المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أميل القرن التاسع عشر - مجلة المنار - جـ ٢

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (2)

- ‌28 شوال - 1316ه

- ‌خطاب وعظي للإنسان

- ‌الإيثار

- ‌التربية والتعليم

- ‌الحوادث والأخبار التاريخية

- ‌6 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الإيثار

- ‌الحبالى وتربية الأجنة(1)

- ‌التعليم بالعمل

- ‌ما قيل في الخال

- ‌الجامع الأزهر الشريف

- ‌الأخبار والآراء

- ‌13 ذو القعدة - 1316ه

- ‌تأثير العلم في العمل

- ‌أيها الفتى

- ‌أخبار الحجاج

- ‌اعتذار

- ‌20 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الاتحاد

- ‌اختيار المعلمين

- ‌الحدود بين القطر المصري والسودان

- ‌27 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الإصلاح الإسلامي

- ‌تأثير الوعظ والتذكير

- ‌عبرة لمن يعقل

- ‌إحصاء الأوقاف

- ‌تنازع الدول الأوربيةعلى الممالك الإسلامية

- ‌5 ذو الحجة - 1316ه

- ‌الإصلاح الإسلامي

- ‌عداء وخداع

- ‌الجمعية الإسلامية الهندية في لاهور

- ‌19 ذو الحجة - 1316ه

- ‌الأعياد

- ‌الساكت عن الحق شيطان أخرس

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌26 ذو الحجة - 1317ه

- ‌التعليم القضائي

- ‌المتكلمة بالقرآن

- ‌مقتطفات

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌3 محرم - 1317ه

- ‌الاعتماد على النفس

- ‌استنهاض همم(2)

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌10 محرم - 1317ه

- ‌التصرف في الكون

- ‌استنهاض همم(3)

- ‌التربية النفسية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌17 محرم - 1317ه

- ‌حياة الإسلام في مصر

- ‌استنهاض همم(4)

- ‌الطاعون واتقاؤه

- ‌كتاب تحرير المرأة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌24 محرم - 1317ه

- ‌استنهاض همم(5)

- ‌التربية النفسية

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مسألة القضاء الحاضرة

- ‌2 صفر - 1317ه

- ‌العز والذل

- ‌استنهاض همم(6)

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌9 صفر - 1317ه

- ‌فهم الدين

- ‌استنهاض همم(7)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الأخبار

- ‌16 صفر - 1317ه

- ‌كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية

- ‌استنهاض همم(8)

- ‌مراكش

- ‌ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [[

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مقتطفات الأخبار

- ‌23 صفر - 1317ه

- ‌النهضة الإسلامية في مصر

- ‌استنهاض همم(9)

- ‌إزالة شبهة

- ‌اختبار علم كل عارفمن ألباء أرباب المعارف

- ‌وفاة

- ‌29 صفر - 1317ه

- ‌استنهاض همم(10)

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أرزاء وطنية

- ‌يستحيل إرضاء الناس

- ‌ وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى [[

- ‌7 ربيع الأول - 1317ه

- ‌كان يا ما كان(2)

- ‌استنهاض همم(11)

- ‌الكتابان الجليلان

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الاحتفال بتذكارالمولد النبوي الشريف

- ‌14 ربيع الأول - 1317ه

- ‌المولد النبوي

- ‌كان يا ما كان(3)

- ‌استنهاض همم(12)

- ‌مَضَارُّ الْغِلْظَةِ فِي التَّرْبِيَة

- ‌تأييد عالم وتفنيد واهم

- ‌شعر في حب العلم

- ‌21 ربيع الأول - 1317ه

- ‌الحياة المِلِّية

- ‌كان يا ما كان(4)

- ‌استنهاض همم(13)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مدرسة الجمعية الخلدونية

- ‌إحصاء عن عدد سكان أوربا

- ‌28 ربيع الأول - 1317ه

- ‌الجنسية والدين الإسلامي

- ‌كان يا ما كان(5)

- ‌استنهاض همم(14)

- ‌تعليم النساء

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌5 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌الجامعة الإسلامية

- ‌استنهاض همم(15)

