! ذلك هو صديقك يعقوب نقولا خلتني أراه بذاته في زي امرأة.

حمل أمتعتي خادم كان يصحب هذه السيدة فوضعها في عجلة ركبناها

فأوصلتنا إلى منزل الدكتور الريفي، لهذا المنزل منظر بهيج إذا شوهد ليلاً في

ضوء السماء، فإنه لما كان مبنيًّا بالصوان كمعظم بيوت التنزه الخلوية والأكواخ

التي في تلك الجهة كان لحجارته صفائح من اليرمع [6] والمهو [7] تلمع كأنها شهب

تساقط من القمر، وفي النهار أيضًا له نوع آخر من جمال المنظر، فإنه قائم في وسط

حديقة من الأشجار المجلوبة من البلاد الأجنبية ذات الألوان اللطيفة المختلفة،

وينبسط على طول مقدمه إيوان مسقوف تتسلقه شجيرات الغوشياء [8] التي ترتفع

ارتفاعًا غير معهود، فهو مزدان من داخله وخارجه بزينة بديعة من الأزهار، لم تر

عيني مثلها أبدًا، إن لبيوت النبات الزجاجية المحل الأول في انتظام هذه الدار على

ما أرى، لا جرم أن مثل هذه البساتين المسقوفة بالزجاج تزيد المعيشة الأهلية نضارة

وحسنًا، الغرف التي تفضل عليّ أهل هذا البيت الكريم بإعدادها لي وأحلتنيها السيدة

وارنجتون نفسها بما أوتيته من كامل اللطف وفائق الظرف يخالها الإنسان جنة لو أن

للأرواح الوحيدة الجريحة أفئدتها من الحزن جنة في هذه الدنيا

من محاسن هذه

الغرفة أني عندما أهب من نومي فيها أسمع تغريد القنبرة فيروقني لحنها.

السيدة وارنجتون هي والدة كاملة عاقلة، فإنها تقسم وقتها قسمين:

أحدهما: لتربية أولادها، والثاني للعناية بأمر أزهارها، ولها من كل قسم منهما

شيء من الفراغ يكفيها للمطالعة، وهي على بعدها عن الدعوى بالإحاطة بالعلوم في

المنطوق والمفهوم لها في طرق الاستدلال على مواضيع شتى أحكام صائبة وآراء

سديدة، أسرة هذه السيدة يعجب بها من يراها، فبنتاها الكبيرتان اللتان أحداهما

ربما كان عمرها سبعة عشر ربيعًا - كما كان يقال في تقدير السن سابقًا- لكل منهما

وجنتان يذوب منها الورد غيرة وحسدًا، وبعد هاتين البنتين صف من بنات أخريات

وبنين يتكون فيه من اختلاف رؤوسهم بالصغر والكبر، وتباينهم بالطول والقصر

نظام يحوي أجمل الفروق وأبهاها، كثيرًا ما كنت أسمع أن النساء الإنكليزيات

نثر (كثيرات الأولاد) ولكن الله أكبر ، ما هذا الزخرف، زخرف الشعور

الشقراء والأكتاف المكشوفة والألوان الزاهية الغضة التي ما كنت أسمع

بها. اهـ

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الوقائع جمع وقيعة، وهي الماء المستنقع الذي يكون في الطين.

(2)

الغوغاء: عامة الناس، وجلبتهم: لغطهم الغير المفهوم.

(3)

أرهمت: السماء جاءت بالرهمة، وهي المطر الخفيف المتواصل.

(4)

التورّن: المبالغة في التطيب والتنعم.

(5)

الكونتية: هي أرض الكونت وهو الشريف من أشراف فرنسا الغابرين.

(6)

اليرمع: حجارة بيض تلمع في الشمس.

(7)

المهو: حجر أبيض يقال له: بصاق القمر.

(8)

الغوشيا: شجيرة أفرنكية معروفة بجمال شكلها وطول بقاء زهرها وتنوع أزهارها في أشكالها

وألوانها وسهلة غرسها، وهي من أشجار الزينة.

ص: 553

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بدع رجب

إذا خذل الله أمة من الأمم فإنها تختار الضار وتنبذ النافع، وتأخذ بالشر وتدع

الخير، وتستبدل الرذائل بالفضائل والسعادة بالشقاء، وتترك لُباب الدين، وتَتَلَهَّى

بالقشور، ويحسن لها علماؤها القبيح بالتأويل، ويكون هديهم عين التضليل.

لا تحضر في هذا الشهر جمعة في مسجد إلا وتسمع فيها الكذب على الرسول

صلى الله عليه وسلم على المنبر، حتى منبر الأزهر، والعلماء ناكسو رءوسهم لا

ينكرون على خطيب، وإنما يقرون الخطباء إقرارًا، وقد اتفق علماء الحديث على

أن كل ما روي في صيام رجب موضوع أو واهٍ لا أصل له، ولنذكر بعض

الأحاديث الموضوعة في رجب وصومه للتحذير منها فنقول: قال المحدثون:

(حديث) : رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي، فمن صام في

رجب يومين فله من الأجر ضعفان، وزن كل ضعف مثل جبال الدنيا

إلخ

موضوع، وفي إسناده أبو بكر بن الحسن النقاش وهو متهم، والكسائي مجهول،

و (حديث) : من صام ثلاثة أيام من رجب كتب الله له صيام شهر، ومن صام سبعة

أيام من رجب أغلق عنه سبعة أبواب من النار، ومن صام ثمانية أيام من رجب فتح

الله له ثمانية أبواب من الجنة، ومن صام نصف رجب حاسبه الله حسابًا يسيرًا

موضوع، في إحدى رواياته عمر بن الأزهر وضَّاع، وفي الأخرى ابن علوان

وهو وضّاع أيضًا، وراويه أبان متروك. و (حديث) : إن شهر رجب شهر عظيم،

من صام يومًا منه كتب له صوم ألف سنة

إلخ موضوع، في إسناده هرون بن

عنترة يروي المناكير، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، و (حديث) : من أحيا ليلة

من رجب وصام يومًا أطعمه الله ثمار الجنة

إلخ موضوع، آفته حصن بن

مخارق، وفي رواية بمعنى هذه

بعثه الله آمنًا يوم القيامة، وكذا (حديث) :

رجب شهر الله الأصم الذي أفرده الله تعالى لنفسه، فمن صام يومًا منه إيمانًا

واحتسابًا استوجب رضوان الله الأكبر

إلخ وفي إسناده متروكان، و (حديث) :

خطب النبي صلى الله عليه وسلم قبل رجب بجمعة، فقال: يا أيها الناس قد أظلكم

شهر عظيم، رجب شهر الله الأصم تضاعف فيه الحسنات، وتستجاب الدعوات،

وتفرج الكربات وهو حديث منكر بمرة، وكان بعض العلماء ينهى عن صوم رجب.

وأقبح من هذه الأكاذيب أكذوبة (صلاة الرغائب) ويروون لها حديثًا طويلاً

في فضائل رجب، ومنها أن مَن يصوم أول خميس من رجب، ثم يصلي بين

المغرب والعشاء (من ليلة الجمعة) اثنتي عشر ركعة بكيفية مخصوصة استجيب

دعاؤه وغفر الله له جميع ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر وعدد الرمل، ووزن

الجبال وورق الأشجار، ويشفع في سبعمائة من أهل بيته ممن استوجب النار

(سبحانك هذا بهتان عظيم) ، وقد أقر السيوطي ابن الجوزي على وضعه، وقال

الإمام النووي صلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان، وعبارة شرح الأحياء

عنه (بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان، ولا تغتر بذكرهما في كتاب القوت

والأحياء، وليس لأحد أن شرعيتهما بقوله صلى الله عليه وسلم الصلاة خير

موضوع؛ فإن ذلك يختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه من الوجوه، وقد صح

النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة) . اهـ

ومع هذا لا يزال الناس في كثير من البلاد الإسلامية يحفلون بأول ليلة جمعة

من رجب يقومون ليلها ويصومون الخميس قبلها، ويتصدقون فيها الصدقات التي

كلها مفاسد ومنكرات، ذلك أن أهل مصر يذهبون نساءً ورجالاً وأطفالاً إلى المقابر،

فيبيتون في القصور المبنية عليها، يأكلون ويشربون ويلهون ويلعبون، والله يعلم

ما يسرون وما يعلنون.

_________

ص: 559

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مناشير المهدي السوداني

ظفرنا بالجزء الأول من كتاب اسمه (مناشير سيدنا الإمام المهدي المنتظر

محمد بن عبد الله عليه السلام وهو 290 صفحة، ويشتمل على الكتب التي كان

يكتبها القائم السوداني لأتباعه وخلفائه، ومعظم ما فيها تزهيد في الدنيا ودعوة إلى

جهاد الترك (أي المصريين) وقد رأينا أن ننشر منها في (المنار) أغرب

رسائله وكتبه؛ لما فيها من العلم بحقيقة ما كان يدّعيه ذلك الرجل، فإن الظنون

متضاربة في شأنه، ويعلم كل عاقل يعرف التاريخ أن الاعتقاد بالمهدي المنتظر قد

جرَّ على المسلمين شقاء طويلاً وأخذهم أخذًا وبيلاً، وسفك منهم دماء غزيرة، وقد

نوَّهنا بهذا في (المنار) من قبل، وسنفصل القول فيه تفصيلاً في فرصة أخرى.

ودونكم الآن يا معاشر القرَّاء المنشور الأول من الكتاب وهو بنصه:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم، وبعد،

فمن العبد المفتقر إلى الله محمد المهدي بن عبد الله إلى أحبابه في الله، المؤمنين بالله

وبكتابه، لا يخفى على عزيز علمكم فناء الدنيا، وإن من تجرد لله قصدًا، وصدق

في دينه وامتثل لأمرالله لا يلاحظ جاهًا ولا مالاً، لأن من كان بالله ولله لا ينظر

إلى ذلك ، فإذا نظر إلى ذلك حجب عن الله، وطرد من حضرته، وأوقعه الله في نار

الهموم والأتعاب، ولعذاب الآخرة أشد، ومن خرج عن الجاه والمال لله عوَّضه الله

خيرًا منه، وكان مقربًا عند الله، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ آمَنُوا

وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ

وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} (المائدة:

65-

66) المعلوم أن من كان لله كان الله له، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنك

لن تجد فقد شيء تركته لله أي لم تجد له ألمًا ولا همًّا، وقد فتح الله بالأنبياء باب

الاقتداء، فسليمان عليه السلام لمَّا شغلته الخيول عن الله أقبل يقطع سوقها ورقابها،

وتجرد منها لله، فعوَّضه الله الريح غدوّها شهر ورواحها شهر، ونبينا محمد صلى

الله عليه وسلم لمَّا خرج من أهله وهاجر دياره، عوَّضه الله ما لا يخفى والصحابة

كذلك، وهلم جرًا إلى غير ذلك من الأنبياء والصالحين، فيا أيها الأحباب إن هذا

الزمان معلوم الحال ، والطباع يسرق بعضها بعضًا، ولامخلص عنها إلا بالهجرة،

وفي ذلك ما لا يخفي من الأدلة كتابًا وسنة، وقد أمرني سيد الوجود صلى الله عليه

وسلم بمكاتبة المسلمين ودعوتهم إلى الهجرة معنا إلى محل يكون فيه قوام الدين،

وإصلاح أمر الدارين، ومثلكم لازم أن يحث على هذا الأمر، ويكون من أول

المقومين والتابعين، ومعاذ الله أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا

الأمر لا شك فيه، فمن صدق به واتبعه كان من المقربين، ومن كذب وصدَّ عنه

فعليه إثمه وإثم من اتبعه، فإن مات قبل ظهوره فيعاقبه الله على ترك الأمر وصد

من يهاجر في سبيل الله ورسوله لتقويم السنة النبوية، ومعلوم أن من لم يتبع هذا

الأمر يخذل في الدارين، وذلك بإشارة أعلمني بها سيد الوجود صلى الله عليه وسلم

وعلى الحضرات التي أيدني بالمهدية فيها صلى الله عليه وسلم، شهد جمع من

الفقراء الأتقياء الذين لا يُعبأ بهم، ومقامهم عند الله ورسوله لا يخفى، وهم أغبط

الأولياء عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأحبهم إلى الله، ولو أقسم أحدهم

على الله لأبره كما ورد، وكذلك جمع من المشايخ، ومعلوم أن الأمور تجري على

علم الله، وأن الله ينسخ ما يشاء، وعلم العباد لا يزن في علم الله نقطة بالنسبة إلى

بحار الدنيا، وله المثل الأعلى كما قال الخضر لموسى عليه السلام، ولا سيما وعلم

المهدي كعلم الساعة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت ولم يعين، وقال صلى

الله عليه وسلم: كذب الوقاتون، وفيما ذكره محي الدين بن العربي في تفسيره في

هذا المعنى كفاية، وقال الشيخ أحمد بن إدريس كذبت في المهدي أربع عشرة نسخة

من نسخ أهل الله، وقال: سيخرج من جهة لا يعرفونها، وعلى حالة ينكرونها،

وإنى لا أعلم بهذا الأمر حتى هجم عليّ من الله ورسوله من غير استحقاق لي بذلك،

فأمره مطاع، وهو يفعل ما يشاء ويختار، وحكم نبيه صلى الله عليه وسلم كحكمه،

ولما تكاثرت منه الأوامر والبشائر لي في هذا المعنى امتثلت قيامًا بأمر الله، وقد

كنت قبل ذلك ساعيًا في إحياء الدين وتقويم السنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي

العظيم، وليكن معلوم عندكم أني من نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبي

حسني من أبيه وأمه، وأمي كذلك من جهة أمها، وأبوها عباسي، ولي نسبة إلى

الحسين والله أعلم، وقد حصلت لي بشائر من سيد الوجود صلى الله عليه وسلم

بتأييد الملائكة الكرام العشرة وغيرهم، وبتأييد آلاف من الأولياء، وبضمانة

أصحابي بعد تغسيلهم من الدرن، وأنهم مائتان وأربعون ألفًا، ومثلكم تكفيه الإشارة

والتلويح فضلاً عن التصريح، ومعلوم أن المهدي واجبة طاعته على كل مسلم،

وأشار لي بمكاتبة المسلمين ودعوتهم إلى الهجرة معنا، فهي مطلوبة جدًّا، ومن

الأوامر التي لا يجوز مخالفتها، ولا يلتفت في ذلك إلى أحد، فإن اتبع الأهل فيها

وإلا فالصحابة تركوا أهلهم للهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام.

_________

ص: 561

الكاتب: محمد رشيد رضا

دروس جمعية شمس الإسلام

(6)

(أمالي دينية - الدرس السادس)

(19)

تنزيه الباري: علمنا من الدرسين السابقين أن هذا العالم ممكن، وأن

الممكن لا وجود له من ذاته؛ لأن معنى كونه ممكنًا أن وجوده وعدمه سيان في نظر

العقل، ومن ثم احتاج هذا العالم في وجوده إلي من رجح وجوده على عدمه، وأن

هذا المرجح لا بد أن يكون واجب الوجود ، وهذا هو بارئ الكون المسمى بلسان

الشرع الإسلامي (الله جل جلاله وحيث كان واجبًا فهو مباين للممكنات لا

يشبهها، ولا تشبهه في شيء ما، إذ لو شابه شيئًا منها في نحو هيئة أو لون أو

مقدار أو تحيُّز أو صفة من الصفات لكان ممكنًا مثلها ولم يكن واجبًا، وقد ثبت

بالبرهان أنه واجب، فتعين أن يكون مباينًا للممكنات بأسرها {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ

وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) .

(20)

القِدَم والأزلية: ما ذكرناه آنفًا كافٍ في اعتقاد التنزيه إجمالاً، ولكن

العلماء لا يكتفون في هذا المقام بالإجمال، ومن التفصيل الذى جروا عليه ذكر القِدَم

والبقاء، والقيام بالنفس، ومخالفة الحوادث، والوحدانية، ذكر السنوسي هذه

الأشياء وسمَّاها الصفات السلبية، وتبعه في هذا من جاء بعده، أما مخالفة الحوادث

فقد بيناها آنفًا، وأما القِدَم بمعنى الأزلية أي عدم ابتداء الوجود، فهو من لوازم

وجوب الوجود؛ لأن الواجب ما كان وجوده لذاته، وما كان كذلك لا يعقل غير موجود

ولذلك عرَّفه السنوسي بقوله: (ما لا يتصور في العقل عدمه) فالأزلية داخلة في

مفهومه، فإذا قيل مع ذلك أنه حادث لم يكن في الأزل، كان هذا القول بمعنى أنه

(واجب لا واجب) وهو تناقض محال بالضرورة 0

(21)

البقاء والأبدية: إن دخول معنى البقاء الأبديّ - أي عدم الانتهاء -

فى مفهوم الواجب أظهر من دخول معنى القدم؛ لأنه إذا كان فرض العدم في

الأزل محالاً ففرض طروئه بعد الجزم بالوجود الواجب محال بالأولى، وتكليف

العقل أن يتصور عدم ما يجزم بأنه لا يتصور عدمه تكليف بما لا يطاق، كتكليفه بأن

يتصورأن شيئًا ما موجود ومعدوم في حالة واحدة، وهو محال بالبديهة، بل إن العقل

ليكاديعجز عن تصوّر طروء العدم على الممكن 0

(22)

القيام بالنفس: فسره السنوسي بعدم الاحتياج إلى المخصص والمكان،

وهو تفسير باللازم، ومعناه الأصلي الثبوت بالذات، أي وجوب الوجود؛ لأن

القيام يطلق في اللغة بمعنى التحقق والثبوت، وقد تقدم البرهان على وجود الواجب

واستغنائه بذاته عن المرجح، وقد سمعتم آنفًا البرهان علي قدمه، ومتى كانت ذاته

قديمة فجميع ما يجب لها من صفات لا بد أن يكون قديمًا بقدمها لئلا يكون ما لا يقبل

الانتفاء (وهو الواجب) منتفيًا في وقت ما، وهو محال فثبت بهذا أنه مستغنٍ عن

المخصص والمرجح في ذاته كما هو مستغنٍ عن ذاته، وأما عدم الاحتياج إلى

المكان فلأن المكان لا يكون إلا حادثًا، والقديم يستغني بالضرورة عن الحادث، وقد

ثبت في الحديث: كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما هو عليه كان. ولأن

المستقر في مكان يجب أن يكون محدودًا بمقدار مخصوص، وذو المقدار لا يكون

إلا حادثًا لأن المقادير لا نهاية لها، فيحتاج صاحبها إلى مرجح يرجح له مقداره على

سائر المقادير الأخرى كما هو ظاهر، وأما الزمان فهو أمر وهمي كما يؤخذ من

كلام الشيخ الأشعري فلا حاجة لنفيه 0

(23)

الوحدة ونفي التركيب: قلنا: إن واجب الوجود لا يحويه مكان؛ لأن

التحيز عليه محال، ومن لوازم هذا أن لا يكون مركبًا من أجزاء، والبرهان على

هذا أنه لو كان له أجزاء لكان كل جزء منها متقدمًا في الوجود علي مجموع الذات؛

لأن الجزء مقدم على الكل طبعًا، فيلزم أن يكون مجموع الذات حادثًا؛ لأنه مسبوق

بوجود الأجزاء والمسبوق بالوجود لا يكون إلا حادثًًا، وأيضًا يكون وجوده تابعًا

لوجود أجزائه، وتقدم أن الواجب ما كان له الوجود لذاته، وأنه لا بد أن يكون قديمًا،

أما كون الواجب لا يكون إلا واحدًا، فسيأتي برهانه في درس آخر إن شاء الله

تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 563

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌فائدة الانتقاد

لايخفى على عاقل أن الانتقاد ذريعة الكمال، فإن الإنسان لإفراطه في حب

نفسه يعمى عن كثير من عيوبها مهما كان معتنيًا بتهذيبها وتكميلها، ولذلك يود

العقلاء والفضلاء أن يُنتَقدوا من أهل النظر الصحيح ليظهر لهم تقصيرهم فيجتنبوه،

بل عد بعضهم أن للأعداء فائدة؛ لأنهم يبحثون عن العيوب الخفية فيظهرونها،

فينزع عنها صاحبها، فقال قائلهم:

عداتي لهم فضل عليّ ومنة

فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا

هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها

وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا

والانتقاد نصيحة وذكرى، وفي الحديث الصحيح: الدين النصيحة. وقال عز

وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) وليس من

غرضنا أن نذكر ههنا فوائد الانتقاد والانتفاع بالذكرى تفصيلاً، وإنما نريد أن نجعل

هذه الكلمات مقدمة للثناء على حضرة الشاب الأديب الشيخ حسين الجمل الأزهري

حيث أحلَّ انتقادنا على قصيدته محل القبول وانتفع بالذكرى وكتب إلينا في ذلك

ما نصه:

حضرة الفاضل صاحب جريدة (المنار) الأغر:

إني أشكر لحضرتكم أن شرفتم قصيدتي بالتنويه عنها في مناركم السَّامي،

وعنايتكم بذكر اسمي، وإن سقط الاسم في الطبع، كما أشكر لكم انتقادكم على ما فى

القصيدة من ذكر النساء بالحالة التي يخرجن عليها، فإن انتقادكم أرقى مما تخيله

فكري من أن السامعين إذا طرق آذانهم وصف حالة النساء حين يخرجن بأنواع الحلي

والزينة أخذتهم الغيرة من ذلك، وهبوا إلى منعهن عن الخروج، وعلى الأقل عن

التبرج بالزينة حين الخروج، وفاتني أن التحذير إغراء، وأن ذلك الوصف

مشوق.

فأقدم لحضرتكم أجل الشكر حيث جعلتموني موضع العناية بانتقادكم عليّ، فإن

الانتقاد أصل من أصول الإرشاد، وأرجوكم أن تنشروا عني هذا؛ ليُعلم أن الانتقاد

إن صادف المحز قبله المنتقد بالارتياح والشكر، فلا زال مناركم الشامخ مشرقًا

لسطوع أنوار الرشاد من خلال سطور الانتقاد.

...

...

...

...

حسين محمد الجمل

وليس الشيخ حسين بأولى من حضرة الشيخ زكي الدين سند رئيس جمعية

(مكارم الأخلاق) بقبول النصيحة والانتفاع بالذكرى، فعسى أن يكون أقلع عن تلك

الأوصاف والنعوت التي كان يتمادى فيها بذكر أوصاف الراقصات والمسافحات،

والله الموفق.

_________

ص: 566

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌قليل من الحقائق عن تركيا

في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

(التعليم العالي)

مدارس التعليم العالي في أوروبا وهي المسماة بالمدارس الجامعة تشتمل علي

خمسة أقسام، في كل منها قسم للتعليم الاختياري، وهذه الأقسام هي: قسم آداب

اللغة، وقسم العلوم الرياضية والطبيعية، وقسم الطب، وقسم الحقوق، وقسم العلوم

الإلهية، أما المدرسة الجامعة العثمانية فليس فيها قسم لعلم الطب محتوٍ علي قسم

آخر للتعليم الاختياري، وذلك لوجود مدرسة طبية وافية بالحاجة التي تطلب من هذا

الفرع من العلم، إدارتها مستقلة عن المدارس الأخرى، وهي تابعة لنظارة الحربية،

أما إيجاد مدرسة جامعة للإلهيات وقسم فيها للتعليم الاختياري، فقد حالت دونه

صعوبات كثيرة، فإنه كان يستلزم بلا شك إنشاء أقسام متعددة فيها بقدر عدد

الطوائف المختلفي الديانات، الموجودين في المملكة العثمانية، وفوق ذلك فإن مثل

هذه الأقسام يكون إنشاؤها من العبث؛ لأن كل طائفة من هذه الطوائف تقوم من نفسها

بما يلزم لتعليم دينها تبعًا لدرجة معارفها، إذ أنهم في ذلك لهم الحرية التامة.

يبقى من الأقسام الخمسة قسم الحقوق، وقسم آداب اللغة، وقسم العلوم

الرياضية والطبيعية، وهذه الأقسام يقوم مقامها في تركيا مدرسة الحقوق

ومدرسة الإنشاء واللغة، ومدرسة المهندسين.

(1)

أما مدرسة الحقوق المعبر عنها بمكتب الحقوق، فقد تأسست في عهد

جلوس جلالة السلطان عبد الحميد علي أريكة الملك، وذلك بجعل دروس الحقوق

الابتدائية ومبادئ علم الاقتصاد السياسي التي كانت تلقى في كلية سراي غلطة عامة ،

وفي سنة 1882م جدد ترتيب هذه المدرسة بأكمله ترتيبًا بني على قواعد ثابتة،

فجعلت مدة الدراسة فيها أربع سنين، ومواد التعليم فيها أصبحت تشتمل علي

القانون العثماني (المجلة) والفقه والقانون الروماني، أو القانون المدني،

والنظامات الرومانية من الوجهة التاريخية، وقانون التجارة العثماني، وقانون

المرافعات في المواد المدنية والتجارية، وقانون العقوبات والمرافعات الجنائية،

والقانون الإداري، وعلم الاقتصاد السياسي.

(2)

ومدرسة الإنشاء واللغة المسماة (بمكتب الأدبيات العالية)

يعلم فيها هذه الدروس، وهي: إنشاء اللغات العربية واليونانية واللاتينية،

والمنطق والحكمة، وعلم الآثار القديمة، والتاريخ العام، وحكمة التاريخ.

(3)

ومدرسة المهندسين المسماة بمكتب طرق المعابر التي كانت

من قبل ملحقة بكلية سراي غلطة باسم مدرسة المهندسين الملكية (مكتب

المهندسين الملكي) قد فصلت من هذه الكلية في أول سنة لجلوس جلالة

السلطان على كرسي الخلافة، وصارت على ما هي عليه الآن، ومدة

التعليم فيها أربع سنين، كما في بقية الأقسام.

من المدارس الخصوصية يلزم أن تميز المدارس التي تتعلق بنظارة المعارف،

وتكون هي والمدرسة الجامعة معاهد للتعليم العالي للحكومة، والمدارس

الخصوصية في الحقيقة متعلقة بالنظارات المختلفة، فالأولى منها عددها ستة:

مدرسة الطب الملكية (مكتب الطب الملكي) في إستامبول التي فصلت منذ

سنة 1882م من مدرسة الطب الشاهانية، وجعلت تابعة لنظارة المعارف العمومية،

التلامذة الذين يتخرجون من هذه المدرسة حائزين لشهادة دكتور، لهم الحق في نوال

الرتبة الثالثة، وفي التوظف بوظيفة طبيب في الدوائر البلدية 0

ثم إذا احتاجت نظارة الحربية والبحرية لأطباء آخرين غير المتخرجين من

المدارس التابعة لها وجب عليها أن تأخذ من متخرجي هذه المدرسة بالأولوية.

ثانيًا وثالثًا ورابعًا مدارس المعلمين الثلاث، وهي دار معلمي الصبيان، ومنها

يخرج معلمو المدارس الابتدائية الدنيا، ودار المعلمين الرشدية، وفيها يتخرج معلمو

المدارس الابتدائية العليا ودار المعلمات التي يتخرج منها البنات المعدات لوظيفة

التعليم.

خامسًا مدارس الألسن التي أسست بإرادة سنية أصدرتها جلالة السلطان عبد

الحميد في شهر أكتوبر سنة 1883م لتخريج مأموري ومستخدمي الباب العالي

ونظارة الخارجية الذين لم يتجاوز سنهم الخامسة والعشرين، ومدة التعليم فيها خمس

سنين يتعلم الطالب فيها نحو اللغة الفرنساوية، وفن التزام طبع الكتب والجرائد

باللغة الفرنساوية، والترجمة من التركية إلى الفرنساوية، وبالعكس، واللغات

التركية والعربية والفرنساوية وتعليم هذه الثلاث إجباري، ثم اللغات اليونانية

والأرمنية والأنكليزية والألمانية والروسية، وتعليمها اختياري.

مستخدمو مصالح الحكومة والإدارة العمومية هم الذين لهم الحق دون غيرهم

في دخول هذه المدارس، بل إن للطلبة من الأجانب أن يدخلوها أيضًا إذا دفعوا

خمسة وعشرين جنيهًا مجيديًّا في السنة، والشهادات التي تعطى من المدرسة

المذكورة تخول حاملها حق التوظف في مصالح الحكومة المختلفة، وفي أقلام

الترجمة.

سادسًا مدرسة الفنون الجميلة التي أسسها جلالة السلطان عبد الحميد في سنة

1883م في كلخانة (إستامبول) بجانب المتحف الملوكي العثماني التابعة لإدارته،

وهي تحتوي على جملة أقسام أحدها لتعليم فن التصوير اللوني، والثاني لفن

التصوير المادي، والثالث لفن النقش علي المعادن والأحجار، والرابع لفن العمارة،

وإدارة هذه المدرسة هي على مثال إدارة مدرسة الفنون الجميلة في باريس من

الوجهة النظرية علي الأقل.

قد كانت المملكة العثمانية فيما سبق تزهو بفنونها، لكنها وإن كانت دائمًا قادرة

علي مباراة الغرب بآدابها وعلومها التي هي مساوية له فيها إلا أنها ليس حالها كذلك

الآن من حيث الفنون الجميلة، فقد كانت العمارة والتصوير المادي والتصوير اللوني

سقطت في هاوية التلاشي، أولئك المعامير المهرة الذين ندين لهم برفعهم القواعد من

جامع السليمانية وجامع السلطان أحمد والجامع الجديد، وغيرها التي تباهي

وتفاخر أعظم الأبنية والآثار في أوروبا، وأولئك المصورون الماديون الذين أبدعوا

بمآحيهم كل الأشكال الغريبة التي كأنها أساور حجرية، وأولئك المصورون بالألوان

الذين زينوا الأواني الصينية بالصور البديعة، وحلوا السقوف بتلك الأشكال الجميلة

التي يهتز لها الأجانب عجبًا واستحسانًا، جميعهم ذهبوا في بطون الأرض، ولم

يتركوا أثرًا من حياتهم فيمن خلفهم، قد ابتدأت تركيا من اليوم الذي رقى فيه جلالة

السلطان عبد الحميد عرش المملكة أن تتحرك من خمودها الصناعي، وتنفض عن

نفسها غبار الكسل في تعاطي الفنون، كانت جميع الآثار القديمة التي تكتشف في

الأرض العثمانية ترسل فيما سبق إلى البلاد الأجنبية لتكون زينة لمتاحف أوروبا،

وبهذه الواسطة يتحلى الآن متحف برلين بالأثر الجليل المسمى جيجانتوماخيا،

ويتحلى متحفا لوندره وباريس بآثار مدينة نينوى، أما الآن فقد انكفت أيدي السارقين

عن الحكومة العثمانية، فلم يبق في وسعهم أن يسرقوا ما هو ملك حلال لها وأصبح

متحف القسطنطينية جديرًا باسمه يبعث زائريه على الإعجاب بما يحويه من النفائس

كقبر إسكندر الأكبر الذي اكتشف في صيدا من خمس سنين، وهو قبر لا مثيل له.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 567

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌طائفة من الأخبار

شرف بهذا اليوم بالعز والإجلال الساعة أربعة بعد الظهر على الطائر الميمون

للعاصمة سمو أميرنا العباس عائدًا من بور سعيد باليُمن والإقبال والمهابة والكمال ،

حيث شرف الاحتفال بإقامة تمثال دولسبس مؤسس القنال، وقد كان الاحتفال بقدومه

في محطة مصر وسائر المحطات التي مر عليها جنابه السامي بالغًا حد الغاية، ولما

حل ركابه الكريم في محطة مصر أطلق له واحد وعشرون مدفعًا، ثم سار بين

صفوف الجند والناس إلى سراي عابدين العامرة، حيث استراح هنيهة وعاد إلى

سراي القبة العامرة محفوظًا بالهيبة والجلال.

***

نهار أمس الواقع 17 نوفمبر سنة 1899م تم الاحتفال ببورسعيد بكشف الستار

عن تمثال فردينان دولسبس فاتح ترعة السويس برئاسة سمو الخديوي العزيز،

وحضور آلاف من الناس، ومعظمهم من مدعوي الفرنساويين والإنكليز الذين

حضروا من أوروبا على باخرة مخصوصة؛ لأجل الاحتفال بذلك التمثال الذي أقامته

الشركة على ضفاف الترعة ببور سعيد تذكارًا لفاتحها العظيم في أول حياته، الساقط

من حالق مجده في شيخوخته بسبب إخفاق مسعاه في ترعة بناما، وما أضاع فيها

من الأموال العظيمة دون وصوله إلى فتحها، كما فتح ترعة السويس التي ساعدته

فيها أموال مصر ورجالها، وليست أمريكا كمصر، ولا يستوي القوي والضعيف.

وكان شروعه في حفر هذه الترعة في 25 أبريل 1859م بعد استحصاله على

امتياز من المرحوم سعيد باشا خديوي مصر يومئذ مؤرخ في 5 يناير سنة 1856م

وذلك أيضًا بعد تصديق الباب العالي عليه عقب أمور ومخابرات حصلت وقتئذ بين

الباب العالي وحكومتي فرنسا وإنكلترا وخديوي مصر، وهي أمور يطول شرحها،

وكفى بأنها أفضت إلى ما كان يحذره يومئذ على مصر كثير من رجال الآستانة العلية

من احتلال دولة أجنبية في هذا القطر، وقد حصل وسقط بيد الإنكليز الذين كانوا من أشد المقاومين لحفر هذه الترعة المحذرين للدولة عاقبة الأمر، وما تغني النذر.

وقد نشرت جريدة الأهرام الغرَّاء بقلم سعادة صاحبها ملخصًا عن كيفية

الاحتفال، أحببنا نقله لحضرات القراء وهو:

بَرَحنا القاهرة الساعة الحادية عشرة على قطار خاص أعدته شركة القنال

لمدعويها، فوصلنا هذه المدينة الساعة الخامسة مساءً، وقد شهدنا جميع المحطات

مزدانة بالرياحين والرايات المصرية احتفالاً بمرور سمو الأمير المحبوب، ولو

جعلت شركة القنال السفر من مصر الساعة التاسعة، ومن بورسعيد الساعة الحادية

عشرة غدًا لكان رأيها أصوب، وقد رأينا من النظام في محطة هذا الثغر وفي سائر

المدينة ما دل على شدة اهتمام سعادة محافظها النشيط الفاضل، أما الجناب الخديوي

فقد شرف البلدة الساعة الثامنة مساءً أمس، وكان في خدمة سموه من الإسماعيلية

حضرة المحافظ الذي نال من جنابه العالي كل رعاية، وقد قوبل سموه بمظاهر

الاحتفال والاحتفاء اللذين لا مزيد عليهما، وكان ينتظر تشريفه جميع أهل المدينة

وفي مقدمتهم حضرات النظار ورؤساء شركة القنال، وكان حلوله الشريف في يخته

المحروسة، وفي الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم (السابع عشر) حضر

المدعوون مئات وألوفًا إلى مدخل البوغاز حيث أقيم تمثال المرحوم دي لسبس، وقد

ذكَّرنا هذا الموقف احتفال صاحب التمثال بفتح البوغاز من ثلاثين سنة في مثل هذا

اليوم، كما ذكَّرنا الاحتفال الذي دعا إليه إسماعيل باشا ملوك أوربا وقياصرتها

وأمرائها وعشرات الألوف من الأجانب والوطنيين، أما اليوم فأصحاب الدعوة هم

أصحاب أسهم القنال المتمولون وأرباب الأموال ملوك هذا العصر، ومما أذكرنا إياه

هذا اليوم أيضًا ما كانت عليه مصر من استقلال إدارتها وسلامة حقوقها الأهلية حين

ضافها ملوك أوربا وأمراؤها، وما وصلت إليه الآن حيث لا يضيفها الأجنبي، بل

يمتلك ناصيتها إدارة وسياسة ومالاً ، وقد كان في ساحة الاحتفال نحو خمسة آلاف

نفس وحواليه مثلها من سكان المدينة، وفي مقدمة المدعوين حضرات مختار باشا

والأمراء والقناصل، وكبار الموظفين والأعيان، وعند الساعة التاسعة أطلقت

المدافع تبشيرًا بتشريف سمو الخديوي، فقابله أعضاء شركة القنال، وفي مقدمتهم

حضرة البرنس دارنبرغ الذي شكر لسموه تنازله لتشريف الحفلة، فصافحه سموه

وسائر الأعضاء، ثم تلا خطابًا مختصرًا ولكنه آية بالبلاغة، وقال فيه: إن

صاحب هذا التمثال حقق ماعدَّه غيرُه أحلامًا، ففتح البوغاز، ووصل البحرين

الأبيض والأحمر، ووسع نطاق الحضارة والتجارة، وقرب بين الشرق والغرب،

وفتح بابًا رحيبًا للمصالح العامة العظيمة، فاستحق ثناء الإنسانية والمدنية، ثم قال

أيده الله: وإني أشكر لحضرات رجال الشركة إقامة هذا التمثال، كما أشكر لهم

دعوتهم إياي لرفع الستار عنه، فصفق الحضور تصفيقًا شديدًا مكررًا ورفع الستار

بين التهليل وضجيج الاستحسان، فانبرى البرنس دارنبرج رئيس مجلس إدارة

الترعة، وأثنى على سموه لتنازله وتشريفه الحفلة جريًا بذلك على خطة أجداده

الكرام، وتكميلاً لما لهم من الأيادي البيضاء على أعظم مشروع قام به الناس في

سبيل الحضارة والاقتصاد والعلم والمدنية، وقال: إن هذا القنال الحافظ لمصالح

أوروبا والشرق سيكون أبدًا دوليًّا؛ لكثرة اشتراك المرافق الأوربية فيه، وإن مصر

هي الحارسة له، وختم خطابه المرتجل بمدح سموه وتكرار الحمد لتشريفه، فقوبل

كلامه بالتصفيق والاستحسان، وعندما انتهى من هذه الكلمات الموجزة استأنف

الكلام وألقى في نحو ثلاثة أرباع الساعة خطبة شرح فيها تاريخ المشروع، وأبان ما

كان للخديويين أجمع من الفضل فيه، وعدد مناقب دي لسبس، فقال: إنه كان ثابتًا

في رأيه، حازمًا في إنفاذه، مُجِدًّا في تحقيقه، ووصف تغلبه على جميع المصاعب

التي قامت دونه في إنكلترا وغيرها حتى اضطر إنكلترا أن تكون معضدة للقنال بعد

إتمامه بقدر ما كانت تعارضه قبل ذلك، وهنا توسع في ذكر الحوادث التي طرأت

على صاحب التمثال في مسألة بناما، وقال: إن هذا القنال نفسه سيفتتح يومًا،

وهذا اليوم قريب، فتكون لدلسبس عائدة الفضل في أحداث القنالين، وأثبت أنه لم

يخطئ بما فعله في بناما، ولكن الحوادث غلبت عزيمته، ثم امتدح شارل دي

لسبس لاشتراكه مع والده في المشروع، وكان لهذه الخطبة أحسن وقع فصفق له

كثيرًا، ثم خطب الكونت دي فوكيه العضو في المجمع العلمي والفيلسوف الشهير

خطابًا فلسفيَّا تاريخيَّا، أظهر به مجد دي لسبس كمؤرخ وجغرافي، وسياسي

واقتصادي، واستمر في خطابه نصف ساعة يتكلم ببلاغة وفصاحة تشهدان بعلمه

وبفضله، وكان آخر من تكلم في الجمع حضرة المسيو شارل دي لسبس، فشكر

سمو الخديوي لحضوره وقال: إن والده لم يكن إلا منفذ إرادة أجداده الذين مرجع

الفضل إليهم في أعظم مشروع تمّ في القرن التاسع عشر، ثم شكرلأعضاء مجلس

الشركة قيامهم بهذا الاحتفال، وأثنى على الحضور، ثم نزل عن منبر الخطابة بين

الاستحسان العام، وعند منتصف الساعة العاشرة انتهت الحفلة، فودع الخديوي

بالإجلال والتعظيم.

***

مساء الخميس الماضي ورد تلغراف من مرسليا يبشر بقيام صاحبة العفة

والعصمة دولتلو البرنسس نظله هانم كريمة المرحوم مصطفى فاضل باشا قادمة من

البلاد المغربية، حيث قابلت مولاي عبد العزيز حاكم المغرب الأقصى، ولقيت منه

كل حفاوة وإكرام لائقين بمقامها العالي.

وقد توجه بهذا اليوم للإسكندرية عزتلو عثمان بك عبد الحميد العبادي

وصحبته رجال دائرة البرنسس المشار إليها؛ لأجل استقبال ذاتها الكريمة، ولقد

علمنا أنه قد كان لتشريف المومأ إليها لبلاد المغرب حسن الوقع عند الحاكم المشار

إليه ورجال دولته، وعموم سفراء الدول الفخيمة، والحق يقال إنها لأميرة يفتخر

بها، وهي أول أميرة مسلمة شرقية زارت تلك البلاد، ولقد اتصل بنا أيضًا أن

دولتها لما وصلت إلى البلاد الأسبانية وعاينت ثمة آثار الأندلس العربية الإسلامية

تحركت عندها عواطف الأسف على تلك الأمة العظيمة، فلم تتمالك أن استرسلت في

البكاء، وأنشدت أبياتًا ترثي بها تلك الأطلال وأهليها، متى وقفنا على الأبيات

نزين بهم صفحات المجلة، إن شاء الله.

***

نشرت جريدة (أقدام) التركية الغرَّاء مقالة مسهبة عن أحوال الأفغان بإزاء

الروسية والإنكليز، وتكلمت عما وصلت إليه هذه الإمارة من القوة والاستعداد لكل

طارئ يطرأ عليها، أو مهاجم يحاول مس استقلالها، ومما قالته بهذا الصدد: إن

قوة الأفغان العسكرية قد بلغت أقصى درجات الكمال بحيث إن المعامل التي أنشأها

الأمير عبد الرحمن لعمل السلاح هناك أصبحت تصنع أجود أنواع السلاح المستعمل

عند الدول الأوربية، كمدافع كروب، ومكسيم من آخر طرز، وبنادق موزر،

ومارتين كذلك، وغير ذلك من الآلات النارية المجربة، وإن لدى هذا الأمير جيشًا

عاملاً على أحسن نظام وترتيب يبلغ عدده 500 ألف مقاتل يمكن أن يزاد وقت

الحاجة إلى مليون ونصف، وإن ذلك الأمير الجليل دائب في تعزيز المعاقل

والحصون، وتشييد القلاع على حدود بلاده مما يلي تركستان والهند

وبينما كنا نقرأ هذه الأسطر في تلك الجريدة إذ جاءنا في برقيات (روتر) أن

جريدة (التيمس) علمت من أخبار بطرسبرج أن الاستعداد الأخير في روسيا يراد

به الزحف على (هرات) بحجة القلاقل والفتن التي تتوقع عند وفاة أمير أفغانستان،

وأن الحكومة الروسية أتمت السكة الحديدية بين مرو وكشك وأقامت الحصون

والمعاقل المنيعة في كشك وكمبرلي وجعلت هناك عدة فرق من الجيش الروسي

و15 مدفعًا، وأن في كشك الآن كل ما يلزم لإيصال السكة الحديدية إلى هرات حتى

العربات اللازمة لنقل المدافع.

هذا، وظاهر أن روسيا تغتنم فرصة اشتغال إنكلترا بحرب الترنسفال في هذا

الأمر، فإنها هي تتنازع معها النفوذ في تلك البلاد، بل إن غرض روسيا من

الزحف على أفغانستان ما وراءها وهوالهند ، والبلاد الأفغانية مجنّ أمام وجه الهند

بالنسبة لروسيا فلا يتسنى لها إصابتها إلا بعد سقوط المجنّ أو كسره، وما سَاسَ

إمارة أفغانستان أحدٌ كالأمير عبد الرحمن فإنه بدهائه وحزمه أمكنه أن يحفظ استقلال

بلاده وكرامتها بين روسيا وإنكلترا، وهما أقوى دول الأرض وأدهاها، وإن البلاد

التي تحفظ برجل قد تذهب بذهابه، ولقد اجتهد الأمير عبد الرحمن بالقوة الحربية

والسياسية، ولكنه قصر بترقية المعارف، ولم ينظم في بلاده حكومة شوروية تأمن

بها بعده الثورات والفتن التي هي من سجايا أهل تلك البلاد، ومَن لنا بمَن ينادي

بصوت جهوريّ بين ظهراني تلك الأمة أن أدنى مظهر من مظاهر الافتراق

واختلاف الكلمة بعد وفاة أميرها الجليل يؤدي إلى ضعف قوتها القائمة الآن باجتماع

الكلمة، ومتى ضعفت تلك القوة هان على الروس تدويخ بلاده وسلب استقلالها،

وربما أدى ذلك إلى اقتسام المملكة الأفغانية بين الدولتين الروسية والانكليزية،

فنسأل الله تعالى السلامة لهذه المملكة الأفغانية ولسائر الممالك الإسلامية، آمين.

***

أنبأتنا جرائد سورية عن وصول وفد علمي من الآستانة العلية إلى دمشق

مؤلف من تسعة أشخاص من العلماء بقصد إرسالهم إلى لواء الكرك ومعان؛ ليبثوا

بين العربان الضاربين في تلك الأنحاء مبادئ الدين، ويرشدوهم إلى سبيل السعادة،

وهي مأثرة جميلة من مآثر مولانا أمير المؤمنين - أيد الله دولته وأبد صولته -

وحبذا لو أن جلالته أصدر إرادته السنية بانتخاب هؤلاء العلماء ممن يتكلمون

بالعربية ليتمكنوا من إرشاد هؤلاء الأعراب بلسانهم ولغتهم، إذ إن الفائدة المنتظرة

من وراء هذا الفكر الجليل لا يمكن الحصول عليها إلا بواسطة أناس يتكلمون باللغة

العربية، بل ويعرفون ولو قليلاً من أحوال وأخلاق أولئك الأعراب؛ ليطمئنوا إليهم

ويسترشدوا بنصائحهم، وإنا لنعلم من أخلاق بعضهم النفور الشديد عن الاطمئنان

إلى أهل الحضر، ولو كانوا من أهل لغتهم، فكيف يكون حالهم مع من هو غريب

عنها، على أنه قد أدرك هذا الأمر دولة ناظم باشا والي سورية الهمام، ورفع

ملاحظته بشأنه إلى المرجع الأعلى، كما نقلت إلينا ذلك جريدة الثمرات الغراء،

فعسى أن تحل ملاحظته محل القبول، فلا تذهب الأموال التي ستصرف في هذا

السبيل أدراج الرياح.

وأما ما يشيعه بعضهم بشأن هذا الوفد، وأنه أرسل ممن يتكلمون بالتركية

بإيعاز مخصوص من بعض المقربين الذين جعلوا دأبهم الإيهام والتغرير لزيادة

التقرب، ونوال الزلفى من مولانا أمير المؤمنين، فلم نقف له على حقيقة، ولم يأتنا

شيء عنه من مكاتبنا في دار السعادة، وسواء صح هذا الخبر أو لم يصح، فنحن

نرفع إلى الله أكف الضراعة والابتهال أن يمد مولانا أمير المؤمنين بروح القوة في

إصلاح حال الأمة، ويسدد أعمال رجاله الكرام، ووزرائه العظام، إنه على ما

يشاء قدير.

_________

ص: 570

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عزاء

نقدم التعزية إلى أمير الأمراء وسيد النبلاء سيدي محمد الجلولي وزير القلم

والاستشارة في حاضرة تونس بوفاة نجله الأصيل النبيل السيد المختار تغمده الله

تعالى بالرحمة والرضوان، وألهم والده الصبر الجميل على هذا الرزء العظيم، والله

مع الصابرين 0

_________

ص: 592

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقرير مفتي الديار المصرية

في إصلاح المحاكم الشرعية

يعلم القرَّاء أن الحكومة عهدت إلى فضيلة الأستاذ الكبير، والعلَم الشهير الشيخ

محمد عبده مفتي الديار المصرية بأن يضع تقريرًا فيما يراه من طريقة إصلاح

المحاكم الشرعية؛ لما تعهد في فضيلته من كمال العلم والدراية بأحكام الشرع الشريف

وحسن الإدارة والنظام، وأن الأستاذ ابتدأ باختبار المحاكم، واكتِناه شؤونها، فطاف

على محاكم الوجه البحري وفتشها بالتدقيق حتى أحاط بها خُبرًا، وزار المحكمة

الشرعية الكبرى في العاصمة وعرف أحوالها، ثم وضع تقريره قبل الطواف على

محاكم الوجه القبلي الذي هو عازم عليه؛ لأن وضع القواعد العامة للإصلاح لا

يتوقف على الاستقراء التام، وقد جاء هذا التقرير كافيًا بالغرض منه، وافيًا بما

وضع لأجله، لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، وهو مبتدأ بمقدمة في وظيفة

المحاكم الشرعية واختصاصها، وما لأعمالها من التأثير في الهيئة الاجتماعية،

والتربية القومية، وفي حالتها الآن، وبعدها كلام مفصل أحسن تفصيل عن الكتَبة

والقضاة والحُجَّاب والدفاتر، وسائر الأعمال، مبين فيه طرق الخلل مع بيان

المخرج منها، ومن أهم ما جاء فيه- أو أهمّه- بيان أن كمال الإصلاح يتوقف

على عدم التقيد بمذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في سائر الجزئيات؛

لأن اختلاف الفقهاء لا يكون رحمة إلا إذا أخذت الأمة من مجموع أقوالهم

مايوافق مصلحتها العامة، وسنبين هذا وما اشتبه منه على بعض الجرائد بالأدلة

والبراهين، وبمثل هذا كان إصلاح التقرير إسلاميًّا عامًّا لا مخصوصًا بالمحاكم،

وإننا ننشره تباعًا لما فيه من الحكم والفوائد، ولما نعلم من شغف القرَّاء بالوقوف

عليه وهو:

...

... (المقدمة)

تدخل المحاكم الشرعية بين الرجل وزوجته، والوالد وولده، والأخ وأخيه،

والوصي ومحجوره، وما من حق من حقوق القرابة القريبة والبعيدة إلا ولها سلطان

السيطرة عليه والقضاء فيه، وإنها لتنظر من ذلك في أدق الشؤون وأخفاها، ويسمع

قاضيها ما لا يُسمح لأحد سواه أن يسمعه سوى مايكون من الزوج لزوجته، أو

الزوجة لزوجها، فكما أنها هياكل عدل هي كذلك مستودع ، سر وأي سر! !

فمنزلتها من نظام الأسر (العائلات) تلي منزلة المحبة وروابط القرابة، فإذا

تراخت تلك الروابط، ومرضت المروءات تعلَّق حفظ نظام البيوت بالمحاكم

الشرعية.

وللشريعة الإسلامية في ذلك دقائق لا يسهل الالتفات إليها إلا على

من أحاط علمًا بكليات أحكامها، ووقف بالبحث الصحيح على مقاصدها، ووصل إلى

أدق معانيها، وكان من العلم بلغتها في منزلة يعرفها له أربابها، ولن يكون الرجل

كذلك حتى يأخذ الشرع من أهله، وتكون تربيته على السنة الدينية الصحيحة، ثم لا

يكون القاضي حافظ نظام الأسر والبيوت بعد الإحاطة بأحكام الشرع حتى يكون

للشرع وأحكامه سلطان - أي سلطان- على نفسه.

ترى أغلب أهل الطبقة الدنيا وعددًا غير قليل من أهل الطبقتين الوسطى

والعليا قد ودَّعوا عواطف الصهر والقرابة، ولجأوا في علائقهم البيتية إلى المحاكم

الشرعية، فمن النفقة والسكنى، وراحة الزوجة من منازعة أهل الزوج، ومن مؤنة

وقيام بشؤون الأولاد وتربيتهم إلى سن معلوم، ومايلزم لذلك كله مرجعه الآن إلى

المحاكم الشرعية عند من ذكرنا، ولا يخفى أن الشعب إنما هو مؤلف من البيوت

التي تسمى عائلات، وأساس كل أمة عائلاتها، لضرورة أن الكل إنما يقوم بأجزائه،

ولما تعلقت مصالح البيوت في أدق روابطها بالمحاكم الشرعية، كما هو الواقع

اليوم تبين مقدار حاجة الأمة في صلاحها إلى صلاح هذه المحاكم وظهر أن منزلتها

من بناء الحكومة المصرية منزلة الركن الذي لو ضعف ظهر أثر ضعفه في البنية

بتمامها.

إذا ظهرت هذه المحاكم في مظهرها الديني، وسارت سيرتها الشرعية القويمة،

أدخلت أصول النظام في أصغر البيوت، فضلاً عن أعلاها، وأعادت بالعدالة

الأبوية ما فقده الناس من نظام الألفة، وقد رأينا أن الرجل يدخل المحاكم الأهلية

مخاصمًا فيخرج منها محاميًا، فأحرى بمن يقوم بين يدي قاضٍ ينطق بالعدل الإلهي

أن ينقلب وفي نفسه أثر من خشيته.

للمحاكم الشرعية- بعد ما تقدم- نظر في حقوق الميراث وأصول الأوقاف

والاستحقاق فيها وإليها وحدها الفصل في ذلك، والمخاصمات في هذه الطائفة من

الشؤون ليس عددها بقليل، وكم رأينا من قضايا أُوقف النظر فيها أمام المحاكم

الأهلية حتى يقضي الحاكم الشرعي فيما بُني عليه الحق المتنازع فيه، هذا إلى

ماعُهد إلى تلك المحاكم من تحرير العقود الرسمية في كل باب من أبواب المعاملات

ولا تزال ثقة الناس بها أشد من ثقتهم بالمحاكم المختلطة، ويعدون التسجيل في أقلام

كتاب المختلطة ضربًا من التساهل يأتيه من لا يريد بناء أمره على أساس متين.

مهما همَّ قوم بتضييق دائرة اختصاص هذه المحاكم وجدوا عقبات في طريقهم

وصعب عليهم المنال، ولئن نجحوا فلن يستطيعوا أن يضعفوا من حاجة الناس إليها،

فمن الحق أن يشتكي الناس من الاعتلال الذي عرض لها، ومن الحق أن ارتفعت

أصواتهم بطلب الإصلاح، ومن العدل، بل من الواجب الذي لا تبرأ الذمة إلا بأدائه

أن تسمع الحكومة شكوى الكافة، وأن تنهض لتخفيف آلام الشاكِين، وتدخل إلى

الإصلاح من أبوابه ، وجزى الله من اهتمَّ بشأن هذه المحاكم خيرًا.

وشكوى الناس تنحصر في صعوبة المعاملة مع الكتاب، وطول الزمن على

القضايا، خصوصًا إن كانت مهمة، وخفاء طرق المرافعات حتى على العارفين

بأحكام الشريعة فضلاً عن سائر العامة وهوى القاضي أو ضعف يقظته، وشكوى

القضاة تنحصر في رداءة مقامهم والتقتير عليهم في المرتبات وسائر النفقات التي لا بُدّ

منها، والنظام يشكو من التساهل في المحافظة عليه.

إذا ذهبت إلى ديوان مديرية، وأردت أن تعرف محل المحكمة الشرعية في

ذلك الديوان، فابحث عن أردأ محل فيه تجده هو مكان المحكمة الشرعية، فإن

كانت المحكمة منفصلة عن المديرية، فقلما تجدها إلا في محل لا يسع عمالها

ودفاترها، وذلك حرصًا على تخفيف الأجرة بقدر الإمكان، ومن محاكم المراكز ما

تراه في بيت خرب ، ومحل القاضي والكتبة يثور التراب من أرضه، فإذا رشوه

بالماء انقلب وحلاً، وترى فيما ترى محكمة مديرية تهدَّم بعض بنائها، وظهر وهنٌ

في سقف السلم والطريق الموصل إلى بعض مرافقها يمر الذاهب منه على جذع

نخلة غير آمن خطر السقوط.

