الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
خطاب وعظي للإنسان
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: فيا أيها الإنسان خلقك الله وسطًا بين العوالم الجسدية والروحية
وأعطاك سلطانًا على العوالم السفلية والعلوية، منحك المشاعر البادية والكامنة
وأسبغ عليك نِعَمه ظاهرة وباطنة، ولم يجعل لاستعدادك حدًّا معروفًا، ولا لرقيك
منتهى محدودًا، فلماذا قنع بعض أبنائك بالمرتبة الدنيا فوقفوا عند الدرجة السفلى؟
يتخطى إخوتهم رقابهم وهم سائرون، ويطؤون هامهم وهم صاعدون، ولكنهم
وادعون ساكنون، كأنهم لا يحسون ولا يشعرون، العبر أمامهم ووراءهم والمنبهات
عمت أرضهم وسماءهم. ولكنهم لا يعتبرون ولا يتنبَّهون {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ
سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (يس: 9) .
يا أيها الإنسان، ما هذا الفرق الكبير الذي بين أفرادك. واحد كألف، وألف
كأف. بل واحد يدبر شؤون أمة كاملة حتى كأنه روح مدبرة، وهي أعضاء مسخرة
فأجدر بالإنسانية أن تقر لهذا بنسبته، وتنكر أولئك وإن كانوا على صورته
{أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .
ويا مَن خُلق على صورة الإنسان، ولكنه يعيش بروح أخس حيوان. أَفِقْ من
سكرتك، وهب من رقدتك، واكفُفْ عن التمادي في الشهوات البهيمية، والاسترسال
في التعديات الوحشية. واعلم أن لك روحًا أخرى إذا غلبتها على هواك، وحكَّمتها في
قواك. فإنك ترتقي إلى حال جديدة تحيا بها حياة سعيدة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4) .
ويا أيها الشرقي تذكر وتدبر، واعلم أن ذنوب الأمم لا تُغفر، فما من أمة فشا
في آحادها الكذب والخيانة والنفاق، وفسدت من آحادها الآداب والأخلاق. فانحرفت
عن الشريعة الإلهية، ولم تسترشد بالسنن الكونية - إلا وصب عليها مدبر الكون
سوط عذاب {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
العِقَابِ} (الأنفال: 25)، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 21) .
إن شر الدوابِّ عند الله الصم الذين لا يسمعون سماع تعقل وتدبر، البُكم الذين
لا ينطقون بالحق فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر. فاسمعوا وأطيعوا
واعلموا واعملوا. وألفوا الشركات المالية، واعقدوا الجمعيات العلمية والأدبية
{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (التوبة: 41) .
وهاكم هذه المجلة التهذيبية. الخادمة لجامعتكم الملية والوطنية. تنتقي لكم ما
هو أمسّ بمصلحتكم، وأقرب - إن شاء الله تعالى - لمنفعتكم، وأدعى - بفضل الله
تعالى - إلى نهضتكم. وأرجى - بتوفيق الله عز وجل لجمع كلمتكم. فتبين البدع
التي مازجت العقائد، والمفاسد التي عرضت للسجايا والعوائد؛ فأمرضت العقول
وانحرفت بالنفوس عن سواء السبيل، وتهدي لعلاج هذه الأمراض الروحية
والأدواء الاجتماعية. بكشف الحجاب عن وجوه التربية النافعة، وتسهيل سبل
التعاليم الناجعة. وتختار من الآثار العلمية والأدبية، والملح والنوادر الفكاهية، ما
ترتاح له مع الفائدة النفوس، وتنجلي به على نزاهته الهموم والبؤوس.
أما جوائب الأخبار، وحوادث الأقطار والأمصار فنذكر منها أهم ما يفيد
القارئين - لا سيما المصريين والعثمانيين - وسالكين فيه منهج المؤرخ العادل، من
غير طعن ولا تحامل. فالخدمة الصحيحة للدولة والأمة إنما تكون بتبيين الرشد من
الغي، وتمييز الخطأ من الصواب، والتزييل بين النافع والضار؛ إذ التجريح
والترجيح، والذم والمديح - لا يخفض شيء منها قدرًا، ولا يرفع ذكرًا، ولا يكون
مناطًا لعزة ورقي، ولا لذلة وهُوي، وسواء كان ذلك في الأمم والدول، أم في الآحاد
والأشخاص. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا في سنتنا هذه لأحسن ما وفقنا له في سنتنا
الخالية. ونرجو من فضلاء الأمة الذين استعذبوا مشرب الجريدة. واعتقدوا أن
مباحثها نافعة مفيدة أن يشدّوا أزرنا، ويساعدونا على تعميم نشرها {وَتَعَاوَنُوا عَلَى
البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) وتمسكوا من الإصلاح بالسبب الأقوى {وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (البقرة: 189) ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى
السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) .
خلق الله الإنسان عالمًا صناعيًّا، ويسّر له سبيل العمل لنفسه، وهداه للإبداع
والاختراع، وقدر له من الرزق من صنع يده بل جعله ركن وجوده، ودعامة بقائه،
فهو على جميع أحواله من ضيق وسعة، وخشونة ورفاهة، وتبدٍّ وحضارة صنيعة
أعماله: أقواته من معالجة الأرض بالزراعة أو قيامه على الماشية، وسرابيله وما
يقيه من الحر أو البرد والوجى من عمل يديه نسجًا أو خصفًا. وأكنانه ومساكنه
ليست إلا من مظاهر تقديره وتفكيره، وجميع ما يتفنَّن فيه من دواعي ترفه ونعيمه
إنما هي صور أعماله ومَجَالِي أفكاره، ولو نفض من يديه من العمل لنفسه ساعة من
الزمان، وبسط أكفّه للطبيعة يستجديها نفسًا من حياة - لشحت به عليه بل دفعته إلى
هاوية العدم. وهو في صنعه وإبداعه محتاج إلى أستاذ يثقفه، وهادٍ يرشده، فكما
يعمل لتوفير لوازم معيشته وحاجات حياته - يعمل ليعلم كيف يعمل، وليقتدر على أن
يعمل؛ فصنعته أيضًا من صنعه، فهو في جميع شؤونه الحيوية عالم صناعي كأنه
منفصل عن الطبيعة بعيد من آثارها، حاجته إليها كحاجة العامل لآلة العمل.
هذا هو الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه.
دعْه في هذه الحالة وخذ طريقًا من النظر إلى أحواله النفسية من الإدراك
والتعقل والأخلاق والملكات والانفعالات الروحية - تجدْه فيها أيضًا عالمًا صناعيًّا:
شجاعته وجبنه، وجزعه وصبره، كرمه وبخله، شهامته ونذالته، قسوته ولينه
عفته وشرهه وما يشابهها من الكمالات والنقائص. جميعها تابع لما يصادفه في
تربيته الأولى، وما يودع في نفسه من أحوال الذين نشأ فيهم وتربَّى بينهم، مرامي
أفكاره، ومناهج تعقله ومذاهب ميله ومطامح رغباته ونزوعه إلى الأسرار الإلهية،
أو ركونه إلى البحث في الخواص الطبيعية، وعنايته باكتشاف الحقيقة في كل شيء،
أو وقوفه عند بادئ الرأي فيه وكل ما يرتبط بالحركات الفكرية، إنما هي ودائع
اختزنها لديه الآباء والأمهات والأقوام والعشائر والمخالطون. أما هواء المولد
والمربي ونوع المِزَاج وشكل الدماغ وتركيب البدن وسائر الغواشي الطبيعية فلا أثر
له في الأعراض النفسية والصفات الروحانية، إلا ما يكون في الاستعداد والقابلية،
على ضعف في ذلك الأثر؛ فإن التربية وما ينطبع في النفس من أحوال المعاشرين
وأفكار المثقفين تذهب به كأن لم يكن أودع في الطبع. نعم، إن أفكارًا تتجدد،
ومعقولات من أخرى تتولد وصفات تسمو، وهممًا تعلو حتى يفوق اللاحقون فيها
السابقين، ويظن أن هذا من تصرف الطبيعة لا من آثار الاكتساب، ولكن الحق فيه
أنه ثمرة ما غرس، ونتيجة ما كسب؛ فهو مصنوع يتبع مصنوعًا، فالإنسان في
عقله وفي صفات روحه عالم صناعي.
هذا مما لا يرتاب فيه العقلاء والسذج، ولكن هل تذكرت مع هذا أن الأعمال
البدنية، إنما تصدر عن المهلكات والعزائم الروحية، وأن الروح هي السلطان
القاهر على البدن؟ أظنك لا تحتاج فيه إلى تذكير؛ لأنه مما لا يعزُب عن الأذهان،
إنما قبل الدخول في موضوعنا أقول كلمة حق في الدين ولا أظن منكرًا يجحدها:
إن الدين وضع إلهي ومعلمه والداعي إليه البشر تلقاه العقول عن المبشرين
المنذرين فهو مكسوب لمن يختصهم الله بالوحي [1] ، ومنقول عنهم بالبلاغ والدراسة
والتلقين، وهو عند جميع الأمم أول ما يمتزج بالقلوب، ويرسخ في الأفئدة وتصبغ
النفوس بعقائده وما يتبعها من المَلَكات والعادات، وتتمرن الأبدان على ما ينشأ عنه من
الأعمال عظيمها وحقيرها، فله السلطة الأولى على الأفكار وما يطاوعها من العزائم
والإرادات، فهو سلطان الروح ومرشدها إلى ما تدبر به بدنها. وكأنما الإنسان في
نشأته لوح صقيل، وأول ما يخطّ فيه رسم الدين، ثم ينبعث إلى سائر الأعمال بدعوته
وإرشاده. وما يطرأ على النفوس من غيره فإنما هو نادر شاذ، حتى لو خرج مارق
عن دينه لم يستطع الخروج عما أحدثه فيه من الصفات بل تبقى طبيعته فيه كأثر
الجرح في البشرة بعد الاندمال.
وبعد هذا، فموضوع بحثنا الآن الملة المسيحية والملة الإسلامية، وهو بحث
طويل الذيل، وإنما نأتي فيه على إجمال ينبئك عن تفصيل: إن الديانة المسيحية
بُنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص واطِّراح الملك
والسلطة ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم
المتدينين بها وترك أموال السلاطين للسلاطين والابتعاد عن المنازعات الشخصية
والجنسية بل والدينية، ومن وصايا الإنجيل: (مَن ضربك على خدك الأيمن فأدرْ له
خدك الأيسر) ومن أخباره أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد وهي فانية،
والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح وهي لله وحده. فمَن يقف على مباني هذه
الديانة ويلاحظ ما قلنا من أن الدين صاحب الشوكة العظمى على الأفكار مع
ملاحظة أن لكل خيال أثرًا في الإرادة يتبعه حركة في البدن على حسبه - يعجب كل
العجب من أطوار الآخذين بهذا الدين السلمي المنتسبين في عقائدهم إليه؛ فهم
يتسابقون في المفاخرة والمباهاة بزينة هذه الحياة ورفَه العيش فيها، ولا يقفون عند حد
في استيفاء لذَّاتها [2] ، ويسارعون إلى افتتاح الممالك والتغلب على الأقطار الشاسعة،
ويخترعون كل يوم فنًّا جديدًا من فنون الحرب، ويُبدعون في اختراع الآلات
الحربية القاتلة، ويستعملها بعضهم في بعض ويصولون بها على غيرهم،
ويبالغون في ترتيب الجيوش وتدبير سوقها في ميادين القتال، ويصرفون عقولهم في
إحكام نظامها حتى وصلوا إلى غاية صار بها الفن العسكري من أوسع الفنون
وأصعبها، وإن أصول دينهم صارفة لعقولهم عن العناية بحفظ أملاكهم فضلاً عن
الالتفات إلى طلب غيرها.
الديانة الإسلامية وُضع أساسها على طلب الغلب والشوكة، والافتتاح والعزة،
ورفض كل قانون يخالف شريعتها، ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية
على تنفيذ أحكامها؛ فالناظر في أصول هذه الديانة، ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل
يحكم حكمًا لا ريب فيه بأن المعتقدين بها لا بد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم
وأن يسبقوا جميع المِلَل إلى اختراع الآلات القاتلة، وإتقان العلوم العسكرية،
والتبحُّر فيما يلزمها من الفنون كالطبيعة والكيمياء وجرّ الأثقال والهندسة وغيرها.
ومن تأمل في آية {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) -
أيقن أن مَن صُبغ بهذا الدين فقد صُبغ بحب الغَلَبَة وطلب كل وسيلة إلى ما يسهل له
سبيلها والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية فضلاً عن الاعتصام بالمَنَعَة والامتناع من
تغلب غيره عليه. ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرم المراهنة إلا في السباق
والرماية - انكشف له مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرن عليها.
ولكن مع كل ذلك تأخذه الدهشة من أحوال المتمسكين بهذا الدين لهذه الأوقات؛
إذ يراهم يتهاونوا بالقوة، ويتساهلون في طلب لوازمها، وليست لهم عناية في فنون
القتال ولا في اختراع الآلات، حتى فاقتهم الأمم سواهم فيما كان أول واجب عليهم،
واضطروا لتقليدها فيما يحتاجون إليه من تلك الفنون والآلات، وسقط كثير منهم
تحت سلطة مخالفيهم واستكانوا ورضخوا لأحكامها. ومَن وازن بين الديانتين حار
فكره كيف اخترع مِدفع الكروب والمتراليوز وغيرهما بأيدي الديانة الأولى قبل
الثانية؟ وكيف وجدت بندقية مرتين في ديار الأولين قبل وجودها عند الآخرين؟
وكيف أُحكمت الحصون ودُرعت البواخر وأُخذت مغالق البحار بسواعد أهل السلامة
والسلم دون أهل الغلة والحرب؟ !
لِمَ لا يحار الحكيم وإن كان نطاسيًّا؟ لم لا يقف الخبير البصير دون استكناه
الحقيقة؟ ألم تكن القرون الخالية والأحقاب الماضية كافية لرسوخ الديانتين في نفوس
المستمسكين بعُرَاهما، هل نبذت كل ملة من الملتين عقائد دينها ظِهْريًّا من أجيال
بعيدة؟ هل اقتصر النصارى في دينهم على الأخذ بشريعة موسى واقتفاء سيرة
يوشع بن نون؟ هل تخللت بعض (آيات) الإنجيل من حيث يدري ولا يدري
بين الخطب والمواعظ التي تُتلى على منابر المسلمين، أو أُلقي شيء منها في أمانيّ
معلميهم وناشري شريعتهم عند ما يتربعون في محافل دروسهم؟ هل تبدلت سنة الله
في الملتين؟ هل تحول مجرى الطبيعة فيهما؟ هل استبدت الأبدان فيهما على
الأرواح؟ أو وُجد للأرواح مدبر سوى الفكر والخيال؟ أو انفلتت الأفكار من سلطة
الدين، أو تعاصت النفوس عن الانتقاش بنقشته وهو أول حاكم عليها وأقوى مؤثر
فيها؟ هل تتخلف العلل عن معلولاتها؟ هل تنقطع النسب بين الأسباب ومسبباتها؟
ماذا عساه يرشد العقول إلى كشف المساتير وحل المعميات؟ أينسب هذا إلى اختلاف
الأجناس، وكثير من أبناء الملتين يرجعون إلى أصول واحدة ويتقاربون في الأنساب
الدانية؟ أينسب هذا إلى اختلاف الأقطار، وكثير من القبيلين يتشابهون في طبائع
البلدان، ويتجاورون في مواقع الأمكنة؟ ألم يصدر من المسلمين - وهم في شبيبة
دينهم - أعمال بهرت الأبصار وأدهشت الألباب؟ ألم يكن منهم مثل فارس والعرب
والترك الذين دوخوا الممالك واستووا على كرسي السيادة فيها؟
كان للمسلمين في الحروب الصليبية آلات نارية أشباه المدافع فزع لها
المسيحيون، وغابوا عن معرفة أسبابها. ذكر ملكام سرجم (إنكليزي) في تاريخ
فارس أن محمودًا الغزنوي كان يحارب وثنيي الهند بالمدافع، وكانت هي الأسباب في
انهزامهم بين يديه سنة 400 للهجرة! وما كان المسيحيون لذلك العهد يعرفون شيئًا
منها. فأي عون من الدهر أخذ بأيدي الملة المسيحية فقدمها إلى ما لم يكن في قواعد
دينها، وأي صدمة من صدماته دفعت في صدور المسلمين فأخَّرتهم عن تعاطي
الوسائل ما هو أول مفروض في دينهم؟
مقام للحيرة وموضع للعجب، ويظن أنه لا بد لهذا التخالف من سبب، نعم،
وتفصيله يطول، ولكن نجمل على ما شرطنا:
إن الدين المسيحي إنما امتد ظله، وعمت دعوته في الممالك الأوروبية من أبناء
الرومانيين وهم على عقائد وآداب وملكات وعادات ورثوها عن أديانهم السابقة
وعلومهم وشرائعهم الأولى، وجاء الدين المسيحي إليهم مسالمًا لعوائدهم ومذاهب
عقولهم، وداخلهم من طرق الإقناع ومسارقة الخواطر لا من مطارق البأس والقوة،
فكان كالطراز على مطارفهم، ولم يسلبهم ما ورثوه عن أسلافهم. ومع هذا فإن
صحف الإنجيل الداعية للسلامة والسلم لم تكن لسابق العهد مما يتناوله الكافة من
الناس بل كانت مذخورة عند الرؤساء الروحانيين. ثم إن الأحبار الرومانيين لما
أقاموا أنفسهم في منصب التشريع وسنّوا محاربة الصليب ودعوا إليها دعوة الدين
التحمت آثارها في النفوس بالعقائد الدينية، وجرت فيها مجرى الأصول ولحقها على
الأثر تزعزع عقائد المسيحيين في أوروبا وافترقوا شيعًا وذهبوا مذاهب تنازع الدين
في سلطته، وعاد وميض ما أودعه أجدادهم في جراثيم وجودهم ضرامًا، وتوسعوا
في فنون كثيرة وانفسح لهم مجال الفكر فيها. وكانت براعتهم في الفن العسكري
واختراع آلات الحرب والدفاع مساوقة لبراعتهم في سائر الفنون.
وأما المسلمون فبعد أن نالوا في نشأة دينهم ما نالوا، وأخذوا من كل كمال
حربي حظًّا، وضربوا في كل فَخار عسكري بسهم، بل تقدموا سائر الملل في فنون
المقارعة، وعلوم النزال والمكافحة، ظهر فيهم أقوام بلباس الدين وأبدعوا فيه
وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت بينهم قواعد الجبر وضربت في الأذهان حتى
اخترقتها، وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعِنانها عن الأعمال، هذا إلى ما أدخله
الزنادقة فيما بين القرن الثالث والرابع، وما أحدثه السوفسطائية الذين أنكروا مظاهر
الوجود وعدّوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق، وما وضعه كَذَبة النقل من
الأحاديث ينسبونها إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ويثبتونها بالكتب، وفيها
السم القاتل لروح الغيرة، وإن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفًا في الهمم وفتورًا
في العزائم، وتحقيق أهل الحق وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك - لم
يرفع تأثيره عن العامة؛ خصوصًا بعد حصول النقص في التعليم، والتقصير في
إرشاد العامة إلى أصول دينهم الحقة ومبانيه الثابتة التي دعا إليها النبي وأصحابه،
فلم تكن دراسة الدين على طريقها القويم إلا منحصرة في دوائر مخصوصة بين فئة
معينة، لعل هذا هو العلة في وقوفهم، بل الموجب لتقهقرهم وهو الذي نعاني من
عنائه اليوم ما نسأل الله السلامة منه.
إلا أن هذا العوارض التي غشيت الدين وصرفت قلوب المسلمين عن رعايته
وإن كان حجابها كثيفًا - لكن بينها وبين الاعتقادات الصحيحة التي لم يُحرَموها
بالمرة تدافُع دائم وتغالب لا ينقطع، والمنازعة بين الحق والباطل كالمدافعة بين
المرض وقوة المِزَاج، حيث إن الدين الحق هو أول صبغة صبغ الله بها نفوسهم، ولا
يزال وميض برقه يلوح في أفئدتهم بين تلك الغيوم العارضة فلا بُدَّ يومًا أن يسطع
ضياؤها ويقشع سحاب الأغيان، وما دام القرآن يُتلى بين المسلمين وهو كتابهم
المنزل وإمامهم الحق، وهو القائم عليهم، يأمرهم بحماية حوزتهم والدفاع عن ولايتهم
ومغالبة المعتدين وطلب المنَعة من كل سبيل، لا يعين لها وجهًا، ولا يخصص لها
طريقًا - فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم، ونهوضهم إلى مقاضاة الزمان ما
سلب منهم، فيتقدمون على مَن سواهم في فنون الملاحمة والمنازلة والمصاولة حفظًا
لحقوقهم وضنًّا بأنفسهم على الذل، وصونًا لملتهم من الضياع، وإلى الله تصير
الأمور.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(العروة الوثقى)
_________
(1)
هذا ما كُتب بقلم الأستاذ الشيخ محمد عبده عن لسان الحكيم الإسلامي السيد جمال الدين الشهير وبالاتفاق معه؛ فليخشَ الله مَن كان يتهم هذين الحكيمين أو أحدهما بالقول بأن النبوة مكتسَبة، وما أعظم بهتان مَن يقول: إن المرحوم السيد جمال الدين صرح بهذا الاعتقاد في الخطاب العام الذي ألقاه في الآستانة في الحث على الصنائع، أما وسر الحق لو صرح به في الآستانة لما صرح بخلافه في باريس حيث كان يُصدر العروة الوثقى.
(2)
ذكَّرنا هذا ما جاء في (المقتطف) الأغر (جزء 20، صفحة 860) في تقريظ منشور المجمع القسطنطيني الأرثوذكسي ردًّا على منشور البابا لاون الثالث عشر وهو بنصه:
ومن العجب أن رؤساء الطوائف المسيحية يتنازعون على العقائد المذكورة آنفًا (أي: ككون
العماد لا يصح بالتغطيس، وسر الشكر يجب أن يكون بالخبز المخمَّر) ولا يتحرك لهم قلم، ولا ينطق لهم لسان في طلب إنصاف المظلوم والقضاء لليتيم والمحاماة عن الأرملة، وقد نخر سوس الفساد عظام التمدن الأوربي، وصار المال معبود المسيحيين ولا همّ لرؤسائهم إلا لبس الوسامات واتساع السلطة، ونخشى أنه إذا جاء ابن الإنسان لم يجد إيمانًا على الأرض؛ لأن الاهتمام بالعَرَض شغل الناس عن الاهتمام بالجوهر، ولأن حب الدنيا سدل حجابًا على العيون.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإيثار
جعلت الديانة الإسلامية الأعمال الفاضلة على قسمين: قسم حُكمه الوجوب،
وهو ما لا حرج فيه ولا مشقة على الناس كلهم باتباعه: كأداء الزكاة وإنظار المعسر
والمساواة والمماثلة في العقوبة. وقسم حكمه الندب والاستحباب؛ وهو ما لا يمكن أن
يكون عليه الناس كلهم: كالعفو عن الجاني، وإبراء المعسر والإيثار على النفس مع
الحاجة والخَصاصة، والأعمال الواجبة التي كلف بها جميع الناس جزمًا أفضل من
الأعمال المستحبة التي طُلبت طلبًا غير جازم في الغالب؛ فإن إبراء المعسر أفضل
من إنظاره كما لا يخفى، ويتراءى لغير المحقق أن الإيثار - ولو بالضروري -
أفضل من الإنفاق مما زاد على الحاجة الذي هو أصل الشريعة، ودونك ما أوردناه
في كتابنا (الحكمة الشرعية) من تحقيق هذا البحث وفاءً بوعدنا في العدد الماضي
وهو:
إن كتب السنة وأخبار السلف وآثارهم؛ تشهد لهم بفضيلة الإيثار على أنفسهم،
وقد مدح الله عز وجل به الأنصار بقوله - عز من قائل -: {وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) وأقوال العلماء المصرِّحة بأن المؤاثرة أفضل درجات البذل مالئة
بطون الدفاتر، ومع هذا فقد حقق إمام العارفين الشيخ الأكبر محيي الدين أن مقام
أكمل الكملة تقديم أنفسهم وعدم المؤاثرة، فقد ذكرنا في رسالته (روح القدس) كلامًا
في مناظرة نفسه أقنعها فيه بأن ليس لها قدم مع الأنبياء ولا مع الصحابة، وأراد أن
يقنعها بذكر أحوال بعض التابعين بأنها لم تبلغ لهم أيضًا شأوًا أيضًا، فقصَّ عليها
أحسن القصص من أحوال أُويس القَرني رضي الله عنه وسيرته في الإنفاق.
قال قدس سره [1] :
فقالت النفس - يا سيدي -: ارفقْ بي ولا تعجل، فقد ظهر لي في مسألة
أويس هذا أمر خرج الحَلَاّج فيه فوقه، وذلك أن الحلاج رضي الله عنه قال مخبرًا
عن حالته: إذا قعد الرجل عشرين يومًا دون غذاء، ثم جاءه طعام فعرف أن في
البلد مَن هو أحوج منه لذلك الطعام فأكله، ولم يؤثر ذلك المحتاج به فقد
سقط.
وهذا مقام عالٍ كما رأيته. وهذا أويس رضي الله عنه ما كان يتصدق
إلا بفضل طعامه وثيابه، فيأخذ حاجته أولاً، ثم يعطي ما فضل عن قُوته كل، ليلة
وهو يعلم أن ثَمَّ جائعًا ولم يعطه وهذا كما رأيته قال:
قلت لها: يا نفس ما أنتِ إلا اعترضت اعتراض من لا يعرف الحقائق، ولكنك
جهلت المقال، فاسمعي الجواب، واعلمي أن أويس هو الإمام الذي لا يلحق.
واعلمي أيتها النفس أن العارف إذا كان صاحب حال مثل الحلاج فرق بين نفسه وبين
غيره، فعامل نفسه بالشدة والقهر والعذاب، وعامل نفس غيره بالإيثار والرحمة
والشفقة، وإذا كان العارف صاحب مقام وتمكين وقوة صارت نفسه عنه أجنبية، لا فرق عنده بينها وبين نفوس العالم، فما يلزمه في حق نفوس الغير من الرحمة
والشفقة - يلزمه في حق نفسه؛ لكونها صارت عنه أجنبية وارتفع هو علويًّا،
وبقيت، هي مع أبناء جنسها سفلية، فلزمه العطف عليها كما لزمه على غيرها؛
فإن صاحب الصدقة العارف إذا خرج بصدقته ولقي أول مسكين يدفع إليه الصدقة،
فإن تركه ومضى إلى مسكين آخر، فقد انتقل من رضى ربه إلى هوى نفسه وخرج
من ديوانهم، فإنها مثل الرسالة لا يخص بها شخصًا، أول مَن يلقاه يقول له: قل:
(لا إله إلا الله) .
ولا شك أن هذا العارف إذا وهبه الله تعالى رزقًا يعلم أنه مرسَل إلى عالم
النفوس الحيوانية فينزل من حضرة عقله إلى أرض النفوس، ليؤدي إليهم ذلك القدر
الذي وُجه به، فأول نفس تلقاه نفسه لا نفس غيره، وسبب ذلك أن نفوس الغير غير
ملازمة له ولا متعلقة به؛ لأنها لا تعرفه، ونفسه متعلقة به ملازمة لبابه فلا يفتحه
إلا عليها فتطلب أمانتها منه فيقدمها على غيرها؛ لأنها أول سائل.
وإلى هذا السر أشار الشارع بقوله: (ابدأ بنفسك ثم بمَن تعول والأقربون أولى
بالمعروف) ؛ لتعلُّقهم بك ولزومهم بابك والغير لا يتعلق بك ولا يلازمك ملازمة
نفسك وأهلك، فلما تأخروا أخروا كما هي حال الأسرار سواء؛ تخرج من عند
الحق على باب الرحمة، فأي قلب وجد متعرضًا سائلاً عند الباب دفع إليه حظه من
الأسرار والحكم، وحظه منها على قدر ما يرى فيه من التعطش والجوع والمذلة
(أي: لله) والافتقار، وهم خاصة الله تعالى.
وإلى هذا المقام أشار المشايخ وعليه حرضت الشريعة بقولها: (تعرضوا
لنفحات ربكم) ومن تأخر أُخِّرَ، ومَن نَسِيَ نُسِيَ، فانظري كم بين المنزلتين: منزلة
الحلاج ومنزلة أويس؟ ! وانظري هذا المقام على علوه وسموه كيف اشترك في
الظاهر صاحبه مع أحوال العامة، فإن العامة أول ما تجود على نفوسها، وحينئذ
يتعدى جُودها إلى غيرها ، وإنما يتصرفون تحت حكم هذه الحقيقة وهم لا يشعرون،
ولما عموا عن هذا السر وصاروا مثل البهائم لا يعرفون مواقع أسرار العالم مع الله
تعالى حرصوا على الإيثار ومدحوا به، وهو مقام الحلاج الذي ذكرت عنه ورأيت
أنه غاية فهكذا فلتُغزل الحقائق، وتُحاك حُلل الرقائق.
فقالت النفس: هذا شيء -واللهِ - ما قرع قط سمعي، و {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ
اليَقِينِ} (الواقعة: 95)، و {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61)
وفي مثل هذا {فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} (المطففين: 26) ، لقد شرحت صدرًا
ورفعت في المعارف قدْرًا. اهـ
هذا ما جاء في (روح القدس) بنصه الشائق، الذي هو صفوة الحقائق، هو
جدير بما وصفناه، لكن ربما توهم منه الغبي أنه يقتضي تفضيل أويس على
الصحابة في هذا المقام الذي أثنى به عليهم الملك العلام وأنَّى لأويس -على فضله -
بذلك؟ ! والذي يتجلى لنا في الجواب ما نقصّه عليك مفصلاً تفصيلاً.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: كنا إلى عهد نشر هذه المناظرة في المنار نأخذ جُلّ كلام الشيخ محيي الدين بالتسليم وما ننكره - وهو أقله - نتأوله أو نأخذ فيه بقول من قالوا: إن المراد منه غير ظاهره. وقد منَّ الله تعالى علينا من قبل إعادة طبع هذا منه - أن صار عندنا كغيره من العلماء والصوفية نحكّم في جميع أقوالهم الدليل، ولله الحمد.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التربية والتعليم
(التربية)
هي مساعدة القوى التي من شأنها أن تربو وتنمو على بلوغ الكمال في
نموها المستعدة هي له في أصل الفطرة والخلقة، وذلك بإزالة الأسباب التي تعيق
النمو أو تنحرف بالقوى عن جادة الاعتدال المطلوب، وبإمداد هذه القوى بما تغتذي به
من المواد (في القوى المادية) والمعلومات (في القوى المدركة العاقلة) الخارجة
عنها. وأحوج العوالم الحية إلى التربية الإنسان؛ لأن سائر الحيوان والنبات يصل
غالبًا إلى كماله في الجملة من غير تربية إلا الطبيعة، وما يهبه البارئ تعالى للحيوان
الأعجم من الإلهام.
أما الإنسان فهو - كما مر في مقالة (العروة الوثقى) - عالم صناعي في
جميع أطواره الجسدية والروحية، فمتى أُطلق علم التربية ينصرف لتربيته، وإن كان
الكثير أو الأكثر من النبات والحيوان يصل بتربية الإنسان له إلى درجة من الكمال
لا يرتقي إليها بنفسه إذا تُرك لطبيعته، ولعِلْمَيْ تربية النبات والحيوان أسماء أخرى
عند الذين قسموا العلم.