- ‌حقوق الجار ومدح المناربما يبديه من هدي الكبار

- ‌الإسلام في البرازيل

- ‌12 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌الدين والدولةأو الخلافة والسلطنة

- ‌كان يا ما كان(6)

- ‌خاتمة رسالةاستنهاض همم

- ‌تنبيه

- ‌دم أضاعه أهله

- ‌عناصر النمسا

- ‌19 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌كلمة في الحجاب

- ‌تهنئة الأستاذ المفتي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌26 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌تحريف الكلم عن مواضعه

- ‌الحديث الموضوع

- ‌الاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني

- ‌كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌3 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌حقوق الأخوة(3)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌10 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌حقوق الأخوة(4)

- ‌الوثنية في الإسلام

- ‌نجاح الجمعيات الإسلامية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌17 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌ماذا نعمل

- ‌المسلمون في روسيا

- ‌الأميرة الفاضلة صاحبة الدولةالبرنسس نازلي هانم أفندي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌24 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌القسم الثانيمن خطبتنا في التربية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌2 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌رد على باحث في كتابسر تقدم الإنكليز السكسونيين

- ‌القسم الثانيمن خطبتنا في التربية

- ‌شذرات

- ‌9 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أخبار وآراء

- ‌16 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌فلسفة الحرب الحاضرة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الشكوى من ظلم هولندا

- ‌وفاة والدة عبد الحليم أفندي حلمي

- ‌23 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌ذكرى لرؤساء الأمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أهم أخبار الحرب

- ‌شكر

- ‌30 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌الفرصتان

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌أهم أخبار الحرب

- ‌عودة الخديوي وأسرته

- ‌منع جريدة المشير

- ‌المدرسة العثمانية

- ‌إزالة وهم تاريخي

- ‌بعض التفصيل

- ‌6 رجب - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌بدع رجب

- ‌14 رجب - 1317ه

- ‌مناشير المهدي السوداني

- ‌فائدة الانتقاد

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌21 رجب - 1317ه

- ‌عزاء

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌بضعة أيام في خدمةجمعية شمس الإسلام

- ‌إصلاح غلط

- ‌28 رجب - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الدولة العلية في أفريقية

- ‌مساجد الصعيد

- ‌6 شعبان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأسطول الفرنساوي

- ‌رزء وطني عظيم

- ‌كنسة الإمام

- ‌13 شعبان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المنار والمناظر

- ‌السيول الجارفة

- ‌الجغرافيا والحرب

- ‌20 شعبان - 1317ه

- ‌الشريعة والطبيعةوالحق والباطل

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌عيد المولد الهمايوني

- ‌العالم الإسلامي

- ‌الحرب الحاضرة

- ‌27 شعبان - 1317ه

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌5 رمضان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌12 رمضان - 1317ه

- ‌اقتراح على السادة العلماءفي تقويم اعوجاج الوعّاظ والخطباء

- ‌الصيام والتمدن(2)

- ‌التقريظ والانتقاد

- ‌مأثرة لجمعية شمس الإسلام

- ‌19 رمضان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌26 رمضان - 1317ه

- ‌الزكاة والتمدن(2)

- ‌الاقتراح على المنار

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌ذم الهوى

- ‌الأخبار والآراء

- ‌المسجد الحسيني

- ‌10 شوال - 1317ه

- ‌طفولية الأمّةوما فيها من الحيرة والغمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الاجتماع العامفي جمعية شمس الإسلام

- ‌الأخبار والآراء

- ‌17 شوال - 1317ه

- ‌الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌جمعية شمس الإسلامفي القاهرة

- ‌الأمراء والعلماء

- ‌أفكوهة غريبة

- ‌خاتمة السنة الثانية للمنار

الفصل: ‌أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

(19)

من أراسم إلى هيلانة في أول مايو سنة -185

تسألينني في خاتمة مكتوبك عما نسمي به ولدنا، نسميه (أميل) إذا كان ذكرًا؛

إحياءً لذكر ذلك الكتاب [1] الذي كنت أقرأه لك في مطالعاتنا الليلية، فكان في نفسك

مبعث الطرب والإعجاب حتى إني كنت أكف عن القراءة حينًا بعد حين لأشاهد

وجهك في ضوء المصباح، فأتبين فيه ذلك، ياله من عهد تحفظه ذاكرتي لتلك الأيام

السعيدة.