وترى في أكبر محكمة في البلاد أن أربعة عشر كاتبًا مع مَكاتبهم من الخشب

أمامهم في محلين سعة كل منهما لا تزيد عن أربعة أمتار في ستة، فيكون الكاتب

ومكتبه في أقل من متر مربع، ومما يروى من المهانة أن أحد مأموري المراكز

طرد قاضيًا من محل محكمته، أما الفرش والأثاث فقلما تدخل محكمة- خصوصًا من

محاكم المراكز - ولا تشمئز نفسك لرثاثة الأثاث ووساخته، والكراسي التي توجد في

هذه المحاكم هي من الصنف المعروف الأخضر الذي لا يوجد له أثر في ما نعرف

في دواوين الحكومة عاليها ودانيها إلا في هذه المحاكم الشرعية، وإذا وجدت عشرة

كراسي مثلاً، فستة منها لا تخلو من كسر وانتقاض فتل.

وحدثنا بعض القضاة أنه دخل محكمة مركز فوجد فيها كرسيًّا واحدًا يجلس

عليه القاضي، ورأى الكتبة يجلسون على مقاعد من صناديق الغاز، وكيف لا

تتألم النفس ويطول الأسف عندما ترى حالة المحل الذي يستريح فيه سماحة

قاضي محكمة مصر الكبرى ، من تمزق الفرش ورثاثته، وكذلك حال بقية أماكن

الكتبة والقضاة فيها، ثم يتبع هذا التقتير في جميع المواد حتى إنك لترى بعض

المضابط في محاكم المراكز قد طمست سطورها من رداءة الحبر، فإذا سألت عن ذلك

قيل لك: إن الحبر يشتريه الكتبة من مالهم الخاص عند نفاذ الحبر الذي تصرفه لهم

المديرية وإبائها صرف غيره، ولاتسل عن المكاتب ورثاثتها وحالتها من القدم وقبح

التركيب، وماعليها من طبقات الوسخ.

أليس لعمال هذه المحاكم حق أن يسقطوا من نظر أنفسهم، وأن يظنوا أنهم

ليسوا واقعين تحت نظر الحكومة وإلا لما سهل عليها تركهم على هذه الحالة، ولا

شئ يضر بعمل الإنسان مثل اعتقاده في نفسه الهوان والضعة، أليس هذا يسقط مقام

العدالة من أنفس المتقاضين، ويقلل من احترامهم لما تصدره هذه المحاكم من

الأحكام كما هو جارٍ الآن، يجب علينا أن لا ننسى أن لحالة المكان أثرًا في أنفس

الداخلين فيه، وأن الحكومات المتمدنة نفسها تغالي في إقامة هياكل العدل على قواعد

المهابة والإجلال، علمًا منها أن المَلكَ مَلِك بعرشه، وأن العرش برياشه

وفرشه.

فالواجب إذًا على الحكومة أن تُدِخل المحاكم الشرعية في كل رسم ترسمه لبناء

مسكن من مساكن الإدارة، ففي المدريات تفرض للمحاكم الشرعية موضعًا فيه من

الأماكن مايكفي للجلسات وعمل القضاة منفردين بعد الجلسات وقبلها، وللكتبة

والدفتر خانة، والمخازن ونحو ذلك مما يلزم للمحكمة، وكذلك يكون الأمر في

المراكز، وما بني بدون أن يراعى فيه ذلك يجب أن يتمم مع الإسراع بقدر الإمكان،

ثم يُنظر في تلك المحاكم جميعها، وتُوفَّى ما يليق بشأنها من حيث هي جزء من

بنية حكومة عظيمة جديرة بالاحترام في جميع شؤونها حتى يرتفع شأن الموظفين

عند أنفسهم وعند الناس، ويقتنع المتقاضون أن القضاء الشرعي ليس في نظر القوة

المنفذة بأحط شأنًا من غيره، فيخضعوا لأحكامه، وفي ذلك كرامة الحكومة ونظامها.

ويتبع الكلام في المساكن، الكلام في الكتبة؛ لأنهم أظهر عضو في جسم

المحكمة وعلاقاتهم بالمتخاصمين والمتعاقدين، وطلاب الصور وغيرهم تتقدم على

صلة الناس بالقاضي كما هو معلوم.

ليس من السهل أن يقف الإنسان في زمن قليل على سيرة كل كاتب، وغاية ما

يقال: إن الشاكين منهم أكثر من الراضين عنهم، والذي يتبين للناظر في أمرهم

هوأن أكثرهم لا يُعرف كيف تعلم صناعة الكتابة؟ ولا أين كانت تربيته؟ وليس

لانتخابهم قاعدة معروفة، وكثير منهم كانوا تلامذة عند سلفهم، ثم عين في الوظيفة

لأنه تمرن على عملها، ومنهم من يكون السبب في تعيينه فقره لاغير، ومنهم من

يكون له مزية سوى الفقر، ولكنها ليست مما يزيد في معرفته ولا حسن سيرته، أما

معرفتهم فناقصة، وقليل بينهم الكفؤ لعمله، وإنما يحفظون ألفاظًا وعبارات رديئة

التركيب، مشوشة التأليف، يظنون أنها ملك موروث، ولايمكن أن يقوم مقامها

مايؤدي معناها، والناظر في العقود والمرافعات يعرف مقدار ما عليه هؤلاء العمال

من القصورعلى تفاوت بينهم، ويكفي في هذا الباب أن أحد كبراء الحكومة لم

يستطع أن يفهم عقدًا عقده لنفسه إلا بواسطة أحد مفتشي الحقانية حيث فسره له،

وأوضح معناه، فما ظنك بحال غير المتعاقدين.

ولكنك ترى في مُرتباتهم ما يُلتمس لهم معه العذر، فالكاتب الذي يقيم ثمانيَ

وعشرين سنة أو أكثر يتردد بين مائتي قرش وثلثمائة وخمسين، وهو كاتب أول

المحكمة، ولا يطلب لنفسه معيشة أرقى من هذه، لايمكن أن تكون معارفه أرقى مما

هو عليه إلا أن أن يكون زاهدًا من الزهاد، نعم لا يوجد في مرتبات الكثير من

الكتبة ما ينتهي إلى ألف قرش إلا في محكمتي مصر والإسكندرية وفي محكمة

مصر مرتبات أرقى من ذلك للكتبة ما بين العشرة والأربعين، ولكن لا توجد قاعدة

للترقي بحيث يتناوب هذه الوظائف ذات المرتبات العالية رؤساء الكتاب في

المديريات والمحافظات، بل حفظت الوظائف لأشخاص معينين متي دخلوها خلدوا

فيها، وكذلك حال الوظائف التي تربوعلى خمسمائة قرش في المديريات

والمحافظات، أما في المراكز فقليل ما يزيد مرتب الكاتب عن ثلثمائة وخمسين

قرشًا.

وأضف إلى ذلك اختلاط أرباب الحاجات بالكتاب، وما تجده من الفوضى في

كثير من المحاكم، فصغار الكتبة لا يخضعون لرؤسائهم، وضعف القاضي في

المعارف الكتابية يعين على ذلك، وفي هذا من الخلل ما لا يخفى.

أما عدد الكتبة، فربما كان دون ما يفي بحاجات المحاكم في الجملة، وإن كان يوجد

في بعض المحاكم مايزيد عما يكفيها.

(البقية بعد)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 578

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

(13)

من هيلانة إلى أراسم في 28 مارس سنة -185

خرجتُ بالأمس للتنزه أنا والسيدة وارنجتون راكبتين عجلة مكشوفة، سلكت

بنا المهيع الذي يبتدئ من بنزانس ويلتف حول الخليج المسمى بخليج الجبل في شكل

نصف دائرة عظيمة كحذاء الفرس، فما أبهج ما رأيته وأجمله! ! لاتحسبن أن أول

شيء أمال ذهني ونبه فكري هو البحر الزاخر أو شواطئه المرصعة بالصخور،

أو حركة أمواجه المتلاطمة المتعاقبة في تلاشيها على رمل الطريق، كلا إن الذي

استوقف نظري هو قطعة من الصوان يعلوها بناء كالدير أو القلعة الحصينة،

يسميها الإنكليز بالجبل، وهي بارزة على يسار بطن الخليج، ولذلك نسب إليها فقيل

له خليج الجبل، أخالني رأيت هذه الضخرة بما فوقها من الأبراج الصغيرة في منام

لي، أو في وقعة من وقعات الكابوس عليّ.

سألت السيدة وارنجتون بصوت متقطع من الرعشة: مَن هذا الشبح الحجري

فأجابتني مترددة لِمَا رأته من حالتي بقولها: هذا هو جبل القديس ميكائيل عندنا،

فلما سمعت منها هذه الكلمة أحسست بأن كل مافي جسمي من الدم قد جزر عائدًا إلى

قلبي، فلَمَحت ما صرتُ إليه من الاضطراب، وعَرَضت عليّ الرجوع إلى المنزل،

فصحتُ: كلا، إنه لا بد لي من الذهاب إليه، وقد اضطررنا من أجل ذلك إلى

الطواف حول الخليج والذهاب إلى مرازيون.

لما أن صرنا حِذاء الجبل كان البحر في إبان جزره، وكانت هذه الصخرة

الصوانية على شكل شبه جزيرة لانحسار الماء عن بعض جهاتها، بعد أن كانت

جزيرة كاملة بعض ساعات النهار، سلكنا للوصول إليها شِعبًا رمليًّا موحلاً يكتنفه

من الجانبين قطع من الصخور مغطاة بالطحلب والعلعي [1] المبللة، وتيسر لنا به أن

نجتاز البحر يبسًا، فبما كان يعرض لنا من تلك القطع الصخرية كنا كأننا نمشي بين

أطلال، وكنت كلما جدّ بنا السير أزداد دهشة وارتياعًا لتشابه ذينك الجبلين

المُتَّحِدي الاسم، فإن هذه الصخرة بما فوقها من البناء، وما حولها من البحر تكاد

تكون عين التي في بلادنا، إلا أن ذاك أسعد حظًّا من هذا، فإنه لم يدنس باتخاذه

سجنًا في زمن من الأزمان.

أفضى بنا المسير بعد حين إلى سفح ذلك الجبل، فإذا حوله لفيف من مساكن

حقيرة يتألف من مجموعها قرية للصيادين والملاحين، فوقفنا تشرف علينا الصخرة

الصوانية من سُموها المُريع، ثم اقتحمناها فاضطررنا في ذلك إلى الصعود على

شعب، بل سلم نُحِتت درجاته في الصخرة، وقد انتهى الأمر بالسيدة وارنجتون إلى

أن ضاقت أنفاسها، وطفقت تلهث من شدة التعب، فدعوتها إلى الاستراحة على

كتلة من كتل صخرية كانت تعترضنا في طريقنا، ويظهر أنها خرجت من باطن

الجبل بسبب انفجار ناري، فما كان أسرع ما أجابت، وجلسنا طائفة من الزمن لا

ننبس بكلمة لما أُدهشنا من مشهد العظم والخراب، فكان البحر محدقًا بنا، وذلك

البناء القاتم الذي هو من آثار القرون الوسطى، فوقفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا

أطلال من الصخر يغطي جزءًا من عُريها بعض الأعشاب البرية، وقد رأيت على

مافي هذا المكان من المُحول زهرة زرقاء نابتة في صدوع الصخرعلى طبقة خفيفة

من بقايا الأعشاب المتعفنة، فقطعتها على ذكراك لعلها تكون بشرى السعادة، كنت

إلى هذه الساعة التي رأيت فيها جبل القديس ميكائيل مترددة في اختيار البقعة التي

اتخذها متبوأ وسكنًا، أما الآن فقد استقر لمجرد مشاهدته رأيي وزال ترددي، فكأنما

يوجد شيء من السحر في أسماء الأمكنة وأشكالها تغلب على فكري، فحملني على

ترجيح الإقامة بهذا المحل، على أنه لا بدع ولا سحر، أليس هاتان الصخرتان

اللتان تتراءيان وتتناغيان مع فصل المحيط بينهما، وهما جبلا القديس ميكائيل في

إنكلترا وفرنسا أختين متشابهتين في جميع الصفات والأوضاع، إن أول هذين

الحصنين وهو حصن الإنكليز كان حظه من كر السنين عليه التَّرك والإغفال، أما

ثانيهما هو حصننا فإن له صراخًا يصل إلى كبد السماء دالاًّ على استبشاع حالته

وأمله في الخلاص منها 0

ذهبنا في نفس ذلك اليوم لزيارة المنزل الذي أوصاني الدكتور وارنجتون

باستئجاره، وقد علمت بأن مؤسسي قرية مرازيون التي هو فيها هم اليهود الذين

كانوا يتجرون فيها بالقصدير قبل ميلاد المسيح بزمن مديد، وإني لفي شك من وجود

كثير من ذريتهم الآن في هذه القرية؛ فإنه لم يبق من دلائل وجودهم في هذه الجهات

إلا اسم واحد وهو اميرسيون قد ارتاحت نفسي له لأني تذكرت به فرنسا، تتألف

تلك القرية من جملة مساكن جديدة، على بعضها مسحة من طلاوة المدنية الإنكليزية

وهي قائمة من الخليج على شاطئه المقابل لجبل القديس ميكائيل الذي يتراءى معها

على بعد، فلها في ذلك منظر ذو بهاء، وجلال محاسنه أن هذا الخليج - وهو تلك

القطعة الجميلة من الماء التي تكتنفها الرمال المتقطعة بالصخور خصوصًا ما هو منها

جهة الشاطئ المقابل للمنازل- تكثر فيه حركات الأمواج المعتدلة التي تُسَكِّن آلام

النفس وتُخفض من برحائها.

بقي عليّ الآن أن أحدثك عن المنزل فأقول: إنه لا ينقصه شيء من المتانة

والرصانة؛ لأنه كله مبنيٌ بالصوَّان الذي يكثر في هذه الجهة دون غيره، ولما

كانت مادته شديدة الصلابة تتعاصى على النقش، اعتاد البنَّاؤون على الاكتفاء في

إعداده للبناء بترقيق قطعه، ومن أجل ذلك كانت ظهور جدران المساكن في الجملة

خشنة وغير مستوية، وطريقة البناء في الداخل تخالف كذلك طريقتنا فيه مخالفةً

عظيمة؛ لأنهم لا يقتصرون هنا على فصل البيوت بعضها عن بعض بحيث لا

تتلاصق، بل إنهم يفصلون بين الغرف أيضًا بحيث تكون المعيشة عزلة تامة.

ذلك البيت القائم على ربوة رملية قاحلة، فلذلك أخشى أن يكون معرضًا

لهبوب الرياح الشديدة الآتية من البحر، لكن الناس يؤكدون لي أن هذه الرياح التي

تهب من هذه الجهة تكون فاترة صحية في جميع فصول السنة، أما الأثاث فهو في

غاية البساطة والملاءمة لحالتي، وأكثر ما دهشت له في هذا البيت هو أني وجدت في

الطبقة العليا منه غرفتين منفصلة إحداهما عن الأخرى تمام الانفصال، ليس لهما في

ذاتهما شيء يمتازان به امتيازًا ظاهرًا لكنهما على هذه البساطة قد أحسن البنَّاء

وضعهما، فكان لهما أجمل منظر وأحسن موقع تشرق عليه الشمس، فالضوء يسبح

فيهما بلا حجاب يعترضه؛ لأن نوافذهما لما كانت تتلقاه بالتكريم تكاد تكون مجردة من

الستائر، وهذا منها نوع من الأدب والترحيب بلسان الحال، فكأنها تقول له: (تفضل

فهذا محلك لا يمنعك منه مانع) نعم إن عليها من الخارج بعض قضبان من الحديد،

انقبض قلبي لرؤيتها أول مرة، إلا أن هذا الانفعال السيئ قد زال عندما علمت بأن

هذا المحل هو حجرة لأولاد، وأن هذه القضبان لم توضع إلا لمنع ما عساه يقع من الحوادث التي تكثر عادة من الأطفال بما يلازم سنهم من التهوروالجهل بالخطر،

فهي إذن وسيلة من وسائل التحفظ، لاعلامة على الأَسْر، في إحدى هاتين الغرفتين

ينام الأطفال، وفي الأخرى يلعبون في النهار إذا كان الجوُّ باردًا، أو السماء ممطرة

وقد أكد لي الناس هنا أن هاتين الحجرتين يوجد لهما نظيرتان في كل بيت من

بيوت الإنكليز التامة المنافع والمرافق.

لا أنكر عليك أن هذا الأمر قد أثَّر في نفسي، فإن معظم الدورعندنا في باريس

تامة البيوت والغرف والمرافق اللازمة، وهي غرفة الأكل وقاعة الاستقبال،

وحجرة النوم والمكتب ومخدع الخلوة، وغيرها مما يطابق عادات الرجل الدنيوي

وأهواء المرأة المتربية، فلم يُنس فيها إلا ما يلزم لشخص واحد، ألا وهو

الطفل.

الطفل عندنا بسبب اضطراره إلى ملازمة الكبار في معيشتهم وتقضيته الأيام

والليالي في غرفة واحدة مع والدته العصبية الرقيقة المزاج، ووالده المثقل بالأعمال

لابد أن يكون ضيفًا مقلقًا لغيره، وأسيرًا كاسف البال في نفسه، فإنه لا مندوحة من

أن تمتد يده إلى الأثاث فتقطعه، وتتناول الكتب فتمزقها، والآنية الصينية فتكسرها،

ويجر عليه هذا النزق وما ينشأ عنه من الإتلاف الخفيف توبيخًا مستمرًّا، فيقرعه

والداه ويعاقبانه على نشاطه وسروره ولغطه، أعني على كونه طفلاً.

وليس هذا كل ما يلاقيه عندنا، فإنه أحيانًا قد يطرد من مسكن أبويه لضيق

المحل، فلا يجد له مأوى سوى فناء المنزل، وأنت تدري ماهي أفنية البيوت في

معظم المدن الكبيرة، إنها ليست إلا جحور ضباب، قد فهم الإنكليز مقتضيات

المعيشة المنزلية من حيث سكنى الأولاد أحسن مما فهمناها بكثير، فهم يعتبرون

المولود عندهم شخصًا مستقلاًّ، فيفردونه بحجرة قائمة بذاتها.

إلى الآن لم أصف لك شيئًا من بستان البيت على أنه هو الذي أخذت بهجته

ونضارته بلُبِّي، ليس لهذا البستان سور من البناء وإنما هو محاط بسياج من النبات

تمطره في شهر يونية على ما يقال شجيرات الرتم الشوكية [2] ذهبًا من أزهارها

العسجدية، من أجل أن تتصور جمال هذا البستان مَثِّل لنفسك نحو أكرين [3] أرضًا

تغطيها جميعًا شجيرات الورد وعنب الثعلب وغيرها من الأشجار الصغيرة، وإنما

كان مافي هذا البستان شجيرات؛ لأن أرضه رملية ومجاورة للبحر، فهي لا تصلح

للأشجار الكبيرة، ولكن قد أنشأت تتفتح بين أعشابه العطرية عيون بعض أزهاره

البنفسجية، فكيف يكون جماله بعد خمسة أو ستة أسابيع إذا كساه الربيع - بلا

حساب - ما لديه من حُلل البهاء والنضارة؟

قد استأجرت المنزل وسأسكنه في الأسبوع المقبل، أما الآن فأنا ساكنة عند

السيدة وارنجتون التي تحوطني بأُنسها الدائم وكرمها الغامر، كل ما أنا فيه من

وسائل النعيم الآن يؤلمني ، وأوبخ نفسي عليه عندما أذكر سجنك وما أنت فيه من

الضيق والألم.

أنا متطلعة لأخبارك أيها الحبيب، فأرجو أن توافيني بشيء منها، فهل خفَّت

عليك معيشة السجن بسبب تغيير المحل، أو زادت ثقلاً، أسألك بالله أن تصدقني

الحديث، ولا تخفِ عني منه شيئًا، وفي الختام أُقَبِّلُك من وراء تلك البحار التي

تحول بيني وبينك، لكنها لم تفرق بين قلبينا. اهـ

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

العلعي: نبت يكون واحدًا وجمعًا، قضبانه دقاق عسر، رضها يتخذ منه المكانس.

(2)

الرتم: شجرة ذات أزهار صفراء، أصلها من أسبانيا.

(3)

الذي في الأصل (أكر) وهو مقياس سطحي قدره 4840ياردة مربعة، وأحسبه محرفًا عن الأكارة القريبة في المعنى منه؛ لأنها في عرف الفقهاء ما يعطي من الأرض للأكرة لزراعته.

ص: 582

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌بضعة أيام في خدمة

جمعية شمس الإسلام

خرجت من القاهرة في مساء يوم الثلاثاء 10 رجب في صحبة رئيس هذه

الجمعية، في عموم الأقطار المصرية، ميممين الصعيد الطيب هواؤه، المستعدة

لكل خير أبناؤه، فعرجنا أولاً على بلدة بني سويف، وكان قد جاءها من قبل داعٍ

من قِبل الجمعية، وفيها بعض الإخوان، فعرَّف لهم الجمعية بغير صفتها وصبغها

بغير صبغتها، إما عن سوء فهم وإما عن سوء قصد - وقد طرد هذا الداعي بعد

ذلك لخيانة واعوجاج - فلم يتقبل الدعوة إلا قليل، وكان من دخل الجمعية في

زلزلة واضطراب حتى أقنعناهم بأن الجمعية دينية محضة لا غرض لها إلا التعاهد

على ترك المعاصي والمنكرات، والتعاون على البر والتقوى، ونشر العلوم

والمعارف، فانشرحت الصدور بنور الحق، وبِتنا ليلتين في هذه البلدة دخل فيهما

طائفة في الجمعية، وتأسست فيها شعبة، ثم سافرنا قاصدين بلدة ملوي فلما وافيناها

ألفينا الجم الغفير من أعضاء الجمعية فيها ينتظروننا في المحطة، وكان قد طير

الخبر إليهم في البرق من بني سويف مضيفنا الأخ الفاضل محمد أفندي خالد سكرتير

المديرية ، فنزلنا في دار أقدم الإخوان دخولاً في الجمعية، وهو الشهم الهمام الشيخ

محمد مصطفى ثم في دار أنسبائه الأكارم أبناء السيد الشريف المرحوم الشيخ أحمد

عبد الفتاح، وفي ذلك اليوم - وهو يوم الجمعة- رغّب إليّ الأخ الفاضل الشيخ محمد

صالح خطيب الجامع اليوسفي أن أخطب بالناس وأصلي بهم، ورأيت من رغبة

الإخوان ما حملني على الإجابة، وعندما رقيت المنبر أنطقني الله الذي أنطق كل

شيء بكلام في وصف حالة الإسلام والمسلمين، وما يجب أن يأخذوا به الآن، لم

أكن زورته في نفسي، ولا ألمّ بفكري قبل تلك الساعة، فصادف آذانًا واعية،

وقلوبًا مستعدة، فوجلت القلوب وذرفت العيون، وكان فصل الخطاب أن نجاة

المسلمين مما هم فيه من فساد الأخلاق وسيئ الأعمال وتفرق القلوب، لا تكون إلا

بالتعاون على البر والتقوى، وأن الله تعالى قد وفق طائفة من المسلمين للقيام بهذا

التعاون، والتخلق بأخلاق الإسلام، والتأدب بآدابه، فعلى أصحاب الغيرة الملية أن

يمدوا أيديهم لمصافحتهم ومعاهدتهم على ذلك، وقد فهم القوم الإشارة، وأقبلوا على

الدخول في الجمعية أفواجًا تائبين إلى الله تعالى توبة نصوحًا.

***

(آثار الجمعية في ملوي)

كان من آثار هذه الجمعية في ملوي ترك المنكرات، حتى إن حانة من

الحانات أقفلت وغادر صاحبها الرومي البلدة لكساد الخمرة، وفيها أن المساجد

صارت تزدحم بالمصلين، وكان لا يوجد فيها - لا سيما في صلاة الفجر - إلا نفر

قليل، وإنه منذ انتشرت الجمعية هناك قلّ التعدي والسطو، وأخبرنا الفاضل عزتلو

أبو زيد بك عمدة البندر أنه منذ ثلاثة أشهر لم يشكُ أحد من أعضاء الجمعية أحدًا،

ولم يشكُ منهم أحد، وهم يعدون بالمئين، ومثل هذا لم يعهد من قبل فيها، ومن

أحسن آثارها أن المسلمين صاروا أقرب إلى الألفة مع مجاوريهم من المخالفين لهم

في الدين، وأكثر ميلاً إلى مجاملتهم، وقد سرني وسر سعادة رئيس الجمعية هذا

منهم، ولمّا اجتمعت الجمعية العمومية خطبتهم فيها خطبة مطولة، كان جزء كبير

منها في الحث على مجاملة جيرانهم المخالفين لهم في الدين وبيان أن هذا من

موضوع الجمعية؛ لأنها دينية تهذيبية، والدين يحرم إيذاء الذمي والمعاهد، حتى

ورد أن النبي نفسه صلى الله عليه وسلم يكون خصم من آذاه، وسردت لهم بعض

الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، كقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ

يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (الممتحنة: 8) وكقوله عليه الصلاة والسلام: إذا ظلم أهل الذمة أديل للعدو، أي

ترجع له الدولة، وكقول الفقهاء: يجب إطعام الذمي المضطر وتجهيزه ودفنه إذا

مات ولم يكن له مال ولا كافل إلخ إلخ، ويستحب في سائر الأوقات.

وأفضل آثارها هناك الشروع في افتتاح مدرسة تُعلَّم فيها جميع العلوم

والفنون واللغة الانكليزية مع التربية علمًا وعملاً على مبادئ الدين، وقد حصل

الاكتتاب بحضور سعادة الرئيس، فمن الإخوان من اكتتب بأربعين جنيهًا كالسيد

الشريف الشيخ هاشم عبد الفتاح والسخي الجواد الشيخ محمد سليمان، ومنهم من

اكتتب بخمسة وعشرين جنيهًا وهم كثيرون، وفي مقدمتهم السري الأمثل

إسماعيل بك عبد الله، ومنهم من اكتتب بما دون ذلك بحسب درجتهم في الثروة،

والمرجو من همة أولئك الكرام أن يكون افتتاح المدرسة قريبًا.

وفي مساء السبت ركبنا الذهبية في ترعة الإبراهمية قاصدين ديروط لزيارة

إخواننا، وتأسيس لجنة إدارة لشعبة الجمعية فيها، فعرجنا في الطريق على قرية

صغيرة بتنا فيها عند بعض إخواننا، وجئنا ديروط مساء يوم الأحد فتلقانا أهلها

بالحفاوة، واجتمع علينا في الليل وجهاء البلدة وكرامها من رجال الحكومة وغيرهم،

وطلبوا أن أبين لهم موضوع الجمعية ووجه الحاجة إليها، وشروط الانتظام فيها

بخطاب مسهب، ففعلت وأطلت في بيان عدم تعرض الجمعية للسياسة بقسميها

(الداخلية والخارجية) وعنايتها في بث روح الوفاق والائتلاف بين أرباب المِلل

المختلفة في الوطن؛ لأن الشريعة التي هي أساس الجمعية تأمر ببر المخالف في

الدين ومعاملته بالعدل ما لم يكن محاربًا ومقاتلاً لنا في الدين؛ ولأن نجاح الوطن لا

يتم إلا باتفاق جميع أبنائه على ترقية شأنه واعتقاد أن العدالة الإلهية ساوت بينهم في

الحقوق، وصرحتُ لهم بأن من دخل الجمعية تائبًا من ذنوبه، ثم عُلِم أنه يقترف

كبيرة من الكبائر كالسُكْر والربا، وشهادة الزور والخيانة، والتعدي على حقوق

الناس، فإنه يطرد من الجمعية طردًا لا فرق بين كبير وصغير؛ لأن الحق أعلى من

كل أحد، فَسُرَّ القوم بموضوع الجمعية وأقبلوا عليها أفرادًا وأوزاعًا، وأسس

الرئيس العام لجنة الإدارة وأعطاها الدفاتر وأوراق الدعوة والطلب، ثم قفلنا في يوم

الثلاثاء إلى ملوي، وكان معنا جماعة من أهلها، فأقمنا فيها يومًا وليلة وسافرنا منها

ليلة الخميس، فعرجنا على مدينة المنيا فبتنا ليلتنا وأقمنا نصف نهار أسَّسْنَا فيه

شعبة صغيرة نرجو أن تكبر سريعًا بهمة رئيسها العالم العامل وأعضائها الأفاضل،

ثم قفلنا راجعين إلى مصر وعرجنا في الطريق على بني سويف، فمكثنا فيها نحو

ساعتين أقتبس فيهما أعضاء الإدارة من سعادة الرئيس التعاليم الإدارية، وجئنا إلى

مصر بسلام.

فعُلم من هذه الخلاصة الموجزة أن استعداد أهل الصعيد لقبول الخير

والتمسك بالحق أقوى من استعداد أهل مصر الذين أفسد مزاج الدهاء منهم التفرنج

والتوغل في الترف، وأن المسلمين لا يرجى لهم خير إلا من الأخذ بآداب دينهم

وفضائله، فلو أن أفصح الخطباء المتمدنين أقام عدة سنين يحث المسلمين على مجاملة

جيرانهم المخالفين لهم في الدين، والائتلاف معهم باسم المدنية، وترك السُكْر

والفحش محافظة على الصحة مثلاً، لما أمكن أن يكون له من الأثر بعض

ما كان لهذه الجمعية الشريفة في مدة قليلة.

زرنا مدرسة زعزوع بك في بني سويف، فرأينا فيها من النظام والاجتهاد

وحسن التعليم ما أنطق ألسنتنا بالثناء على حضرة ناظرها الفاضل وجميع معلميها،

ونخص بالذكر العناية بتعليم الدين، لا سيما تلقين التلامذة شيئًا من معاني القرآن

الشريف بالإجمال والاختصار الذي تقتضيه درجة عقولهم ومعارفهم ، إلا أننا

انتقدنا على الناظر عدم إلزامه إياهم بالصلاة؛ لأن العلم قلما يفيد بغير التربية العملية

فاعتذر بضيق المحل ووعد بأنه يهيئ الأسباب لذلك في أقرب وقت، وبمثل هذا

اعتذر، ووعد الفاضل الهمام محمد أفندي عارف مؤسس مدرسة ديروط، ولنا الثقة

بأنهما يفيان بوعدهما، لا سيما وقد توفقا للدخول في الجمعية مع معلمي المدرستين،

ولولا ضيق المقام لأسهبنا في الكلام على هذه الرحلة المباركة.

_________

ص: 589

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إصلاح غلط

أرسلت من الصعيد أصول (المنار) إلى المطبعة، ولما جاء يوم الجمعة ولم

ترسل إليّ لإصلاحها خشيت أن يتأخر (المنار) فكتبت إلى صديقي الفاضل صاحب

(المؤيد) أن يعتذر عن تأخير العدد على لساني ففعل ، ولكن المدير كان تدارك الأمر

وأصدر (المنار) ولكنه غير معتنى بتصحيحه، ومما لابد من التنبيه عليه أغلاط

جاءت في درس التوحيد، وهي في السطر الثاني من الجملة 21 الواقعة في صفحة

564 كلمة (لأنه) سقطت منها (نه) وبقيت (لأ) والعبارة هكذا (لأنه إذا كان)

إلخ، وفي النبذة 22 من هذه الصفحة أيضًا كلمة (بعدم) سقطت منها الميم، والخطأ

فيها واضح، وفي السطر الرابع من صفحة 565 كلمة (الانتقاد) وصوابها

(الانتفاء) .

_________

ص: 592

الكاتب: محمد رشيد رضا

انتهاء دولة المهدوية

زحف السرونجت باشا في 22 نوفمبر إلى (نفيسه) حيث علم أن أحمد

الفضيل أحد قواد التعايشي معسكر فيها، فألفاها خالية، فتقدم منها إلى (أبوعادل)

مسيرة أربعة أميال، وهناك التقى الجمعان، وابتدأ الحرب الفرسان المصرية بقيادة

ماهون بك وأبلى الدراويش بلاءً حسنًا، وكانوا نحو 2500، وانتهت المعركة

بفرار الدراويش وقتل أربعمائة منهم.

وفي هذا النهار وردت أخبار البرقية من سعادة السردار إلى جناب اللورد

كرومر ملخصها أن ونجت باشا التقى بالتعايشي في (أم دبريكات) ، فحملت الزحوف

المصرية حملة واحدة، فثبت التعايشي وأمراؤه حتى قتل هو ومعظمهم، وأُسِر

الباقون، وفرَّ عثمان دقنه الشهير الروغان.

_________

ص: 592

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقرير مفتي الديار المصرية

في إصلاح المحاكم الشرعية

(الكتبة)

أرى أولاً أنه يجب وضع قاعدة لانتخاب الكتاب وتعيينهم وأن يشترط في

تعيينهم معرفة اللغة العربية علمًا وعملاً وشيء من فقه الشريعة الإسلامية، فليس

من المعقول أن محكمة تحافظ على لفظ (هذا) و (هؤلاء) ولا تحافظ على وجود

أساليب الكلام التي يتوقف عليها فهم المعاني، وهذا الشرط إن لم يمكن تحقيقه الآن

في كثير من الناس، لكن يمكن تحديد أجل له وتوضع قاعدة الامتحان من اليوم

وينتخب الأعرف فالأعرف، وبعد الأجل الذي يضرب وغايته أربع سنوات لا يقبل

في وظيفة الكتابة بالمحاكم الشرعية إلا من نُظر بالامتحان معرفته للغة العربية

خصوصًا في التحريرالصحيح والحساب، وشيء من نظام المحاكم الشرعية وطرق

التحرير فيها، ويمكن أن يزاد على ما اعتبر في شهادة الأهلية على حساب نظام

الجامع الأزهر أن يمتحن الطالب في الإنشاء، والكتابة وحسن الخط، والحساب،

وآداب الدين ونظام المحاكم الشرعية وبذلك تكون شهادة الأهلية كافية وحدها

لانتخاب حاملها كاتبًا في المحاكم الشرعية بدون امتحان ويكون الجامع الأزهر أو

ما يلحق به منبتًا لخدمة الشريعة كتبة وقضاة، وهو أفضل مايرجى من هذا المكان

الشريف.

ثم توضع قاعدة لترقيهم ينتقل الأكفاء خلف الأكفاء لا يثب أدناها فوق

رءوس أعلاها ويُرتبون على حسب كفاءتهم على وجه لا يُنقض إلا بأسباب معروفة

ثم يوضع لهم نظام كالمعروف (بالكادر) ويفرض لهم زيادة في المرتبات، وتحدد

لهم درجات لها مبدأ ووسط ونهاية، كما هو الجاري في جميع وظائف الحكومة من

هذا القبيل، وهو أمر يستدعي أن تسخو نظارة المالية بشيء من إيراد هذه المحاكم

لها ، فإن كان ذلك لا يمكن في العام القائم، فلتوضع القاعدة وليكن تنفيذها بالتدريج

حسبما يستطاع إلى أن يتم الأمر على وجهه، ثم تصنع في محل الكتاب نافذة يخاطبهم

منها طالب الصورة أو الإعلان أو الإعلام الشرعي، ويناوله الكاتب منها ما يريده

على ما هو معروف في قلم محضري المحاكم الأهلية حتى يقل الاختلاط بين الناس

وبين الكتاب، أما العقود والإشهادات فيحضر المتعاقدان فيها أمام القاضي ويأخذ

الكاتب منهما جميع ما يحتاج إليه من أسماء وألقاب ومحل الإقامة وحدود وشهود ونحو

ذلك، ثم ينصرف الكاتب ويحرر العقد ويقيده في مضبطته بدون حضور المتعاقدين،

ثم يأتي المتعاقدون ويتلى العقد عليهم أمام القاضي، فيوقعون عليه ثم يضرب لهم أَجَلاً

لأخذ الصورة، وهذا لا عسر فيه ولا مانع منه إلا كسل القاضي وتحكم الكاتب.

وعلى النظارة أيضًا أن تحدد علاقة الكتاب برئيسهم وهو الباشكاتب أو

الكاتب الأول، وأن تحدد وظيفة رئيس الكتاب وما يناط به من العمل، وما

يدخل في عهدته من المواد حتى يعرف كل عمله فيُسأل عنه، أما تخصيص أفراد

الكتاب أنواع الأعمال فذلك يكون إلى الباشكاتب باتحاده مع القاضي، ثم ينظر فيه كل

سنة وينقل الكاتب من عمل إلى عمل حسب استعداده حتى لا يشهر كاتب بين الناس

بأنه صاحب كذا دون سواه.

وهنا أذكر أمراً لاحظته في توطن الكتبة وهو أنه في بعض محاكم المراكز

يتفق أن الكاتب يسكن في بلدته التي فيها زراعته، وربما يغيب عن المحكمة في

أوقات العمل أو يغيب اليوم ، كله كما وجدناه في محكمتي زفتى وميت غمر ، فيجب

أن يراعى ذلك.

(القضاة)

قبل أن أقول كلمة في ما عليه الأغلب من هؤلاء القضاة أقول: ليست المحاكم

الشرعية وحدها هي التي ابتليت بضم الضعفاء وغير الأكفاء في جوانبها، فكثير من

القضاة في المحاكم الأهلية لا يزيدون في معارفهم عن من كثر الكلام فيهم من قضاة

المحاكم الشرعية وما يُتَحَدَّث به من الأحكام المخالفة للشريعة صادرًا عن هذه

المحاكم يُتَحًّدث به مخالفًا للقانون والعقل صادرًا من محكمة أهلية أو مختلطة ، وقد

رأينا ذلك وشاهدناه، والحكومة تعرف كثيرًا منه، والكمال غاية يسار إليها، ولكن

يحول دونها ضعف الإنسان وعجزه.

وجدت كثيرًا من قضاة المحاكم الشرعية خصوصًا المراكز لا تسر معارفهم

الشرعية والنظامية ولا يرضى العدل سيرهم في أعمالهم، ولذلك وجدت الحاذق منهم

يحوِّل جميع القضايا تقريبًا إلى محاضر صلح تجنبًا للحُكم، ولا يلبث المتصالحان

بين يديه أن يختلفا لأن الصلح غير حقيقي، ووجدت فيما وجدت من الأحكام خطأً

كثيرًا، وأكثر ما يعولون في تطبيق اللوائح على الكتبة ومنزلتهم من العلم ما وصفنا

في الباب السابق.

تكرر من نظارة الحقانية وضع قواعد لانتخاب القضاة، وكان فيها أن

يمتحن الطالبون في النظارة، ثم اكْتُفِيَ بما وُضِعَ في اللائحة الجديدة، ولجنة

الانتخاب التي نيط بها تعيين القضاة وترقيتهم ليس لها إلا تخير الأشخاص من

بين حاملي شهادة العالمية أو القضاة أو المفتين، ولا بحث لها في سيرهم الشخصية

وقت الانتخاب كما عرفته من رواية الأجلاء من أعضائها.

وأرى من الواجب أن تبقى شهادة العالمية معتبرة كما هي في اللائحة، لكن

يجب أن يزاد على ما تقرر في نيل هذه الشهادة أن يتلقى الطالب كتابًا من كتب

الفقه على الطريقة العملية في أبواب القضاء والمعاملات، وأن يمتحن في الفقه

بهذا الاعتبار، وأن تكون له معرفة بالحساب، وبالكتابة والتحرير ، وبنظام

المحاكم الشرعية وعلم كافٍ بالآداب الدينية، وشيء من التاريخ وتقويم البلدان

مما يزيد الرجل بصيرة في الناس وأحوالهم وأن يكون من حسن الخط بحيث يمكن

قراءة ما يكتبه، وهذا أمر ميسور متى فرض ذلك على كل من يطلب وظائف القضاة

والإفتاء من طلبة الجامع الأزهر وما ألحق به؛ فإن لم يكن في هذا اليوم فليضرب له

أجل أربع سنوات لا يقبل بعده في هذه الوظائف إلا من عرف تحصيله لهذه

المعارف، ثم يُبحث من مشيخة الأزهر ومجلس إدارته إن كان لم يوظف في

جهة أخرى، ويسأل من شيخ علماء جهته إن كان من طلبة غير الجامع الأزهر

ولكنه داخل تحت نظامه، وبعد هذا وذلك يعين ويرجى منه الخير لعمله - إن شاء الله - أما اليوم فيقدم من هو على شيء من هذه المعارف على غيره.

وإلا فالعمل جارٍ على أن يعين أحد المشايخ، وقد كان على بعد تام من

العالم وشؤونه أيام إقامته في الجامع أو المدرسة، ولا يعرف من القضاء إلا ما قرأه

في عبارات كتب الفقه، ولم يشهد مجلسًا من مجالسه، ولم يعرف شيئًا عن

نظامه الشرعي المعمول به في بلده، ولا يمكنه تحرير رقيم حسن الأسلوب

مفهوم المضمون في أدنى شؤونه، وربما لا يعرف أرقام الأعداد الحسابية، ثم يفوض

إليه الحكم وهو على هذه الحالة، فيلتجئ إلى الكاتب الذي يجده في المحكمة، فإن

كان ذكيًّا أمكنه أن يتعلم في سنة أو ما يزيد عليها، وإن كان دون ذلك بقي تلميذًا

للكاتب إلى ما شاء الله، فمن كانت بدايته أن يكون تلميذًا للكاتب فكيف تكون نهايته؟

وإني لا أنكر أن بعض القضاة صار بعد التمرن من أحسن رجال القضاء، ولكن لا

يصح أن يكون الآحاد قواعد يُبنى عليها العمل لمن يريد إحكامه.

وإني أحبُّ أن أصرح بأمر ربما يغضب له بعض أهل الأثرة من أهل العلم

الحنفية وهو أننا مسلمون، وهيهات أن يتيسير لنا بعد فشو ما فشا من البدع في

الدين أن نحافظ على قوام الإسلام من حيث هو، وليس الزمن زمن تعصب

لمذهب دون مذهب، ومن دَرَسَ فقه الشافعية أو المالكية لا يعسر عليه فهم فقه أبي

حنيفة ، فإن الأصول متقاربة والاختلاف في الفروع مذكور في أغلب كتب الفريقين،

وحصر التعيين في الحنفية يضيق دائرة الانتخاب ويلجئ إلى تعيين الضعفاء في

العلم والعزيمة، فلِمَ لا يُطلق الانتخاب من هذا القيد فتتسع دائرته وينتفع من

أهل الاستقامة والدراية عدد ليس بقليل ممن قضى في تحصيل فقه الشافعي أو مالك

أو ابن حنبل اثنتي عشرة سنة فأكثر إلى عشرين أو ثلاثين وجُلُّ ما حصله إنما هو في

المعاملات؟ أرجو أن يصادف ما أتمناه قبولاً لدى العلماء والحكومة فنجد العدد

الكافي من الأكفاء ، لكن إذا توفرت هذه الشرائط في القاضي وكان من المعارف على

ما ذكرنا أفلا يمكنه أن يحصل معيشته بأسعد مما يناله في خدمة المحاكم الشرعية؟

وهل نجد عددًا كثيرًا يقضي حياته بمرتب ستمائة قرش وإذا ترقي فلن يصل إلي

ألفي قرش إلا بعد أن يفوق الأقران ويجوز كثيرًا من العقبات أما ما زاد من المرتبات

على ذلك فهو وظيفة واحدة بثلاثة آلاف قرش وأخرى بأربعة آلاف قرش في محكمة

الإسكندرية ثم تأتي وظائف المحكمة العليا والواصلون إلى هذه المراكز قليلون جدًّا

كما لا يخفى.

فأرى أن الحكومة التى تسعى إلى تكميل المحاكم الشرعية وتقويم حالها لا بد من

أن تزيد في المرتبات ما يفي بحاجة القضاة على حسب درجاتهم وأن تضع نظامًا

لترقيهم في الدرجات يكفل نيل كل منهم حقه على نحو ما هو معروف في القضاء

الأهلي ولا أسال الحكومة أن تجعل المقادير كالمقادير ولكن ألح في مراعاة النسبة

بين العمل ومكانة الشخص وبين مرتبه ، وبهذا يضمن النجاح إن شاء الله وأرجو

أن يكون ذلك من بدايات أعمال لجنة الإصلاح فإنه من الغريب في حكومة

يكون رئيس حجاب المحكمة فيها بمرتب أحد عشر جنيهًا ووكيله بثمانية وأفراد

الحجاب بستة وفرّاشو المحكمة بما بين ثلاثة ونصف إلى ثمانية وأن يكون المفتي

وهو أحد أعضاء المحكمة بسبعة أي أقل من رئيس الفراشين في محكمة من

المحاكم في القطر المصري ثم تطالبه بالمعارف الواسعة والاستقامة الكاملة وجمهور

القضاة فيها يترددون بين الستة والثمانية. وليلاحظ أني أطلب التدريج في تنفيذ

ما يتقرر بحسب ما تسمح به ميزانية الحكومة ولا أكلف الأمة بغير المستطاع.

أما عدد القضاة والمفتين فأراه زائدًا عن قدر الكفاية في كثير من المحاكم

وأرى تقليل عددهم وإحالة من يُستغنى عنه على من يبقى وأن يزاد في مرتبات

الباقين ما يتوفر من الاستغناء عمن لا عمل لهم ولا يرجى منهم أن يعملوا وبعد

الاطلاع على جميع أعمال المحاكم في الوجة القبلي والبحري بما يرد منها من

جداول الأعمال يمكنني أن أضع لذلك مشروعًا وافيًا إن شاء الله.

بقيت أمور لا بد من التنبيه عليها منها عدم الاستقلال في الرأي عند القضاة

وأهم سبب قريب له هو اشتداد علاقتهم بالنظارة في الشؤون القضائية فتراهم يحسون

أنهم مقيدون برأي النظارة في أدنى الشؤون فضلاً عن أعلاها ويكفي أن أذكر أن

محكمة رأت عدم اختصاصها بالنظر في قضية هي من أَولى ما تنظر فيه قياسًا على

رأي النظارة في مسألة أخرى تشبهها ، ومن غرائب التضييق على القاضي في غير

الأمور القضائية أن لا يؤذن له بصرف قرش في ثمن مكنسة إلا بعد استئذان النظارة

واذا انتقل لا يصرف له مصاريف انتقاله إلا بعد ورود إذن من النظارة وهذا التشديد

وإن كان في أمر غير قضائي إلا أنه يوجِد في النفس شعور الذلة والعبودية وضعف

الثقة وهو أخبث شعور يظهر أثره في عمل الموظف وأرى أن تكون علاقة القضاة

بواسطة قلم التفتيش الذي يرأسه المفتي على ما سنبينه ، ومنها أن كثيرًا من

القضاة يتحاشى سؤال الخصم في ما يهم السؤال عنه خشية التهمة ولكنه يستبيح

لنفسه أن ينصح أحد الخصوم بأن يطلب شطب القضية ، وإلا حكم ببطلانها أو أن

يقدم القضية بطريقة أخرى غير التي عرضها أو بأن يستأنف قرارًا صادرًا من

قاضٍ لأن محكمة الدفع التي هو عضو منها تحكم ببطلانه ونحو ذلك مع أن هذا

ممنوع شرعًا ونظامًا لأنه إعانة لأحد الخصمين على الآخر فأرى أن يُشدد على أمثال

هؤلاء القضاة في حظر أمثال هذه المعونات وتنقية المحاكم ممن لا ينجح فيه الإنذار

والإعذار.

ثم لا يخفى أن أقوى ما يحفظ على القاضي استقامته واستقلاله في الرأي هو

أمنه على وظيفته ولهذا أرى أن توضع قاعدة لعزل القضاة بحيث لا يعزل القاضي

إلا بعجزٍ عن العمل يظهر ظهورًا بيِّنًا ، أو تعمُّدٍ لمخالفة العدل والشرع

أو النظام لغاية غير محمودة يثبت عليه ثبوتًا كافيًا في إيقاع العقوبة به اللهم إلا إذا

استغني عنه بأفضل منه عند تنقيص العدد إذا استقر الرأي عليه.

(تابع ويتبع)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 593

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

(14)

من أراسم إلى هيلانة في 8 أبريل سنة - 185

تلقيت مكتوبك أيتها العزيزة هيلانة، فذهب به روعي، وثابت إليّ سكينتي

واطمأن به قلبي عليك كثيرًا لشفيفه لي عما فيك من الإقدام والسلطان على نفسك ،

فأنت حقًّا أشرف صاحبة عرفتها في حياتي، قدر عليّ السجن وعليك النفي،

فاحتملتِ نصيبك من المقدور شريفة النفس، عالية الهمة.

إن نصيحة صديقنا الدكتور وارنجتون إليك بسكنى القرى صادرة عن حكمة

وسداد، فإن الإقامة بالأرياف أولى لك الآن من السكنى في المدن؛ لكثرة ما في هذه

من الصخب والشغب؛ ولأن الاعتكاف والرجوع إلى المعيشة الفطرية هما اللذان

يتيسر لك بهما - ولا شك - استجماع قواك بعد ما لاقيته من تلك الصدمات النفسية

التي أخشى أن تكون زعزعت صحتك فأوهنتها.

اعلمي أن من المفروض عليك أن تكوني صحيحة الجسم، سليمة من الأدواء

لأنك مسئولة من الآن عن الوديعة التي استودعك الله إياها، ولا تستغربي مني

مخاطبتي إياك باصطلاح العلماء بوظائف الأعضاء، فإني ماتعلمت الطب عبثًا بل

تعلمته للانتفاع به.

كل كائن دخل في بداية الحياة عرضة للمرض والهلاك، ولذلك كان للجنين

أمراض حقيقية، فما هي أسباب هذه الأمراض والعلل الخفية؟ لا شك أن بعضها

يعجز العلم عن إدراك كنهه، ولكن لنا كل الحق في أن نعتقد أن للمرأة دخلاً في

بعض ما يولد به الطفل من التشوه، لا أخالك نسيت تلك السيدة د

التي فتنت

القلوب ببديع حسنها، فإنها لمَّا أصابها هوس المرقص، وبعثها على أن تقضي

فصل الشتاء كله رقصًا في قاعات باريس بل أداها إلى الاستمرار على ذلك حتى في

ساعة الوضع - قد وضعت بنتًا فيها شيء من الجمال إلا أنها حدباء.

إذا كان لأعمال المرأة تأثير في الجنين بما وصفنا، فهل يمكننا من جهة أخرى

أن نقف على علاقة بين انفعالاتها النفسية وبين أخلاق ذلك الجنين الذي يحيا بحياتها ،

ويشمله شخصها وتضمه أحشاؤها؟ نعم فقد كان الحكيم هوب [1] يعلل ما فيه من

خلق الخفر بما لاقته أمه من الأهوال أثناء حملها به حينما كانت العمارة الأسبانية

المسماة (أرماد) الشهيرة تهدد إنكلترا وتطوف حول سواحلها، وكان ما يتخيله

أهلها من صورة إغارة الأعداء عليهم يلقي الرعب في قلوبهم.

إنك قد طالعت وقائع (ينجل) فما أشد ما تجدينه فيها من مسكنة

الملك يعقوب الثاني المذكور فيها، فلشد ما كانت ترتعد فرائصه، ويصفرُّ لونه عند رؤيته السيفَ مجردًا من قرابه ألا إن جبن ذلك الملك يضحك الثكلى، على أنه قد

يجب أن يحرك في الإنسان عاطفة أخرى ، إذا صح أن ضعفه هذا ناتج من مشاهد

المصائب والرزايا التي كانت تحيط بأمه مريم استوارت في أثناء حملها به.

إلى أي درجة يتأثر الجنين بتزعزع الشجرة العصبية التي تظله في بطن أمه؟

هذا أمر يصعب الحكم به قطعًا في حالة العلم الحاضرة، ويكفي وجود الشك في

تأثره من أجل إلزام أمه باتقاء أسباب الانفعالات الشديدة، والنظر إلى الأماكن

المشئومة، والابتعاد عن المتاعب وعما يجره الإخلاص في الولاء من الشدائد

والمحن.

المرأة هي قالب للنوع الإنساني يفرغ فيه، فيتشكل بشكله إلى حد محدود،

فيجب عليها لهذه الصفة رعاية صحتها والمحافظة عليها، فيلزمها في الحمل أن

تكون مستريحة الجسم والفكر، مستجمعة القوى، ولكن يندر أن يوجد بين ربات

الجمال من النساء من تصبر فيما جرى العرف بتسميته (الدنيا الكبرى) على ترك

اللذائذ ومجامع الأفراح ومراسح التمثيل لتنال شرف الإتيان بأولاد حسان، بل إن

من خسارة الصفقة لديهن أن يجدن أنفسهن عاجزات عن استئجار غيرهن لتأدية

وظائف الحبل كما يستأجرنهن للرضاعة، فإنهن لو وجدن لذلك سبيلاً لاستأجرت

المثريات منهن - من عهد بعيد - بطون نساء الطبقة السفلى لحمل أجنتهن.

أما هؤلاء، فإنهن لكدهن في وسائل المعيشة لا يجدن لهن من الزمن مايهتممن

فيه كثيرًا بأمر ذريتهن، فقد رأيت بعضهن، وقد أثقلن حتى كدن يشارفن الوضع

تلجئهن ضرورات المعيشة إلى غسل الملابس في نهر السين زمن الشتاء، فكن

يغمسن أذرعتهن في مائه المثلوج ، أو تضطرهن إلى دفع عجلات محملة لتمشيتها،

أو إلى حمل أثقال باهظة يرتاع لها الأشداء من حمالي الأسواق، بهذا تعلمين ماجرَّ

علينا ما في أخلاقنا من الأثرة وحب الاختصاص من رداءة النسل، كل ما يضعف

المرأة التي هي قرينة الرجل وصاحبته يضعف الذرية ويحط من شرف الجنس،

فإذا أراد المجتمع الإنساني أن يضمن لنفسه الحصول على أولاد حسان الخلق

يكونون في المستقبل رجالاً أشدّاء، فلا يتسنى له ذلك إلا بتحري العدل في تقسيم

ثمرات العمل، وبأن يعرف للمرأة ما تستحقه من الاحترام والإجلال. اهـ

(15)

من أراسم إلى هيلانة في 10 أبريل سنة - 185

ليست مكاتيبي إليك كغيرها مما يكتب الناس بعضهم إلى بعض، وإنما هي

أحاديث مسجون يناجي بها في عزلته أعظم شقيقة لنفسه وأحسن قسيمة لروحه،

لا بد أن يكون قد سبق إلى ذهنك ما أقصده منها ففطنت إليه ، إني أريد أن

أعمل بقدر استطاعتي، وأنا في مطارح النوى لتحصيل السعادة لذلك الذي بشّرنا الله

به، فإنه ليعرض لفكري أن هذا الطفل قد لا يعرفني ولا يراني أبدًا، وقد يتهمني يومًا

ما بأني أهملت ما فرضه الله عليَّ من الواجبات التي تحفظ حقوقه بالقيام بها،

فيحرج لذلك صدري وينقبض قلبي، ولكن هل أكون مستحقًّا لهذا اللوم إذا كنت على

ما أنا فيه من العجز عن حياطته بضروب الرعاية وصنوف الملاطفة أدفع له دَين

الأبوية من نقد آخر؟

إني بمكاتيبى إليك سأؤدي على بعدي من ولدي ما فرض له عليّ من حقوق

التربية لإعواز غيرها من الطرق المثلى لأداء هذا الفرض، فقد درست شيئًا من

أحوال الإنسان في تطوافي حول الأرض بوظيفة طبيب بحري، ورأيته في أقاليمها

المختلفة، وفي أعمار مجتمعاته المتباينة، ولذلك أرى أن في قدرتي أن أستنتج من

أفكاري ومما تحفظه ذاكرتي من الحوادث طريقة للتربية مؤسسة على نواميس

الكون وتاريخ دقائقه، فعلينا الآن أن نتبادل الأفكار في ذلك، فسأكتب إليك بما يبدو

لي، وتكتبين إليّ بما يعنّ لك حتى تتحد روحي وروحك في السهر على مهد هذا

الولد العزيز رعاية له وعناية بشأنه، سأراه في منامي يشب وينمو، وأنت

ستحدثيني عنة في مكاتيبك، وستخبرينه بوجودي، ولا موجب لاهتمامك بمستقبله،

فإن تربية الطفل الأولى هي من خصائص والدته، وأنت أهل للقيام بها وحدك بما

فيك من يقظة القلب وتوقد الذكاء، وسننظر بعد فيما يلزم من أمور التربية المستقبلة.