اختلف علماء التربية في ابتداء تربية الإنسان: أتكون من يوم العلم بالحمل به
أو من يوم يولد؟ وأرى أن هذا الخلاف لفظي؛ إذ لا خلاف بينهم في أن أحوال الأم
الجسدية والنفسية يكون لها أثر في نمو الجنين واستعداده؛ ولذلك يأمرونها بالرياضة
المعتدلة وتناول الأغذية اللطيفة وعدم التعرض لما يهيج بالانفعال ولا سيما الخوف
والفزع والحزن. وكأيِّن من وليد خرج ذا عاهة لم يكن لها من سبب إلا ما ألمَّ
بوالدته وهي حامل به. ومن جراء هذا سنبتدئ مباحثنا في تربية الإنسان بالكلام
على الحوامل وما ينبغي لهن بعبارة واضحة تفهمها السيدات وإن كن غير متعلمات.
(التعليم)
له إطلاقان: أولهما: إمداد القوى المدركة بعرض الأشياء عليها تدريجًا بالقول
والفعل بحيث تدركها وتقدر عن التصرف فيها قولاً وعملاً (كل شيء
بحسبه) وهذا المعنى داخل في مفهوم التربية ويشمل، تعليم العلوم الاعتقادية
والأدبية والفنون الصناعية.
وثانيهما: علم أساليب التعليم وطرقه القريبة، وهو فن نفيس ارتقى المشتغلون
به الدرجات العلى في العلوم والفنون، حيث أمكنهم تحصيل الكثير في الوقت
القصير، ولا يأذنون في أوربة وأمريكة بالتدريس والتعليم إلا لمن أتقن هذا الفن في
مدارسه التي أنشئت له. هذا، ونحن لا علم لأكثرنا بأن أساليب التعليم قد وُضع لها
علم مخصوص، واختيار المعلمين عندنا يكون بالشفاعات التي تُبنى غالبًا على
كون هذا المعلم مستحقًّا للمساعدة المالية لفقره أو كونه من الأسرة أو الطائفة الفلانية
مثلاً. وأبعدُنا عن معرفة التعليم هم الشيوخ الذين يعلّمون الدين وفنون اللغة
في الجوامع والمساجد.
وسنكتب في ذلك نُبذًا مفيدة إن شاء الله تعالى في الأعداد الآتية.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحوادث والأخبار التاريخية
أهم الحوادث الخارجية:
ما نُكبت به دولة فرنسة في 5 مارس وهو احتراق خمسين ألف كيلو من
البارود في دار الصناعة البحرية في طولون، حصل منه انفجار عظيم كانفجار
البراكين دمر به في المدينة مسطح عشرة آلاف متر وهلك جميع مَن في دار
الصناعة من الجند والصناع وخلق كثير من غيرهم. وأما الخسائر فهي عظيمة لا
تكاد تُقدر، وقد أرسل الملوك والأمراء رسائل التعزية لحكومة فرنسة على المصاب
بعد تعزيتهم لها على موت رئيس جمهوريتها السابق فلكس فور الذي مات قبل هذه
الحادثة الهائلة بأيام. وقد قام الفرنسيس يكتتبون لجمع المال من أول يوم وقعت فيه
النكبة إعانة للمصابين وإغاثة لأهالي المنكوبين، فهكذا تكون الحياة الوطنية، وهذا
هو الفرق بين الإنسانية والحيوانية.
وأهم الحوادث الداخلية:
ثبوت وقوع مرض في جدة يشبه الطاعون، وقد سمي طاعونًا كما كان في العام
الماضي، وضربت المحاجر على ما يرد من جدة، وأخذت الحكومة المصرية
الاحتياط كالعام الماضي، ونقل البرق أنه قد حدثت إصابة في مكة أيضًا. نسأل الله
السلامة.
اقتُرح علينا أن نفتح في المنار بابًا للسؤال والاقتراح، وجوابنا أننا نقبل ما يرد
علينا من الأسئلة والاقتراحات، ونُدخلها في الأبواب التي تناسبها.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الإيثار
(تتمة لما سبق)
إن لما أنزل الله لنا من الرزق ثلاث مراتب:
(الأولى) الضرورة وهي ما لا بد منه للمحافظة على حياة المرء
الجسدية كرغيف يأكله وكساء يستره، بحيث إذا لم يحصل عليه تضرَّر جسمه
غالبًا أو خشي عليه التلف، وهي مرتبة الزهاد.
(الثانية) الحاجة وهي ما زاد على الضرورة ولم ينتهِ إلى الترف
والرفاهة، كأن يجد الإدام الواحد أحيانًا والحلوى والفاكهة أوقاتًا بمقدار ما يكفيه
أو يزيد قليلاً وهي مرتبة المتوسطين.
(الثالثة) الرفاهة وهي الحالة التي يحصل صاحبها ما شاء من الملاذ
تُستطاب له كل يوم الألوان باللحوم والبقول والفاكهة والحلوى كما يشاء ويُختار
بحسب حالة الزمان والمكان، وهي مرتبة المترفين من أهل الثراء والدثور.
فإلايثار بما زاد عن الضرورة عند هؤلاء - لا شك أنه أفضل من تمتيع النفس
به، وهو الذي كان شائعًا في الصحابة ومَن اهتدى بهدْيهم من أهل القرون
الأولى في الأمة.
ومَن كان له أهل وأقارب تجب عليه نفقتهم فضرورتهم كضرورته.
ويدل لهذه الأفضلية حديث أبي هريرة عند البخاري والنَّسَائي قال: قال النبي صلى
الله عيه وسلم: (أفضل الصدقة ما ترك غنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ
بمَن تعول) وفي رواية: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنىً) ومثل الصدقة
غيرها من الإنفاق المشروع كالهدية ومواساة الإخوان الذي تقدم عن بعضهم
تفضيله على الصدقة. وربما يفهم من الحديث أن الصدقة الفُضلى إنما تكون
مما زاد عن الحاجة لا عن الضرورة فقط، وهو ظاهر ولا ينافيه قوله تعالى:
{وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} (الحشر: 9) ؛ إذ ليس في الآية أن ذلك الإيثار
هو أفضل الإنفاق، بل قصاراه أنه فضيلة يمتدح بها، وقد رجح الإمام الرازي
وغيره أن الآية نزلت في إيثار الأنصار والمهاجرين بالغنيمة مع مشاركتهم لهم
في دورهم وأموالهم، وجعلوا ما نقل عنهم في الصحيح من المؤاثرة للضيف وغيره
مما يدخل في عموم الآية، لكن أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي
هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتى رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا
رسول الله، أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا - وفي
رواية غير الماء - فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا رجل يضيف هذا
الليلة يرحمه الله) فقام رجل من الأنصار وفي رواية: فقال أبو طلحة: أنا يا رسول
الله. فذهب به إلى أهله فقال أكرمي ضيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي
فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلت، ثم غدا الضيف على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله أو ضحك (الشك من الراوي) من
فلان وفلانة [1] وأنزل الله تعالى فيهما: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) ورُوي أن الآية نزلت في حكاية رأس الشاة الذي دار
على ثمانية من الصحابة. وقد تقدم.
قلت: وقد يكون الإيثار للغير أفضل في حق ذي الحاجة وذي الضرورة
في بعض وقائع لخصوصية كأن يرى ذو الضرورة مضطرًّا مشرفًا على
الهلاك، ولا يخاف ذلك على نفسه لو آثره بقوته، بل لا يبعد هنا وجوب
الإيثار. وفي مثل ضيف النبي عليه الصلاة والسلام الذي أجهده الجوع، وفي
ذي الحاجة الشحيح، أو الذي يتهم نفسه بالبخل والشح ويحاول تطهيرها من هذه
الرذيلة؛ لترجع إلى الاعتدال الذي هو أكمل الكمال.
والحاصل أن أصل الشرع يأمر بأن يقدم الإنسان المعصوم نفسه بالنفقة، ثم
الأزواج والأقارب من فروع وأصول الخدم على الترتيب المذكور في الفقه، ثم
يتصدق ويهدي من العفو والفاضل عمن تجب عليه نفقته ممن ذُكر، والأفضل
أن لا يتصدق بجميع ما يملك ويدع ورثته عالة يتكففون والثلث كثير كما في
حديث سعد في الصحيح (عند الستة) ومن ثم قال الإمام النواوي في شرح
مسلم: إن بعضهم استدل بالحديث على تفضيل الغني على الفقير وسكت عليه،
ويأمر (أي: الشرع) بالجود والسخاء والصلة والإحسان، وبالغ في ذم
البخل والبخلاء؛ لأنه من الأخلاق المذمومة التي تدنس النفوس الإنسانية، وتقف
بها عن الصعود إلى المراتب العلية، فالمهذب الكامل الذي زكيت نفسه من أدران
الشح والبخل كأويس القرني وأضرابه يقفون عند حدود الشرع في الإنفاق
بتقديم أنفسهم ثم الأقرب فالأقرب ملاحظين في ذلك ما تقدم شرحه عن الشيخ
محيي الدين - أعني أن تقديم أنفسهم ليس لأجل التمتع والتنعم - وإنما كان يبذل
أويس رضي الله عنه جميع ما فضل عن حاجته؛ لأنه لم يكن له أهل ولا ولد
يرثه، بل كان سائحًا منفردًا، والأفضل في حقه إنفاق العفو مع التوكل بخلاف
المعيل أو من يضطرب قلبه؛ لأنه لم يقم في مقام التوكل.
وأما مَن لم يوق شح نفسه فالأفضل له المبالغة في البذل والإيثار بما وراء
سد الرمق من الحاجيات إلى أن ترجع نفسه إلى الاعتدال الذي هو السخاء
الحقيقي، وما دام السالك لم يبلغ مرتبة الكمال القصوى، فهو يتهم نفسه بالطمع
والوقوف مع الحظوظ، ولا يطمئن لما توسوس به إليه من أنها تزكت من أدران
البخل، وتحلت بحلي السخاء والجود، وإن كانت في واقع الأمر قد تزكت
والتحقت بنفوس الأولياء العارفين الأبرار، فصاحب هذه النفس يظل يؤثر الغير؛
لاتهامه نفسه بما ذكر. يؤثر ذلك عن جماعة من مشاهير الأولياء كالحسين بن
منصور الحلاج [2] والشيخ أحمد بن الرفاعي. وكان أحمد يقول: طريقتنا مبنية
على ثلاثة أشياء: لا تسأل ولا ترد ولا تدخر. نقله عنه العارف الشعراني
وغيره، ونقله البحريني نفسه في (ص36) وهنا أوردنا في كتابنا (الحكمة
الشرعية) كلامًا نفيسًا في الادخار عند الصوفية لا ينبغي ذكره في الجرائد؛
لأنه خاص بأهله، ثم قلنا:
ويحتمل أن الإيثار من بعض الصحابة عليهم الرضوان، والمبالغة في
الإنفاق التي لا تنطبق على الوجه الذي قلنا: إنه أصل الشرع - كان يقصد به
تهذيب النفوس لاتهامها بالبخل والشح، وربما يشعر بذلك قوله تعالى بعد
مدحهم بالإيثار: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) ولا
يلزم منه تفضيل مثل أويس على هؤلاء؛ لأنه من أحوال بدايتهم، وما تقدم عنه
هو حاله في نهايته. على أنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وهم
قد سبقوا بفضيلة الصحبة التي لا تُوزن بها فضيلة ولا تعادَل بها منقبة
لذاتها فضلاً عما يحتفّ بها من الفضائل والمزايا.
وخلاصة القول أن البخل مذموم والتبذير أو الإسراف مذموم والسخاء -
الذي هو وسط بينهما - هو المحمود والممدوح شرعًا وعقلاً.
بين تبذير وبخل رتبة
…
وكلا هذين إن زاد قتل
ومَن خرج عن مرتبة الاعتدال في خلق من الأخلاق فسبيل إرجاعه إليها
حمْله على المبالغة في الطرف المقابل، أعني أنه يؤمر بالإفراط إن كان في
جانب التفريط وبالعكس؛ ومن ثم ورد الشرع في ذم الإفراط والتفريط ومدح
الاعتدال والعدل، مع أنه جاء في سيرة الشارع وأصحابه وتابعيهم بإحسان -
حكايات كثيرة في المبالغة في السخاء والحِلم والتواضع وغيرها من السجايا الفاضلة،
بحيث تصل إلى حد الإفراط، والمراد بذلك الإرشاد والتهذيب لمن هو في طرف
التفريط؛ ليرجع إلى الاعتدال، ومن ذلك إيثار صاحب الضرورة أو الحاجة
غيرَه بما هو محتاج أو مضطر إليه مثله أو أزيد، والمرجع إلى محكم التنزيل القائل
بالقسط والاعتدال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ
قَوَاماً} (الفرقان: 67) ، {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ
فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} (الإسراء: 29) والله أعلم وأحكم وهو أقوم قيلاً.اهـ.
فعُلم من هذا أن الاقتصاد أصل من أصول الفضائل الإسلامية، ولكن
المسلمين أهملوا مراعاته، والأوربيون أعطوه من العناية ما ينبغي له. وألَّفوا
فيه الكتب، وأوجبوا تعليمه في جميع المدارس؛ لأنه من مقومات المدنية، فحتَّامَ
- يا قوم - لا نكاد نرى من أغنيائنا إلا سفيهًا مبذرًا، أو شحيحًا مُقترًا، بل
كاد يعم الإسراف والتبذير كل غني وفقير، يتلهى المستمسك منهم بدينه
بإلهيات شعرية، وجُمل خطابية، كقولهم: (أنفقْ ما في الجيب يأتيك ما في
الغيب) والمنحرف عن هدْي الدين لا تسلْ عن جنونه وفنونه، وسنعود إلى
مباحث الاقتصاد والبخل والسخاء في فرصة أخرى، إن شاء الله تعالى.
_________
(1)
فسرنا العجب أو الضحك في الطبعة الأولى بالرضا والقبول على طريقة الأشعرية ومذهب السلف أنه عجب أو ضحك يليق بكماله وتنزُّهه عن مشابهة.
(2)
حاشية للطبعة الثانية: الذي ترجح عندنا بعد كتابة هذا بسنين أن الحلاج كان دجالاً محتالاً.
الكاتب: أبو حامد الغزالي
حقوق الأخوة
(الحق الثاني) في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال،
وتقديمها على الحاجات الخاصة. وهذه أيضًا لها درجات كما للمواساة بالمال، فأدناها
القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح
وقبول المنة. وقال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضِها فكبِّرْ عليه واقرأ
هذه الآية: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} (الأنعام: 36) وقضى ابن شبرمة حاجة
لبعض إخوانه كبيرة فجاءه بهدية فقال: ما هذا؟ ! قال: لما أسديتَه إليَّ. قال:
خذ مالك - عافاك الله - إذا سألت أخاك حاجة فلم يُجهد نفسه في قضائها فتوضأ
للصلاة وكبرْ عليه أربع تكبيرات وعُدّه في الموتى! قال جعفر بن محمد: إنى
لأتسارع إلى قضاء حوائج أعدائي مخافة أن أردهم فيستغنوا عني. هذا في الأعداء،
فكيف في الأصدقاء؟ !
وكان في السلف مَن يتفقَّد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم
بحاجتهم، ويتردد كل يوم إليهم ويموِّنهم من ماله، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا
عينه، بل كانوا يرون منه ما لم يَرَوْا من أبيهم في حياته. وكان الواحد منهم يتردد
إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول: هل لكم زيت، هل لكم مِلح، هل لكم حاجة؟
وكان يقوم بها من حيث لا يعرفه أخوه، وبهذا تظهر الشفقة والأخوة، فإذا لم تثمر
الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه فلا خير فيها. قال ميمون بن
مهران: (مَن لم تنتفع بصداقته لم تضرك عداوته) وقال صلى الله عليه وسلم:
(ألا وإن لله أواني في أرضه وهي القلوب، فأحبّ الأواني إلى الله تعالى
أصفاها وأصلبها وأرقها) أصفاها من الذنوب، وأصلبها في الدين، وأرقها
على الإخوان.
وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك وأهم من حاجتك، وأن
تكون متفقدًا لأوقات الحاجة، غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك،
وتغنيه عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة، بل تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك
قمت بها ولا ترى لنفسك حقًّا بسبب قيامك بها، تتقلد منه بقبول سعيك في حقه
وقيامك بأمره، ولا ينبغي أن تقتصر على قضاء الحاجة، بل تجتهد في البداية
بالإكرام في الزيادة والإيثار والتقديم على الأقارب والولد.
كان الحسن يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا. وقال عطاء: تفقدوا
إخوانكم بعد ثلاث؛ فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو كانوا
نسوا فذكِّروهم. روي أن ابن عمر كان يلتفت يمينًا وشمالاً بين يدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم؛ فسأله عن ذلك فقال: أحببت رجلاً فأنا أطلبه ولا أراه. فقال:
(إذا أحببت أحدًا فسلْه عن اسمه واسم أبيه وعن منزله؛ فإن كان مريضًا عدته
وإن كان مشغولاً أعنته) وفي رواية: (وعن اسم جده وعشيرته [1] ) وقال الشعبي
- في الرجل يجالس الرجل، فيقول: أعرف وجهه ولا أعرف اسمه -: تلك
معرفة النوكي. وقيل لابن عباس: مَن أحب الناس إليك؟ قال: جليسي. وقال: ما
اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثًا من غير حاجة له إليَّ فعلمت ما مكافأته من الدنيا.
وقال سعيد بن العاص: لجليسي عليَّ ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حدث أقبلت
عليه، وإذا جلس أوسعت له. وقد قال تعالى {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) إشارة
إلى تمام الشفقة والإكرام. ومن تمام الشفقة أن لا ينفرد بطعام لذيذ أو بحضور في
مسرة دونه، بل يتنغَّص لفراقه ويستوحش بانفراده عن أخيه. اهـ. من (الإحياء)
فهكذا تكون الأخوة، وهكذا تكون آداب الأمم في طور الحياة، وكأنِّي بالذين في
قلوبهم مرض تنفر نفوسهم من هذه الآثار، ولو نقل مثلها عن الإفرنج لأُعجبوا بها
وتنافسوا فيها.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
رواه الترمذي عمن قال: إنه لا نعرف له رواية. والخرائطي والبيهقي بسند ضعيف.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحبالى وتربية الأجنة
(1)
نعني بتربية الجنين:عناية الحامل به بصحتها لما؛ لذلك من التأثير في صحته.
فقد قلنا في الجزء الماضي: إن لأحوال الأم الجسدية والنفسية أثرًا في نمو الجنين
واستعداده. ولا نعني بالأحوال النفسية إلا ما مثّلنا به من نحو الخوف والحزن لا ما
هو شائع من أن أية شهوة من شهوات الوحمى تؤثر في الجنين حتى تظهر صورة
المشتهى في جسده إذا هي لم تصبه؛ ولذلك يجتهد الناس في إنالة الوحمى كل ما
تشتهي. ويستدلون على هذا بحكايات قصاراها أنها تنهض استقراءً ناقصًا لا يثبت
به المدعى قطعًا. ولكن المعقول الذي يريده العلم أن الانفعالات القوية تؤثر في
الصحة، ويتبع هذا تأثيرها في الجنين، وبيانه باختصار: أن الجهاز التناسلي يتأثر
بالانفعال الشديد كالجهاز العصبي والهضمي وغيرهما، وهو في أثناء الحبل يكون
مشغولاً بأداء وظيفته؛ فما يطرأ عليه إما أن يساعده في عمله، وإما أن يعوقه عنه.
ولا يحسبنَّ الحبالى أن أقل كدر عادي أو حزن عارض أو خوف خفيف يؤثر
في أجنتهن فيستولي عليهن الوسواس كلما ألمّ بهن شيء مما لا يخلو عنه الإنسان في
الغالب. كلا، إن الجنين شخص مستقل في نفسه صلته بأمه صلة المظروف
بالظرف، وإنه يتغذَّى من دمها؛ ولذلك لا يؤثر فيه إلا ما يحدث أثرًا في الدم الذي
يتغذى به، وحصول هذا نادر، أو في الرحم الذي هو بيئته ووطنه، وما كل انفعال
يُحدث هذا الأثر، نعم، إن الأمراض الوراثية وما يطرأ على الأعضاء ولا سيما
البطن من نحو ضرب ووكز ولبس الثياب الضيقة إذا كانت تضغط البطن؛ كل ذلك
مقطوع بسوء تأثيره وضرره، ومن العلماء مَن زعم أن كل ما يعرض لعضو من
أعضاء الحبلى ينقل منها إلى مثله من الجنين، فعلى الحامل أن تراعي ما
سنذكره في النبذة الآتية في الجزء التالي لهذا.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التعليم بالعمل
جاء في الحدث الشريف: (مَن عمل بما علم ورثه اللهُ علمَ ما لا يعلم) ويؤثر
عن الإمام علي - كرم الله وجهه - أنه قال: (يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا
ارتحل) ، وقد أخذ الإمام هذا الأثر من مفهوم الحديث. وغاية ما انتهى إليه
الباحثون في فن التعليم أن الأعمال هي التي تطبع ملكات العلم والعمل في النفوس،
وأن المسائل العلمية التي تعرض على العقول من طريق السمع مرة أو مرات - لا
تكاد تثبت، وإذا ثبت بعضها فإنما يكون كآلة موجودة في بيت رجل لا يُحسن
استعمالها، بخلاف ما إذا عرضت المعلومات بأعيانها أو أمثلتها عند الكلام عليها
وكلف المتعلم أن يستعمل علمه ويطبقه على المعلومات. وهذا مما أرشد إليه النبي
والإمام من 13 قرنًا واهتدى إليه الأوربيون من عهد قريب.
فمَن أحب ألا ينسى ما يتعلمه من قواعد العربية مثلاً فليُكثرْ من الأمثلة في
كل مسألة، وليراعِ القواعد في كلامه بالتكلف قولاً وكتابة؛ حتى تنطبع في نفسه،
وتصير ملكة راسخة يصدر عنها الكلام العربي الصحيح بغير رويَّة ولا تكلف،
ونحن نرى الذين لا ينهجون هذا المنهاج يقضون أعمارهم في مدارسة الفنون
العربية، ولا يحسنون قولاً ولا كتابة. ولا بد في تحصيل ملكة الفصاحة والبلاغة من
كثرة قراءة الكلام البليغ مع تفهم معانيه وملاحظة أساليبه ومناحيه.
ومعرفة القواعد تعين على هذا ولكنها لا تفيد في الوصول إلى المطلوب بدون
هذا العمل، فكأيِّن من أستاذ قرأ كتب السعد وغيرها مرارًا وهو أعيى باقل،
وأعجز عن الكتابة البليغة من صبية المدارس. وقد أحسنت نظارة المعارف المصرية
بحظرها على معلمي العربية الكلام العُرفي (البلدي) في أثناء الدروس،
وإلزامها إياهم بأن يجعلوا شرح الدروس وتلقينها للتلاميذ بالكلام العربي الصحيح.
وأجدر بشيوخ الأزهر الأفاضل ونحوهم من معلمي المدارس الدينية - أن يكونوا هم
السابقين إلى هذه السُّنة الحسنة، وعسى أن يتداركوا ما فاتهم من السبق في البداية،
بالسبق والتبريز في النهاية؛ فإن السبق في نفس العمل المقصود خير من السبق
في الابتداء والشروع.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
ما قيل في الخال
قال مظفر الأعمى:
لا تحسبوا شامة في خده طبعت
…
على صحيفة خد راق منظره
وإنما خده الصافي تخال به
…
سواد عينيك خالاً حين تنظره
وأحسن منه في هذا المعنى قول بعضهم:
صقيل الخد أبصر مَن رآه
…
سواد العين فيه فخال خالا
وقال ابن حمديس:
يا سالبًا قمر السماء جماله
…
ألبَستني في الحب ثوب سمائه
أشعلت قلبي فارتمى بشرارة
…
علقت بخدك فانطفت في مائه
ومثله قول المقري في مزدوجته:
وما أرى في خدك اليسار
…
أنقطتا مسك بجلنار
أم ذاك لهيب النار
…
رمى شرارتين في الأوار
…
...
…
... فانطفتا في ماء ذاكالورد
…
وينظر إليه قول الأستاذ الشيخ عبد الغني الرافعي الشهير وأحسن ما شاء:
وما نقط ذاك الخال في الخد خلقة
…
ولا حيلة جاءت بها صنعة السحر
ولكننا لما اجتمعنا عشية
…
وقدمت من أهوى اعتناقًا إلى صدري
تقاطر دمعي فوق جمرة خده
…
فكان سواد الخال من ذلك القطرِ
وينظر إلى قول المقري: (أنقطتا مسك بجلنار) قول بعضهم:
ومهفهف من شعره وجبينه
…
يبدو الورى في ظلمة وضياء
لا تنكروا الخال الذي في خده
…
كل الشقيق بنقطة سوداء
وقال ابن رشيق في خال تحت الحنك:
حبذا الخال كائنًا منه بين الـ
…
ـخد والجِيد رقية وحذارا
رام تقبيله اختلاسًا ولكن
…
خاف من سيف لحظه فتوارى
وأحسن منه في بابه قول الشاب الظريف:
وبين الخد والشفتين خال
…
كزنجي أتى روضًا صباحا
تحير في الرياض فليس يدري
…
أيجني الورد أم يجني الأقاحا
ويناسبهما قولي في الخال تحت الشعر:
والخال لص شام ثغرك ضاحكًا
…
فأتى ليسرق منه ذاك الجوهرا
لكنه خاف اللحاظ وقد رأى
…
آس العذار مخيمًا فتسترا
وقال غوث الدين العجمي في العذار والخال:
لهيب الخد حين بدا لعيني
…
هوى قلبي عليه كالفراشِ
فأحرفه فصار عليه خالاً
…
وها أثر الدخان على الحواشي
وللشيخ ناصيف اليازجي معنى في الخال غريب وهو:
مليح شهدنا أن نارًا بخده
…
لأنا وجدنا بينها فحم خاله
وأنت ترى أنه أهان الخال ونقصه قدره، وهو ذنب لا يغفره له عشاق
الحسان، ويستحق عليه الهجر من الغوان! وقريب من هذا قوله:
في خدها نار المجوس التي
…
قام لديها الخال كالموبذان
وقال في مطلع قصيدة وأحسن ما شاء:
ما بال تلك الشامة الخضراء
…
في النار وهي كأنها في الماء
وقد تفننوا في تشبيه الخال بالمسك والعنبر، ومما قاله ابن سهل في ذلك من
قصيدة:
غزال براه الله من مسكة بري
…
بها الحسن منا مسكة المتجلدِ
وأبدع فيها الصنع حتى أعارها
…
بياض الضحى في نعمة الغصن الندي
وأبقى لذاك الأصل في الخد نقطة
…
على أصلها في اللون إيماء مرشدِ
وله في الخال أيضًا:
لا أرى الخال فوق خد
…
يك ليلاً على فلق
إنما كان كوكبًا
…
قابل الشمس فاحترق
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجامع الأزهر الشريف
من جملة التنظيم الجديد في الأزهر الامتحان السنوي لمن شاءه من طلاب العلم
فيه، ويمتحن في العلوم والفنون التي يختار الطالب أن يمتحن فيها، وقد خَصص
مجلس إدارة الأزهر ستمائة جنيه لمكافأة النابغين في التحصيل سنويًّا. ويؤخذ من
الرقيم الذي رفع من فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع إلى عطوفة رئيس مجلس
النظار أن الذين طلبوا الامتحان في العام الماضي كانوا نحو ستمائة وامتحنوا في
ثمانية عشر علمًا. وأما الذين طلبوا في هذا العام فكانوا 1502 وامتحنوا في ثمانية
وعشرين علمًا، والذين نجحوا يعرفون بحساب النسبة المئوية مما يأتي:
الناجحون في علم التوحيد 18 في المائة، وفي علم التفسير 19 (نحذف لفظ
في المائة اختصارًا) والحديث 66، والفقه 50، والميراث 78، والنحو 47،
والصرف 26، والمعاني 75، والبيان والبديع، 49، والمنطق 43، ومصطلح
الحديث 60، والحساب للسنة الأولى 62، وللسنة الثانية 80، وتقويم البلدان
(الجغرافية) للسنة الأولى 65، والثانية 85، والهندسة 70، والميقات 75،
والتاريخ 85، والعَروض والقافية 70، وعلم الإنشاء 25، والخط 77، والأخلاق
الدينية 50، وآداب البحث 75. وفي كل من علم الحكمة والوضع والاشتقاق نجح
جميع الذين امتحنوا، ولم ينجح في علمي الجبر والمقابلة والهيئة أحد ممن امتحنوا،
ولم يحضر للامتحان في علم أصول الفقه أحد ممن كان طلبه!
والذين طلبوا الامتحان في كل من التفسير والحديث ومصطلحه والميراث
والبديع والعروض والقافية والتاريخ والإنشاء والميقات كانوا فوق العشرين ودون
المائة - وفي كل من علم الأصول والحكمة وآداب البحث والوضع والاشتقاق،
والأخلاق الدينية والجبر والمقابلة والهيئة أقل من عشرة، والذين امتحنوا في كل علم
مما عدا هذه العلوم - لا سيما التوحيد والفقه والنحو والمنطق والبيان والحساب
والهندسة وتقويم البلدان - يعدون بالمئات.
أما أخذ المكافآت فهو بحسب درجات التحصيل التي تقدر ويعبر عنها (بالنمر)
وقد جعلت الدرجة الثانية عشرة (نمرة 12) علامة النجاح، وكل من انتهى إليها
في العام الماضي أخذ المكافأة التي أقلها جنيه واحد، وأكثرها ثلاثة.
وأما في هذا العام فقد خصصت المكافأة بالنابغين لقلتها وكثرة الطالبين،وجعلت
درجة النبوغ 16، فأصحاب الدرجة 12 إلى 15 عدوا ناجحين غير نابغين فلم
يستحقوا مكافأة، وأصحاب الدرجة 16 فما فوقها أخذوا المكافآت على هذه الطريقة
العادلة، وهي أنه جمعت درجات النبوغ في العلوم كلها وقسم عليها مبلغ المكافأة
بتمامه، فما أصاب الدرجة الواحدة جعل سهمًا لمكافأة النابغ في فن واحد بدرجة
واحدة، فمن بلغت درجاته في العلوم التي امتحن فيها مائة مثلاً نال مائة سهم،
وهكذا، وظاهر أن هذه الطريقة أعدل وأحكم من الطريقة الأولى؛ لأن كل طالب
يأخذ فيها على قدر استحقاقه.
هذا ملخص الرقيم، ويسرنا منه حسن النظام الذي يجري عليه مجلس إدارة
الأزهر الشريف، ونرجو أن يترقى به إلى أعلى درج النجاح الممكن، فإن النظام
روح السعادة في أعمال الإنسان وساءنا أن الذين امتحنوا في علم الأخلاق - وإن
شئت قلت: علم الدين - جمعهم جمع، قلة؛ بل علمنا أنهم أربعة أخذ الجائزة منهم
اثنان، وعسى أن يكون في الأزهر ممن لم يطلب الامتحان عدد كبير من المشتغلين
بهذا العلم؛ فإنه هو الأساس الذي يقوم عليه بناء السعادة الدنيوية والأخروية.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(الحج والوباء)
اجتمع مجلس النظار اجتماعًا خصوصيًّا للمذاكرة في أمر منع الحج الذي يراه
مجلس الصحة البحرية ضروريًّا لمنع انتقال الوباء من بلاد الحجاز إلى مصر، ولما
كان المنع من الحج منعًا من ركن ديني أساسي لم يكن للنظار أن يبرموا فيه أمرًا إلا
بعد الاستفتاء من العلماء؛ ولهذا طلب عطوفتلو رئيس مجلس النظار لحضور
الاجتماع صاحب السماحة قاضي مصر وأصحاب الفضيلة شيخ الأزهر ومفتي الديار
المصرية والشيخ عبد الرحمن النواوي مفتي الحقانية والشيخ عبد القادر الرافعي
رئيس المجلس العلمي سابقًا، فحضروا وتذاكروا مع النظار وبعد أن انفضوا من
المجلس اجتمعوا، وأجمعوا على كتابة هذه الفتوى وإرسالها إلى مجلس النظار وهي
بحروفها:
الحمد لله وحده.. لم يذكر أحد من الأئمة من شرائط وجوب أداء الحج عدم
وجود المرض العام في البلاد الحجازية؛ فوجود شيء منها فيها لا يمنع وجوب أدائه
على المستطيع. وعلى ذلك لا يجوز المنع لمن أراد الخروج للحج مع وجود هذا
المرض متى كان مستطيعًا.