من البدع التي جرت بها ألسنة الأكياس [2] من الناس منذ حين سبهم جان جاك

روسو واحتقارهم إياه، فويل لهم مما يرمون به قبر ذلك الكاتب العظيم من نبال

اللعن والقدح، وإنهم لجديرون بالرثاء لعقولهم، لم يكن ذنب الرجل الكبير سوى أنه

خالف سنة أهل النظر في عصره وهي اعتقادهم في إصلاح المجتمع الإنساني على

الرجال ومخاطبتهم إياهم فيه بأن وجَّه خطابه إلى الوالدات والأطفال، وهوأمر هداه

إليه ما فُطر عليه من جودة الطبع وذكاء القريحة، على أننا لو جردنا كتاب (أميل) مما

فيه من العبارات الفصيحة التي امتلات بها صحفه، والشتائم الشديدة المنبعثة

عن وجدان كبر عليه احتمال الضيم والهوان، والحماسة في نصرة الفضيلة،

والانفعالات الشريفة التي كانت تعرو مؤلفه المؤمن بالله دون وحيه لأنبيائه عند

نظره في بدائع الصنع ومحاسن الكون- لوجردنا الكتاب من كل ذلك فما الذي يبقى

لنا فيه؟ يرجع كل ما قاله المؤلف في الطريقة التي أراد وضعها للتربية إلى هذه

القاعدة، وهي السير علي مقتضى الفطرة ومعاملة الأطفال معاملة العقلاء، نسلم له

ما يقول، ونحن نرى أن اتباع الفطرة في كل ما تدعو إليه يفضي بالطفل إلى حالة

التوحش والهمجية، لكن ذلك الحكيم على عدم إيمانه بالوحي كان يعتقد أن أصل

الكمال في الفطرة والنقص إنما يعرض لها من فساد التربية، أما كلامه في خطاب

العقل، فلا شك أنه جدير بأن تصاغ له من أجله أجمل عبارات المدح تنويهًا بفضله،

ولا بدع في أن عَرِف له القرن الثامن عشر قدره بعد إنكاره، فأقام له من الآثار ما

خلد ذكره وأحيا اسمه، لكن العقل من دون جميع قوى الإنسان هو الذي يكون في

طور الطفولية أقلها نموًّا، فكيف إذن يعتمد على هذه القوة الكامنة في إيصال معنى

الخير إلى نفس الطفل.

لروسو فوق ذلك أغاليط أخرى كان يعتقد صحتها، وكان من شأنها أن تعوقنا

عن التقدم في أخلاقنا وأوضاعنا، من هذه الأغاليط: اعتقاده بوجوب الرضوخ لما

للجمهور الأغلب من السلطة المطلقة، فإنا نجده في كتابه المسمى (بالعقد

الاجتماعي) قد انتصر للحكومة فيما تدعيه لنفسها من حق تربية الأمة بما

أقامه عليه من البراهين.

ألا أُبين لك كيف كان نفع روسو للأطفال خاصة بما نشره في كتبه من الانتصار

لهم والدفاع عن حقوقهم؟ كان ذلك بما ألقته تلك الكتب في نفوس الفرنساويين من

بذور الثورة وهيأتها به لها 0

لم يُقدِّر الناس ما نشأ عن هذه الحادثة الكبرى في نظام الأسرة (العائلة) من

ضروب التغير حق قدره، فإنها قد خففت من ثقل الولاية الأبوية تخفيفًا عجيبًا على

غير علم من الناس جميعًا؛ لأن المؤرخين قلما يلتفتون إلى ما يحصل في البيوت

من تهذيب الأخلاق وصلاح العادات، فلم يكد رجال الثورتين اللتين حدثتا في

سنتي 1789و 1792 يدركون ما كان يعتور تلك الأخلاق والعادات البيتية من

الاستحالة، على قربها منهم وسهولة ملاحظتها عليهم، ذلك لأنه ليس في وسع أحد أن

يلاحظ أعمال جميع الناس، فإذا أريد الوقوف على أثر أنواع هذه الاستحالة

وصنوف ذلك التغير وجب الرجوع إلى ما كُتب من السِّيَر في أواخر القرن السابع

عشر، أو في أوائل القرن الثامن عشر، هنالك يُرى ما كان بين الزوج وزوجته،

والوالدة وأولادها من التكلف في العشرة والمقاسحة [*] والمجافاة في المعاملة، نعم إن

قولي هذا خاص بأهل البيوتات؛ لأننا لا نعلم شيئًا من أحوال الطبقات الأخرى،

لكن هؤلاء لا بد أنهم كانوا يحتذون مثال سراة الأمة وزعماء الدولة.