لكنا يجب علينا أن نعين الغاية التي يلزمنا أن نرمي إليها في مساعينا، إني لا

أعلم مطلقًا بوجود قالب يفرغ فيه الناس فيخرجون من النابغين، ولئن كان فليس

هو للتربية قطعًا، بل إنه يكون بين يدي الخالق سبحانه يهيئ به من يشاء لما يشاء

فإذا كان ولدنا ذكرًا كان غرضي من تربيته أن يكون رجلاً حرًّا، ولا أقصد بحال

من الأحوال أن يكون من كبار الرجال وعظمائهم 0 اهـ

(16)

من أراسم إلى هيلانة في 11 أبريل سنة - 185

أراك متطلعة إلى أخباري، راغبة إليّ في أن أوافيك بشيء منها، فها أنا ذا

أخبرك بأن السجن واحد في جميع البلاد، فليس بين المكان الذي تركته وبين هذا

الذي أسكنه الآن على رغمي كبير فرق، وإني من عهد وصولي إليه قد لجأت

إلى المطالعة، فإني وجدت الكتاب في غيبتك عني أحسن قرين لي، يؤنسني

ويُسرِّي عني الهم، ماذا أقول بعد ذلك؟ غاية ما أقول لك أني عائش راج الفرج

ثابت على حبك، والسلام.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هو توماس هوب الحكيم الإنكليزي الشهير المولود في سنة 1588 م، المتوفى في سنة 1679 م وهو من أنصار مذهب الاستبداد في السياسة ومذهب الماديين في الحكمة.

ص: 598

الكاتب: محمد رشيد رضا

دروس جمعية شمس الإسلام

(7)

(أمالي دينية - الدرس السابع)

(24)

المحكم والمتشابه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ

هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ

الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ

مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) .

الكلام في أي لغة من اللغات منه نصوص واضحة المعنى لا إجمال فيها ولا

إبهام، يُعرف مراد المتكلم منها بمجرد إطلاقها، ومنه ما يجيء في لباس الإجمال أو

الإبهام، أو في طريق من طرق المجاز أو الكناية بحيث يخفى المعنى المراد منه

لاشتباهه بغيره، إلا على الراسخ في العلم الذي جاء الكلام المشتبه أو المتشابه فيه

وفي لغة ذلك: الكلام مفرداتها وتراكيبها وأساليبها، وما عساه يكون

للموضوع من الاصطلاحات الخاصة ليتسنى لذهنه رد الفروع إلى أصولها وإلحاق

الأبناء بأمهاتها التي تولدت منها، أضرب لكم مثل النحاة فإن معنى لفظ (الفعل)

عندهم (اللفظ الذي يدل على معنى مستقل بالفهم مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة) وقد

يجيء في كلامهم بمعناه اللغوي وهو الحدث، فمن لا يكون عارفًا باصطلاحاتهم

وباللغة يضل في فهم المراد من هذا اللفظ في هذه الحالة، والراسخ يصرف الكلام

إلى ما ينطبق على قواعد الفن العامة، فلا يضل ولا يجهل.

نطقت الآية التي صدَّرنا بها الكلام بأن في القرآن آيات محكمات لا يشتبه

العقل في فهمهن هن أم الكتاب وأصل الدين ، ترجع إليهن وتحمل عليهن سائر

الآيات التي سماها متشابهات، ومن هذه المحكمات قوله تعالى في تنزيه ذاته العلية:

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وقوله عزّ من قائل: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ

العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) ومن الآيات التي جمعت بين المحكم

والمتشابه قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ

وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر: 67)

ومن المتشابهات قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ

أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (المائدة: 64) وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} (النحل: 50) وقوله

تعالى جده: {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (الأنعام: 18) وقوله جل ثناؤه:

{الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فأمثال هذه الآيات كانت مضلة لأهل

الزيغ والتأويل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ويضلون الناس

بأهوائهم بغير علم، فذهب منهم قوم إلى التجسيم وقوم إلى الحلول؛ افتراء على

الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت

تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة:16) ومن المتشابه بعض ما أخبر الله تعالى به

من علم الغيب، كقوله تعالى في جهنم:{عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (المدثر: 30)

وقوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي البُطُونِ} (الدخان: 43-45) ومن العلماء مَن يقول: إن جميع ماجاء في القرآن عن عالم

الغيب من المتشابه كالجنة وما فيها، والنار وما فيها، وسائر أمور القيامة كالملائكة

والجن والشياطين، وكون السماوات سبعًا، والعرش والكرسي، فإن هذه الأشياء

أمثالها لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، وربما يعلم تأويلها الراسخون في العلم، ولقد

افتتن بها خلق كثير، وفتنوا الناس بتأوبلها حتى يكاد يكون الضالون في فهمها أكثر

من الضالين بآيات الصفات، ومن وقف على تاريخ الباطنية ، لا سيما دعاة العبيديين

في مصر ودعاة البابيين والبهائيين في هذا العصر يتبين له تفصيل ما أجملنا.

(25)

مذهب السلف والخلف في المتشابه: عُلم مما ذكرنا آنفًا أن المتشابه

على ضربين: أحدهما ما أطلق على الله تعالى من الصفات التي أطلقت على البشر

وما عزي إليه من الأشياء والشؤون التي تعزى إليهم، وثانيها ماذكر من أحوال

عالم الغيب المخلوق له تعالى مما له نظير في عالم الشهادة، ومما لا نظير له،

والإيمان بمثل هذه الأشياء هو الإيمان بالغيب، وهو دعامة كل دين وأساسه، ومعيار

اليقين فيه وقسطاسه، ويشترط في الديانة الإسلامية أن يكون الإيمان خاضعًا لحكم

العقل، فلا يكلف أحد أن يؤمن بما يحكم العقل باستحالته، بل تأويل ما عساه يوجد

مخالفًا للعقل من ظواهر الشريعة وتطبيقه عليه - واجب، وأجمع المسلمون

الذين يُعتد بإسلامهم على أن أصول الدين وأسسه مؤيدة بالبراهين العقلية وإليها يرد

سائر ماجاء فيه.

أما المتشابه من آيات الصفات وأحاديثها، فقد اشتهر على ألسنة أهل التوحيد،

وفي كتبهم أن للمسلمين فيها مذهبين: مذهب السلف وهو الإيمان بها على ظاهرها

مع تنزيه الله تعالى عما يوهمه الظاهر من التشبيه المحال عقلاً، ويقولون: الله

أعلم بمراده باليد واليمين والاستواء على العرش وما ماثل هذا، ويسمون هذا

المذهب مذهب التفويض، ويقولون: إنه أسلم، ومذهب الخلف هو تأويل هذه

الكلمات وتخريجها على وجه ينطبق على قواعد التنزيه بما تقتضيه أساليب اللغة من

ضروب التجوز والكناية، ويسمونه مذهب التأويل، ويقولون إنه أعلم وأحكم،

والصواب أن الأقوال في هذا المقام ستة، استوفينا الكلام عليها في كتابنا (الحكمة

الشرعية) .

والذي يجب أن لا يختلف فيه هو أن هذه الآيات ما أنزلت عبثًا، وأنها ليست

فوق عقول البشر، بل جاءت على أساليب كلام العرب، وحسبكم من فائدتها أنها

تفيض على الأرواح من خشية الله وقوة الإيمان بعظمته وسلطانه ما يطهرها من

الرجس، ويجذبها إلى عالم القدس ويبغض إليها الرذائل، ويحبب إليها الفضائل

تقربًا إلى الله تعالى وطلبًا لما عنده، ومن كان ذا سليقة عربية وعقيدة صحيحة

مرضية، وتلا أو تُلي عليه قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا

قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ} (الزمر: 67) الآية، يشعر بأن الهيبة والجلال قد ملآ أركان

قلبه، وملكا عليه أمر وجدانه سواء كان يعتقد بأن لله يدًا لا كالأيدي، ويمينًا لا

كالأيمان، وأن القبض على الأرض، وطيّ السماوات هو من وظيفة اليد واليمين

الإلهية من غير تشبيه ولا تمثيل، أو يعتقد أن الكلام تمثيل لعظمة سلطان الله تعالى

وانفراده في ذلك اليوم بشؤون العوالم العلوية والسفلية بحيث لا يكون لغيره فعل ولا

كسب، ولا أمر ولا نهي ولا ضر ولا نفع، وهذه الآية هي بمعنى قوله تعالى في

الآية المحكمة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4) ، ولا ينكر أحد من نفسه أن

المعنى الواحد تختلف آثاره في الوجدان باختلاف العبارات التي يتجلى بلباسها، وأن

التمثيل أبلغ ضروب الكلام تأثيرًا، وأكثرها ضياء ونورًا، وأي ذوق عربي يطوف

به من قراءة هذه الآية تشبيه الله تعالى بخلقه، وهو يعهد مثل هذا التعبير في اللغة

حتى من الصبيان، يقولون: إن هذه البلاد أو تلك القبيلة في قبضة فلان، وإن زيدًا

في أصبع عمرو كالخاتم، على أن الآية يحيط بها التنزيه من طرفيها كما ترى، مَن

علم أن جميع ما جاء في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة من هذا النوع من المتشابه

يُراد به تقرير العقائد الثابتة بالعقل والنصوص المحكمة وكبح النفوس - بذكر

صفات الجلال والعظمة - عن الشرور، وجذبها بصفات الجمال إلى معاهد الضياء

والنور، ليكون المؤمن بالأولى من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وبالأخرى

من الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب؟ مَن عَلِم هذا

ولاحظه لا يشتبه عليه متشابه، سواء فَوَّض أو أَوَّل، وصرح غير واحد من

المحققين بأن جميع ما أطلق على الله تعالى من الصفات الثبوتية من المتشابه لا أنه

مخصوص بما لا يعرف إلا بالسمع، وصرَّح الإمام الغزالي بأن لفظ القدرة

مستعار للصفة الإلهية التي يوجِد بها ويُعِدم، وأن معنى هذه الصفة هو أجلّ وأرفع

من أن تلمحه أعين واضعي اللغات، فيضعون له لفظًا يدل عليه حقيقة، وحقًّا قال

فإن هذا اللفظ وضع لمعنى في الإنسان لا يصدر عنه إيجاد ولا إعدام، والحكماء

والعقلاء متفقون على أن قدر البشر إنما تتصرف في الموجود فحسب.

وأما المتشابه بالمعنى الآخر، فقد كلفنا بالإيمان به على ظاهره إذا لم يكن

مخالفًا لأحكام العقل والأصول المقررة بالشرع، وكانت النصوص به قطعية،

وسيأتي تفصيل القول به في السمعيات إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 603

الكاتب: نقلا عن جريدة المقطم

‌الدولة العلية في أفريقية

لحضرة صاحب الإمضاء

قال مُكاتب جريدة (فرنكفورت) الألمانية من الآستانة أنه لمَّا أبرم اتفاق

السودان بين فرنسا وإنكلترا في شهر مايو الماضي اجتمع مجلس الوكلاء مرارًا في

يلديز، وأقر على إرسال الجنود والمدافع إلى خلف طرابلس الغرب في طرق

القوافل المؤدية إلى بحيرة تشاد وإلى تيبستي لبقاء تلك الجهات في منطقة نفوذ الدولة

العلية، وحفظ سيادتها عليها، وصادق جلالة السلطان على هذا القرار، ولكنه بقي

حبرًا على ورق، ولم يخرج من القوة إلى الفعل إلا منذ أسبوعين، فإن الدولة

العثمانية أرسلت سبع أورط من مشاتها وألايًا من فرسانها، وست بطاريات من

مدافعها إلى الحد الجنوبي من فزان، فسارت حتى نزلت على بعد 900 كيلو متر

جنوبي الأماكن القصوى التي كانت الجنود العثمانية نازلة فيها قبلاً، ولكنها لا تزال

تبعد 1500 كيلو متر عن ودّاي، وقد صدر الأمر بزيادة عدد الجنود العثمانية في

طرابلس الغرب زيادة دائمة.

وأرسل مكاتب روتر من الآستانة يقول إنه سمع من بعض الأتراك أن

والي طرابلس الغرب أوفد وفدًا إلى وداي ومعه بعض العساكر العثمانية، فرفعوا

الراية العثمانية عليها، والغرض من إرسال هذا الوفد توطيد سلطة السلطان على

الجهات الواقعة خلف طرابلس الغرب إلى حد بحيرة تشاد لتؤمِّن القوافل التي تسير من

داخل أفريقية إلى ساحل البحر.

ولكني علمت من جهات أخرى أن ما سمعته من بعض الأتراك سابق لأوانه،

وإن يكن السلطان يروم مد سلطته إلى داخل أفريقية؛ لأنه إذا فعل الباب العالي ذلك

وقعت المشاكل بينه وبين فرنسا، إذ وداي وبحيرة تشاد واقعتان ضمن منطقة

نفوذها حسب الاتفاق الذي عقد بين إنكلترا وبينها.

...

...

...

...

... (المقطم)

_________

ص: 607

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مساجد الصعيد

رأينا في سياحتنا في الصعيد كثيرًا من المساجد متداعية الجدران، مدعثرة

الأعضاد، يريد بعضها أن ينقض، وبعضها قد انقض بعض جدرانه فعلاً، وديوان

الأوقاف غني يوجد في خزينته قريب من مائتي ألف جنيه، فلماذا لا يصلح هذه

المساجد؟ هل الأولى له أن يتمتع بلذة وجود المال في الصندوق، وإن كانت اللذة

مشوبة بألم الخوف عليه من المالية، ومن البنك الأهلي؟ هل من العدل والإصلاح

أن ينفق بسعة وكرم حاتميّ على زخرفة بعض المساجد في القاهرة فيحليها بالذهب

ويفرشها بالزرابي الفاخرة لتملأ عيون السياح من الإفرنج، ويبخل على سائر

المساجد بإقامة جدرانها وإصلاح بنيانها وفرشها بالحصير؟ أما يكفي تقتيره على

الأئمة والخطباء والخدمة الموجِب لعدم قيامهم بوظائفهم؟ نقول هذا عن تألم

وإخلاص، ونجوّز أن يكون للديوان بعض العذر في بعض ذلك، وعسى أن يلتفت

الديوان إلى هذا، فيبادر بتدارك ما يمكنه تداركه، فإن الشكوى منه كادت تكون

عامة، وننبه أصحاب البلاد والجهات الذين أهملت شؤون مساجدهم أن يطلبوا

إصلاحها من جناب الخديوي المعظم، وسموه يلبي طلبهم إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 608

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقرير مفتي الديار المصرية

في إصلاح المحاكم الشرعية

(الحُجَّاب)

ينبغي أن يعين للمحاكم الشرعية حجاب يقرءون ويكتبون، ويستطيعون أن

يحفظوا النظام إذا دعت الحاجة إلى ذلك في الجلسات على ما هو معروف في الدوائر

القضائية الأخرى، وهذا مما يطلبه القضاة ويلحون فيه.

(الأعمال الكتابية)

نبتدئ منها بالعقود والإشهادات وما يتبعها؛ لأن الكلام عليها لا يطول، على

أنها من أهم أعمال هذه المحاكم، خصوصًا إذا رأت الحكومة فيما بعد أن تضع في

قوانينها أنه لا يقبل سند على من لا يعرف القراءة والكتابة، إلا إذا كان ذلك السند

محررًا بحضرة مأمور قضائي، والمحاكم الشرعية هي الأقرب والأوثق عند الناس

في مثل هذه الشهادات، على أن هذا النوع ليس بقليل الآن في دوائرها.

حفظ كُتَّاب هذه المحاكم ألفاظًا معينة يضعونها في أساليب معتلة مع تكرار بارد

يعسر معه الفهم، ويسأم منه الذهن، وقد عمت شكوى جميع القضاة من ذلك، حتى

إن سماحة قاضي مصر ذكر فيما طلب إدخاله من الإصلاح وتفضل بإرساله إليّ

(الاختصارفي الشهادات والمرافعات إلى الحد الذي لا يُخل بالمطلوب شرعًا) فإن

ذلك أمر يحتاج إلى وضع قانون وذلك ناشئ من جهل الكتبة وظنهم أن تلك الألفاظ

في تلك الأساليب السمجة لا بد منها شرعًا ولا يصح العقد بدونها، وكان يوافقهم على

هذا الزعم بعض القضاة، وربما لا نعدم من بقاياهم اليوم من يكون على رأيهم.

لهؤلاء الكُتَّاب عناية بتعريف الأشخاص من متعاقدين وشهود وجيران في

الحدود، يضيق لها الصدر ويضل فيها الفهم، ويحملون المُشهد على ذكر جد جاره،

وقد يكون ذلك الجار ممن لا يعرف أباه فضلاً عن جده ويضطرونه إلى الكذب،

مع أن المقصد من تعريف الشخص تمييزه، ويكفي فيه ذكر اللقب المشتهر به

المعروف به في بلده أو محلته بحيث لا يشركه غيره في مجموع الاسم واللقب

والصنعة ومحل الإقامة، ومع أن الشهرة تغني عن ذكر النسب فإنهم يعرفون الجناب

الخديوي بذكر نسبه إلى جده، ويعرفون مدير الجهة أو محافظها بأبيه وجده، مع أنه

سبق من المديرين مَن ربما لا يكون جده معروفًا لأحد من الناس في هذه البلاد ولا له

نفسه، وعندنا كثير من أبناء الجراكسه والأحباش الذين جيء بهم وهم صغار لا

يعرفون آباءهم فضلاً عن أجدادهم، فذلك الجد أو الأب المجهول كيف يكون مميزًا

لهذا الرجل المعروف؟ على أن الناس يضطرون في كثير من الأحيان إلى أن

يخترعوا أسماء ليرضوا جهل الكاتب ويتخلصوا من حمقه.

يستشهدون على وكالة ناظر المالية عن الجناب الخديوي، ووكالة المدير عن

ناظر المالية في بيع أطيان الميري الحرة بشاهدين: أحدهما معاون في مديرية،

والآخر كاتب فيها، كأن هذين الشاهدين حضرا عقدي الوكالتين، ولا يكتفون

بالأوامر الصادرة في ذلك، ويعدونها من المؤكدات فقط، وقد يتكرر عقدان في

صحيفة واحدة أو صحيفتين متواليتين، ويذكر في كل منهما تفصيل التعريف

والشهادة علي هذا التوكيل ونحو ذلك في بيع العقار، وفي الوقف يأتون في تفصيل

المساحات والحدود بما لا يمكن معه فهم العقد، ويأتون في شرائط الوقف وفي

صيغته بأمور ألفوها يرتبك في فهمها كل من قرأها، ومن هذا الهذيان يتولد أغلب

المشاكل التي تحدث في الأوقاف ودعاوي الاستحقاق.

من السخافات التي ألفوها أن يذكروا في حجج إنشاء العمارة قولهم: (بعد أن ملك

فلان أرض كذا عنَّ له فعل مايأتي ذكره، وهو أنه أحضر المون المتقنة، والآلات

المحكمة من طين وجير وجبس وأخشاب، وما يلزم لذلك من البنَّائين

والفعلة والنجارين، وغير ذلك مما يحتاج إليه ويتوقف أمر العمارة وتمامها عليه، مع

ان المنشئ ربما لا يكون أتى بشيء من ذلك، وقد يكون هو الباني بيده إن كان

بناء، وجاء من لوازم البناء بغير الجبس والجير مثلاً، وبني بالطين والرمل، فلو

نازعه منازع بأن هذا البناء ليس هو المذكور في الحجة، واستدل بأن مونته ليست

متقنة؛ وليس فيها جبس ولا جير لرجح عليه في المخاصمة وضاعت العمارة

من يده بحماقة الكاتب.

وقد رأيت إشهادًا بإقامة الجناب الخديوي ناظرًا على وقف في دمياط استغرق

سبع صفحات بالخط الدقيق لو كتب بالخطوط المعتادة استغرق عشرين صفحة أو ما

يزيد على ذلك، ومعظمه من اللغو الذي لا فائدة فيه، ويضر بفهم الكلام.

جاءني رقيم بطريق البوسطة من أحد الأدباء يستغيث بي من تكرار لفظ

(المذكور) و (المذكورة) في عقود المحاكم ومرافعاتها، وعرض لي أن عددت

هذين اللفظين في شهادتين صغيرتين، فوجدتهما تكرّرا سبعًا وعشرين مرة ربما

يحتاج الكلام إلى أربع مرات منها، والباقي لغو لا معنى له.

وأرى أن إصدار الأوامر بالاختصار لايفيد في تطهير المحاكم من هذه السخافة

التي يتبرأ منها الشرع ولغته، بل لا بد من تشكيل لجنة من أهل الشرع العارفين

بطريق التوثيق، وأذكياء الكُتَّاب لتنظر في هذا النوع من التحرير، وتضع رسمًا

لكل نوع من أنواع العقود، وتوزعه النظارة على المحاكم ليحذو الكُتَّاب عليه،

وتُوعِد من خالفه بالتأديب إلى أن يوجد في المحاكم أناس يعرفون اللغة العربية وما

تدل عليه أساليبها الصحيحة من الإلمام بالشريعة.

(ما يكفل السرعة في العمل)

وضعت النظارة قواعد وأنشأت لها قسائم لو اتبعت لم يشك شاكٍ

من تأخرالعمل فيما يطلبه من المحاكم الشرعية، ولكن كثيرًا من المحاكم

يغفلها فتستمر الشكوى، وذلك إما لجهل الكاتب بفائدتها، أو تعمد إغفالها لسبب من

الأسباب ، ولا تحتاج في الإلزام بها إلا إلى تشديد المراقبة ومداومة التفتيش.

(الدفاتر)

دفاتر المحاكم كثيرة جدًّا، ورأيت أن بعضها لا يُحتاج إليه كيومية الملخص

مع وجود دفتر الفهرست، وكدفتر مواعيد القضايا إن لم يجعل بمنزلة الرول الذي

يوضع أمام القاضي في الجلسة، وأرى أن يُعاد النظر في هذه الدفاتر لتقرير ما يبقى

وإلغاء ما يلغى تخفيفًا للعمل واقتصادًا في الورق والجلد والزمن، وإنما أخص بالذكر

هنا دفترًا أطلب محوه في أقرب وقت وهو دفتر مضابط القضايا الذي تثبت فيه

محاضر الجلسات، ويجب أن يستبدل بمحاضر وملفات على نحو ما هو جارٍ في

الدوائر القضائية الأخرى، وذلك أن هذا الدفتر يحتوي على الدعاوى، وما يحصل

فيها من تأجيل أو شطب، أو مرافعة وشهادات وحكم، ولكن على ضرب من

التشويش لا يُستطاع احتماله.

يأتي المدعي مثلاً، فيذكر في أول صفحة من الدفتر أنه جاء وأُجِّلت الدعوى

لأعذار خصمه، ثم يتلو هذه الدعوى دعاوي أخر، وفي الصفحة الخامسة يذكر أن

الخصمين حضرا، ولم يكن معهما شهود معرفة فأجلت القضية، وبعد عشر

صفحات يذكر شيء من المرافعة، وبعد خمس أخرى يذكر بقيتها، وبعد ست أو

سبع تذكر شهادات، وهكذا، وربما تفرقت أجزاء القضية في أربعة دفاتر أو أكثر،

وبقي النظر فيها من سنة إلى سنة أخرى، فإذا صدر فيها حكم ابتدائي، ودفع

المحكوم عليه احتيج إلى نسخ هذه الأجزاء وجمعها من صفحات الدفاتر لترسل إلى

محكمة الدفع، وإذا احتاج أحد الخصمين لأخذ صورة المرافعة تجشم الكاتب مشقة

التقاط هذه الأبعاض من وجوه الصحائف في جميع تلك الدفاتر، خصوصًا ولا

فهرست للقضايا حتى يسهل الاهتداء إليها، وإذا أريد التفتيش والبحث في قضية

ضاع الوقت في تقليب الأوراق.

وما رأيت قاضيًا من قضاة المديريات والمراكز إلا وهو يشكو من تحرير

المحاضر بهذه الطريقة، فأعيد طلبي لمحو مضبطة الدعاوى، وإبدالها بملفات

تحتوي على جميع المحاضر والأوراق جملةً ، لكل قضية على حدتها ملف، فإذا

انتهت القضية حفظت مع أمثالها من قضايا السنة في محافظ، وأودعت الدفترخانة

على ماهو معروف، فإذا استؤنفت القضية أُرسل ملف الدعوى بجميع ما فيه من

الأوراق إلى محكمة الدفع، ولا بد أن يكون لمحاكم الدفع محاضر على هذا النحو.

ثم إن دفتر السجل يوجد فيه نوع من تقسيم الأنواع وتمييزها، وإن

كانت تحتاج إلى فضل تمييز، أما مضابط الإشهادات، فتثبت فيها الأنواع مختلطة

كأنها كشكول، ومن اللازم تمييز الأنواع فيها على نحو ما في السجل، ثم وضع

فهرست في أول كل دفتر يحتوي على بيان ما فيه.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 610

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

(17)

من هيلانة إلى أراسم في أبريل سنة -185

قد تمّ لي القرار في المنزل الذي استأجرته وفي صباح اليوم قدم على إحدى

السفن التجارية خادمانا الزنجيان (قوبيدون وزوجته جورجيه) آتيين من فرنسا

حيث كانا تخلَّفا عني لحزم أمتعتنا، فأسكنتهما رواقًا ملاصقًا للمنزل من ناحية

البستان، وأنا الآن أساعدهما في نفض كتبك وترتيب مجموعاتك.

لم يكد يستقر هذا الزنجيّ البار حتى وجَّه عزيمته إلى أعمال شتى، فصرح لي أن

في نيته قلب أرض البستان وبذر الحبوب، وغرس أنواع من النبات فيها، إلى غير

ذلك من الأعمال، وقال لي: إنه لا لوم عليه إذا أنتج بستاننا عما قليل أطيب فواكه

البلد وأجود بقوله، وهو يذكر سابق اشتغاله بزراعة الأرض أيام رِقِّه، وهو فَرِح

فخور أنه ينبعث إلى العمل بسائق الشكر والإقرار بالنعمة بعد أن كان لا يلجئه إليه

إلا خوفه من أليم الضرب بالسوط، ويقول: ما أشد إتقان ما سيصير إليه شغلي، فقد

أصبحت مالكًا لنفسي، منفلتًا من ربقة الاستعباد.

لا أخفي عنك أن المقارنة بين اسمه والمسمى كانت مدعاة الضحك ومثار

الاستغراب، وأن سكان مرازيون يضحكون منه؛ لأنهم يستصعبون التوفيق بين

معنى العشق الذي يدل اسمه (قوبيدون) عليه، فإنه في أساطير اليونان اسم للعشق

الذي هو ابن الزهراء إلاهة الحسن، وبين مشفري ذلك الزنجي الغليظين وأنفه

الأفطس، وجلده الأسود، وإني لا أخشى أن يكون هذا الاسم لم يطلق عليه من

مواليه السالفين إلا تهكمًا وسخرية، ولكني على رأيي هذا لم أجسر أن أكلمه في

تغييره، فإني لو فعلت لكان هذا اعترافًا مني له بأنه دميم، أو تصريحًا بأن البيض

لا ينصفون الإفريقي مثله.

أنا في هذا البلد أعيش بمعزل تام عن الناس، فلا أتردد إلا إلى دار السيدة

وارنجتون حيث أصادف أحيانًا بعض سيدات من بنزانس أو من ضواحي مدينة

لوندرة، والذي يشغلني في اختلاطي بهؤلاء السيدات هو الطريقة التي تجري عليها

الإنكليزيات في تربية أولادهن، وإني مجتهدة بملاحظتي إياهن في تعلم أخلاق

وأعمال الأمومة.

إن سكان كورنواي وإن صح أنهم ليسوا من نسل الإنكليز السكسونيين لما يقال

من انتسابهم إلى فصيلة من الصقالبة، ولما أراه بينهم وبين البريتونيين [1] من

المشابهة الكبرى في لون الشعر وملامح الوجه - إلا أن بين هؤلاء السكان عدة من

الأسر (العائلات) الإنكليزية، ومن كان من الباقين غير إنكليزي الأصل، فقد

تخلقوا بأخلاق تلك الأمة التي ألحقهم بها الفتح وسرت فيهم عاداتها على تفاوت في

ذلك قلة وكثرة.

انظر كيف يستقبح النساء في إنكلترا طريقة تقميط الأطفال ويستهجنَّها،

ويقول الوالدات منهن استهزاء بنا أننا ندخل أطفالنا في أكياس رئاء الناس حتى إذا

سنحت لنا الفرصة علقناهم على مسامير في الحائط، واكتفينا بذلك مؤنة ما تستلزمه

حالتهم من العناية والرعاية إذا كانوا غير مقمطين، وإنما ساغ لهن أن يقلن ذلك؛

لأن أطفالهن يتمتعون بتمام الحرية في حركاتهم؛ لأنهن يلبسنهم ثوبًا طويلاً من

الصوف اللين (فانيلاّ) فيكونون فيه مالكي أنفسهم على قدر ما لهم من القوى

الصغيرة في ذلك السن، وإني والحق أقول معجبة بهذه العادة لأني كثيرًا ما ساءني

رؤية الأطفال يُربَطون وتُحصر أجسامهم في لفائف تُضم أطرافها بالدبابيس،

فيكونون كجثث محنطة لُفَّتْ بشرائط من الكولان [2] .

الأطباء الإنكليز كافة يمقتون مايجعل في أثواب الأطفال من الحبال التي

يعتمدون عليها في دبيبهم، وما يتخذ لهم من الدراجات الخيزورية [3] والآلات

المتدحرجة لأجل مساعدتهم على الدرجان، ويؤكدون أن استعمالها مما يؤدي إلى

تشوه صدر الطفل واعوجاج ساقيه بما يستلزمه ذلك الاستعمال من وقوع ثقل الجسم

كله على العقبين.

بل إن الدكتور وارنجتون قد بالغ في الأمر حتى قال بوجوب تعويد الطفل

من نعومة أظفاره، على أن تكون أعماله كلها عن قصد وعزيمة، ولهذا يجب

ترك إقامته وتمشيته بالآلات الصناعية حال عجزه عن ذلك بنفسه؛ لأن فيه تضليلاً له

في فهم مقدار قواه، فإنه حينئذ يتوهم أنه يدرج بنفسه، والدارج في الحقيقة هي

تلك الآلات التي يعتمد عليها، وهو وهمٌ يصحبه طول حياته، ويظهر أثره في

عامة شؤونه.

يتعلم الأطفال هنا الحركة والانتقال بأنفسهم، فإنهم يُتركون وشأنهم في التحرك،

فيتدحرجون ويَحْبون على بساط يفرش لهم، وينالون من القوة تدريجًا مايمكنهم من

الوقوف، ثم يخاطرون بأنفسهم فيخطون خطوات مستعينين فيها بالاعتماد على

مايكون قريبًا منهم من أثاث المكان، فإذا اضطربوا لضعفهم تلقتهم أذرعة أمهاتهم

فمنعتهم من الوقوع.

هذه الطريقة التي هي سُنة الله في خلقه، وليست سوى التخلية بين الطفل

وعمله ، هي أيضًا أكثر انتشارًا في أمريكا منها هنا، فقد سمعت بمناسبة الكلام فيها

أن سائحًا إنكليزيًّا صادف يومًا وهو في الولايات المتحدة بأمريكا صبيًّا في الثانية أو

الثالثة من عمره يزحف بيديه ورجليه على حرف قنطرة مدعثرة يتدفق من تحتها

سيل صخب، فارتاع لقحوم هذا الحدث المتهور في الخطر، فأسرع في التماس

والدته، فأصابها جالسة مطمئنة على حافة مجرى هذا السيل نفسه تغسل ثيابًا، فمثّل

لها مارآه من حالة ولدها، وهو فزع متخوف عليه الهلاك، فما كان جوابها إلا أن

قالت غير مدهوشة ولا منزعجة: إن الصبي معتاد على العناية بنفسه ووقايتها،

وإني إذا عدوت إليه لإبعاده عن مظنة التهلكة مُظِهرةً له الجزعَ والهلعَ كان ذلك

- ولا شك - مُذهِبًا لرشاده مُضيعًا لسداده، فلما سمع السائح الأجنبي منها هذا القول

اقتصر على مراقبة الطفل لينظر ماذا يكون من أمره، فرآه قد مكنه ما بذله من

قواه من تنكب طريق الهلاك 0

أنا إن سيقت ليَ الدنيا بحذافيرها على أن أرى صبيًّا لي في هذه الحالة ما

رضيت، ولكن تلك المرأة لم تخطئ خطأ بيّنًا في تعريضها ولدها للخطر على ما

رأيت كما قد سبق إلى الذهن، بل إنها فهمت فروض الأمومة الحقة أحسن مما

فهمناها، فإن هذا الطريق في سياسة الأحداث من بداية نشأتهم هي سبب ما نراه في

سكان أمريكا الشمالية من ميلهم إلى المخاطرة، وشغفهم بالاستقلال.

الوالدات الإنكليزيات كافة يتمنعن من تغطية رءوس أطفالهن، ولا

يقبلن أن يضعن عليها القبعات المحشوة بالوبر التي هي تيجان الضعف، نعم إنه قد

يُعترض عليهن بما في ذلك من تعريض الأطفال للخطر لما يتوقع من سقوطهم،

ولكنهن يدفعن هذا الاعتراض أولاً بأن رعايتهن لهم واهتمامهن بأمرهم يقومان مقام الوسائل التي تتخذ عادة لوقايتهم، وثانيًا بأن الطفل كلما شعر بقلة أسباب الوقاية من

جانب الغير زاد احتراسه وتوقيه، فيلزم أن يربى فيه من صغره خلق الاستقلال

بحماية نفسه والدفاع عنها لا أن يُعوَّل في حفظه على بعض طرق احتياطية لا تغني

عنه شيئًا، وهي دائمًا مبنية على الوهم والخطأ قلَّ ذلك أو أكثر.

إذا شاهدت الطفل الإنكليزي وهو مكشوف الرأس والذراعين والساقين، خلته

هرقلاً [4] صغيرًا ، وإن كان لا يخنق الأفاعي - لانقطاع دابرها من جزيرته -

ولكن قد بدت عليه مخايل الجسارة، وسمات الجراءة والإقدام، أنَّى يوجد دم

أغزر مادة من الدم الإنكليزي، وأي نسل أقوى من نسل الإنكليز؟ إن معايب الجسم

وأنواع تشوهه هي في غاية الندرة هنا، ولا إخالك تصدقني إذا قلت: إني إلى الآن

لم يقع بصري على أحدب، أليس جمال النسل حجة قائمة تنطق بأفصح لسان،

مؤيدة مذهب الحرية الذي جرى عليه جيراننا في طريقة تربية أولادهم؟ المهد

المذبذب الذي هو من لوازم الأطفال عندنا قليل الاستعمال جدًّا فيما وراء بوغاز

المانش (أي بلاد الإنكليز) وإنما يوجد للأطفال سرر كثيرة ليست من الأراجيح

التي تهز باليد كالتي عندنا، فالإنكليز عمومًا يسترذلون عادة هزّ الأطفال،

ويقولون إنها ذريعة إلى تعويدهم على أن لا يناموا إلا بوسائل صناعية، تعلّمهم هذه

العادة أن يلتمسوا راحة أبدانهم عند غيرهم، على حين أنه يلزمهم أن لا يطلبوها إلا من أنفسهم ومن الفطرة التي فطرهم الله عليها، نحن لا نهتم بما ينشأ عن اتخاذ

تلك الوسائل الباطلة الموافِقة لرغائب أطفالنا من الآثار السيئة في طباعهم، ولا

نطيل النظر في ذلك.

إن الطفل قبل تمييزه وتمايز أنواع الوجدان فيه يكون في فطرته من

الاحتيال ما يمكنه من الانتفاع بضعفه مع مراعاة من يكنفونه له، فكم من أناس

انقضى دور طفوليتهم ولا يزالون في حاجة إلى الاهتزاز طول حياتهم، فلا تعرف

لهم نومًا ولا يقظة، بل تراهم في غفلة عن أنفسهم تحركهم عوامل العالم الخارجي،

فيرون في أحلامهم وخيالاتهم أنهم يهتزون، وكان الأولى أن تصيح بهم الشهامة ليهبوا

من رقادهم، ويشمروا عن ساعد الجد للعمل والمغالبة في ميدان الحياة.

أخشى أن يكون كل كلامي هذا قريب الشبه بالوعظ الديني، على أني لم آتِ به

من تلقاء نفسي، بل إني سمعته بما يقرب من عبارتي من قابلة وقور صديقة

للسيدة وارنجتون مشهورة هنا بأن قولها حجة في فن التربيية، فإن التربية في إنكلترا

هي أول علم يتلقاه النساء.

إني أخال الوالدين في إنكلترا أقل بكاء منهم عندنا، فهل أنا واهمة في ذلك؟

كلا، لا وهم ولا خطأ، فإن بكاء الطفل إنما يكون لتألمه من عارض يلمّ به، وإن

ما مُنحه هنا من الحرية وما حيط به من ضروب العناية الصحية وما سُنّ له من

قانون الغذاء، كل ذلك يساعد على حفظ صحته ونموها، إذا كان للإنكليز عناية

كبرى بترقية نسل العجماوات حتى لا تجد أجمل من خيلهم ولا أحسن من كلابهم،

فكيف مع هذا يظن أنهم يغفلون تربية الآدمي الجسمانية.

الوالدات الإنكليزيات يُرضعن أولادهن متأسيات في ذلك بملكتهن، ومن هنا

كان لفظ المرضعة عندهن لا يؤدي معنى هذا اللفظ عندنا، فلا يراد به إلا المرأة

التي تقوم على الولد في تربيته، وحينئذ فالمراضع عند جيراننا ينقسمن إلى قسمين

متمايزين: أولهما الحاضنات ويسمين عندهم بالمراضع الجافات، ثانيهما الحقيقيات

ويوصفن بذوات البلال [5] ، إلا أن هؤلاء أقل عددًا ممن عندنا، ولا يُرجع إليهن إلا

عند الضرورة الملجئة حيث تكون الأم في غاية العجز عن إرضاع ولدها، بل إن

كثيرًا من الإنكليزيات يفضلن إلقام ولدانهن زجاجات اللبن على إلقامهن أثداء

المراضع المستأجرات، وإنهن ليوسعننا لومًا على تفريطنا في هذا الأمر، ولا أخالهن

إلا محقات في ذلك، فكم من الفرنساويات المترفات من يتركن ولدانهن الذين كان

يجب أن يكونوا أعز شيء عليهن في هذا العالم، ويكلن إرضاعهن إلى نساء من

أهل القرى جافيات الطباع قذرات ، لا يرضينهن مساعدات لهن في التزين والتحلي.

النظافة عند الإنكليز في من حق الأطفال أساس تدبير الصحة، وهي عامة

في كل الطبقات حتى الفقراء، فإنهم يغسلون أولادهم في كل صباح.

يشدّد الأطباء هنا النكير - كما يفعله رصفاؤهم في البلاد الأخرى - على

لبس النساء الغلائل المحزوقة (الضيقة الضاغطة) فلا يصغي لهم أحد،

فالصينيات يتلفن أقدامهن بالنعال الضيقة، ونحن نتلف قدودنا بهذه الغلائل المحزوقة

جريًا على ما حكمت به العادة فرارًا من السمن وبروز البطن عند الحبل على

أنه يجب الإعتراف بأن الإنكليزيات أقل منا عناية في إخفاء حبلهن، بل إنهن

يفتخرن به، فقد شبهت إحداهن المرأة الحُبلى بالشجرة المثمرة، فقالت: مَثَل المرأة

في سبيل إنشاء الأسرة كَمَثل الشجرة تحمل ثمرتها.

ألا تذكر أننا في أيام الهناء الخالية لما كنا نتمشى في منتزه (التويليريا) أو في

حديقة (لوكسمبورج) كثيرًا ما تألمنا لرؤية أولئك الأحداث شهداء البدعة الذين

يخرجهم أهلوهم متبرجين بالزينة، فتلبسهم حاضناتهم ثيابهم وزينتهم من القدمين إلى

الرأس قبل خروجهم، ويكون من وراء ذلك أن الطفل الحسن البزة لا يعتبر طفلاً،

ولا يكون المقصود من إخراجه تسليته وترويح نفسه، بل تحصيل اللذة لغيره، فإذا

أولع بالبحث في الأرض بيديه أو جرى في مهب الريح، فعبثت بتناسق ذوائب

شعره الجعد الجميل وُبِّخ وعُنِّف على أنه وسخ نفسه، ولم يمتثل ما أُمر به من

السكون، فكأن ذويه لا يرومون تنزيهه، وإنما يريدون عرضه على الأنظار،

ليس الذي يقصد أولاً، وبالذات من تلك النُّزَه هو إمتاع الطفل بحرارة الشمس

وهواء الفضاء اللذين يقويان صحته وينميان أعضاءه بما يكون معهما من الرياضة

والحركة، بل إن المقصود منها هو اتخاذه ألعوبة أنيقة يطأمنُ بهاؤها ورونقها من

نخوة الأمهات الأخريات، ويكسر من زهوهن، فإذا رأت الأم بنيتها ترفل في ثوب

من الخز مزين بالطراز المثقب (التانتلا) قالت في نفسها: آه لو رأتها السيدة

فلانة أو السيدة فلانة لانشقت مرارتها غيرة وكمدًا، إلى هنا أمسك عنان القلم عن

الاسترسال في هذا الموضوع، فإني قد أوغلت في الشرح على ما يظهر لي.

النساء الإنكليزيات يحملن أولادهن أيضًا بفاخر الثياب ويخرجن بهم إلى

المنتزهات، بل إنهن يبالغن في ذلك أحيانًا، فيصلن إلى حد الإفراط، غير أن هذا لا

يكون إلا في أيام الآحاد، أما الأطفال الذين ينشأون في القرى فيندر أن يأنسوا من

أنفسهم الحاجة إلى الخروج طول الأسبوع؛ لأن القائمين عليهم يُخلُّون بينهم وبين

اللعب في حديقة البيت والمرح في حر الشمس، وعلى البنات منهم دروع قصيرة

وعلى البنين قمصان خفيفة من الصوف، ولا يبيحون لأنفسهم التعرض لهم في

ألاعيبهم، أما نحن، فيحملنا هوسنا بتدبير كل شيء وإدارته إلى التدخل في تنزه

الأطفال واستراحتهم بسياستهم في ذلك، وضبطهم بقواعد لا يتعدونها.

لم يغب عن ذاكرتك أننا كنا يومًا في قاعة السيدة -

جالسين معها، فدخل

عليها ولدها الكبير، وهو صبي كان وقتئذ في الرابعة أو الخامسة من عمره تلوح

عليه سمات السماجة، والتفت إلى والدته فسألها قائلاً: أماه، ماذا ينبغي أن أفعل

لأتسلّي وأروّح نفسي؟ أنا لا أزال أتذكر اندهاشك لهذا السؤال وما جرى من المزاح

والضحك بيننا بسببه، على أن هذا الصبي المسكين كان له حاضنة تُنقد أجرة كبيرة

جدًّا، ولذلك أُحيل عليها لتسليه، وكان يظهر من حالها أنها غاية في الضجر من

وظيفتها.

إن في بعض الأسر الإنكليزية أيضًا حاضنات، إلا أن الذي عرفته بالمشاهدة

من أمرهن أنهن يسُسْن رعِيَّتهن كما تسوس ملكة إنكلترا رعاياها، أعني بذلك أنه لا

يكاد يكون لهن سلطان عليها، خصوصًا فيما يتعلق بأنواع اللعب وضروب التسلي.

يستدل جيراننا على وجوب إطلاق الحرية للأطفال في ألاعيبهم بأدلة سديدة

على ما أعتقد، فيقولون: إن الكبار في اشتراكهم مع جماعة الأحداث الفرحين

المرجين في تلك الألاعيب يرجعون دائمًا إلى أذواق أنفسهم أكثر من رجوعهم إلى

أذواق أولئك الأحداث، فيغفلون بذلك اعتبار رأيهم في مسألة لا مرية في أن

موضوعها القيام لهم بحقوقهم، وهذه الحقوق ليست من الكثرة بحيث يسلم المطالب بها من وخز وجدانه إذا هضم منها شيئًا، ولهم حجة أقوى من هذه، وهي أن حرمان الأطفال من الاختيار يميت فيهم روح الافتطار (الابتداع والإنشاء)

والانبعاث النفسي إلى العمل، فإننا به نمحو آثار أنواع ميلهم الفطري ونقيم ميلنا

مقامه، فهل هذا هو الوسيلة إلى تربية طباعهم؟ الطفل إذا كان نشيطًا صحيح

الجسم، سَهُل عليه أن يستقل بنفسه في التنزه والتروّح، فإذا جرى على ذلك اعتاد أن لا يكون تابعًا لغيره في لعبه ومرحه، ألم تكن عادة عدم الاستقلال عند الأطفال فيما ذكر هي سبب ما كان يعتور أولئك الملوك الغابرين من الكدر والضجر

فيضطرهم إلى أن يجعلوا في حاشيتهم من المجانين من يضحكهم.

يبدو لمن يدخل بيتًا إنكليزيًّا لأول وهلة خصوصًا إذا كان مثلي لا يزال

متأثرًا بالأفكار الفرنساوية أن ما بين أهله من العلائق والمعاملات عليه سمة

الفتور والاحتشام، فيرى الوالدين فيه أقل تملقًا لأولادهم وأرغب عن ملاطفتهم منهما

عندنا، وكذلك يرى الأولاد أقل أُنسًا بالأجانب ومباسطة لهم، وليُعلم أن كلامي هذا

إنما هو على جملتهم، فلا يُنافي أن يكون منهم من هو على غير هذه الصفة، فهل

هذا الظاهر من فتور العلائق وتراخيها منشؤه طبع الأمة الغريزي، أو أنه مقصود

جريًا على مقتضى مذهب أو قاعدة في التربية؟ إليك رجع صدى حديثي في

هذا الموضوع، وحديث القابلة الجليلة صاحبة الفضل عليّ خصوصًا في

الإرشاد والتعليم، قالت: إن الإنكليز يجتنبون إظهار كثير من الملاطفة والمراعاة

لأولادهم حتى لا تكون عليهم للمزاعم السخيفة سبيل، أما نحن فإن الطفل عندنا

يعامل مع الارتياح معاملة المرأة، فكلاهما يعوّد على أن يحب أكثر مما يحب، هذا

النوع من المعاملة ينتج الغنجات من النساء والعارمين والعوارم [6] من الأطفال،

المحبة تدعو إلى المحبة، أما أنواع التملق والمخادعة فإنها تنمي جراثيم الأثرة

والزهو، فالطفل الذي يتزلف إليه والداه كما يتزلف الناس إلى العظماء لنوال الحظوة

لديهم - وهذا هو شأنهما معه في الغالب - لا يلبث أن ينتهي به الأمر إلى اعتقاد

أن الناس مدينون له بكل شيء، وأنه هو ليس مدينًا لأحد منهم بشيء.

هذا ما بدا لي من الملاحظات، نصصته على غرة موقنة بأنه سينال حظًّا

من اطلاعك، وماذا أزيدك عليه؟ حقًّا لم يبق عندي ما أتحفك به سوى أن مثالك

العزيز لا يفارق خيالي، وحبك الراسخ لا يزايل قلبي، قد رتبت بيتي فجعلته لسكنى

اثنين كما لو كنت ستحل به غدًا، ونظمت مكتبك أيضًا، فجعلت ما فيه من كتب

وأوراق كلاًّ في موضعه، وهو الآن مشوق إليك، فعسى أن لا يطول خلوّه منك،

هذا أمل أرجو أن لا أحرم منه، فإنه لولاه لقضى علي الفراق، قد علقت رسمك في

مطعمنا الصغير، ففي ساعات الأكل أجلس للمائدة مواجهة له، فأرى لصورتك فيه

نوعًا من الحياة، ويخيل لي حينئذ أني أتغذى معك وجهًا لوجه كما كنا أيام القرب

والصفاء، ما أولعني بالنظر إلى هذه الصورة، فلا بد أن ولدنا سيأتي مشابهًا لك،

والسلام في الختام.

(حاشية)

أسألك على ذكر هذا الولد، ماذا تريد أن تسميه؟

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

أهل بريتانيا وهي أحد أقاليم فرنسا.

(2)

نبت البردي.

(3)

المصنوعة من الخيزور وهو الخيزران.

(4)

هرقل: هو ابن المشترى على ما في أساطير اليونان، وهو من أشهر الشجعان طار صيته بأعماله التي منها خنق الأفاعي.

(5)

البلال: بكسر الباء ما يبل به الحلق من الماء أو اللبن.

(6)

العوارم: جمع عارمة، والعارم الفاسد الشرس.

ص: 613

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأسطول الفرنساوي

لمَّا علمنا بطواف هذا الأسطول بسواحل سوريا خطر لنا أن ذلك لغرض

سياسي، ثم جاءتنا الأنباء بزيارة أميره الأميرال فونيه للبطرك الماروني في جونيه

عُظمى حواضر البحر في لبنان، وما كان له من الحفاوة والإجلال من اللبنانين،

وإنه لما ألمّ الأسطول بحاضرة طرابلس الشام انحدر أهالي زغرتا نساء ورجالاً إليها،

وزاروا الأسطول جميعًا، ورحبوا بمن فيه أعجب ترحيب

ولا بد أن يكون

هذا عن تواطؤ ومداولات، فقد مر على اللبنانين حين من الدهر، وهم إلى العثمانية

أقرب منهم إلى الفرنساوية ببركة سياسة طَيب الذكر رستم باشا ثم واصه باشا،

فاعتزازهم الآن واحتفالهم بالأسطول الحربي له شان نستلفت إليه دولة نعوم باشا ولا

بد أن يهتم له بقدر صدقة في خدمة دولته وسلطانه.

أول ماتبادر إلى الذهن في تعيين غرض فرنسا من هذه الحركة هو إيقاع

الدولة العلية في الوهم لتمنع الحملة العسكرية التي أرسلتها من طرابلس الغرب إلى

فزّان فوداي لتؤيد نفوذ الدولة في تلك البلاد حتى بحيرة شاد مما وقع في نفوذ فرنسا

بمقتضى معاهدتها الأخيرة مع إنكلترا، ثم جاءنا بريد أوروبا ببيان آخر، وهو أن

فرنسا وروسيا تريدان فتح باب المسألة المصرية وإخراج الإنكليز من مصر

مغتنمتين فرصة اشتغال إنكلترا بالحرب في أفريقيا، وإن فتح الباب ربما يكون

باحتلال الفرنساويين إحدى المواني السورية، ونحن نعلم أن فرنسا ما منعها ولا

يمنعها من التعدي على سوريا إلا الخوف من معارضة إنكلترا، ومع هذا نقول: إن

التعدي على سوريا هو فتح لباب المسألة الشرقية الكبرى، لا المصرية فقط، وإلا

فإن كان المراد إخراج الإنكليز من مصر كما قيل، فليكن العمل في مصر إما معنويًّا

وإما حسيًّا، وبموافقة السلطان صاحب مصر، هذا، ولعل ما باحت به الجرائد من

إظهار مولانا السلطان الأعظم الميل إلى الإنكليز في الحرب الحاضرة من دون سائر

ملوك أوروبا هو مبني على تنسم الغدر من فرنسا وروسيا، ولقد كان منع مولانا -

أيده الله- الأسطول من الدخول في مضيق الدردنيل من السياسة المثلى، ومن الناس

من يظن أن فرنسا وروسيا تحبان الاتفاق مع الدولة العلية في شأن مصر، وأن

اجتماع الأميرال فورنيه بجلالة السلطان، ثم سفره في باخرة السفير إلى روسيا

إنما هو لهذه المهمة، وكل هذا من التصورات التي يكشف حقيقتها المستقبل، والله بكل شيء عليم.

صدرت إرادة مولانا السلطان الأعظم بايصاء معمل كروب في ألمانيا بأن

يعمل له مائة وثمانية من الدافع السريعة الرمي، كالذي أهداه إليه إمبراطور ألمانيا

في العام الماضي، وأيضًا معمل كروب في فيلاد لفيا من الولايات المتحدة بسفينة

حربية من نوع الطراد ثمنها ستمائة ألف جنيه.

أقر مجلس الوكلاء على إعطاء امتياز سكة حديد بغداد لشركة سكة حديد

الأناضول الألمانية، وصدرت الإدارة السلطانية بإعطائها حق إنشاء خط من قونيه

إلى البصرة مارًّا في بغداد، وتكفلت الشركة بمده في ثماني سنين واشترطت

عليها الدولة أن تبتاعه منها متى شاءت.

التمس حضرة الفاضل الشيخ زكي الدين سند من فضيلة شيخ الجامع الأزهر

أن يختار أربعة من أفاضل العلماء للوعظ والإرشاد في أربعة مساجد متفرقة من

مساجد القاهرة، على أن الجمعية تدفع لكل منهم ثمانين قرشًا في الشهر من صندوقها،

فأجاب ملتمسه مع الثناء والشكر، وعهد إلى أربعة من أكابر الشيوخ بذلك، فنثني

على جمعية (مكارم الأخلاق) أحسن الثناء على هذا السعي الحميد، وهنا نذكر أننا

كنا قد التمسنا في (المنار) من شيوخ الأزهر أن يشغلوا بمثل هذا العمل كل جوامع

المدينة لأنه أهم وأفضل ما يطلب منهم في هذا الزمان الذي فشا فيه الجهل، فلم يُجب

طلبنا أحد، ولما علمنا أنهم أجابوا الدعوة المقرونة بقليل من المال تذكرنا ما قاله لنا

فيهم كثير من عقلاء المصريين غير مرة مما لا نذكره رعاية لحرمتهم، ونعذر من

يأخذ على عمله أجرًا من جمعية خيرية إذا كان محتاجًا إليه، ومع ذلك نقول أيضًا:

إن فيهم من يريد الآخرة، كما أن فيهم من يريد الدنيا، وإن النداء الأول ربما لم

يبلغ مريدي الآخرة، وربما يكون قد لبّى النداء بعضهم من حيث لا ندري، وعسى

أن ينبري مَن عساه يوجد فيهم من المخلصين الملتهبين غيرة على الأمة،

والدين فيزينون سائر المساجد بوعظهم وهديهم مراعين ماتمس إليه الحاجة مقدّمين

الأهم على المهم، والله الموفق.