وأما النهي عن الإقدام على الأرض الموبوءة الواردة في الحديث، فمحمول
على ما إذا لم يعارضه أقوى؛ كأداء الفريضة، كما يستفاد ذلك من كلام علمائنا.
وأيضًا فإن النهي عن الدخول أو الخروج تابع لاعتقاد الشخص الذي يريد الدخول
أو الخروج كما يفيده ما في تنوير الأبصار متن الدر المختار؛ حيث قال: (وإذا
خرج من بلدة بها الطاعون وهو الوباء العام- فإن عَلِمَ أن كل شيء بقدر الله تعالى فلا
بأس بأن يخرج ويدخل، وإن كان عنده أنه لو خرج نجا ولو دخل ابتُلي به كُره له ذلك، فلا يدخل ولا يخرج) اهـ. وأيده شارحه السندي. والله أعلم. في 2
ذي القعدة سنة 1316.
(المنار)
ولو قيل بجواز المنع إذا تحقق أن فيه المصلحة العامة لنِيطَ بالإمام الأعظم؛
لأنه من وظائفه ولم يكن لغيره أن يُقْدم عليه إلا بإذنه، وسوف نشرح هذه المسألة
في مقالة نكتبها في موضوع (ثبوت العدوى) إن شاء الله.
***
ورد على صاحب الدولة الغازي مختار باشا رسالة برقية من دولة والي
الحجاز ملخصها أن الاحتياطات الصحية في جدة في غاية الإتقان، وأنه لم يُصب أحد
في مكة بعد ذلك البخاري، وأن الوفيات في جدة بين واحدة واثنتين في اليوم، ورسالة
أخرى في 15 مارث ملخصها أنه لم يحدث في جدة إصابة ولا وفاة في تاريخها.
***
كتبت (ثمرات الفنون) الغراء مقالة وجيزة في (الانتقاد والجرائد) ومما
انتقدناه عليها فيها أنها جاءت بنبذة من (العروة الوثقى) في أطواء الكلام ولم تسندها
إليها أو تميزها بوضعها بين قوسين ليعلم أنها تضمين.
***
يؤخذ من الجرائد الإنكليزية أن سفير إنكلترا الجديد في الآستانة آنس من
الحضرة السلطانية ارتياحًا؛ لما أبداه لها من رغبة دولته في إعادة الوداد السابق بين
الحكومتين.
***
صدر الأمر العالي بفصل (تفتيش الوادي) عن نظارة المالية وإلحاقه
بديوان الأوقاف العمومية، ولكن بشرط أن تتولى نظارة الأشغال العمومية أعماله،
لتصلح شؤونه إحدى عشرة سنة، ثم يتولاه ديوان الأوقاف مباشرة.
***
وقفنا على قصيدة لطيفة في التهنئة بولي عهد الخديوية حرسه الله بعين
عنايته الأبدية، لناظمها الأديب الفاضل مصطفى صادق أفندي نجل الأستاذ الكامل
الشيخ عبد الرزاق أفندي الرافعي قاضي مديرية الغربية الشرعي مطلعها:
بزغت شموس الأنس من أفق الهنا
…
وتبسم الإسعاد أي تبسم
ومنها وفيه تاريخ هجري:
فالكون أرّخ مصر يُنبي سعدها
…
بولي عهد القطر (عبد المنعم)(1316)
(وختامها)
راق الهنا أرخ له شمس الكما ل محمد الأفضال عبد المنعم
(1899)
فنعتذر بضيق المقام عن شرحها كلها، كما نشكر لحضرة الناظم ما تفضل
علينا به من تقريظ المنار وتهنئتنا نظْمًا ونثرًا بإكماله السنة الأولى.
***
رأينا في جريدة طرابلس مقالة - كليالي الشتاء - تعتذر فيها عن العلماء
الذين أهملوا وظائفهم الدينية بما يمثل الذنب ويؤيده، وسنرد عليها في العدد الآتي
إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تأثير العلم في العمل
] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ [[1]
أنشأ الله الإنسان يعمل بإرادة تأتمر في تحريك الأعضاء على العمل بأمر العلم
الذي تنكشف به وجوه المصالح والمنافع، فمتى كانت علوم الإنسان في أفراده
ومجموعه صحيحة منطبعة في النفس بتكرر العمل أو بالنظر والاعتبار تصدر عنه
أعمال جليلة وآثار جميلة. ومتى كانت العلوم مضطربة بامتزاجها بالأوهام أو غير
منطبعة في النفس لعدم التربية عليها والعمل بها والنظر فيها بعين التأمل والاعتبار،
فلا جرم أن الأعمال تأتي مختلة سيئة. والسعادة إنما تُنال بالأعمال؛ فالأمة
الجاهلة بعيدة عن السعادة.
العلم الإجمالي قلما يفيد صاحبه؛ لأنه دائمًا عرضة للجهالة بما يرد على
جزئياته من الشكوك التي لا تُنفى إلا بالعلم التفصيلي الكامل. ألا ترى أن أكثر
الناس يعلمون بالإجمال أن أمهات الرذائل وكبائر المعاصي من أسباب الشقاء، ولو
كان هذا العلم صحيحًا كاملاً لا اضطراب فيه لصدرت عنه آثاره حتمًا، وهي ترك
تلك الرذائل والمنكرات، وكذلك يقال في أصول الفضائل والأعمال الصالحة النافعة
يعلمها عامة الناس علمًا إجماليًّا سطحيًّا يلوح في الخيال، ولكن لا أثر له في النفوس
والأرواح؛ لأن كل صفات الروح تظهر على الجسد بالأعمال، ومن كان علمه كاملاً
بشيء ما، وظهر من أعماله ما لا ينطبق عليه، فإنما يكون ذلك لأثر في النفس
أقوى من ذلك العلم كالوجدانات والانفعالات العارضة؛ فإن النزيه ربما ينطق
بالسب والهجر من القول لغضب شديد يعرض له، لكنه لا يلبث أن يعود إلى رشده،
وأمثال هذه النوادر التي تعرض للعلماء والمهذبين لا تحبط أعمالهم ولا تنحرف بهم
عن جادة السعادة {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن
قَرِيبٍ} (النساء: 17) .
خفيت هذه المسألة عن الجاهلين بعلم النفس وعلم فلسفة الأخلاق، فزعموا أن
العلم لا يؤثر في الحمل على العمل، وربما يكابر بعض الذين يحسبون أنهم على شيء
من العلم ويمارون في القول؛ لأنه جاء مجملاً، ولذلك رأينا أن نزيده بقليل من
التمثيل.
إن الذي يعلم علمًا ناقصًا أن الحسد والكبر هو (غمط الحق واحتقار الناس)
رذيلتان ممقوت صاحبهما عند الله والناس، وأنه يجب عليه أن يجاهد نفسه ويطهرها
من رجسهما - يشتبه عليه الأمر في الجزئيات، فيحسد ويتكبر ويرى أنه غير حاسد
ولا متكبر، وإذا قيل له في ذلك لجأ إلى الاعتذار والتأويل فيقول في الحق الذي غمطه
ولم يخضع له - لأنه جاء من قِبل مَن يرى نفسه فوقه مثلاً -: إنه ليس بحق.
وينتحل ما تجود به قريحته من الشبه لإثبات أنه ليس بحق، وإذا لم يجد شبهة يطفئ
بها نور؛ الحق لقوة شعاعه يقول: إنه حق ولكن جاء في غير وقته ووضع في
غير موضعه، فأنا أغمطه لا لذاته بل لأنه لم يأتِ على منهاج الحكمة. (وكأن الحكمة مختصة به لا يعلم مواقعها غيره، نعوذ بالله من الغرور) ويقول - في الإنسان الذي احتقره -: إن ما صدر مني في شأنه مما يدل على انتقاصه واحتقاره لم
أقصد به إلا بيان الحقيقة أو إسداء النصيحة للناس كيلا ينخدعوا به.
والدليل على أن جهله بأخلاق نفسه هو الذي أراه باطله حقًّا وأعماه عن
جزئيات رذائله - أن ما وقع منه لو عرض على مَن هو أعلم منه بالأخلاق لجزم
بأنه حسد وكبر لا يحتمل التأويل وعجيب أن مثل هذه التعلَاّت تصدر من أمثل
العلماء. اجتمع الأستاذ فضيلتلو الشيخ حسين أفندي الجسر محرر جريدة طرابلس
بالسيد جمال الدين الحكيم الشهير فقال له السيد: إن جريدتكم قد جمعت بين الكفر
والإيمان! تكتب مقالة في تحريم الكذب وقبحه ثم تُملأ بعد ذلك بالكذب وغش الأمة
بمدح الجهلاء الأشرار الذين تجعلهم أئمة علماء: وأتقياء صلحاء. قال: (وإننا لا
نخطو خطوة واحدة إلى الأمام ما لم نعطِ كل ذي حق حقه، فنقول في العالم: عالم.
وفي الجاهل جاهل وهكذا) فقال له الأستاذ المحرر: (إن هذا تَقِيَّة؛ لأن مَن
عنيت مُضِرُّون يُخشى شرُّهم) فقال له السيد: (التقية مذهب الشيعة) .
ومثال آخر للشكوك التي ترد على العلم الناقص فتزلزله حتى ما تصدر عنه
آثاره - ولولا ضعفه وزلزاله لصدرت - أن عامة المسلمين الذين يأتون الفواحش
والمنكرات وهم يسلمون بأنها موجبة لسخط الله وعذابه في الآخرة لا يأتونها في
الغالب إلا لأن علومًا أخرى مسلمة مثلها؛ لأنها جاءت من الدين عارضتها وصارعتها
فقويت عليها بمساعدة الهوى والغرض كالمكفرات للذنوب من الأعمال الصالحة فإنهم
يسمعون من الوعاظ والخطباء أن مَن صام يوم عاشوراء غُفرت له ذنوب سنة، ومن
صام يوم عرفة غفرت له ذنوب سنتين - السنة السابقة والسنة اللاحقة - ومن صام
يومًا من رجب استوجب رضوان الله الأكبر، وأن من سبّح كذا في وقت كذا غفرت له
ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج أو زبد البحر، وأن الله يعتق في كل ليلة من رمضان
كذا، والمجموع يستغرق الأمة، وكالشفاعات فقد توسع فيها الوعاظ والقُصَّاص وفي
الكتب منها العجب العجاب، فيقولون: إن العالم يشفع في كذا بيتًا من جيرانه بعد
الشفاعة لأهله وخلانه. ويتوهم علماء السوء ويوهمون الناس أنهم هم
الشفعاء؛ ليعطوهم ويعظموهم. وبعض ما يوردونه في ذلك باطل لم يرد في الشرع
(كما بيناه في مقالات سابقة) وبعضه له معانٍ صحيحة لا يترتب عليها هذا الغرور
الذي أبطل فائدة الإنذار الذي جاءت به الرسل والأديان. مثلاً: إن ما ورد في
المكفرات للذنوب مقصود به الترغيب في الطاعة، وإنما المراد بالذنوب التي تكفَّر
هي الصغائر والهفوات التي لا يخلو الإنسان من الإلمام بها لا العظائم والموبقات
كأكل أموال الناس بالباطل وشهادة الزور والكذب والخيانة وعدم الوفاء بالوعد؛ فإن
مثل هذه لا تكفر إلا بالإقلاع عنها ورد الحقوق إلى أربابها، وإلا لكان هدي الدين
عبارة عن كلمات أو أعمال قليلة يباح للإنسان معها كل شيء، ولبطلت فائدة
النصوص المنفرة عن المعاصي والرذائل.
كيف يصح أن نقول: إن حركة اللسان بكلمات أو صيام يوم أو أيام يكفر هذه
السيئات الفاشية التي دهورت الأمة في مِهواة الشقاء وأنزلت بها صواعق البلاء.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث مَن كُنَّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى
وحج واعتمر: وقال إني مسلم - إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)
رواه بهذا اللفظ أبو يعلَى بسند محتج به، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ
أخرى بمعناها في رواية مسلم التصريح بقوله: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)
وظاهر هذا الحديث أن مَن كانت فيه هذه الثلاث فهو ليس بمسلم حقيقة ولا يغني
عنه ادعاء الإسلام والإتيان بأعماله العظيمة الظاهرة كالصوم والصلاة والحج، ولكن
العلماء أوَّلوه وقالوا: إن المراد به (النفاق العملي) ولكن لا يستطيع أحد منهم أن
يقول: إن هذا النفاق العملي يكفَّر بالصوم والصلاة والتسبيح؛ لأنه إبطال للحديث
ورفْض له.
وأما العفو وشفاعة النبي - وهي عبارة دعاء يدعو به يوم القيامة فيستجيبه الله
تعالى له - فالحكمة في الأول أن لا ييأس المسرف على نفسه؛ لأنه إذا يئس
يسترسل في الفجور، ومراد الشريعة رجوعه عنه والحكمة. في الثانية إظهار كرامة
للشافعين، على أنهم لا يشفعون إلا بإذنه ولمَن ارتضى. والكتاب والسنة طافحان
ببيان ما يرتضيه تعالى وما لا يرتضيه ونكتفي هنا بقوله تعالى: {رضي الله عنهم
وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة: 8) على أن العفو والشفاعة مبهَم
أمرهما، والأصل أن الجزاء على الأعمال {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) وفي الصحيحين قام رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين أُنزل عليه] وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [ (الشعراء:214)
فقال: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله تعالى؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا،
يا بني عبد مناف؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس يا عم رسول الله؛ لا أغني
عنك من الله شيئًا، يا صفية يا عمة رسول الله؛ لا أغني عنكِ من الله شيئًا،
يا فاطمة يا بنت محمد سَليني من مالي ما شئت؛ لا أغني عنك من الله شيئًا.
وأضرب لهم مثل العفو والشفاعة عند الملوك والأمراء الذين تتغير انفعالاتهم
ويمكن للمقرب منهم أن يؤثر في نفوسهم ويحملهم على ما يريد منهم ونحو هذا مما
هو ممتنع في جانب الله تعالى - هل يتجرأ آحاد الناس على الجرائم والجنايات
جهرًا اتكالاً على عفو الأمير أو السلطان أو توقعًا لاحتمال الشفاعة له من أحد
المقربين إليه؟ ! كلا، إن مَن يجاهر من الناس بالجناية رجاء العفو أو الشفاعة
لا بد أن تكون له مكانة عند السلطان أو المقرب إليه؛ بحيث يجزم أو يرجح أن العفو
يناله، بل إنه لا يُسأل عما يفعل، وإنما يكون هذا في الحكومات الاستبدادية التي لا
يتقيد سلطانها بشريعة ولا نظام، ومثل هذا مستحيل في جانب أحكم الحاكمين سبحانه
وتعالى. وهذه المسألة دليل واضح على مسألتنا؛ وهي أن العمل إنما ينشأ عن العلم
الأثبت والأقوى في النفس. وإليك مع هذا البيان المعقول من البراهين النقلية الآية
التي صدَّرنا بها هذه المقالة: {إِِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28)
وحديث: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية) .
ثبت بما ذكرناه أن العقل والنقل متفقان على أن العلم الصحيح السالم من
الشوائب والعلل هو الباعث لإرادة الإنسان على تحريك الأعضاء للعمل. فيصح أن
يستدل بأعمال الأفراد وأعمال الأمم على مكانتها من العلوم بوجوه منافعها ومصالحها
وما عندها من الفنون التي يزيد العمل بها إتقانًا وارتقاءً. ومعلوم أن سعادة الأمم
بأعمالها، وأعمالها لا ترتقي في مدارج الكمال إلا بالاتفاق والتعاون، والاتفاق
والتعاون لا يأتيان إلا من تهذيب الأخلاق وتقويم العادات وتصحيح العقائد التي يُبنَى
عليها الترغيب والترهيب اللذان يقودان إلى التهذيب، وحسبك من الدليل النقلي على
ذلك حديث: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وتعليم التهذيب هو وظيفة العلماء
ورثة الأنبياء، وإهمال أصحاب هذه الوظيفة لها هو الذي يدهور الأمم في مهاوي
الشقاء. فثبت بهذا كله أن مبدأ ما حل بالشعوب الإسلامية من التأخر والانحطاط
إهمال العلماء وظائفَهم في الإرشاد والتهذيب، والداء إنما يُشفَى بإزالة علته وسببه
واصطلام الجراثيم التي يتولد هو منها؛ ولذلك جعلنا من مقاصد جريدتنا الأولية بيان
تقصير العلماء وأسبابه، والبحث في العلل التي أفسدت التعليم وحالت بين المتعلمين
وبين غايات العلوم والفنون التي يتدارسونها، ومزج هذه المباحث بلوم العلماء
تارة، وحثهم على الإصلاح تارة أخرى، وقد رأينا من أفاضل علماء مصر
المنصفين - وبلغنا عن مثلهم من علماء تونس والهند - استحسان عملنا هذا
وتقريظه، وأنه يُرجى الانتفاع به؛ فزادنا هذا نشاطًا واجتهادًا، والله يهدي مَن
يشاء إلى صراط مستقيم.
_________
(1)
(فاطر: 28) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
مؤاخذة العلماء والرد على جريدة طرابلس
كم أداوي القلب قلَّت حيلتي
…
كلما دويت جرحًا سال جرحُ
ذكرنا في العدد الماضي أننا رأينا في جريدة طرابلس مقالة - كليالي الشتاء -
أي: طويلة مظلمة باردة، تعتذر فيها عن العلماء الذين أهملوا وظائفهم في
إرشاد الأمة وتزعم أنهم غير مؤاخَذين بترك الواجب عليهم لأوهام وتخيلات، ذكرتها
ولولا خشية انخداع الناس بقولها وتوهم صاحبها أنه جاء بحق مقنع؛ لما تعرضنا للرد
عليها ولكن هذه المسألة التي تنفيها هي ونثبتها نحن (مؤاخذة العلماء بترك إرشاد
الأمة الذي هو مناط سعادتها بالاتفاق حتى من جريدة طرابلس) - هي القطب الذي
يدور عليه ما نرجوه من إصلاح حال الأمة؛ ولذلك نرى من الواجب أن نزيح عنها
شُبه المشتبهين، ونزيل تمويه المموهين {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ
عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 42) ؛ أي، ليظهر للمرتاب - في كونه
مؤاخَذًا- أنه مؤاخَذ، فيكون هلاكه بترك الواجب إذا هو تركه عن بينة، وحياته
بالقيام به إذا هو فعل عن بينة، والله سميع لأقوالنا عليم بنياتنا؛ فيجازينا عليها.
أما كون المقالة باردة فقد عنينا به ما فيها من التنديد بأحد الكُتاب ونبزه
بالألقاب. وقد انبعق قلم كاتب المقالة في هذا، ونضح إناؤه بما لعله يعيبه على غيره
إذا هو صدر منه، وعهدنا بأناته أنه لا ينطق بمثل ذلك الكلام إلا إذا غلب على
أمره بانفعال شخصي قوي، أما المصالح العامة فإنه فيها هين وكلامه لين. وأدب
الشرع في الوعظ معروف، وهو الشدة في الكلام العام الذي يوجه إلى صِنف من
الناس بحسب درجة انحرافهم، حتى جوَّز لعن الفاسقين ولم يجوِّز لعن كافر
معين بالشخص أو الوصف الذي يتعين به، ويا ليت شِعْري هل يقول: إن رمي
أحد الناس بالغلظة والفظاظة والسفه والحُمق - يكون من الرقة واللطافة
والحلم والعقل التي ينضح بها إناء الإنسان الكامل؟ !
وأما كونها مظلمة فلما فيها من العسلطة، واشتباه الحق بالباطل وتمويه
الصواب بالخطأ الذي يرمي الأمة في هوة اليأس والقنوط؛ بزعمها أن العلماء
سقط عنهم وجوب إرشاد الأمة مع الاعتراف بأن نهوض الأمة منوط بإرشادهم،
وأن التبعة ينبغي أن تُلقى على الأغنياء، وعللت ذلك بقولها: (إن المطالب أولاً
وبالذات بالإنشاءات العمومية التي بها نجاح الأمة هم أهل الثروة وذوي (كذا)
الغِنى) ثم اعترفت: (بأن أرباب الثروة ليسوا كلهم عارفين ثمرات تلك
المشروعات العمومية) وأنهم يحتاجون إلى موقظ ينبههم من هذا السبات، وأنه (ليس
ثمة من موقظ من ذلك الإيقاظ ومنبه ذلك التنبيه وباعث ذلك البعث - إلا قيام العلماء
نافذي الكلمة؛ يعظون المواعظ الحسنة ويخطبون الخطب الطنانة ويتكبدون مشاق
الأسفار وينشرون في الجرائد خطاباتهم دون إسرار) وأنت ترى أن هذا يرجع
باللائمة على العلماء أولاً وبالذات خلافًا لقوله الأول؛ لأن الأغنياء لا ينبعثون
إلى العمل إلا بإرشادهم كما قال فهم المطالِبون بالإصلاح قبل كل أحد.
إن صاحب العلم الإجمالي عندما يتكلم في مسألة غير محيط بأطرافها، وعلى
غير بيِّنة من جميع دخائلها وعوارضها ربما يحتج على النفي بما يقتضي الإثبات،
وعلى الإثبات بما يقتضي النفي، ويقر بالشيء في معرض الإنكار وينكره في معرض
الإقرار؛ فتأتي في تضاعيف كلامه القضايا الصحيحة في غير مواضعها، فلا يكاد
يستفاد منها، ولكن عندما تقوم الحجة عليه بنفي شيء أو إثباته - يتنصل ويخطِّئ
صاحب الحجة مستدلاً بأنه قال كذا في مكان كذا! ومن هذا القبيل ذكرت جريدة
طرابلس أن المطالب بنجاح الأمة - أو وبالذات الأغنياء - فإنه لا معنى لذكره في
مقام رقع التبعة عن عواتق العلماء إلا إذا كان صحيحًا على إطلاقه، لكنه ليس
بصحيح؛ لأن الأغنياء يحتاجون قبل ذلك إلى مَن يعرِّفهم بمنافع الإنشاءات العمومية
كالمدارس والمصانع، وقد اعترفت الجريدة بذلك كما علمت، وأهم من هذا حاجتهم
قبل ذلك إلى تهذيب يجمع كلمتهم وينفخ فيهم روح الثقة الوطنية؛ فإن أهل الشرق
الآن لا يكادون يثقون في الأعمال العمومية إلا بالأجانب!
الأعذار الثلاثة:
اعترفت الجريدة المذكورة بأن الواجب على العلماء إرشاد الخلق إلى مصالح
المعاش والمعاد، ولكن زعمت أنهم بتركه معذورون وبتفويته (كذا في الأصل) غير
موزورين وانتحلت لذلك أعذارًا ثلاثة نذكرها ونبين فسادها:
(العذر الأول) ملخصه أن العلماء - في الغالب - ليسوا أصحاب ثروة، وأن
أغلبهم يعيش من نحو تدريس أو إمامة أو خطابة ومداخيل (كذا في الأصل) ، هذه
الوظائف قلّ أن تزيد عن الكفاية، قال الكاتب: فإذا أرادوا أن يقوموا في تلك
(كذا) الوظيفة التي نقول: إنها واجبة عليهم. وهي وظيفة تحتاج لتفريغ أوقات
كثيرة للقيام بالخطب والمواعظ ونشر المقالات الحادثة في الجرائد وتجشُّم أسفار -
فمَن يا تُرى يقوم بمصارفهم (كذا) إن قاموا بتلك الأعباء؟ ! .. إلخ.
الجواب:
إن هذا العذر ممثل للذنب تمثيلاً لا يدع للتمويه والانتحال سبيلاً؛ ذلك أن ما
هو مورد رزقهم من الخطابة والتدريس لو قاموا به حق القيام لأدوا الواجب عليهم
للأمة، ولكن دروسهم وخطبهم هي مما يفسد الأخلاق والأعمال بما تنفثه من سُم الجبر
باسم القضاء والقدر والتكسيل عن العمل بحجة الزهد والتوكل، والتجرئة على
المعاصي بالتمنية بالشفاعات والمكفرات، والإياس من قوة الأمة وترقيها بما يزعمون
من أن سعادة الأمة وعزتها لا يكونان إلا على يد المهدي المنتظر، وأن هذا الشقاء
الذي وقعت فيه لا مفر منه؛ لأنه علامة على قرب الساعة وانتهاء الزمان، ولأن
القاعدة المقررة أنه لا يمضي يوم إلا والذي بعده شر منه، ونحو ذلك من التعاليم
الغامضة والفاسدة المنتشرة في الكتب والخطب وبها، يعظون ويعلِّمون. وقد فصلنا
القول في بعضها، وموعدنا - ببيان سائرها - الأعداد الآتية إن شاء الله تعالى.
سبحان الله! كيف يعتذر بمثل هذا العذر سوري وأكثر العلماء المدرسين في
سوريا لا يقرؤون الدروس الوعظية إلا في شهر رمضان، ويأخذون من مال الأوقاف
أجور سنة كاملة، ويقضون معظم أوقاتهم في البطالة، وشأنهم في نواديهم وسُمَّارهم
الخوض مع الحائضين في اللغو واللهو، فهل نظرت للواقع - يا أستاذ طرابلس -
وراقبت الله تعالى عندما قلت: إن قيامهم بالواجب منه السفر الذي هم عاجزون عنه
لفقرهم؟ ! ورتبت على هذا أنهم عاجزون عن القيام بوظيفتهم على الإطلاق، وقلت
إن: (أهل الغفلة لا يعذرونهم وإنهم عند الله لمعذورون) ، ألا تذكر - يا أستاذ
طرابلس - أننا اقترحنا عليك أن تقرأ للطلبة في مدرستك درسًا في أخلاق الدين
كالجزء الثالث من الإحياء فاعتذرت بضيق الوقت، فقلت له: استبدل هذا الدرس
بدرس مقامات الحريري القليل الجدوى، فاعتذرت بما ملخصه أن التلامذة يستثقلون
مثل هذا الدرس ولا يرتاحون له، مع أن هذا العلم فرض عين وتعليمه من فروض
الكفاية، ولم يقم به في بلدك أحد، ومرت السنون ولم تقرأ في الأخلاق شيئًا، قلت:
لا يكفي مجرد وعظ العلماء في دروسهم المقامة في بعض المساجد لقلة مَن حضره.
فهل تقول مثل ذلك أيضًا في خطب الجوامع إن كنت تحب إرشاد الناس؟ ! فاعقد
بالله مجلس وعظ بعد صلاة الجمعة، واجعلْه كل أسبوع في مسجد وانظر أيجتمع
عليك الناس أفواجًا أفواجًا أم لا؟ ! قل لي - يا رعاك الله - هل يُنقص هذا من
رزقك الذي تأخذه من الأوقاف أو من خزينة الدولة أو من المطبعة والجريدة؟ وهل
تخشى منه على عيّلك الفقر والمسكنة.
اللهم بصِّرنا نفوسنا وأرنا الحقائق كما هي كيلا نضل ونشقى.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أيها الفتى
ما هذا اللهو واللغو، والفرح والمرح؟ ! تميل كالغصن مع الهوى. وأنت
ريَّان من ماء الشباب والصبا. ولكنك لا تجد على نار الحوادث هدى. أتحسب أنك
خُلقت عبثًا. أو أنك تترك سدى؟ ! كلا، إن أمامك خطوبًا فادحة. ونصالاً جارحة.
وأثقالاً بَيْتية ووطنية. تنوء بالعصبة أولي القوة، ولكن سُكر الشباب يفعل ما لا
يفعله سكر الأكواب. فهو الذي جعل في أذنيك وقرًا وعلى عينيك غشاوة. وران
على قلبك ما تعمل من السيئات. وتجترح من الخطيئات. تصور أن هذه الفتاة
الهيفاء والغادة الحسناء التي تغازلها وتناغيها. وتسايرها وتجاريها - ستكون ربة
بيتك. ومربية ولدك. ومالكة زمام أمورك، سعادتك بيدها. وراحتك في راحتها.
وشرفك بشرفها. ومستقبل ذريتك بآدابها ومعارفها. أفتحسب أن هذه الغر التي تميل
مع كل ريح. وتلين لكل صبيح أهل لما يُطلب منها. وكفؤ لما يناط بها؟ !
أفتحسب أنها - بعد أن تتشرف بالاقتران بك تتغير طباعها. وتنقلب أوضاعها.
وتتبدل صفاتها. وتستحيل ملكاتها. أم ترضى بها قرينة على ما تشاهد من علَاّتها.
وتعلم من هفواتها وسيئاتها؟ ! كلا، إنك سادر [1] في غفلتك، ملتخ [2] في سكرتك،
لا تفكر في أنك تجني على نفسك، وعلى جميع أبناء جنسك بإفساد آداب الفتيات
بتعرُّضك لهن حتى في الطرقات. وستذوق مرارتها في بيتك. إن لم تقلع عنها من
وقتك (دقة بدقة، ولو زدنا لزاد السَّقَّا)[3] .
***
أيتها الفتاة
لقد طوى الزمان الذي كان قدرك فيه مجهولاً. وجنسك اللطيف عند أهله
مفضولاً أو مرذولاً. وجاء زمان تنبه فيه الفضلاء والعظماء لما للمرأة من الشأن
الكبير في الارتقاء. وأنتِ مستقبلة عصر الكمال. الذي فيه يظهر سر قول النبي:
(النساء شقائق الرجال) ولكن من سماء عقلك يُشرق بدره. ومن بين ثناياك اللامعة
يتنفس فجره؛ لأن والدتك - وأعيذك بفضلك - جاهلة. وعن مقامها في المجتمع
الإنساني غافلة. فاعذريها على جهلها. ولا ترضي بأن تكوني مثلها. أتدرين - يا
سيدتي - بماذا يرتفع قدرك في هذا الزمن. وتكونين عقد زينة في جيد الوطن؟ !
إذا سألت عمتك (الست هانم) عن هذا السؤال، تقول لك: إن الذي يرفع المقدار،
ويستلفت الأنظار إنما هو تجعيد الطرة وعقص الذوائب. وكحل العيون وتزجيج
الحواجب. وحسن الالتفات والتثني. وأساليب الدلال والتجني. واللطف في
الإشارة. والظرف في العبارة. وإن خفة الحركات هي زينة البنات. وما وراء ذلك
إلا الثياب الحريرية. والحلية الذهبية والجوهرية. ولكن عمتك غالطة كالسيدة
الوالدة؛ فإن هذه الأمور هي التي أضرت بالوطن من قبل؛ لأن المرأة التي تجعل
همها في هذه الأمور، وتحسب أنها كالرياحين والزهور - ما خُلقت إلا نزهة للناس.
وزينة للحواس. يدل حسبانها هذا على أنها رضيت بما دون رتبة الحيوان. (أي:
حيث رضيت أن تكون قيمتها قيمة الزهر وهو من النبات والحيوان أشرف منه) ،
فكيف يقبل حكمها في رفعة شأن الأوطان. وهي من خصائص الكاملين من نوع
الإنسان؟ !