كان البيت في ذلك العهد مؤسسًا على إحدى الوصايا العشر التي وصى الله

سبحانه بها موسى عليه السلام وهي (أكرم أباك وأمك) فلم يوصِ موسى أبدًا

بحبهما.

كانت الزوجة في الغالب تدعو زوجها سيدًا وهو يدعوها سيدة، فكان تخاطبهما

باسميهما مع كونه هو لذة العشرة والاختلاط لا يكاد يقع منهما في حضرة الأجانب،

فالثورة هي التي أدخلت في البيوت عادة التخاطب بضمير المفرد، وسوّت بين الولد

البكر ومن يتلونه من إخوته في الحقوق، فاجتثت بذلك أصول التباين والاختلاف،

وأعلت من شأن المرأة، ورفعت من قدرها كما وثّقت ما يربطها بالرجل من عقدة

النكاح، وأصبح البيت بحكم الشؤون ومجرى الحوادث مرجعًا لأصداء المحاورات

والمناقشات في المصالح العامة، وصار صوت الرجل وزوجته في محادثتهما أخلص

وأشد مما كان قبل، كان للكنيسة في الطفل من الحقوق إلى وقت قيام الثورة في سنة

1789م أكثر مما كان لأهله فيه، فإن البيت كان قد استعار من الدير ما فيه من

صلابة المعاملة الباردة بسبب أن الوالدة في الغالب كانت تربى فيه، لا أعني بذلك

أن الأم ما كانت تحب أولادها قبل الثورة، وأعوذ بالله أن يخطر هذا بفكري،

ولكني مع اعتقادي حبها إياهم، أعتقد اعتقادًا ثابتًا أن الثورة قد ساعدت على

تخليص محبات القلوب من قيود التكلف، فكما أن منشأ جميع الحركات العظمى

للأرض هو ما في باطنها من النار، كذلك منشأ حوادث الإنسان الكبرى هو ما في

قلبه من حب.

ذلك شأن الإنسان في جميع الأزمان، فمن حياته في الهند حيث كان الطفل لا

يعتبر إلا برعومًا [3] من نبات قبيلته، وفي رومة التي كان الوالد فيها يملك على ولده

حق حياته وموته إلى أن صار إلى هذه المجتمعات الحديثة التي كاد يكون للطفل فيها

وجود مستقل، قد رقيت الأسرة في أطوار وجودها الأصلية جميع معارج الحرية،

فلا بد في تغيير شكل الحكومة وإصلاحها من تغيير معنى الأبوة أيضًا ورده إلى

حده.