_________

ص: 622

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌رزء وطني عظيم

رزئ السادة آل بيرم الكرام، بل القطر المصري، بوفاة الشاب الذي برز على

الشيوخ علمًا وعقلاً وسياسة وعملاً السيد محمد بك بيرم كبير أنجال المرحوم الشيخ

محمد بيرم الخامس العلامة المصلح الشهير، اختطفته المنية في 32 من عمره في إثر

ارتقائه إلى وكالة محافظة مصر، فكان لمنعاه رنة أسف، وشيع بمشهد يليق بمقامه،

فحق لمصر أن تبكي ما حرمته من حزمه واجتهاده، فنعزي شقيقيه الفاضلَين

على فقده، ونسأل الله له واسع الرحمة، ولهما طول البقاء ودوام الارتقاء.

_________

ص: 624

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌كنسة الإمام

احتفل العلماء في يوم الثلاثاء الأسبق بكنس ضريح الإمام الشافعي رحمه الله

تعالى، وسيحتفلون قريبًا بمولده، وقد كتبنا في العام الماضي بهذه المناسبة نندد بما

في هذه الاحتفالات والموالد من البدع، وذكرنا ترجمة الإمام عليه الرضوان، وما كان

عليه من نصر السنة وخذل البدعة، وقد بلغنا بمزيد السرور أن فضيلة مفتي الديار

المصرية تواطأ مع فضيلة شيخ الجامع على إزالة هذه البدع تدريجًا، فأزالا في هذه

السنة بدعة توزيع الكناسة على العلماء التي كانت تؤخذ للتبرك، وبدعة نقل العمامة

التي توضع على القبر من رأس عالم لرأس آخر، هذين العملين من عبادات الوثنيين

في الهند - راجع صفحة 425 من (منار) هذه السنة - فحمدًا للشيخين وشكرًا،

ونسأل الله أن يوفق معهما سائر الشيوخ لإماتة البدعة وإحياء السنة 0

_________

ص: 624

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقرير مفتي الديار المصرية

في إصلاح المحاكم الشرعية

(ما يتعلق بالعقود الواردة من المحاكم المختلطة إلى المحاكم الشرعية)

من دفاتر المحاكم الشرعية ما هو مختص بتسجيل العقود التي ترد إليها من

المحاكم المختلطة، ومنها ما هو معدٌّ لذكر ملخصات تلك العقود، وهو عمل من

الأعمال الشاقة التي تستغرق زمنًا طويلاً لعدد من الكُتَّاب في محاكم مصر

والإسكندرية والمنصورة، وقد خصص له في محكمة مصر ستة منهم، وهو يفسد

على كتاب المراكز وسائر المديريات أوقاتهم التي يجب أن يخصصوها لأعمال نافعة

وما من محكمة من المحاكم إلا تشكو منه.

ألزمت الحكومة نفسها بهذا العمل الشاق بما فرضته في لائحة المحاكم الشرعية

الصادرة في سنة 1880م في المواد 90 و91 و 92، وربما كانت له فائدة فيما

مضى حيث كان يجوز أن تؤخذ صور تلك العقود من سجلات المحاكم الشرعية، أو

كان يتوقف نقل التكليف على ما يَرِد من هذه المحاكم إلى المديريات في شأنها، فكان

في تسجيل تلك العقود تيسير على الناس في أخذ الصور والشهادات، لكن صدرت

بعد ذلك منشورات تمنع إعطاء الصور والشهادات إلا من المحكمة المختلطة التي

سجل فيها العقد، وأذن بنقل التكليف بناء على ما تبعث به المحاكم المختلطة نفسها

بدون حاجة إلى توسيط المحاكم الشرعية، فما معنى بقاء هذا العمل للآن، والحكمة

تميل إلى الاقتصاد في الأشخاص والمواد.

ظن كثير من الناس أن القانون المختلط يحتم ذلك، فحسبت ذلك شيئًا،

وعولت على أن أسأل عرض الأمر على نواب الدول فيما يعرض عليهم لمَحوِه من

القانون، لكن بعد مراجعة القانون لم أجد نصًّا يحدد العلاقة بين المحاكم الشرعية

وأقلام كُتَّاب المحاكم المختلطة إلا ما ورد في مادتي 31 و 32 من لائحة ترتيب

المحاكم المختلطة ونصهما (31) يعين لكل محكمة من المحاكم الابتدائية مأمور من

طرف الشرع الشريف يشترك مع رئيس كتاب المحكمة في تحرير العقود الناقلة

لملكية العقار والعقود الموجبة لحق امتياز على العقار، ويكتب المأمور بذلك كتابة

يرسلها إلى محكمة الشرع الشريف. (32) يترتب بمحاكم الشرع الشريف كتبة

مندوبون من طرف رؤساء كتاب المحاكم الابتدائية ليرسلوا إليهم صورة ما يقع

بالمحاكم الشرعية من العقود المشتملة على انتقال ملكية العقار أو رهنه، لتسجيلها

بدفاتر الرهونات بالمحاكم الابتدائية بدون توقف على طلب ذلك من أحد، فإن لم

ترسل الصورة المذكورة وجبت التضمينات اللازمة على ذلك، فضلاً عن الجزاء

التأديبي، إنما لا يترتب على ذلك بطلان العقود.

فهاتان المادتان كما لا يخفى على الغبي والذكي، إنما أوجبتا على المأمور

الشرعي لدى المحاكم المختلطة أن يبعث بكتابه للمحاكم الشرعية بما يحصل من

العقود فيها، وذلك ليُحفظ في مجلد خاص بالضرورة؛ لتعرف المحكمة الشرعية

ما حصل من التصرف في العقار لتلاحظه لو جاءها من يريد التصرف فيه، أما إنها

تسجله، فهذا لا دليل عليه، وإن ماجاء في المادة 32 يوجب على قلم الرهونات في

المحاكم المختلطة أن يسجل مايرد إليه من المحاكم الشرعية ويبين العقوبة والعواقب

التي تعقب الإهمال في إرسال الصور من المحاكم الشرعية إلى المحاكم المختلطة،

فعدم ذكر ذلك في المادة السابقة دليل على أن واضع القانون قصد أن لا يسجل شيئًا

مما يرد من المحاكم المختلطة إلى المحاكم الشرعية في سجلاتها، وغاية ما يمكن أن

يحتمه إنما هو المحافظة على هذه العقود في نمر مسلسلة مع فهرست يُمَكِّن من

الرجوع إليها عند الحاجة، ويمكن للمحاكم الشرعية أن تفعل ذلك وتضعه في محافظ

تنتهي في آخر السنة إلى أن تكون مجلدات تودع الدفترخانة مع السجلات.

وما كان لواضع القانون المختلط أن يريد غير ذلك، فإن التسجيل إنما وجب

لما يلحقه من الأحكام المفصلة في القانون المدني، فالذي يرد إلى المحاكم المختلطة

هو الذي يجب أن يسجل فيها ليمكن الاحتجاج به على غير المتعاقدين عندها، بل

ذهب بعض مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية إلى أن ذلك شرطًا مطلقًا، وأن

العقود لا يعتد بها بالنسبة إلى غير المتعاقدين إلا إذا سجلت في قلم كتاب المحكمة

المختلطة حتى بين الوطنيين، وصدر حكم على هذا المذهب بالأغلبية بعدم اعتبار

حجة صدرت من المحكمة الشرعية وسها المأمور عن إرسالها إلى قلم كتاب المحكمة

المختلطة، أو أرسلها ولم تسجل فيه، وهو حكم غير صحيح، ولكنه مبني على هذا

الاعتبار، ثم إنني راجعت ما كتبه بورللي بك في القوانين المصرية، فلم أجد أثرًا

لهذا الإلزام، فلم يبق إلا ما ألزمت به الحكومة نفسها، ومن السهل عليها أن

تتخلص منه بإلغاء المواد المتعلقة بذلك من اللائحة الشرعية القديمة.

وأذكر لبيان ثقل هذا العمل الذي يعد الآن من قبيل اللغو ماورد على محكمة

مصر الكبرى وحدها في سنة 98 وهو خمسة وأربعون ألف عقد أخذ ملخصها ثم

أرسل ما يختص بالعقارات التي في دوائر المحاكم التابعة لها في التوزيع إليها

لتلخص منه ما يرسل إلى المراكز، وتسجل ما يكون من العقار في دائرتها نفسها،

وما سجل من ذلك بالحرف الواحد في محكمة مصر آلاف من هذا، وما ورد عليها

من أول هذه السنة إلى آخر شهر مايو اثنان وعشرون ألفًا وثلثمائة وسبعة وتسعون،

وربا الآن على ثلاثة وثلاثين ألف، وورد على محكمة الإسكندرية من أول يناير

هذه السنة لغاية يونيو اثنا عشر ألفًا ومائتان وستون عقدًا.

ولا حاجة لأن أطيل الكلام في بيان الأعداد، وأكتفي بأن أقول: إن

بعض محاكم المراكز وليس فيها إلا كاتبان: الأول ، والثاني يسجل بالحرف الواحد

نحو ألفين وثمانمائة عقد في السنة، ويسهل على النظارة علم ذلك، فكيف يمكن

القيام بهذا العمل من هذه الأيدي القليلة مع بقية أعمال المحكمة، ثم إذا لم تفصل

الحكومة قلم التسجيل وتجعله مصلحة قائمة بنفسها، فعليها أن تعجل بإباحة تسجيل

العقود العرفية في المحاكم الشرعية على نحو ما هو جارٍ في المحاكم المختلطة،

والقانون المختلط لا يمنع ذلك وإنما على قلم الرهونات أن يسجل مايرد إليه من

المحاكم الشرعية، ولذلك يكون العقد حجة على غير المتعاقدين لديها، ولدى المحاكم

الأهلية كما نصت عليه المادة (32) من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة التي سبق

نصها، ولو أبيح ذلك لكان فيه تيسير على الناس عظيم، سواء في التسجيل لقرب

المحاكم الشرعية منهم لانتشارها في جميع المراكز، ولسهولة أخذ الصور

والشهادات، ولو فرض فصل قلم التسجيل واستقلاله عن المحاكم، فأرى أن

تكون المحاكم الشرعية من فروعه في المراكز للسبب الذي ذكرته، وإلا احتاج إلى

نفقات كثيرة لا داعي إليها أو بقيت المشقة على الناس كما هي الآن.

(الدفتر خانات)

وجدت في أغلب دفتر خانات محاكم المديريات التي مررت عليها خللاً عظيمًا،

وكثير منها لا يوجد فيه دفتر حاصر لما هو فيها، فلو ضاع شيء منها لا تعلم

على من تلقى المسئولية، ويصعب الوصول إلى معرفة الضائع، ومنها ما هو دشت

لا يعرف لأي السنين هو، وإن ما أنكره جناب المستشار القضائي في دفتر خانة

محكمة مصر يوجد مثله أو مايقرب منه في غيرها، فقد رأيت في بعض المحاكم أن

دفاترها مدشتة في صناديق يعلوها التراب، وبعضها على الأرض والغبار من فوقها

ورطوبة الثرى من تحتها.

وقد اهتمت النظارة بإصلاح الدفتر خانات ووضعها على حالة تمكن من حفظ

ما فيها وتسهل طرق مراجعته، وكلفت المحاكم بالعمل في ذلك، لكن لم يلبث الأمر

أن حصل فيه فتور وتباطؤ لظهور الحاجة إلى أماكن وخزائن وعمال، واقتضاء

ذلك لنفقات لم يكن في ميزانية النظارة ما يفي بها، ولكنها حاجة من حاجات الحكومة

يجب سدها بما يمكن من السرعة، فإلى تلك الدفاتر والأوراق مرجع الناس في

تحقيق الملكية والأنساب والعصم ونحو ذلك، وهي مصلحة من مصالح العامة لا

تنقص في درجتها عن أهم المصالح العليا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 625

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

(18)

من أراسم إلى هيلانة في 21 أبريل سنة -185

قد أصبتِ أيتها العزيزة هيلانة في انتقادك طريقتنا في سياسة الأطفال، فإنها

جديرة بالاستهزاء والسخرية، ولكن يالها من طريقة تلائم أخلاقنا وأوضاعنا

السياسية ملاءمة عجيبة، فلا إفراط في التضييق على الطفل وحصره في لفائفه إذا

كان حظه في مستقبله أن يقمط ويشدّ بجميع أنواع القوانين والأوامر، أما حبال

الملابس التي نُمسَك بها عند المشي، فلا تعوزنا وعندنا منها ما يناسب جميع الأعمار؛

لأنه قد يجوز أن لا نحسن المشية، فتلزمنا تلك الحبال أن نمشي على صراط

مستقيم، وأن نمضي إلى حيث يريد من يقودنا، حقًّا إن القائمين علينا في تربيتنا

ليسلبوننا من أول نشأتنا كل ما أودع فينا من حسن الظن بأنفسنا وثقتنا بها، فما

أعقلهم وأبعدهم نظرًا في العواقب! ! إن هذا يعلمنا أن نكون في جميع أمورنا تابعين

لغيرنا معتمدين عليه في حفظنا ووقايتنا، فإننا بتعويد الناشئين على أن يُقادوا في

درجانهم ويُهزّوا في مهودهم، ويساسوا ويراقبوا في جميع حركاتهم وسكناتهم -

نؤهلهم لأن يعيشوا في مستقبل حياتهم بأعين الشرطة وتحت سيطرتها ، فما أجملها

طريقة تتسلسل أجزاؤها! ! التسلسل هو أحسن لفظ وجدته للتعبير عن اتصال

غاياتها بمبادئها.

إن ماذكرتيه لي من الطريقة التي يجري عليها الإنكليز في تربية أولادهم قد

أسفر لي عن وجه الحكمة في حسن أحوال إنكلترا وأبان لي أنه لا سبب لوجود ما لها

من الأوضاع والقوانين الحرة إلا ماتتخذه من الطرق في تربية أبنائها على مبادئ

الحرية والاختيار، نحن في فرنسا نفرط في تعليق آمالنا بالحوادث، ونفرّط في

الاعتماد على ما أوتيناه من القوى، فماذا أقول في وصفنا، غير أننا لسنا فرنساويين

وإنما نحن يهود؛ لأننا دائمًا على رجاء من نزول المسيح في صورة حاكم يرفع

قواعد العدل ويخلص الناس من عوادي الجور.

لا أقصد بهذا الكلام أن أنكر قيمة ما تناوب حكومتنا من التغير في صورها،

وما ينتج من ذلك من المزايا، فإن هذا بعيد عن فكري؛ لأني لو كنت ممن لا

يعبأون بالشؤون السياسية لما وُجدت حيث أنا الآن، على أني قد وصلت بعد طول

النظر ومخض الرأي في ذلك التغير إلى اعتقاد أن ملك الاختيار لا قرار له إلا في

نفوسنا، وإننا إذا أردنا تمكين وتوطيد دعائمه في الأمة وجب علينا أولاً أن نؤسس

أصوله في قلوبنا 0 اهـ

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 628

الكاتب: محمد رشيد رضا

دروس جمعية شمس الإسلام

(أمالى دينية - الدرس الثامن)

(26)

الوحدانية: قلنا فيما سبق أن أكثر البشر متقفون على أن لهذا العالم

إلهًا هو خالقه ومدبره، ونقول الآن: إنهم متفقون أيضًا على أن هذا الخالق واحد

لاشريك له في الخلق والإيجاد، ولا فرق في هذا الاعتقاد بين الفلاسفة الإلهيين

والمليين ، كتابيين ووثنيين، وإنما شذت طائفة من قدماء الفرس زعمت أن للعالم

إلهين أحدهما خالق النور أو الخير، والثاني خالق الظلمة أو الشر، والإله الحقيقي

عندهم هو الأول، وقد انقرضت هذه الطائفة وأراح الله الوجود من جهلها. وسائر

من أشرك بالله تعالى من الوثنيين ومن تلا تلوهم من الكتابيين، فإنما أشركوا بعبادة

ربهم غيره لشبهة عنَّت لهم فاخترقت قلوبهم وامتزجت بعقائدهم منشؤها أن صانع

الكون وبارئه هو غيب مطلق، وأن النفوس لا تتوجه إلا إلى معروف مشهود،

فينبغي أن تكون وجهتها في عبادة الخالق العظيم بعض مظاهر قدرته الكبرى

كالشمس والكواكب أو النار أو بعض عباده المقربين عنده، القادرين على تقريب

من شاؤوا من جنابه، وإتحافهم بمرضاته، وقضاء حاجهم ، أو تماثيلهم وصورهم

عند فقدهم (راجع المقالة الأولى من عدد 26 من (منار) هذه السنة) وأكبر شبهة

تولدت من هذه الشبهة ما ذهب إليه بعضهم من أن المذنب العاصي لا يليق به أن

يرجع إلى الله تعالى وينيب إليه بنفسه طالبًا العفو والمغفرة من كرمه ورحمته؛

لأنه ملوث، فلا بد له من واسطة من المقربين المقدسين يقربه إلى الله زلفى،

ويشفع له عند الله سائلاً منه أن يعفو عنه ويمنحه ما يطلب ويريد، تشهد لها آيات

القرآن الكثيرة، اقرأ إن شئت قوله تعالى في مشركي العرب: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ

خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} (الزخرف: 9) وقوله

تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن

يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ

أَفَلَا تَتَّقُونَ} (يونس: 31) وفي هذا المعني آيات كثيرة، منها الآيات المتصلة

في سورة المؤمنين التي منها: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ

عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّه} (المؤمنون: 88-89) (وقرأ غير أبي

عمرو ويعقوب: لله) {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 89) ثم اقرأ مع هذه

الآيات قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ

هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) وقوله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا

إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا

مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ

يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 2-3) فالشرك بالعبادة هو الذي كان فاشيًا في الأمم بألوان

مختلفة وأسماء متعددة وصور متنوعة، فجاء القرآن ينعي عليهم هذا، ويحاجهم فيه،

ويمحو شبههم عليه في آيات تعد بالمئات، وكان هذا أهم أصول الدين وأركانه،

ولذلك كانت علامة الدخول فيه كلمة (لا إله إلا الله) والإله هو المعبود، ولأجل هذا

سمي علم العقائد توحيدًا، وإن كانت الكتب التي بين أيدينا قلما تبحث في هذا النوع

من التوحيد وما أزاله من الشرك.

(27)

ما هي العبادة: القول المشهور في تفسير لفظ العبادة أنها أقصى غاية

الخضوع والتذلل، ولكن قال أستاذنا الأكبر مفتي الديار المصرية لهذا العهد: إن من

تتبع استعمال العرب في كلامهم يجد أنهم لا ينطقون لفظ العبادة على الخضوع

والتذلل للملوك والأمراء مهما بولغ فيهما، ولا يسمون تذلل العاشق المستهتر لمن

يعشقه عبادة وإن غلا فيه أشد الغلو، وإنما يخصون لفظ العبادة بالتعظيم الناشئ عن

الشعور بأن للمعظَّم سلطة غيبية وأسرارًا معنوية وراء الأسباب الظاهرة، وخلاف

ما يُعهَد من سائر الخلق، وللعبادة صور كثيرة أشهرها وأعمها الدعاء وطلب قضاء

الحوائج التي تتعاصى على الأسباب المكتسبة، فيتعذر أو يتعسر الوصول إليها،

ولذلك اجتمع المفسرون على تفسير ألفاظ الدعاء بالعبادة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ

تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِن

دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} (الأنعام: 71) وقوله: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ

فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وفي الحديث المشهور الدعاء مخ العبادة

وأصل الدعاء النداء والطلب مطلقًا، أو مع ملاحظة استعلاء المنادى المطلوب

منه، وإذا لوحظ معه تعظيم المدعو واعتقاد أن له سلطة غيبية وراء الأسباب

الظاهرة أو طلب منه ما لا يُنال بالكسب كان عبادة، سواء كان اعتقاد السلطه له

لذاته أو لأنه واسطة بين الداعي وبين الله تعالى يقربه إليه زلفى، ولا يخرجه عن

معنى العبادة تسميته باسم آخر كالتوسل والاستشفاع كما هو المتبادر من القرآن

الكريم واللغة، والعبرة بالحقائق لا بالأسماء والاصطلاحات، ولا بالوساوس

والخيالات.

هذا النوع من الشرك لا يكون إلا مع الإيمان بالله تعالى، فقوله تعالى: {وَمَا

يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونُ} (يوسف: 106) قيل: إن الآية نزلت في

أهل الكتاب، وقيل: في غيرهم، ولا شك أن أهل الكتاب قد دبت إليهم هذه العقيدة

من الوثنيين الذين مازجوهم وخالطوهم، ولكنهم أولوها وطبقوها على

ظواهر دينهم، ولن يُعدموا من الكتاب آية أو أكثر من المتشابهات يستدلون بها على صحة ما ذهبوا إليه. {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة:

31) بمعني أنهم اعتقدوا أنهم وسطاء بينهم وبين الله تعالى يقربونهم إليه،

يستمطرون لهم رحمته وفضله على ما فيهم من عوج، وأنه تعالى يدفع عنهم النقم

ويغدق عليهم النعم، وإن لم يأخذوا بأسبابها الشرعية إن كانت دينية، وأسبابها

الطبيعية إن كانت معاشية، وليس المعني أنهم سموهم أربابًا وآلهة، أو أنهم

كانوا يُصَلُّون لهم أو يعتقدون أنهم يخلقون ويرزقون، كلا، إن هذا ما كان يُعهَد في

تاريخهم إلى الآن، وكيف يسمون هذا النوع من تعظيم لرؤساء الروحانيين،

واعتقاد الامتياز لهم عبادة، وهم يقولون: لا يعبد إلا الله؟ أم كيف يسمونهم أربابًا

وآلهة، وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ خصوصًا اليهود منهم، ولكن العبرة

بالعمل والاعتقاد، لا بالقول والتسمية كما علمتم آنفًا، ولذلك قال الله (اتخذوا)

ولم يقل (قالوا) بل كانوا يتنصلون من الأقوال التي تخالف نصوص الكتاب أشد

التنصل ويطبقون ما هم فيه عليها، ولو بتحريف الكلم عن مواضعه وحمله على غير

المراد منه، وقد جاء في حديث البخاري وغيره: لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر

وذراعًا بذراع، قيل: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ وقد

صدقت أعلام النبوة، وفشا في أمتنا هذا النوع من الشرك والوثنية الذي كان فيهم حتى

إن بعض الفرق منا زادت على ما كان منهم، بل ومن بعض الوثنيين أيضًا، اتخذوا

من دون الله أولياء وبنوا لهم هياكل في مساجدهم يدعونهم مع التعظيم

والتذلل والخشوع الذي لا يلاحظون مثله في الصلاة ويزعمون أنهم يقربونهم إلى الله

زلفى، ويقولون: إنهم شفعاؤهم عند الله يقضون لهم الحوائج بإذنه، أو يقضيها هو

بواسطتهم، ويقولون: إننا لا نقصد بذلك العبادة، يعنون أنهم لا يسمونه

عبادة، بل انتحل له المؤولون أسماء أخرى كالتوسل والاستشفاع، وهذه جناية على

اللغة تُضَم إلى الجناية على الدين، وسنتكلم على التوسل الآن ونرجي بحث الشفاعة

إلى الكلام في الآخرة؛ لأنه ورد أنها إنما تكون فيها.

التسمية لا تقلب الحقائق {إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ

اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَان} (النجم: 23) ولوكانت التسمية تغير حقيقة المسمى لأمكن

للفقير أن يكون غنيًّا، وللضعيف أن يصير قويًّا، وللصعلوك أن يرقى إلى مصاف

الملوك بكلمة يرمي بها اللسان ويكيفها الصوت.

حدثني رجل من ظرفاء النصارى في لبنان أن مسلمًا اسمه محمد تنصر ودخل

في رهبان دير قزحيا وسمي حنا ففاجأه صوم التنحس أي الذي لا يأكلون فيه من

اللحوم غير السمك، ولا سمك هناك، فشق عليه أكل العدس في كل يوم، فأخذ ذات

ليلة دجاجة من دجاج الدير، ولما جن عليه الليل جعل يطبخها فأحس به من كان

يمر عليه من الرهبان، فكانوا يسألونه وهو يوارب في الجواب فتقدم واحد منهم

وكشف الغطاء عن القدر وقال: وما هذا يا أخ حنا؟ فقال: سمكة، فقال الراهب:

إنها دجاجة، فقال حنا: كلا، إنها سمكة، وبعد تكرار المراجعة قال حنا للراهب:

وماذا يضرك لو سميتها سمكة، وإن كان اسمها في الأصل دجاجة، فقال الراهب:

هذا لا يصح أبدًا. عند هذا قال له حنا: ما هو اسمي الآن؟ فقال: اسمك حنا،

فقال: وماذا كان اسمي من قبل؟ قال: محمد، قال: إذن تغيير الاسم لا يغير

الحقيقة، وأنا مسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأكل

الدجاجة وانصرف من الدير في صبيحة تلك الليلة.

(28)

بطلان هذا الشرك: يُعرَف بطلانه بالعقل والنقل، أما العقل فإنه لما

نظر في هذه الأكوان البديعة النظام، ولم ير منها شيئًا يمكن أن يضاف إليه الإيجاد

والإحكام، ولا يمكن أن يكون من قذفات المصادفة والاتفاق - علم أن مصدرالإبداع

والإتقان قوة غيبية، فمن ذلك المصدر كل شيء:{قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78){صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء} (النمل: 88) وهو المنفرد

بالإيجاد والإمداد، وأنه هو:{رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه:

50) ثم حكم بأنه حيث كانت القوة الغيبية التي هي وراء الأسباب الظاهرية له

وحده، والسنن الطبيعية والقوى الكسبية منه، فلا يتأتى وجود شيء من غير سببه إلا

منه، ولا يجوز أن يخضع أحد لأحد خضوعًا عن شعور بسلطة غيبية (وهو العبادة

إلا له وحده، فيجب أن يُخص بهذه العبادة وأن يُشكر على نعم الإيجاد والإمداد

بعبادات أخرى، هذا ما يحكم به العقل السليم، وقد نطق به بعض الحكماء، وغفل

عنه أكثر البشر، ولذلك احتيج في بيانه إلى الدين، وأما النقل فقد أوضح هذا أكمل

الإيضاح، فإن القرآن ينادي بلسان عربي مبين بأن هذا دين جميع النبيين {وَمَا

أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} (البينة: 5) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا

إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَاّ إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31)

وهذا تتمة آية:] اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ [المتقدمة، والآيات في هذا المعنى كثيرة،

وهي مصرحة بأن جميع الذين كانوا يدعون، وتطلب منهم الحوائج - ومنهم

الأنبياء والملائكة - لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، فضلاً عن غيرهم، اقرأ:

{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) ] وَالَّذِينَ

تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوَهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ

وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ

مِثْلُ خَبِيرٍ [قد أمر سيد الأنبياء بهذا البيان:] قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا

إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ [1 {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا

إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) فحصر الله وظيفته بالإنذار

والتبشير، ومثل هذه الآية قوله تعالى:] قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا [2] *

قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [3 {* إِلَاّ بَلاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} (الجن: 21 - 23) وإذا كان لا يملك للناس الرشد والهداية التي

هي أثر وظيفته - التبليغ - فكيف يملك لهم الضر والنفع والعطاء والمنع؟

] إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ [[4](القصص:56)

وكما أنزل عليه هذا، وما في معناه كقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الإسراء: 105){إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ البَلاغُ} (الشورى: 48) ، أنزل عليه في شأن

المرسلين عامة: {وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام:

48) قال البيضاوي في تفسيرها: وما نرسلهم ليُقترح عليهم ويُتلهًّى بهم:

{فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأنعام: 48) .

فهذه الآيات المحكمة التي جاءت بصيغة الحصر نصوص قاطعة على أن

وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التبليغ عن الله تعالى فقط، ولم ترد آية واحدة

تصرح بأنهم وسطاء بين الله تعالى وبين خلقه فيما عدا هذا ، كدفع الضر وجلب النفع

وتوسيع الرزق والتأثير في قلوب الخلق ، ونحو هذا مما يطلبه المنحرفون ممن دونهم

كالأولياء، بل الآيات نفت هذا صريحًا كما ذكرنا آنفًا ، وعليه كان الصحابة والسلف

الصالح، لا سيما بالنسبة للأموات الذين ينقطع كسبهم بالموت ، ولو فرضنا أنه ورد

في الكتاب أو السنة شيء ينافي ظاهرُه هذه النصوص القطعية التي هي روح الدين -

لكان يجب علينا أن نعده من المتشابه، وقد علمتم حكم المتشابه في الدرس الماضي

على أننا - مع عدم ورود هذا - قد بلينا بقوم يحرفون الكلم ويفسرون القرآن برأيهم

فروَّجوا على الناس هذا الشرك بتسميته توسلاً، وتسمية الأولياء وسيلةً، والوسيلة

مطلوبة بقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ} (المائدة: 35) وإنما فسر أئمة الدين

الوسيلة بالإيمان والعمل الصالح وهو تفسير يشهد له القرآن كله، وهذه الوسيلة

مطلوبة من الأولياء والأنبياء كغيرهم، وأنا أتلو عليكم في هذا آيتين كريمتين

مع تفسير البيضاوي لهما وهما: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم} (الإسراء: 56)

أنهم آلهة، {مِن دُونِهِ} (الإسراء: 56) كالملائكة، والمسيح، وعزير {فَلَا

يَمْلِكُونَ} (الإسراء: 56) فلا يستطيعون {كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ} (الإسراء:

56) كالمرض والفقر والقحط {وَلَا تَحْوِيلاً} (الإسراء: 56) ، ولا تحويل

ذلك منكم إلى غيركم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ} (الإسراء

: 57) هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله القربة بالطاعة: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإسراء:

57) بدل من (واو) يبتغون؛ أي: يبتغي من هو أقرب منهم إلى الله الوسيلة

فكيف بغير الأقرب؟ {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (الإسراء: 57)

كسائر العباد، فكيف تزعمون أنهم آلهة؟ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء:57) حقيقًا بأن يحذره كل أحد حتى الرسل والملائكة. اهـ

حدد الله وظيفة رسله، فليس لنا أن نعطيهم زيادة عما أعطاهم الله، وقد

أخبرونا عنه بأنه أقرب إلينا من حبل الوريد، فليس لنا أن نجعل بيننا وبينه واسطة

في غير تعليم دينه، فلا ندعو غيره؛ لأنه قال:{فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) ولا نستعين إلا به لأننا نناجيه كل يوم بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ

نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) .

أما تعظيم أولئك المرشدين من الأنبياء ووُرَّاثِهم فإنما يكون بما أذن الله تعالى به من الاقتداء بهم والصلاة عليهم والدعاء لهم، وأما زيارة القبور فإنما أذن بها

النبي صلى الله عليه وسلم بعد المنع منها للاعتبار بالموت وتذكر الآخرة كما هو

مصرح به في الحديث الشريف، هذا هو دين الله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ

رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: 110) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

قوله: [إلا ما شاء الله] معناه تأييد النفي ، ومثله قوله تعالى:[سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله] وقوله: [خالدين فيها مادامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك] وقوله: [قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله] .

(2)

في الآية احتباك؛ أي: لا أملك لكم ضرًّا ولا نفعًا ولا رشدًا ولا غوايةً أو ضلالةً، فحذف من كل ما أثبت مقابله في الآخر.

(3)

أي ملتجأ.

(4)

الهداية هنا بمعنى جعل الإنسان مهديًّا بالفعل وتطلق بمعنى الدلالة ومنه [وإنك لتهدي إلى صراط

مستقيم] .

ص: 630

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المنار والمناظر

جاءتنا جريدة (المناظر) الغرَّاء من أشهُرٍ مكتوبًا على غلافها كلمات يطلب

بها كاتبها الفاضل منا العود إلى تلك المقالات الوطنية الضافية، لا سيما التي تؤلف

بين قلوب العناصر المختلفة في الوطن، وتحثهم على التضافر والاتفاق على خدمته

وإعلاء مناره، فعزمنا على المجاوبة ثم نسيناها لأن الورقة فقدت من بين أيدينا،

ثم جاءنا في هذه الأيام العدد 39 من هذه الجريدة ينتقد علينا بأن مواضيع الجريدة

كلها دينية، وأنه ينبغي أن نكتب (جريدة دينية) بدلاً من (علمية أدبية تهذيبية

إخبارية) .

ونقول في جواب رصيفنا الفاضل (أولاً) : إننا كنا نكتب تلك المقالات

عندما كان (المنار) منتشرًا في سوريا يقرأه المسلمون والنصارى واليهود، فلما

طال أمد منعه من ولايات الدولة العلية وانحصر قرّاؤه في مسلمي مصر

وتونس والجزائر ومراكش والهند والجاوه، وفي نفر قليل من بني وطننا السوري في

أمريكا وغيرها، اضطررنا إلى جعل أكثر إرشاداته إسلامية، ووجدنا الرغبة من

القرَّاء قوية جدًّا في المواضيع الإسلامية الإصلاحية التي نكتبها حتى إننا لم نكد نكتب

في موضوع منها إلا عن اقتراح من أحد الفضلاء أو من غير واحد منهم، على أن من

رأينا الذي يوافقنا عليه كثير من العقلاء المسلمين والمسيحيين أن فهم الدين على وجهه

الحقيقي الذي نشرحه في (المنار) هو الذي يطفئ من النفوس نائرة الغلوّ في

التعصب، ويقف بها عند حدود الاعتدال في المعاملة مع البعيد والقريب

والموافق والمخالف.

و (ثانيًا) إن كثيرًا من المواضيع الدينية التي كتبناها ونكتبها يمكن أن يستفيد

منها غير المسلم، ونخص بالذكر (الأمالي الدينية) فإن جميع ماكتب فيها متعلق

بالإيمان بالله تعالى، وأنه جاء لجمع البشر وتوحيدهم لا لتفريق كلمتهم وإلقاء

العداوة والبغضاء بينهم، والإتيان بآيات القرآن في هذه الدروس لا ينبغي أن يصدّ

غير المسلم عن الانتفاع بها؛ إذ ليس كل ما في القرآن مخالفًا لاعتقاده، ولقد اطلع

بعض علماء النصارى الفضلاء المدرسين في إحدى المدارس العالية في سوريا على

درس من دروس الأمالي، فكتب إلينا يطلب أعداد (المنار) التي فيها سائر

الدروس، ويقول: إنه أقنع ناظر المدرسة بأن يشترك في (المنار) باسم

المدرسة ويضع أعداده في مكتبتها لينتفع به المعلمون والتلامذة.

و (ثالثًا) إننا نعتقد أن أشرف العلوم علوم الدين، وأحسن الآداب آدابه،

وأفضل التهذيب تهذيبه، فإذا لم يكن في المجلة غير المباحث الدينية لم نكن مخطئين

في تسميتها علمية أدبية تهذيبية.

و (رابعًا) إنه لا يكاد يخلو عدد منها من مباحث التربية التي هي أهم

ما يحتاج إليه الوطن، وحسبه كتاب (أميل القرن التاسع عشر) الذي هو أمثل

كتاب ألَّفه الأوربيون في التربية العملية، كما لا يكاد يخلو عدد من جمل في أهم

الأخبار، لا سيما تاريخ دولتنا العلية الذي ننشره تباعًا باسم (قليل من الحقائق)

إلخ.

و (خامسًا) نعترف بأن الأولى أن تكون مواضيع كل عدد متنوعة ليأخذ كل

قارئ حظه، ولكن الكُرَّاسين لا يسعان كل ما نريد أن يسعه كل عدد، وقد اقترح علينا

أحد القرَّاء الفضلاء أن نجعل (المنار) أربعة كراريس ونصدره في كل نصف شهر

كالهلال) و (الموسوعات) وسنجيب هذا الطلب إذا وافق عليه كثير من القرَّاء،

والله الموفق.

_________

ص: 638

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌السيول الجارفة

جاءنا في صبيحة يوم الخميس الماضي بريد سوريا وتونس ينطق بوقوع

الأمطار الغزيرة والسيول الجارفة في القطرين. وفي جريدة (طرابلس الشام)

والأجوبة الواردة منها أن مصابها بالسيول كان عظيمًا، فقد طغى نهر أبي علي طغيانًا

كبيرًا، فارتفع عن سطحه المعتاد نحو تسعة أذرع فعلا الجسر وطاف علي المدينة

من الجانبين فدمر بيوتًا وأتلف في الأسواق والدور متاعًا وأثاثًا ورياشًا، وأغرق

كثيرًا من الناس والدواب، وأبطل حركة الطواحين وجرف ما فيها من البر والدقيق،

واقتلع في البساتين ما لا يُحصى من الأشجار، وكان الناس ينقذون الغرقى بإدلاء

الحبال إليهم من نوافذ الغرف وسطوحها، وقد أثنى كل من كتب في هذا على رفعتلو

حسن أفندي الأنجا رئيس الشرطة، فإنه أظهر من الهمة والشهامة في إنجاء الغرقى

من حوانيتهم ما يحمد عليه، وساعده على هذا العمل الشريف كثيرون، ويقدرون

الخسائر بنحو 50 أو 100 ألف جنيه.

وذكرت جريدة (بيروت) أنه وقع في بيروت من السيول والأنواء نحو ما

وقع في طرابلس برًّا وبحرًا حتى دخول السيل للبيوت والحوانيت، ولكن بيروت

لا يخترقها النهر كطرابلس، ولذلك كانت الخسائر فيها أقل، وذكرت في خبر طغيان

الأنهار أن نهر بيروت كاد يلتقي بنهر (ألموت) ونهر (إنطلياس) وأنه قد سقط

ثلاث قناطر من جسر نهر الكلب على متانتها وضخامتها، وقد حصل في لبنان

خسائر كثيرة لم تُعلم، وكذلك في جهة حمص، ولا نعلم ما يأتينا به البريد الآتي.

وأما في تونس فقد كان البلاء أخف، وغاية ما ذكرته جريدة (الحاضرة) أن

السيل عطل سَير الأرتال فيما بين سوسه والقيروان والحاضرة التونسية، فقد انهمر

وادي مرق الليل حتى خيف الغرق على الجهة القبلية من مدينة القيروان وانهارت

قطعة من طريق سكة الحديد تبلغ الاثني عشر كيلو متر، وانقض سقف بمكتب العلا

على أم رأس ولدين فماتا، وتداعت عدة ديار للسقوط؛ فاضطر ساكنوها لإخلائها،

وغرق صبي في بركة من ماء المطر، فنسأل الله اللطف بعباده.

_________

ص: 639

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجغرافيا والحرب

ذكر (المقطم) في مقالة له في الحرب الحاضرة سببين لخذلان الإنكليز

وانكسارهم فيها، أحدهما تقصيرهم في معرفة قوة عدوهم، وثانيهما تقصيرهم في

معرفة جغرافية مستعمراتهم في جنوب إفريقيا كبلاد ناتال ومستعمرة الرأس وغيرها

قال: (فأصابهم ما أصابهم من جهلهم لها، وكان الواجب أن يكون عندهم خرائط

عسكرية حربية يرسم فيها محل كل نجد وغور، ومسيل ونهر، وسهل ووعر،

وشعب وطريق، ومنفرج ومضيق وأجمة وعراء وأكمة وبطحاء؛ ليأمنوا فيها

مفاجأة العدو وغدر الأدِلاّء، أما الآن فقد تبين مما أصابهم بعد معركة جلنكوي وقرب

لادي سميث وبعد معركة بلمونت سترومبرج أنهم يجهلون تلك الأراضي فيضلون

فيها أو يضلهم أدلاؤهم حتى يحدق البوير بهم في أماكن لا تسلك ويشرفون عليهم من

معاقل لا تؤخذ، فيكسروهم ويأسروهم) . اهـ

فليعتبر بهذا الشيوخ الذين يقولون: إنه ليس لهذا العلم فائدة ما مع اعتقادهم

بأن فن الحرب واجب في الملة، وأن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب،

فإذا كان انكسار الإنكليز في عدة مواقع وأسر 600 منهم في سرية واحدة أضلهم

فيها الأدِلاّء، إنما كان لأنهم لا يعرفون تلك البلاد كما يعرفون بيوتهم، فكيف

يكون حالهم لو كانوا لا يعرفون الجغرافيا بالكلية، إلا أن الذين ينهون طلاب

العلم في الأزهر عن هذا العلم غاشّون لهم بجهلهم، فإن من جهل شيئًا عاداه،

وإن الذين يقولون: لا فائدة في هذا العلم ، وجودهم عار على الإسلام، بل على

الإنسانية نفسها، والسلام.

_________

ص: 640

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الشريعة والطبيعة

والحق والباطل

{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا

يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ

فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ

الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) .

إن لله تعالى خليقة منها جميع ما نعرفه من هذه الأكوان، وشريعة اختلفت

أحكامها باختلاف أحوال الاجتماع لنوع الإنسان، ثم ثبتت أصولها وقواعدها العامة

بالسنة الصحيحة والقرآن، على وجه ينطبق على مصالح البشر في كل آن، ولولا

هذا لم يصح أن تكون شريعة عامة لكل زمان ومكان، فالخليقة أو الطبيعة من الله

كما أن الديانة والشريعة من عند الله، فذلكم الله ربكم الحق، وكل ما كان من الحق

فهو حق، فمن قال: إن الطبيعة أوعلمها باطل، كمن قال: إن الشريعة أو العلم بها

باطل، كلاهما متجرئ على مقام الربوبية بنسبة الباطل إلى الحق تعالى عن ذلك

علوًّا كبيرًا.

ربما يستبعد بعض الناس هذا القول بالنسبة للطبيعة دون الشريعة، ولكن

الذين يتلون القرآن حق تلاوته أولئك يؤمنون به، واتل عليهم قوله عز وجل:

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ

يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا

مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: 190-191) فإذا

كانت آيات الله تعالى في خلق العوالم العلوية والسفلية وحوادثها الطبيعية - كاختلاف

الليل والنهار- إنما يعرفها العقلاء باستمرارهم على التفكر فيها، فلا جرم أن أكثرهم

تفكرًا أكثرهم علمًا وأجدرهم بمعرفة الله تعالى وتعظيمه، والإيمان بقدرته وكمال

علمه وحكمته، وما شذوذ بعض الناظرين في علوم الطبيعيات والهيئة اشتغالاً

بالصنعة عن الصانع إلا كشذوذ الناظرين في علوم الشريعة المتوسعين فيها عن

العدالة في الأحكام والعفة في المعاملة، وهما روح الشريعة، فإننا نسمع الناس

يرمون رجالاً من أوسع العلماء والقضاة الشرعيين علمًا بالأحكام بما لا يرمون به

سائرهم، وما كان الزيغ والانحراف من هؤلاء وأولئك من علمي الطبيعة والشريعة

فيكونا باطلين، وإنما هو فساد في التربية زاد بالعلم فسادًا {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ

فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} (البقرة: 10) ومثل العلم يشقى به قوم ويسعد به آخرون

مثل الحنظل والبطيخ يسقيان بماء واحد فيزيد الأول مرارة والثاني حلاوة {يُضِلُّ

بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَاّ الفَاسِقِينَ} (البقرة: 26) من حقيّة

الشريعة أن جميع ماجاءت به من العقائد والآداب والأحكام موافق لمصالح الناس

ومسعد لهم في معاشهم ومعادهم، ولذلك كانت كلياتها حفظ الدين والنفس والعقل

والعرض والمال، فإذا نسب إليها شيء فيه مفسدة أو منافاة لمصلحة، فهو ليس منها،

وإن أُسند إلى علمائها ودُوِّن في كتبها؛ لأن هذا من الباطل، ومن حقيّة الطبيعة أنها

قامت بقوانين ثابتة وسنن مطّردة (يسمونها نواميس) بحيث يتمكن الناس من

الانتفاع بها كلما زادوا علمًا بسننها وقوانينها، ولو كانت مختلة النظام تجري فيها

الحوادث بغير إحكام لما اهتدى الناس للانتفاع بها، ولما صح الاستدلال بها على

علم مُبدعها وحكمته وكمال قدرته ونفوذ مشيئته، فمن يرى في الطبيعة خللاً أو

فسادًا فإنما يريه إياه ضعف نظره أو ظلمة بصيرته، فليتْلُ عليه قوله تعالى: {مَّا

تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ

البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} (الملك: 3-4) .

لولا الخليقة والطبيعة لم توجد الديانة والشريعة، فإن الله تعالى خلق الإنسان

في هذا العالم كثير الحاجات والضرورات، ميّالاً بفطرته إلى الكمالات وبلوغ

الغايات، وجعل له الوجدان والمشاعر والعقل ليهتدي بها إلى ما تطلبه فطرته

وتقتضيه خلقته، ولكنه جعل بين أفراده تباينًا في هذه المدركات تتباين بها مقاصدهم

وأعمالهم، والمباينة والتفرق في هذا هما منشأ اختلال المصالح الاجتماعية، فمن ثم

كان في أشد الحاجة إلى هداية رابعة تقرب المتباين وتجمع المتفرق، وقد منح الله

الإنسان هذه الحاجة بالشريعة، ومقاصد الشريعة وأسسها:(1) الاستدلال بالطبيعة

عامة على موجدها ومبدعها، وما اتصف به من صفات الكمال ، و (2) تقويم

الطبيعة الإنسانية بتهذيب أخلاقها وترويضها بضروب من العبادات؛ ليسهل على

الإنسان الوقوف في تصرفه بالطبيعة العامة على صراط الاعتدال ، و (3) تحديد

الحقوق والواجبات وبيان أحكام العمل بها ، و (4) تبشير من وقف من الأمم عند

الحدود بالسعادة في الدنيا ووعده بالمثوبة في الآخرة، وإنذار من تعداها بالشقاء

العاجل، ووعيده بالانتقام الآجل، فالعلم بالطبيعة مرتبط بالعلم بالشريعة ، يكمُل

بكماله وينقُص بنقصه، فمن لا يعرف الكون ونظامه وطباع البشر وقواهم

العقلية والجسدية، وارتباط بعضهم ببعض، وما وصلوا إليه من العلم بطبيعة الكون

وكيفية تصرفهم فيه على وفق مصالحهم ومنافعهم - لا يمكنه أن يعرف مقاصد

الشريعة، وكيف يؤخذ الناس - أو يأخذون بها - وهذا الأمر واضح بنفسه وإن

ضل عنه كثير من المنتمين إلى علم الدين، المتوهمين أن شرع الله يعرف

بالاستنباط من ألفاظ المؤلفين، وكمال العلم به يكون بالجهل بالخليقة وأحوال الخلق

أجمعين.

نتيجة هذا كله أنه يجب أن لا يكون في الدين والشريعة شيء مخالف لما في

الخلق والطبيعة؛ لأن كلاًّ من عند الله وحاشا أن يصدر عن تلك الذات العلية

التناقض والاختلال، وأي أمر ينافي الكمال، وما عساه يوجد في الكتب الدينية أو

يجري على ألسنة رجال الدين من قول يذم علوم الخليقة أو يرمي إلى بطلانها، أو

ينهى عن تعلمها - فهو من الناس لا من الله، ألصقوه بالدين لشبهٍ عرضت لهم

أكثرها لفظية أو لمحض الجهل، على أنه يوجد في كتب العلوم الطبيعية مثلما يوجد

في كتب العلوم الشرعية من الأقوال والآراء المبنية علي الظن والخرص.

واليقيني من مسائل العلوم الطبيعية، وما يلحق بها هو ما ثبت

بالمشاهدة والاختبار أو البراهين القطعية كالبراهين الرياضية على الكسوف

والخسوف، وكثير من مسائل الهيئة الفلكية وغيرها، ولا يطلقون اسم العلم في

هذا العصر إلا على ما ثبت بالتجربة والاختبار العملي.

واليقيني من مسائل الدين هو ماثبت بنصوص القرآن والسنة المتواترة

كأصول الاعتقاد والأركان الخمسة، وسائر المجمع عليه المعلوم من الدين

بالضرورة، فهذه المسائل اليقينية لا ينافي شرعيها طبيعيها أبدًا، ومتى نافى

قطعي من قسم منها ظنيًّا من القسم الآخر يترك الظني للقطعي إلا إذا أمكن الجمع

بينهما، وإذا تعارضت الظنيات نرجح الشرعي علي غيره.

علمنا أن الشريعة والطبيعة كليهما حق من الله تعالى، والحق لا تكون آثاره

ونتائجه إلا صالحة وثابتة بثباته، والباطل لا يكون إلا مضطربًا ومتزعزعًا،

وآثاره تفنى بفنائه وتزول بزواله، فإذا تصارع الحق والباطل لا يلبث الحق أن

يصرع الباطل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء:

18) ، وفي الزبور الذي في أيدي أهل الكتاب ما مثاله أن الذي تكون مسرته

وغبطته في الناموس الإلهي ينجح في عامة أعماله، ويكون كالشجرة عند مجاري

المياه تثمر في أوانها ولا يذبل ورقها، وأما الأشرار فهم كهشيم تذروه الرياح لا

يثبت لهم في طريق الدين قدم؛ لأن الرب يعلم طريق الأبرار، أما طريق الأشرار

فتهلك.

والأمثال على هذا في القرآن كثيرة، ومن أبلغها وأظهرها الآيات التي

افتتحنا بها هذه المقالة، ثبات الحق وزهوق الباطل ثابت في الطبيعة كما هو ثابت

في الشريعة ويسميه الحكماء الذين اهتدوا إليه (الانتخاب الطبيعي) يعنون أن

طبيعة الوجود تقتضي بقاء الأصلح الأنفع في الكون وتلاشي ما سواه.

والأصلح في الطبيعة ما كان جاريًا على سننها ومندرجًا تحت نواميسها،

والأصلح في الأمور الشرعية ما كان موافقًا لأصول الدين وقواعده وأحكامه من

حيث إنها هادية للأرواح في شؤونها الروحية ومصالحها الاجتماعية، فيمكننا على

هذا أن نستدل من الشريعة والطبيعة معًا على أن الأمة المخذولة المهضومة الحقوق

المغلوبة على أمرها لا بد أن تكون على الباطل، أي زائغة عن صراط الشريعة

متنكبة سنن الطبيعة {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا

هَضْماً} (طه: 112) .

كأني بأكثر القرَّاء من إخواني المسلمين، وقد انتهوا إلى هذه المسألة

فاضطربت أفكارهم وانفعلت أرواحهم، وسبق الوسواس إلى أذهان بعضهم بأن

قصارى هذا القول طعن بالإسلام؛ لأن أهله مخذولون في هذا الزمان في كل قطر

ومكان، واعتراف بأحقية أديان أخرى ثبتت سلطة أهلها، واستقام أمرهم ونجحوا

في أعمالهم وعلت كلمتهم على المسلمين، ومنهم الوثني ومن لا يدين بدين، مهلاً

مهلاً، استوقف أيها المنتقد سربك واستغفر ربك، ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم، فإن

بعض الظن إثم، واعلم أن ما تراه من الباطل ثابتًا قويًّا، فإنما ثباته بالتوكؤ على

أركان من الحق كالنظام ومراعاة سنن الله في الخلق والأخلاق والسجايا الفاضلة

كالصدق والأمانة، فالحق ثابت في نفسه، والباطل ثابت به أو شبيه بالثابت، فلو

تداعت أركان الحق عند هؤلاء لسقط الباطل، بل لتبين زهوقه وبطلانه، ولما ثبت

بنفسه قط، وما تراه من خذلان المسلمين واضمحلال سلطتهم مع حقيّة دينهم فسببه

عدم السير على منهاج دينهم، وهذا كتابهم ينطق عليهم بالحق: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ

مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً

أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الأنفال: 53) وقد كتبنا في (منار)

السنة الأولى مقالة تحت عنوان قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ

وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) أتينا فيها بالقول الفصل في دعوى المسلمين

أن نجاحهم وارتقاءهم بدينهم، ودعوى الباحثين في طبائع الملل وعلوم الاجتماع

والعمران أن شقاء المسلمين وضعفهم العام إنما جاءا من قِبل دينهم لأنه لا شيء

آخر يناط به تأخرهم في جميع الأقطار، وأن ترقيهم إنما يكون باحتذاء أوربا

وتقليدها، وخلاصة ما هنالك أن كل واحد من القولين له وجه وفيه قصور،

والصواب أن الإسلام جامع لأسباب السعادة الدنيوية التي نالها الغربيون ومن تلا

تلوهم كاليابانيين على أكمل الوجوه، وزاد على ذلك بيان أسباب السعادة الآخرة،

ولكن المسلمين انسلُّوا مما أرشد إليه الدين من أسباب السعادة كاستقلال الإرادة

والرأي، وتطهير النفس من أدران الخرافات وصدأ الأوهام وصقلها بصقال الحجة

والبرهان في جميع ما تأخذ به، وإطلاق العقل من قيوده وتسريحه في عوالم

الطبيعة علويها وسفليها؛ ليبحث عن حقائقها وينتفع بها، فإن الله ما قال: {وَسَخَّرَ

لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية: 13) إلا ليرشدنا إلى

هذا - انسلوا من هذه الإرشادات كلها باسم الدين، وتبع هذا فساد الأخلاق والأعمال،

فلا غرو إذا قال القائلون: إن الدين هو الذي حال بينهم وبين الترقي، فإنهم يرون

أن دين الناس ما هم عليه، وبيّنا هناك أيضًا أن دين الإسلام هو دين الفطرة " أي

الخليقة والطبيعة " وأنه بيّن في القرآن سنته في هلاك الأمم بمثل قوله: {وَلَقَدْ

أَهْلَكْنَا القُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} (يونس: 13) وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن

نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء

: 16) وبيّن سنته في نجاة الأمم وحفظها من الهلاك بمثل قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ

لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) والمراد بالظلم هنا الشرك

خاصة؛ فإن من أشرك ظلم نفسه وفي الآية الأولى ما يعم الجور في الأحكام

والأعمال نص. على ذلك المفسرون، وبه يرتفع التناقض، فقد بيّن أن المصلح لا

يهلك وإن كان مشركًا، وبيّن في آيات أخرى أن الصلاح والإصلاح سبب إرث

الأرض، وأن الله لا يصلح عمل المفسدين، وكل شيء فصلناه تفصيلاً.

فالقرآن بجملته حجة على المنتسبين للإسلام بأنهم على غير الحق الذي جاءهم

به، بل إن تعريف الدين عندهم بأنه سائق إلى النجاح في الحال والفلاح في المآل.

حجة عليهم فإنهم غير ناجحين، وأما الأمم الناجحة المرتقية فإنها أخذت بأسباب

الترقي الدنيوي التي أرشد إليها القرآن من طبيعية وشرعية، ولكن لا على أنها من

القرآن، بل على أنها نافعة في ذاتها معقولة بنفسها، والنتيجة في الدنيا واحدة،

وابتغاء مرضاة الله تعالى بالأعمال النافعة يجعلها نافعة لذويها في الآخرة أيضًا، فإذا

كانوا قد ربحوا بهذا سلطة الدنيا وسعادتها، فنحن قد خسرنا بتركه الدنيا والآخرة،

وذلك هو الخسران المبين، ولا ينكرن عليّ هذا أحد شم رائحة الإسلام؛ إذ لا يجهل

أحد أنه قرن مصالح الدنيا والآخرة بعضها ببعض، وجعل غايته سعادة الدارين،

ففقد إحداهما من مجموع الأمة دليل على فقد الأخرى، ولا التفات للآحاد، فإنما

كلامنا في الأمم، فتدبروا وتذكروا أيها المسلمون، ولا يخدعنًّكم المؤوِّلون الغاشّون،

ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون.