ولكن إذا سألت (المدام) فلانة أو تربك (المدموازيل) عن هذا
السؤال نفسه تسمعين جوابًا عجيبًا؛ لأنها تقول لك: إن قدر الفتاة إنما يكون رفيعًا
بعلومها وآدابها وفضائلها، وباستعدادها لمساعدة الرجل على إسعاد منزله وأهله
وإسعاد وطنه وأمته، فإذا كانت غير متخلقة بالأخلاق الفاضلة كيف يمكنها أن
تغرس فَسِيل الفضائل في نفوس أبناء الوطن الذين يعهد إليها بتربيتهم من يوم
يوجدون بحكم الطبيعة والشريعة معًا؟ وإذا كانت لا تعرف قيمة العلوم والفنون
والآداب التي تسعد بها البلاد فهل يخطر في بالها أن ترغِّب أولادها في ذلك وتسلك
بهم في هذه المسالك؟ ! بل ربما قالت لك حضرة المدموازيل: إن الفتاة كالفتى،
والمرأة كالرجل والوطن يطالبهما بحقوقه مطالبة واحدة؛ فيجب أن ترشح الفتاة نفسها
لأي عمل من الأعمال العظيمة النافعة التي يقوم بها الرجال حتى الأعمال
الحربية والسياسية. لكن هذا الأخير إفراط عظيم يقابله ما ترين عندنا من التفريط
والإهمال. والصواب أن البيت مثال المملكة الجمهورية؛ فالرجل هو الرئيس وناظر
الخارجية (أي: ما هو خارج البيت) ووظيفة المرأة نظارة الداخلية. والممالك
العظيمة إنما تتألف من هذه البيوت، فمتى كانت الحياة فيها سعيدة سعدت بذلك المملكة
كلها.
هذه إشارة لطيفة إلى مقامك السامي - أيتها الفتاة - وأفضل ما تستعدين له هو
تربية الأولاد، بل هو أفضل الأعمال كلها، والاستعداد له إنما يكون بمعرفة عقائد
الدين الصحيحة والتخلق بأخلاقه الفاضلة والتأدب بآدابه الكاملة ثم معرفة مبادئ
الفنون لا سيما حفظ الصحة وتدبير المنزل والحساب والتاريخ، فإذا التفت إلى هذه
الأشياء ووفيتها حقها من العناية؛ عرف لك الوطن العزيز حقك، ورقاك فضلاؤه إلى
الأوج الذي تستحقين ولا يغرنك هؤلاء الشبان الأغرار الذين يختالون في الشوارع
والمهايع ويرمون بأبصارهم إلى الكُوَى والنوافذ يفتنون الفتيات الغافلات،
ويستهوون السيدات المصونات. فليس تحت طرابيشهم المائلة إلا أحلام (عقول)
سفهة وأخلاق سافلة. وسيذهب فساد طباعهم وقبح أعمالهم. بما بقي لهم من
دثورهم وأموالهم. فويل لمَن اتصل بهم وقرب منهم، وهنيئًا لمَن إذا عرفهم قلاهم
وبعُد عنهم.
_________
(1)
السادر: المتحير والذي لا يبالي بما صنع؛ ومن معانيه الذاهب عن الشيء ترفُّعًا عنه، والسادر ثوبه؛ أي: السادل له.
(2)
يقال: سكران ملتخ؛ أي: طافح مختلط لا يفهم شيئًا لاختلاط عقله.
(3)
يُحكى أن شيخًا عفيفًا صادف في الطريق امرأة فقبَّلت يده، فغمزها بيدها الناعمة، ولما بلغ منزله وجد السَّقَّاء يغمز يد امرأته؛ فقاله، فسار مثلاً.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقاريظ
(الوشاح في شرح عروض المِفتاح)
أهدانا نسخة من هذا الكتاب مؤلفه حديثًا العالم الفاضل القاضي ظفر الدين
أحمد أستاذ الكلية الشرقية بلاهور، الهند ولما تتسنى لنا مطالعته فقصارى ما نقول
في هذا المقام: إن إحياء كتب فرسان البلاغة وجهابذة علوم اللسان (كالعلامة السكاكي
صاحب المفتاح) بالشرح والدرس - عمل شريف تحيا به اللغة العربية إن شاء الله
تعالى.
ثم نشكر لحضرة الأستاذ فضله. ونثني عليه كما أثنى علينا بما هو أهله، ومن
الله نسأل تحقيق ما أمله في خدمتنا (المنارية) من جمع كلمة الأمة الإسلامية.
ولا غرو؛ فقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) وعد لمَّا
يتحقق كما قال بعض المحققين الأجلة. ولا بد من تحقيقه بفضل الله تعالى.
***
(الجامعة العثمانية)
ظهر العدد الأول منها يتدفق بالمباحث المفيدة لا سيما مباحث التربية والتعليم
التي نحن أحوج إليها من كل شيء، وأحسن تقريظ لها أن ننقل نبذة من أنفع نبذها
وأفيدها، فإليكها نموذجًا حسنًا، قال الكاتب:
(إن المدارس الأجنبية في بلاد الدولة العثمانية قد صنعت خيرًا عظيمًا، ولكنها
قد صنعت شرًّا عظيمًا أيضًا. فعلينا أن نجد دواءً لهذا الداء، قد أنشأ الغرب للشرق
مدارس يعلم فيها أبناء الشرق الميل عن دولتهم إلى دولة غريبة عنهم، فلتنشئنَّ - أيها
العثمانيون - بإزاء تلك المدارس مدارس جديدة، يكون أساس تعليمها حب الوطن
والأمة، وتعليم ما هو الوطن وما هي الأمة. لنؤسس مدارس جديدة نُدخل إليها طرق
التعليم الحديثة ووسائل التربية الحديثة، وندخل إليها قبل ذلك عناصر الأمة كلها،
فنربيها فيها على مقاعد واحدة ونلقنها دروسًا واحدة ومبادئ واحدة؛ حتى تكون بعد
خروجها من حياة المدرسة إلى الرجولية بقلوب واحدة وأفكار واحدة، فإن هذا هو
السبيل إلى تقوية جدار الوطنية العثمانية ووقايته من الثلم أو الهدم) .
فشكرًا لك - أيها الكاتب الفاضل - ونجَّح الله تعالى الجامعة العثمانية بمبادئك
الصحيحة.
***
(أنين مظلوم)
جريدة ظهرت في القاهرة تشكو من ظلم رجال الدولة لا سيما في ولاية بيروت،
وتستصرخ مولانا السلطان الأعظم طالبة تفويض الأعمال إلى الأَكْفَاء الصادقين.
وعسى أن يكون كلام صاحبها صادرًا عن غيرة صحيحة وتألم حقيقي، فعهدنا
بالذين ينشئون الجرائد للطعن بالحكام والشكوى منهم أنهم طلاب رزق ووظيفة أو
رتب ووسامات، كما ثبت ذلك للدولة العلية بالاختبار؛ ولهذا ارتفعت الثقة بكلام
أمثال هذه الجرائد من الدولة والأمة، فاشتبه الحق بالباطل والإخلاص بالنفاق، ولا
علاج لهذا إلا أن تقرر الدولة حرمان أصحاب الجرائد عمومًا من الرتب والرواتب
والأعمال والوظائف؛ لينقطع أملهم مما وراء عملهم وثمراته الذاتية، فمن أحسن
ونجح في عمله فحسبه إحسانه شرفًا وكسبًا، ومن ساء فعليه ما يلاقيه من الجزاء،
وما دامت الدولة تغدق النعم على السفهاء منعًا لسفههم؛ فإنها تغري بذلك غيرهم،
فتضيع الأجور ويكثر الفجور ومحاولةُ إرضاء جميع الناس غرورٌ.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
أخبار الحجاج
بلغ عدد الحجاج الذين قصدوا الأقطار الحجازية عن طريق الإسكندرية لغاية 16
الجاري 7602، والذين برحوا هذا الثغر في ذلك اليوم فقط 801، منهم 509
عثمانيون و136 مصريون و58 روسيون و40 فارسيون و29 من الزولوس و26 من
البوسنيين و3 من البرتغاليين.
أما الذين سافروا من القاهرة فيبلغ عددهم إلى اليوم نحو الثلاثمائة حاج.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... المؤيد
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
اعتذار
ضاق هذا العدد عن النصائح والوصايا التي أعددناها للحبالى، وعن باب
الأخبار والحوادث، وموعدنا العدد الآتي إن شاء الله تعالى.
_________
الكاتب: أحد علماء الأزهر
الاتحاد
لأحد أفاضل العلماء المدرسين في الجامع الأزهر الشريف
الاتحاد هو الاتفاق على أمر من الأمور وبه يقوى هذا الأمر ويعظم، إلا أنه
تارة يكون ممدوحًا وتارة يكون مذمومًا، فإن كان المتفق عليه ممدوحًا كمقاومة العدو
الصائل كان ممدوحًا، وإن كان مذمومًا كالسلب والنهب واللهو واللعب ومنع خير
وجلب شر كان مذمومًا. ومما هو في المرتبة العليا في المدح - اتفاق أهل المملكة أو
المدينة أو المنزل على ما به صلاح مملكتهم أو مدينتهم أو منزلهم وعلى ما فيه
حفظها من الاضمحلال والتلاشي مما يضمن لهم بقاء المجد والشرف ويحفظ لهم
القوة والمَنَعَة، ألا وهو تدبير أمورهم بالقوانين العادلة والأفكار النيِّرة والتحابُب
والتوادد وعمل كلٍّ لنفسه ولغيره من أهل مملكته أو مدينته أو منزله، فيجتمعون
بالروح والجسد على من له العراقة في الإمارة عليهم، المحافظ على ترقيهم ومجدهم،
ويساعدونه في تدبير أمورهم بالقوانين المرضية مخلصين له ناصحين لا يتساهلون
فيما فيه النفع العام ولا يتغافلون عما فيه الضرر اللاحق بهم وبغيرهم، ولا يتخالفون
فيما بينهم لغرض نفساني أو حظ مالي؛ فتفتر همتهم وتضعف شوكتهم فيكونون
عرضة لتسلط الغير عليهم وتمكنه منهم واستيلائه عليهم، فيصيرون في ربقة الرق
ذليلين مقهورين لا يُبالَى بهم، ولا يكترث بكبيرهم ولا صغيرهم، ولا يُعتنى بشريفهم
ووضيعهم، ولا يتباغضون ولا يتحاسدون ولا يُؤْثِر أحدهم نفسه بالعمل فيعمل لحظ
وقتي له يراه وقت العمل ثم يكون كالهباء المنثور، بل كالسراب يحسبه الظمآن ماءً
وهو عدم، بل يعمل لأمته ومستقبله لا لنفسه فقط؛ لأن الإيثار ليس من الكمال في
مثل هذا، ولأن وقته الحاضر قد انكشف له ما فيه وظهرت له شؤونه إن كانت سارة
أو ضارة، وأما المستقبل فلم ينكشف له ما يكون فيه؛ فحقه أن يعمل ما يحفظ له حاله
فيه بحسب طاقته.
على المرء أن يسعى إلى الخير جهده
…
وليس عليه أن يساعده الدهر
فيا ذوي الأبصار، يا أولي الأنظار، عليكم بالتأمل في تقلبات الدهر وحوادثه؛
فإنه يكون لمن اتحدت كلمتهم واجتمعت قلوبهم، ويكون على من اختلفت كلمتهم
وتنافرت قلوبهم، فوحدوا كلمتكم واجمعوا قلوبكم {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) وسارعوا جميعًا إلى ما به حفظ الأمة والدين كما
تسارعون إلى ما به حفظ المال والبنين، ولا يقعدكم عن هذا الانهماك في اللذات
والتقلب في الشهوات؛ فإن الإنسان ما خُلق للشهوة واللذة لما فيه كمال النفس التي
هو بها إنسان من التخلق بالأخلاق الحميدة التي منها عدم الاسترسال في الشهوات
واللذات، بل يأخذ من ذلك قدرًا يسيرًا يروِّح به نفسه فقط ويردعها عما زاد؛ لأن
الزائد تتعاصى به عليه فلا يطيقها فتجره إلى ما ليس فيه كماله وحفظ عشيرته، ولا
يحول بينكم وبين ذلك توهم أنه يصيبكم مكروه؛ فإن الإنسان لا يصيبه إلا ما قدر
عليه حتى لا تكونوا أكلة ذئب ولا فريسة أسد، لا سيما العلماء؛ فإنهم أئمة لغيرهم
ويُقتدَى بهم ويُهتدَى بهديهم، فعليهم أن يتحدوا وأن يتخلوا عن الرذائل والدناءات،
وأن يتجردوا من التعصب ورد الحق على قائله، وأن يتبعوا الخطة الحميدة والطريقة
المفيدة؛ ألا وهي ما أمر به أمير البلاد وخديويها المعظم، وارتضاه مشاهير العلماء
من ترك قراءة الحواشي وصرف الزمن في المناقشات والمشاغبات؛ فإنه اشتغال
وضياع للوقت في خدمة كلام المخلوق، وإعراض عن الاشتغال بكلام الخالق،
وتفويت للإحاطة بأحكام الشريعة الغراء والفنون الأدبية.
وما يتوهم من أن الاشتغال بالحواشي يقوي الذهن دون ما دعاهم إليه مجلس
إدارة الأزهر - فغلط أَوْقَعَهُمْ فيه حكم العادة التي شبُّوا عليها وذلك لأنه بترك
الحواشي والمناقشات يتيسر لهم الاشتغال بالفنون العقلية من الحساب والهندسة،
فتفيدهم في الذهن قوة أكثر مما يستفاد بالحواشي؛ ولذا كان الحكماء يشتغلون
بالرياضيات قبل العلوم الحكمية وقد أمرهم أمير البلاد بالخطة الجديدة لأجل أن يكون لهم إحاطة بالعلوم وترقٍّ في المعارف؛ ولأنه رأى ما لم يروه من تعييب أهل الوقت لخطتهم حتى كان من الحسن عندهم تفريق هذا الجمع، فعسى أن يلتفت قومنا
لما هو الأحرى والأنفع دنيا وأخرى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مؤاخذة العلماء والرد على جريدة طرابلس
(تتمة ما سبق)
(الاعتذار الثاني) ملخصه: إذا شرع العلماء في الخطب في المجامع
والنوادي، وركبوا الأخطار للمواعظ، ونشروا المقالات في الجرائد والدفاتر،
واجتمعوا للمذاكرة وتدبير شؤون الأمة واستنباط القواعد المتكفلة بالإصلاح،وجمعوا
الثروة لإقامة الشركات العمومية وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.
قالت (طرابلس) :
(لا سيما لأهل السطوة والنفوذ، وشدوا على الكثير من فاسدي الأخلاق،
وحاولوا نزع خلالهم الفاسدة عنهم إلى أمثال ذلك من الشؤون التي يرجى عندها
نهضة الأمة، فهل يروق ذلك منهم في كل نظر، ويساعدون عليه من أهل البدو
والحضر، أو يعارضون أشد المعارضة ويقصدون بالأذى من ذوي الشرور وحقائب
الريب والعيب، ولا يقوم بمساعدتهم إلا من لا تجدي مساعدته نفعًا، وربما نسب إليهم
أنهم جماعات إفساد ودسائس ضد الحكومة أو الأمة أو مثل ذلك ويرشقون بسهام
الملام من أكثر الأنام حتى يقول قائلهم: ما لهؤلاء القوم يتعرضون لما لا يعنيهم. إذا
منوا بالأذى ظهرت الشماتة بهم حتى من أهليهم وقيل: هكذا جزاء التعرض لما لا
يعني الإنسان. فما كان أغنى هؤلاء العلماء عن المطاردة في هذا الميدان) اهـ.
الجواب:
إذا كان وجوب الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطًا بأن
يروق عند الشروع فيه في كل نظر، ويساعد عليه أهل البدو والحضر كما يفهم من
صريح كلام الجريدة (طرابلس) ، فلا شك أن الوجوب ساقط عن العلماء بل لا
ريب في أن هذا الفرض لم يتحقق شرطه في عصر من الأعصار. وإن إيجابه في
الشرع لا معنى له، ولكن هذا الشرط لم يقل به شرع ولا عقل، فذِكره في معرض
الاعتذار عن العلماء وبيان سقوط الوجوب عنهم - لغو لا معنى له وأما المعارضة
والقصد بالأذى؛ فالأولى منهما لا معنى لذكرها أيضًا، ولكن القصد بالأذى محل نظر
ويحتاج القول فيه إلى تفصيل نكتفي بموجز منه؛ لأن كلامنا مع أهل العلم، فنقول:
أولاً - لأن القصد بالأذى لأجل الإرشاد غير محقق، وإنما هو احتمال يصح أن
يفرض وقوعه في كل عمل.
ثانيًا - أن القصد لا يوجب الإيقاع لاحتمال الموانع من جانب القاصد أو
المقصود أو الأحوال الخارجية.
ثالثًا - أن الأعمال الواجبة على العلماء كثيرة جدًّا، وغير جائز أن يكون كل
عمل متروك منها يعود على فاعله بالضرر والأذى، فيجب على العالم أن يأتي ما
يغلب على ظنه السلامة فيه حتى إذا ما ساوره البلاء وواثبه الإيذاء وتحقق أنه لا
يستطيع الغلب - يعدل عنه إلى عمل آخر.
رابعًا - أن الأذى أو الضرر الذي يخافه من يقوم بخدمة الأمة له درجات
سنفصل القول فيها عند الكلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونكتفي هنا
بقول أئمة العلماء: إن توقع الإيذاء الشديد حقيقة كالضرب المُبَرِّح والقتل والسلب
إذا غلب الظن بأَمارات واضحة - يُسقط وجوب الحسبة ويبقى الاستحباب، وأما
الرشق بسهام الملام - الذي يخاف منه أستاذ طرابلس وذكره في الاعتذار - فلا يسقط
الوجوب. قال الإمام حجة الإسلام الغزالي: (ولو تُركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب
فاسق أو شتمه أو تعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله - لم يكن للحسبة
وجوب أصلاً؛ إذ لا تنفكّ الحسبة عنه) .
ثم إن ما نحن في أشد الحاجة إليه من إرشاد العلماء يحصل بإصلاح التعليم
والخطابة الجمعية وكثرة المذاكرة في مواضيع الإصلاح في المنتديات والسّمار، ولا
خطر على العلماء في شيء من ذلك إلا في دار السلطنة حيث يمنع الاجتماع والكلام
في الإصلاح الذي يمس السياسة فقط، فعليهم أن يستبدلوا ما لا خطر فيه بما فيه
الخطر. ووراء هذا كله نقول: أين وراثة النبوة التي هي مفخر العلماء؟ أَمَا كان
الأنبياء يُضربون في سبيل تعليم الحق وإرشاد الناس ويهانون ويسبون ويشتمون
ويهجرون ويطردون بل وكثير منهم يقتلون؟ أليس العلماء أحق الناس بالأخذ
بآية {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر} (الأحزاب: 21) أما يعلم صاحب الأعذار أن رسوله أوذي في الله فأُلقي عليه سلا
الجَزور وهو يصلي ورمي بالأحجار وأُلجئ إلى ترك وطنه وشج رأسه وكسرت
رباعيته؟ أين الذين لا يخافون في الله لومة لائم؟ هل يرضى العلماء أن يكونوا
ممن قال تعالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ
النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت: 10) ؟ إذا كانوا يعلمون أن الله اشترى من
المؤمنين أموالهم وأنفسهم وكلفهم بأن يبذلوهما في سبيل الحق فكيف يعرضون عن
عمل يعترفون بأن فيه قوة الملة ومنعتها وعزها وشرفها إجابة لداعي الوهم وإخلادًا
إلى الراحة والكسل، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68) .
(العذر الثالث) ملخصه: كما في أسئلة جريدة طرابلس ما ترى: (هل لديك
من يضمن حسن العاقبة لهؤلاء الأخيار ويؤمّنهم على مستقبل حالهم إن تجشموا هذه
الأخطار) تأملوا - أيها الناس - وتعجبوا: (وتالله لئن كان لديك - أيها اللائم
حضراتِ العلماء على تقصيرهم المزعوم - من يضمن لهم أمر معاشهم ومعاش
عيالهم ويؤمنهم على حياتهم وشرفهم إن هم قاموا بما به عليهم حكمت أني أنا
الضمين بأنهم يتهالكون على إرشاد الأمة وبعث نفوس أهل الثروة إلى خدمة الأوطان
والسعي على مقتضى نوايا جلالة السلطان - نصره الله تعالى فهم - والله - ليسوا
في هِمَمهم دون همم سواهم من وعاظ الغرب، ولا أقل نشاطًا ولا أضعف قوةً، بل
فيهم الهمم العالية والنفوس السامية والإيمان الذي يحملهم على إخلاص النصيحة إن قدروا وسلموا، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) .
الجواب:
إن هذا العذر مبني على سابقيه؛ لأن حاصل العذر الأول أن الإرشاد المطلوب
يتوقف على الثروة فإن كان يوجد من يمد العلماء بالمال؛ فإنهم يقومون به. وحاصل
الثاني أن الذي يقوم بالإرشاد يكون عرضة للوم اللائمين وإيذاء المفسدين واتهام
المتهمين (وما أغنى العلماء عن المطاردة في هذا الميدان) نعوذ بالله من الغفلة،
وأما الثالث هذا فحاصله أن القيام بالإرشاد يشترط لوجوبه مع احتمال ما ذكر من
الأخطار أن يكون هناك ضامن يضمن للمرشد ولعياله حياتهم ومعاشهم وشرفهم،
ويدخل في ضمان الشرف ضمان الألسنة اللائمة والقلوب الشامتة، ولا شك أن
شركات الضمان الأوربية التي تضمن الأموال والأعمار إلى أجل مسمى لا تُقْدم على
ضمان الألسنة والقلوب التي يخاف صاحب طرابلس من لومها وشماتتها. فإن كان
يتنزل لنا عن ضمان الألسنة والقلوب اتباعًا لحكم الشرع واسترشادًا بنور العقل -
فإننا نضمن له ما عداهما.
ليؤلف في بلده جمعية من العلماء الذين وصفهم بما مر عنه، وليبحثوا في
أساليب التعليم النافعة والخطب المفيدة، وليتعاهدوا على التعاون بما يظهر لهم أنه
الأنفع، ثم ليعملوا، وليكن مما يتعاهدون عليه أن يكون كلامهم في النوادي والسمار
في مصلحة الأمة والملة عوضًا عن الكلام الذي يضيعون به الحياة العزيزة، وهو ما
نعلمه نحن ويعلمه هو. ليكفوا عن جعل الخطب في فضائل الشهور وبعض وقائع
الدهور. وليجعلوها سهلة العبارة. خالية من غريب المجاز والاستعارة ولا يتكلفوا
فيها التسجيع ولا أنواع البديع؛ ليفهم الناس جميع ما يقولون ويعلموا أنهم به
مخاطَبون، لا أنه مقصود بالذات، مكفر بأسراره للسيئات. ليجعلوا الخطب
والمناظرات والدروس والمذاكرات في هذه الأمراض الروحية والأدواء الاجتماعية
وفي مناشئها من العقائد الزائغة ومثاراتها من طريق الإرشاد الرائغة وبيان الحق بالحجج البالغة وزهق الأباطيل بالحقائق الدامغة. ليبينوا للناس حقائق التوحيد
والتوكل والزهد والتواضع والاقتصاد؛ ليعلموا أن مراعاة سنن الخلقة والتمسك
بالأسباب الظاهرة هو طريق السعادة في الدنيا، كما أن موافقة الأعمال للشريعة
الحقة هو سبب السعادة في العُقبى، وأن طلب الشهادتين بغير هاتين الوسيلتين غرور
وأن الكسل والذل والخمول والسرف والمخيلة والاحتجاج بالقدر والاستعانة بغير
الله تعالى والاعتماد على العفو والشفاعات مع التقصير في العمل - كل ذلك من
أسباب الشقاء والخذلان.
ولينظروا (أي: العلماء) مع ذلك في طرق التعليم والتأليف الجديدة،
ويعتمدوا على أقربها وأفيدها، ويرشدوا الناس إلى ما هم في أشد الحاجة إليه من
الفنون الرياضية والطبيعية، ويوضحوا لهم أن الدين والدنيا لا يُحفظان إلا بها.
هذه إشارة إلى ما تطلبه الأمة من العلماء، فهل يقول أستاذ طرابلس إن قيامهم
به يعود عليهم بالضرر والأذى -وإن الوجوب سقط عنهم لذلك أو يوجد ضامن يضمن
لهم ما ذُكر؟ إن كان يقول هذا فأنا الضامن له ولمن شاء من أهل بلده وغير بلده ما
سوى الألسنة والقلوب. حقًّا أقول: إنه إذا تدبر في الأمر فإنه يرجع عن أحكامه
واعتذاراته ويتثبت - بعد ذلك - في مثلها من الأحكام والإيمان وما يتذكر إلا مَن
ينيب.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
اختيار المعلمين
لا ينبغي أن يكون الغرض من إنشاء المدارس إفادة التلامذة بعض مسائل من
العلوم والفنون التي تدرس فيها بحيث تكون تلك المسائل مخزونة في أذهانهم مع
سائر المعلومات التي يستفيدونها من خارج المدرسة في عامة أحوالهم. وإنما يجب
أن يكون الغرض من المدارس نفخ روح السعادة الإنسانية في التلامذة. ولا يُنفخ
هذا الروح إلا بتربية النفس وتهذيبها ثم دلالتها على طرق الحياة وكيفية سير الناس
فيها على الوجه الذي يؤدي إلى المقصد من غير ضلال وبأقل تعب وعناء وبيان
قُطاع هذه الطرق التي تحول بين سالكيها وبين الغاية.
كل علم لا يهدي إلى طرق الحياة السعيدة فهو لغو، وأجدر به أن يسمى
جهلاً، والمشتغلون بهذا اللغو أو الجهل كثيرون بل هم الذين جعلوا العلوم والفنون
المرشدة إلى الأعمال النافعة لغوًا؛ إذ لا يوجد علم لا يهدي إلى عمل نافع للإنسان؛
فالعلم إما بيان للعمل اللساني أو العضوي أو القلبي، وإما ركن تستند إليه الهداية كعلم
العقائد، ولكن هؤلاء خرجوا بالعلم في التعليم والتأليف عن كونه مرشدًا هاديًا يبعث
الآخذ به ويزعجه إلى ما هداه إليه وجعلوه مقصدوًا لذاته. جعلوه عالمًا مستقلاًّ لا
مندوحة لمن يشرف عليه عن الانفصال عن العالم الوجودي. وعندما ينفصل عن
العالم الوجودي يمكنه أن يتصل بذلك العالم الخيالي (الذي يسمونه العلم) ويشاهد
بعض ما فيه من العجائب التي يتأتَّى له بها أن يحكم على بعض الجزئيات في عالم
الوجود بالصحة أو الخطأ إن هي عرضت له.
ويرى هؤلاء أن عالم الخيال الذي هو علمهم له الحكم والسلطان على عالم
الوجود. فإذا قرر بعض علمائهم مسائل مخالفة لما في الوجود، ولا تنطبق على سنن
الخليقة ومصالح البشر يذهبون إلى صحة ما قاله عالمهم وفساد ما في الوجود
والواقع، وإلى وجوب تبديل سنن الخلق وتحويل المصالح؛ لتوافق ما جال في خيال
المرحوم الأستاذ المؤلف، وهو في غرفته منقطعًا عن العالم أو ما أُلهمَه وهو في
خلوته بعيدًا عن الناس يستمد العلوم والحقائق من عالم الغيب، ولكن من عرف سنن
الخليقة يعلم أن محاولة تحكيم الخيال فيها عبث وجنون، وأن كل خيال يخالف الحقائق
ويصادم النواميس والمصالح جهل لا علم، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. ولا في دينه
حرجًا.
تعليم أمثال هؤلاء مضر غير نافع فينبغي أن لا يفوض إليهم أمر التعليم فإنهم
إذا حكموا في نفوس الأحداث الضعيفة يجورون في الحكم ولا يعدلون، ويفسدون في
أرضها ولا يصلحون.
إن اختيار الأساتذة والمعلمين أهم ما تحتاج إليه الأمم المريدة للإصلاح
والطالبة للترقِّي كالأمم الشرقية عامة والمسلمين خاصة، أوّاه أواه! ينهض رجل
غيور محب للمجد الصحيح والكمال الحقيقي فيؤسس مدرسة وطنية لخدمة أمته
ورفعة شأنه فيختار لها مكانًا حسنًا، ويجلب لها من الأثاث والأدوات أحسن ما يكون
في أمثالها، وماذا يكون من أمره في اختيار المعلمين وهم روح ذلك الهيكل الحسن؟
ما هي المرجحات التي تلاحظ في الاختيار من صاحب المدرسة ومستشاريه؟ يختار
في الغالب من لديه شهادة بالتحصيل، ولهم الحق في ذلك؛ لأن أصحاب الشهادات
أعلم من غيرهم في الأكثر، فلا ينبغي العدول عنهم إلا لمن يفضلهم بالمزايا التي
سنذكرها، ثم يرجح من هؤلاء من يتصل بأهل الترجيح والاختيار بقرابة أو صحبة
أو من يتخذ وسيطًا من الوجهاء. ومن المرجحات المسلمة عند الشرقيين في مثل هذا
من الأمور العامة حتى أعمال الحكومة ووظائفها حاجة الرجل إلى التعيش بالوظائف
يقولون: فلان صاحب عيال، فلان من آل البيت الفلاني الذي انتابته
النوائب، فمن المروءة والكمال السعي في حفظ كرامته وإبقاء مظهره وبذلك نستحق
الأجر من الله تعالى، يقولون هذا ويعملون به وهم في غفلة عما يخربون من البيوت
بعمران هذا البيت وعما يذهبون به من كرامة الأمة كلها إذا كان الموظف غير أهل
لعمله، وعن حرمان الأمة من أبنائها النبلاء إذا لم يكن قادرًا على تربيتهم وتعليمهم
على الوجه الذي يكون هاديًا إلى سعادتهم وسعادة بلادهم.
أول ما تجب مراعاته في الأستاذ المعلم:
* حسن الخلق والآداب؛ فإن سيء الأخلاق يبني بتعليمه قصرًا ويهدم بإفساده
آداب التلامذة مصرًا.
* ويلي هذا معرفة أساليب التعليم وتمرنه عليها، فليس كل عالم يحسن التعليم.
* ثم معرفة جملة من علم الفلسفة العقلية وعلم الهيجين (مداراة الصحة)
ليعرف ما ينبغي أن يلقَّن للتلميذ بحسب سنه واستعداده العقلي.
* وبعد هذا وذاك يُشترط أن يكون الأستاذ واقفًا على أحوال عصره
الاجتماعية عارفًا بمواضيع جميع العلوم والفنون المتداولة فيه وغاياتها في الجملة،
لئلا ينفر التلامذة من غير الفن الذي يقرؤه لهم مما يكون نافعًا للبشر. ومعاداة العلوم
والفنون إنما تكون من الجهل بها، وهي من أكبر أسباب تأخر الأمم وضعفها لا سيما
إذا كانت من رجال الدين الذين يذمون ما يجهلون وينفرون عنه بحجة أنه مخالف
للدين، فتأخذ آحاد الأمة كلامهم بالقبول، فيُحرَمون من الإقبال على تلك الفنون النافعة
واجتناء ثمارها.
* وصفة أخرى من الصفات التي يرجح بها اختيار المعلمين وهي الغيرة
الملية والحمية القومية؛ فمن فقد هذه الصفة قلما تستفيد الأمة من تعليمه أبناءَها.