أطول جميع الثورات بقاء وأخلدها أثرًا هي التي كان لها من الزمن ما

استحوذت فيه على عقول الناشئين، فالإصلاح الديني مثلاً وهو مذهب البروتستانت

لا يزال حيًّا في ألمانيا وسويسره وهولانده وإنكلترا؛ لأن رجاله في هذه البلدان

وفي غيرها أسعدَهم الحظ بتأسيس مدارس فيها لتربية الأحداث علي أصولها

وعقائدها، أما الثورة الفرنساوية فإنها علي العكس من ذلك قد أعوز رجالها الزمن

لتنفيذ مقاصدهم؛ لأنهم كانوا قد اختطوا على عجل وهم في مهب رياح الفتنة خطة

مُثلى للتعليم العام، لكن أعاصير الحوادث قد دافعتهم، فحيل بينهم وبين ما كانوا

يقصدون، لما وضعت الطريقة التي نجري عليها الآن في التربية كانت نيران الفتنة

قد خمدت، ومراجل أفكار العصيان قد سكنت، فعهد إلى رجال الحكومة النيابية

الذين حكموا على الثائرين من رصفائهم بالقتل - حَكَم سيسيرون على كاتيلينا

وأشياعه [4] بتجديد ما اندثر من التعاليم القديمة، فما لبثت هذه التعاليم أن فاضت

منها على الناس أصول الحكومة الفردية، أي حكومة الاستبداد، وأصبحت القوة

الحاكمة هي مدير المدرسة والأستاذ الأكبر لتعليم الدين، ورئيس الجند الأكبر

والشارع الأكبر، بل الكل الأكبر الذي انحصرت فيه جميع الوظائف، ورجا الناس

من هذا الإله الذي هو من صنعهم أن يضيء عقول الأمة، وأن يصنع لهم علماء وأنصاف علماء، فصار التعليم الابتدائي والثانوي، بل صارت جميع درجات

التعليم محوطة بسياج حصين من القوانين، معاذ الله أن أكون آسفًا على ما أراه من

انتشار العلوم وعموم المعارف، ولكني ضعيف اليقين بتأثير عمل الحكومة إذا كان

الغرض من التعليم هو تربية رجال أحرار، فإنها ماوضعت لذلك، وإن لأعضاء

المجتمع الإنساني وظائف كما لأعضاء الأجسام لا يمكن تغييرها بمجرد توجيه

العزيمة إلى ذلك.

سمعت غيرمرة أن الجهل كان العقبة الكبرى في طريق كمال الحرية، وأنا

موقن بصحة هذه القضية، وسمعت أيضًا ممن قالوها أن الحكومة قد قررت أن يكون

التعليم مجانيًّا وإلزاميًّا، وستكون الأحوال حينئذ على ما يرام، أنا لا أصدق هذا

وأضرب الصين مثلاً لأولئك الذين يرون في دواليب التعليم التي تديرها يد الحكومة

وسيلة لتحرير العقول، يكاد كل رجل في تلك المملكة يعرف القراءة والكتابة،

ففيها من المدارس الابتدائية والثانوية وطرق الامتحان ما يفوق الحصر، والصينيون

هم الذين اخترعوا فن الطباعة، وهو أكثر الفنون اليدوية أثرًا في قلب شؤون العالم،

وذلك قبل أن يُعرف في أوربا بخمسمائة عام، فماذا كانت النتيجة؟ أنا لا أزيد عنك

علمًا بها.

لم يكن من التعليم الذي كانت الأساتذة تفيضه على الناس إلا أن أتقن تحجير

الأوضاع الاجتماعية وجعلها أصلب مما كانت، كذلك يكون الشأن عند جميع الأمم

التي يكون الغرض من التربية فيها إيجاد رعايا للحكومة في القالب الذي تريده،

ولوشئت لذكرت أمة أوروبية ليس بينها وبين الصين من هذه الجهة كبير فرق، فإن

التعليم الابتدائي فيها يثبت كل يوم في نفوس الأطفال خلق الانقياد الأعمى بسبب

تداخل السلطتين الدينية والسياسية فيه، المعلم في هذه الحالة هو نائب الحاكم الجائر،

ألم تري أن دينيس [5] لما خلع من الملك اشتغل بوظيفة مدير مدرسة؟

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كتاب جان جاك روسو المسمى أميل القرن الثامن عشر.

(2)

الأكياس: جمع كيّس وهو الظريف حسن الفعل.

(*) المقاسحة: الميابسة؛ أي: المعاملة بالشدة.

(3)

هو الزهر قبل تفتحه.

(4)

سيسيرون هو مرقوس توليوس سيسيرون، أشهر خطباء الرومان، ولد في سنة 107 وتوفي سنة 43 قبل المسيح ، وعُين حاكمًا في سنة 63 وأخمد ثورة كاتيلينا والحرب التي قامت بين بومبيه وقيصر، وكاتيلينا شريف من أشراف روما كان جمع حزبًا وثار به على مجلس الشيوخ ورومة فقهره سيسيرون.

(5)

هو حاكم جائر كان في سيرا كوزا، فطرده منها ديون ثم تميلون ومات وهو مدير مدرسة قورنته سنة 343 ق م.

ص: 666