_________

ص: 641

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية

في إصلاح المحاكم الشرعية

(الأعمال الحسابية)

يوجد في تعريفة الرسوم بعض الالتباس، وظهر ذلك في العمل، ولكثير من

القضاة عليها انتقادات تحتاج إلى النظر كما جاء في المادة (23) من تلك التعريفة

من أن الإبراء من الدًّين أو من الدعوى بمعلوم يؤخذ عليه الرسم في المائة واحد، ثم

صدر منشور النظارة بأن الإبراء من مؤخر الصداق يؤخذ عليه خمسة قروش، ثم

تلاه منشور آخر بأن الخمسة قروش تؤخذ فيما إذا زاد المبلغ الذي حصل فيه

الإبراء عن ألف قرش، وإلا فيؤخذ ثلث الخمسة قروش، ثم صدر منشور ثالث

يقضي بأنه إذا حصل خلع أخذ رسم الخلع خمسة قروش ولم يؤخذ على الإبراء

شيء.

ومما لاحظه القضاة أن المادة (6) قضت بأخذ رسم الأيلولة، فلو جاءت

الأيلولة غير مقصودة كما لو حصلت في ضمن عقد بيع مثلاً لعقارات موروثة،

فإنه يؤخذ رسم الأيلولة ورسم البيع معًا، وهو خلاف ما عليه المحاكم المختلطة.

وفي المادة الرابعة ما يفيد أن الرسم يؤخذ على كل حجة أو سند يطلب تحريره ،

فمقتضاه أنه إن لم يطلب لا يؤخذ عليه رسم، مع أن أوامر النظارة تقضي بأن يؤخذ

الرسم في مبدأ الأمر حتى رسم التحرير.

ومما لوحظ أن جميع المواد التي ذكر فيها للرسم بداية ونهاية ووكل تحديد ذلك

للكاتب يفتح بالضرورة بابًا للفساد يجب سده، وعلى كل حال فيجب النظر في

التعريفة والمنشورات ووضع اللائحة على وجه يكفل العدل من جهة، ويرفع

الالتباس ويسد أبواب الفساد من جهة أخرى، ولن تعدم النظارة وسيلة للتعجيل في

أقرب وقت ممكن.

(تقييد القاضي في كل ما يرد إليه)

رأيت في بعض المحاكم أن القاضي يرد إليه طلب أو تُقدم إليه شكوى، وربما

من خصائصه أن ينظر فيها، ولكنه يجد في ذلك مشقة عليه فيدفع الطالب أو

المشتكي بقوله: (اذهب إلى جهة كذا) أو (إن هذا لا يعنيني) ويكثر تردد

صاحب الحاجة لأن الأمر مما يعني القاضي، فالذي أراه أن كل ورقة تقدم إلى

القاضي في أي من الشؤون يقيد ملخصها في دفتر يُنشأ لذلك ويكتب فيه ما رآه

القاضي حتى لو اشتكى الطالب إلى مقام أعلى أمكن أن يعرف خطأ القاضي من

صوابه.

(تشكيل المحكمة)

بعد ما شرط في القاضي أن يكون كفؤًا لعمله لم يكن من معنى لبقاء لقب المفتي،

ثم إذا رأينا أن القاضي لا بد له من مستشار يرجع إليه في المشكلات وجب أن

يكون ذلك المستشار أرقى علمًا ومكانة ومُرتبًا من القاضي، فيكون مفتي المديرية

أسمى موظف شرعي فيها، ثم إن كان هذا شأنه وأطلق له إبداء الرأي فيما يرفع

إليه من الأسئلة وجب أن لا يفوض إليه النظر في القضايا التي سبق له إبداء الرأي

فيها، لكن لا شيء من ذلك بواقع، فإن المفتي قد يكون أنزل درجة في العلم من

قاضي المديرية أو المحافظة، ثم إن كان يفوقه في العلم فهو أقل منه راتبًا لا محالة،

ثم إن اللائحة الجديدة قد جعلت له حق الحكم ولم تمنعه إلا من الإفتاء فيما هو

منظور أمام المحاكم بالفعل، ولم تنص على ما أفتى فيه قبل نظره، ثمّ هو عضو

من أعضاء المحكمة الكلية في المديريات أو المحافظات، فإن كانت صفة الإفتاء

تجعل لرأيه امتيازًا على رأي غيره عدّ وجود غيره معه لغوًا ، وإلا فما بقاء هذه

الصفة؟ ثم إذا حكم مفردًا في قضية كيف يصح استئنافها، والحاكم هو صاحب

الرأي الأعلى في بيان الأحكام الشرعية؟

أما فيما يتعلق بغير المتقاضين أمام المحاكم الشرعية إذا احتاجوا إلى فهم

حكم شرعي في نازلة، فهم لايرضون بما دون إفتاء مفتي الديار المصرية كما هو مشاهد ، فلم يبق من وظيفة المفتي في المديرية أو المحافظة إلا إبداء رأيه

في القضايا الجنائية عندما تريد أن تحكم بالإعدام، وهي وقائع قليلة يصح أن

تعدل لها مادة في قانون تحقيق الجنايات بأن يقال: (بعد أخذ رأي أكبر موظف شرعي في المديرية أو المحافظة، أو يحول ذلك على إفتاء الديار المصرية)

وغاية ما يلاحظ فيه أن إرسال القضايا من محكمة قنا وردَّها يحتاج إلى أن يزاد في

الزمن المحدد للحكم بالإعدام أسبوع وإبقاء الجاني أسبوعًا في عالم الأحياء،

ولا ينشأ عنه ضرر ما.

فالذي أراه حذف هذا اللقب من المديريات والمحافظات، وعد الجميع قضاة

وأعضاء محكمة، فإن كان لابد من بقاء وظيفة الإفتاء في الأطراف، فليقِل العدد

وليكن للإسكندرية والبحيرة مفتٍ يقيم بالإسكندرية وآخر للمنوفية والغربية يقيم

بطنطا، وثالث للدقهلية والشرقية والقليوبية يقيم بالزقازيق، ورابع للجيزة

والفيوم وبني سويف يقيم بالفيوم، وخامس للمنيا وأسيوط يقيم بها، وسادس لما بقي

من الوجه القبلي يقيم بقنا، وليُنَطْ بهؤلاء المفتين إبداء الرأي فيما يرفع إليهم عند

إرادة الصلح وعدم التخاصم أمام المحاكم، وما تستفتيهم فيه الحكومة، وللقضاة أن

يستشيروهم فيما يشكُل من الأحكام، وعلى هذا يجب أن يكونوا من مشاهير العلماء،

ومنهم ينتخب قضاة المديريات والمحافظات الذين يسمون رؤساء المحاكم إذا أرادوا

الدخول في سلك القضاة.

ثم ألاحظ ما لاحظه سماحة قاضي مصر من أنه إذا غاب عضو من أعضاء

المحكمة العليا فلرئيس المحكمة أو من يقوم مقامه أن ينتدب من يتم به عددهم من

أعضاء محكمة مصر الكبرى ممن لم يسبق له نظر في القضية، فإن لم يتيسر ذلك

انتدبته نظارة الحقانية بعد أخذ رأي القاضي إلى آخر ما نص عليه في المادة التاسعة

من اللائحة، ولا حاجة لجعل الانتداب لسعادة ناظر الحقانية من أول الأمر تسهيلاً

للعمل، فقد يحتاج للانتداب يوم الجلسة والخصوم حضور والتأخير يضر بمصلحتهم،

فمن الواجب أن لا يلجأ لرأي النظارة إلا عند الضرورة وحيث يقتضي الانتداب

انتقالاً من محكمة أخرى.

ثم لابد أن يباح لرئيس المجلس إذا حصل له مانع من الحضور أن ينتدب أحد

العضوين بدون إذن الحقانية للسبب الذي ذكرناه، وكذلك يجب أن يباح له أن ينتدب

أحد العضوين للقيام بعمل أحد قضاة المراكز عند تغيبه إذا دعت الحاجة إلى ذلك

لجواز أن لا يتيسر انتداب أحد قضاة المراكز للقيام بعمل مركز آخر، ويتيسر

انتداب عضو من أعضاء المحكمة.

هذا ما ألاحظه الآن على طريقة تشكيل المحكمة إلى أن ينظر في عدد القضاة

والأعضاء ويستقر الرأي على توزيع الأعمال، فتتغير طريقة التشكيل في

المديريات على وجه يوافق ذلك التعديل.

(تابع ويتبع)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 648

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عيد المولد الهمايوني

في مثل يوم الثلاثاء الماضي (16 شعبان) من سنة 1258 للهجرة الشريفة ولد

سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، ومحطّ رحال آمال شعوب المسلمين، والسلطان الأكبر

لجميع العثمانيين، خليفتنا عبد الحميد الثاني. أيده الله تعالى بالقرآن العظيم والسبع

المثاني، فياله من موسم حميدي حميد، وعيد وطني سعيد، احتفل به العثمانيون في

جميع الممالك الشاهانية، وابتهج به المسلمون في جميع البقاع الأرضية رافعين أكف

الابتهال إلى ذي العزة والجلال بأن يؤيد بشوكته عرش الخلافة والسلطنة، ويعيد لهم

السرور بمثله في كل سنة، اللهم آمين.

_________

ص: 651

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العالم الإسلامي

جاءتنا الرسالة الآتية من كاتب فاضل في سنغافورة مؤرخة في 27 رجب،

قال فيها: بعد الحمد لله والصلاة على نبيه، ورسوم المخاطبة ما ملخصه:

سيدي، تشرفت بلثم كتابكم رقيم 18 الماضي ونزهت طرفي في وشي أقلامكم ،

وقد كان وصول ذلك الكتاب إليّ وأنا متأثر بانحراف مزاج، فكان كتابكم الترياق

النافع، وقد وصل إليّ (المنار) متتابعًا في ميعاده يهدي إلى الصواب وينبه ذوي

الألباب والذكرى تنفع المؤمنين، وما ترشح به صفحاته من النصايح المفيدة والحكم

الثمينة قد اجتذب قلوب الكثيرين ممن له إلمام بمعنى الإسلام ، على أن سواد قرّاء

جهتنا لا تقوى مِعَدُ عقولهم على هضم ما تهدونه إليهم لبعد العهد بالحقائق والإخلاد

إلى التقليد إلا أن الحق إذا أشربته القلوب لم تستطع رفضه.

أما ما تفضلتم بإبدائه من سديد الرأي والنصح البالغ مما يجعل أهل هذه الجهة

على قاب قوسين من أمنيتهم، فقد بادر المملوك بالبحث في اتباع الرأي الأول، وإن

كنتُ قد علمتْني التجارب أن قومي بطآء إذا دُعوا إلى مثل هذا، سيما مَن كثرت

أمواله، ولكن اليأس عين الشقا، فلذلك أؤمل على بعد أن يكون لهذا الرأي أثر ما،

وقد كتبت إلى بعض الأصدقاء ببلاد الدكهن من الهند أن يفتكر في جمع بعض ذوي

الكلمة النافذة عند الإنكليز من العرب الحضارمة؛ ليطلبوا من الإنكليز مساعدة مَن

بجاوه ولا أتأخر عن رفع ما سيحدث إليكم (إن كان) .

أما الرأي الثاني فما إليه من سبيل؛ لأن قومنا قد اتفقوا على أن لا يتفقوا وهذه

حقيقة لا يتمارى فيها اثنان، وما استفهمتم عنه من أخبار الجمعيات الإسلامية التي

عرفتها، فعلى وجه الإجمال أقول: الجهات التي تطوفت بها هي سواحل يابان

وبلادها، وما فيها من المسلمين إلا أناسًا يعدون بالأنامل في ثلاث من المواني لا

يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولهم في بلد كوبي بيت (كلوب) للعب البليرد

وغيره، وفيه بعض كتب إنكليزية هزلية لا غيره، وأما جزائر فليبين ففيها كثير

مسلمين منهم حكام، ولهم بها بعض شوكة (كريشة في مهب الريح إلخ) والجهل

بينهم سائد من كل وجه، وأما الشين فلم أتمكن من التوغل فيهم لهجوم الشتاء وهزال

الكيس، وعلى كل حال أقول: إن أنفس الصينيين لم تزل حية، وعندهم نشاط وجد،

ولهم حمية وعصبية في الجملة، ولكن تعاليمهم كلها فاسدة، ولا يوجد بينهم فيما

أعلم من يطلق عليه طالب علم، ولو أوفدت إليهم ثلة من العلماء مستغنين عن

اصطياد الدراهم والتشوف إلى ما في أيدي الناس يصير تأثير منهم كبير يقل كل

تقدير عنه، واللغة العربية الفاسدة والفارسية المحرفة تروج بتلك الصقاع، ويوجد

بها جحافل من شحاذي العرب والهنود يأوون إلى المساجد والمدارس، ولهم اعتقاد

في القبور وبدع كثيرة روجها عليهم الجهل والجهال.

وأما إقليم سيام ففيه بعض دول من المسلمين لم يزل معهم بعض استقلال

لوقوعهم بين الأمم المتزاحمة، وعدد المسلمين بها غير قليل، وعندهم إلمام بأحكام

الصلاة و (العشرين صفة) ويعتنون بحفظ المتون من النحو، ولا يتعدون إعراب

الأمثلة، وليس بهذه النواحي مدرسة منظمة ألبتة، وللشعبذة والطلاسم والخرافات

جابر، ودعوى الكرامات رواج، سيما بين الكبراء والأمراء.

وأما جهات ملاكه وأرض الملايو، فبعضها يحكمها الإنكليز أصالة، وقسم

كبير منها تحت حمايتهم، وقسم منها ينسب لسيام، وهو تحت مطامعهم، وحالة

المسلمين بهذه الجهات أحسن حالة من سواهم لحصولهم على الحرية فيما يتعلق

بالدين أو بالتعليم والاجتماع، وللمساواة المزعومة في حكومة الإنكليز، ولكن

إخواننا إلى الآن لم يوفقوا إلى إقامة جمعية أو تنظيم مدرسة أو مشروع من نحو هذا،

ولا مانع منه من جهة الحكومة ألبتة، نعم قد أقيمت بسنغافورة منذ نحو سنتين

جمعية عربية لم يتجاوز عدد أعضائها ثلاثين، وعلى إثر ذلك هزت الحمية أحد

المثرين، فالتزم ببيت فسيح يكون محلاً لتلك الجمعية، والتزم أيضًا بنفقة أستاذ

يقوم بتعليم أولاد العرب حروف الهجاء وطرفًا من الحساب ونزرًا من العربية

العامية، والتزم أعضاء الجمعية بمرتب لأحد طلبة العلم يتولى عقود أنكحة العرب،

ويعلم أولادهم العربية وطرفًا من العقائد الإسلامية على الطرز القديم، وقد استمر

ذلك إلى الآن وآثار الانحلال على تلك الجمعية بادية والله لطيف بالعباد.

وبحيدرآباد جمعية عربية لم تتسق تمام الاتساق.

وأما مستعمرة هولاندا فقد تطوفت في أكثرها، وكما ترون في بعض كتاباتي

أخبارها، وهنا لا غناء لي عن الإلماع إلى التعريف بالعرب الموجودين

بهذه المستعمرة، وهم قسمان: أولهما أناس قدموا من الغرب على ما هو المشهور،

وقد اختلطوا بالأهالي وتبعوهم في كل العوائد والصفات، وبقي لبعضهم اسم (رادين)

ومنهم حاكم جاوه المأسور في سورا كرتا، والقسم الثاني هم العرب الحضارم،

وصلوا إلى هذه الجهات منذ ثلاثة قرون تقريبًا يبتغون الرزق، قد رفضتهم بلادهم

لما حل بها من المصائب والدمار، وكان أولهم دخولاً إلى هذه النواحي عدد من

السادات أهل الفضل والعلم، فنشروا الدعوة، وبهم ضرب الإسلام في هذه الجهة

بجرانه وقد صار من أولادهم عدة أمراء على كثير من هذه النواحي من غينيا

الجديدة إلى فليبين ولم يزل عدد كثير موجودًا منهم إلى الآن، وبوصول أخبار

من ذكر إلى أوطانهم نهض الجم الغفير من البوادي والرعاع ويمموا هذه البقاع ،

وصارلهم فيها رواج عظيم لتعظيم الأهالي للجنس العربي، وافتخارهم بمصاهرتهم،

ولم يزل أكثر هؤلاء العرب متميزين عن الأهالي في الهيئة والألقاب، وإن ساووهم

في الجهل والغباوة والكسل، وبهذه الأطراف جم غفير ممن يدعي العلم وعدد قليل

من العلماء، وليس بها مدرسه للمسلمين، والتعليم عندهم على الطراز القديم في

المساجد ونحوها في الشروح والحواشي، وحظ الآفق من علمائهم إيراد الاعتراضات

على العبارات والرد عنها ، وليس لعلم الحديث ولا للعلوم العقلية ذكر ألبتة،

ولتشديد الحكومة عليهم ساءت ظنونهم بأنفسهم فقل أن تجد بينهم من يثق بابنه

وعرسه، فضلاً عن أن يتجاسر بأن يدعو إلى الاجتماع أبناء جنسه.

وتظاهر الهولنديين الآن بالشماتة بالإنكليز بالغ فوق الحد.

وأما بلاد الهند فقد طُفتُ بعض جهاتها واتصلت ببعض جهابذتها،

فيها مدارس يؤمل نجاحها، كما لا يخفاكم ، وأشهر جمعياتها (ندوة العلماء) ولها

في أكثر بلاد الهند محلات معلومة، ولهم مجالس أخرى مثل محمدن (كلوب)

و (انجمن إسلام) في بمبي، والجمعية الإسلامية في مدراس وغيرها مما له

بعض فائدة. وللعلوم العقلية والفنون الحديثة المقام الرفيع ولله الحمد.

وبذكر الحضارم ، اسمحوا لي باستفساركم عما لهجت به الجرائد في أعدادها

الأخيرة من ذكر صدور الإرادة بتنظيم حضرموت مع ذكر تنظيم ولاية اليمن وحيث

إنها (بلاد بها نيطت عليّ تمايمي وأول أرض مس جلدي ترابها) . أحب استطلاع

كنه الخبر إن لم يكن عليكم في ذلك مشقة وقد سبق للمرحوم اجتهاد في لَمِّ شعت

قبائل حضرموت للخضوع للدولة بطلب من حضرة دولتلو المشير السيد أحمد مختار

باشا المعتمد السلطاني بمصر غير ، أن تلك المساعي، ويا للأسف ضاعت سدى ،

وقد قام بعد ذلك أحد إخواننا أهل الفضل والتحقيق بخدمة جليلة تسهل أمر تنظيم

تلك الأصقاع بلا كلفة تذكر مع إقامة الحجة على ما تدعيه إنكلترا من حماية تلك

الشطوط ، فإن كان في السماء مطير أو فيمن نؤمل خير، فسنلبي إشارتكم وإلا

فلتوضع هذه الجملة في زاوية النسيان لئلا نبحث عن حتفنا بظلفنا، والله ولي

التوفيق.

ويعنّ لي أن أطلب بلسان (المنار) أو (المؤيد) إصلاح الخطب الجُمَعيَّة

في ممالك الدولة، بل وسائر الشرق بحيث تكون صالحة لنفع الناشئة الخالية مع

حذف لعن الأرفاض ومساواتهم بالكفار مما كان سببًا في تفريق ريح المسلمين منذ أكثر

من اثني عشر قرنًا.

وقد جاءنا رسالتان أخريان من سنغابور: إحداهما مذيلة باسم (عبد المعين)

يثني فيها على (المنار) وما على شاكلته من الجرائد العربية (كالثمرات)

و (السلام) للصدق في خدمة الملة والدولة والجامعة العثمانية، والحث

على الاتحاد والقيام بالمشروعات النافعة، ثم أظهر الكاتب أسفه من عدم تلبية

ندائنا والقيام بما نحث عليه، وذهب إلى أن السبب في هذا (عدم الثقة بولاة

الأمور الموظفين في خدمة الدولة، فحينئذ يجب التنديد بأعمالهم ولا ينبغي

السكوت عنهم، فإن ذلك يزيدهم جرأةً وتماديًا، فإنا رأينا في جريدة (المؤيد)

الغرّاء عدد 2900 نقلاً عن مكاتبه بمكة المشرفة أخبارًا لا أصل لها، والحقيقة

أن المخاوف وعدم الراحة والأمن لا تزال كما كانت سابقًا مع الاستبداد وتهاون

ولاة الأمور مما يضيق المقام عن شرحه. إلخ

والرسالة الثانية جواب لنا عن كتابة خصوصية في شكوى إخواننا الجاويين

من ظلم هولندا وما يجب الأخذ به لتلافيه، وفيها كلام عن تعدي هولندا على

الأجينيين وظلمها لهم مع أنهم تابعون للدولة العلية رسميًّا وهي لا تسأل عنهم،

وربما نتكلم عنهم في العدد التالي.

وجاءتنا رسالة من بتاوي الجاوه يقول صاحبها الفاضل أنه كان لِما كتبناه في

المنار 32 بشأن المسألة الجاوية أحسن وقع، وأذعن الجميع لإلقائنا التبعة على

قناصل الدولة العلية، وبشرَنا الكاتب بأن جميع المسلمين هناك يتداولون (المنار)

فرحًا به

وأثنى على سعادتلو محمد كامل بك شهبندر الدولة العلية عندهم سابقًا،

وذكر أن صدقه وإخلاصه هما السبب في سعي هولندا بالوشاية عليه حتى استبدلت

الدولة به أحمد أمين بك الحالي المذموم بكل لسان، وذكر أن هولندا صارت تعاقب

من يذكر اسم كامل بك أو الدولة العلية، فعسى أن يصل هذا الخبر إلى مسامع

مولانا الخليفة فيتدارك الأمر.

_________

ص: 652

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحرب الحاضرة

تواترت البرقيات بتوالي انكسار الإنكليز وخذلانهم في جميع المواقع، وكان

أشدها وقعًا وأكثرها إيلامًا انهزام الجنرال السير بوللر القائد العام بجيشه بخسارة

عظيمة جدًّا، ولهذا استبدلت الحكومة الإنكليزية به اللورد روبرتس قائد جيوش الهند

وجعل لورد الخرطوم كتشنر (باشا) رئيس أركان حربه بدلاً من هنتر (باشا)

المحصور في مدينة لاديسميث.

وقد ذكرنا في (المنار) الماضي أن لانكسار الإنكليز سببين: أحدهما الجهل

بجغرافية البلاد التي يحاربون فيها، وثانيها الجهل بقوة عدوهم، وههنا نذكر كلمات

لأحد العارفين بالسياسة من رجال الإنكليز الذين جاءوا مصر في هذه الأيام، قال:

إن البويرس شعروا منذ سنين بأن الإنكليز ستلجئهم إلى الحرب في يوم من

الأيام، فطفقوا يستعدون لذلك بكل ما في طاقتهم، فخصصوا جزءًا كبيرًا من المال له،

وبالغوا في إخفاء عملهم حتى عن قومهم، فأنشأوا معامل السلاح (الترسانات)

في الغابات البعيدة عن العمران في قلل الجبال، وكانوا إذا جاءهم سياح الإنكليز

يطلعونهم على المعامل العتيقة وما فيها من البواريد القديمة من الطراز المعروف عند

همج أفريقيا وما يقرب منه، وكنا قد اخترعنا مدفعًا أسرع المدافع المستعملة وأبعدها

مرمى، وكان مخترعه يحاول أن يزيده إتقانًا، ولذلك لم يعمل منه شيء ما عدا

النموذج، ولما زار إمبراطور ألمانيا بلادنا الزيارة التي قبل هذه الأخيرة رأى

نموذج هذا المدفع فأعجب به فطلب صورته فقيل له: إنه لم يتم إتقانه، فقال: إنه

ليعجبني على ما هو الآن، فأجيب طلبه وعندما عاد إلى بلاده أمر بالإكثار من هذا

المدفع، واشترى البويرس منه عددًا صالحًا من ألمانيا، ولذلك ظهر أن مدافعهم أبعد

من مدافعنا مرمى وأسرع من حيث يظن قومنا أنه لا يوجد عندهم إلا المدافع القديمة

التي لا تقارب مما عندنا {وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} (النحل: 26)

بل صدق علينا أننا قُتلنا بسلاحنا، وأما التعليم العسكري فقد عمموه تعميمًا حتى في

النساء مستعينين عليه بضباط الألمان، فإن أكثر من خرج من الجيش الألماني من

هؤلاء تيمم الترانسفال واشتغل بتعليم أهلها فنون المكافحة والنزال.

قال الإنكليزي لمحدثه: فقد جمع البويرس بهذا بين النظام وبين القوة الطبيعية،

والشجاعة والجلد، والصبر على التعب والسغب، وهذا الجد والصبر لا يوجد

عندنا إلا في الضباط فإنهم تربوا أحسن تربية، وباقي الجيش من غوغاء الناس إذا

مشى بضع ساعات يعييه الوجى والكلال، ولا يصبر عن اللحم والخمر إلا قليلاً،

وقد اغتر تشمبرلن بالظاهر، وغرّ حكومته حيث كان يعتقد أن ثلاثين ألفًا كافية

لتدويخ الترانسفال بل لتدميرها، أما أنا فإنني أعتقد أن العاقبة سوأى إذا لم نجهز

الجيش الكافي، وأقله في اعتقادي مائة وخمسون ألفًا، وإن هذا علينا ليَسير. اهـ

_________

ص: 656

الكاتب: محمد رشيد رضا

بقية الكرامات المأثورة

وهي السادسة من مقالات الكرامات

خلاصة ما مرّ في مقالات الكرامات السابقة أنها جائزة وفاقًا لأهل السنة ولا

ينبغي أن ينازع في هذا عاقل - وأن الوقوع بالفعل لا يثبت إلا بالنقل الصحيح عن

المعصوم أو المشاهدة، فإنْ تواتَر كان الثبوت قطعيًّا لا يمكن للعارف به جحوده،

وإلا كان ظنيًّا. وإن مثبتي الوقوع احتجوا بالقرآن العزيز، وقصارى ما سَلِمَ لهم

من احتجاجهم هو وقوع الإلهام الإلهي الصحيح، وبما يؤثر عن الصحابة عليهم

الرضوان، وقد بحثنا في خمس مما أحصاه السبكي وأرجأنا البحث في الباقيات

خشية السآمة من تكرار الكلام، في موضوع واحد كما قلنا في (المنار) 35

وليس في هذا القسم متواتر، وإنما هي آحاد، منها ما إسناده صحيح ومنها الواهي

والمنكر، ودونكم الآن سائر تلك الآثار:

(6)

ومما وقع على يد الفاروق قصة النار الخارجة من الجبل، قال السبكي:

كانت تخرج من كهف في جبل فتحرق ما مرت به، فخرجت في زمن عمر رضي

الله تعالى عنه، فأمر أبا موسى الأشعري أو تميمًا الدّاري -عليهما الرضوان- أن

يدخلها الكهف، فجعل يحبسها بردائه حتى أدخلها، فلم تخرج بعد، قال ولعله قصد

بذلك منع أذاها.

أقول: لا أعرف لهذا الأثر سندًا قويًّا ولا ضعيفًا، ولا يخلو خروج هذه

النار من أن يكون بسبب أو بغير سبب، فإن كان الثاني فهو خارقة من الخوارق

فكيف وقعت تلك الخارقة؟ وهل كانت كرامة لصحابي أو ولي آخر غير معروف،

ثم زالت بكرامة آخر، أم تقع الخوارق بنفسها؟ وإن كانت بسبب، فما هو ذلك

السبب؟ وأين ذلك الكهف، وهل لتلك النار من أثر فيه؟ إذا وقفنا على أجوبة

صحيحة لهذه الأسئلة نتكلم عنها، ومن الحماقة إضاعة الوقت في إيراد الاحتمالات

الخيالية والخوض فيها مع الخائضين.

(7)

ومنها أنه عرض جيشًا يبعثه إلى الشام فعرضت له طائفة، فأعرض

عنهم أولاً وثانيًا وثالثًا، فتبين بالآخرة أنه كان فيهم قاتِل عثمان أو قاتِل عليّ (رض)

وهذا من الإلهام.

(8)

على يد عثمان ذي النورين رضي الله تعالى عنه، قال السبكي: دخل

عليه رجل كان قد لقي امرأة في الطريق فتأملها، فقال له عثمان يدخل أحدكم وفي

عينه أثر الزنا، فقال الرجل: أَوَحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! قال:

لا، ولكنها فراسة المؤمن. أقول: إن هذه الفراسة من قبيل الإلهام الذي أثبتاه، ولكن

يتفق مثله لآحاد الناس، أذكر أن شابًّا جاءني وأنا في ميضأة جامع القلمون (بلدتي

التي ولدت فيها، وهي بجوار طرابلس الشام) حاسرًا عن ذراعي أريد الوضوء،

ففاجأته بحكاية هذا الأثر فقال: إنها لمكاشفة، وإني كنت في الطريق أغازل امرأة

وأمتع نظري بمحاسنها، فقلت: كلا، لا مكاشفة وإنما هو شيء وقع في قلبي عندما

رأيتك، وما أنا مما كان معك على يقين 0

وسنتكلم على المكاشفة والفراسة في مقالة أو مقالات في وقت ما.

(9)

على يد عليّ المرتضى أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه قال:

روي أن عليًّا وولديه الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم سمعوا قائلاً يقول:

يا مَن يجيب دعا المضطر في الظلم

يا كاشف الضر والبلوى مع السِقَم

قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا

وأنت يا حي يا قيوم لم تنم هب لي بجودك فضل العفو عن زللي

يامن إليه رجاء الخلق في الحرم

إن كان عفوك لا يرجوه ذو خطأ

فمَن يجود على العاصين بالنعم

فقال علي لولده: اطلب هذا القائل، فأتاه فقال له: أجب أمير المؤمنين، فأقبل

يجر شقه حتى وقف بين يديه، فقال: قد سمعت خطابك، فما قصتك؟ فقال: إني

كنت رجلاً مشغولاً بالطرب والعصيان، وكان والدي يعظني ويقول: إن لله

سطوات ونقمات وما هي من الظالمين ببعيد، فلما ألحّ علي في المعصية ضربته،

فحلف ليدعون عليّ ويأتي مكة مستغيثًا إلى الله، ففعل ودعا فلم يتم دعاه حتى تكتف

شقي الأيمن (كذا) فندمت على ما كان مني وداريته فأرضيته إلى أن ضمن لي أن

يدعو لي حيث دعا عليّ، فقدمت له ناقة وأركبته فنفرت ورمت به بين صخرتين

فمات هناك، فقال له عليّ رضي الله عنه: آلله عليك إن كان أبوك رضي عنك،

فقال: آلله كذلك، فقام عليّ كرم الله وجهه وصلَّى ركعات ودعا بدعوات أسرّها لله

عز وجل، فقال له: يا مبارك قم، فقام ومشى وعاد إلى الصحة كما كان، ثم قال:

لولا أنك حلفت أن أباك رضي عنك ما دعوت لك. قال السبكي: قلت: أما الدعاء

فلا إشكال فيه إذ ليس فيه إظهار كرامة، ولكنا نبحث في هذا الأثر في موضعين:

أحدهما فيما نحن بصدده من السر في إظهاره - كرم الله وجهه - الكرامة في قوله:

قم، فنقول: لعله لما دعا أُذن له أن يقول ذلك، أو رأى أن قيامه موقوف بإذن الله

تعالى على هذا المقال، فلم يكن من ذكره بُدّ، والثاني كونه صلّى ركعات ولم يقتصر

على ركعتين، فنقول: ينبغي للداعي أن يبدأ بعمل صالح يتنور به قلبه ليعضد

الدعاء، ولذلك كان الدعاء، وعقيب المكتوبات أقرب إلى الإجابة وأقل الصلاة

ركعتان، فإن حصل بهما نور وأشرقت علائم القبول فالأولى الدعاء عقيبهما، وإلا

فليصلّ إلى أن تلوح له أمارات القبول فيعرض إذ ذاك عن الصلاة ويفتتح الدعاء،

فإنه أقرب إلى الإجابة. اهـ ملخصًا.

أقول: لا أعرف راوي هذا الأثر ولا درجة إسناده في القوة والضعف، ولا

أُنكر أنه يجوز أن يستجيب الله تعالى دعاء بعض عباده بمحض قدرته، أو بأن

يجعل سبب الأمر الذي يطلب مقارنًا للدعاء، أو عقيبه فيحصل المطلوب.

والأمر المحبوب إذ حصل بسبب خفي أو جلي عند طلبه من الله تعالى يسمّى

حصوله استجابة، إذ لم يشترط أحد في الاستجابة أن تكون بوجه مخالف لسنة الله

تعالى في الخلق، وقد يكون سبب شفاء المرض تأثيرًا أو تأثُّرًا روحانيًّا، والتأثر قد

يكون بسبب الاعتقاد سواء كان حقًّا أم باطلاً، وأما تأثير نفس في أخرى، فأنا أعتقد

أنه سنة إلهية في الناس، وإن أنكره كثير من الحكماء والعلماء، وقد يكون بأعمال

تعين عليه كالصلوات والأذكار مع الخشوع والاستحضار، فإن ذلك يجمع الهمة

ويقوي العزيمة والإرادة على ما تتوجه إليه النفس وصَاحِبه يشعر من نفسه بأن له

هذا الأثر، ولذلك يأتي بما يدل عليه قبيل حصوله، ومنه الإصابة بالعين،

وهذا النوع مما نقل عن جميع الملل، ورأيت الشعراني وغيره من المتصوفة يثبته

حتى لوثنيي الهند وهو بحث فلسفي دقيق سنوفيه حقه من البحث في وقت آخر إن

شاء الله تعالى.

(10)

على يد العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر السبكي قصة

الاستسقاء به عام الرمادة في زمن عمر رضي الله عنه وكيف أن الله أغاثهم بالمطر

سريعًا، أقول: عام الرمادة هو عام ثمانية عشر وسمي بذلك لأن الأرض

اغبرّت لشدة الجدب، والأثر في هذا عند البخاري وغيره، قال القسطلاني في

الشرح: كان من دعاء العباس ذلك اليوم (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم

يُكشف إلا بتوبة، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث،

فأرخت السماء مثل الحبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس، وليتأمل أهل الفهم

قول العباس عليه الرضوان فهو عبرة لمن يعقل، وذكر السبكي بمناسبة استجابة

الدعاء بالاستسقاء ما كان مشهورًا عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من

استجابة دعائه.

(11)

على يد ابن عمر رضي الله عنه، وذكر أنه قال للأسد الذي منع

الناس الطريق: تنحَّ، فبصبص بذنَبه وتنحى وذهب، أقول: ينقل مثل هذا الأثر

عن أهل البوادي والضاربين في القفار ويقولون: إن من شنشنة الأسد وعاده أن

يعف عمن يقابله بالسكينة والوقار، ويلقاه بالملق والاعتبار، ولهم في هذا حكايات

يتراءى لمن نظر في مصادرها المختلفة أنه لابد أن يكون لها أصل، ولا شك أن

أحدًا من المصدقين بتلك الحكايات لا يعدها خوارق عادات، على أنني إذا ثبت

عندي أثر ابن عمر رضي الله عنهما بسند صحيح فإنني أعتده كرامة أكرمه الله

تعالى بها بإلهام الأسد التنحي عن الطريق، ولكن لا أقول: إن فيه مخالفة لسنته تعالى

في الخلق، فإن مثل هذه الإلهامات بخلاف ما تقتضيه العادات الطبيعية الغالبة

معهود في العجماوات وفي الإنسان أيضًا، ويعسر على الحكيم إدراج الكثير منها تحت

ناموس طبيعي غير الإلهام.

(12)

على يد العلاء الحضرمي وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في

غزاة بجيش، فحال بينهم وبين الموضع البحر فدعا الله تعالى ومشوا على الماء،

هذه عبارة السبكي وهي صريحة في أن الكرامة حصلت لكل واحد من الجيش، ولو

كانت هذه القصة واقعة لنقلت بالتواتر، ولرواها أصحاب الصحاح جميعهم، ثم أين

ذلك الموضع؟ وما هو البحر الذي (يحول) بينه وبين المدينة؟

(13)

ماجاء أنه كان بين يدي سلمان وأبي الدرداء رضي الله تعالى عنهما

صحفة طعام فسبَّحت حتى سمعا التسبيح، أقول: تسبيح الله تعالى تنزيهه عن كل

ما لا يليق بكماله، وقد نطقت به العوالم العلوية والسفلية أي دلت عليه بذواتها

وأصواتها {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ

بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء: 44) وذهب بعض الناس إلى

أن كل شيء يسبح لله بلسان المقال، ولو كان هذا هو الواقع لقال تعالى: ولكن

لا تسمعون تسبيحهم، ولم يقل:(لا تفقهون) ثم إن الله تعالى لا يبطل سنة من

سنن الكون إلا لحكمة بالغة كإعذار الأمم بآية على يد نبيهم ليؤمنوا فينجوا، أو

يصروا على العناد فيهلكوا بنزول العذاب، فما الحكمة بوقوع هذه الخارقة لرجلين

من أقوى الصحابة إيمانًا، وآية القرآن الذي يتلونه تعلو عندهما على جميع الخوارق؟

والكفار يلحون بطلب الآيات الكونية من النبي صلى الله عليه وسلم، والله يأمره

بأن يتلو في جوابهم: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ

لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51) ثم من الذي حدث منهما

بهذه الكرامة مع أن الأصل الذي عليه السبكي وغيره أنه يجب إخفاء الكرامات؟

وإذا قيل: إنهما حدّثا بها لتقوية إيمان بعض الناس نقول: وهل يقوى إلا إيمان من

سمع بأُذنه؟ إذا كان لهذا الأثر أصل فهو أنهما كانا يتكلمان في دلالة الكائنات على

تنزيه مبدعها وغفلة القلوب الضالة من هذا، فقالا ما مثاله: إن هذا الطعام يسبح لله،

أو إننا نسمعه يسبح الله، ومثل هذا التعبير من المجازات الشائعة في اللغة

يسندون النطق إلى الديار والآثار، وينظمون ذلك بالأشعار، أو إنهما لتمكن هذا

المعنى من نفسيهما كان يتجلى لهما في كل شيء، وقد وقع مثل هذا الكثير من

العشاق {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} (البقرة: 165) .

(13)

ما اشتُهر أن عمران بن حصين رضي الله عنه كان يسمع تسبيح

الملائكة حتى اكتوى، فانحبس عنه ذلك، ثم أعاده الله عليه، أقول: تقدم في الكلام

على كرامة مريم العذراء عليها السلام أن سماع كلام الملائكة بالإلهامات

الصحيحة والمعارف الإلهية قد يكون كرامة لأصحاب النفوس الزكية والأرواح

القدسية، وهو من سنن الله في الخلق لا من مبطلاتها أو مبدلاتها، ولا مانع من

ثبوته لهذا الصحابي الجليل.

(14)

ما اشتُهر من قصة خالد بن الوليد في شرب السُّم وعدم إضراره به،

أقول: إن مقدارًا من السم يقتل رجلاً ضعيف المزاج أو معتدله، ربما لا يقتل

قوي المزاج، وأعرف رجلاً تسمم دمه بالصديد ونجا منه، وقال له الأطباء: لا

نعرفها لغيرك، وأعرف رجلاً آخر كانت تلسعه الأفاعي فتموت هي ولا يصيبه منها

أذى، وقع له هذا غير مرة، فإذا ثبت أن ما شربه خالد رضي الله تعالى عنه

من السم كان كافيًا لإهلاكه ولم يهلك، فلا شك أنه يكون من الخوارق الخارجة عن

سنن الله تعالى المطردة في الخلق، ويعلم الله أن غرضي من فتح باب التأويل

المحافظة على دين الله تعالى، وإرشاد عباده إلى التمييز بين الحقائق والأوهام، فإن

القرآن العزيز أيد العقل والاختبار بأن لهذا الكون سننًا لا تبديل لها ولا تحويل، وما

كان لمؤمن أن يهدم هذه الأركان الثابتة بحكايات أكثرها لم ينقل بسند معروف

صحيح يوجب الظن بوقوع مضمونه، ولولا أن المحدثين (جزاهم الله أفضل

الجزاء) اعتنوا بضبط أخبار السلف والبحث في أسانيدها لرأينا في الكتب ألوفًا من

هذه الآثار التي لم نر منها الآن إلا بضعة عشر أكثرها لا يعرف له إسناد يُحتج به،

وسنتكلم على ما أجابوا به عن قلة كرامات الصحابة عليهم الرضوان وكثرة كرامات

مَن بعدهم في مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 658

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية

في إصلاح المحاكم الشرعية

اختصاص المحاكم الشرعية مادة ومكانًا

رأيت أن بعض القضاة يلتبس عليهم الأمر عند التخاصم، فيحكمون بعدم

الاختصاص فيما هو متعلق بالمواد الشرعية، كما وقع أن رجلاً ادّعى نشوز زوجته

ليسقط نفقتها وأجرة سكناها وطلب إلزامها بأجرة المسكن الذي كان أعده لها بمقتضى

حكم سابق مدة شهرين، فحكم القاضي بعدم اختصاصه بالنظر في الإيجار ظنًّا منه

أنه حق مدني محض مع أنه مرتبط بالنشوز وسقوط النفقة، وكما وقع لآخر في

دعوى زوجته علي أبيها بجهازها، وأنه أخذه منها بعد أن استلمته، فإنه حكم بعدم

الاختصاص مع أنه كان يمكنه النظر في الأولى والحكم في الدعوى بعد ما حضر

لديه الخصماء، وهما الوالد وبنته، وأفضل حَكَم بين مثلهما هو القاضي الشرعي

الذي يتولى النظر في حقوق القرابة أيًّا كانت، وهو أيسر ما كان على المتقاضين.

فأرى أن يطلق النظر للقضاء في الأمور المذكورة في المادة 16 من اللائحة،

وفيما لا يتجاوز مبلغه خمسة وعشرين جنيهًا في أي مادة شرعية.

ثم ألاحظ ما لاحظه سماحة قاضي محكمة مصر الكبرى من أنه يجب أن

يضاف على الأمور المذكورة في المادة 16 بعد التوكيل بين الزوجين

ألفاظ (وغيرهما فيما يتعلق بما ذكر) .

وفي مقام الاهتمام بإصلاح هذه المحاكم لا ينبغي توجه الفكر إلى تضييق

اختصاصها ، بل يجب أن يفسح الأمل في توسيعه حتى تغني الحكومة عن كثير من

الوسائل التي تحاولها من زمن بعيد في تيسير التقاضي على الناس وتخفيف الحمل عن قضاة لمواد الجزئية في المحاكم الأهلية، وقلما تصادف فيها نجاحًا حقيقيًّا، ثم يجب أن يترك أمر الاختصاص على ما هو عليه في القوانين المصرية بدون تعرض لتفصيله مع إصلاح ما جاء في مواد التنفيذ من اللائحة الجديدة مما يوهم أن بعض أحكام المحاكم الشرعية فيما هو مختص بها بمقتضى الشريعة لا ينفذ، فإن أمر الاختصاص بيّن والناس معه عارفون ومقتنعون بأن ما منعت المحاكم الأهلية من النظر فيه بمقتضي المادة 16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية يختص النظر فيه بالمحاكم الشرعية، ويصعب جدًّا تحديده بغير ما حددته لائحتا ترتيب المحاكم الأهلية والشرعية والإتيان بهذه الإشارات في اللوائح مما يوجب الارتباك في العمل ويضر به.

ولنفرض أن رجلاً مات وترك ديناً على آخر ويريد وارثه أن يثبت وراثته

له بحكم شرعي، وقد حتمت اللائحة أن لا تقام الدعوى إلا على خصم حقيقي

كما هو الواجب شرعًا، وليس للتركة خصم حقيقي إلا هذا المدين، أفلا يضطر

الوارث لإقامة الدعوى على المدين ليصدر الحكم بالدين وفي ضمنه الحكم بالوراثة

حسبما تقتضيه القواعد الشرعية؟ فإذا صدر هذا الحكم، وهو من محكمة مختصة

بحكم الضرورة التي لا مندوحة عنها، فكيف لا ينفذ لأنه ليس حكمًا في أحوال

شخصية، مع أنه مرتبط بالأحوال الشخصية غاية الارتباط، وكيف يلزم من حكم له

بالدَّين أن يرفع دعوى جديدة بدَينه هذا أمام المحكمة الأهلية ليمكنه التنفيذ، فإن

ضعفت الثقة بحكم القاضي في هذا الدَّين، فكيف تقوى في حكمه بما هو أهم منه وهو

النسب الذي تتبعه حقوق الوراثة في الدَّين، وفي غيره من التركة التي تبلغ قيمتها

آلافًا من الجنيهات.

فالرأي عندي إبقاء الاختصاص على ما كان عليه واعتبارأحكام المحاكم

الشرعية في جميع ما أُبيح لها أن تنظر فيه من المواد بمقتضى الشريعة الإسلامية،

وإنما يجوز للحكومة أن تقيد الحكم في بعض المسائل التي تحتاج إلى التوثيق

بالكتابة بأن يكون للدعوى مستند مكتوب مثلاً على الصفة التي تحددها كما صنعت

مثل ذلك في الوقف والزواج ونحوهما، وبهذا تنتفي كل المصاعب التي تحس بها

الحكومة والناس معًا، أما الاختصاص من جهة المكان فقد حددته المواد 21 و22

و23 من اللائحة الجديدة، وذكر فيها لفظ (توطن) المدعى عليه مثلاً، وقد أظهر

العمل أن من المتخاصمين من لا وطن له كالرحالة من العربان وغيرهم،

وكالمسجونين والمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، فإنهم ليسوا متوطنين شرعًا حيث

هم، ويصعب جلبهم من سجونهم ومشاغلهم إلى المحاكم المختصة بالنظر في

الدعوى عليهم باعتبارهم متوطنين في دائرتها، وكذلك الموظفون إذا لم يسكنوا

بعائلاتهم حيث يعملون في وظائفهم وفي أزمان الانتداب لمدد طويلة، ونحو ذلك مما

يطول شرحه.

ثم اختلف النظر في الزوجة يعقد عليها زوجها في بلد أهلها، ثم تقيم معه

مدة طويلة في بلد آخر، ثم ترجع إلى بلد العقد، هل تقام الدعوى على زوجها في

محل العقد أو في بلد الزوج؟ فإذا كان العقد في بلد الزوج ولم يدخل بها وأقامت

الزوجة في بلد آخر هو بلد أهلها، وأرد الزوج أن يدعوها إلى الدخول في طاعته

والبناء بها، فهل يدعي عليها في بلده حيث كان العقد أو في بلدها؟

والذي أراه وطلبه جميع القضاة أن يبدل لفظ (توطن) في مادتي 21و 23

بإقامته، وأن يبقى في مادة 22 على حاله، وقد كان لفظ الإقامة بدل التوطن في

اللائحة القديمة، وهنا أعجل بذكر مسألة كان العمل فيها قبل اللائحة أيسر منه بعدها

وهي دعوى زوجة على زوجها بأنه تركها بلا نفقة وهي في أسوان وهو في

الإسكندرية مثلاً، معروف المقام، فكان ينظر فيها علي مذهب زفر في المحكمة

التي تقيم الزوجة في دائرتها، ويصدر لها الحكم بدون إعلان الزوج ولا إعذاره متى

استوفيت الشروط المسوّغة للحكم، ويبقى حق المعارضة للزوج عند التنفيذ لا محالة

وكان في ذلك تيسير علي الزوجات الفقيرات، ولكن حُظر هذا النوع من التيسير

بعد اللائحة، وأرى أن يبقى الأمر على ما كان عليه قبلها.

_________

ص: 663

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

(19)

من أراسم إلى هيلانة في أول مايو سنة -185

تسألينني في خاتمة مكتوبك عما نسمي به ولدنا، نسميه (أميل) إذا كان ذكرًا؛

إحياءً لذكر ذلك الكتاب [1] الذي كنت أقرأه لك في مطالعاتنا الليلية، فكان في نفسك

مبعث الطرب والإعجاب حتى إني كنت أكف عن القراءة حينًا بعد حين لأشاهد

وجهك في ضوء المصباح، فأتبين فيه ذلك، ياله من عهد تحفظه ذاكرتي لتلك الأيام

السعيدة.

من البدع التي جرت بها ألسنة الأكياس [2] من الناس منذ حين سبهم جان جاك

روسو واحتقارهم إياه، فويل لهم مما يرمون به قبر ذلك الكاتب العظيم من نبال

اللعن والقدح، وإنهم لجديرون بالرثاء لعقولهم، لم يكن ذنب الرجل الكبير سوى أنه

خالف سنة أهل النظر في عصره وهي اعتقادهم في إصلاح المجتمع الإنساني على

الرجال ومخاطبتهم إياهم فيه بأن وجَّه خطابه إلى الوالدات والأطفال، وهوأمر هداه

إليه ما فُطر عليه من جودة الطبع وذكاء القريحة، على أننا لو جردنا كتاب (أميل) مما

فيه من العبارات الفصيحة التي امتلات بها صحفه، والشتائم الشديدة المنبعثة

عن وجدان كبر عليه احتمال الضيم والهوان، والحماسة في نصرة الفضيلة،

والانفعالات الشريفة التي كانت تعرو مؤلفه المؤمن بالله دون وحيه لأنبيائه عند

نظره في بدائع الصنع ومحاسن الكون- لوجردنا الكتاب من كل ذلك فما الذي يبقى

لنا فيه؟ يرجع كل ما قاله المؤلف في الطريقة التي أراد وضعها للتربية إلى هذه

القاعدة، وهي السير علي مقتضى الفطرة ومعاملة الأطفال معاملة العقلاء، نسلم له

ما يقول، ونحن نرى أن اتباع الفطرة في كل ما تدعو إليه يفضي بالطفل إلى حالة

التوحش والهمجية، لكن ذلك الحكيم على عدم إيمانه بالوحي كان يعتقد أن أصل

الكمال في الفطرة والنقص إنما يعرض لها من فساد التربية، أما كلامه في خطاب

العقل، فلا شك أنه جدير بأن تصاغ له من أجله أجمل عبارات المدح تنويهًا بفضله،

ولا بدع في أن عَرِف له القرن الثامن عشر قدره بعد إنكاره، فأقام له من الآثار ما

خلد ذكره وأحيا اسمه، لكن العقل من دون جميع قوى الإنسان هو الذي يكون في

طور الطفولية أقلها نموًّا، فكيف إذن يعتمد على هذه القوة الكامنة في إيصال معنى

الخير إلى نفس الطفل.

لروسو فوق ذلك أغاليط أخرى كان يعتقد صحتها، وكان من شأنها أن تعوقنا

عن التقدم في أخلاقنا وأوضاعنا، من هذه الأغاليط: اعتقاده بوجوب الرضوخ لما

للجمهور الأغلب من السلطة المطلقة، فإنا نجده في كتابه المسمى (بالعقد

الاجتماعي) قد انتصر للحكومة فيما تدعيه لنفسها من حق تربية الأمة بما

أقامه عليه من البراهين.

ألا أُبين لك كيف كان نفع روسو للأطفال خاصة بما نشره في كتبه من الانتصار

لهم والدفاع عن حقوقهم؟ كان ذلك بما ألقته تلك الكتب في نفوس الفرنساويين من

بذور الثورة وهيأتها به لها 0

لم يُقدِّر الناس ما نشأ عن هذه الحادثة الكبرى في نظام الأسرة (العائلة) من

ضروب التغير حق قدره، فإنها قد خففت من ثقل الولاية الأبوية تخفيفًا عجيبًا على

غير علم من الناس جميعًا؛ لأن المؤرخين قلما يلتفتون إلى ما يحصل في البيوت

من تهذيب الأخلاق وصلاح العادات، فلم يكد رجال الثورتين اللتين حدثتا في

سنتي 1789و 1792 يدركون ما كان يعتور تلك الأخلاق والعادات البيتية من

الاستحالة، على قربها منهم وسهولة ملاحظتها عليهم، ذلك لأنه ليس في وسع أحد أن

يلاحظ أعمال جميع الناس، فإذا أريد الوقوف على أثر أنواع هذه الاستحالة

وصنوف ذلك التغير وجب الرجوع إلى ما كُتب من السِّيَر في أواخر القرن السابع

عشر، أو في أوائل القرن الثامن عشر، هنالك يُرى ما كان بين الزوج وزوجته،

والوالدة وأولادها من التكلف في العشرة والمقاسحة [*] والمجافاة في المعاملة، نعم إن

قولي هذا خاص بأهل البيوتات؛ لأننا لا نعلم شيئًا من أحوال الطبقات الأخرى،

لكن هؤلاء لا بد أنهم كانوا يحتذون مثال سراة الأمة وزعماء الدولة.

كان البيت في ذلك العهد مؤسسًا على إحدى الوصايا العشر التي وصى الله

سبحانه بها موسى عليه السلام وهي (أكرم أباك وأمك) فلم يوصِ موسى أبدًا

بحبهما.

كانت الزوجة في الغالب تدعو زوجها سيدًا وهو يدعوها سيدة، فكان تخاطبهما

باسميهما مع كونه هو لذة العشرة والاختلاط لا يكاد يقع منهما في حضرة الأجانب،

فالثورة هي التي أدخلت في البيوت عادة التخاطب بضمير المفرد، وسوّت بين الولد

البكر ومن يتلونه من إخوته في الحقوق، فاجتثت بذلك أصول التباين والاختلاف،

وأعلت من شأن المرأة، ورفعت من قدرها كما وثّقت ما يربطها بالرجل من عقدة

النكاح، وأصبح البيت بحكم الشؤون ومجرى الحوادث مرجعًا لأصداء المحاورات

والمناقشات في المصالح العامة، وصار صوت الرجل وزوجته في محادثتهما أخلص

وأشد مما كان قبل، كان للكنيسة في الطفل من الحقوق إلى وقت قيام الثورة في سنة

1789م أكثر مما كان لأهله فيه، فإن البيت كان قد استعار من الدير ما فيه من

صلابة المعاملة الباردة بسبب أن الوالدة في الغالب كانت تربى فيه، لا أعني بذلك

أن الأم ما كانت تحب أولادها قبل الثورة، وأعوذ بالله أن يخطر هذا بفكري،

ولكني مع اعتقادي حبها إياهم، أعتقد اعتقادًا ثابتًا أن الثورة قد ساعدت على

تخليص محبات القلوب من قيود التكلف، فكما أن منشأ جميع الحركات العظمى

للأرض هو ما في باطنها من النار، كذلك منشأ حوادث الإنسان الكبرى هو ما في

قلبه من حب.

ذلك شأن الإنسان في جميع الأزمان، فمن حياته في الهند حيث كان الطفل لا

يعتبر إلا برعومًا [3] من نبات قبيلته، وفي رومة التي كان الوالد فيها يملك على ولده

حق حياته وموته إلى أن صار إلى هذه المجتمعات الحديثة التي كاد يكون للطفل فيها

وجود مستقل، قد رقيت الأسرة في أطوار وجودها الأصلية جميع معارج الحرية،

فلا بد في تغيير شكل الحكومة وإصلاحها من تغيير معنى الأبوة أيضًا ورده إلى

حده.