صاحب هذا النعت الشريف هو الذي ينفخ الكمال في جسوم التلامذة، ويحبب
إليهم أوطانهم، ويغرس في نفوسهم مبدأ الميل إلى المنافع العامة. وهذه الصفة من
كمال تهذيب الأخلاق الذي ذكرناه أولاً وإنما أفردناها بالذكر؛ لأن أكثر الناس لا
يخطر لهم هذا المعنى ببال عندما يذكر تهذيب الأخلاق، وقد قال بعض الباحثين في
فن التربية والتعليم من الإفرنج: إن مما تنبغي مراعاته في الأستاذِين: حسن
الوجه ونظافة الثياب لما لهما من التأثير في حب التلامذة لهم واقتدائهم بهم.
ولَعَمري إن حب التلميذ لأستاذه من أعظم أسباب انتفاعه به، ومن ينفر من
معلمه لأي سبب من الأسباب قلما ينتفع به.
هذا ما عَنَّ لنا في هذا المقام فعسى أن يلتفت إليه أصحابُ المدارس الوطنية
وطلابُ العلم المختارون في انتقاء الشيوخ، والله الهادي إلى سواء السبيل.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
وصايا للحوامل
أو تربية الجنين
1-
تجتنب الحبلى المآكل الغليظة العسرة الهضم والكثيرة الدسم والتوابل،
ولا تزيد من تناول الأطعمة اللطيفة عن الاعتدال لا سيما في أوائل الحمل؛ حيث
تكون معرضة لسوء الهضم، وما تزعمه النساء الجاهلات من أن الحبلى تحتاج إلى
كثرة الأكل في أوائل الحمل خطأ، والصواب أن ضرر التخمة في أوله أكثر منه في
آخره، والاعتدال أسلم في كل حال.
2-
تجتنب أشد الاجتناب شرب المسكرات؛ فإنها تهيج الدم وتكون
سببًا في قلة نمو الجنين فيأتي صغيرًا وضئيلاً، ولا تُكثر من شرب المنبهات
كالشاي والقهوة.
3-
ينبغي أن تكون أوقات أكلها ونومها مرتبة ومعينة بانتظام.
4-
تلبَس من الثياب والأحذية الواسع الذي لا يضغط الجسم والرجلين،
أما الجسم - لا سيما البطن - فظاهر، وأما الرِّجلان؛ فلأنهما في مدة الحمل يكونان
عرضة للتورم.
5 -
تعتني بتنظيف جسمها، وتجتنب الاغتسال بالماء الحار والبارد؛ وفي
مهاب الهواء كالبحر والنهر، وأفضل الماء للاغتسال ما كانت حرارته كحرارة
الجسم أو تزيد قليلاً.
6-
من أهم النظافة نظافة غرفة المنام وتجديد هوائها، وتعريضها للشمس؛ فإن
استنشاق الهواء النقي ضروري لحفظ الصحة.
7-
من المهمات التي تهملها نساء الأغنياء الرياضة، وهي ركن من أركان
الصحة، وتتأكد العناية بها في وقت الحبل. أما نساء الفقراء فهن مضطرات إلى
الرياضة، وإنما يؤمرن بمراعاة الاعتدال في أثناء الحبل؛ لأن الرياضة العنيفة تضر،
وربما تفضي إلى الإسقاط، على أن اللواتي يعتدن الراحة والكسل أكثر تعرضًا
للإسقاط، وتألمًا من الولادة، فعلى الغنية الوهنانة (الكسلى من التنعم) أن تكلف
نفسها الرياضة المعتدلة ولو بالخدمة في البيت، وأن تمشي أحيانًا في الأماكن النقية
الهواء، وتجتنب العَدْو والوثبان والرقص. ونرى الكثيرات من الحوامل يقضين
معظم النهار مستلقيات، فيستولي عليهم الضجر والسآمة والإقهاء (فقد شهوة الطعام)
والاستلقاء أحيانًا لازم لا سيما عندما تثقل الحامل، وحيث يخشى من الإسقاط.
8-
ينبغي الاحتراز من كل ما يهيج الانفعال الشديد كالخوف والفزع
والحزن، وذلك بالتباعد عن أسبابه، وبالتلاهي والتسلي إذا وقعت الأسباب.
9-
ينبغي أن لا يحسب الحبل مرضًا من الأمراض، فتتوهم صاحبته أن
الأخطار محدقة بها؛ فإن هذا الوهم ربما يضنيها ويؤثر - إذا قوي - في جنينها.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقاريظ
(دائرة المعارف)
كل مشتغل بالعلوم والفنون تعرض له عند المطالعة أو التأليف مسائل يحتاج
إلى المراجعة عنها في كتبها الخاصة بها، كما يعرض له ألفاظ مفردة لا يعرف
ضبطها أو معناها، فيفتقر إلى مراجعتها في معاجم اللغة، ولا يخفى أن في مراجعة
كل مسألة في كتب الفنون كلفة وإنفاق جزء كبير من الوقت؛ ومن ثم كانت الحاجة
شديدة إلى تأليف كتب في اصطلاحات العلوم والفنون، وأسماء المدن والأمكنة
والمعادن والنبات والحيوان، وتراجم مشاهير الرجال، وقد ألف علماء الإسلام في
كل نوع من هذه الأنواع كتبًا خاصة بها في أيام حضارتهم ومدنيتهم، ثم دالت العلوم
والفنون إلى الغرب فألفوا في ذلك كتبًا شتى، ومنها النوع الذي يسمونه
(إنسكلوبيديا) .
ولما اشتغل أهل المشرق بالعلوم الغربية لم يكن لهم بد من هذا النوع، ولم
ينتدب له من الناطقين بالعربية غير الحسن الذكر والأثر المعلم بطرس البستاني أحد
أركان النهضة العلمية الأخيرة في بيروت، فشرع في تأليف إنسكلوبيديا عربية
سماها (دائرة المعارف، قاموس عام لكل فن ومطلب) وساعده في ذلك ولده سليم
أفندي الذي كان خير مثال له في علمه وفضله وهمته وإقدامه. وبعد أن اخترمت
المنون الوالد ظل يشتغل بها الولد، ثم من بعده لم يؤلَّف إلا جزء واحد هو
التاسع، وتوقف العمل، ولكن بيت البستاني بيت العلم والهمة، وقد انتدب أخيرًا
لإتمام الدائرة منهم العلماء الأفاضل سليمان أفندي ونجيب أفندي ونسيب أفندي
فأصدروا الجزء العاشر على منوال الأصل في الفوائد والرسوم، ويزيد على الأجزاء
السابقة بما زاد في العلم من التحرير والاكتشاف وهو مفتتح بمادة (سليكون) من
حرف السين، ومختتم بترجمة السلطان (صلاح الدين) فنشكر لهؤلاء الأفاضل
سعيهم، ونرجو لهم النجاح والتوفيق لإكمال عملهم، وعسى أن يساعدهم قراء العربية في ذلك بالإقبال على الكتاب.
***
(تاريخ المشرق)
التاريخ من العلوم التي لم تبلغ كمالها إلا في الغرب، ولقد كان أقرب إلى
الأفاكية المسلية منه إلى العلوم المفيدة، فأمسى أعظم مرشد للناس في جميع الشؤون؛
لأنه هو الذي يشرح سير البشر في بداوتهم وحضارتهم، وفي علومهم وآدابهم
وأديانهم وأعمالهم، وما يحتف بها من أحوال معايشهم في كل قطر من أقطار
الأرض. وإن الأمم الشرقية في أشد الحاجة إلى كتب التاريخ المؤلفة على الطراز
الجديد النافع؛ لأنها ركن من أركان التقدم لا يقوم بدونه.
وقد أهدانا حديثًا الكاتب الشهير عزتلو أحمد بك زكي السكرتير الثاني لمجلس
النظار نسخة من ترجمته لكتاب (تاريخ المشرق) الذي ألفه بالفرنسية المسيو
ماسبيرو، وهو كتاب قد جمع على اختصاره ملخص التاريخ القديم لمصر والكلدانيين
والآشوريين والفينيقيين والماديين والفرس، وفيه من الرسوم والخرائط ما تتم
به الفائدة منه، وقد علق عليه جناب المترجم شروحًا في ضبط بعض الأسماء
المبهمة وبيان أصلها وغير ذلك مما لا غِنْية عنه، وقد قدرت نظارة المعارف الكتاب
المترجم قدرَه، فطبعته على نفقتها وأمرت بتدريسه في المدارس الأميرية.
فنشكر لحضرة المترجم فضله عسى أن يكون الشكر سببًا في المزيد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الحدود بين القطر المصري والسودان
جاء في جريدة الوقائع المصرية ما نصه:
صورة ما صدر من الداخلية لمحافظة النوبة بتاريخ 26 مارس سنة 1899
نمرة 9 إدارة بشأن الحدود الفاصلة بين مصر والسودان.
قد اطلعنا على إفادة حضرتكم رقم 14 مارس سنة 1899 نمرة 19 محاسبة
المتضمنة أنه بناءً على طلب جناب قومندان حلفا، وتنفيذًا للوفاق المبرم بين حكومة
جلالة ملكة إنكلترا والحكومة المصرية بتاريخ 19 يناير سنة 1899 فيما يختص
بالحدود الفاصلة بين مصر والسودان - قد تقرر فيما بين حضرة القومندان المُومَى
إليه وضابط بوليس التوفيقية من جهة، وبين مأمور فرقة أملاك الميري بمحافظة
ذلك الطرف ومعاون بوليس مركز حلفا من جهة أخرى على جعْل نهاية حدود بلاد
السودان شمالاً من الجهة الغربية على مسافة 200 متر شمالاً من البربه بناحية
فرص ومن الجهة الشرقية على البريّة الكائنة بناحية أدندان، وأنه وضع هناك
علامتان مكتوب على وجهة كل منهما الشمالية (مصر) والجنوبية (السودان)
وكان ذلك بحضور عُمد ومشايخ الناحيتين المذكورتين.
ونتج عن هذا أن ناحية فرص التي تتبعت للسودان تُرك من زمامها لمصر 3
أفدنة وقيراطان أطيانًا و58 نخلة، وترك السودان من زمام ناحية أدندان التابعة
لمصر 99 فدانًا و7 قراريط أطيانًا و150 نخلة، وأنه بهذا التحديد دخل حدود
السودان من بلاد المحافظة عشرة بلاد، زمامها 4094 فدانًا و12 قيراطًا و2 سهمًا
أطيانًا بما في ذلك 112 فدانًا و5 قراريط و11 سهمًا أطيانًا غير مربوطة و2206
نخلة ومقدار أهاليها 13138 نفسًا، وأنه بناءً على ما ذكر رأيتم تقسيم البلاد
الباقية من مركزي حلفا والكنوز على مركزين كما كانا حسب الآتي بعد:
أولاً: مركز حلفا يُسَمَّى بمركز الدر ويكون مقره ناحية كروسكو ويتبع له 22
بلدًا من أدندان إلى شاترمه شمالاً، حيث يكون امتداده 152 كيلو متر وزمامه
9117 فدانًا و10 قراريط و8 أسهم أطيانًا و254193 نخلة وتعداد أهاليه 31703
نفسًا.
ثانيًا: مركز الكنوز يسمى بمركز أبي هور ومقره بناحية أبي هور ويتبع له
18 بلدًا تبتدئ جنوبًا من ناحية المضيق إلى ناحية الشلال شمالاً، حيث يكون
امتداده 144 كيلو متر وزمامه 8025 فدانًا و5 قراريط أطيان و110440 نخلة
وتعداد أهاليه 22319 نفسًا.
وهذا حسب المبين بالكشف الوارد مع الرسم النظري على إفادتكم المذكورة،
وقد تصادف ورود مكتوب من نظارة المالية نمرة (5) أموال مقررة بأنها وافقت
على ما ذكر بناءً على الإخطار الذي أرسلتموه لها أيضًا، ولكنها ترى أن مركز
حلفا يكون اسمه مركز كروسكو لا الدر كما رأيتم وأن المديرية تسمى مديرية
(أصوان) وقد أوضحت في مكتوبها علاوة على ما بينتموه في إفادتكم الداخلية
أسماء العشرة بلاد المذكورة وهي نواحي سره شرق وفرص وجزيرة فرص ودبيرة
وسره غرب وأشكيت وأرفين ودغيم وعنقش وديروسه وأن فيها عدا الزمام الذي
ذكرتموه و720 فدانًا، و5 قراريط و8 أسهم أطيانًا من أملاك الميري الحرة،
وحررت لحضرتكم بذلك.
وحيث إننا قد وافقنا أيضًا على هذا التحديد الشامل لعدد البلاد والأهالي
ومقادير الزمام المذكورة مع تسمية مركز حلفا بمركز كروسكو كما رأت المالية
وكاسم الناحية التي سيكون بها وتسمية المحافظة بمديرية أصوان فاقتضى ترقيمه
لحضرتكم بذلك ولنظارات الحقانية والأشغال والمالية للعلم به.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
ناظر الداخلية
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(مصطفى فهمي)
_________
الكاتب: أحد أفاضل الكتاب في دمشق ـ الشام
الإصلاح الإسلامي
لأحد أفاضل الكتاب في دمشق -الشام
رنّ في هذه الأيام صدى كلمة الإصلاح في هيئة المجتمع الإسلامي لتقويم أوده
وإرجاع سالف مجده، وهي الكلمة التي أصغت لسماعها الآذان حينًا من الدهر،
ورصدت لها العيون ظهورًا في هذا العصر، وقد أخذ نبهاء الكتاب، ممن أوتوا
الحكمة وفصل الخطاب - في سلوك سبل توصل إلى هذا المقصد العزيز، وأناروا
مصباح رأيهم في هذا الميدان الرحيب، الذي ضربت عليه سرادق ظلام الجهل،
وخفيت فيه أنوار العلم والفضل، حتى تاهت في بيدائه العقول وحارت في أرجائه
الألباب، إلى أن أسفر للبعض منهم صبح من الإصلاح سار تحت ضيائه، وأرشد
الكافة إلى نوره وسنائه، والبعض لاح له حباحب يضيء، فظن أنه سيظهر شمسًا،
أو يكون في عالم الإصلاح بدرًا، والبعض رأى ما رأى مما وقفتم عليه في الجرائد،
ولكلٍّ وجهة اتجه إليها، وعول فكره عليها، إلا أن من سبر غور الحوادث وتتبع
سير تقلباتها وتنوع أطوارها - علم أن سيرها على جادة مستقيمة وخطة قويمة ما
كانت تحدث طفرة بل بسير متتابع بعضه خبب وبعضه عنق.
ونحن إذا نظرنا إلى ما اقترحه الكتاب من الأخذ بالأسباب المزعوم بها
الإصلاح وجدنا مقترحهم من نوع الطفرة التي هي محال في سير الزمان وتقلبات
الأحوال، وقد تبرعوا به في غير وقته، وكان الأجدر أن يلتفتوا إلى ما هو أمامه من
العقبات التي تعيق دون الوصول إليه فإذا مهدت ظهر نجاح مقترحهم [1] (لا ندري
من يريد بطالبي الطفرة) .
وما دامت هذه الأطواد الشوامخ حائلة في طريق الإصلاح ولها السيطرة القوية
والنفوذ التام على الخاص والعام فمن المحال الوصول إلى المطلوب إلا بالطريق
الذي سلكت عليه أوربا أول حضارتها، وقد علمتم أسبابه وكشفتم نقابه. وفي مقدمة
تاريخ (شرلكان) ما فيه كفاية للوقوف على نهضة الأمم الغربية من رقدتها، وكيف
زحزحوا العقبات الناشبة في طريق تقدمهم حتى ظفروا ببغيتهم، ولم يتنبه
المعترضون في سبيلهم إلا والقوة كانت في طرف أخصامهم فهبوا إلى إثارة شرار
الشر ضدهم فلم ينجحوا، وخاب مسعاهم فلم يفلحوا، أو بالطريق الذي سلكت عليه
اليابان في تقدمها ونشأة حضارتها إلا أن هذا متوقف على نشاط ملوك
الإسلام وإمدادهم فيه.
فأُولى هذه العقبات عقبة النفع الذاتي الذي يتخلل الأعضاء والجوارح وتنمو
الأجسام عليه حتى صار ملكة راسخة يعسر زوالها ولا يرجى برؤها، وهي أعظم
حائل دون المرام من الإصلاح، وما دامت هذه الروح الخبيثة تتردد في شغاف القلب
وتجول في ميدان اللب، فلا وأبيك نرى إصلاحًا لفسادنا ولا نجاحًا لأعمالنا (إنما
يضر حب الذات الذي تضيع به الحقوق العامة وهذا عرض يزول بالتربية والتعليم
الصحيحين) .
والثانية من هذه العقبات العصبية القومية التي إذا التفتنا إلى جهتها نقضي
لأول نظر باليأس من النجاح في خطة التقدم والفلاح؛ فإن ما نراه ونسمعه من
السعي في إفساد ذات البين الذي جاء الإسلام بحظره وخطره يحملنا على إنكار القول
بإمكان الإصلاح (هذا غلو في اليأس) ولا يخفى أن الأمة الإسلامية وحدت كلمتها
وضمت متفرقها برفع المغايرات الجنسية، فإذا انحلت هذه الرابطة ونظر كل شعب
وقبيل إلى نفعه حكم بتفريقها وتوزيع سلطتها ضرورة كالحبل المؤلف من أجزاء، فإذا
انحلت أجزاؤه ذهبت متانته وتلاشت منه القوة التي يقتدر بها على حمل الأثقال، وقد
استلفت الدين الإسلامي الجمهور إلى التمسك بعروة الإخاء الديني كيلا تتمكن
الدسائس الإبليسية والشهوات النفسانية من حل عُرَاه، وقد أبت السياسة الخرقاء إلا أن
تفرق هذه القبائل والشعوب التي أمر الله بتعارفها وائتلافها لوجهة من السياسة مظلمة
وطريق من التحكم وعر.
وإذا نظرنا إلى تقابل الطوائف الإسلامية التي فرقتها اللغات وجمعها الدين نراه
كالتقابل بين الأمم التي فرقتها الألسن، والأديان ولا يسعنا الحال الحاضر أن نبين
مقدار الانفراج الحاصل بين الشعوب الإسلامية؛ لئلا ينكشف الطلاء.
الثالثة منها الاختلافات الطرائقية والمذهبية، ولا يحقر شأن هذه الاختلافات
التي باعدت بين الأمة وقد أحدثت خللاً عظيمًا يصعب تلافيه.
الرابعة منها السعي في إفساد الأخلاق والآداب من أفراد يعلم شأنهم.
الخامسة منها السعي في انحطاط درجة علماء الدين من أنظار الأمة، وقد أخذ
بعضهم في لومهم لتقصيرهم عن القيام بإرشاد الأمة، وقد ذهل اللائم عن السبب
الباعث على سكوتهم وسكونهم وما هو إلا ما اتُّخِذَ من الحجر على أسباب معاشهم
وحصرها تحت يد مَن يتسنى له تسييرهم على مقتضى أغراضه وأهوائه (تأملوا
أيها العلماء بماذا يدافع عنكم من يعذركم من الأمة فما بال من يعذلكم؟ !) ولم يزل
السعي بتقليص نفوذهم من أنظار الأمة بأسباب معلومة واتخاذ من تشبه بهم من
أراذل الناس في الوظائف؛ لتتسع دائرة التهم عليهم فينحط شأنهم ويسقط سلطانهم.
ويكفي لانحطاط شأنهم ما يلقى في بعض المكاتب العالية إلى التلامذة من بعض
المعلمين من أن علماء الدين هم السد بين الأمة والترقي (ولماذا لا يكذبونهم بفعلهم؟)
وهذا الفكر تلقفوه من الأورباويين وقلدوهم في إطلاقه، وما علموا الفرق بين
سلطة العلماء في الدين الإسلامي وسلطة رؤساء الدين المسيحي؛ فإن من تتبع
تواريخ الأمة الإسلامية لا يقدر على إثبات حادثة تسند إلى علمائه تداخلاً في شؤون
الحكومات إلا ما كان من ضمن دائرتهم، ولم يكونوا في عصر ما حاجزين الناس عن
تعلُّم ما يفيد في معاشهم ومعادهم (في هذا نظر ظاهر إلا إذا أراد الحجز بالقوة
وليس من شأنهم) والتصانيف العديدة في أنواع العلوم والمعارف شاهدة (أين
مصنفات علماء هذا العصر من الفنون؟ !) وإعطاء حرية الأفكار ضمن صحائفها
مما يعلم به درجة التقدم، وثمة عقبات وسدود أرجأتها لوقت آخر.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
(م. ع. م)
(المنار)
لقد جمعت هذه المقالة على إيجازها ما لم تجمعه المطوَّلات التي كُتبت في
موضوعها، لكن فيها إجمالاً وإبهامًا لا بد معهما من بعض البيان والتفصيل.
أشار الكاتب إلى أن للإصلاح طريقين اثنين لا ترتقي أمة إلا بأحدهما أو
كليهما. ذلك بأن الارتقاء إما أن يكون من قبل الأمة كارتقاء أوربا، وإما أن يكون من
جانب الحكومة كارتقاء اليابان التي نهض بها إمبراطورها (الميكادو) نهضة واحدة
وقد أشار الكاتب إلى هذا بقوله: (إلا أن هذا متوقف على نشاط ملوك الإسلام
وإمدادهم فيه) ، وكان الأَوْلى أن يقول: متوقف على نهوض ملوك المسلمين وأمرائهم
وقيامهم به. وأما الأول فقد بينه بعض البيان بذكر العقبات الخمس. ذكر خمس
عقبات وسكت عن بعض العقبات والسدود أو أرجأها، ولكنه أهمل بيان الأطواد
الشوامخ التي يسهل بالنسبة إليها كل حَزَن وتقتحم كل عقبة.
تلك الأطواد مؤلفة من سلسلتين عظيمتين، وهما: رجال الدين، ورجال
الحكم والسلطان. فقد كان الفريقان متحدين في أوربا على مقاومة: كل ما يسمى
علمًا واكتشافًا واختراعًا وحرية وعدالة ومساواة، وإن شئت قلت: مقاومة كل ما
يصرف قلوب الناس عن العبودية لهما ويجعلهم مستقلين في إدارتهم كاملين في
إنسانيتهم. أما رجال الدين، فكانوا يعادون بالعقل والعلم ونتائجهما باسم الدين وكانوا
يزعمون أن كل علم أو عمل لم ينطبق على ما في كتبهم الدينية - فهو كفر وإلحاد،
ومن جاء به مباح الدم والمال. وكان الملوك والحكام تبعًا لهم ومنفذين لإرادتهم، وما
ذلك إلا لأن الفريقين كانا مشتركين في تلك السلطة المطلقة والمشيئة النافذة، وما كانا
يقابَلان به من الخضوع الأعمى والطاعة التامة. نعم، كانوا يعادون العلم؛ لأنهم
جهلاء، والناس أعداء ما جهلوا، فلما علموا صاروا أنصار العلم وأعوانه، كانوا
يرون أن العلم يصدهم عن حفظ الدين، فصاروا يعتقدون أنه لا يمكن حفظ الدين
وإبقاء شرفه إلا بالعلم؛ ولذلك ترى نظار المدارس وأكثر أساتيذها من الرهبان
والقسيسين، بل معظم المدارس في الغرب والشرق للجمعيات الدينية، وهل الترقي
إلا بالمدارس وفي المدارس ومن المدارس. فمبدأ ترقي أوربا الإصلاح الديني
وإمام المصلحين فيها هو الرجل العظيم (لوثر) .
ونتيجة هذا كله أن الإصلاح الإسلامي يتوقف قبل كل شيء على إقناع العلماء
ورجال الدين بأن العلوم الرياضية والطبيعية - التي هي محور الثروة والقوة والعزة -
ضرورية لا مندوحة عنها، ويجب أن تُعلم مع الدين وأن يقوم بتعليمها رجال الدين؛
لأن تركها للمدارس الأميرية والأجنبية التي يقولون: (لا دين فيهما) - يجعلها
خاصة بمن لا دين لهم وهؤلاء لا يرجى منهم خير للأمة والملة ولا يسقط الوجوب
بهم، وتركها بالكلية مُذهب للدنيا والدين؛ إذ الدين لا يمكن حفظه إلا بالدنيا فتعين
أن يجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا (الرياضيات والطبيعيات) .
وإن الشريعة الإسلامية تصرح بأن تعلم الصناعات التي يحتاج إليها البشر في
معاشهم واجبة على مجموع الأمة، وأن ما يتوقف عليه الواجب المطلق كالجهاد واجب
أيضًا، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الجهاد والصناعات ممكنة بغير هذه الفنون،
مع هذا كله نجد أكثر رجال الدين عندنا يعادون هذه الفنون وأهلها بل يكفرونهم،
ومنهم من عمي عن الوقت والزمان فزعم أنها لا حاجة إليها ألبتة. ومن العجيب أن
فقههم يقتضي أن تعلُّم الفنون العسكرية التي يتوقف عليها الحرب - فرض عين في
أكثر البلاد الإسلامية وهذا الحكم الذي لا نزاع فيه بينهم يستلزم أن جميعهم فساق
تاركون للفريضة، وربما يستلزم أكثر من هذا لا سيما باستحلال هذا الترك.
هذا وإن هناك عقبات أخرى في طريق الإصلاح دخلت على الأمة من خروق
وكوى فتحت في جدار الدين، فإذا لم تسد هذه الخروق والكوى فإن الإصلاح يكون
كالعلاج مع تناول الأغذية المضرة، وقد أخذنا على نفسنا الدأب في هذا العمل
الشريف طول حياتنا، ولنا الرجاء في عقلاء العلماء أن يوازرونا ويعضدونا ولا بد
أن ينتهي هذا الجهاد بانتصار الحق وانكسار الباطل والعاقبة للمتقين.
وأما السلسلة الأخرى (الأمراء والحكام) فإنها لا تغلب إلا بالعلم فهي تستبد
في الأمر وتستعبد الرعية ما دامت الرعية جاهلة خرقاء، فإذا علمت ما لها وما عليها،
وصارت رشيدة عاقلة؛ يرتفع الحجْر والاستبداد بالطبع. ولله در السيد جمال الدين
الحكيم الإسلامي الشهير حيث كان يقول: (إن العاقل لا يظلم لا سيما إذا كان أمة) ؛
ولهذا نقول: إن المطالِب بالإصلاح قبل كل أحد العلماء وهذا. هو المراد بكونهم
ورثة الأنبياء. وكل العقبات التي ذكرها الكاتب الفاضل تزول بإرشادهم وإصلاحهم إذا هم قاموا به على وجهه إن شاء الله تعالى.
ثم إن لنا كلامًا في العقبة الخامسة: وهو أن ما ذكره من السبب في سكون
العلماء وسكوتهم عن الإرشاد صحيح إلا أنه لا ينهض حجة شرعية ولا عقلية على أنه
عذر لهم عند الله والناس، إلا إذا كانت الرشوة حجة على عذر المرتشي إذا هو ظلم
وضيع الحقوق، نعم، إن الحكومة استمالتهم إليها بجعل معاشهم من الأوقاف في
قبضتها، وبإعطائهم الرتب والوسامات حتى أذعنوا لباطلها وسكتوا على انحرافها
عن جادة الشرع، بل صاروا يمدحونها ويعظمونها تملقًا ونفاقًا حتى سقطوا من
عين الأمة والحكومة معًا، وضعف نفوذهم فيهما، ولو وقفوا عند الحدود المشروعة
وقاموا، بوظيفتهم المقدسة مع مراعاة الحكمة لزادهم الحكام والمحكومون تعظيمًا
وتبجيلاً، ولكل هذا أمثال مشهودة لا يستطيع أحد إنكارها.
ثم إن جماهيرهم مُعْرضون عن معرفة أحوال الوقت في غيبة عما يحتاجه
الناس وعن طرق الوصول إلى تلك الحاجات بحسب الزمان والمكان، ولذلك صار
الناس لا يشعرون بأن لهم حاجة إلى العلماء إلا في مسائل شاذة نادرة. ويسهل
عليهم أن يختبروا حال الأمة بالامتزاج بالعامة وتقصي أمورها المعاشية والدينية
والأدبية والوقوف على رغائبها ثم إيقافها على ما تحتاج الوقوف إليه من الطرق
التي يوافق رغائبها ويسهل عليها سلوكها.
عند هذا تشعر الأمة بشدة حاجتها إليهم فتزيد في تعظيمهم وتبجيلهم وإكرامهم
ولهذا أيضًا أمثلة مشهودة لا يستطيع إنكارها إلا من يكابر الحس وينكر الموجود. من
فهم هذا يتجلى له أن المنار قد خدم العلماء وتعمَّل في زيادة تعظيم شأنهم؛ حيث قد
ألقى معظم تبعة الأمة عليهم؛ لأن أكثر الناس كانوا يظنون أنه لا شأن لهم في
الإصلاح، كما أنه خدم الحكام بعدم حصر التبعة فيهم كما كان يعتقد السواد
الأعظم، وما أقصد بهذا وذاك إلا بيان الحق والإصلاح من طريقه، والله عليم
بذات الصدور.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
كل ما كُتب بين قوسين في هذه المقالة فهو عن لسان المنار.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تأثير الوعظ والتذكير
كان منشئ هذه الجريدة جالسًا يومًا من أيام رمضان في مقصورة ضريح سيدنا
الحسين عليه السلام والرضوان) وبجانبه شيخ من أكبر علماء القطر المصري
فنظرنا إلى القوم الذين يُقبّلون الأرض وقفص النُّحَاس الذي على القبر ويستغيثون
ويطلبون حاجاتهم، فقرأ الشيخ:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: 52) وأشار إليهم، فقرأت أنا:{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: 53) ثم قلت له: ما بالكم - معاشرَ العلماء - ساكتين على هذه
المنكرات وقد وصلت إلى هذا الحد؟ ! فقال: إن الزمان قد فسد فلا يلتفت الناس إلا
إلى الباطل. قلت: إن الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه، فإذا تصارع هو والباطل
وثبت - فلا بد أن تنتهي المصارعة بالغلب له، فقال:(إذا ثبت!) قلت: وما
يمنعه من الثبات؟ ! قال: إن المشتغلين بالوعظ المضر والتعليم الممزوج بالخرافات
يسعون في منع من يُعلِّم تعليمًا صحيحًا ويَعِظ وعظًا نافعًا، ويساعدهم من يتصلون
به من الكبراء، ويطعنون بالواعظ الصادق المطاعن الدينية والسياسية. قلت له:
على كل حال يجب على صاحب الحق أن يُظهره حتى يُمنع، ويجاهد به جهادًا
كبيرًا أو يُغلب على أمره. قال الشيخ: لو تصدّى عالم لقراءة التوحيد الصحيح
والأخلاق لا يُقبِل عليه الناس؛ ولكنهم يقبلون على القُصّاص الذين يوافقون
أهواءهم. قلت: الأمر يخالف ذلك؛ فإن حوادث الزمان قد أعدت النفوس إلى
قبول الحق وطلب الإرشاد الذي ينتاشهم من هذه المهاوي وينقذهم من هذا
الشقاء، وإنني قد بلوت الناس فألفيتهم كما حدثتك، وها أنا ذا أقرأ درسًا هنا وقد
أقبل عليَّ الناس إقبالاً لم يكن يُنتظر، وصاروا يتحدّثون من أول يوم بنفعه، حتى
قال بعضهم: لو أن عندنا مائة مدرس كهذا لما حلَّ لنا ما نحن فيه من الرزايا. قال
الشيخ: وهل أقبلوا عليك كما يقبلون على فلان؟ فنقول إن التعليم النافع يروج كما
يروج غيره مثلاً؟ ! قلت له: لا، ولكن السبب في زيادة إقبالهم على فلان ليس هو
تفضيل تعليمه، ولكنهم اعتادوه بطول الزمن مع موافقته لرغائبهم كما قلتم، وأنا أرجو
أن يرجحوا جانب الحقيقة الذي فيه مصلحتهم على جانب التمويه الذي فيه لذّتهم إذا
وجد من يُمَيِّزُ ذلك لهم.