أطول جميع الثورات بقاء وأخلدها أثرًا هي التي كان لها من الزمن ما

استحوذت فيه على عقول الناشئين، فالإصلاح الديني مثلاً وهو مذهب البروتستانت

لا يزال حيًّا في ألمانيا وسويسره وهولانده وإنكلترا؛ لأن رجاله في هذه البلدان

وفي غيرها أسعدَهم الحظ بتأسيس مدارس فيها لتربية الأحداث علي أصولها

وعقائدها، أما الثورة الفرنساوية فإنها علي العكس من ذلك قد أعوز رجالها الزمن

لتنفيذ مقاصدهم؛ لأنهم كانوا قد اختطوا على عجل وهم في مهب رياح الفتنة خطة

مُثلى للتعليم العام، لكن أعاصير الحوادث قد دافعتهم، فحيل بينهم وبين ما كانوا

يقصدون، لما وضعت الطريقة التي نجري عليها الآن في التربية كانت نيران الفتنة

قد خمدت، ومراجل أفكار العصيان قد سكنت، فعهد إلى رجال الحكومة النيابية

الذين حكموا على الثائرين من رصفائهم بالقتل - حَكَم سيسيرون على كاتيلينا

وأشياعه [4] بتجديد ما اندثر من التعاليم القديمة، فما لبثت هذه التعاليم أن فاضت

منها على الناس أصول الحكومة الفردية، أي حكومة الاستبداد، وأصبحت القوة

الحاكمة هي مدير المدرسة والأستاذ الأكبر لتعليم الدين، ورئيس الجند الأكبر

والشارع الأكبر، بل الكل الأكبر الذي انحصرت فيه جميع الوظائف، ورجا الناس

من هذا الإله الذي هو من صنعهم أن يضيء عقول الأمة، وأن يصنع لهم علماء وأنصاف علماء، فصار التعليم الابتدائي والثانوي، بل صارت جميع درجات

التعليم محوطة بسياج حصين من القوانين، معاذ الله أن أكون آسفًا على ما أراه من

انتشار العلوم وعموم المعارف، ولكني ضعيف اليقين بتأثير عمل الحكومة إذا كان

الغرض من التعليم هو تربية رجال أحرار، فإنها ماوضعت لذلك، وإن لأعضاء

المجتمع الإنساني وظائف كما لأعضاء الأجسام لا يمكن تغييرها بمجرد توجيه

العزيمة إلى ذلك.

سمعت غيرمرة أن الجهل كان العقبة الكبرى في طريق كمال الحرية، وأنا

موقن بصحة هذه القضية، وسمعت أيضًا ممن قالوها أن الحكومة قد قررت أن يكون

التعليم مجانيًّا وإلزاميًّا، وستكون الأحوال حينئذ على ما يرام، أنا لا أصدق هذا

وأضرب الصين مثلاً لأولئك الذين يرون في دواليب التعليم التي تديرها يد الحكومة

وسيلة لتحرير العقول، يكاد كل رجل في تلك المملكة يعرف القراءة والكتابة،

ففيها من المدارس الابتدائية والثانوية وطرق الامتحان ما يفوق الحصر، والصينيون

هم الذين اخترعوا فن الطباعة، وهو أكثر الفنون اليدوية أثرًا في قلب شؤون العالم،

وذلك قبل أن يُعرف في أوربا بخمسمائة عام، فماذا كانت النتيجة؟ أنا لا أزيد عنك

علمًا بها.

لم يكن من التعليم الذي كانت الأساتذة تفيضه على الناس إلا أن أتقن تحجير

الأوضاع الاجتماعية وجعلها أصلب مما كانت، كذلك يكون الشأن عند جميع الأمم

التي يكون الغرض من التربية فيها إيجاد رعايا للحكومة في القالب الذي تريده،

ولوشئت لذكرت أمة أوروبية ليس بينها وبين الصين من هذه الجهة كبير فرق، فإن

التعليم الابتدائي فيها يثبت كل يوم في نفوس الأطفال خلق الانقياد الأعمى بسبب

تداخل السلطتين الدينية والسياسية فيه، المعلم في هذه الحالة هو نائب الحاكم الجائر،

ألم تري أن دينيس [5] لما خلع من الملك اشتغل بوظيفة مدير مدرسة؟

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كتاب جان جاك روسو المسمى أميل القرن الثامن عشر.

(2)

الأكياس: جمع كيّس وهو الظريف حسن الفعل.

(*) المقاسحة: الميابسة؛ أي: المعاملة بالشدة.

(3)

هو الزهر قبل تفتحه.

(4)

سيسيرون هو مرقوس توليوس سيسيرون، أشهر خطباء الرومان، ولد في سنة 107 وتوفي سنة 43 قبل المسيح ، وعُين حاكمًا في سنة 63 وأخمد ثورة كاتيلينا والحرب التي قامت بين بومبيه وقيصر، وكاتيلينا شريف من أشراف روما كان جمع حزبًا وثار به على مجلس الشيوخ ورومة فقهره سيسيرون.

(5)

هو حاكم جائر كان في سيرا كوزا، فطرده منها ديون ثم تميلون ومات وهو مدير مدرسة قورنته سنة 343 ق م.

ص: 666

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

أشرنا في (المنار) الماضي إلى رسالة جاءتنا من سنغابور يذكر فيها صاحبها

تعدي هولندا على الآجينيين، وعدم مبالاة الدولة العلية بهم، وهم من أتباعها، وقد

استغاثوا بإنكلترا فلم تلتفت إليهم على قربها منهم، فإن بلدة فلفلان لاجي التابعة لها

على مسيرة يومين ونصف منهم، وجميع معاملة تجارها معهم، وقد تلفت أموالهم

بواسطة محاصرة هولندا للآجينيين، وقال صاحب الرسالة: (إن آجي جميعها في

حماية الدولة العلية من عهد ساكن الجنان السلطان سليم خان الثاني، وفيها مدافع صفر

عليها طغراء السلطان المومي إليه ، نظرتُها بعيني، وقد نقلتها دولة هولندا إلى بتاوي

في مبدأ الحصار، وعندهم فرمان من ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان بأنهم

في حمايته مؤرخ في جمادى الأولى سنة1267) ويشكو صاحب هذه الرسالة من

رجل يسمى السيد عثمان بن عقيل ويقول: إن هولندا اتخذته صنيعة لها وعونًا على

تذليل المسلمين، وقد جاءنا في البريد الأخير رسالة من جاوه فيها تفصيل عن

السياسة الهولندية هناك، وشكوى من هذا الرجل ننشرها في العدد التالي إن شاء الله

تعالى.

***

(الآستانة ومصر) كلما سعى أعداء الملة والدولة بحل الرابطة الوثيقة بين

يلدز وعابدين؛ لفصل مصر من جسم الدولة العلية - يحبط الله سعيهم ويذهب

بسعايتهم، وقد انتهت آخر سعاية بتعطف مولانا السلطان الأعظم بإرسال عطوفتلو

محمود بك عزيز قبو كتخدا الحضرة الخديوية في دار السلطنة؛ لتبليغ مولانا

العباس عزيز مصر سلامه ورضوانه، فليخسأ السعاة والمحَّالون.

ومن عناية مولانا الخليفة بالمصريين أن حضرة الفاضل عثمان بك بكر

العبادي أحد أعضاء مجلس إدارة جمعية شمس الإسلام رفع عريضة تلغرافية إلى

أفق يلدز يهنئ بها مقام الخلافة بالمولد الهمايوني الميمون، فورد له الجواب من

باشكاتب المابين الهمايوني يبشره بصدور الإرادة السنية بتبلغه ارتياح الحضرة

السلطانية لتهنئته.

***

ومن أخبار مراكش بتاريخ 5 الجاري أن معتمد إيطاليا لما قابل حضرة مولاي

عبد العزيز قدم له الهدايا الثمينة التي أتى بها من قبل مخدومه ملك ايطاليا، وهي

عبارة عن أسلحة جميلة من الصنع الجديد، خصوصًا مدفعان خفيفان سريعا

الطلق بكرسيهما، ومدفع ثالث من طراز آخر، وبنادق وخاتم رصعت به ياقوتة

عظيمة أخذت من حُلي ملكة إيطاليا، وفي رواية أن السنيور ملموزي معتمد إيطاليا

المُشار إليه أنجز مع حكومة المخزن مسألة اشتراء الدارعة البشير، وسعى جهده في

إعادة تشغيل معمل الأسلحة المغربية الذي لإدارة ضباط من الإيطاليان بفاس

ووضح لرجال المخزن ما هناك من المصلحة في تخصيص جزيرة مغادر وإحالتها

لنواب الدول بطنجه لتقيم بها إدارة الصحة محجرًا صحيًّا. اهـ ملخصًا من

(الحاضرة) .

***

ابتهجت الجرائد الوطنية بكلمة قالها مجلس شورى القوانين بالإجماع عند

التصديق على ميزانية سنة 1900م الآتية، مضمونه أن المجلس يقر الحكومة على

المبلغ المخصص للسودان بناء على أنه جزء متمم للبلاد المصرية وداخل في

ماهيتها، وعدّت الجرائد هذا القول معارضة لوفاق السودان، ولا صحة لما أشاعته

إحداها من أن عطوفتلو رئيس النظار تكلم مع رئيس المجلس بأن لا تكتب هذه

الكلمة في محضر الجلسة مجاملة للإنكليز في وقت الضراء.

_________

ص: 670

الكاتب: محمد رشيد رضا

الصيام والتمدن

] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ

عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [[*]

أكتب هذه المقالة لطائفتين من المسلمين: طائفة تصوم ذاهلة عن معنى

الصوم محرومة من فوائده ومزاياه، فصومها أقرب إلى العادة منه إلى العبادة،

وطائفة أفرطت في الترف والتنعم، واسترسلت في الشهوات استرسالاً، فشقَّ عليها

الصوم فتركته غير مبالية بالأمر الإلهي ولا ملتفتة إلى ما في هذه العبادة من المنافع

الروحية والجسدية، هذه الطائفة هي التي نشأت في مهد التمدن العصريّ الشرقيّ،

وأعني بهذا التمدن ما ضم ذووه إلى مفاسد التربية الشرقية كثيرًا من مفاسد التربية

الغربية، فنسوا حظًّا مما ذكروا به على لسان الشرع، ولم يستبدلوا بما تركوه من

أعمال الدين وآدابه وفضائله ما يقوم مقامه في قوام السعادة الدنيوية مما أفادهم العلم

والاختبار فضلاً عن السعادة الأخروية، فإنه ليس لها في التربية الغربية -على ما

نعتقد - نصيب، ولا نشرك مع هؤلاء من يترك الصوم من الغوغاء والتحوت، فإنهم

لا يقرءون، وإذا قرءوا أو قرئ عليهم لا يفهمون، وإذا فهموا لا يبالون أنهم

مخطئون أو فاسقون؛ لأنهم مستهترون ومستولغون (لا يبالون ذمًّا ولا عارًا)

{أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) .

أيها المتمدن الشرقي أقسم عليك بشرفك الذي تقسم به وترعاه، وهو عوني

عليك من تمدنك دون سواه، ولولاه لكنت مستولغًا لا تبالي بالعار، ولا ينجع فيك

الإنذار - أن تقرأ مقالتي هذه وتتدبرها حق التدبر لعلها تذكرك بأمر هو مركوز في

فطرتك الزكية، ولكن أذهلتك عنه النشأة العصرية، وهو أن الصوم ركن من أركان

(الشرف) الذي تحرص على الاتصاف به، لا يثبت لك الشرف الصحيح إن كنت

موقنًا بالدين الذي تنتسب إليه بدونه، ولا يتم لك الشرف العرفي إن كنت غير مؤمن

إلا به أو بمثله أكثف حجاب حال بينك وبين الشعور بفقد الشرف - بفقد الصوم

ونحوه - هو وجود كثير ممن على شاكلتك من خلطائك وخلصائك الذين تعيش معهم،

وهم من أهل المال والسلطة، مع ملاحظة أن الشرف هو ما يعده جمهور الناس

شرفًا، ويحترمون صاحبه ويجلونه، ولو الظاهر دون الباطن، وهذا هو معنى

الشرف عند عامة الناس ودهمائهم في جميع الأمم، وهو يقتضي أن يكون الشرف

أمرًا اعتباريًّا لا حقيقة له في نفسه، فقد يعتبر قوم شيئًا من الأشياء شرفًا يتباهون به

ويتنافسون فيه، وهو عند غيرهم ضعة وخسة يتقذَّر منه ويتباعد عنه، وما من

طائفة من الطوائف تقيم على عمل من الأعمال إلا وهو في عرفها شرف، وله

أسماء ونعوت يتمدح بها، فأصحاب السلب والنهب يرون أن عملهم من آثار

الشجاعة والشهامة، وأنه أفضل أنواع الكسب وأشرفها، وعلى هذا فقس، وأما

الحكماء المحققون والعلماء الراسخون من جميع الأمم فإنهم يرون أن الشرف أمر

حقيقي، وأنه هو الكمال الإنساني، ويمكنني أن أعرفه بكل عمل يجلّ صاحبه

ظاهرًا وباطنًا، ويحترم بحق من العقلاء والفضلاء فمن دونهم، وهؤلاء لا يجلون

أحدًا ويحترمونه على عمل إلا إذا كان له أثر في نفع أمته وحفظ مصالحها والذود

عن حقوقها، فقيام الإنسان بالواجب عليه لتهذيب نفسه ومصلحتها لا يُسمّى بنفسه

شرفًا، وإنما هو من الوسائل المعدة والمهيئة له لنوال الشرف، والصيام من جملة

هذه الوسائل، ولذلك قال تعالى في بيان حكمة إيجابه علينا:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) فإن معنى (لعلّ) في القرآن: الإعداد والتهيئة لما تدخل عليه،

على ما اختاره أستاذنا مفتي الديار المصرية لهذا العهد، وإليك بيان هذا في شأن

الصيام:

لا خلاف بين علماء الاجتماع في أن سعادة الأمة منوطة بحسن تربية أفرادها،

فالسابقات إلى السعادة في هذه الحياة الدنيا من الأمم هن السابقات في العناية بالتربية

كإنكلترا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، رأت هذه الأمم العزيزة أن الأمة

الإنكليزية قد سبقتهن جمعاء في ميدان السيادة والسعادة، حتى إنها استولت على قريب

من ثلث العالم الإنساني (400 مليون) وأخذت أهم مغالق البحار، وقبضت على

أكثر الأعصاب المعنوية للعالم المتمدن، وهي الأسلاك البرقية، وامتلكت معظم

ينابيع الثروة، وأنها نالت هذا بسلاح الحكمة والتدبير لا بسلاح الإبادة والتدمير؛

لأنها أقلهن حربًا وأبعدهن عن الاستعداد له بالنسبة لما استعمرته من الأرض، رأين

هذا، فحار الأكثرون في تعليله غفلة منهم عن الاستدلال بالأثر على المؤثر،

وبالمعلول على العلة، واهتدى إليه بعض المحققين في علم الاجتماع وطبائع الأمم

فقالوا: إن هذا السبق معلول لحسن التربية، ثم بحثوا في طرق التربية الإنكليزية،

وقارنوها بالطرق المعروفة عند سائر الأمم المتمدنة، فظهر لهم صحة استدلالهم،

وفصل المجمل تفصيلاً، وفي هذه التربية ألف الموسيو أدمون ديمولان كتابه (سر

تقدم الإنكليز السكسونيين) ومنه علم أن مدار هذه التربية على أن يكون المربى مستقلاًّ

بنفسه في أمر معيشته، قادرًا على أن يعيش في كل أرض ويزاحم في شؤون الحياة

كل شعب، ويقاوي من فواعل الطبيعة كل عارض، ويصابر من حوادث الزمان كل

طارئ ليتمكن من بسط جناح سلطة أمته على كل أمة، ومن إعلاء مجد قومه على

جميع الأقوام، هذه هي التربية المُثلى التي سبق الشعب السكسوني بها سائر الشعوب،

ولا شك أنها لم تبلغ كمالها ولم تعم الشعب كله، وهي على أحسنها في الطبقات العليا

من الأمة، ألم تقرأ ما نقلناه في (المنار) 41 الأسبق عن السياسي الإنكليزي من قوله:

(هذا الجلد والصبر لا يوجد عندنا إلا في الضباط، فإنهم تربوا أحسن تربية وباقي

الجيش من غوغاء الناس إذا مشى بضع ساعات يعييه الوجى والكلال، ولا يصبر

عن اللحم والخمر إلا قليلاً) . وهذا لا يكون إلا بتعويد المرء نفسه على الجوع وترك

الشهوات أحيانًا؛ لكيلا يتألم إذا أصابته مجاعة ويخور عزمه، وهذا هو معنى الصوم

وإحدى فوائده المهمة، يقول المتمدنون: إن هذا النوع من ترويض الجسم وتأديب

الشهوة لا تُنكر فائدته ولكنه يمكن أن يحصل بغير الصوم المشروع في الإسلام، ولا

ريب أن هؤلاء الإنكليز ومن على شاكلتهم في التربية لا يصومون هذا الصوم،

ونقول في جوابهم: إذا فرضنا أن الغرض يحصل بالصوم وبطريق آخر من الرياضة

فحسبنا في ترجيح الصوم أن فيه مرضاة الله تعالى، والمثوبة الحسنة في الآخرة مع

الفائدة في الدنيا، على أن حكمة الخالق لا تقاس بحكمة المخلوقين، ووضع البشر لا

يداني وضع أحكم الحاكمين.

وها أنا ذا أسرد ما أستحضره من فوائد الصوم؛ ليتبين للقارئ أنه لا يرغب

عنه إلا مَن سفه نفسه، وقد ذكرت فائدتين منها في مطاوي الكلام، وأعيدهما مع

أخواتهما بلون آخر من البيان:

(الفائدة الأولى) الصحة؛ لأنه رياضة تجفف الرطوبات البدنية، وتفني

المواد الرسوبية، فقد قال ابن سينا الحكيم الإسلامي: إن هذه المواد تتولد من الطعام

وتكثر حتى تتولد منها أمراض يخفى سببها ، وقد اكتشف بعض علماء أوربا هذه

المواد من سنين قليلة (وقد كان سبقهم حكيمنا إليها ببضعة قرون) . يقول

الآخذون بالظواهر أننا نعرف من أنفسنا الضعف والذبول بالصوم

فكيف نُسمي الضعف صحة؟ ومن لوازم الصحة القوة ، ونجيبهم بأن عاقبة هذا

الضعف والذبول القوة والنمو، ألم تروا كيف يمنع النبات الماء زمانًا حتى يذبل

ويذوي، ثم يفاض عليه فيكون أسرع نموًّا مما لو عوهد بالسقي دائمًا، بل هو في هذه

الحال معرض لليبس؛ لأنه يرد عليه من الغذاء أكثر مما تطلبه طبيعته، ويندرج هذا

تحت قاعدة (ردّ الفعل) المعروفة، الشجرة البرية - كما قال الإمام علي - أصلب

عودًا وأبطأ خمودًا، والأجسام الحية يشبه بعضها بعضًا في الشؤون الحيوية،

وقد ثبت في الطب أن السنين إذا أخذت قومًا، فإن فعل الجدب والقحط يكون على،

أشده في المترفين المنعمين الذين اعتادت مِعَدُهم أن لا تخلو من المآكل الرطبة الدسمة

فيكثر فيهم الموتان ويسرع فيهم الفناء، وتكون السلامة أغلب في أهل الشظف

والقشف، فما أحوج هؤلاء المنغمسين في النعيم إلى رياضة الصوم لتقوية أبدانهم! !

(الفائدة الثانية) كسر سورة الشهوة وجزر مدّها، فإن طغيان الشهوة يفضي

بصاحبها إلى الإفراط في تناولها؛ فينطفئ في نفسه نور العفة، وهي إحدى أركان

الفضائل الأربع، ومتى تقوض هذا الركن ينهدم معه ما بني عليه من الفضائل كالحياء

والدعة، والصبر والسخاء، والحرية الحقة والقناعة، والدماثة والانتظام، والمسالمة

والوقار والورع، واختل مزاج النفس وتبعه اختلال مزاج البدن؛ لأن الإفراط في

الشهوات منبع الأمراض والأدواء بإجماع من الأطباء، ولهذا المعنى قال النبي صلى

الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان:إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة

وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين. زاد الترمذي وابن ماجه والحاكم: ونادى

منادٍ: يا باغي الخير هلمَّ، ويا باغي الشر أقصر، فأبواب الجنة: الفضائل

والطاعات، وأثرها في الصوم أعم وأظهر، وأبواب النار: الرذائل والمعاصي،

وانطماس أثرها في الصوم الحقيقي لا يُنكر ، وبهذا يبطل تأثير الأرواح الشريرة التي

تلابس النفوس، فيقوَى فيها الميل إلى الشرور المعبَّر عنه بتصفيد الشياطين، يقول

المعترض: إذا ضعفت الشهوة في وقت الصوم فإنها تثوب بعده كما تثوب الغضاضة

والقوة بعد الذبول والضعف بمقتضى قاعدة (رد الفعل) التي ذكرتَها في بيان الفائدة

الأولى فيكون الصوم مضرًّا، ونقول في جوابه: إن موت الشهوة أو

دوام ضعفها مضر بالإنسان، وإنما شرع الصوم وغيره لمنفعته، والمطلوب في

الصيام تضمير النفس كما تضمر الخيل حتى يملك صاحبها عليها أمرها، ويأمن

جماحها إلى ما يحرّمه الشرع ويورث صاحبه الهوان والضعة من اتباع الشهوات،

وإنما يكون هذا بامتناعه في أوقات مخصوصة عن تناول الشهوات كلها

- حرامها وحلالها - لتنطبع في النفس ملكة القدرة على الترك وهذا هو التهذيب

المفروض على كل مكلّف في جميع الشرائع، جعلت العرب مدة تضمير الفرس

أربعين يومًا، وجعل الشارع مدة تضمير الإنسان نفسه ثلاثين يومًا في كل سنة،

ويستحب الزيادة عليها، لا سيما بالنسبة لمن يعرف من نفسه الجموح وعدم

السلاسة لحكم الشرع.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*) البقرة: 183.

ص: 674

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

(تابع لمكتوب 19)

من الخطأ أن يعتقد معتقد أن الحكومات المطلقة تكره تقدّم سير التعليم العام

وتعاديه عن قصد، فما الذي تخشاه منه، وليس هو إلا جملة أنواع من العرفان هي

تحرّرها وتصوّرها كيفما شاءت؟ أليس بيدها مقاليد هذه الجملة؟ أليست طرق التعليم

التي تقرّ عليها وهي المتبعة دون غيرها هي أحسن ما وجدته لتمكين أصل الرضوخ

للقوّة الحاكمة في نفوس المتعلمين؟ إن أخوف ما أخافه على الأمة من المخازي المهينة

التي تشين شرفها هي العبودية في الاختيار، فإن الأصفاد التي تقيّد الرقيق قد تسقط

بمقاومة قليلة (وروى لنا التاريخ في ذلك أكثر من مثل) وأما ما يتزيّا به حواشي

الأمراء وخدمهم من الملابس الرسمية، فما أطول بقاءه على أبدانهم! ! إذا تعلمت

الأمة بالتربية الفاسدة الطاعة والانقياد، وكان الباعث لها عليهما المنفعة أو الأثرة أو

الوجدان، كان ذلك كل ما يطلبه منها مربيها.

إن مذهب القائلين بوجوب توسط الحكومة في التعليم مؤسس كله على أمور

الاعتقاد التقليدي، وعلى أن السلف كانوا يأتمرون بأوامر مدير المدرسة أو رئيس

القرية، كما نُقل إلينا ذلك في آثارهم، فلا يطالب أصحاب هذا المذهب من

يعلمونهم بالاستقلال في الفكر والعمل، وإنما يحملونهم على العمل بما يُقال لهم،

فتكون قلوب الأطفال بأيدي معلميهم مادة لينة يتخذون منها للحكومة رعية نافعة

مطيعة، وإذا كانت هذه هي غايتهم التي يرمون إليها، فهم لا يبالون بما عداها،

بل إن أحب شيء إليهم أن تصير المدرسة بهذه الطريقة: مربى يتخرج منه أوساط

الناس، فإن الأمة تصير بذلك أسلس للوازع قيادًا وأخفض جناحًا.

لا يشك أحد في أن معاهد التعليم عندنا يرأسها كثير من الرجال العارفين

الأحرار، وللمدرسة العامة فوق ذلك مزية نادرة الوجود في رأي أهل النظر وهي أنه

لما كانت الثورة الفرنساوية هي الأصل في وجود القسم الأكبر منها كان من

المتعسر أن تتحوّل عن مبادئها وأصولها مهما تغيرت عليها الأحوال وتبدلت الشؤون

فأي معقل رفيع غيرها يحمي الأفكار والآراء الحديثة من إغارات مذاهب الكهنوت

عليها؟

كل يوم تتخرج من مدارسنا الاختيارية وكلياتنا عقول سليمة، بل عقول حرة

أيضًا، إن في استطاعة الحكومات أن تسن ما شاءت من قوانين التعليم، وليس في

وسعها أن تبطل تأثير علم الحكمة والأفكار التي ولدتها ثورة سنة 1789 وغيرها

من المؤثرات التي تعمل في نفوس الأحداث رغمًا عن كل قانون ونظام، من أجل

هذا أنا لا أعيب المدارس لذاتها، وإنما أعيب فيها مجموع طرق التعليم من حيث

هو مؤسس على أوهامنا وأخلاقنا وعوائدنا.

التربية الخاصة عندنا هي أيضًا أقل قيمة من التربية العامة، فإن الوليد عندما

يسلك سبيل الحياة لا يتوجه قصدنا إلا إلى إلزامه الجري على مألوف العادة، وما يلقى

في ذهنه من المعارف كله تجريبي، فمن ذا الذي فكر إلى الآن في جعله مساوقًا

لفطرة الإنسان ومناسبًا لها؟ إننا منذ نصف قرن قد جدّدنا طرق تناول العلوم

الرياضية والطبيعية، وفنون الاقتصاد السياسي والتاريخ، والحكمة والأدب والانتقاد

وكل شيء إلا ما يختص بتربية الأطفال ، على أنها هي التي كان يجب البداءة بها في

التغيير.

أود قبل كل شيء أن يُحترم وجود الإنسان حتى في ذات الطفل، إني لو أتاح

لي الحظ سماع خطب علماء الأخلاق ورجال الحكومة في مذهب الاشتراكيين لما

خامرني شك في أن هذا المذهب فاسد ممقوت، مغاير للدين، بما لهم على ذلك من

الحجج القوية والبراهين الصحيحة، وأنا منحاز معهم إلى فريق ذوي الاستقامة

والصلاح، فاسمعي ما يقولونه في شأن التربية والتعليم عندنا، يقول قائلهم:

إني إذا دخلت مدارسنا الابتدائية الثانوية لا يسعني إلا أن أعترف على الفور بأن

ما فيها من الأبنية وأنواع التأديب وتوحيد طرق التعليم واختلاط الدروس، كل

ذلك لم يوضع إلا لحبس الجسم والعقل والتضييق عليهما، فالمصريون على ما يروى

عنهم قد اخترعوا أفرانًا لطبخ الدجاج، ونحن قد اكتشفنا أفران طبخ التلامذة. إن

القوتين اللتين يعتنى بإنضاجهما في هؤلاء أشد العناية على هذه الحرارة الصناعية،

وهما قوتا التقليد والذاكرة، هما ولا شك أقل جميع القوى الإنسانية كشفًا عن حقيقة

العقل وإظهار الملكات الصحيحة، فكأن المعهود إليهم بالتربية والتعليم قصدوا أولاً

وبالذات أن يجعلوا كل رجل من أول نشأته شبيهًا بجميع الناس، ولست أعدم قائلاً

يقول: إن ذلك هو إحدى النتائج الضرورية لتطلعنا إلى الحكومة الجمهورية،

وتحققنا بأصوله، فأجيبه: إن هذا القول من الخبط والخلط الغريب، فكيف يشبّه

توحد المعارف والملكات بالمساواة في الحقوق؟ ألا يرى أن سكان الولايات المتحدة

على إيغالهم أكثر منا في الأخذ بسنة النظام الجمهوري هم على العكس منا يزداد

فيهم شعور الاستقلال بالوجود الشخصي الذي هو أصل الحرية حياة وقوة، فتظهر

آثاره في أعمالهم ظهورًا جليًّا؟

إن الشاب ليمكنه أن يتعلم من جديد مستقلاًّ بنفسه إن أراد، ما لم يكن أحسن

تعلمه أثناء دراسته، وهذا ما وقع لجميعنا بعد الخروج من المدرسة، ولكن من ذا

الذي يفكه من أغلال العوائد التي تخلق بها في صغره؟ كيف يتيسر لهذا المنفلت من

المدرسة أن يهتدي في مستقبله بمجرد ما اكتسبه من المعارف، مع أنه إلى وقت

خروجه منها كان لا يستقل بعمل من أعماله، بل كان يعملها جميعها بأعين معلميه؟

ما الحيلة في إحياء قوة نفسه بعد أن أنهكها التأديب المؤدي إلى درجة البهيمية؟ ما

معنى الكلام على الزاجر النفسي إذا كان وجدان اليافع يُسلب منه ويُوضع بأيدي من

يديرون شؤونه؟ ذلك هو أخص ما أخشاه من أنواع الخطر، ومن العبث أن يتمثل

هنا ببعض مشاهير الرجال الذين كانوا في زمن طفوليتهم في أشد المراقبة والحصر

لكن لم يؤثر هذا في مستقبلهم شيئًا، فيقال: إن فولتيير [1] مثلاً تربّى في حجر

اليسوعيين ، وتخرّج التيتانيون [2] الذين اشتهروا في ثورة سنة 1789م على رجال

الكهنوت، فإنني لا أتكلم هنا عن الأفراد من الرجال الشذّاذ، وإنما أقصد بكلامي

جملة الأمة وعامتها، وأُسائل نفسي عما يحدثه مثل هذا النظام من الأثر في طباع

أوساطها، كوني على يقين أنه ليس من الميسور لكل واحد أن يجد ما يكفي من القوة

لاسترجاع ما فقده من سلطانه على نفسه بعد أن ألقى لغيره زمام عزيمته.

إنك قد لاقيت في الناس من جرى الاصطلاح بتسميتهم (الشبان العارفين)

فهل رأيت منهم كثيرًا يمتازون بجرأة الجنان الحقيقية، ألم تريهم يقاومون في الغالب

من وسائل الترقي وطرق الإصلاح ما عساه أن يذهب ببعض آمالهم،

ويسخرون به ميلاً مع الأثرة وحبًا للاختصاص، وألا تجدينهم أشد عداوة من

جهلة العامة لبعض العلوم؟ إنهم ليؤمنون على السواء بكل ما قدسه مرور الزمن

عليه وآراء الناس فيه غير مهتمين بالتمييز بين صحيحه وفاسده، وحقه وباطله،

وما لهم ولهذا التمييز إذا كانت مهارتهم توصلهم إلى مقاصدهم، هل هم في هذا

العالم حتى يشتغلوا بمصالح غيرهم؟ كلا، إنهم ليقنعون بنقصهم الذي يظهرونه

للناس في مظهر الكمال ويهزءون بما كان من جد الخائبين وإخلاص المخلصين،

وصدق نفوس الصادقين، وهم لما فيهم من خفة الأحلام وكثرة المجون والغرور

والترف يلتمسون في كل أمر وسيلة الانتفاع بحاضرهم، ومع قلة ما لهم من

المعارف الحقة يظهرون في مظهر العارفين بكل شيء، المجتمع الإنساني هو حلبة

سباق كبرى، فهم فيها يعملون لمزاحمة غيرهم في الحصول على سبقها [3] ، أو على

الألقاب التي تعطى في العادة لمن يقاربون هذا السبق، فتفضل الشخص الذاتي هو

أيضًا في هذا الميدان الجديد لا يلتفت إليهم كثيرًا؛ لأن الذي يمنح الجوائز هي

المحاباة، والذين ينالونها هم أهل الدسائس والخدع، فلا جرم إذن أن كدح المتعلمون

من الشباب بعد خروجهم من ربقة النظام المدرسي في دخولهم تحت ولاية الحكومة.

إن سمعتِ كلامي وصدّقتِ قولي فلا تربي ولدنا على الطرق المتبعة، وربما

كان عملنا في ذلك أحسن من عمل غيرنا أو أسوأ منه، إلا أننا على كل حال نكون

قد أقمنا حقًا مقدسًا، فإن تربية الطفل منوطة بالبيت والأهل والعشيرة قبل أن

تناط بالمجتمع الإنساني.

ما هذه الكلمات التي قد جمح لها قلمي؟ قلت: إن التربية منوطة

بالبيت، ولكن واأسفى على بيتنا، فقد هدم، نعم، إن عشّنا الذي كنا لا بد أن نناجي

فيه بأحسن أمانينا وتسكنه أعز آمالنا قد ثارت عليه عواصف المحن فدمرته تدميرًا.

لا بأس علينا من ذلك، فسنعيد بناءه بروابط الحب فوق جو الفتن، فأكون معك في

هذا العمل بقلبي، وأنت تسهرين وتنوبين عني في السهر على حراسة ذخرنا،

فإني قد استودعتك إياه، والسلام.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

هوارويتو وفولتير الشاعر الحكيم الفرنساوي المولود في سنة 1694 م المتوفى سنة 1778م.

(2)

مردة الشياطين الذين حاولوا صعود السماء لخلع المشترى كبير الآلهة كما في خرافات اليونان.

(3)

السبق (محركة) الخطر الذي يتراهن عليه أهل السباق، وبالضم جمع سبقة بمعناه.

ص: 679

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(ثبوت الرؤية)

ثبت شهر الصوم الشريف بالرؤية الشرعية، وأصبح أهل القطر في يوم

الثلاثاء الماضي صائمين، فنهنئ قرَّاء جريدتنا الكرام وسائر المسلمين بهذا الموسم

المبارك، ونسأل الله تعالى أن يوفقهم لإكمال العدة بخير وعافية ونِعم ضافية.

***

(من جاوا)

في 24 رجب الأصب سنة 1317

أحببت أن أبين لكم السياسة الهولاندية في مستعمراتها الشرقية - جزيرة جاوا

ونواحيها - ومعاملتها للأهالي والنزلاء مثل العرب والصينيين والهنود والأوروبيين ،

فأما الأهالي فقد جعلت الحكومة أمرهم إلى كل من ترفعه منهم وتجعله رئيسًا عليهم من

شيخ المحلة إلى (تمنثوم) وكل واحد منهم يخضع لمن هو أعلى منه درجة ويهابه

ويحترمه أكثر من الحاكم الهولاندي، فبهذه السياسة استراح رجال الحكومة

الهولانديون لأن الجاويين كفوهم المؤنة في الحراسة وجباية الأموال وتدبير داخلية

البلاد، وطلاب الآبق والهارب والسارق وغير ذلك، فمنهم الكناسون والرشاشون

والمحافظون على الخزائن وحراس المخافر ليلاً ونهارًا، ومع هذا كله ليس لهم تنفيذ

أمر ما، بل هم بمثابة خدّام للهولانديين فقط، كل منهم باذل جهده بحسب طاقته فيما

يفتخر به عند الهولانديين، بل يخاصم الابن أباه من أجلهم، والحاصل أنهم - أي

الجاويين - أراحوا الهولانديين من الأشغال المهمة الداخلية، يسعون فيها بكل نشاط

وإخلاص، وهم على جانب عظيم من الجهل بأمور دينهم، وليس لهم مدارس ولا

معلمون مهرة يبصرونهم بأمور دينهم ودنياهم، والحكومة الهولاندية لهم بالمرصاد

تصدهم عن التعليم والتعلم؛ لأنها ترى مصلحتها في بقاء القوم على جهلهم، فكم من

عالم صدوه وآذوه، ومتى علمت الحكومة بورود عالم راقبته في حركاته وسكناته ولا

تأذن له بالسفر إلى البلدان والقرى في داخلية البلاد، وإنما تلزمه بالإقامة في حواضر

البحر فقط، هذا حال الأهالي مع الهولانديين في جاوا ونواحيها، وأما النزلاء فأكتفي

بما أشاهده في العرب فإن الحكومة الهولاندية تجعل للعرب في كل بلدة محلاًّ

مخصوصًا لا يتجاوزونه إلى سواه، وتجعل عليهم رئيسًا منهم، ورتبته تكون على

حسب كثرة العرب وقلتهم ، ففي المدائن الكبيرة مثل بتاويا وسورابايا رتبة

(كابتن) وفي البلدان الصغيرة (ليفتننت) إلى شيخ المحلة (ويكمستر) وعند

تولية كل منهم يحلف في الديوان أنه لا يخون الحكومة، ولا يظلم أبناء جنسه، وبهذه

اليمين يصير مصدقًا لدى الحكومة في كل ما يقوله، ولا تسمع فيه طعن الطاعنين،

ولا شكاية الشاكين ما لم تكن للحكومة، فبهذه الحرية يفعلون بأبناء جلدتهم ما يشاءون

من العسف والجور والظلم والحيل على أخذ أموالهم إذ لا تثبت عليهم حجة عند

الحكومة، وقد جرى عندنا في بتاوي في هذه الأيام منع التذاكر السنوية (باسابورت)

التي تجعل في ورق مالية قيمة الورقة روبية ونصف (زيغل) وكان فيها بعض

تسهيل على المسافر، ولكن زعيم العرب هنا لم يربح منها، فأبطلها حيلة منه على

جذب الأموال لمنافعه الخصوصية ، مما يضر بأبناء جنسه ويفعم كيسه ، بأن التمس

من الحاكم إبطال هذه التذاكر، فأجابه حاكم بتاويا إلى مطلوبه بدون تأخير، وأوهم هو

قومه أنه لم يتداخل في هذه المسألة، وإنما الحكومة أبطلت تلك التذاكر من تلقاء

نفسها ولا تخفى مكيدته هذه إلا على غبي، فإنه لو كان إبطالها من الحكومة لكان

تساوى فيه العربي والصيني، وإننا نرى الصيني متمتعًا بهذه التذكرة لم يمنعه مانع

العربي منها، وبهذا اتضح أن زعيم العرب في بتاويا لم يسعَ في إبطال هذه التذاكر إلا

ليجذب بها الدراهم، فمن أعطاه مراده أسعفه بالتذكرة، والحكومة تغض نظرها عنه

في هذه الأمور؛ لأنه يخدمها بغير أجر إلا ما يختلسه من أبناء جنسه بأنواع الحيل

التي تقوده إليها المطامع الأشعبية، وظهرت منه أشياء كثيرة تدل على طمعه وامتهانه

لقومه وجلب الأذى لهم، ومثله زعيم العرب في سورابايا، فحدّث عنه ولا حرج،

فإنه يفعل أضعاف ما يفعله صاحب بتاويا، وزاد عليه بالكبر والتحقير لهم، وأخذ

أموالهم بالغدر والمكر والحيل ، مما لو شرحته لاحتجت إلى كراريس، وقس عليهما

ما سواهما في الأماكن الأخرى إلا النادر، مع أن أولئك الزعماء لو ساروا

على النهج القويم وأعطوا كل ذي حق حقه كما هو المطلوب منهم لصار لهم القبول

التام عند الخاص والعام، ولكنهم عكسوا القضية، وكانوا مع الزمان على إخوانهم،

ومَن نصحهم أو وعظهم أو خالفهم في سيرتهم سَعوا في تنكليه وسجنه بلا سبب

ليرهبوا غيره، وليس لهم عناية بأمر إخوانهم، بل كل ما تفعله الحكومة بأبناء جنسهم

هو بمساعدتهم ووساطتهم، ومن حيلهم تقربهم إلى الحكومة ببذل كل ما في وسعهم،

فمتى نابتها نائبة قاموا فيها بجد واجتهاد كما وقع في هذه الأيام من جمع إعانة

للمنكوبين بالزلازل في الجزر الشرقية التابعة للهولانديين، فإن زعيم العرب قام

بجمع أصحابه في كل حين وكلفهم جمع إعانة منهم لهذه النائبة، والعرب يرتاحون

لفعل الخيرات كهذه الإعانة، ولكنهم يتأسفون لمنعهم من مطالبهم وعدم مساعدة هذا

الزعيم لهم في أمورهم، وهو يرى أشياء مضرة بهم، ولو نصح لأزالها، ولكنه لا

يراعي إلا صوالحه الذاتية، ولا يهمه أمرهم، وفي ظنه أنه لو سعى في صلاح لأبناء

جنسه - في فك معضلة أو شفاعة حسنة أو جلب نفع مما لايضر الحكومة يسقط -

اعتباره عند الحكومة، أو تظن به السوء، وظنه هذا خطأ محض، فإنه لو عدل وقام

بالواجب الذي كلف اليمين من أجله لشكره الخاص والعلم ولا يصله عتاب من الحكام،

ولكن الذي قاده إلى مقاصده الخسيسة الطمع أبو المهالك.

فهذه حالة العرب في جاوا ونواحيها، وكل ما يجري علينا معاشر العرب بهذا

الطرف هو لعدم جمع الكلمة وسكوتنا وعدم مساعدة بعضنا بعضًا، فلو اجتمع رأينا

وقدّمنا عريضة للحاكم العمومي وأخبرناه بما نقاسيه من رؤسائنا بمساعدة رجال

الحكومة لهم وصرنا يداً واحدة لوقع لكلامنا تأثير، ولكنا صرنا مهملين، كل منا

يسعى في حاجته الخصوصية لا يبالي بغيره من إخوانه وأبناء جنسه، ومثل هذا

الزعيم لا يُرجى نفعه لأصحابه، ومثله حضرة السيد عثمان بن عقيل الذي حصل منه

الإيذاء لأبناء جنسه، وسعى في سجن 3 من السادة في العام الماضي، وفي الشهر

الماضي استدعى أعيان العرب في بتاويا إلى منزله، فلما اجتمعوا لديه

التمس منهم موافقته على غرض له خفي يجحف بمصالحهم، فلم يوافقوه عليه؛ فأخذ

يسبهم ويشتمهم ورماهم بالعظائم مما نتحاشا أن نذكره في هذه السطور، فخرجوا من

بيته قارئين: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَناَ} (آل عمران: 8) الآية.

وأما الأوربيون فهم متمعون بالحرية لا يعاملون بالقانون المعوج الذى تعاملنا

به حكومة هولاندا ، بل هم مطلقو العنان في كل تصرفاتهم، وهاك ما فعله حاكم

مدينة باندونغ عاصمة ولاية فرياغن في 15 نوفمبر سنة 1899م: مرّ هذا الحاكم في

عربته فرأى اثنين من العرب واقفين على قارعة الطريق، فأوقف عربته وسبهما

لكونهما لم يحترماه كغيرهما ، وساقهما للمحاكمة وألزمهما غرامة خمسين ربية على

كل واحد منهما، ثم إنه أمر أعوانه وشرطته بالتفتيش على العرب في بيوتهم ،

فألقي القبض على ثمانية نفر قادهم من محل الحريم، ولم يكتف بذلك بل أخذ

نساءهم وأطفالهم وساقهم إلى المحكمة، فأما الرجال فغَرّمهم خمسين روبية

أو سجن 15 يومًا، ثم طردهم بعد إمضاء الحكم عليهم بما ذكر، وأما النساء فردهن

إلى مساكنهن بعد ما وبخهن وأكد عليهن أن يخبرن البوليس إذا عاد أزواجهن إلى

باندونغ مرة أخرى، ومن أخفت زوجها تساق للمحاكمة، بل تصير مجرمة إذا لم

تخبر شيخ الحارة، فهكذا يفعل حكام هولاندا بالعرب، لا يراعون قانونًا ولا

إنسانية، بل يحكمون بما تهوى أنفسهم مع أن قانون البلاد هنا ساوى بين العربي

والصيني في مواده، ولكنهم تركوا العمل به بالنسبة للعربي فقط، وأما الذي على

العربي فإنه مطالب به يحاسبونه على النقير، فمن هنا تعلم أن الهولانديين متعصبون

على العرب ويسيئون بهم الظنون، ومن أدلة هذا أن بعض العرب قدّم

عريضة لحاكم باندونغ طلب منه العمل بمقتضى القانون الذي أباح للصينيين

والهنود والعرب الدخول إلى باندونغ ولم يميز بين أحد منهم ، فردّ حاكمُ باندونغ

تلك العريضة إلى بتاويا، ثم إن حاكم بتاويا دعا ذلك العربي وسأله: أأنت الذي

قدّمت عريضة لحاكم باندونغ طلبت منه المساواة بالصينيين وغيرهم؟ فأجابه بنعم،

فقال له: إذا كنت تريد ذلك فأبدل لباسك وزيك، واجعل بدل العمامة قلنسوة كالجاويين

والتزم خدمة للحكومة يومًا في الأسبوع، فأجابه العربي: إني أريد العمل بما

تضمنته المادة التي تساوي بين العرب والصينيين والهنود من القانون الذي

تقرر به العمل في سائر المستعمرات الهولاندية، فما الفرق بين العربي والصيني

والقانون مصرح بالمساواة؟ فعند ذلك غضب الهولاندي وقال للعربي: لا تخض

في هذه المسألة فإنها سريِّة وأعاد عليه القول في تبديل اللباس والشكل كما تقدم

وطال بينهما الكلام، وقال للعربي: اخرج الآن وعد إليّ في اليوم الفلاني للبحث

في هذه المسألة مرة أخرى، وسأخبركم بما يكون.

وسأخبركم بعد ذلك أيضًا بحال السيد عثمان بن عقيل المارّ ذكره، وما وقع بينه

وبين إخوانه وأبناء جنسه، وكيف قربته حكومة هولاندا وأكرمته بنيشان الافتخار

وغير ذلك؛ لكي تطلعوا على أخلاق هذا الرجل وسيرته في رسالة مخصوصة إن

شاء الله تعالى. اهـ

(المنار)

إننا نعجب كيف يشكو أهل جاوا ونزلاؤها من ظلم هولندا وهم الذين

يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الظالمين، ومن ظلم نفسه كان جديرًا بأن يظلمه غيره،

وهيهات أن يبلغ الأعداء من الجاهل الأحمق ما يبلغه من نفسه، وهذه أول رسالة

نشرت في (المنار) تنطق بالتنديد بأشخاص معينين يبغون في الأرض بغير الحق،

وإننا نعجب أشد العجب مما كتب إلينا مرارًا من غير واحد عن عثمان بن عقيل.

وإننا نعرف بيت آل عقيل بيتًا طاهرًا شريفًا، فما هذا الشذوذ من عثمان،

أليس هو من أولئك الكرام الذين منهم السيد محمد بن عقيل المقيم في سنغابور؟ !

وعسى أن يكون في نشر هذه الرسالة زجر للباغين، ويتوب الله على التائبين.

***

(عيد مصر الوطني الأكبر)

في مثل يوم الاثنين الآتي جلس مولانا عزيز مصر عباس حلمي باشا الأفخم -

أيده الله تعالى - على الأريكة الخديوية، وهو العيد الوطني الأكبر للأمة المصرية،

وقد تألفت لجنة من ذوات المصريين مختلفة في المذاهب الدينية والمشارب

السياسية لإقامة احتفال باهر وزينة بديعة في حديقة الأزبكية، ولا غرو، ففي مثل

هذا اليوم السعيد تجتمع الأشتات، وعلى تعظيم هذه االأمير المحبوب يجب أن تتفق

القلوب، فنسأل الله تعالى أن يعيده على الأمة المصرية في ظل سموه بأحسن

الأحوال، على ممر السنين والأحوال، آمين.

...

...

***

...

قرأنا في بعض الجرائد أن الدولة العلية قد عزمت على إرسال بعض العلماء

إلى سناجق البصرة والمنتفك وكربلا لإرشاد القبائل الرحالة هناك، وقرأنا في

بعضها أنه قد صدرت الإرادة السنية بذلك فعلاً، ونحمد الله تعالى أن الدولة العلية قد

تنبهت لهذا الأمر قبل أن يخرج من يدها بالمرة، فقد سبقها إليه الشيعة وبثوا الوعاظ

والمرشدين في هذه القبائل وغيرها من العربان الضاربين على ضفاف الدجلة

والفرات فأدخلوا معظمهم في مذهب الشيعة.

يذهب الملا الشيعي إلى القبيلة فيمتزج بشيخها امتزاج الماء بالراح بما يسهّل

عليه من أمر التكاليف الشرعية ويحمله على هواه فيها كإباحة التمتع بالعدد الكثير

من النساء الذي له الشأن الأكبر عند أولئك الشيوخ ، وغير ذلك حتى يكون وليجته

وعيبة سره ومستشاره في أمره فيتمكن الملا بذلك من بث مذهبه في القبيلة بأقرب

وقت، ويكتفي من السياسة غالبًا بإفهام القوم أن رئيس طائفة الشيعة المحقة شاه

العجم ورئيس الطائفة الأخرى المسماة بالسنية السلطان عبد الحميد ، ولا شك أن

هؤلاء العربان يكونون عونًا لرئيس مذهبهم إذا وقع خلاف ونزاع (لاقدّر الله) بينه

وبين رئيس المذهب الآخر، وإن كانوا في بلاد الآخر، ويمكن للدولة العلية أن

تتدارك الأمر بعض التدارك إذا كان الذين تختارهم للإرشاد والتعليم أهل حكمة

وغيرة حقيقية يهمهم الإصلاح والإرشاد بحيث يقدّمونه على منافعهم الشخصية،

على أن الذي يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة لا يحرم من أجر الدنيا، بل ربما كان

نجاحه أتمّ، وقد استغنى جميع دعاة الشيعة في تلك القبائل مع حصولهم على

غرضهم في نشر المذهب، وليبدأ دعاة الدولة العلية بمن على شط الفرات، فإن

فيهم عددًا كبيرًا لم يزل على مذهب أهل السنة، والله الموفق.

***

(المؤيد)

كبرى الجرائد العربية، قد دخلت في السنة الحادية عشرة، وهي ثابتة على

منهاجها في خدمة الدولة العلية في مصر على ما تحب وترضى، والمدافعة عن

حقوق مصر والمصريين التي هضمتها الدولة المحتلة على وجه نالت به ثقة السواد

الأعظم من الأمة، ولقد لقي صاحبها الفاضل من الألاقيّ في بدايته ما يندر أن يثبت

معه شرقيّ على عمل، وكانت له العاقبة، فصدق عليه قول صاحب الحِكَم: (من لا

تكون له بداية محرقة لا تكون له نهاية مشرقة) وقد سمَّى العشر الأول من عمر

جريدته (طور الطفولية) وفي هذا من الهضم لنفسه، ولعمله الناجح ما كان ينبغي

أن يكون أسوة للذين بوّءوا جرائدهم، وهي أجنّة مقاعد الشيخوخة (لقد تزببت لكن

فاتك العنب) فنهنئ صديقنا الأستاذ الشيخ علي يوسف بهذا الثبات والنجاح،

ونرجو لجريدته من الارتقاء في مستقبلها ما يكون به ماضيها كطور الطفولية حقيقة،

فإن الكامل يقبل زيادة الكمال.

_________

ص: 682

الكاتب: رفيق بك العظم

‌اقتراح على السادة العلماء

في تقويم اعوجاج الوعّاظ والخطباء

لحضرة الكاتب الفاضل صاحب الإمضاء رفيق العظم

ما أصيب الإسلام بآفة كآفة الخطباء، وما أضر بالمسلمين كوعاظهم الجهلاء

الذين كانوا ولم يزالوا - سببًا لحيرة العقول في أدواء هذه الأمة، وهم مصدر البلاء

وسبب الشقاء بما يتلونه على مسامع العامة من السجعات المقلوبة والأحاديث

المكذوبة الداعية إلى استدراج العامة في الشرور اعتمادًا منهم على ما يسمعونه من

أولئك الوعاظ والخطباء من الأكاذيب المضلة كقولهم: من قرأ كذا فله من الثواب

كذا وكذا، ومن صام اليوم الفلاني مثلاً فله من الحسنات كذا، ومن فعل كذا غفر

الله له ما تقدم وما تأخر من ذنبه، فانتزعوا بهذا (الإطلاق المجمل) وأشباهه باعث

الرهبة من أعماق القلوب ونزعوا وازع الضمير من نفوس العامة، فبات أحدهم يقدم

على جريرة الكذب والتزوير أو السرقة أو الفحش ونحو هذا في الظهر ثقة بما

سيناله من الثواب والغفران بتلاوة بعض كلمات في العصر، فينام ليله مطمئن القلب

إلى الثواب غير مرتاع الفؤاد من سوء المآب، وهذا ما أوصل الأمة إلى ما نراها

فيه من فساد الأخلاق والضمائر، واجتراح الآثام والجرائر حتى كادت تكون أحط

الأمم في الأخلاق وأبعدها عن مراعاة حاكم الضمير ، بما فشا في كثير من طبقاتها

من القول الزور والكذب وعدم المبالاة بأكبر الكبائر بعد أن كانت أعلى الأمم

وأعرقها في طيب الأخلاق، وأدناها من الانقياد لحكم الضمير ومراقبة الله العزيز

القدير في سائر الأعمال وكل الأحوال، ولعمري لو قيل للناس: إن القانون

السلطاني يرتب على السارق جزاء كذا وكذا مدة في الحبس، لكن من تقرب إلى

السلطان بهدية لطيفة أو تزلف إليه بدعاء بسيط يدعو به له بين يديه يعفو عنه

ويغتفر له جريمته - لأصبح الناس الناس كلهم لصوصًا.

فحتامَ يترك هذا الحبل على الغارب، ومتى نستيقظ لما فعلته في النفوس سموم

الخطباء والوعاظ وأوضاع الوضّاع وفتن المبتدعين، فقد - والله - تكاد تنفطر من

عقلاء هذه الأمة القلوب وتتصاعد أرواحهم مع الأنفاس؛ لما يرونه من آثار هذه

البدع التي عَفَتْ دونها آثار الإسلام، وتلاشت قوى الصادعين بالحق.

ولم يكفِ أولئك الأغرار المضلين هذا الوهن الذي يدخلونه بأمثال تلك المواعظ

والخطب على النفوس حتى زادوا في طين البلاء بلة بما يبدأون به العامة عند كل

دعاء لهم ويتلونه عليهم في رأس كل خطبة من الحث على الزهد وترك الاهتمام

بأمر الدنيا بجمل مسجعة لا تفيد معنى الزهد الحقيقي المنصوص عليه في الشريعة

الغرّاء ، بل تفيد التحاق الإنسان بالبهيمة العجماء، وقد فات أولئك الأغرار أن الله

سبحانه وتعالى لما خلق الإنسان وميزه بالعقل والإرادة على سائر الحيوان وجعله

خليفة في الأرض بما منحه من حق السلطان المطلق على هذا الوجود الحسي، فقال

تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ لِتَجْرِيَ الفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ

وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ

لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية: 12-13) لم يكن يريد به ما يريده له أولئك

الوضَّاع والخطباء وأصدقاء الإسلام الجهلاء من التجرد عن كل عمل دنيوي والقعود

عن السعي والانقطاع للعبادة للالتحاق بعالم الملائكة الأبرار، ولو أراد الله به هذا

لخلقه معهم وكفاه مؤنة جهاد الطبيعة والعمل لحفظ الحياة فلا يلبس ولا يأكل ولا

يشرب ولا يشقى ولا يتعب، ولكن قضت إرادة الله في خلق هذه العوالم وترتيبها

على نمطها البديع أن يكون كل عالم منها ذا حياة خاصة وحيز مخصوص وعمل

محدود ووظائف خاصة، فللملائكة من هذه الخصوصيات غير ما للإنسان،

وللإنسان غير ما للحيوان، ولهذا غير ما للجماد وهكذا سائر العوالم، وإذا تتبعنا

نصوص الكتاب الكريم واستقرينا أحوال المخلوقات نجد أن الله سبحانه وتعالى ميز

الإنسان عن سائر مخلوقاته بما وهبه من المواهب التي لم يهبها لسواه، فقال تعالى:

{خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ} (الرحمن: 3-4) وقال تعالى: {عَلَّمَ

الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 5) ? وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ

تَقْوِيمٍ} (التين: 4) وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10) وقال

تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: 31) فإذا كان الله سبحانه وتعالى

وهب الإنسان كل هذه المواهب الدالة على تكليفه بالعمل بما يقتضيه وجودها فيه،

ثم جعله خليفة في الأرض، وأشار إلى أنه أوجده فيها ليعمرها فقال تعالى:

{وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61) وذلك لتكون مناط الأمل في الاعتياش بالعمل

فيها والضرب في أكنافها كما قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ

النُّشُورُ} (الملك: 15) وكما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ لِتَجْرِيَ

الفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الجاثية: 12) وكما قال

تعالى: {ألَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء: 97) فهل في

طاقة البشر الانسلاخ عن هذه المواهب والصفات الإنسانية والتخلف عن تلك السنن

الإلهية زهدًا في الدنيا وتعطيلاً لوظائف الحياة البشرية؟ وإذا كان في طاقتهم تعطيل

هذه الوظائف وعطلوها، أفلا يكون ذلك كفرًا منهم بنعم الخالق تعالى التي أنعم

عليهم بها وخصهم بمواهبها؟ بلى وأبيك ذلك هو الكفران المبين، ولكن أكثرهم لا

يعلمون.

نعم قد ذم الله تعالى الغرور بالدنيا والطمع فيها والإكثار من المال أو التكاثر به ،

وما جاء من النصوص في الكتاب والسنة من هذا القبيل إنما جاء لا لأجل تزهيد

المسلمين في الدنيا وتركهم الاهتمام بشؤون الرزق والسعي في مناكب الأرض، بل

جاء لأمرين: الأول تنبيه المسلمين إلى أن العمل في الدنيا لا ينبغي أن يشغل

المؤمن عن طاعة الله وأداء ما أوجبه من العبادة عليه، والأمر الثاني تنبيه فئة

مخصوصة من الناس وهي فئة الأغنياء وذوي السلطة إلى أن متاع الدنيا أحقر

وأدنى مما أُعد للمؤمنين الصالحين في الآخرة، وأن الأمر الأول يزول ويفنى،

والثاني يدوم ويبقى ترغيبًا لهم في إنفاق المال في وجوه البر ومواساة مَن دونهم من

الناس حتى لا يكثروا من المال ويجعلوه دُولة بينهم يتكاثرون به ويتداولونه دون

الفقراء، فتقف حركة الأعمال بوقوف حركة المال، وفقده من أيدي الكثير من الناس،

فحكمة الشارع في هذا أجلّ وأعظم مما يذهب إليه فريق الوضّاع والكذابين في أمر

الزهد، وما يخاطبون به العامة ويبثونه في عقولهم من فاسد الاعتقاد المثبط للهمم

القاتل لقوة النشاط والعمل الجالب للبلادة والكسل، لهذا كان من الظلم الفاحش

والجهل العظيم مخاطبة أولئك الخطباء عامة الناس بالزهد في الدنيا والتزهيد بالعمل

الذي هو وسيلة الكسب ومناط الارتزاق، وإنما يجوز مخاطبة العلية من الناس

والأغنياء منهم بهذا - أولاً - لما فيه من الترغيب بمواساة الفقراء، والتحذير من

عاقبة الانهماك بالمال والاشتغال به عن أداء الطاعة، وثانيًا لأن الزهد إنما يكون

بشيء موجود لا بشيء مفقود، فالغني إذا زهد فإنما يزهد بدنيا مقبلة عليه فيواسي

بماله مَن هُم في دنيا مدبرة عنهم؛ فينال الثواب ويأمن من العقاب، وأما الفقير

فزهده ليس فيه شيء من ذلك بل فيه مضرة عليه فيحرم عليه قطعًا؛ لأن الفقير المعدم

زاهد بالضرورة لقلة ما بين يديه، فإذا زهّد بلسان الشرع ازداد يقينًا بفضل

الزهد والراحة من عناء الكد بالانقطاع إلى العبادة (اللهم إذا كان يعرف شيئًا منها)

فتنعدم منه الرغبة بالعمل، وينطبع على البلادة والكسل، فينقلب الزهد والعبادة وبالاً

عليه وظلمًا لم يعول من الأهل والولد عليه، وهو لا يعلم أن السعي في إعالة من

يعول ولو نفسه وحده هو أفضل عند الله ورسوله من الانقطاع للعبادة باتفاق

النصوص وإجماع هداة الأمة من علمائها الأعلام.

الزهد من شعار الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، ومع ما كان معروفًا به

نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا بحذافيرها، فقد كان من صحابته

الكرام الغني ذو الثروة والجاه كطلحة والزبير والتاجر المشتغل كعثمان رضي الله

تعالى عنهم أجمعين، فلم يأمرهم بترك الدنيا والانقطاع للآخرة، بل أمرهم بالرفق

في الطلب وإلا لكان الصحابة كلهم عبادًا بالجوامع والصوامع، ومعاذ الله أن يكونوا

كذلك، والإسلام دين العمل للدنيا والآخرة، ودين الجد والنشاط لا دين الرهبانية

والزهد، وإنما تبع قدم الرسول في أمر الزهد أفراد منهم مثل عمر بن الخطاب

رضي الله تعالى عنه، ومع هذا فقد كان يقول: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق

ويقول: اللهم ارزقني ، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، فإذا كان مثل

عمر بن الخطاب على ورعه وزهده يخاطب الناس بمثل هذا الخطاب وهو في

عصر النبوة وأدرى بمن يخاطب ولماذا يخاطب، فليت شعري كيف يجرؤ خطباء

السوء في هذا العصر على مخاطبة العامة بالزهد والتزهيد في الكسب ونحن في

عصر أصبح فيه السابقون هم الفائزون، وفي زمن من نام فيه فقد مات.

أفلم يأنِ لعلماء المسلمين الأعلام وفضلائهم الكرام ذوي العقول والأفهام الاقتداء

بمثل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في حث الناس على العمل والسعي،

ونهي خطباء السوء عن التشدق على المنابر بما لا يزيد المسلمين في هذا العصر إلا

خبالاً، نعم قد آن والله أوان نهوض العلماء إلى تلافي خطب الخطباء ونزع وظيفة

الخطابة والوعظ من الجهلاء ووضعها في أناس جمعوا بين المنقول الصحيح

والمعقول الصريح، وعرفوا حاجات الزمان، ووقفوا على أدواء الأمة ، وإن لم يتيسر

هذا فتنقيح كتب الوعظ ودواوين الخطب المحشوة بالكذب على الله والرسول

الموضوعة على نمط روعي فيه السجع أكثر من مراعاة الشرع، وامتزج بالخيالات

والأوهام أكثر مما أبان من مقاصد الإسلام.

يحسدنا الأمم والشعوب على مشروعية الخطابة في الإسلام، ويعجبون من أمة

تتلى على منابرها في كل جمعة آلاف من الخطب في سائر أنحاء الديار الإسلامية،

وهي لا تنتفع بها فتخطو خطوة إلى الأمام، وإذا تيسر لفرد من أفراد أي أمة من

تلك الأمم والشعوب أن ينتهز في العمر فرصة يخطب فيها خطبة على جمهور من

الناس في محفل من المحافل يرن صداها في الآفاق، وربما أحدثت في الأفكار ما لا

تحدثه الجيوش الفاتحة في الأمصار ، ويتساءلون: هل علت مشروعية الخطابة في

الإسلام عن أفهام المسلمين؟ أم هم تدنوا عن مقامها العلي المتين؟ وحقهم أن

تساءلوا فإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ

...

...

...

...

(رفيق العظم)

_________

ص: 689

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الصيام والتمدن

(2)

...] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ

... كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [[*]

ذكرنا في المقالة الأولى من فوائد الصيام صحة البدن بترويضه وصحة النفس

بتأديب الشهوة وامتلاك زمامها بحيث يصير الإنسان حاكمًا على شهواته يسيّرها في

منهاج الأدب والشرف الذي يحدّده الشرع والعقل لا محكومًا بها كالبهم والدواب، بل

الإنسان يكون شرًّا من البهائم إذا هو لم يؤدب شهوته ويملك على نفسه أمرها؛ لأن

بارئ الكون قد أودع في فطرة البهائم الوقوف عند حدود الاعتدال في تناول شهواتها

فلا تأكل ولا تشرب ولا تسافد إلا عن داعية الطبيعة، ومتى استوفت طبيعتها حقها

من ذلك تكف عنه من طبعها ولا تحمّل أنفسها بالإفراط ما لا تطيق، ولا تتخذ

الوسائل والحيل لإذكاء نار الشهوة فتمتع بأكثر مما يقتضيه المزاج المعتدل فيقضي

عليها قانون (ردّ الفعل) بعد ذلك بالضعف أو الخمود، وخلق الله الإنسان ذا فكر

يجاهد به الطبيعة ويقاومها تارة بما ينفعه وتارة بما يضره، تختلف أحواله في هذا

بحسب صحة الفكر وسقمه وسعة المعارف وضيقها. ألم تر أن أكثر ما يصيب

الإنسان من الأمراض والأسقام والأدواء التي تنتهي بالموت قبل بلوغ العمر الطبيعي

هو من الإفراط في الطعام أو الشراب أو الوقاع الذي يستعين عليه بما يعطيه للفكر

من الوسائل والحيل؟ بالأمس اختطفت المنية شابًّا في ريعان الصبا وعنفوان الشباب

فبقر الأطباء بطنه واستلوا أمعاءه فتبين لهم أنه مات مسمومًا بالإكثار من علاج

تناوله لتقوية الباءة، مسلمٌ فعل هذا في شهر الصيام وزمن تأديب الشهوة ، فإنا لله.

والبهائم تستوفي آجالها الطبيعية في الغالب متمتعة بالصحة واعتدال المزاج،

وإذا عرض لبعضها المرض أو الموت قبل الأجل الذي خلقها الله تعالى مستعدة

لبلوغه فإنما يكون ذلك في الغالب لأمر خارجي كفقد الغذاء أو شدة البرد، لهذا كانت

سعادة الإنسان متوقفة على تربية صحيحة وتعليم قويم، ولا يوجد هذان على وجه

الكمال إلا في الدين، وإلا كان الإنسان أشقى في حياته من جميع أنواع الحيوان،

اقرأ إن شئت قوله تعالى في الجهلاء الذين لا يشكرون الله تعالى باستعمال مواهبه فيما

خلقت له من التعلم والتبصر والاعتبار: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ

لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا

أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) وقوله

تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ

يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 43-44)

صرّح القرآن بأن الله تعالى خلق هؤلاء السفهاء الأحلام لجهنم، وهذا من جملة الآيات

على ما قلناه - ولا نزال نقوله - من أن غاية الدين الإسلامي سعادة الدارين، وأن

الشقاء في الدنيا مؤذن بالشقاء في الآخرة، ولكن السعادة في الدنيا ليست آية على

السعادة في الآخرة؛ لأنها تحصل بدون الأخذ بجميع أركان الإسلام وتعاليمه على

الوجه الذي حدّدته الشريعة.

(الفائدة الثالثة) معرفة قيمة النعمة بفقدها ولو اختيارًا، فإن الأشياء تعرف

بأضدادها، فمن لم يهذبه الزمان بالحرمان من النعم والحيلولة بينه وبين ما يشتهي

ينبغي له أن يتمثل هذا الحرمان بالتعمّل والتكلف؛ لتعظم في عينه النعمة فيحفظها،

وفي هذا الضرب من التهذيب تزكية النفس من رذيلة البطر الممقوت صاحبه من

جميع البشر.

(الفائدة الرابعة) توطين النفس على الصبر والاحتمال ، فكم من ذي نعمة

فاجأته نقمة، فبلبلت باله وأذهبت رشده وأوقعه الجزع والهلع منها بما هو أشد منها؟

أعرف رجلاً من المترفين كان عنده طائر من نوع (الكنار) وكان مولعًا به

فترك قفصه ذات ليلة بجانب بركة الماء فجاءت الهرة تعالج القفص لاصطياده فوقع

في الماء، ولما أصبح المترف ورأى الكنار ميتًا في البركة صفق بيديه على ركبتيه

فأصابه من ساعته فيهما مرض عصبي أقعده عدة سنين يشتغل بالمعالجة حتى صار

يقدر على المشي متوكئًا ولم يبل إبلالاً، يقول قائل: إننا نرى هذا الجزع والهلع

وقلة الاحتمال من الذين اعتادوا الصيام، وربما كان المترف الذي تُحدث عنه ممن

يصوم رمضان، وأقول في جوابه: إن فوائد الصيام لا تبلغ درجة الكمال إلا لمن

فقه سر الصوم وحكمة الله تعالى فيه المعبر عنها في القرآن بالتقوى: {َلعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21) وصام على ذلك فأدرك ما هنالك، والصوم عند المترفين إنما

هو تغيير مواقيت الأكل بجعلها في الليل مع زيادة مبالغة في الترف والتطرّس

والتنوّق في النعيم، وسائر الناس يحذون حذو المترفين كل بحسب استطاعته،

والصوم الحقيقي هو ما عرفه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله: الصوم نصف

الصبر ، رواه الترمذي وحسّنه وغيره، وفي رواية البيهقي زيادة وعلى كل شيء

زكاة، وزكاة الجسد الصيام ، وإنما كان الصوم نصف الصبر لأن الصبر إما أن

يكون عن الشيء الذي يؤلم النفس فقده، وإما أن يكون على الشيء الذي يؤلمها

وجوده وحصوله. والذي يؤلم فقده هو الشهوات واللذات، ولما كانت شهوتا البطن

والفرج أقوى الشهوات، والصبر عنهما أصعب وأشق على النفس منه على

غيرهما - جعلت الشريعة تركهما والصبر عنهما عزيمة لابد منها؛ لأن من ربّى

نفسه عليه فقيهًا بالمقصود منه طالبًا لحكمته وفائدته - كان الصبر عن غيرهما من

سائر الشهوات أسهل عليه، وهو ما جعلت الشريعة الصبر عنه من المندوبات المتأكدة

في الصوم، وقالوا: إن كمال الصوم في كف جميع الجوارح عن شهواتها، روى

البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما الصوم جنة فإذا

كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل ، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم

إني صائم. فجعل الصبر عن مجاوبة الشاتم والصائل من الصوم، وفي حديث

البخاري مرفوعًا: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه

وشرابه والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ومن العجيب أن الفقهاء لا يحفلون

بهذه المباحث، بل لا يكادون يذكرونها ويملأون الصحائف بالدقائق النادرة التي

لا علاقة لها بحكمة مشروعية الصيام كالبحث في الغبار الذي يدخل الأنف في

الطريق، وفي وضع الخلال فى الأذن، وفي الاحتراز وقت الاستنجاء من دخول

الرطوبة إلى الجوف من المقعدة ونحو هذا، فكيف يحصّل فائدة الصوم مَن يجعل همّه

في هذه المباحث دون البحث في حكمة هذه العبادة وكيفية إيصالها إلى التقوى

المقصودة للشارع منها؟

(الفائدة الخامسة) مساواة الأغنياء للفقراء والمترفين للبائسين في فقد دواعي

اللذة وأسباب النعمة، والمساواة من الفضائل المطلوبة في الأمم وهي من غايات

الإنسانية التي يطمع الحكماء أن تعم البشر بعموم التمدن، ويشارك الصومَ في هذه

الفائدة الصلاةُ والحج، بل إن الشريعة الإسلامية تساوي بين جميع المحكومين بها

في الحقوق سواء من اتخذها دينًا ومن كان يدين بغيرها، وجعلت في عباداتها ألوانًا

من المساواة لتكون للغني عبرة وتزكية، وللفقير عزاء وتسلية، ولتهييء الأمة

للمساواة في عامة الشؤون التي يمكن فيها المساواة.

(الفائدة السادسة) رقة القلب والعطف من ذوي الوجد واليسار على أهل

العدم والإعسار بحيث يحملهم ذلك على مواساتهم والإفاضة عليهم مما رزقهم الله

تعالى، فإن من يذوق طعم البلاء يكون على أهله أعطف وبهم أرأف، فمن ذاق

عرف، ومن المأثور عن سلف الأمة الصالح كثرة الصدقات والصلات في شهر

الصوم، وقد بقي للخلف من هذه المزية بقية تشكر، وإن كانت لا تشابه ما كان

عليه السلف من كل وجه، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان فى رمضان

أجود من الريح المرسلة.

يُحكى أنه وقع قحط في عهد أحد الملوك فذكر أمام زوجه ما يقاسيه الفقراء من

البؤس والعناء لقلة القوت، فقالت: ما ضرهم لو استغنوا عن الخبز بالفالوذج

واللوزينج؟ وهما أنفس الحلوى المعروفة عند المترفين لذلك العهد، وما كان الفقراء

يطعمونهما في حال الرخاء.

(الفائدة السابعة) تعظيم أمر الله تعالى في النفس بأداء هذه العبادة الشريفة

على الوجه الذي شرعه الله ابتغاء مرضاته، وهذه الفائدة روحية محضة ودينية

خالصة، والصوم هو العبادة التي لا حظّ لشهوة النفس فيها، ولا يأتي فيها الرياء؛

لأنها ترك لا فعل، ولذلك جاء في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه

وسلم قال: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزى به ،

وفي رواية: كل عمل ابن آدم تضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة

ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، وفي رواية: كل عمل ابن آدم تضاعف

له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي ، به يدع

شهوته وطعامه من أجلي.

ربما يفهم بعض الناس من الحديث أن الصوم من الأمور التعبدية التي لا يعقل

لها معنى، ولا تعرف لها فائدة للإنسان في حياته إلا محض الامتثال لأمر الله ابتغاء

مثوبته ورضوانه في الآخرة ونحن نقول: إنه ما من عبادة معقولة المعنى ظاهرة

الفائدة للعامل بها إلا وفيها معنى تعبدي يجب أن يتحراه الإنسان ويحافظ عليه

لمجرد الامتثال، وأضرب لهذا مثل الصلاة، فإن فائدتها للمصلين من النهي عن

الفحشاء والمنكر والتطهير من الجزع والهلع والبخل ، والتحلي بأضدادها معقولة

المعنى، فإن من يقيم الصلاة على الوجه الذي أراده الله تعالى من الخشوع وحضور

القلب وإشعاره عظمة الله وكبير سلطانه تحصل له ملكة مراقبة الله تعالى عند كل

عمل. وتذكُّر هيمنته وإحاطة علمه بما يعمله، فيكون هذا زاجرًا له عن

الفواحش والمنكرات، ونازعًا من قلبه الهلع والجزع عند حدوث الخطوب،

وباسطًا يديه بالإنفاق والبذل مما يمسه من الخير في وجوه البر والخير، ولكن

تحديد ركعات الصلاة بما هي عليه ككون الصبح ركعتين والمغرب ثلاثًا،

والباقيات أربعًا أربعًا ليس معقول المعنى، وإنما نحافظ عليه للوجه الديني الخالص

والاتباع المحض ونعلم أن لله فيه حِكَمًا لا يتوقف انتفاعنا بالعبادة على معرفتها،

كما إذا عرفنا العلاج وفائدته في شفاء المرض، ولم نعرف الحكمة في مقادير

أجزائه ونسبة بعضها إلى بعض وكون الذي يتناول يجب أن يكون مقداره كذا ووقته

كذا، ولو لم يكن هذا المعنى التعبدي في هذه الأعمال النافعة المقومة للسعادة الدنيوية

لم تكن عبادة تسعد فاعلها في الآخرة، ولكان العقلاء يعملونها لفائدتها من غير تقيّد

بما حدّده الدين ، فتبطل منها فائدة المساواة بين أفراد الأمة، والمساواة في

العمل من الكمالات الاجتماعية كما علمت، فتبًّا لقوم يرغبون عن هذه العبادات

وما فيها من الفوائد والمنافع: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: 130) .

(الفائدة الثامنة) صفاء القلب واستنارة الروح واستعدادها بذلك لنفحات الله

المعنوية، فقد ورد: إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لنفحات ربكم،

ولإدراك شيء من عالم الملكوت في ليلة القدر، فقد قال الإمام الغزالي: إنها عبارة

عن ليلة ينكشف فيها شيء من الملكوت لذي الاستعداد، وهذه الفائدة للخواص،

ويحتاج بيانها إلى شرح طويل لا محل له الآن، وكل منا يعلم من نفسه أن قلة

الشواغل والبعد عن الشهوات والرياضة المعتدلة تعطي صاحبها قوة في عقله

وإدراكه، فإذا كان مستعدًّا بفطرته لإدراك شيء مما وراء الحس ، فأي مانع من كون

الصيام معينًًا عليه؟

هذا ماعنَّ لنا من فوائد الصيام وكونه من أسباب السعادة في الدنيا ومقوّمات

المدنية، كما هو من أسباب السعادة في الآخرة، فعلى المتمدن العاقل أن يعتبر به

ويصوم مراعيًا هذه الفوائد ومتحريًا لها، وعلى الصائم الذي لا يعرف من الصيام

إلا ترك الأكل والشرب والجماع أن يطالب نفسه بسر الصيام وفوائده وحكمته؛ لئلا

يتناوله حديث: كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش ، رواه النسائي

وابن ماجه، وليكون الصوم له جنّة ووقاية كما في الحديث الذي تقدّم {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ

أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) .

_________

(*)(البقرة: 183) .

ص: 695

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التقريظ والانتقاد

جاءنا فى هذه المدة كتب وجرائد كثيرة منعتنا كثرة المواد عن ذكرها وتقريظها،

نذكر الآن بعضها، ونرجئ باقيها لفرصة أخرى.

(سيرة صلاح الدين)

طبعت شركة طبع الكتب العربية هذه السيرة فى سفر جليل وأهدتنا نسخة منها

فأرجأنا تقريظها إلى ما بعد قراءتها، ثم أضللناها قبل القراءة، ومن حق شركة

الكتب علينا أن ننوّه بها جزاء هديتها فنقول: إن الملك العادل الحازم صلاح الدين

الأيوبي - رحمه الله تعالى - له منة عظيمة جدًّا على الإسلام، وإن الحرب

الصليبية التي كان بطلها المغوار- هي بعد حرب الصحابة - أهمّ حرب في تاريخ

الإسلام وأجدرها بالمعرفة، بل هي أهمّ حرب حدثت في العالم؛ لأنها أحدثت انقلابًا

عظيمًا في العالم الإنساني، وكانت مقدمة هذا التمدن الأوروبى ونافخة روحه،

ومن العار العظيم على الأمة العربية عامة وعلى المسلمين كافة أن لا يكون بين أيديهم

كتب يتدارسونها في هذه الحرب وفي سيرة بطلها العظيم ناصر الإسلام السلطان

صلاح الدين، ويوشك أن يكون هذا الكتاب الذى طبعته شركة طبع الكتب العربية

من أحسن هذه الكتب؛ لأن صاحبه كتب عن اختبار بنفسه فنحثُّ القرّاء على

مطالعته.

(مفتاح العلوم)

هذا الكتاب للعلامة السكاكي أشهر عند علماء العربية ذكرًا من أن يذكروا به،

ولكنه على حسنه لا يقرأ ولم يطبع إلا في هذه الأيام، ويمتاز هذا الكتاب على الكتب

المتداولة بحسن الترتيب، فإنه قدّم الصرف على النحو وأخّر عنهما البلاغة.

وعبارته أقرب إلى الأسلوب العربي وأبلغ من كتب السعد وغيره، ولولا

أن فيها بعض التكلف لكانت مساوية لكتب إمام الفن عبد القاهر الجرجاني، فنحثُّ

أفاضل العلماء على قراءته، وطلاب العلم على حضوره.

(رواية ابن زيدون مع ولاًّدة بنت المستكفي)

أهديت إلينا هذه الرواية من حضرة الفاضل الشيخ محمد الرافعي صاحب

المكتبة الأزهرية الذي طبعها على نفقته، الرواية نثرية شعرية تمثيلية مؤلفها علامة

فنون الأدب في سوريا المرحوم الشيخ إبراهيم الأحدب، ووقائعها جميلة، وتمتاز

على جميع مكتوب العصر بتحري المحسنات اللفظية والتعمّل في الإكثار من أنواع

البديع كالجناس بأنواعه والتوجيه والمقابلة والطباق وغيرها حتى لا تكاد تخلو

السجعة أو السجعتان من نوع بديعي، فيجدر بالمغرمين بهذا النوع من الكتابة

والذين ينتقدونه أن يقرءوا هذه الرواية جميعًا.

(رواية قلب الأسد)

لخصها معربها العالم المتفنن الدكتور يعقوب أفندي صروف محرر مجلة

(المقتطف) الغرّاء من رواية إنكليزية اسمها الطلسم (تلمسن) وهي تاريخية فكاهية

حوادثها من الحروب الصليبية، وقد تصرف فيها المعرب تصرفًا حسنًا بحيث أن ما

تحكيه عن عادات المسلمين والمسيحيين في ذلك العهد يرضي أبناء الملتين بما فيه

من النزاهة والأدب وعدم التحامل على ما كان عليه الأمتان يومئذ من الأضغان

والأحقاد والغلو في التعصب.

نعم إن فيها بعض هفوات نسبت للسلطان صلاح الدين وهي على غير منهاج

الإسلام كقول المؤلف في الرسالة التي قال: إن صلاح الدين أرسلها إلى ريكارد ملك

الإنكتار (الإنكليز) فى صفحة 162 (فسينصرنا الله ونبيه عليك) وما كان

لمسلم يعرف الإسلام كصلاح الدين أن يقول هذا وهو يعلم أن الله يقول في كتابه:

{وَمَا النَّصْرُ إِلَاّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران: 126) بل لم تجرِ عادة جهلاء

المسلمين بطلب النصر أو إسناده لغير الله عز وجل، ومن دون هذه قوله: إن

صلاح الدين سقى ضيوفه الخمر، ولعل هذا من هفوات الأصل التي سها عن

التصرف فيها الدكتور صروف، والرواية عذبة قرأتها فى سهرة واحدة على أنني

لست من المغرمين بقراءة القصص والروايات.

(النبراس)

صحيفة إصلاحية سياسية أدبية لمنشئها الكاتب الأديب نجيب أفندي جاويش

وكان صدر منها أعداد ، ثم حُجبت لكساد هذه البضاعة واكتفاء الناس بجرائد

مخصوصة، وإنما عادت الآن بمساعدة أحد أنصار العلم والأدب وهو القانوني

البارع نقولا أفندي توما، وقد صدَر أول عدد برز من الحجاب بمقالة عنوانها (كن

كيف شئت ولا تكن صحافيًّا في الشرق) والمقالة حجة على كاتبها إلا إن كان مراده

بالصحافي المستقل الذي يحاول النجاح بعمله دون مساعدة أخرى، ويحتوي كل عدد

منها مقالات ونبذًا حقيقة بالمطالعة، فعسى أن تلاقي فى هذه الكرة ما تستحق من

الإقبال.

(اللواء)

جريدة يومية سياسية صاحبها سعادتلو مصطفى كامل بك ظهرت

فى غرة رمضان المبارك، أصغر أو ألطف من سائر الجرائد اليومية حجمًا وأقل

ثمنًا، فإن قيمة الاشتراك فيها 100 قرش أميرى في السنة، لكن يشترط أن يدفع

سلفًا، وقد أكدت هذه الجريدة هذا الشرط وصرّحت غير مرة بأنها تحجب عمن لا

يرسل الثمن بعد الأسبوع الذي ترسل فيه الجريدة مجانًا، وما من جريدة إلا

واشترطت هذا الشرط بدون تأكيده لعلمها بأنها لابد أن تضطر لفسخه، ولا نعلم ماذا

يكون من أمر هذه الجريدة، ولكن نظن أنها إما أن تتلو تلو غيرها وإما أن لا تروج ،

أما مواضيعها فهي فائضة عن ذلك الرجل الكثير اللهج بالوطنية وحب الوطن

وخدمة الوطن، وقد ضم إلى هذه الكلمات أخيرًا ذكر الإسلام والدين، فأما الوطنية

والوطن فسنبين رأينا فيهما بالنسبة للإسلام ولسائر الأمم فى مقالة مخصوصة، وأما

الإسلام والدين فلا ينتظر من هذه الجريدة كلام فيهما يفيد الأمة إلا تتبع ما يذكر فيهما

فى الجرائد الإفرنجية وتعريبه، فإذا وفت هذا المقام حقًّا بالإحصاء يكون لها امتياز

على سائر الجرائد العربية الإسلامية التي تختار ولا تحصى، فنحثها على هذا.

وقد انتقدنا عليها أمرًا ذا بال وهو الإرجاف بأن بعض الناس في مصر يسعون

في إقامة خلافة عربية ، كأن الخلافة من الهنات الهينات تنال بسعي جماعة أو

جماعات، ولا يمكن احتقار مقام الخلافة الأعلى بأكثر من هذا الإرجاف، مقام

الخلافة أسمى من أن يتطاول إليه أحد، وقد سلم السواد الأعظم من المسلمين زمامه

لبني عثمان تسليمًا، والرابطة بين الترك والعرب هي كما قال المرحوم كمال بك

الكاتب الشهير: موثقة بالأخوة الإسلامية والخلافة العثمانية، فإن كان أحد يقدر على

حلها فهو الله تعالى وحده، وإن كان أحد يفتكر في ذلك فهو الشيطان، ويعلم كل

خبير بحال هذا الزمن أنه لا يرجف بالخلافة فيه إلا رجلان: رجل اتخذ الإرجاف

حرفة للتعيش وأكل السحت أو التحلي بالوسامات والألقاب الضخمة، ورجل اتخذه

الأجانب آلة لخداع بسطاء المسلمين بإيهامهم أن منصب الخلافة ضعيف متزعزع

يمكن لأى أمير أن يناله ولأية جمعية أن تزحزحه عن مكانه ليزيلوا هيبته من

القلوب ويقنعوا نفوس العامة الأغرار بإمكان تحويله في وقت من الأوقات وبأن

المسلمين ليسوا راضين من الخلافة العثمانية جميعًا، كان مصطفى كامل أفندي يوم

ألف كتاب (المسألة الشرقية) ينسب هذا الطمع الأشعبي للإنكليز واليوم نرى

مصطفى كامل بك يلقي القول فيه على عواهنه فى خطبته وجريدته، ويدع نفوس

البسطاء تذهب فيه كل مذهب، وإذا سئل عن الإفصاح وبيان المجمل يجمجم

ويغمغم، فإن كان على رأيه الأول فليصرّح به ليرجع العامة عن أوهامهم

والخاصة عن ظن السوء به، وأنه أحد الرجلين اللذين ذكرناهما آنفًا ، ولا نظنه إلا

على مذهبه الأول وعلى اللواء في البيان المعوّل.

_________

ص: 700

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مأثرة لجمعية شمس الإسلام

علمت هذه الجمعية الشريفة أن شركة (معرض باريس) المصرية التي يرأسها

الخواجة بولاد قد استأجرت جماعة من أهل الطرق للغرض الذي يذكر فى العريضة

الآتي ذكرها، فأخذتها الغيرة الدينية والحمية الملية وقامت بما عاهدت الله عليه من

القيام بأمر الدين والمحافظة على شرف الإسلام وأهله بقدر الإمكان، وذلك بالسعي فى

إزالة هذا المنكر بإتيان البيوت من أبوابها، فرفعت عريضة للجناب العالي الخديوي

تسترحم من عاطفته الملية الشريفة تلافي هذا الأمر، وتوجيه إرادته العلية لإزالة هذا

المنكر، وكتبت عرائض أخرى بذلك قدّمت إحداها لصاحب العطوفة مصطفى فهمي

باشا رئيس مجلس النظار، والأخريات لصاحب الدولة الغازي مختار باشا المندوب

العالي السلطاني في مصر، ولصاحبي السماحة قاضي مصر، والسيد توفيق البكري

شيخ مشايخ الطرق، ولشيخي الإسلام صاحبي الفضيلة شيخ الجامع الأزهر ومفتي

الديار المصرية - تطلب منهم مساعدتها بالسعي لدى سمو الخديو المعظم

وحكومته السَّنية بمنع هذا المنكر القبيح، ونكتفي بنشر صورة العريضة التي رفعت

إلى مقام الجناب العالي الخديو المعظم وهي:

(بسم الله الرحمن الرحيم)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.

مولانا عزيز مصر المعظم:

ترفع هذه العريضة إلى أفق سموكم جمعية (شمس الإسلام) تستصرخكم

لإغاثة الدين الإسلامي الشريف من قوم يعرضونه للسخرية والازدراء، فقد علمت

الجمعية أن شركة (معرض باريس) المصرية استأجرت عشرة نفر من تكية

المولوية وزعانف آخرين من أهل الطريقة البيومية والرفاعية والقدرية والدلائلية

والشاذلية؛ لتأخذهم (لمعرض باريس) ليمثلوا باسم الإسلام هيئة الذكر راقصين

عازفين بالناي وغيره من آلات الطرب، ولاعبين بالثعابين والسلاح، وآكلين للنار

والزجاج ونحو هذه الخزعبلات التي أُهين الإسلام بانتسابها إليه، ولما للجمعية من الثقة التامة بغيرة سموكم الكاملة على الدين وأهله وعنايتكم الكبرى فى حفظ شرفه -

تجاسرت برفع هذه العريضة لسموكم مسترحمة توجيه عاطفتكم الشريفة لهذا الأمر،

وتعلق إرادتكم العلية بتلافيه، والله لا يضيع أجر المحسنين.

...

...

...

(ختم الجمعية)

***

قرر مجلس إدارة جمعية (شمس الإسلام) فى مصر إجابة اقتراح الكثيرين من

أعضاء الجمعية وغيرهم بأن يكون للجمعية اجتماع عام يؤذن لكل أحد بحضوره

لسماع المواعظ والخطب، وعين المجلس لذلك ليلة الإثنين من كل أسبوع، فمن

شاء الحضور من الأدباء والراغبين فى الإفادة أو الاستفادة فليحضر، وما عليه إلا

التمسك بآداب الاجتماع المطلوبة، ومراعاة قانون الجمعية في آدابه الموافقة

للشرع.

_________

ص: 703

الكاتب: محمد رشيد رضا

الزكاة والتمدن

والإيمان والإنسانية

...

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ

...

... وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ

[[*]

] وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا

...

فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [[**]

للإيمان إطلاقان: أحدهما التصديق الجازم بجميع ما جاء به النبي صلى الله

عليه وسلم مع الإذعان، وآية الصدق في هذا التصديق وكونه جازمًا لا زلزال فيه

ولا اضطراب، العمل بموجبه من الكفّ والانتهاء عن المنهيات مطلقًا والإتيان

بالمأمورات بحسب الاستطاعة المعبر عنه بالتقوى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ

أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (الزمر: 33) ذلك بأن مَن كان جازمًا بأن عمل كذا نافع له

في العاجل أو الآجل فإنه ينبعث للإتيان به من طبعه، ومَن كان جازمًا بأن فعل كذا

ضار له في دنياه أو آخرته يكف عنه ويتقيه بوازع الفطرة، يشهد لهذا كل ما يصدر

عن الإنسان من فعل وترك في عامة أوقاته وأحواله ويستحيل أن ينبعث الإنسان

لعمل ما وهو جازم بأن فيه مضرة له ومتذكر لذلك ، إلا أن يكون جازمًا أيضًا بأن

فيه منفعة تربي على المضرة وترجح عليها، ومَن جهل هذا كان جاهلاً لنفسه،

ومن جهل نفسه كان بدينه أجهل، ومن هنا جاء الإطلاق الثاني للإيمان، وهو كما في

الأخبار والآثار الصحيحة: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان ، فالاعتقاد

هو الأصل، والقول والعمل فرعان لازمان له، ويعبر عنهما بالإسلام.

بسم الله الرحمن الرحيم {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا

يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 1-3) نعم إن الله تعالى يفتن الذين يدعون الإيمان بألسنتهم أو

توسوس لهم به أنفسهم أي يختبرهم ليعلم علم شهادة، وهو عالم الغيب والشهادة

صدقهم في دعوى الإيمان أو كذبهم فيها وليظهر ذلك الصدق أو الكذب بالعمل

ظهورًا يترتب عليه الجزاء في الدنيا والآخرة لا سيما بالنسبة لمجموع الأمة.

ابتلانا بالشهوات التي تسوق إلى ما ينافي المصلحة والمنفعة، وأشرع لنا

الطريق الذي يجب أن نسيّر فيه شهواتنا، وحدّ لنا حدودًا موافقة لمصالحنا العامة

والخاصة، ولكنها تخالف الشهوة أحيانًا، وأمرنا أن لا نتعداها، فكل ما للنفس فيه

شهوة قد تسوق إلى عمل ينافي المصالح العامة أو الخاصة، فهو فتنة وابتلاء من الله

تعالى يمتحن به عباده ليزيّل بين الصادق والكاذب في دعوى الإيمان، ويميز بين

الخبيث والطيب من اللابسين لباس المؤمنين: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا

أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران: 179) وقد نبهنا تعالى

على هذه الفتن لعلنا نحذر ونتبصر فقال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ

أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن: 15) وقال جل شأنه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً

لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الكهف: 7) وإنما حسُن العمل بالتوفيق بين

منفعة العامل ومصلحة أمته على ما أرشد إليه الشرع دون اتباع شهوته التي تخلّ

بأحد الأمرين أو بهما معًا، وإنا نبين في هذه المقدمة وجه الفتنة بالمال من حيث

فريضة الزكاة فحسب - فوجوه الفتنة في جمعه وإنفاقه - كثيرة فنقول:

المال محبوب لأنه وسيلة إلى كل محبوب، ومِن الناس مَن يعظم شغفه

بالوسائل فيجعلها مقصودة لذاتها، ولا يستعملها فيما خلقت له، وهذا كفر بالنعمة

وإبطال للحكمة، ولذلك ورد في الصحيح: تعس عبد الدينار والدرهم، وإنما عبْده مَن

يجمعه ولو بغير حق، ويكنزه فيمنع منه كل حق، وورد أيضًا: نعم المال الصالح

للرجل الصالح، وقد فرض الله تعالى على المؤمنين أن يجعل أغنياؤهم جزءًا من

أموالهم لمواساة الفقير والمسكين العاجزين عن كسب يقوم بكفايتهما، ولتأليف القلوب

التي لم تطمئن بالإيمان كمال الاطمئنان، لا سيما من يتبعه في الهداية غيره، وفي فك

الرقاب من ذل الرق، وإطلاق الأسارى من قيود الأعداء بالفداء، ولمساعدة الغارمين

بتحمل الديون للنفقة الشرعية على أنفسهم وأهليهم، أو لإصلاح ذات البين ، ولإعانة

المجاهدين الذين يتطوعون ببذل أرواحهم لحفظ الأمة وإعلاء كلمة الملة، ولمواساة

أبناء السبيل الذين ينقطعون في الأسفار عن أوطانهم ويحال بينهم وبين أموالهم،

ولمن ينصبه الإمام لجباية هذه الأموال ووضعها في مواضعها.

مساعدة هذه الأصناف بالمال من مقومات المدنية، وإهمال شأنهم خروج عن

الإنسانية، وفي القيام بهذا العمل (إيتاء الزكاة) من المنافع للأمة التي يعز المزكي

بعزها ويذل بذلها ويسعد بسعادتها ويشقى بشقائها، ما يبعث العاقل الفاضل عليه

لأجل منافعه وفوائده، ولو لم يكن مكلفًا به ممن خلقه وأفاض عليه نعمة المال من

فضله وكرمه ، إلا أنها الشهوات ترجح عند سفهاء الأحلام على ما يطلبه العقل،

ويبعث عليه حب الشرف والفضيلة، فاحتاج الإنسان لسائق آخر يسوقه إلى هذا

العمل الشريف النافع، وهو سائق الدين الذي يعده على فعله بنعيم أعلى ورضوان

من الله أكبر ويوعده على تركه بالعذاب الأليم: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ

وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ

فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 34-35) وإن من لا يبالي بالمنافع القومية والمصالح الملية، ولا

يكترث بالشرف والفضائل الإنسانية، ولا يُجِب داعي الحضرة الإلهية، ويبخل

بجزء من ماله على سعادته الدنيوية والأخروية - لجدير بالعذاب المهين ولعنة الله

الملائكة والناس أجمعين، ومن يقرأ أو تقرأ عليه الآيات الناطقة بأن الله جعل له

المال فتنة ليظهر به صدقه في دعوى الإيمان من كذبه، وبأن الله اشترى منه ماله

ونفسه بأن له الجنة إذا هو بذلهما في سبيل الحق، وبأن من يمنع الحق المفروض

في ماله له العذاب الأليم المشروح في الآية الكريمة، ويلاحظ مع هذا أن أعمال

الإنسان تنبعث عن اعتقاداته الجازمة بمنفعتها أو مضرة تركها، ثم يبخل بالزكاة،

وما هي إلا العشر أو ربع العشر مما أنعم الله تعالى به عليه، ثم يدّعي مع هذا كله

أنه مؤمن جازم بوعد الله تعالى ووعيده - فهو مكابر للوجدان، معتقد أن الإيمان

كلمات تدور على أطراف اللسان.

استفتِ قلبك أيها المغرور المخدوع، حاسب نفسك على أعمالك التي تأتيها كل

يوم تجد أنك تبذل المال لجلب المنافع أو درء المضار المظنونة التي لا توقن

بوقوعها إذا أنت لم تبذل فكيف يسلم العقل أن الظن يبعث على العمل ولا يبعث عليه

اليقين وهو ما تدعيه في إيمانك، ذلك شأنك في كسبك من زراعة أو تجارة أو

صناعة وفي دفع الأذى عن نفسك ، وهذا شأنك في دينك وإيمانك، فهل بلغت شهوة

إمساك المال معك إلى حد انطفأ به نور الفطرة وخزيت الإنسانية، وذهبت حرمة

الدين وما جاء به من الوعد والوعيد؟ !

استفت قلبك وراجع وجدانك وحاسب نفسك، إذا قال لك فاسق لا ثقة بشهادته:

إن هذا الطعام أو الشراب الذي تريد أن تتناوله مسموم، وإن هذه المرأة التي ترغب

مواقعتها مصابة بالزهري، أرأيتك تترك شهوتك لقوله أم لا؟ إنك لتتركها ولو على

سبيل الاحتياط ولا تقدم عليها إلا إذا كنت جازمًا بكذبه، وأنه لا يصيبك أذى لأن

تقديم درء المفاسد على جلب المنافع من الأمور الطبيعية كما هو من الأصول

الشرعية، فكيف تجعل وعد الله ووعيده دون خبر ذلك الفاسق فلا تحتاط له؟

وتدّعي أنك موقن بهما لا شك عندك ولا ارتياب.

استفت قلبك وراجع وجدانك ولا يحملنك ثقل وقع الحق على نفسك أن تضع

أصبعيك على أذنيك وتُسدل الستار على عينيك، فتكون ممن قال الله تعالى فيهم:

{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (البقرة: 18) بل ارجع عن شحك: {وَمَن

يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) ولا تُسلِّ نفسك بأن في هذا

الكلام تكفيرًا للمسلمين، وأن من كفّر مؤمنًا كفر، فتتوهم أن هذه النصيحة المقتبسة

من نور كتاب الله تعالى عادت على من قدمها إليك بالتكفير أو التفسيق، فينعم بالك

ويهنأ عيشك ويسلم لك مالك كله لا ينال فقير منه درهمًا ولا دينارًا، فإن بحثنا هذا

بحث في روح الدين وجسمه معًا، ومن أظهر الإذعان للإسلام لا يحكم عليه بالكفر

وإن كان شاكًّا في قلبه ومرتابًا أو تلقَّى بعض العادات التي يعملها المسلمون باسم

الدين ولم يمس الإيمان به سواد قلبه {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا

أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ

شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا

وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ

بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحجرات: 14-16) فهذا القرآن يعرّف المؤمنين بصيغة الحصر بما لا ينطبق

عليك.

ذكر في تعريفهم الجهاد بالمال وقال في ضدهم: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا

يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (فصلت: 6-7) وأما حديث: من كفر مؤمنًا فقد كفر، فمعناه

أن من سمّى ما هو عليه من الإيمان أو أعماله كفرًا فقد كفر لأنه سمّى دين الله كفرًا

وقد نصّ العلماء على أن من حكم بكفر إنسان لدليل قام عنده عليه فهو متأول لا

يكفر وإن كان مخطئًا في حكمه، على أنني لا أقصد بكلامي تكفير مانع الزكاة

وإخراجه من عداد المسلمين، وإنما أبذل النصيحة الخالصة لقوم سلّموا بالإسلام

وارتضوه دينًا، ولكنهم أخذوه على غير وجهه لفساد التعليم القويم ثم إهماله، فظنوا

أن الله تعالى تعبدهم بألفاظ ورسوم لا معنى لها ولا فائدة فيها إلا مجرد الأصوات

والحركات، ورزئوا بقوم ولعوا بالتأويل وأخذ الدين من ألفاظ المصنفين وإن كانوا

من قبيل الذين قال الله فيهم: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ

الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ

عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 78) فهؤلاء المحرّفون هم الذين

أفسدوا على العامّة دينهم وعلّموهم الاحتيال على الله تعالى فصاروا: {يُخَادِعُونَ

اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 9) .

استفت قلبك أيها المحتال في منع الزكاة وإن أفتاك المفتون، استفت قلبك

وحكم كتاب الله تعالى في نفسك وزن به إيمانك وعملك، فإذا رجح به فأنت السعيد

وإذا ظهر لك الخُسران فاعلم أن هؤلاء المفتين الذين يعلمونك الحيل لا ينفعونك،

وتأمل قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ

لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ

وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ} (الجاثية: 18-19) .

استفت قلبك وراجع وجدانك يتجلّ لك أن قصارى الحيلة في منع الزكاة هدم

ركن من أركان الإسلام وأصل من أصول المدنية التي تبنى عليها السعادة الإنسانية

ونسخ آيات كثيرة من كتاب الله تعالى تعدّ بالعشرات وإبطال لمثلها أو ما يزيد عليها

عددًا من الأحاديث النبوية الصحيحة وإعراض عن سيرة سلف الأمة الصالح الذين

قاتلوا مانعي الزكاة كما قاتلوا المرتدين عن الدين - كل ذلك لقول رجل يجوز عليه

الخطأ عمدًا وسهوًا زعم أن الحيلة في منع الزكاة جائزة قياسًا على الحيلة في الربا ،

وقياسه هذا باطل يضرب به وجهه لأنه إبطال للنصوص القطعية المتواترة، ولا

يقول مسلم - بل ولا عاقل ما - بجواز مثل هذا القياس الذي هو من الاجتهاد

المفيد للظن.

ولا أصدق ما يعزى إلى الإمام أبي يوسف في ذلك، وإن نقله عنه حجة

الإسلام الغزالي وقال فيه: (وهذا هو العلم الضار) لأن هذه الحيلة لا تنطبق

على قواعد علم أصول الأحكام التي يسمونها فقهًا، وإن كان لا يراعى فيها إلا ما

تعطيه ظواهر الألفاظ من غير ملاحظة الحكمة في التشريع وما يرضي الله تعالى

وما يغضبه.

الإمام مالك والإمام أحمد منعا الحيلة مطلقًا، واستدل الحنفية والشافعية على

حل الحيلة في الربا بما صح من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عامل خيبر عن

بيع صاع التمر الجيد بصاعين من الرديء؛ لأنه من الربا وأمر بأن يباع الرديء

بدراهم ويشترى بها الجيد، وجعلوا هذا دليلاً على أصل مشروعية الحيلة مع أنه في

الحقيقة ليس من الحيلة؛ إذ مقصود الشارع من منع بيع الأطعمة والأقوات بمثلها مع

التفاضل أو النسيئة أن لا يخرج بها عن الحكمة التي خلقت لأجلها وهي التغذية

(وفي معناها التداوي) بجعلها أثمانًا يتعامل بها لما في ذلك من تقييدها في الأيدي

ومنعها عن محتاجها للأكل، ولهذا نهى عن الاحتكار وشدّد فيه أيضًا، والحديث مرشد

إلى التعامل الذي لا يخل بهذه الحكمة بل يحفظها، وأما الحيلة في منع الزكاة فهي

مبطلة للحكمة في مشروعيتها وهادمة لركنها بالمرة، فلو فرضنا أن ما أرشد إليه

حديث بيع التمر يسمى حيلة ويدل على مشروعية الحيلة، فيجب أن يقيد بما لا يهدم

ركنًا إسلاميًّا ولا يخل بحكمة من حكم التشريع التي فيها صلاح العباد في المعاش

والمعاد، والزكاة من أعظمها أو أعظمها، فإن فيها قوام ثمانية طوائف من المسلمين

لا يصلح مجتمع الأمة بدونها، على أن هذا قياس في مورد النص، وهو ممنوع كما

ألمعنا آنفًا.

ثم إنني أرجع بك أيها الشحيح الممسك إلى الفطرة الإنسانية لتعلم أنك بمنع

الزكاة منحرف عن صراط الدين وعن كمال الإنسانية معًا، فإن نوع الإنسان

بمقتضى الفطرة على أربع طبقات: (الطبقة الأولى) التي يبذل أفرادها المال في

منافع قومهم وأمتهم ومواساة محتاجيهم؛ لأن ذلك من الفضائل الإنسانية وموجبات

الشرف والجاه الصحيح، وناهيك بما حفظه التاريخ للأسخياء والأجواد من الذكر

المجيد، وما ورد في حاتم الطائي من الحديث الشريف (الطبقة الثانية) التي لا

يبذل أفرادها المال إلا في لذاتهم وشهواتهم البدنية ، وأفراد هذه الطبقة إلى البهيمية

أقرب منهم إلى الإنسانية (الطبقة الثالثة) التي خرجت بالمال عن وضعه الأصلي

وهو وسيلة الحاجات وميزان المعاملات، فأحبته لذاته وأمسكه أفرادها عن المنافع

والشهوات جميعًا إلا ما لا مندوحة عنه، وهؤلاء إلى الجنون أقرب منهم إلى العقل.

وغرض الدين بمشروعية الزكاة إعانة الإنسان على تقوية داعية الفضيلة التي

تقتضيها الفطرة الإنسانية على داعية الشهوة وفساد الرأي التي عليها أهل الطبقتين

الأخريين لأن الرغبة في منفعة الأمة وحب الشرف قد يعجزان عن مقاومة الشهوة

وإصلاح الرأي الأفين، فجعل للبذل في الطرق الشريفة النافعة جنة الله ورضوانه

وتوعد على البخل والإمساك عن ذلك بنار الله وسخطه، فمن غلبت شهوته أو حمله

فساد رأيه على منع الزكاة مع هذا كله فهو بعيد عن هدي الديانة الإسلامية وسلامة

الفطرة الإنسانية، والسلام على من اتبع الهدى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(*)(التوبة: 111) .

(**)(التوبة: 34) .

ص: 705

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

(19)

من هيلانة إلى أراسم في 8 مايو سنة 185

أتدري أيها العزيز أراسم أني فكرت كثيرًا فيما ختمتَ به مكتوبك الأخير وورد

على ذهني منه خاطر يجب عليّ قبل الإفضاء إليك به أن أبين لك كيف ورد.

جاء الدكتور وارنجتون وأسرته إلى هنا وأمضوا يومين، فسنَّ لي شبه قانون

أجري عليه في معيشتي، بل هو الذي يتبعه معظم الإنكليزيات الحوامل اللاتي

يوصفن عادة بأنهن في حالة شاغلة، نصح لي بإدامة الرياضة البدنية والتنزه، ثم قال

ما نصه: إياك والاقتراب من القصص التي تتولد من قراءتها الانفعالات السيئة

الشديدة، كان اليونان أعقل منا؛ لأنهم كانوا يحيطون نساءهم في مدة الحمل بالتماثيل

والصور الجميلة المنسوبة لمشاهير الأساتذة في فن التصوير، وإني لست أجزم بأن

هذا كان سببًا في إتيان أولادهم حسان الخلقة، ولكني على كل حال أقول: إذا كان

مثل هذه التماثيل والصور وغيرها من الأشياء البديعة الصنع يحدث في نفوس ذوي

الفطر السليمة من الناس شعور الارتياح والانبساط، ويكون فيها مدعاة اعتدال

الأمزجة وتوافق الطبائع، فلم لا يكون من موجبات حفظ الصحة؟ كثير من السيدات

عندنا يغلب عليهن في طور الحمل الخمود وفتور القوى بسبب البطالة التي هي منشأ

الأمراض العصبية، فإنهن لا شغل لهن فيه سوى مساورة الأوهام ومطاردة الخيالات.

أما أنت فلِما أعهده فيك من الشغف بالمناظر الخلوية أوصيك بالسعي وراء اجتلاء ما

في الخليقة من رائع الجمال ورائق الحسن وبأن تتخذي لنفسك أعمالاً مرتبة تشتغل بها

يدك وعقلك.

ولقد رأيت أن هذه النصائح كلها حكمة وعلم، فأخذت نفسي بها وخرجت للتنزه

من اليوم التالي لتلقيها بعد تدبير بعض الشؤون البيتية، فلما رأتني نساء القرية مبكرة

على الطريق بعثهن كرم أخلاقهن على أن يبتدرنني بالتحية قائلات: (صباح بهيّ

وبكرة سنية) ولم يكن الصباح كما قلن ولكنها عادة الناس هنا إذا تبادلوا التحية

بالوقت فهم دائمًا يميلون إلى امتداحه قليلاً، فشكرت لهن حسن قصدهن.

لم أسر في تنزهي على الخليج، بل اعتسفت الطريق في ريف يتسع فيه

الفضاء للماشي كلما جدّ به السير، ومما لاحظته أن نساء كورنواي يضعن على

رؤوسهن كمات [1] من القش، وقد اخترت أن أحذو مثالهن في ذلك، فوضعت واحدة

منها اتقاء لحر الشمس وحبًّا لما فيها من البساطة الكلية، وأخالني أروق في نظرك لو

رأيتني بها، كنت أتقدم في هذا الريف على جهل من قراه، ولكني كنت آمنة من

الضلال لأني ما كنت قاصدة جهة معينة، وكان ذلك اليوم من الأيام التي كثيرًا ما

ترى في غرب إنكلترا، فكانت سماؤه محتجبة بالجهام [2] وكانت تأتي من البحر ريح

بليل [3] مسفسفة [4] فتجري بين أشجار العليق فتولد فيها رعدة طويلة ، وكانت الطيور

تغرد حول عشاشها.

قد أتى عليّ حين من الدهر كنت فيه أوجد على الخليقة إذا بدت عليها سمات

الاغتباط والسرور، وأنا حزينة الفؤاد متبلبلة الأفكار، فما زلت بي حتى أثبت لي أن

هذا الوجد والانفعال باطلان بعيدان من الإنصاف، وناشئان من الأثرة وحب

الاختصاص، فأصبحت الآن بفضل نصحك لي أُسَرّ بما أجده في سائر المخلوقات من

آثار الفرح والابتهاج، وقد تبين لي في ذلك اليوم بما انبعث في قلبي من وجدان

الحنان والرحمة، وبما عاينته في المخلوقات من شواهد الفضل والنعمة أن الله سبحانه

لم يلعن الأرض ولم يغضب عليها.

كانت بكرتي هذه من البُكر التي أنت تعرفها ، يدور في هوائها على سكونه مادة

غزيرة مختلفة العناصر للتوليد والخصب، فكان ينبعث من أشجار العوسج وحقول

القمح والمخارف [5] الموطأة نسمات فاترة مقوية كانت تسري بسببها الحرارة في

جسمي فتصل إلى وجهي فكأن الأرض كانت مصابة بحمى الربيع، ولقد ذكرتك في

تسياري بين هذه المزارع، وفكرت فيما سأناله عما قليل من شرف الأمومة إن لم

يحدث من الطوارئ ما يقطع موصول آمالنا، وفي هذا الوقت أحس قلبي بما

انطوى عليه مكتوبك فتسابقت إلى ذهني منه هذه الكلمات وهي (فإني قد استودعتك

إياه) .