هذا ما دار بيننا من المحاورة والتَّجْرِبَة تشهد لما قلته آنًا بعد آن، وإليك هذه
الواقعة التي حدثت في هذه الأيام.
قام أحد الشيوخ في هذه الأيام يرغِّب الناس في الحج في مديرية الشرقية
ويحثهم على أدائه في هذا العام فجوَّل في مديرية الشرقية بهذا الوعظ، فأثّر في نفوس
الناس حتى استسهلوا المصاعب واستخفّوا بالنوائب وارتكبوا معصية الربا الفاحش
فاستدانوا ورهنوا أملاكهم للدائنين ثم استأجروا منهم الفدان الواحد بأربعة جنيهات؛
فكان مجموع الفضل الذي أُخذ منهم عشرين في المائة وهو ربا لا يصح في شرع
ولا قانون، ارتكبوا هذه الكبيرة عالمين بأن في بعض البلاد الحجازية وباءً يُخشى
أن يعلق بهم مكروبه وتلحق بهم كروبه ومستيقنين أن النفقات في هذا العام تكون
مضاعفة، كما أن أثقال السفر ومشقاته مضاعفة، وربما كان بعضهم يعتقد أن زيادة
الأجور والنفقات عن قدر الاعتدال تُسقِط الوجوبَ عن المستطيع.
لماذا حمل هؤلاء هذه الأوزار والأثقال وأقدموا على هذه الأعمال؟ ! أليس
إجابةً لداعي الوعظ الذي حملهم عليه العالم باسم الدين؟ ! بلى، قد امتثلوا أمر
الواعظ ولم يلتفتوا إلى قول الشاعر:
إذا حججت بمال أصله دنس
…
فما حججت ولكن حجت العيرُ
لا يقبل الله إلا كل طيبة
…
ما كل مَن حج بيت الله مبرورُ
فإذا كان قول العلماء يقبل بمثل هذا، وتنتهي طاعتهم إلى هذا الحد؛ فماذا يكون
من أمرهم إذا أنشأوا يبيّنون للناس طرق سعادتهم في دينهم ودنياهم من الوجوه التي
تتغذى بها عقولهم وتتشرَّبها نفوسهم وقلوبهم؟ ! لَعَمْرُك، إن الأمة تنهض بذلك
نهضة الأسود؛ فتحفظ موجودًا، وتسترد مفقودًا، وتنال عند الله مقامًا محمودًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عبرة لمن يعقل
كان أحد أعيان الشرقية الأغنياء مغرمًا بحب الأولياء. معتقدًا بركاتهم ملتمسًا
لنفحاتهم. وكان يرى أن أفضل ما يتقرب به إليهم المتقربون. ويستحق به رفدهم
ونوالهم الطالبون - إنما هو الاحتفال بموالدهم وإنفاق الأموال في معاهدهم. فكان
يشد في كل سنة إليها الرِّحَال وينفق بَدر الأموال، حتى إنه كان يُسَيِّرُ إلى مولد
السيد البدوي مائة وسبعين راحلة. وإلى مولد البيومي مثل هذه القافلة. ويضرب
في تلك المعاهد الخيام ويذبح لإقراء الضيوف الأنعام حبًّا في أولئك السادات.
وتعرضًا لتلك الفيوضات. وما كان ريع أرضه الواسعة الخصبة ليفي بنفقاته وبهذه
القربة؛ ولذلك كان يستدين النقود من بعض صرافي اليهود. وأنت تعلم أن شعب
إسرائيل لا يقنع بالرباء القليل. فما زالت تلك البركات الوهمية. والفيوضات
الخيالية تمحق بالرباء أمواله. كما تُحبط بالمعاصي أعماله. حتى جعلته أفقر أهل
زمانه. وأمسى الصراف اليهودي يتمتع بمائتين وثمانين فدانًا من أطيانه، ولم يزل
ذلك الأحمق السفيه حيًّا يعيش في حجر أخيه!
فهذه الواقعة الحقيقية تفيد أحد أمرين: إما أن الأولياء - كسائر الأموات - لا
يملكون للناس (ولا لأنفسهم) ضرًّا ولا نفعًا لا بالذات ولا بالواسطة والشفاعة، وإما
أن الاحتفال بالموالد يُغضبهم ولا يرضيهم ويسوءهم ولا يسرهم؛ فلذلك يتصرفون
بفاعله أسوأ التصرف. ويتوسلون إلى الله أن ينتقم منه أشد الانتقام. فليتبصر
المسرفون في أمرهم الذين ذهبت الاعتقادات الفاسدة بدينهم ودنياهم. وليخش الله
أهل العمائم الذين يؤولون لهم بأنهم لا يعتقدون أن للولي قدرة يقدر بها على النفع
والضر فيكونون وثنيين مشركين وإنما يعتقدون أن البركات تنزل عليهم من عند الله
تعالى؛ فتزيد في أرزاقهم وأعمارهم وتشفي مرضاهم بواسطة الولي الذي يعظمونه
ويحتفلون في مولده، وليرجعوا بالمسلمين إلى السنة الصحيحة وسيرة السلف
الصالح؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عِمارة القبور وعن تعظيمها، وما
كان السلف يعرفون شيئًا من هذه البدع، وما كان يخطر ببال أحد منهم أن يوسّط
ميتًا في قضاء حاجته، كما سبق لنا تفصيل ذلك غير مرة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
إحصاء الأوقاف
في يوم الأحد الماضي احتفل ديوان الأوقاف العمومية هنا بافتتاح محله
الجديد الذي شيده في باب اللوق تابعًا لوقف المرحوم عباس باشا الأول.
وشرف هذا الاحتفال مولانا الخديوِ المعظم عباس باشا الثاني. وفي خلال
الاحتفال رفع سعادة فيضي باشا مدير عموم الأوقاف - خلاصة تضمنت إحصاء ما
جدده الديوان وعمَّره من المباني منذ سنة 1893 إفرنجية إلى الآن وهو العهد الذي
تولى هو إدارة الديوان فيه عقيب تولي الجناب الخديوي المعظم أريكة الخديوية
والنظر على الأوقاف، فكانت كما يأتي:
10200
…
مساجد وملاجئ خيرية إنشاءً.
100
…
... مساجد وملاجئ خيرية ترميمًا.
10300
…
جملتها.
90
…
... عمارات ريع إنشاءً.
2750
…
عمارات ريع ترميمًا.
ــ
2840
…
جملتها
60
…
... مباني زراعية إنشاءً.
300
…
مباني زراعية ترميمًا.
ــ
360
…
جملتها.
4230
…
جملة جميع المباني التي عُمرت.
وتلى ذلك إحصائية عامة شاملة لواردات ونفقات الأوقاف من تاريخ تولية الجناب الخديوي (سنة 1892) إلى هذا العهد مع فوائد أخرى كما ترى.
باب الإيرادات
…
...
…
إيرادات
…
...
…
إيرادات
جملة
…
...
…
الأوقاف الخيرية
…
... الأوقاف الأهلية
جنيه
…
...
…
جنيه
…
...
…
... جنيه
190735
…
... 153775
…
...
…
36960
…
سنة 1892
223114
…
... 178487
…
...
…
44627
…
سنة 1893
255131
…
... 205451
…
...
…
49680
…
سنة 1894
293841
…
... 238941
…
...
…
54900
…
سنة 1895
326097
…
... 236962
…
...
…
89135
…
سنة 1896
350644
…
... 221474
…
...
…
129170
…
سنة 1897
344303
…
... 213112
…
...
…
131190
…
سنة 1898
فيظهر مما تقدم أن الفرق بين إيرادات سنة 1892 وبين سنة 1898 هو الآتي:
…
... سنة
…
... سنة
الفرق
…
... 1892
…
... 1898
153568
…
190735
…
344303
مصروفات ديوان عموم الأوقاف من سنة 1892 إلى سنة 1898:
جملة
…
...
…
... مصروفات الأوقاف الخيرية
إقامة الشعائر حفظ وترميم
…
مصاريف
…
مصاريف
…
المساجد والأملاك عقارية وزراعية الإدارة العمومية
جنيه
…
جنيه
…
جنيه
…
جنيه جنيه
…
117129 47774 20378 16010 32967
…
... سنة 1892
172472 44354 42772 49665 35681
…
... سنة 1893
206518 51528 74143 43521 27326
…
... سنة 1894
197882 50125 54487 53493 39777
…
... سنة 1895
234402 58644 46742 73296 55720
…
... سنة 1896
194532 50919 34785 38134 70694
…
... سنة 1897
185847 56759 31124 38470 59494
…
... سنة 1898
فيظهر أن الفرق في المصروفات بين سنة 1892 وببن سنة 1898 هو الآتي:
…
... سنة
…
... سنة
الفرق
…
... 1892
…
... 1898
جنيه
…
... جنيه
…
... جنيه
8985
…
47774
…
56759
…
إقامة الشعائر.
10746
…
20378
…
31124
…
حفظ وترميم.
22460
…
16010
…
38470
…
مصاريف عقارية وزراعية.
26527
…
32967
…
59494
…
مصاريف الإدارة.
_________
68718
…
117129 185847
بيان الأملاك التي اشتراها ديوان الأوقاف من سنة 1892 لغاية سنة 1898:
…
...
…
من
…
... من
…
جملة
…
...
…
أموال البدل
…
زائد الإيراد
جنيه
…
... جنيه
…
جنيه
…
فدان
153784 25212 128572 أطيان شباس والصافية 3417
102968 36417 6651
…
أطيان قلين والبكاتوش 4000
28152
…
6120 22032 أطيان المنشأة الكبرى 662
51657
…
33552 18105
…
أطيان الشناوية
…
854
26848
…
...
…
26848
…
مباني وأراضي فضاء
_________
…
_________
…
...
…
363409
…
... 101301
…
262108
…
8933
بيان الباقي للأوقاف الخيرية من النقود الموجودة بالخزينة لغاية سنة 98 تحت استعماله في صالح مصلحة الأوقاف
جنيه
27332
…
من زائد الإيرادات.
34668
…
من أموال البدل.
62000
…
الجملة.
بيان تقدير ميزانية إيرادات ومصروفات الأوقاف سنة 1899
جنيه
…
...
…
... الإيرادات
210500
…
الأوقاف الخيرية.
14000
…
الأوقاف الأهلية.
_________
350500
المصروفات
مصروفات الأوقاف الخيرية
63327
…
إقامة الشعائر
18435
…
حفظ وترميم المساجد والأملاك عدا الإنشاء.
38449
…
مصاريف عقارية وزراعية.
53648
…
مصاريف الإدارة العمومية.
_________
173859
بيان عدد الأوقاف التي يديرها الديوان وعدد المساجد والتكايا والمكاتب
والمستشفيات وعدد الخدمة القائمين بالعمل
عدد
…
...
…
... الأوقاف
1707 أوقاف خيرية
176
…
أوقاف أهلية
1362 مساجد وزوايا وأضرحة
20
…
تكايا
37
…
مكاتب
2
…
مستشفيات بالأزهر وب قلاوون
5200 خدمة إقامة الشعائر.
815
…
خدمة الإدارة العمومية.
بيان النقدية الموجودة بخزينة ديوان الأوقاف لغاية يوم الأحد 2 أبريل
سنة 1899 أي يوم الاحتفال بمحل الديوان الجديد
جنيه
878
…
ورق بون
150592
…
نقود
151470
…
الجملة
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تنازع الدول الأوربية
على الممالك الإسلامية
(تابع)
أشرنا في عدد سابق إلى تنازع الدول الأوروبية على الممالك الإسلامية
وخصصنا بالذكر وداي وبرنو وعمان، وقد كتبنا ملخص ما جرى في شأن هذه
الممالك وفاتنا أن ننشره في العدد الأسبق وهو:
أما عمان فقد انتهى النزاع فيها الآن ورضيت إنكلترا بأن تأخذ فرنسا محطة
في ميناء مسقط بشرط أن لا تضم إليها أرضًا أخرى؛ وذلك بعد أن أجبرت أمير
مسقط على الرجوع بقوله فرجع. وأما وداي فقد جاءنا البرق من أيام بخبر اتفاق
الدولتين أيضًا في مسألة بحر الغزال، وهو:
(من لندرا في 22 مارس - أُمْضِيَ أمس الاتفاق بين إنكلترا وفرنسا فكان
ذيلاً ملحقًا باتفاق النيجر. وقد أخذت إنكلترا بموجبه بحر الغزال ودارفور وأخذت
فرنسا وادي وبقرمي والبلاد الواقعة شرقي بحيرة تشاد وشماليها، واعترفت إنكلترا
بأن الأراضي التي في غربي الخط الممتد من جنوبي كانين على طول صحراء ليبيا
حتى الدرجة 15 من خطوط العرض الشمالي واقعة في منطقة النفوذ الفرنسوي، وقد
اتفق الفريقان على أن الحقوق التجارية بينهما متساوية في الجهات التي بين النيل
وبحيرة تشاد من الخط الخامس من خطوط العرض إلى الخط 15، فصار بذلك لفرنسا
منفذ إلى النيل. وقد تعاهدت الدولتان على أن لا تدعي واحدة منهما بحقوق سياسية
أو ملكية في الأراضي الخارجة عن الحدود المرسومة في هذه العهدة) .
مساحة وداي وبقرص نحو 172 ألف ميل مربع وسكانهما نحو الثلاثة ملايين
ومساحة كانم 30 ألف ميل مربع وسكانها مائة ألف نفس.
وفي الجوائب الأخيرة أن الدولة العلية احتجت على هذا الاتفاق؛ لأنه يمس
حقوقها لا سيما في طرابلس الغرب.
جاء في رسالة برقية من طنجة أن حكومة مراكش خنعت لبلاغ ألمانيا؛
فدفعت التعويض الذي طلبته منها وهو 60 ألف مارك.
_________
الكاتب: رفيق بك العظم
الإصلاح الإسلامي
بعدل القوام
أو التكافل العام
لحضرة الكاتب الفاضل صاحب الإمضاء
قضت سنن الوجود المدني منذ فطر الله الإنسان على حب الاجتماع - أن تشد
أواخي الألفة العمومية بنظام شامل تطمئن إليه النفوس الخيِّرة وتتلاشى دونه الأهواء
النزَّاعة إلى الشر، ومناط ذلك النظام إنما هي الشرائع المؤسسة على العدل المبنية
على أساس المصلحة العامة دون أن يخالطها شيء من الحشو التابع لأغراض
النفوس، وإنما تتكفل هذه الشرائع بسعادة الأمم واستمرار نظام الألفة بأحد شرطين:
عدل القوام أو تكافل الأقوام. ومتى فقد هذان الشرطان امتنع الانتفاع بالشرائع مهما
كانت في نفسها عادلة، وتعذر التأليف بين النفوس المتغالبة والعناصر المتباينة،
وناهيك بما ينشأ عن فقد الألفة من التعطيل في سائر ما تدعو إليه الحضارة ويتطلبه
الاجتماع، كما يؤيده الاستقراء ويشهد به الحس في كل عصر وعند سائر الأمم.
وهذه صفحات التاريخ الاجتماعي تنبئ عن جميع الدول الغابرة والشعوب
الماضية كالفرس واليونان والرومان وغيرهم من جماعات الإنسان ودول الحضارة
التي كان يتناوبها الشقاء والسعادة بنسبة حال قوام الشرائع وحفاظ القوانين، وفي
النظر إلى تاريخ الإسلام ما يغني عن التوغل في العصور القديمة والأمم البائدة؛
فإن الشريعة الإسلامية في صدر الإسلام لما كانت قائمة على أساس التكافل العام
بلغت بالأمة مكانة من الألفة الاجتماعية ضمت تحت كنفها مئات الملايين من البشر
كانوا في أبسط أطوار المدنية الإسلامية أنعم حالاً وأرقى نظامًا وأعظم قوةً ومجدًا من
سائر مَن أقلتهم يومئذ الغبراء وأظلتهم السماء، حتى بلغ من الشعور عند المسلمين
بمنافع قيام شرائع الإسلام على أساس التكافل العام - أن بني أمية لما حاولوا حل
عُرى هذا النظام وتفريق ذلك الالتئام رغبة بالاستئثار بالسلطة بما كانوا يدسُّونه على
المسلمين دون علم الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه وسرى ذلك في أفكار الأمة
سريان الشرارة الكهربائية في سائر الأقطار الإسلامية - هب الناس من مضاجع
الراحة منكفئين على المدينة المنورة من كل صوب يطالبون عثمان رضي الله تعالى
عنه بكف يد المستأثرين من عشيرته وقومه عن التسلط المطلق على النفوس
والأموال ثم استحكم أمر الفتنة وفعلوا به ما فعلوه مع أنه - علم الله - كان بريئًا من
تبعة فعل الأمويين، ولكن لا حيلة لتسكين الأفكار العامة إذا اندفع تيارها وتأججت
نارها، لا سيما وإن ما أتاه بنو أمية يومئذ من المبالغة في الاستئثار بمصالح
المسلمين - كان أهم دواعي الجرأة على هتك حرمة الخلافة وزوال هيبة عثمان
رضي الله تعالى عنه من نفوس المسلمين بخلاف ما كان عليه الحال على عهد عمر
بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من الاطمئنان الشامل والتكافل العام، بحيث لم
يكن من ذوي العصبيات في الإسلام مَن تحدثهم النفس بأدنى عمل من شأنه الإخلال
بقاعدة التكافل مهما بلغ بهم الأمر من حب الأثرة والميل إلى التسلط، وأين حادث
عثمان رضي الله عنه من حادث خالد بن الوليد لما كان في أرمينيا يقود خمسين ألف
مقاتل، كلهم طوع إشارته، وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ما كدّر
خاطره عليه فأرسل إلى أبي عبيدة في الشام أن استدعِ إليك خالدًا وسلْه عن الأمر
الفلاني فإن أقر فأقم عليه حد الشرع، وإن أنكر فابعث به إليَّ مع الرسول مقودًا
بعمامته. فاستدعاه أبو عبيدة إلى الشام وأبلغه أمر أمير المؤمنين أمام جماهير
المسلمين، فسمع وأطاع ثم ذهب مع الرسول قاصدًا المدينة المنورة دون أن ينبث
ببنت شَفَة؛ فإن هذه المبالغة بالطاعة والخضوع من مثل خالد بن الوليد وهو مَنْ
علمت مقاتل أهل الردة وفاتح العراق العربي والشام وأرمينيا - تدل على أن هناك قوة
أسمى من هيبة الخلافة في نفوس المسلمين، وهي قوة التكافل العام في حفظ
شرائع الإسلام، وقد كان منها على كل نفس رقيب عتيد يحمل سائر المسلمين على
معرفة الحقوق والواجبات التي تُلزم كل فرد منهم بالوقوف عند الطاعة والامتثال لأمر
الخليفة، ما لم يمس جانب الشرع أو يخل بنظام ذلك المجتمع الإسلامي العظيم، ولا
يخفى ما في هذا من نفوذ كلمة الخليفة وسلامة حياة الأمة.
هذا ومع ما عقب حادث عثمان رضي الله تعالى عنه من قيام الفتنة التي مهدت
لبني أمية سبيل الاستيلاء على الدولة والانفراد بالسلطة - فقد راعى بنو أمية أمر
التكافل في قيام الشريعة لارتباطها بقيام الملك، وكان قُوام الشرع بعدُ محافظين أشد
المحافظة على شرط العدل حتى تسنى للأمويين أن ساسوا الأمة سياسة أنتجت بسط
السلطة الإسلامية على معظم أنحاء المعمور. ولما أفضى المُلك إلى بني العباس
ورأى الخليفة السفاح وهو أولهم ما دخل على قاعدة التكافل العام من الفساد لاختلاط
الأمر باختلاط العناصر الداخلة في الإسلام - اتخذ له وزيرًا أبا سلمة حفص بن
سليمان؛ ليستعين به على بسط جناح العدل والمراقبة العامة، فكان أول مَن لُقب
بالوزير في دولة الإسلام، وكانت وزراته يومئذ وزارة تنفيذ لا وزارة تفويض، فلم
تستقم بها الأمور للدرجة التي تقوم مقام التكافل العام وما زالت كذلك حتى قيام
الرشيد بأعباء الخلافة الإسلامية، حيث رأى أن الأقرب لقاعدة التكافل والأحسن في
تنظيم شؤون الدولة وسلامة أحكام الشرع - أن يجعل الوزارة وزارة تفويض تكون
مسؤولة أمام الناس والخليفة عن نتائج كل عمل تعمله في الدولة، وكان ذلك كذلك.
ووزارة التفويض هذه هي بمثابة ما يسمونه الآن الوزارة المسؤولة عند
الحكومات المعتدلة؛ لأن من مقتضاها أن يفوض إلى الوزير تدبير الأمور بنفسه
وإمضائها باجتهاده، وأن يقلد وزارة الحرب والمظالم وغيرهما من شاء أو يتولى ذلك
بنفسه وبالجملة فقد قال العلماء فيها: إن كل ما صح عن الإمام صح عن الوزير إلا
في أمور ثلاثة استثنوها لتعلقها مباشرة بالخليفة. ووجه جواز هذه الوزارة في
الإسلام مأخوذ من قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ
أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه: 29-32)
قالوا: فإذا صح مثل هذه الوزارة في النبوة فهي في الخلافة أولى.
ومنذ تأسست هذه الوزارة في دولة الإسلام أثرت في نظام الدولة آثارًا صالحة
دعت إلى ترقي الأمة في معارج التمدن ترقيًا ما زال ولن يزال مسطَّرًا على
صفحات الوجود إلى الأبد، ومن ثم أصبحت وزارة التفويض في الإسلام - بما
ارتبطت به من المسؤولية أمام الراعي والرعية - من أهم دواعي العدل عند قوام
الشريعة وحفاظ القوانين، ثم ما زالت تُجرَى عليها القوانين وتدون لها الدواوين على
أشكال شتى تترقَّى بترقِّي الدول الإسلامية وتتدلَّى بتدليها حتى استحكمت الصبغة
الأعجمية في الدول الإسلامية، وغلت يدي الوزارة وقيدتها بقيود الاستبداد المطلق؛
فانمحت آثار العدل الصالح من تاريخ الوجود الإسلامي، وزاغ قوام القانون عن
مناهج الاستقامة أجيالاً عديدة، لا يبالون بما يفعلون ولا يحذرون غائلة عدو ربما
يغتنم فرصة هذا الخمود المطلق والضعف المستمر، ولكن الدول الأخرى كانت يومئذ
أضعف حالة وأشد جهالة، ثم ظهرت بوادر النهضة الغربية وأخذت تنكفئ قوى
المدنية الجديدة على أنحاء المشرق تتزاحم فيها بالمناكب وتخترق الأمم وتسلب حرية
الشعوب وحاول منذ ذلك الحين - بعض قوام الشريعة والقانون وسُوَّاس الأمة أن
يتداركوا هذا الخطر المحدق، ولكن بوسائل بطيئة السير عديمة النفع؛ لابتعادهم فيما
حاولوه عما قام عليه الإسلام، وصِين به نظام الأمة وهو التكافل العام وعدل القوام،
وهما الركنان اللذان قامت على دعائمهما دول الإسلام ولا تحيا إلا بحياتهما الأمم
وإنما أصاب المسلمين ما أصابهم من التقهقر ودخل على دولهم الضعف بضعف
هذين الشرطين، كما رأيت لا بضعف القانون أو حاجة الأمة إلى وضع أوضاع
جديدة أو تراتيب مفيدة في نظام الأمة وانتظام شؤون الدولة؛ إذ لو كان يغني وضع
القوانين وتدوين الدواوين عن هذا التقهقر المريع والضعف السريع - لأغنت
الشريعة الإسلامية نفسها وهي أعدل ما جاء من الشرائع وأعظمها مرشدًا لمصالح
البشر هاديًا لطرق السعادة وإنما هي تغنى عن ذلك بعدل قوامها، وهذا مفقود بفقد
المسؤولية، ولا يفيد دون هذه وضع الأوضاع العقلية والمنشورات السياسية بل
هي تكون كخط على ماء أو نقش في هواء. والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم. اهـ
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... (رفيق)
…
...
…
...
…
...
(استدراك المنار)
يريد الكاتب الفاضل بقوله: (التكافل العام) . معرفة مجموع الأمة بحقوقها
العامة ومصالحها المشتركة معرفة صحيحة تحملهم على الاتفاق على حفظها
وصيانتها، بحيث إذا عبث بها عابث أو نال منها ظالم ينفعل ذلك المجموع ويهبّ
للذود عنها وحفظ كِيانها، وهذا الأمر هو روح سياسة الإسلام. وقد بيناه في
المقالة التي تكلمنا فيها عن السلطتين - الروحية والسياسية - وفي مقالات (الخلافة
والخلفاء) وغيرها، ولكن هذا الروح الشريف الذي جاء به الوحي عاش به الخليفتان
أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقرراه بعملهما في نفوس المسلمين حتى كاد يكون
عامًّا، وظهر أثره في زمن عثمان عليه الرضوان فنسل الناس إليه من كل حدب
يلقون عليه تبعة ظلم عُماله، وبرهن لهم على احترامه سلطة الشعب واعترافه
بسيطرته اللتين جاءتا من ذلك الروح بقوله على المنبر: (أمري لأمركم تبع) كما
قال من قبله الخليفة الثاني على المنبر: (مَن رأى منكم فيَّ عِوَجًا فليقوِّمْه) . وبنو
أمية هم الذين اعتزوا بالعصبية وبدؤوا بإزهاق هذا الروح من عهد عثمان
(حاشا مثل عثمان وعمر بن عبد العزيز) لكن الروح كان قويًّا بنفسه والتعاليم
الإسلامية الأخرى: ككون إجماع الأمة واجب الاتباع وكقاعدة: لا طاعة على أحد
فيما يخالف الشريعة. وكوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو كان الآمر
والناهي عبدًا مملوكًا والمأمور المنهي خليفة أو مليكًا تمده وتغذيه؛ ولذلك قدر على
مقاومة سعي أكثر الخلفاء والملوك في إعادة الاستبداد والانفراد بالسلطة على نحو ما
كان معهودًا عند الدول والأمم السابقة على الإسلام والمعاصرة له مع أن ذلك
كان معززًا بالوراثة، وكان كلما ضعف الدين بانتشار البدع والفسوق وفساد التعاليم
واتباع علمائه لأهواء الحكام والسلاطين يضعف ذلك الروح. واشتد ظهور الضعف
عندما صارت السلطة في أيدي الأعاجم؛ لأن هؤلاء قد رثوا شدة الخضوع لملوكهم
ولو بالباطل عن أسلافهم الذين عبدوا كثيرًا من الملوك ولم يتناولوا الإسلام إلا بعدما
دخلته البدع ووهت أركان سياسته وقد انتهينا إلى زمان انقلبت فيه الأحكام وجهلت
أصول الإسلام، حيث يعتقد أكثر الناس أن الخليفة أو السلطان مقدس، وأن من
يقول: يجب عليه كذا أو يحرم عليه كذا؛ فهو منابذ للدين، وقد خلق علماء الفتنة
أحاديث في مدح السلاطين والخضوع الأعمى لهم يتبرأ منها الإسلام. وسنبين
ذلك كله في مقالة مخصوصة.
نحن على اتفاق مع صاحب المقالة في أن الإصلاح إنما يكون بعدل القوام أو
بالتكافل العام، وهذا هو معنى ما نكرره دائمًا من أن الإصلاح يكون إما من جانب
الحكام وإما من جانب الأمة وحيث كان أملنا في حكامنا ضعيفًا - جعلنا معظم كلامنا
في تربية الأمة على الوجه الذي تعرف به حقوقها وتقوم بحفظها بالتعاون وهو ما
سماه الكاتب (التكافل العام) ولكننا نخالفه في بعض الجزئيات ككون خلفاء بني أمية
حافظوا على التكافل العام وقد علم رأينا في ذلك مما كتبناه آنفًا، وكقوله: إن خضوع
الأمير خالد لأمر الخليفة سببه التكافل العام. ورأينا أن سببه حرمة الخلافة الدينية
واعتقاده أن الإسلام يفرض عليه أن يطيع أمر الخليفة فيما دعاه إليه من المحاسبة،
وبغير هذا يستحيل أن تقوم سلطة أو تثبت حكومة.
ثم لا شك أن سعادة الأمم إنما تكون بما عليه مجموع أفرادها من العلم والعمل
والفضائل. وعدل الحكام إنما يكون وسيلة للسعادة؛ لأنه يساعد الأمة على الترقي فيما
ذُكر بما يدفع عنها من العوارض التي تعيقها عن الترقي، فوظيفة الحكام في الهيئة
الاجتماعية كوظيفة الأطباء والحكماء بالنسبة للأشخاص وتمام السعادة إنما
يكون بصلاح الفريقين جميعًا وبالله التوفيق.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
عداء وخداع
أوغلت الدول الطامعة في الاعتداء وغلت في هضم الحقوق غلوًّا كبيرًا
تتحالف وتتخالف. وتتعادى وتتناصف. وتتنازع على الممالك والبلاد. ويرضي
بعضها بعضًا بحقوق العباد. وأما العدل والفضيلة والإنسانية والمدنية وحقوق الدول
والأمم فهي تارة تكون طلاءً قوليًّا يموهون به أفعالهم الشنعاء وتعديهم المشوه، وطورًا
تكون سلاسل وأغلالاً يقيدون بها الضعيف؛ لكيلا يكدر صفاء كأسهم ويضطرهم إلى
شيء من التعب في كبحه إذا حمله اليأس على الاستبسال في المدافعة عن نفسه.
تنازع أمس الأشعبان [الإنكليز والفرنسيس] في النيل الأعلى، وانتهى التنازع
باقتسام تلك الأراضي الفيح والملك الفسيح، فأرضت إحداهما الأخرى بحقوق
غيرهما حتى كأن بلاد الضعفاء مختصة بهما، وهذا هو حكم الجبروت الظالم والقوة
القاهرة التي عبر عنها فقيد السياسة (بسمارك) بقوله المشهور: (القوة تغلب
الحق) وقد وقعت وداي وبقرمي في سهم فرنسا وهما من البلاد الداخلة في ظل سلطان
الدولة العلية. وكانت إيطاليا تنتظر في مثل هذه القسمة أن يكون لها سهم فتفوز
بطرابلس الغرب مطمح نظرها ومنتهى أمنيتها، ولقصر نظرها توهمت أن إنكلترا
تساعدها على هذا الأمر، فلما خاب الأمل طفقت جرائدها تسلق الإنكليز بألسنة حِدَاد،
ولكن العجب أن فرنسا التي تطمع في طرابلس لمجاورتها لها في تونس والتي زاد
طمعها فيها أخذ وداي وبقرمي في جنوبيها ذكرت إحدى جرائدها المعتبرة (الطان)
كلمة إغراء لإيطاليا باحتلال طرابلس الغرب، وطير هذا الخبر البرق إلى سائر
الأقطار.
فإذا لم يكن هذا القول تهكمًا وسخرية فهو خداع لإيطاليا كما أنه عداء ظاهر
للدولة العلية. أما وجه الخداع فهو أن ولاية طرابلس ليست مذللة بالظلم أو الترف
ولا مفتونة بمدنية أوربا، وأهلها أولو قوة وأولو بأس شديد، وعندهم النظام العسكري
والسلاح الجديد، فإذا قدرت إيطاليا أن تدك بأسطولها الحصون والمعاقل الحربية
المنشأة على الطراز الحديث وتحل بعساكرها في الولاية؛ فإنها تلاقي من
الطرابلسيين ما ينسيها ألم الخذلان والانكسار في الجيش ويخرجها خاسئة خاسرة
فتستفيد فرنسا بذلك زيادة ضعف إيطاليا وهي من أعدائها والفلّ من حد الطرابلسيين
الذين يطمعون فيهم ويخشون بأسهم.
أعظم حسنات مولانا السلطان عبد الحميد: ثِنْتان - الآلايات الحميدية، وتعميم
التعليم العسكري، ولا يوجد في الدنيا بلاد إسلامية قائمة بواجب التعليم العسكري؛
بحيث يقدر جميع أهلها على المدافعة المفروضة شرعًا إذا دخل العدو البلاد إلا
طرابلس الغرب وأفغانستان، ولقد قوي الأفغانيون من قبل على الإنكليز وأخرجوهم
من ديارهم كرهًا بعدما احتلوها، ولم يكونوا كما هم الآن، وهم حتى الآن ليسوا كأهل
طرابلس فيما نعلم. الطرابلسيون أرمى من الثعلبين، لا تكاد تخطئ الغرض لهم
رصاصة، ولا يكلفون الدولة في الحرب شيئًا؛ فإن جراب الدخن الذي يضعه أحدهم
على ظهره وقت المجالدة والمكافحة - يكفيه شهرًا كاملاً! وهم يحتقرون عسكر
الأتراك الذين يذهبون إلى بلادهم، وقد علم الناس أجمعون أنه عسكر شهدت له أوربا
كلها بأنه لا يفوقه عسكر في العالم، ومن الطرابلسيين جماعة السنوسي وهم الذين قال
فيهم الفرنسيون: إنهم أشد من الصخور؛ لأن هذه قابلة للتفتت وهم لا يتفتتون.
ووراءهم أهل وداي وبقرمي وسائر السودان الغربي، وكلهم خاضعون للدولة العلية
فإذا ألمَّ بإخوانهم في طرابلس ما يكرهون كانوا أعوانًا لهم، والله نعم المعين.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تربية الأطفال
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ
وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78) ، فأول ما يشعر به الطفل ألم الجوع وألم
البرد وأول ما يُلهَمه امتص حلمة الثدي ثم تزيد الإدراكات فيسمع ويبصر من غير
تمييز بين مدرك وآخر ثم يميز بين مرضعته وغيرها حتى إن بعض الأطفال الذين
يعودون على الرضاع من امرأة واحدة إذا اتفق أن حاولت مرضع أخرى إرضاع
أحدهم يأباها وينفر منها، وهو نوع من التمييز في سن اللبان ظاهر لكن التمييز بين
النافع والضار ووعي الخطاب والاعتبار به إنما يتم في بضع سنين؛ ولذلك قال
الفقهاء والحكماء: إن السنة السابعة هي سن التمييز. وأوجبوا على قيِّم الطفل أن
يأمره بالعبادة كالصلاة والصوم إن أطاقه في هذا السن، ويتوهم كثير من الناس أن
الابتداء بالتربية يكون من هذا الوقت، وهو خطأ لا يحتمل الصواب، والحق ما قدمناه
في نبذة سابقة من أن التربية تكون منذ الولادة أو الحمل في قول، ولا نعني بهذا
التربية الجسدية فقط بل التربية بأنواعها الثلاثة - الجسدية والنفسية والعقلية -
يُبتدأ بها من يوم الولادة.
يقول قائل: إن دماغ الطفل لا عمل له في أول طور الطفولة كما أنه لا عمل
عضويًّا اختياريًّا له يطبع في نفسه ملكات الفضائل أو الرذائل، فما معنى تربية نفسه
وعقله حينئذ؟ !
والجواب: إن خلايا الدماغ - الذي هو محل الإدراك - تنمو بنمو الجسد؛
فالعناية بتربية جسد الطفل عناية بتربية عقله، وقد قلنا: إنه يدرك في سن اللبان
بعض الجزئيات ويميز أيضًا بينها تمييزًا ما. وكل إدراك وتمييز له أثر في
الدماغ، وكل عادة يعود عليها الطفل يكون لها أثر في نفسه وإن لم تظهر آثار ذلك
كله إلا في المستقبل، فالمعاملة التي يعامَل بها الوليد من أول النشأة هي بمنزلة
الأساس لأخلاقه وملكاته وعاداته ومدركاته، لكن الغافلين يرون البناء الرفيع ولا
يتفكرون في أنه قائم على أساس خفي في الأرض وأن ثباته وقوته بذلك الأساس.
ومن الجهل الفاضح أن ينكر الإنسان الآثار التي لا تظهر فورًا. ألم تر أن الكبير
إنما تنطبع العادات في نفسه بتكرار العمل حتى تصير ملكات راسخة تتعسر عليه
مقاومة آثارها. يشرب من لم يكن معتادًا على التدخين سيجارة مسايرة لصديق له، ثم
أخرى إجابة لصديق آخر، فينصحه بعض العقلاء بترك هذه المسايرة والمجاراة
محذرًا له من صيرورة التدخين عادة، فلا يلتفت إلى قوله، وربما يصرح له بأن
من المُحال أن يعتاد هذا أو ينفق عليه درهمًا! فلا يزال يعمل التكرار في دماغه
في مركز مخصوص منه حتى تنطبع الملكة وتدفع الرجل إلى المواظبة وإنفاق
المال مهما كانت حاجته إليه شديدة. وهكذا شأن من يتعود على الميسر (القمار)
وغيره من الأعمال القبيحة أو الحسنة. فإذا كان العمل الاختياري من المميز
والعاقل لا يظهر أثره إلا في نفسه إلا بعد زمن طويل فهل يصح لنا أن نحكم بأن
ما نعامل به الطفل لا يؤثر في نفسه؛ لأننا لا نشاهد الأثر عقيب المعاملة؟ ! كلا.
فليعلم الآباء والأمهات أن سعادة أولادهم بل سعادة أوطانهم وبلادهم - تتوقف
على تربية أولئك الأولاد من أول النشأة، فالمرأة التي لا تعتني بتنظيف وليدها
وبإرضاعه وتقريمه [تعليمه الأكل] وتنويمه في أوقات معينة وبكيفيات منتظمة،
والتي تكذب عليه بالقول أو العمل لأجل الترغيب أو الترهيب، وتسبه وتفحش عليه
وتهينه وتضربه عند الغضب، والتي لا تبالي بسيئاته إذا أساء وتسترضيه إذا غضب
ولو بالباطل بالشهوات المضرة، والتي تؤْثر أحد أولادها على الآخر ذكرًا كان أم
أنثى - التي تعامل أولادها في الصغر بما ذكر لا ينبغي أن تعتب على الحظ أو تحيل
على القدر إذا رأتهم في الكبر قذرين متهاونين في شؤونهم وشؤون أوطانهم لا يتقنون
عملاً ولا يتحامون زللاً، كذَّابين منافقين مسرفين ظالمين فاحشين أرذلين متعادين
متباغضين يؤثر كل واحد شهوته على كل شيء ويزاحم أخاه بما يتسامح بمثله مع
الأجنبي. بل يجب أن تعتقد هذه الأم الشقية أن هذا البلاء هو ثمرة ما غرست
وعاقبة ما قدمت، وسنفصل القول في أنواع التربية الصحيحة تفصيلاً.
***
التعليم الفطري
جميع العلوم والفنون مأخوذة قواعدها الكلية من المحسوسات؛ فالصغير يدرك
في أول أمره الجزئيات الحسية ثم ينتزع الكليات من التوافق والتباين اللذين يراهما
فيها. ولا يخفى على العلماء أن تمحيص الحقائق وصيرورة حدود القواعد العامة
جامعة مانعة لم يصل إليهما الإنسان إلا بعد بحث طويل في سنين كثيرة. فإدراك
الكليات والإشراف منها على الجزئيات هو غاية العلم ومنتهى التحصيل، ومن
الحماقة والجهالة أن يطالَب الأحداث في ابتداء تعليمهم بغايات العلماء بعد الأبحاث الطويلة في العصور والأجيال، وهو فهم القواعد الكلية واستنباط الجزئيات منها.
والصراط المستقيم لحسن التعليم هو صراط الفطرة والطبيعة وهو أن تلقي
للتلميذ أمثلة محسوسة كثيرة ثم تنبهه على أن هذه الجزئيات يجمعها أمر كلي يسهل
على من تعقله أن يلحق كل ما يعرض له من الجزئيات به وهو كذا، ثم يطالَب بأن
يأتي بعدة أمثلة من عند نفسه، ويلي هذا الطريق أن يفهم التلميذ القاعدة إجمالاً ثم
توضح له بكثرة الأمثلة. وبهذا التعليم يستغني بقراءة كتاب واحد مرة واحدة عن
قراءة الكتب الكثيرة وتكرارها، وبهذا التعليم تُحفظ المسائل فلا تُنسى إلا ما شاء الله،
وكل طالب علم يعرف من نفسه أنه ينسى أو يذهل عن أكثر المسائل التي لا
يستعملها، ولا يأتي عليها بأمثلة كثيرة ما لم تكن المسألة من البديهيات.
الإتيان بالأمثلة الكثيرة على القواعد نوع من العمل، وقد كتبنا نبذة سابقة في
(التعليم بالعمل) بينا فيها أن العلم إنما يثبت وينمو بالعمل، والعلم الصحيح الذي
يجدر أن يسمى صاحبه عالمًا - هو ما كانت ملكته راسخة في النفس تصدر عنها
آثارها بلا تعمُّل ولا رويّة. وقد علمت مما تقدم آنفًا في نبذة (تربية الأطفال) أن
الملكات لا تنطبع في النفس إلا بتكرار العمل.
وإن تعجب فعجب قولهم: إن العالم مَن إذا قرأ الكتب التي درسها مرارًا يفهم
أساليبها ونكتها ويقدر أن يأتي في المسألة الواحدة باحتمالات كثيرة - وربما لا يجزم
بشيء منها - ولا يشترط فيه أن تكون المسائل والقواعد راسخة في نفسه بحيث
يأتي بجزئياتها بغير تكلف ولا ملاحظة قاعدة.
حقًّا أقول: إن كل هذا هو العلم فما أقل فائدة العلم! وما أبعد المسافة بينه وبين
سعادة البشر، بل أقول: إن العلم الذي لا يؤثر في أخلاق النفس ولا يبعث ويزعج
إلى إصلاح أعمالها لغو لا فائدة فيه ألبتة ولا يصح أن يسمى علمًا. فإن قيل: فائدته
القيام بإفادة الناس به بالتعليم. نقول: ولماذا يتعلم الناس ما لا أثر له في أخلاقهم
وأعمالهم التي هي مصدر سعادتهم؟ ! قال بعض علماء التعليم من أهل
الغرب: إن كثرة المطالعة تورث النسيان وكثرة المكث في المدرسة تورث البلادة.
وقال: قد ثبت بالاستقراء أن أكثر النابغين كانت مدة إقامتهم في المدارس قليلة.
فعسى أن يتنبّه طلاب العلم - لا سيما الأزهريين ومَن على شاكلتهم - إلى
طريقة التعليم المثلى، فيستفيدون في الوقت القصير علمًا كثيرًا وما يتذكر إلا مَن
ينيب.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقاريظ
(غرائب الزمان في فتح السودان)
صدر الكتاب الأول من هذا التاريخ لمؤلفه الأديب محمود أفندي طلعت وفيه
الكلام على السودان من أيام فتحه في عهد إسماعيل باشا إلى أيام الفتنة العُرابية.
وصاحبه قد سافر إلى السودان وكان من عمال الحكومة المصرية فوصف ما شهده
واختبره بنفسه، ووضع الكتاب في شرح رحلته، وذكر فيه ما وقع معه من الشؤون
الغرامية فكان رواية تاريخية غرامية صحيحة، وهذا يضمن له الرواج. وقد تصفحنا
بعض صفحاته، فاستعذبنا القول على أن فيه غلطًا كثيرًا، لكنه مدرك بالبداهة.
***
(المناظر)
جريدة عربية جديدة ظهرت في (سان باولو - البرازيل) رئيس تحريرها
الكاتب الأديب نعوم أفندي لبكي ومديرها الأديب فارس أفندي سمعان. فماذا عسى
نقول في الثناء على همة أبناء وطننا السوري وحبهم للمعارف والآداب، وهذه
الشرذمة منهم في بلاد البرازيل لم تكتفِ بجريدة ولا جريدتين فهكذا هكذا وإلا فلا لا.
***
(شكوى الاحتلال بلسان الحال)
قصيدة غراء مما نسميه بالشعر العصري لناظمها الشاعرالمجيد أحمد أفندي
محرم وقد علق عليها شرحًا لطيفًا وطبعها به، وربما نذكر بعض غُرر أبياتها في
فرصة أخرى.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الجمعية الإسلامية الهندية في لاهور
حملت إلينا جريدة (بيسه أكبر - لاهور) الهندية علاوة تبين فيها حال
هذه الجمعية وهذه ترجمتها:
وصل إلينا التقرير السنوي الذي أذاعه كاتب سر هذه الجمعية ومحصله أن
مسلمي بنجاب أسسوا منذ 14 سنة في مدينة لاهور بحاضرة بنجاب جمعية إسلامية
لتعليم أولاد المسلمين وتربيتهم وسموها (أنجمن حماية إسلام لاهور)
والغرض منها:
(1)
تعليم العلوم الدينية والتربية عليها؛ لينشأ المتعلمون على الفضائل
والكمالات الصحيحة.
(2)
تعليم العلوم الدنيوية واللغات الأجنبية؛ تسهيلاً لطرق المعاش.
(3)
العناية بتربية اليتامى؛ إنقاذًا لهم من دعاة الديانة المسيحية ومن
الموت بالجوع.
ثم توسعت الجمعية في عملها فأنشأت مدارس للبنات، وأرسلت وعاظًا إلى
كثير من الأقطار؛ ليبينوا حقيقة الإسلام ويثبتوا حقيقته لمن يجهلها من الأنام.
والأمر الذي يستلفت الأنظار هو أن مؤسسي الجمعية ليسوا من الأمراء ولا
من كبراء الموظفين وإنما هم أفراد من عامة أهل العلم والمستخدمين، وكان زعيمهم
وصدرهم أحد مشاهير العلماء صاحب الفضائل الحاج مولوي خليفة حميد الدين
(رحمه الله تعالى) وابتدأ القوم عملهم بالاكتتاب العمومي وكانوا في أول الأمر
يجمعون الدقيق كل يوم من البيوت بواسطة شيوخ الحارات ويأخذون الصدقات من
الولائم والوضائم (طعام الخزن) حتى كان يخيل أن الجمعية إنما هي لإطعام
الفقراء والمساكين المضطرين. ولما شاهد الأمراء وكبراء الموظفين وعامة الناس
ثبات المؤسسين وحسن نظامهم ونجاح عملهم الذي كانوا يعتنون منه بالتربية وحسن
السيرة أكثر مما يعتنون بالتعليم - أقبلوا على الجمعية وتنافسوا في أن يكونوا من
أعضائها حتى إن بعض أمراء الحاضرة رضي بأن يتولى إدارتها وبعض موظفي
نظارة المعارف قبلوا أن يكونوا مفتشين فيها، كانت الجمعية في أقصى الهند، ولما
طار صيتها توالت عليها الوكلاء من كل جانب، وهُرِع الناس لحضور احتفالاتها
السنوية من كل صوب، وتنافس الخطباء والشعراء بإلقاء الخطب المؤثرة وإنشاد
القصائد البليغة في تعظيم شأنها حتى صارت منتجع العلماء ومورد الأمراء، وبلغ
شهود احتفالها ستة آلاف رجل في السنة، وأجمع أهل الحِجَا والفهم وأصحاب الغيرة
والهمة على مساعدتها وتعضيدها، فرسخت جذورها وامتدت فروعها وتشعبت
أفنانها فأنشأت بناءً فسيحًا للدروس الخارجية وشيدت غرفًا خاصة لليتامى، فهم في
معاهدها يأكلون وينامون ويصلون ويتعلمون ويشتغلون ويرتاضون.
أما عدد التلامذة فقد كان في السنة الماضية كما ترى في الأرقام:
أقسام المدرسة
…
العدد في أول السنة
…
العدد في آخرها
القسم الكلي
…
...
…
62
…
...
…
63
القسم التجهيزي
…
... 52
…
...
…
67
القسم المتوسط
…
... 205
…
...
…
192
القسم الابتدائي
…
... 516
…
...
…
561
المجموع
…
...
…
835
…
...
…
883
وأما الواردات والنفقات والتوفير فقد كانت في السنة الماضية كما تراه بحساب
الروبيات والجنيهات:
التوفير من سنة 1897 (18902)
…
... روبية أو 1260 جنيه
واردات سنة 1898
…
... (31043)
…
روبية أو 2069 جنيه
المجموع إلى آخر ديسمبر منها (49945)
…
روبية أو 3329 جنيه
النفقات إلى آخر ديسمبر منها (33837)
…
روبية أو (2255) جنيه
فيكون الموفر لسنة 1899
…
(16108)
…
روبية أو (1074) جنيه
وتجتهد الجمعية في اقتناء الأملاك وتشتغل بتأليف الكتب المدرسية وتطبعها
على نفقتها؛ لتربح من بيعها. وبيان مجموع ما عند الجمعية من النقود، الكتب
المطبوعة والأملاك المشتراة والتي تبرع بها أهل الغيرة والحمية إلى آخر ديسمبر
سنة 1899 ما يأتي:
قيمة الأملاك
…
...
…
32445
…
روبية أو 2163 جنيه
قيمة الكتب
…
...
…
13904
…
روبية أو 927 جنيه
النقود الموفرة من سنة 98
…
16108
…
روبية أو 1074 جنيه
المجموع
…
...
…
... 62457
…
روبية أو 4164 جنيه
وقد أسست الجمعية منذ سنتين مدرسة خصوصية لتعليم العلوم العربية والدينية
على طريقة المتقدمين سمتها (المدرسة الحميدية) نسبة لرئيس الجمعية سابقًا
المرحوم مولوي خليفة حميد الدين وتذكارًا له. وتعد هذه المدرسة فرعًا من مدرسة
(أنجمن حماية الإسلام) وكان أكثر الناس تبرعًا بالنقود لتأسيس هذه المدرسة
المولوي خليفة عماد الدين أكبر أنجال المرحوم وأحد مفتشي المدارس الأميرية في
لاهور اهـ. من ترجمة الفاضل عبد الرحمن الهندي مُكاتب جريدة وكيل الهندية
الغراء.
فهكذا تكون الهمم وهكذا تكون العلماء، نجَّح الله مقاصد هذه الجمعية وجزى
الأفاضل الذي أسسوها وعضدوها أفضل الجزاء.
_________
الكاتب: عبد الحق الأعظمي البغدادي
الأعياد
] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ [[1]
لحضرة الفاضل الأزهري صاحب الإمضاء
عبد الحق حقي البغدادي الأعظمي الأزهري
العيد اسم لما يحصل فيه الاجتماع العام على وجه معتاد، سواء كان سنويًّا أو
شهريًّا أو أسبوعيًّا، زمانيًّا أو مكانيًّا وقد يصدق على مجموع اليوم وما يصنع فيه،
وعلى المكان وما به وعلى الاجتماع وحده أو مع ما يصحبه من العبادات والعادات
وبضرورة تباين العرب في المذهب والمشرب - تباينت أعيادهم في الزمان والمكان
ولمناسبة عيدنا الأكرم أردت توضيح ذلك على وجه الإجمال والاختصار تفكهة لقراء
(المنار) بهاته النبذة التاريخية.
اعلم أن العرب كانوا في الجاهلية شيعًا متفرقين وفرقًا مختلفين فقد كانت
(النصرانية) في ربيعة وغسان وبعض قضاعة، وكانت (اليهودية) في حِمير وبني
كنانة وبني الحارث بن كعب وكِندة، وكانت (المجوسية) في تميم، وكانت الزندقة
في قريش، أخذوها من الحيرة، والمراد بالزندقة هنا عدم الإيمان بالآخرة والربوبية
وكان بنو حنيفة اتخذوا في الجاهلية إلهًا من حيس فعبدوه دهرًا طويلاً ثم أصابتهم
مجاعة فأكلوه، فقال فيهم رجل من تميم شعرًا:
أكلت حنيفة ربها
…
زمن التقحم والمجاعة
لم يحذروا من ربهم
…
سوء العواقب والتباعة
ولا شك أن الأعياد من الديانات ولواحق العبادات، وإلى ذلك ذهب بعض
المفسرين في قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوه} (الحج: 67)
حيث فسروا المنسك بالعيد، فلم يكن العرب يومئذ متفقين في الأعياد كما لم يتفقوا
في الدين والاعتقاد.
أما المشركون من عَبَدَة الأصنام فقد كان لهم في الجاهلية أعياد كثيرة، منها
مكانية، ومنها زمانية:
أما (المكانية) فكثيرة وهي مواضع أصنامهم وأوثانهم وأمكنة طواغيتهم،
وكانت الطواغيت الكبار التي كانت تشد إليها الرحال وتقام عندها الأعياد ثلاثة:
(اللات) و (العزى) و (مناة الثالثة الأخرى) وكل من هذه الثلاثة لمصر من
أمصار العرب؛ فكانت اللات لأهل الطائف، والعزى لأهل مكة، ومناة لأهل
المدينة، يهلّون لها شركًا بالله تعالى. وكانت لهم مواسم من السنة مخصوصة
للاجتماع عند هذه الثلاثة وتقصدها العرب من كل فج وتعظمها كتعظيم الكعبة،
وكان لها سدنة وحُجَّاب، وكانوا يهدون إليها كما يهدون للكعبة ويطوفون بها وينحرون
عندها مع اعترافهم بفضل الكعبة؛ عليها لعِلمهم أنها بيت أبيهم إبراهيم الخليل عليه
السلام ومسجده. وكان ذو الخلصة بيتًا باليمن لخثعم وبجيلة فيه نُصُب يعبدونها ولهم
فيه من السنة موسم وعيد، وكان أهل نجران يعبدون نخلة طويلة بين
أظهرهم لها في كل سنة موسم وعيد، وإذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب
حسن وحُلي النساء ثم خرجوا إليها وعكفوا يومًا.
وأما (الزمانية) فهي كثيرة، منها أيام مسراتهم وأفراحهم لظفرهم على عدوهم
ونصرتهم على خصومهم ومحاربيهم، وذلك يختلف باختلاف الشعوب والقبائل،
فيتفق أن يكون يوم عيد لقوم يوم حزن وبؤس على آخرين. وكان لأهل المدينة
يومان يلعبون فيهما فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال لهم: قد أبدلكم الله
بهما خيرًا منهما يوم الفطر والأضحى. ومنها يوم السبع وهو عيد من أعياد قبيلة من
قبائل العرب في الجاهلية، كانوا يشتغلون فيه باللهو واللعب، وكذلك يوم السباسب.
وأما أعياد المجوس - وهم الفرس وشرذمة من العرب وغيرهم - فهي كثيرة
جدًّا، إلا أنَّا نقتصر على المشهور منها الذي أولع الشعراء بذكره واعتنى الأمراء
بأمره وهو (النيروز) والمهرجان والسذق - فهو تعريب نوروز وهو أعظم
أعيادهم ويقال: إن أول مَن اتخذه جمشاد وهو أحد ملوك الطبقة الأولى من الفرس،
وسبب اتخاذهم هذا اليوم عيدًا أن طمهورة لما هلك ملك بعده جمشاد فسمي اليوم
الذي ملك فيه نوروزًا؛ أي: (اليوم الجديد) ومن الفرس من يزعم أن النيروز هو
اليوم الذي خلق الله تعالى فيه النور، وأنه كان معظمًا قبل جمشاد. وبعضهم يزعم أنه
أول الزمان الذي ابتدأ الفلك فيه بالدوران ومدته عندهم ستة أيام، أولها اليوم الأول من
شهر أفرود ريزماه الذي هو أول شهور سنتهم، ويسمون اليوم السادس النيروز الكبير؛
لأن الأكاسرة كانوا يقضون في الأيام الخمسة حوائج الناس على اختلاف طبقاتهم
ثم ينتقلون إلى مجالس أُنسهم مع خواصهم فيه، وهو يعمل في 17 حزيران، وقيل:
في 11 منه. وأما المهرجان فوقوعه في 16 تشرين أول من شهور السريان، ومن
شهور الفرس في 16 من مهرماه وهو ستة أيام ويسمى اليوم السادس المهرجان الأكبر.
وسبب اتخاذهم له [2] أن بيوراسب وهو الضحاك ويقال له: أوذهاق. ذو الحبتين
والأفواه الثلاثة والأعين الست الداهية الخبيث المتمرد لما قتل جمشاد
وملك جاءه إبليس في صورة خادم فقبَّل منكبيه فبدت فيهما حبتان وكانتا تؤلمانِه
فوصف له دمعة الناس فكان يقتل كل يوم غلامين لذلك، فأجحف بقتل الولدان في
الرعية، فخرج رجل بأصبهان يقال له: كابي. وعقد لواءً من جلد أسد ودعا الناس
إلى محاربة الضحاك، فاجتمع له خلق كثير ولما تحقق عند الضحاك ذلك هابهم
وهرب منهم فاجتمع الفرس إلى كابي ليُملِّكوه فقال: ما أنا من أهله.
وذكر لهم أن معه صبيًّا من ولد جمشاد يسمى فريدون وقال: أرى أن تملكوه وتعيدوا
المُلك إلى أهله. فملكوه، فخرج فريدون في طلب الضحاك فوجده، فأخذه وشده
وحبسه في جبل دنياوند وجعل ذلك اليوم عيدًا وسماه المهرجان. وقيل في
سبب اتخاذه غير ذلك.
وكانوا يتهادون في النيروز والمهرجان بالمسك والعنبر والعود الهندي
والزعفران والكافور. وأول من رسم هداياهما في الإسلام الحجاج بن يوسف الثقفي،
وأول من رفع ذلك عمر بن عبد العزيز واستمر ذلك إلى أن فتح الهدية فيه أحمد بن
يوسف الكاتب، فإنه أهدى فيه للمأمون سفط ذهب فيه قطعة عود هندي في طوله
وعرضه وكتب معه: (هذا يوم جرت فيه العادة بألطاف العبيد للسادة) .. إلى آخر
ما قال.
وأما السذق فيعمل في ليلة 11 من شهر أيار - مايو - ويسمى هذا اليوم عند
الفرس روزابا؛ لأن لكل يوم من أيام الشهر عندهم اسمًا، ويقال في سبب اتخاذهم له
أن فراسياب لما تملك سار إلى بلاد بابك فأكثر فيها الفتنة وخرب ما كان عامرًا منها
فخرج عليه زفرب بن طهمازشب فطرده عن مملكة فارس إلى بلاد الترك، وكان ذلك
في يوم روزابان فاتخذ الفرس هذا اليوم عيدًا وجعلوه ثالثًا لعيدي النيروز والمهرجان
ولما تملك وضع عن الناس خراج سبع سنين فعمرت البلاد. وقيل في السبب غير
ذلك، وللفرس أعياد دون ما ذكرناها منها عيد يسمى نيركان وأيام الفيروزجاة، أي:
تربية الروح وركوب الكوسج وبهمنجه.
أما القبط والنصارى فقد قيل: إن أعيادهم أربعة عشر عيدًا، سبعة يسمونها
كبارًا وسبعة أخرى يسمونها صغارًا.
فالكبار: البساره (1) والزيتون (2) والفصح (3) وخميس الأربعين
(4)
وعيد الخميس (5) والميلاد (6) والغطاس (7)، وأما الأعياد الصغار:
فالخنان (1) والأربعون (2) وخميس العهد (3) وسبت النور (4) وحد
الحدود (5) والتجلي (6) وعيد الصليب (7) .
وأما اليهود فقد قيل: إن أعيادهم خمسة، يسندونها إلى التوراة وهي:
(1)
عيد رأس السنة يعملونه عند رأس سنتهم وينزل عندهم منزلة عيد
الأضحى عندنا. (2) وعيد صوماريا وهو عندهم الصوم العظيم الذي فرض
عليهم صومه ومدته خمس وعشرون ساعة، (3) وعيد المطل (4) وعيد الفطير
(5)
وعيد الأسابيع - وهذه الثلاثة الأخيرة حجوج عندهم - والذي أحدثوه بعد
الخمسة عيد الفور وعيد الحنكة.
وأما المسلمون فلنذكر ما اشتهر من أعيادهم على سبيل الاختصار والإيجاز
فنقول:
قد تقدم أصل مشروعية عيدي الفطر والنحر وأنهما استبُدلا بيومين كان أهل
المدينة يلعبون فيهما في الجاهلية وقيل: هما النيروز والمهرجان. وسبب الاستبدال
أنه ما من عيد إلا وسببه إقامة شعار ديني أو تعظيم بعض أئمة الدين أو شيء مما
يضاهي ما ذُكر، فكان في هذا الاستبدال محو ما عساه يكون منشأ اللعب في ذينك
اليومين من شعار الجاهلية وإقامة سنة سلفهم الضالين وإثبات شعائر الملة الحنيفية
وإقامة سَننها، وشرع فيهما مع التجمل والتوسع والفرح والسرور - ذكر الله تعالى
وطاعات أخرى تنزهًا عن إمضاء الوقت كله في اللهو واللعب وخلوّه من إعلاء كلمة
الله.
أحد العيدين يوم الفطر من صيامهم وأداء نوع من زكاتهم، فيجتمع فيه الفرح
الطبيعي بالتفرغ من مشقة الصيام، وبتوسعة الأغنياء على أنفسهم وأخذ الفقراء
الصدقات، والفرح العقلي بالتوفيق لإكمال العدة والتعرض للمثوبة والأجر وببلوغ
الموسم مع النعم في الأهل والمال بالنسبة للأكثرين.
والثاني يوم الفراغ من معظم أركان فريضة الحج الواجب على مجموع الأمة،
ويقوم به بعضها في كل عام، وتذكار محاولة سيدنا إبراهيم ذبح ولده إسماعيل
(عليهما الصلاة والسلام) وإنعام الله تعالى عليهما بأن فداه بذِبْح عظيم. وناهيك بتذكر
أئمة الملة الحنفية والاعتبار بهم في بذل المهج والأموال في طاعة الله تعالى وقوة
الصبر، وفيه تشبّه بالحجاج وتنويه بهم وتشويق لما هم فيه.
وشرعت في الأول زكاة الفطر وهي واجبة، وفي الثاني الأضحية وهي سنة
عند بعض الأئمة وواجبة عند آخرين. وبهذين النوعين من الصدقة تكون أيام العيدين
أيام سعة على الأمة كلها وهو معنى كونها ضيافة الله تعالى، وشرع في كل منهما
التكبير والصلاة المخصوصة والخطبة؛ ليجتمع لهم السرور الروحاني والجسماني
معًا، وفي العيدين مقصد من أهم مقاصد الشريعة وهو الاجتماع العام للتعارف
والتآلف، ومعلوم أنه لا بد لكل ملة من اجتماع في صعيد واحد؛ لتظهر شوكتهم وتعلم
كثرتهم؛ ولذلك استحب في العيدين خروج جميع المسلمين إلى المصلَّى حتى الصبيان
والنساء، ومن لا يصلي من النساء يعتزلن المصلى ويقفن جانبًا يشهدن المصلين؛
ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يخالف في الطريق ذهابًا وإيابًا؛ ليطلع
أهل الطريقين على شوكة المسلمين. ولما كان الأصل في العيد إظهار الفرح
والسرور بالزينة ونحوها استحب فيهما حسن اللباس والتقليس - ضرب الدفوف -
وروي عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان
وتضربان - وفي رواية تغنيان - بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث، والنبي صلى الله
عليه وسلم متغشٍّ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن
وجهه وقال: دعْهما يا أبا بكر؛ فإنها أيام عيد، وفي رواية: (يا أبا بكر لكل قوم
عيد وهذا عيدنا) حديث متفق عليه.