عند ذلك صِحْت قائلة: لماذا لا أكون أنا في الحقيقة معلمة ولدي؟ أليس من

المعروف عن نساء الولايات المتحدة أن معظم تعليم الأطفال ذكورًا كانوا أو إناثًا

موكول إليهن؟ بل إن مما يؤكده العارفون أنهن يَفضلن الرجال في القيام بهذه الوظيفة

الصعبة، وإني سأجرب نفسي في الاقتداء بهن على أن هذا هو ما يراه زوجي، فمن

حيث إنه قد عول على ترك المزايا التي لمدارسنا وغيرها من معاهد التعليم لاعتبارات

أقدرها حق قدرها، فلا بد أن أحل محله ولو حينًا من الزمن في القيام على تلميذنا

الآتي وتربيته، وسيكون هذا آكد فرض عليّ وأَخصّ ما أفتخر به وأزهو ، أُشهد الله

سبحانه على ما أقول وأُشهد عليه أيضًا أمومة الفطرة الكبرى التي تدعوني بما فيها من

القدوة إلى العمل وإنماء جميع قواي.

ربما أضحتْك مني هذه المزاعم ، وإني لعلى علم بكل ما يعوزني لأداء هذا

الواجب الصعب المعضل؛ لأني ينقصني كثير من المعارف وإن كان والداي لم يغفلا

تربيتي الأولى، ولكن ما الذي يمنعني من الاستمرار على التعلم بنفسي إذا كنت لا

أزال في السن الملائم له، فسأعلم ولدنا في الزمن الذي يشب فيه وينمو وأتعلم

أنا أيضًا بتعليمه، ولن أعتقد أني أمه حقًّا إلا إذا نفثت في روعه أفكارك وزرعت

في نفسه أصولك.

سنتعاون بقلبينا على هذا الأمر الخطير، فعليك الإرشاد وعليّ العمل، وقد

وعدتك بأن أكون قوية، وهذا هو قصدي وسأبلُغه ملتمسة من الرياضة البدنية

والمطالعة ما يلزمني من الصحة والعافية في جسمي وعقلي لأداء هذا الغرض

العظيم ، ومعاذ الله أن يكون من قصدي أن أصير إلى أحسن مما أنا عليه الآن، نعم

إني لست من الوليّات ولا من النُسّاك؛ فقد أتى عليّ زمن كانت تجذبني فيه

جواذب اللذات الدنيوية، وليس هذا الزمن عني ببعيد، فإني لم أتجاوز الثالثة

والعشرين من عمري، ولم يكن تركي معاهد التمثيل وملاهي الغناء وأندية الظرفاء

التي كنت أفتخر فيها بمصاحبتك مبنيًّا على رغبتي عنها وميلي إلى غيرها،

وإنما كان ذلك لما أصابنا من صروف الدهر ونوائبه التي سيظل ما جرته لي من

الكآبة والحزن مخيمًا عليّ طول حياتي، على أنني لست آسى على شيء مما

فات، فأرجو أن لا تظن بي ذلك، وأعتقد أني لو كنت مطلقة من قيود هذه

المصائب لما انفككت عن اختيارك لي خِلاًّ وقرينًا، واعلم أن الفراق لم يزدني فيك

إلا حبًّا، وإنما أنا أشكو من ألم في نفسي، ولكن كما توجد طرق مادية لحفظ صحة

البدن توجد أيضًا طريقة معنوية لحفظ النفس وسلامتها من الأمراض وهي رفعها إلى

معالي الأمور، وسأجربها فإن ذلك - على ما يُقال - يسكن من آلامها، وإذا صح

هذا فأي غاية تسمو إليها أفكاري وتعلو بها نفسي أشرف من رعاية ولد أُربيه

على أصولك وأخلاقك، إن هذا لهو أكمل قصد وقفت نفسي على إدراكه.

أنا مع انتظاري لهذا العمل الجليل، أشتغل الآن بشؤون بيتية محضة، أما

قوبيدون فإنه قد صمم على أن يعمل عمل المزارعين فإنه قد جلب إلى مسرح

الدواجن في بيتنا دجاجًا وبطًّا وماعزة وغيرها، وكان في البيت برج عتيق مهجور

فعمّره بالحمَام، وإني مهتمة غاية الاهتمام بكل هذا العالم الصغير، وكنت قبلاً أعتقد

في نفسي أني على شيء من علم الحيوانات لما قرأته من الكتب المختلفة في التاريخ

الطبيعي، أما الآن فقد تبين لي مقدار خطئي في هذا الاعتقاد، فإني كل يوم أشاهد

من عجائب الحيوانات ما لم يقل عنه العلماء شيئًا، وأنا وجورجية نوزع الحبوب

على جميع هذه الدواجن التي يظهر من حالها أنها تدرك محبتنا إياها؛ لأنها تأتنس

بنا وتفرح لرؤيتنا. اهـ

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الكمّة بالضم القلنسوة المدورة.

(2)

الجهام سحاب لا ماء فيه.

(3)

الريح البليبل هي الباردةالنادية.

(4)

المسفسفة هي التي تجري فويق الأرض.

(5)

المخارف جمع مخرف وهو الطريق في الأشجار.

ص: 713

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

(من بتاوى)

لأحد الأفاضل:

حضرة اللوذعي البارع صاحب المنار الساطع:

إن ما نشرته جريدة (المعلومات وثمرات الفنون) وجريدتكم الغرّاء فيما يتعلق

بالحكومة الهولندية ومعاملتها للعرب من الظلم والجور والاحتقار والغمط والغمص

إلى ما لا يتناهى - لأمر واضح ولا وضوح الشمس في رابعة النهار ومعلوم عند

الحكومة المذكورة، ونحن نتعجب أيضًا غاية العجب من تحاملها على من يكاتب

الجرائد وفحصها وبذل المجهود في معرفته والإعلان بأنها ستذيقه كأس عقابها، فنحن

مهما كاتبنا الجرائد فلا نقول إلا الحق الصراح، ومع ذلك نذكر الواقع والوقيعة

والشخص والمحل، فلو كانت غير عالمة بذلك لأحضرت الأشخاص الذين سميناهم

وسألتهم عما جرى عليهم، ولو أردنا سرد جميع الوقائع لاستدعى ذلك نشره في كل

طبعة من الجرائد واستغراقه الستة أعمدة فيها، ولكن أوردنا أنموذجًا من تلك القبائح،

ودونك قطرة من بحر ، فأوله رجل يسمى الشيخ بلوعل ضربه اثنان من الهولنديين

اعتباطًا فرفع أمرهما إلى الحكومة فأُحضرا في غير مجلس الحكم، فقيل للشيخ

بلوعل: إنهما لن يعودا إلى مثل ذلك، وكذا الشيخ عبد الله حسان سبَّه بعض

المستخدمين في محل التلغراف سبًّا فاحشًا، فقيل له مثل ما قيل للشيخ بلوعل،

وكذا الشيخ علي مرصد في أثناء الطريق بدّد ما معه من الأقشة وسُب وضُرب فعومل

كالأولين، وكذا الشيخ محمد بن علي مكارم دفعه بعضهم دفعًا عنيفًا حتى سقط مغشيًّا

عليه بدون سبب، وكان المومي إليه شيخًا جليلاً فعومل بمثل أولئك، فلم يقبل وأبى

إلا القصاص، فطرد ولم تقبل له الحكومة كلامًا فلم يسعه إلا أن قوّض خيامه ورحل،

وهيهات التعداد، ولو أردنا تفصيل الحوادث حادثة حادثة للزم الحال إلى سِفر، بل

إلى أسفار وأما عثمان بن عقيل فليته كان كفافًا لا لنا ولا علينا، وكيف وهو باذل

جهده في أن تشد وطأتها الحكومة على العرب أبناء جنسه بأشد مما هي عليه، بل لم

يزل يواعد العرب بالشر في المستقبل، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وجزى الله

الشيخ أحمد الخطيب المنكاباوي فيما قاله فيه خير الجزاء، وأقسم بالله أنا لم نعرف

محملاً للخير نحمل عثمان عليه؛ لأنه صرح على رءوس الأشهاد بحضرة الجم الغفير

بأن سيدنا ومولانا الخليفة الأعظم سلطان الإسلام والمسلمين لا يسمن ولا يغني من

جوع إنها لإحدى الكبر ومن أمهات العبر ما سمعنا بهذا في الملة الإسلامية. هذا

بعض ما جرى الآن ، نستعطف مراحمكم أن تنشروه في جريدتكم (المنار) الأغرّ

كما هو شأن غيرتكم في الذب عن الملة والوطن أثابكم الله.

***

(سنغابور في 12 ديسمبر سنة 1899)

يا صاحب جريدة (المنار) التي لها بين رصفياتها الفضل والاشتهار، كأنها

علم في رأسه نار، لقد جبرت القلوب المنكسرة بما نشرت من الأخبار، فيما نال

العرب بجزيرة الجاوي من الظلم والاحتقار، وما تأتيه حكومة هولندا في ذلك من

العار، فلم يبق إلاك المؤمل، وعليه في الصدع بالحق المعول، فأين ما يزعمه

الزاعمون ويتمشدق به الجاهلون من المدنية الغربية ومحبتها بني الإنسان بالسوية،

أهو ما تعاملنا به معاشرالعرب تلك الحكومة الهولندية، من الظلم الواضح وضوح

الشمس المضيّة؟

وفي هذه الأيام قد شدت وطأتها بجور الأحكام، وبالخصوص على كل من له

بجرائد الأخبار الإسلامية إلمام، أو له في الدولة العثمانية كلام، بل صرح صديقها

الشيخ عثمان بأنها عند العثور على من يكاتب تلك الجرائد ستذيقه العذاب الأليم،

فنحن نناشد الله عثمان فيما تنشره الجرائد، هل هو زور وبهتان؟ أم هو الخبر

المشاهد بالعيان، والحق الذي لا يمتري فيه اثنان، ولا ندري ما الحامل له على أن

جمع إخوانه العرب وأحضر بينهم كلام الرب، وأراد منهم أن يقسموا له به بأنهم لا

اطلاع لهم على من يكاتب تلك الجرائد، إلى آخر ما جرى منه من التهديد والوعد

والوعيد، وطلب منهم التوقيع ببراءته من كل فعل شنيع في أسفل طرس ليس فيه من

الكتابة شيء، فأوجسوا في أنفسهم خيفة وارتابوا، ورفضوا ما طلب فاشتد منه

الغضب.

وقوي بينه وبينهم الخصام والصخب، فما فعله هذا أهو من قبيل رأيه وهواه

أم بذلك قرينه أغواه.

وإليك هذه القضية يا صاحب (المنار) فاحكم فيها بما أراك الله، وحسبنا الله

وحسبه وحسبهم الله.

...

...

...

...

... أحمد صادق

...

...

...

***

(مكارم الأخلاق الإسلامية)

مجلة علمية أدبية دينية تهذيبية تصدر في اليوم الأول والخامس عشر من كل

شهر عربي من قبل جمعية (مكارم الأخلاق) الشهيرة في مصر، وقد تصفحنا العدد

الأول منها فإذا هو مفتتح بمقدمة مطولة لرئيس الجمعية المفضال وخطيبها القوّال

الشيخ زكي الدين سند، وهي على نحو خطبة في الكلام المسجوع والوعظ المسموع

وبعدها نبذة عنوانها (استلفات) في الحث على الاشتراك في المجلة خدمة للأمة

والملة، والتمهيد لذكر الدروس التوحيدية التي يلقيها في الجمعية وكيلها الأستاذ الشيخ

عبد الوهاب النجار ، يتلوها ذكر جملة مفيدة من أول الرسالة أو الكتاب الذي يقرأه،

وهي أفيد ما في المجلة، فإن صاحبها الفاضل قد حذا فيها حذو (رسالة التوحيد)

التي ألّفها حديثًا الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية لهذا العهد،

واقتبس من نورها في الكلام على بيان الحاجة إلى الرسالة قبل بعثة نبينا صلى الله

عليه وسلم والانتقال إلى ذكر رسالته وما جاء به، ويسرنا جدًّا أن فضلاء الأمة

ونبهاءها قد اتخذوا (رسالة التوحيد) إمامًا ومرشدًا لهم في دينهم، فإنها الجديرة

بذلك، فنحث المسلمين على الإقبال على هذه المجلة مساعدة للجمعية الإسلامية

التي تصدرها على خدمتها المليّة، ولأنها لرخص ثمنها لا تنجح إلا

بكثرة المشتركين، فقد جعلت قيمة الاشتراك فيها 15 قرشًا في القطر المصري

و18 في خارجه، والمراسلة تكون باسم الأستاذ الشيخ زكي الدين رئيس

الجمعية.

***

(القدس الشريف)

مجلة علمية أدبية تاريخية أسبوعية تصدر في أول كل شهر عربي مؤقتًا،

لصاحبها ومحررها الشيخ طه المحتسب بالله خادم مقام خليل الرحمن، وقيمة

الاشتراك فيها 16 غرشًا مصريًّا، وقد اطّلعنا على العدد الأول منها، فإذا هو مصدّر

بفاتحة يبين فيها فضل نشر العلم، وأنه هو الذي حمل كاتبها على إنشاء المجلة

لا حب الكسب، فنتمنى لهذه المجلة الرواج والانتشار.

***

(من مجلة المنار إلى قرائها الأخيار)

سلام الله عليكم وحيّاكم الله أيها الفضلاء الذين وازرتمونا على خدمة الملة

والأمة، فإذا كانت الجرائد الحديثة تشكو من قرّائها فإنا شاكرون لكم، وإذا كانت

ترميهم باللي والمطل، فإننا نعترف لكم بالوفاء والفضل، ونحمد الله تعالى أن

جعل قرّاء مجلتنا من خيار الأمة وفضلائها الذين يُرجون ولا يُخشون، ولكنّ الأجزاء

الأخيرة من المجلة قد رُدّت إلينا في هذه الأيام من قبل نفر من المشتركين، منهم مَن

نثق بفضله وكماله، ونرجح أن المجلة ما ردّت في أواخر سنتها إلا خطأ من كاتبه أو

وكيله، كما وقع لنا غير مرة مع من يدفعون ثمن الجريدة سلفًا، ومنهم من يرغب

عن قراءة كلام ينعي عليه تقصيره في دينه وإسرافه في أمره فينغص عليه لذته،

والمرجو من مثل هذا أن يدفع ثمن الجريدة؛ لأن السنة أوشكت تتم، ثم يقطع

الاشتراك، ونحن لا نحب أن يقرأ مجلتنا من لا يهمه أمر دينه وملته وأمته، كما

نرجو من المشتركين الكرام، لا سيما في خارج العاصمة الذين لم يدفعوا إلى الآن

قيمة الاشتراك أن يقدموه حوالة على البوسطة أو طوابع بوسطة، ولا يدفعوا شيئًا

لوكيل أو جابٍ إلا لمن يصرح باسمه فيما بعد في المجلة، والسلام عليكم

ورحمة الله تعالى.

***

(جمعية شمس الإسلام)

علم القرّاء الكرام أن جمعية (شمس الإسلام) الشريفة قامت بالسعي لدى أولياء

الأمور بمنع شركة معرض باريس المصرية من أخذ الزعانف المنتسبين لأهل

الطريق إلى المعرض لتمثيل البدع والألاعيب التي يأتونها باسم الدين الإسلامي،

ولقد كان لسعيها هذا أحسن وقع عند خاصة المسلمين وعامتهم، وحمدوا لها جميعًا

هذا السعي واهتمت به الحكومة السنية، لا سيما سعادة محافظ مصر الغيور وبحثت

عنه، وحتم سعادة المحافظ بعدم تمكين أولئك الزعانف من السفر، وأما الشركة فقد

تنصلت من هذا الأمر وصرّحت بأنها لا يمكن أن تأتي أمرًا يمس كرامة الدين

الإسلامي الشريف، وإن لم تعارضها الحكومة فيه، لا سيما وأن فى أعضائها غير

واحد من وجهاء المسلمين ونحن نقابلها على تنصلها بالثناء مهما كان سببه، ونشكر

أفضل الشكر من اهتم بتحقيق أمنية الجمعية من رجال الحكومة والدين سواء

من عرفنا اهتمامه كسعادة المحافظ وفضيلة مفتي الديار المصرية وسماحة شيخ

مشايخ الطرق، ومن لم نعرف من حقيقة اهتمامه بالاختبار شيئًا، والله لا يضيع

أجر من أحسن عملاً.

_________

ص: 717

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الزكاة والتمدن

(2)

بيّنا في مقالة (المنار) الماضي أن الزكاة ركن من أركان الدين والمدنية،

وفضيلة من أكمل الفضائل الإنسانية، وأن تاركها بعيد من الدين والتمدن والإنسانية

جميعًا، ودحضنا شبهة المحتالين في منعها من المتدينين، وندحض في هذه المقالة

شبهة من يذمها أو يذم السخاء من المتمدنين فنقول:

من الإفرنج طائفة تذم السخاء والبذل محتجة بأن إعطاء المال بدون مقابلة

عمل يعلّم الناس البطالة والكسل والاعتماد على الناس دون أنفسهم في قضاء حاجهم،

والوصول إلى مطالبهم ويكثر فيهم التسول والشحاذة، وما فشت هذه الأخلاق

والسجايا في أمة إلا ورَمتْها بالفقر والفاقة والذل والمهانة، وجعلتها وراء الأمم كلها،

وأنت ترى أن حجة هؤلاء ناهضة قوية، ولذلك فشت أفكارهم في أوربا فجعلت

قلوب أهلها قاسية على بني جنسهم لا يرحمون فقيرًا ولا يواسون محتاجًا حتى قيل:

إن الفقراء يموتون جوعًا في أسواق أغنى مدائن الأرض كلوندره ولا يرقّ لهم أحد

وإذا عدُل عقلاؤهم أو فلاسفتهم في هذه القساوة الوحشية يقولون: إن موت بعض

الأفراد أخف ضررًا على المدنية من فشوّ الأمراض الروحية التي تتولد من البذل

ومواساة هؤلاء المحتاجين وهي ما ذكرناه آنفًا، هذا ملخص مذهب هؤلاء، ونحن

نجيب عنه بالنسبة للزكاة الشرعية من وجوه:

(1)

يعارض مفاسد البذل المذكورة مفاسد أعظم منها ضررًا في المدنية وأشد

خطرًا على الإنسانية وهي مفاسد الاشتراكية والفوضوية التي ليس لها منشأ إلا عدم

رضا الاشتراكيين بجعل المال دولة بين الأغنياء، بحيث يقاسي السواد الأعظم

من أبناء الإنسان متاعب الفقر وشقاء العوز حتى يموت الكثير منهم جوعًا ويتمتع

العدد الأقل بجميع صنوف النعيم ويستعبد سائر العالمين، بل يحبس في سجون

من الحديد (صناديق الأموال) جيوش الدراهم والدنانير يمنعها بذلك عن صدّ غارات

جيوش الفقر والفاقة التي تفتك بالنوع البشري أشد الفتك، إما بنفسها وإما بما يتبعها

من جيوش جراثيم الأمراض والأوبئة الخفية التي لا يدافع جانّها إلا بجنان من الذهب

أو الفضة [*] وليس فقر كل الفقراء وعوزهم من كسلهم وبطالتهم، فترد في حقهم شبهة

مانعي البذل وذامِّي السخاء، ولكن استعداد أفراد الإنسان متفاوت وللبيئة التي يعيش

فيها والقوم الذين يتربى بينهم الأثر الأكبر في أخلاقه ومعارفه التي هي

مناشئ أعماله الكسبية وغيرها {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ

بَصِيراً} (الفرقان: 20) فالله تعالى يبتلي الغني بالفقير والفقير بالغني، كما يمتحن

القوي بالضعيف وبالعكس على نحو ما بيّناه في المقالة السابقة، وبسطة الرزق تكاد

تكون بالحظ والجد أكثر مما هي بالحيلة والكد.

يشقى أناس ويشقى آخرون بهم

ويسعد الله أقوامًا بأقوام

وليس رزق الفتى من فضل حيلته

لكن جدود وأرزاق بأقسام

كالصيد يحرمه الرامي الجيد وقد

يرمي فيحرزه من ليس بالرامي

وما أنا من يقول بالجد والحظ على إطلاقه الذي يطوف في الأذهان، ويجري

على كل لسان، بل أقول: لكل شيء سبب، وللإنسان ما سعى وكسب {لَهَا مَا

كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) ولكنّ طرق الكسب والثروة منها ما يعرفه الإنسان ومنها ما يجهله، وبعض ما يعرفه يمكن أن يناله بسعيه ، وبعضه يعلو

عن تناول السعي ويتعاصى على الكسب، ولا تكون طبقات الناس أو أفرادهم

متقاربين في معرفة الأسباب والتمكن منها إلا إذا أمكن توحيد التربية والتعليم

وتعميمهما في العالم الإنساني كله، وما أبعدها غاية وأقصاها رغيبة! ! فظهر بهذا

علة اختلاف الناس المشهود في المعارف والسجايا والأعمال والمكاسب إجمالاً

{َلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: 118-119) وظهر به

وبما قبله أن للاشتراكيين بعض العذر في القيام على الأغنياء الذين لا يجعلون في

أموالهم حقًّا معلومًا للبائس الفقير والعاجز الضعيف الذين ليس لهم ما يكفيهم، وأن

ينتهي بهم الأمر إلى القيام على الحكومة التي لا تلزم الناس بالمساواة إلزامًا كما هو

شأن الفوضويين، نعم إن القوم أفرطوا فخابوا، ومن الاعتدال أن يطلبوا المواساة بدلاً

من المساواة التي لا سبيل إليها، ويعلم المتمدنون من المسلمين أن حكماء أوربا

وحكامها في حيرة من تلافي شرور الاشتراكيين والفوضويين ومعالجة هذا الداء

الاجتماعيّ الدويّ ، وما علاجه إلا الدين الإسلامي الذي يفرض الزكاة ويحث على

المواساة ويفرض على الآخذين به أن يرضوا بما قسم الله لهم بعد السعي بحسب

الطاقة.

(2)

إن فضلاء الأوربيين وعقلاءهم الذين لم ينسلخوا من مزايا

الإنسانية الجميلة ولم يُحرموا من الشفقة والرأفة على أبناء جنسهم بالمرة ، قد

خصصوا جزءًا من أموالهم لبناء المستشفيات لمعالجة مرضى الفقراء ولغير

ذلك من أعمال البر، ولولا هؤلاء لكانت المدنية الأوروبية شر مدنية أخرجت

للناس، ولكان غلو الاشتراكيين والفوضويين تجاوز الحدود فدمرها شر

تدمير وجعل مصيرها بئس المصير، وإننا نرى اللابسين لباس المدنية

الأوروبية من المسلمين لا يبذلون شيئًا من فضول أموالهم على أعمال البر

التي ينفق عليها الأوروبيون كالمستشفيات والمدارس والمكاتب وتنشيط المخترعين

والمكتشفين، حرموا فضائل المشرقين واستأثروا برذائل المغربين {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ

عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ} (المجادلة: 18) .

(3)

إذا كان السويليون من الإفرنج يقبّحون إيتاء الفقراء والمساكين العاجزين

عن كسب يكفيهم، فلا ينبغي أن يلتفت إلى قولهم؛ لأن احتجاجهم بتعليم الناس

البطالة والكسل إنما يأتي إذا كانت الشريعة تعطي من يقدر على الكسب ولا يكتسب

إخلادًا إلى الكسل والبطالة واعتمادًا على أوساخ الناس، ولكن الشريعة تمنع إعطاء

مثل هذا كما تمنع إعطاء العاجز فوق كفايته، وتسمي مَن يقدر على كسب يكفيه

غنيًّا، ولذلك قال الإمام الغزالي كغيره: (وقد لا يملك إلا فأسًا وحبلاً وهو

غني) . وجعلت أيضًا في حكم الغني كل فقيرعاجز له قريب يمونه وينفق عليه،

ومع هذا كله حرمت السؤال والشحاذة على غير المضطر واعتبرت أموال الزكاة

والصدقات من أوساخ الناس، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: اليد العليا خير

من اليد السفلى.

فقد رأيتَ أن هذا الدين القويم فرض للفقراء والمساكين ما فرض من مال الزكاة

مع أشد الاحتراس من مضار اعتماد الإنسان على غير كسبه ونتائج عمله، ومن ذلك

أنها حرمت الصدقة على آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ينبغي أن يكونوا

قدوة للناس في شرف النفس وعزتها، وما أكل أوساخ الناس إلا ذلٌّ وصغار، وقد

غفل المسلمون لا سيما الغالون في تعظيم أهل البيت عن هذا فأغدقوا عليهم الإنعام

حتى جعلوهم عالة على الناس في عامة شؤونهم، وأفسدوا أخلاق الجم

الغفير منهم.

(4)

إذا فرضنا أن للسويليين وجهًا في منع إعطاء الفقير والمسكين ومن في

معناهما كالغارم وابن السبيل مطلقًا، فهل نقول: إن لهم وجهًا في منع تجهيز

المطّوعين لحماية البلاد ودفع الأعداء عنها، ومنع فك الرقاب من العبودية أو

الأسر؟! كلا، إننا لم نسمع أن أحدًا في أوربا يذم هذه المصارف، بل نراهم يجمعون

الأموال الطائلة لتنفق في هذه الوجوه، وقد جعلوا السعي في تحرير الأرقاء ركنًا من

أركان التمدن، بل وجعلوه عملاً مخصوصًا من أهم أعمال الحكومة.

وخلاصة القول وزبدته: أن الزكاة ركن من أهم أركان الدين والمدنية الحقة،

وأنه ليس في شيء من مصارفه الثمانية مغمز لغامز ولا مضرة تخشى مغبتها، وأن

هؤلاء المسلمين الجغرافيين الذين يمنعونها لروح البخل والشح الخبيث الذي لابس

نفوسهم الشريرة ما شمّوا رائحة التمدن الحقيقي، ولا استنشقوا عَرف الإسلام العطر،

ويوشك أن يجيء يوم من الأيام تهدي فيه الأوربيين معارفُهم الاجتماعية إلى إقامة هذا

الركن المدني الركين، ثم إقامة غيره من أركان الإسلام، فيضطر المقلدون لهم في

مساويهم من متمدنينا إلى تقليدهم في المحاسن والفضائل التي يأخذونها من دينهم،

فإنهم لصغر نفوسهم لا يكونون إلا مقلدين و {لِّكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الأنعام: 67) .

_________

(*)(الجان) اسم جمع للجن وهو كل ما استتر عن الحواس كالملائكة والشياطين، ومنه ميكروب الأمراض ، والجنان - بالضم - الترس.

ص: 722

الكاتب: أحد المشتركين

‌الاقتراح على المنار

يود أكثر أهل الجدّ أن (المنار) لا يكتب إلا في أهم المواضيع الدينية

والاجتماعية كالتربية والتعليم من الوجه الديني، وممن صرح لنا بهذا الرأي وزير

مصر الأكبر صاحب الدولة رياض باشا، ويقول آخرون: لابد من تنوع المواضيع

والكلام في الأدبيات؛ ليكون فيه ما يروّح النفوس التي تسأم الجد الدائم، واقترح

علينا كثيرون من فضلاء القطرين المصري والسوري أن نكتب ملخص دروس

التفسير التي يلقيها في الأزهر حَكيم الأمة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار

المصرية، فإن فيها حياة الأمة وبيان شفائها من أمراض شقائها، واقترح آخرون

علينا أن ندرج فيه ملخص الخطب النافعة التي يلقيها كاتب هذه السطور وغيره من

الأفاضل في جمعية (شمس الإسلام) وإجابة هذه الاقترحات يتوقف على جعل

(المنار) مضاعف حجمه الآن مع بقائه أسبوعيًّا، فهل يوجد في القارئين عدد كثير

يضاعف لنا الثمن حتى نتمكن من هذا العمل من غير خسارة مالية لا نستطيع

احتمالها؟ ما لا يدرك كله لا يترك قله، وقد رجّحنا أن نزيد في (المنار) كراسة

ونصدره في الشهر ثلاث مرات، أو كراستين ونصدره مرتين، ونبدأ بإجابة

الاقتراح الأخير بعد نشر آخر كتابة وردت لنا فيه وهي:

جناب الأستاذ الفاضل:

حضرتُ أمس بجمعية (شمس الإسلام الخيرية) فوجدت فيها ما حقق ظني

وما كنت أنتظره من حضرات مؤسسيها الكرام من نقاوة المواضيع وصدق النية

والإخلاص لجلالة السلطان وعزيز مصرنا حتى كنت أهتز طربًا حين قمتم وفسرتم

قوله تعالى في الطاعة والتقوى والاقتصاد مما تُلي من الآيات في مبدأ الجلسة

وبرهنتم أن هذه الآيات وحدها تكفي لسعادتنا الدنيوية والأخروية، وازداد سروري

حين قام الأستاذ الفاضل الشيخ علي الجربي وكشف الحجاب عن بعض ما خفي من

أسرار الدين، لا سيما وقد أتبعتم كلامه بأن أوضحتم في بعض ما قلتموه أن المرض

الذي يعم المسلمين الآن ليس هو عدم معرفتهم ما هم عليه الآن من الشقاء مما هو

معروف لدى العام والخاص، ولكن المرض كل المرض في جهل الأسباب التي

جرّت علينا هذا الشقاء الذي يكاد أن لا ينتهي، وعدم إيجاد الطرق الموصلة إلى

إنقاذنا منه مما لا يقدر عليه إلا كل عالم متمكن حكيم متبصر، وأتبعتم قولكم ببعض

مباحث أخرى مما وقع موقع الاستحسان لدى الحضور، وإني أشكر حضرة الأستاذ

الفيلسوف على خدمة الإسلام والمسلمين، كما أني أدعوه أن لا يَكِلّ مهما تصدر

أمامه من الصعوبات، حيث إن الخدمة لله، وكفاكم بالله قوة وعونًا ، غير أنه سنحت

لي فكرة وجدت من حقوق الإسلام أن أسردها على مسامع حضرتكم، ولعلها تقع

لديكم موقع القبول، وهي أن تلك المواضيع والأفكار التي يقولها الخطباء وتقولونها

أنتم في محفل الجمعية كما ينتفع منها الذي حضرها، كذلك يلزم أن يستفيد منها من

عاقه عن ذلك بُعد المكان مثلاً، ولتحقيق هذه الأمنية أقترح أن يخصص محل في

جريدتكم يكتب فيه ملخص المواضيع التي يراد البحث فيها في كل أسبوع، وهي

ليست بأقل أهمية من الدرس الديني الذي تكتبون له ملخصًا في جريدتكم الغرّاء،

فالكل راجع للدين وهو الغرض، وليست غير مجلتكم أولى بنشر تلك النصائح التي

تلدها أفكار الخطباء، وتثبت أمام الجميع صحتها ويظهر نفعها، فأكرر الكلام على

حضرتكم في قبول هذا الاقتراح، وليس هناك فرق بينكم وبين الجمعية فإنكم من

الجمعية والجمعية منكم، ويلزم أن تكون جريدتكم لسان الجمعية وترجمان مقاصدها

كما تفعل جمعية (مكارم الأخلاق الإسلامية) هذا وأرجو أن لا تحوجوني إلى التكرار

في هذه المسألة المهمة، ولقد صارت الآن الجمعية عمومية، فلا ضرر أن تنشر

أفكارها بين المسلمين الأعضاء منهم وغير الأعضاء، ولا أشك في أن تنشر في

عدد (المنار) الآتي إن شاء الله تعالى ما خص مواضيع هذا الأسبوع لاعتقادي أن

هذا ليس ضد مشروعكم الذي هو منفعة الإسلام والمسلمين، وعلى أي حال فإني

شاكر لحضرتكم، والسلام.

...

...

...

... أحد المسلمين

...

...

...

ومن المشتركين في مجلة المنار

_________

ص: 726

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌طائفة من الأخبار

(الاجتماع الأسبوعي العام لجمعية شمس الإسلام)

افتتحت الجمعية من نائب الرئيس، بسم الله وحمده والصلاة والسلام على نبيه

والدعاء لمولانا أمير المؤمنين الأعظم، ثم لعزيز مصر المعظّم، ثم شنّف الأسماع

فقيه الجمعية الفاضل بتلاوة قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ

أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} (الفرقان: 62) إلى آخر السورة، ثم قام خطيب

الجمعية منشئ هذه المجلة وخطب خطبة مطولة في بيان ما أرشدت إليه الآيات

الكريمة من أسباب سعادة الدنيا والآخرة [*] تكلمت أولاً في المحافظة على الوقت

وعدم تضييعه سدى، ثم في محاسبة الإنسان نفسه في الليل على عمل النهار

وبالعكس، وعند ذلك يرى أحد أمرين إما أنه كان مقصرًا في أداء ما يجب عليه

لربه أو لنفسه أو لأهله أو لأمته، وإما أنه كان مشمرًا وقام بما يجب وأدّى الحقوق،

فإن كان الأول وجب عليه أن يذّكر تقصيره ونتائجه الوخيمة فيتعظ ويتدارك في

الليل ما فاته في النهار وبالعكس: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ

ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب} (النساء: 17) وإن كان الثاني وجب عليه أن يشكر لله

فضله عليه بالتوفيق للجد والتشمير بأن يزداد ثباتًا، ثم بعد الإسهاب في معنى هذه

الآية بينت أن الآيات التي بعدها شرعت لنا طلب سعادتي الدنيا والآخرة بالعمل،

أما سعادة الدنيا فأركانها ثلاثة: الغنى والثروة وقرة العين بالأهل والذرية والجاه

الرفيع بالحق، وقد شرع الله لنا طلب الركن الأول بمشروعية سببه وهو الاقتصاد

حيث قال في أوصاف عباده المرضيين عنده: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ

يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: 67) وقلّما يفتقر مقتصد.

وشرع لنا طلب الركنين الآخرين بقوله عز من قائل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا

هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74)

ولا جاه أعلى ولا شرف أرفع من كون الإنسان إمامًا وقدوة لخيار الناس وأفاضلهم

وهم المتقون، وبينت أنه ليس المراد من الآية طلب هذين الأمرين الجليلين باللسان

فقط، فإن الله تعالى لا يعبأ بدعاء من لا يوافق قلبُه وعملُه لسانَه، فيجب علينا أن

نطلب كل شيء بصدق القصد من قلوبنا والعمل الذي تقتضيه الأسباب والسنن

الإلهية في الكون ثم نطلب من الله بألسنتنا المترجمة عن قلوبنا أن يسهل علينا ما لا

يناله كسبنا من أسباب ذلك.

وأما سعادة الآخرة فهي رضوان الله تعالى ومثوبته في دار كرامته، وقد عبّر

عنها بعد ذكر أسباب سعادة الدنيا والآخرة بقوله: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا

وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} (الفرقان: 75) فجعل تحصيل سعادة الدنيا من

أسباب سعادة الآخرة، وذكر من أسباب السعادتين أركان الدين الأربعة وهي:(1)

التوحيد، ذكره بقوله:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} (الفرقان: 68)

و (2) ترك المعاصي، ونبه عليها بذكر كبائرها، وهي القتل والزنا وشهادة الزور،

و (3) الآداب والفضائل، أرشد إلى مهماتها كالسكينة والتواضع ومتاركة الجاهلين

والسفهاء والإعراض عنهم بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً

وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان: 63) وكالاقتصاد، وقد ذكرنا

آيته من قريب، وكاليقظة والاعتبار بآيات الله المسموعة والمشاهدة والانتفاع

بالتذكير بها: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُماًّ وَعُمْيَاناً} (الفرقان: 73) وكالإعراض عن اللغو وهو كل ما لا فائدة فيه: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ

مَرُّوا كِرَاماً} (الفرقان: 72) وكالخوف من الله تعالى الذي يكبح النفس عن

المعاصي، وإليه الإشارة بقوله:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} (الفرقان: 65) و (4) الأعمال الصالحة ذكرها إجمالاً بقوله: {وَمَن تَابَ

وَعَمِلَ صَالِحاً} (الفرقان: 71) إلخ، وخص منها بالذكر القيام بالليل للصلاة،

وكل ما ذكر من الآداب آنفًا تتبعه أعمال تناسبه ويدخل في هذا تربية الأولاد، فإنهم

لا يكونون قرة أعين إلا بالتربية الصحيحة.

هذا مجموع المعاني التي كانت مدار خطبة هذا العاجز، رمزت إليها رمزًا من

غير مراعاة ترتيب الآيات ولا ترتيب الإلقاء، ولو كتبت كل ما تذكرته منها لاستغرق

عدد (المنار) كله، وقد أسهبت في ذم الإسراف والحث على الاقتصاد إسهابًا،

وجاءت على لساني كلمات في ذلك استحسنها القوم استحسانًا، أذكر منها كلمتين:

إحداهما أن معظم الأموال التي تفيض بها راحات أغنياء هذه البلاد إسرافًا وتبذيرًا

تذهب إلى الأجانب، فالذنب فيها يضاعف ضعفين ربما كان أكبرهما هو الذي لا يلقي

له أحد بالاً، وهو الإدلاء بثروة الأمة إلى الأجانب، ففيه إضعاف للأمة وتقوية

لخصمائها في عمل واحد، و (الثانية) في الحث على حفظ رقبة البلاد في أيدي

أهلها، قلت: إن فدانًا من الطين يبتاعه أجنبي من وطني يؤلمني ويمضني ما لا

يؤلمني نزع أكبر وظيفة من وطني وتطويق الأجنبي بها؛ لأن رقبة البلاد إذا زالت

من أيدينا إلى أيدي هؤلاء الغرباء الأغنياء وأمسينا فيها عمالاً وأجراء - فقدنا البلاد

والسلطة معًا فقدًا لا يرجى له عود، وإذا فقدنا السلطة وبقيت لنا البلاد، فلا يبعد أن

يأتي يوم من الأيام نكون فيها أمة متحدة لها قول يسمع ورأي عام يعمل به، فنقول:

نحن أولى بحكم بلادنا من غيرنا، فلا يستطيع أحد أن يرد علينا، ولكن إذا ذهبت

رقبة البلاد منا وفرضنا أنه يمكننا مع الفقر والفاقة أن نملأ هذه الأدمغة الجاهلة علمًا

وحكمة، ونفرغ في هذه القلوب الفارغة حمية وهمة، ونجعل هؤلاء الأشتات شيئًا

واحدًا، فبماذا تطالب الأمة والبلاد ليست بلادها؟ وأبنت بالأدلة والبراهين أن

الاقتصاد فرض على المسلمين، وحسبك من الوعيد على تركه قوله تعالى: {إِنَّ

المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} (الإسراء: 27)

وفندت قول بعض الشيوخ في مصر - ولم أذكر اسمه - أن الاقتصاد في المعيشة

أمر مندوب لا واجب، وقد قال مثل ذلك في تدبير المنزل وتربية الأولاد! ! وبينت

أننا ما دمنا نلتفت لهذه الأقوال الخادعة لا تقوم لنا قائمة، ثم قام في إثري الأستاذ

الفاضل الذي وقف نفسه على الدعوة إلى الله ووعظ المسلمين وإرشادهم حيث كان -

الشيخ علي أبو النور الجربي- وأفاض على الحاضرين من الحكم المأثورة، بل الدرر

المنثورة ما أعجب به القوم إعجابًا، كيف وهو لم يترك ركنًا من أركان الدين

الأربعة التي مر ذكرها إلا وحوّم عليه، وجاء بالمحاسن مما يذكر فيه: تكلم في

التوحيد فأجاد، ثم انتقل إلى الوعظ فأفاد، ذكّر بالآخرة ولم يغفل نصيب الإنسان من

الدنيا وحث على التوبة ورغّب فيها، وأثنى على الجمعية وحث عليها، وأظهر

الأسف مما بلغه من وجود حزازة بين جمعية (شمس الإسلام) وجمعية (مكارم

الأخلاق) .

ولما فرغ من مقاله وهدأت شقائق ارتجاله، تعقبه كاتب هذه السطور فأبان

للحاضرين أن منازع الجمعيات ومقاصدها إنما تعرف من قوانينها، وأننا قرأنا

قانوني الجمعيتين، فلم نجد فيهما اختلافًا يوجب الحزازات أو الضغائن، بل وجدنا

أن الغرض واحد وهو خدمة الملة والأمة، ثم قلت: إن الأستاذ معذور لأنه ما قال

إلا ما سمع، ولكن كلام واحد أو آحاد من جمعية في أي شأن من الشؤون لا يجوز

أن يحكم به على الجمعية، كما لا يجوز أن ينسب ذنب المسلم أو المسلمين إلى

الإسلام نفسه، نعم إن أكثر الناس يتخذ كلام رئيس الجمعية حجة في مثل هذا المقام،

وأن الأستاذ لم يجتمع برئيس جمعية (شمس الإسلام) قط.

والصواب أن الرئيس والمرؤوس في هذا المقام سواء، ومقاصد الجمعيات إنما

تعرف من قوانينها كما قلنا، وإننا نصرح على رءوس الأشهاد بأن جمعيتنا وجمعية

(مكارم الأخلاق) سواء وكُلنا إخوان غرضُنا واحد، وتعقبته أيضًا بكلام وجيز في

حقيقة التوبة، والسبب في إصرار الناس على المعاصي والرذائل، وما هو إلا فساد

التربية والتعليم إلخ.

ثم قام صديقنا الفاضل المهذب الشيخ أحمد المحمصاني وألقى خطابًا وجيزًا في

تهذيب المرء نفسه، استشهد له بآثار السلف الصالح فأجاد وأفاد وحمده الحاضرون،

ثم ختم الاجتماع كما افتتح بالحمد والصلاة والدعاء لأمير المؤمنين ولأمير هذه البلاد

وتلاوة القرآن الشريف.

***

(المجاعة في الهند)

يقرب عدد الجائعين فيى الهند الذين تمونهم الحكومة من أموال إعانة المجاعة

نحو ثلاثة ملايين، ولم يزل المطر منحبسًا، فالرجاء في غلة هذا الشتاء ضعيف،

فنسأل اللطف من اللطيف.

***

(انخفاض النيل وتوقع الجدب ووجوب الاقتصاد)

اتفقت الكلمة وثبت رسميًّا عند الحكومة أن انخفاض النيل في هذه السنة لم يُعهد

له نظير في تاريخ النيل، ولا يزال الهبوط مستمرًّا حتى امتنع سير السفن في بعض

بلاد السودان، ويقال إن عمق الماء لا يزيد عن متر واحد قرب مروي ، بل يقال: إن

الانخفاض شوهد في بحيرة فيكتوريا منبع النيل الأكبر بدرجة لم تعهد من قبل، فإذا

كانت العلة في المنبع فالأمر مخوف والخطر متوقع، والعياذ بالله تعالى، ولقد كانوا

يتشاءمون في بعض المجالس العالية من سنين كسنيّ يوسف عليه السلام، وقد سخر

الله تعالى في تلك السنين نبيًّا من أنبيائه عالج للمصريين ذلك الداء الدوي، ومن عساه

يعالجه في هذه الأيام؟ نعم إن سهولة المواصلات في هذا العصر تمكن التجار من

جلب الغلات إلى هذه الديار من جميع الممالك والأقطار، فلا يهلك الناس، ولكن التجار

لا يرحمون فقيرًا ولا مسكينًا، فأين المال عند هؤلاء الفلاحين الذين هم الجزء الأكبر

من سكان مصر، وإننا نراهم يبيعون أطيانهم ويرهنونها في وقت الرخاء

والخصب.

قدّر المقدّرون الأطيان التي لا يكون لها حظ من الريّ بسبب عدم وفاء

النيل في هذه السنة بنحو 300 ألف فدان؛ فاضطرب الناس لذلك اضطرابًا، فإذا لم

يكن وفاء - ونسأل الله أن يكون - في السنة القابلة وزاد الهبوط والنزول، فماذا

يكون من شأن الناس في هذه البلاد التي لا يدّخر أهلها الغلال ويعسر

فيهاالادخار لرطوبة أرضها أي عسر؟ ثم ماذا يكون من أمرهم اذا دام ذلك

سبع سنين كما كان في زمن يوسف لا قدّر الله ذلك؟ إنما غرضي من كتابة هذه

الكلمات الثقيلة على السمع المؤلمة للنفس ، حث الناس على غاية الاقتصاد في

النفقات استعدادًا لما عساه يكون مخبوءًا لنا في المستقبل، فاذا وقع المحذور كان

العلاج موجودًا، فإننا في زمان لا يموت فيه جوعًا صاحب المال إلا إذا عمّ القحط

الدنيا كلها وإذا جاء - إن شاء الله - الخصب والإقبال، فلا تضرنا إضافة المال إلى

المال، وقد كنت كتبت في (المؤيد) الأغر مقالة مخصوصة في تنبيه أهل الزراعة

(وأكثر أهل مصر أهل زراعة) إلى وجوب الاقتصاد التام في النفقات والاستعداد

لما هو آت، وهذه نبذة مذكرة بتلك {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .

***

(استعداد الدول الحربي ومطامعها)

السياستان الخارجية والحرية في الدول هما مظهران للتمويه والخداع،

ومجليان للمواربة والدهان، قيصر الروسيا هو الجدير بأن يسمى قيصر الحروب،

ولكنه أحب أن يلقب بقيصر السلام، فطلب من الدول وهو مجدٌّ في الاستعدادات

الحربية برية وبحرية أن يعقد مؤتمرًا للبحث في تقليل الاستعدادات الحربية وتخفيف

نكبات الحرب ومصائبها، بل والبحث في منعها والالتجاء للتحكيم عند النزاع وما

انفض المؤتمر إلا وزاد الاستعداد وقويت المطامع وامتدت، فإنكلترا اضطرت

الترانسفال إلى الحرب الحاضرة لتستولي على بلادها، فأرادت الروسيا اغتنام

الفرصة والاستفادة من اشتغال إنكلترا بالحرب بأخذ ميناء من مواني خليج العجم

وإنشاب براثنها في أحشاء هرات، أو إنشاء وكالة روسية في بلاد أفغانستان وسكك

حديدية في إيران، وقد ظهرت منها بوادر السعي لهاته الأماني في البر والبحر

كإرسال العساكر إلى حدود أفغانستان، ولا ندري ماذا تكون أواخره، وقد شاع أنها

استولت على جزيرة يابانية، وألمانيا قد زادت في ميزانيتها مبلغًا كبيرًا من المال

لتقوية البحرية التي هي أكبر أماني إمبراطورها الحازم، وقد احتفلت أخيرًا بإنزال

سفينتين عظيمتين إلى البحر اسم إحداهما (ديتشلاند) والأخرى (ألمانيا) وقد

خطب وزير الخارجية بيلوف يوم إنزال هذه خطبة قال فيها: (ولقد علمت ألمانيا أن

كل دولة ليس لها قوة بحرية تكون في مرسح العالم كالشخص الأخرس في مرسح

التمثيل) واليابان تبذل أيضًا في هذه الأيام الأموال الكثيرة لجعل قوتها البحرية

مساوية لقوى بعض الدول البحرية الكبرى في أوروبا فأوصت معاملها والمعامل

الأجنبية بعدة مدرعات، وتجتهد أيضًا في تحسين أسلحتها وزيادة جيشها، وتقول

إحدى الجرائد: إن الشهر الآتي موعد لنزول 20 بارجة إلى البحر، قوة كل واحدة

منها ستة آلاف حصان، وتسير في الساعة ثلاثين ميلاً لألمانيا منها عشر، ولإيطاليا

ست، ولروسيا أربع، وفرنسا قررت أيضًا زيادة أساطيلها وتقوية موانيها،

وتسعى في تعزيز مستعمراتها في إفريقيا والهند الصينية، وأما بريطانيا العظمى فقد

اجتمع رأي ساستها على تحسين حال الجيش البري وتقويته لما أظهرته هذه الحرب

فيه من الخلل والضعف وقال برسفورد ثاني قواد الأسطول الإنكليزي في البحر

المتوسط: (إذا استمرت الدول الأوربية على زيادة أساطيلها استمررنا نحن أيضًا

على الزيادة وسبقناها بمراحل؛ لأننا أسرع في بناء البوارج من مزاحمينا

والأموال والرجال كثيرة عندنا جدًّا) وقد جعلت هذه الدولة أساطيلها القوية على قدم

الاستعداد في كل آن إرهابًا للدول الطامعة التي ربما تنتهي بها الشماتة إلى العدوان.

وقرأنا في جريدة (بيروت) أن نظارة بحريتها قد أصدرت أمرًا بمنع إخراج الفحم

الحجري من المناجم الإنكليزية، وعدم إرساله بالمرة إلى فرنسا وروسيا وغيرهما،

وأكثر مناجم الفحم للإنكليز، فلا تستغني عنها دولة أوربية، فلا جرم كانت هذه

العقوبة شديدة.

_________

(*) العادة التي يجري عليها هذا الفقير في خطب الجمعية هي أن يقول ما يفتح الله به عليه من فهم الآيات القرآنية التي يفتتح بها القارئ الجمعية من عند نفسه ، وكتاب الله كله حِكم وعِبر.

ص: 728

الكاتب: مصطفى صادق الرافعي

‌ذم الهوى

للأديب اللوذعي صاحب الإمضاء مصطفى صادق الرافعي

أجدك ما تصارعك المدام

ويصرع قلبك الصب الغرام

وتظمئك المراشف كل آن

وتقتلك المعاطف والقوام

لعمرك ما تجلّد مستهام

بما يرضى ويبغي المستهام

ولكن شيمة الولهان صبر

وإن أودى به الموت الزؤام

أيقتلك الظباء وأنت ليث

ويسبيك ابن سام وأنت حام

تسهدك الدموع فلا منام

وهل يرضى بعينيك المنام

وتصيبك الصبا والليل شيخ

وتشجيك البلابل والحمام

تظل تلوم قلبك أن تسالى

وتجزع أن يلم بك الملام

فداؤك صحة والداء داء

وصحتك التي ترجى سقام

رويدك ما الهوى إلا هوان

وهل يرضى العنا إلا اللئام

ومن خبر الغواني فالغواني

ضياء في بواطنه ظلام

ألنّ لك الحديث فلنت قلبًا

وعهدي ما يخادعك الكلام

وكنت تذود نفسك عن حياض

وقد وردت فما هذا المقام

أريش لها سهام صائبات

ومثلك لا تراش له السهام

فطورًا يأسر القلب العذارى

وطورًا يأسر القلب الغلام

سقطت وكنت ذا نفس عصام

ولكن ماوراك يا عصام

أقال الله كن عبد الغواني

حرام يا فتى ليلى حرام

تمر على المساجد غير باكٍ

وتبكيك المنازل والخيام

ويذكرك الحمام إذا تغنى

ولا ذكرى إذا غنّى الحِمام

أتطمع في السماء ولا رقي

وما يُروى من الآل الأوام

فديتك ليس هذا عصر ليلى

على ليلى من العصر السلام

قصور غير تلك وخندريس

سوى تلك التي فيها الختام

...

...

...

... مصطفى صادق الرافعي

_________

ص: 734

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(أخبار الأستانة العلية)

صدرت الإرادة السنية السلطانية بأن يُصنع في هذه السنة ستار الروضة

النبوية الشريفة من نفقة مولانا أمير المؤمنين الخصوصية على أحسن طراز وأكمله

إتقانًا، منقوشة عليه الأحاديث النبوية بأحرف من فضة، وهذا الستار يجدد في كل

ثماني سنين مرة، وصدرت الإرادة السنية أيضًا بترميم الروضة الشريفة وتزيينها

وزخرفتها، فأُرسل من الأستانة المهندسون لملاحظة هذه الأعمال، وصدرت إرادة

أخرى بإنشاء حوضين للماء في طريق الحجاج إلى مكة والمدينة المكرمتين.

***

(تقرير إصلاح المحاكم الشرعية)

يتشوف القضاة والموظفون في المحاكم الشرعية عمومًا وأكثر الناس الذين

يهمهم أمر بلادهم لا سيما فى أقدس المصالح وأهمها - إلى الاطلاع على تقرير

فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح هذه المحاكم وإمعان النظر فيما جاء فيه من

وجوه الإصلاح التي اتفقت الجرائد مع كل من اطلع على التقرير على استحسانها،

ولقد كنا ننشره تباعًا (كمصباح الشرق) ولكن مع حذف واختصار، ثم رأينا أن

تعميم فائدته تتوقف على طبعه كله منفردًا ، وطبع لائحة المحاكم التي يتوقف فهم الكثير من جمله على مراجعتها معه، فشرعنا به وسيتم طبعه في هذا الأسبوع.

***

(اللواء والخلافة وانتقاد المنار)

كان لما كتبناه في الانتقاد على جريدة (اللواء) في الإرجاف بمسألة الخلافة

أحسن وقع عند الكبراء والفضلاء، واعترفوا لنا بأننا صدعنا بالحق ودافعنا عن

شرف مقام الخلافة الأعلى ومتبوّئ أريكته - مولانا السلطان عبد الحميد خان - أيده

الله تعالى - أحسن المدافعة ولم يختلف في هذا أحد، ولكن رهط الوطنية

المصطفوية - وقليل ما هم - قد استاؤوا خوفًا من أن يسد في وجوههم الباب

المفتوح. وأوعزوا - إلى بعض المتملقين أن يدافع عن اللواء في محفل عام، ففعل

ابتغاء رتبة أو وسام ينالها من مقام الخلافة الإسلامية الذي مست كرامته جريدة (اللواء)

وكنا نتوقع إن تحقق صاحب (اللواء) ظننا فتلصق وسواس الخلافة

العربية الإنكليز دون المسلمين، فبدا لنا ما لم نكن نحتسب حيث منع

إرسال (اللواء) إلينا خشية انتقاد آخر

_________

ص: 735

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المسجد الحسيني

نشكر لحضرة الأستاذ الفاضل السيد علي الببلاوي نقيب السادة الأشراف

عنايته في رمضان هذه السنة بمنع القُصّاص الجهلاء من التدريس في المسجد

الحسيني ، ومنع كثير من المنكرات الأخرى كالذين يخدعون العامة ببيع التعاويذ

والتمائم ونحوها، أو بتلقين الأدعية التي لم تؤثر في أوقات الصلاة، ويخترعون

لتعاويذهم وأدعيتهم فوائد ومنافع دينية ودنيوية ما أنزل الله بها من سطان ليأكلوا

أموال الناس بالباطل، ولقد صدق هذا السيد الفاضل في قوله لنا: إن البدع

والمنكرات العامة إنما تزال بالتدريج، والمرجوّ من غيرته أن يرتقي في هذا التدريج

حتى يُمحى من المسجد كل ما يأتيه الناس من تلك البدع والمنكرات، وحبذا لو عين

من قِبله رجلاً أو رجلين ممن طلب العلم ليتلقوا من يزور المقام الحسيني ولو في غير

أوقات الزحام ويعلموهم الزيارة الشرعية الموافقة للسنة السنية، فيبطل بذلك هذا

السجود مع الخضوع والخشوع وتقبيل الأعتاب والتمسح بعمود الرخام للاستشفاء

والتبرك، وإذا صارت الزيارة في المقام الحسيني شرعية فإنها بعد زمن من قليل

تعم مصر كلها، وإذا حصل مثل هذا أيضًا في المسجد الزينبي يكون الزمن أقل

والمدة أقرب.

قد ذكرت الآن أن لفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر العناية التامة

بالمسجد الزينبي، وهو رئيس المدرسين فيه، فإذا أمر بعض الموظفين في المسجد

أو أحدًا من غيرهم بأن يعلم الزائرين الزيارة الشرعية وآدابها، فليس هذا بكثير

على غيرته على الدين القويم.

وإذا طلب الشيخان من الأوقاف تعيين أجرة مخصوصة لمن يقوم بهذا العمل

فلا نظن أن الأوقاف تتوانى في الإجابة، وإن الرجاء في الشيخين الجليلين فوق ما

اقترحنا، وإن الله لمع المحسنين.

_________

ص: 735