وتفصيل القول - فيما يُطلب شرعًا في الأعياد - يراجع في كتب الفقه.
…
...
…
...
…
عبد الحق حقي البغدادي الأعظمي الأزهري
_________
(1)
(الحج: 67) .
(2)
المنار: هذه الحكاية من أساطير الفرس الخرافية يتناقلها المؤرخون الذين ألفوا الخرافات.
الكاتب: أحد أفاضل الأمراء والكتاب في الشام
الساكت عن الحق شيطان أخرس
لأحد أفاضل الأمراء والكتاب في الشام
عثرت - بطريق المصادفة والاتفاق - على مقالة في جريدة طرابلس في
العلاج الشافي من داء التأخر الملمّ بنا برّأ بها محررها ساحة العلماء من تبعة هذا
التأخر، وادعى أن العلاج الشافي هو عقد الشركات، وسكت عما سوى ذلك من الأمور المهمة مكتفيًا بالعَرَض عن الجوهر، فلم أشأ أن أسكت عن بيان الحق؛ لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس فأقول:
أما تبرئته ساحة العلماء فلا أراه مصيبًا فيه؛ لأن العلماء هم هداة الأمة
ومرشدوها وهم المطالبون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم إذًا المسئولون
بعد الأمراء الذين بيدهم الحل والعقد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ألا كلكم
راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) ، ولقوله أيضًا: (ما من عبد يسترعيه الله رعية
فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة) إلى غير ذلك من الآثار الكثيرة التي
نكتفي منها بما تقدَّم.
ووجه مسئولية العلماء هي لأنهم عدلوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إلى التزلف والتملق للأمراء وأصحاب الجاه واليسار، وعن الإرشاد الصحيح إلى
التضليل، وعن بث العلوم الصحيحة إلى التعلق بأهداب الخرافات والتُّرَّهَات، أما
الأول فهو ظاهر فيما نراه من إقبالهم على الأمراء وإطرائهم إياهم وتزيينهم لهم سوء
أعمالهم لرتبة ينالونها أو مال يصيبونه أو جاه يحصلون عليه؛ حتى إن واحدًا منهم
ألف كتابًا ضخمًا في مجلدين في إطراء أحد الظلمة الخونة. وأما الثاني فهو معلوم
من وعظهم وإرشادهم بحكايات يحكونها وروايات يروونها، ما أنزل الله بها من
سلطان؛ يُضلون بها العقول، ويفسدون الأفهام ويثبطون الهمم ويُقْعدون
العزائم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ألا ساء ما يعملون. وأما الثالث فلعدولهم
عن العلوم الصحيحة الحقة إلى السفاسف، ومزْجهم الحق بالباطل كما هو مثبت بتقاريرهم التي يلقونها في دروسهم المشحونة بالأقاصيص والحكايات، وبتآليفهم
السخيفة البعيدة عن التحقيق الحاوية ما تمجّه الأذواق وتأباه العقول السليمة.
نكتفي منها بإيراد ما يأتي من كتاب (الفواكه الجنوية في الملتقَطات النجوية
تأليف العالم العلامة البحر الفهامة مَن فضله في الأقطار ساري الأستاذ الشيخ عبد
الهادي نجا الإبياري أمد الله في حياته ونفع المسلمين بمؤلفاته، آمين) (كذا في
الأصل) ، فقد جاء في الصحيفة 145 من النسخة المطبوعة في القاهرة ما نصه
بالحرف الواحد:
(ومما جرب للقرينة وأخذناه عن بعض الأكابر أن يسقى الطفل لبن معزى
حمراء، ويدهن جسده كله من هذا اللبن، وأن يعلق عليه بندقى، وأن يحك عود
الصليب الهندي الأصلي في لبن البز، ويسقى له، وأن يؤخذ فراخ الحمام الصغار
وينتف ما على دبرها من الوبر ويوضع منفذ الدبر منها على منفذ دبر الصبي، فكل
حمامة ماتت توضع غيرها وهكذا. إلى أن يصيب الأخيرة شيء فيعلم أنها ذهبت،
ومما جربناه للقرينة أيضًا أن تحضر عجوز قد آيست من الحيض وتوضع وجه الطفل
أمام
…
وهو مفتوح، وتوضع إصبعها فتلطخه برطوبة
…
وتخط به (صليبًا!)
على جبهة الطفل، ثم تأخذ قطعة شبه زفرة قدر البندقة وتخط بها (سبع) خطوط
على جبهته أيضًا، ثم تحرقها وتضعها في رغيف وترميه لكلب أسود يأكله، والشب
المذكور إذا وضع على رف في البيت بعد أن حك به جبهة الصبي مرارًا وأحرق
وكان بالصبي نظرة - فإنها تذهب ولا تعود) (انتهى) .
فهؤلاء هم العلماء والمرشدون في هذا العصر، وفي كل يوم نسمع منهم أشياء
كثيرة تماثل ذلك أو تزيد عليه ومن أنكر عليهم رموه بالزندقة وقالوا: إنه مارق من
الدين. ونفروا العامة منه، فعلى مثل هذا الجهل يؤاخَذ العلماء. أما ما ذهب إليه من
عقد الشركات فهو من الأمور الثانوية و (حاجتنا الكبرى) إنما هي إلى عمال
أمناء صادقين أكْفَاء عفيفين متهالكين متفانين في حب الدولة والوطن، يساعدون سيدنا ومولانا الخليفة الأعظم على إنفاذ رغائبه في تعميم الإصلاح بنشر ألوية
العدل والضرب على أيدي الظلمة الخونة؛ فإن الظلم مُؤْذِن بخراب العمران، كما
أثبت ذلك العلامة ابن خلدون في مقدمته. وهذا لا يتم إلا بتوسيد المناصب
إلى أهلها، وتعميم العلوم والمعارف بين طبقات الناس والسيطرة على الأعمال
ومكافأة الأمين الصادق ومجازاة الخائن المارق ونهضة العلماء لإرشاد الناس لما
فيه صلاح دينهم ودنياهم فعندها تتوفر الأموال وتتوطد الأمنية فتعقد الشركات وتحيا
الصنائع وتنمو الثروة..إلخ، فعلى الجرائد الصادقة أن ترمي إلى هذا الغرض
وتبوح بهذا السر وتكشف عن هذا المُعمى؛ فإن كتمان الداء يزيده عياءً، والناصح
الأمين لا يماحك ولا يوارب ولا يغش ولا يخادع. وبالله التوفيق.
(المنار)
طفقت الأمة تتنبه إلى عذل العلماء ولومهم على تقصيرهم في إرشادها إلى ما
تقوم به مصالحها المعاشية والمَعادية وفقًا لدينها القويم، فهذه رسالة من أحد بلاد
سوريا، وعندنا رسالة أخرى أشد عذلاً من هذه. تنبهت الأفكار في جميع الأقطار فإذا
لم يلتفت العلماء إلى النظر الدقيق في أحوال العصر وما تقتضيه مصلحة الأمة فيه،
ويقوموا بالإرشاد الصحيح الموصل للغاية يوشك أن لا يمر بضع سنين إلا والرأي
العام منحرف عنهم أشد الانحراف بل ينتظر ما هو أعظم من هذا.
نعم، إن هذا مما تتوقع مضرته وتخشى مغبته، ولكنه ليس بأضر من الخضوع
الأعمى لهم، وهم على ما هم من الشؤون التي تكلمنا عنها في مقالات كثيرة وسنزيدها
شرحًا وبيانًا، أليس من العار أن تكون كتب المشهورين بالنباهة منهم مملوءة
بالخرافات والهذيان والغش من غير نكير، وأن ينقل عن بعض أكابرهم القول بأن فن
تقويم البلدان - بل وسائل الفنون الرياضية والطبيعية - لا لزوم لها ألبتة؟ !
أليس من الفضيحة أن يقول بعضهم: إن الانتظام والترتيب مفسد للأزهر ومُذهب
لبركته؛ لأن في الخلل القديم سرًّا روحانيًّا؟!
كفى كفى؛ مَن كتم داءه قتله. ليأخذ من لم يعرف أحوال العصر برأي من
عرف. ليخضع من تقوم عليه الحجة لها، وليتفقوا جميعًا على العمل قبل أن يخرج
الأمر من يدهم. والسلام.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تربية الأطفال
أول خدمة يخدم بها الطفل بعد فصله من أمه - غسله ودهنه وإلباسه ما يقي
بدنه من البرد وإرضاعه، وأما الغسل فينبغي أن يكون بماء فاتر مساوٍ لحرارة البدن
أو قريب منها، وأن لا تطول مدته، وأن يلف جسم الطفل كله بمنشقة ويدلك دلكًا
لطيفًا بغاية الرفق، ثم يدهن بزيت الزيتون ويلبَس ثيابًا واسعة لا تضغط جسمه،
ويحسن أن تكون في أيام الشتاء دافئة ولو بالعرض على النار، وأن تكون جافة؛
فالثياب الرطبة تضر الأطفال بل والكبار أيضًا، وبلغنا أن الإفرنج يمسحون في كل يوم أجساد أطفالهم بماء فاتر وماء بارد على التعاقب مرة من هذا ومرة من
ذاك ويقولون: إن تعويد الطفل على هذا يمنع سرعة تأثره بالتغيرات الجوية
كالانتقال الفجائي من الحرارة إلى البرودة ومن الجفاف إلى الرطوبة وبالعكس،
وقريب من هذا ما يؤثر في كتب الأدب العربية من أن رجلاً رأى أعرابية تغطس
طفلها في النهر في أيام الشتاء فسألها عن السبب في ذلك فقالت: أريد أن أجعله كله
وجهًا. تعني أن الوجه إنما لا يضره البرد لما اعتيد من تعريضه له من الصغر
فإذا عُود الجسم كله على برد الماء والهواء يصير يحتمله كما يحتمله الوجه.
ولكن هذا القول لا يؤخذ على إطلاقه؛ فالذين اعتادوا الترف والتنعم
والاحتراس من البرد وتوارثوا ذلك خلفاً عن سلف إذا عرض أحدهم طفله للبرد
الشديد وحاول جعله وجهًا بالتعويد يوشك أن لا يتم له ما يريد فيولد الماء البارد في
ولده الالتهابات التي ربما تنتهي بالممات! وقياس مترفي الحضر على الأعراب
قياس مع الفارق.
أما المسح بالماء الفاتر فالبارد بإسفنجة في نحو بضع دقائق ثم تنشيف البدن
ودلكه، فلعله ينفع ولا يضر حتى المترفين أصحاب الأجسام النحيفة الضاوية، ولا
بأس أن يغطس الطفل في الماء البارد فالسخن على التوالي والتعاقب بعد أن يكون قد
اعتاد جسمه على ذلك المسح، وبعد طور الرضاعة يكتفى بمسح الوجه والرقبة
والصدر بما ذكر؛ فهو يغني عن مسح البدن كله أو تغطيسه.
أكثر الأمراض التي تفتك الأطفال في سن الطفولية تكون من التغيرات الجوية؛
لأن الجسم فيه يكون سريع التأثر لا يقوى على الحر والبرد والرطوبة فضلاً عن
مقاومة مكروبات الأمراض العفنة الوبائية كالنزلة الوافدة أو الصدرية. وهذا العمل
يقولون: إنه يقي من هذه النزلة ومن التهابات الرئتين والشعب وأنواع الزكام وسائر
الأمراض الصدرية والمتولدة من التغيرات الجوية حتى قالوا: إنه يُذهب بالاستعداد
للسل. وحسبك هذا.
أما الرضاعة فيراعى فيها أمور، أهمها: أن ترضع الطفل أمه إن لم يكن
مانع من نحو مرض معدٍ أو هزال وضعف يضر المرضع أو الرضيع، فإن
أرضعته امرأة أخرى فينبغي أن تكون في سن الشباب سليمة من الأمراض المعدية
جيدة الصحة حسنة الخُلق والخَلق. وحسن الأخلاق من أهم شروط المرضع؛ لأن
اللبن كما يؤثر في انتقال المرض بالوراثة يؤثر في الأخلاق وإذا قلنا: إنه لا يؤثر في
الأخلاق. فمعاملة الفاسدة الأخلاق للطفل تكون غير منتظمة وقد قلنا من قبل إن
المعاملة التي تعامل بها الأطفال يكون لها تأثير كبير في عاداتهم وسجاياهم. يحكى
أن إمام الحرمين أرضعته مرة امرأة كافرة فاسدة الأخلاق فعلم والده بذلك فأقاءه
(جعله يقيء) ما رضعه، ثم إن الإمام بعدما كبر وصار علاّمة عصره كان إذا عسر
عليه حلّ مشكلة علمية أو بدرت منه بادرة غير مُرضية قال: إن هذا من آثار تلك
الرضعة. وقد ورد في الحديث الشريف: (لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء؛ فإن
اللبن يعدي) ويحسن أن يكون سن ولد المرضع مساويًا لسن الرضيع، وأن يكون قد
سبق لها إرضاع اختبرت به التربية.
وإذا لم يتيسر وجود مرضع بهذه الصفات فالأولى أن يغذَّى الولد بلبن
الحيوانات كالمعز والبقر بواسطة الآلة المعروفة؛ فإنه أسلم، ولكن لبن الأنعام أغلظ
من لبن البشر وربما اشتمل على مكروبات مرضية، فينبغي أن يضاف إليه قليل من
الماء والسكر بحسب تقدير الطبيب، وأن يسخن بحيث تموت مكروباته، ويكفي في
تسخينه حرارة 70 درجة بميزان سنتغراد. واللبن المغليّ أعسر هضمًا فلا يغلي لبن
الإرضاع غليانًا. ويجب أن تكون الآلة جديدة صالحة فإن كانت مما استعمل في
الإرضاع يجب تنظيفها وتطهيرها مما عساه يكون بها من التعفن ومكروبات
الأمراض.
هذا ما يراعَى في المرضع واللبن بالاختصار، أما الإرضاع نفسه فينبغي أن
يكون موقتًا بأوقات منتظمة لا يقل الزمن بين الرضعة والأخرى عن ساعتين في
أول الأمر، ثم تزيد المدة بينهما تدريجًا؛ لأن الطفل يأخذ في أول الأمر قليلاً من
اللبن وكلما كبر زاد مقدار ما يرضعه،والزيادة تقتضي زيادة المدة لأجل الهضم، وإن
كانت القوة تزيد معها أيضًا. وأكثر النساء لجهلهن لا يقصرن الإرضاع على التغذية
بل يجعلنه وسيلة للترضية، فكلما بكى الطفل يلقمنه الثدي، وربما يتوهمن أنه لا
يبكي إلا لطلب الرضاع أو أن كل بكاء يسكته الرضاع فهو لأجله، وإلا فهو عن
مرض. والصواب أن الطفل يبكي لأقل سبب كابتلال لفائفه وتألم بدنه ولو
من عقدة خيط في ثوبه.
وإذا حاول الطفل الحركة التي تقتضيها طبيعته فحال دون ذلك شد القماط عليه
يبكي، فليتجنب الإرضاع في غير وقته لأجل البكاء، وليعلم أن أكثر قيء الأطفال
من الإرضاع قبل الهضم، وناهيك به بلاءً على الأمهات والأطفال جميعًا.
أما مدة الرضاع فأكملها حولان تامان وأقلها واحد وعشرون شهرًا؛ أخذ ذلك
العلماء من قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن
يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233)، وقوله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ
شَهْراً} (الأحقاف: 15) وذلك بطرح مدة الحمل الغالبة (9 أشهر) من مدة
الحمل والفصال (أي: الفطام) معًا، كما استنبطوا من الآيتين أن أقل مدة لحملٍ ستة
أشهر، وسيأتي الكلام على إطعام الأطفال وتقريمهم إن شاء الله تعالى.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقريظ المطبوعات
(كتاب تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية)
لكل عصر من الأعصار مناهج مخصوصة في شؤون أهله الحسية والمعنوية
أو المادية والأدبية والأمور الثابتة التي تتغير بتغيُّر الزمان يطرأ التغيير على
وسائلها وعوارضها، وقد قال العلماء: إن من أسباب تغير الشرائع حتى
السماوية اختلاف شؤون البشر باختلاف الزمان. وأجمع المسلمون على أن الدين
الإسلامي آخر الأديان وشريعته خاتمة الشرائع. وإنما كان كذلك؛ لأنه جاء بقواعد
عامة تنطبق على مصالح البشر في عصر التشريع وفي كل عصر يأتي بعده مهما
بلغوا من الترقي في العلوم والأعمال، لكن هذه القواعد الصحيحة الثابتة تحتاج إلى
من يجليها في هذا العصر بما يناسبه ويستنبط منها الأحكام التي توافق مصالح
أهله، ولا يمكن أن يقوم بهذا العمل الشريف الذي يتوقف عليه حفظ الإسلام وأهله
فضلاً عن انتشاره وعزة أهله - إلا مَنْ عرف وقته وعرف الدين معرفة صحيحة.
ومن الأسف أن أكثر التصانيف الإسلامية في القرون الأخيرة أو كلها مأخوذة
من كتب المتقدمين نسخًا يشبه المسخ، وأنه لم يكن يوجد عندنا كتاب في الدين إذا
عرض على متمدني هذا العصر يأخذ من قلوبهم مأخذًا يستلفتهم إلى النظر في الدين
بتمثيله سائقًا لهم إلى سعادة الروح والجسد على الوجه الذي يناسب زمنهم وعمرانهم
حتى قام حكيم المسلمين في هذا العصر العلامة الشيخ محمد عبده وألف (رسالة
التوحيد) الشهيرة. وأمامنا الآن كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس
المدنية) الذي نوهنا به في العدد 33 من السنة الأولى لجريدتنا عند الشروع في
طبعه وذكرنا أن مؤلفه صديقنا هو القاضي الشاب الذي فاق الشيوخ أناة وكمالاً
وعملاً بعمله محمد فريد أفندي وجدي.
أما الكتاب فقد تم طبعه وقرأناه فإذا هو قد وافق اسمه مسماه، افتتحه بمقدمات
في الدين والعلم والإسلام، بيَّن فيها أن الدين ناموس عام ضروري في الكون كسائر
نواميسه، وذكر آراء مشاهير فلاسفة أوربا في النسبة بين الدين والعلم وفيما ينبغي أن
يكون عليه الدين، وبيّن أن العلوم الطبيعية خدمت الإسلام وأنها كلما ترقت وزاد
الناس رسوخًا فيها زادوا قربًا من الإسلام، وأن القواعد التي وضعها الفلاسفة
للديانة الطبيعية موجودة في دين الإسلام، وهي أربع:
(1)
الاعتقاد بأن الله غني عنا وعن أعمالنا.
(2)
وأنه رحيم بنا ويود صلاحنا.
(3)
أن العبادة يجب أن تنطبق على النواميس الثابتة للحياة وتلائم الطبيعة
البشرية لا أن تعارضها وتسعى في ملاشاتها.
(4)
وأن العبادة الجسمية يجب أن تعتبر وسائل لتطهير النفوس وتهذيبها لا
أغراضًا مطلوبة لذاتها.
واستدل على وجواد هذه الأشياء في الإسلام بالكتاب والسنة، ثم عقد فصولاً
في نواميس المدنية وانطباقها على الإسلام مبينًا النواميس بأقوال علماء أوربا
مستشهدًا على الانطباق بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وأراني مضطرًّا لأن
أقول: إن من الأحاديث التي أوردها ما لا يصح رواية وإن كان معناه صحيحًا ومسلّمًا
في الدين ولو راجع كتب الحديث لوجد في معنى تلك الأحاديث الواهية الإسناد
أحاديث صحيحة، وعساه يستدرك هذا في طبعة ثانية.
وقد خاض الكتاب في كثير من المسائل العصرية وبيّن نسبتها إلى الدين
الإسلامي: كالحرية بأنواعها، والواجبات بأنواعها، وبراءة الإسلام من الحقد
الديني المعبر عنه بالتعصب والاسترقاق، وأن الإسلام راعى فيه ناموس، الحضارة
وكون الإسلام هو الدين الوحيد الذي راعى حقوق الروح والجسد معًا، وختم الكتاب
بنظرة في الإسلام والمسلمين أجمل فيها القول في أمراض المسلمين وبيان دوائها
الذي هو الإسلام نفسه.
وكفى هذا الكتاب شرفًا أننا جعلناه ثاني كتاب رسالة التوحيد التي لم يؤلّف
مثلها في الإسلام قط، ولعمري إن مؤلفه الفاضل جرى على آثار الأستاذ في الرسالة
أسلوبًا وبحثًا، ولا يعيبه أنه لم يبلغ شأوه بلاغةً وتحقيقًا وتحريرًا؛ فالأستاذ حكيم
الأمة في هذا العصر وأبلغ كُتاب العربية أجمعين. ومن جملة ما تبع فيه رسالة
التوحيد تشبيه النوع الإنساني كله بشخص منه، وبيان أن جميع الأديان والشرائع
السابقة كانت مناسبة لأطوار النوع من الطفولية ومبادئ التمييز، وأن الإسلام هو
الدين الذي منَّ الله به على الإنسان عند ابتداء دخوله في طور الرشد والعقل؛ ولهذا
كان آخر الأديان، على أن في الكتاب من الفوائد الكثيرة ما ليس في الرسالة كما أن
فيها ما ليس فيه، فلا يُستغنَى بأحدهما عن الآخر. ومما يمتاز به الكتاب سهولة
التناول؛ فيتسنى لجميع طبقات الناس فهمه. وسننقل منه نموذجًا تعرف به مكانته من
الفائدة إن شاء الله تعالى. ومما انتقدناه على صديقنا الفاضل مؤلفه أنه هضم حقنا في
خدمتنا في المنار؛ حيث قال - في فاتحة الكتاب - ما نصه:
(نسمع كل جمعة على المنابر قائلاً يقول: لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا
من القرآن إلا رسمه. ولكنا لم نسمع قط بأن عاقلاً قام يبحث بدقة وثبات عن أسباب
هذا الاضمحلال الشديد الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية من منذ (كذا) قرون كثيرة،
أما والعلم لو بحث باحث عن علل هذا الهبوط الهائل بعد ذلك الصعود السريع -
ما وجدها إلا في ترك السنن واتباع البدع) .
نحن قد سبقناه إلى هذا في المنار إجمالاً وتفصيلاً؛ حتى إن عبارة الخطباء
التي قالها قد ذكرناها في مقالة افتتحنا بها العدد 19 من السنة الأولى أو تكلمنا فيها
على البدع. وقد كتب المؤلف - لهذا العاجز منشئ المنار - كتبًا كثيرة يثني فيها
على خدمتنا للإسلام، وكأنه ذهل عن ذلك عند كتابة ما ذكر، وسبحان المنزه عن
الذهول والنسيان.
***
(إظهار لفضل وإصداع بحق)
لبعض الأدباء التونسيين
لا يخفى على حضرة القراء أنه ظهر في عالم المطبوعات من عهد غير بعيد
جريدة المنار المصرية لمنشئها الفاضل السيد محمد رشيد رضا وهو أحد فضلاء
الشرقيين، ومن يوم بروز هاته الجريدة إلى عالم الوجود أخذت تنشر مقالات علمية
في مواضيع شتى، يكتب مضمونها بالنور على نحو الحور، ولقد تصفحنا ما صدر
منها عددًا عددًا؛ فوجدناها قد بينت الأسباب التي هدمت الهيكل الإسلامي وقوضت
مجده إلى أن أوصلته إلى حالة اليوم.
منها مقالة في الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية في تلافي
البدع والتعاليم الفاسدة التي انتشرت بين المسلمين انتشارًا أضر بجامعتهم.
ومنها مقالات في أعمال المنتسبين للأولياء والصوفية التي خالفت الشرع
ظاهرًا وباطنًا والاحتجاج عليهم بكتاب الله وسنة رسوله وأعمال السلف الصالح، إلى
غير ذلك من المقالات التي وقع لها دوي عظيم في الأصقاع الإسلامية، وحيث كانت
هاته الأفكار لا تخفى على مَن له اطلاع على ما جاءت به شريعتنا السمحاء وعلى
ما يعتقده غالب الإسلام من الخرافات الباطلة والأوهام الفاسدة - وجب علينا أن
نعضد هذا الفكر بكل ما في الوسع، ونعلن بفضل هاته الجريدة على رؤوس الملأ.
ولا فائدة لنا في بيان ما اشتملت عليه من الحقائق المسلّمة، وإنما نحثّ أبناء
العلم والوطن على اقتناء هاته الجريدة الغراء؛ فإنها المرشدة الوحيدة واللؤلؤة الفريدة
والناصحة الأمينة والدرة الثمينة، ونقدم إلى صاحبها خالص الشكر والثناء عما قام به
من النصيحة نحو المسلمين، والله لا يضيع أجر المحسنين.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... (الحاضرة)
(المنار)
إذا كان الإخلاص في النصيحة حسنًا فتوجيه النظر إلى سماعها يكون حسنًا
أيضًا، وإذا كانت خدمة الملة والأمة محمودة فلا شك أن المساعدة عليها محمودة،
وحيث كان الساعي بالخير كفاعله فصاحب هذه النبذة الحاضَّة على زيادة انتشار
المنار - هي مشاركة لنا في الخدمة به، فحمدًا له وشكري، ونسأل الله تعالى أن يكثر
في الأمة أمثاله من أهل الغيرة والفضل.
_________
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
استنهاض همم
رسالة مطولة لأحد فضلاء الكُتاب في سوريا
(1)
لم نر الحديث تسلسل في هذا الموضوع بين الكتاب مثلما رأيناه لهذا العهد، ولم
نعهد للأقلام جولة في هذا المضمار كجولتها في هذه الأزمنة المتأخرة شعور سماوي
قام في نفوس النبهاء من المسلمين وعقلائهم، وروح زكي هبط عليهم من عالم القدس
فبعث راقد هممهم. إذا تهامس أبناء طنجة بحديث في الإصلاح رنَّ صداه بين أبناء
سنغابور وحوّموا عليه، أو قدح هؤلاء زناد رأي في عمل لاح له وميض في جو
أولئك واشرأبُّوا إليه، وإن تموج الهواء من أقصى الجنوب لهمهمة مسلميها أصاخ له
إخوانهم في أقصى الشمال، وإن تناجَى اثنان هنا انتقلت نجواهما إلى هناك انتقال
الكهربائية بدون أسلاك، أهاب المتيقظ بالمهوّم [1] ، وصاح المنتبه بالغافل وتلتل
العامل المقصر واستحث السابق المتأخر، وهم - في حوارهم هذا - مجمعون على أن
الأمة في مرض يقرب من الحَرَض، وكادوا يصفقون على أن علاجه الناجع هو تعميم
التربية والتعليم. هل الأمة في عوز لتناول هذا العلاج، وهل يتسنى لها تناوله،
وإن أحجمت عن تناوله كيف يكون مصيرها وإلى أي بيئة تتحول بيئاتها؟
استدعى هذا السؤال جوابًا مسهبًا واستثار حديثًا طويلاً، وكنت في ملأ من أهل
اليسار والجاه والنعمة والرفاه؛ فأحببت أن أرفعه على صفحات (المنار) علّ فيه
موعظة وذكرى لأولي الأبصار.
قلت أولاً: إن الحكومات الإسلامية التي ما برحت تحافظ على استقلالها هي
أربع:العثمانية، والفارسية، والأفغانية، والمراكشية.أما بقية الجماعات الإسلامية
فهي إما إمارات مستضعفة تلوذ بالدول الإفرنجية أو تستظل بحمايتها. وإما قبائل
رُحَّل تضرب في صحارِ إفريقية ومجاهل آسيا، وهناك أقوام سقطوا في مهاوي
الاستعمار الأوربي وخنعوا لصولجان الحكم الأجنبي، ولا جرم أن النهضة في
إصلاح الخلل ورتق الفتق، إنما تُرجَى على أكملها في الحكومات الأربع المستقلة. إذا
لم تسعَ تلك الحكومات في التقرب من بعضها ولم تتدبر عاقبة أمرها فبشِّرْها
بسوء المنقلب وشؤم المآل.
كيف يؤمّل الإصلاح العام إذا لم يمشِ رجالات [2] من أهل المشرق إلى
رجالات من أهل المغرب، ويتحاوروا في إصلاح شؤونهم ويديروا الرأي في مواساة
عللهم وتضميد كلومهم؟ كيف تتحد القلوب وتلتئم الأهواء وعلماء تلك الحكومات
متخاذلون ومن الصراط السوي ناكبون، لا يعترف أحدهم للآخر بشأن ولا
يستصوب له رأيًا إلا إذا وافق هواه ولاءم ما قام في نفسه؟ إذا آنس أحدهم من
الآخر معارضة أو مخالفة بهره [3] بالزندقة والمروق، وزنه [4] بالكفر والإلحاد! -
كل ذلك ليلوي عنه أعناق السامعين ويصرف قلوب المعجبين، ويستأثر بالشهرة بين
العالمين. كيف يرجى الإشراف على الغاية التي تتوخى الوصايا إليها وأولو الأمر
في تلك الحكومات لا يهمهم سوى حفظ مراكزهم وصيانة جثمانهم؟ قصروا أيدي
نبهاء الأمة عن مشاركتهم في إدارة شؤونها ومشايعتهم في رأب صدوعها، وأخذوا
بأكظامهم [5] دون التفوه بكلمة تؤْذِن بإنعاشها وتعمل على إسعادها.
فعلوا ما فعلوا إرادة المحافظة على الإطلاق والاستئثار بالسلطة والانفراد
بالأمر، ليتهم يعلمون أن ذلك الإطلاق الذي توخوه هو عين التقييد والحجز، أليسوا
في هلع دائم وجبن خالع من حدوث ثورات تقضي على سلطتهم وتبزهم إطلاقهم
واستبدادهم؟ أليسوا في حذر وإشفاق من تألب الأمة عليهم وأخذها على أيديهم؟
أليس كل خطأ في سياسة البلاد أو خلل في إدارة مصالحها وأعمالها يُنسب في العادة
إلى عاهلها أو أميرها إذا كان مطلق التصرف ويُعزَى إلى أفن رأيه وسوء تدبيره؟
هذه شؤون المطلقين المستأثرين بالسلطة. اصرفوا أبصارَكم تلقاء أولئك الذين
زحزحوا عن عواتقهم عبء المسؤولية، وألقوا معظمه على رجال من أممهم، وقيدوا
أنفسهم بآراء المنتخبين والشرائع والقوانين - تروهم يتقلبون في شؤونهم وملء
عيونهم غمض، وحشو أجسامهم أمن، لا تسمع في بلادهم لاغية شكوى عليهم، ولا
تحس برِكْز أو حسيس [6] لثورة في خضد شوكتهم وثل عروشهم إذا ألمَّ بسياسة الأمم
ضعف أو فساد، أو حدث في مصالحها العامة تراخٍ أو خلل - كان المسؤول بتلك
التبعة والمطالب بسوء نتائجها هو الذي جناها واجترحتها يده، لا ينحى على الزعيم
الأكبر بلائمة ولا ينبس في النيل منه بكلمة. لا جرم أن المسمى بالإطلاق هو عين
التقييد، والمسمى بالتقييد هو عين الإطلاق.
أنى يُتاح للأمة إفاقة من هذا الخمار أو تفلت من أحابيل الجهل والضعف
والاستخذاء (المذلة) وروحها التي هي المال في قبضة أناس لا يهمهم سوى إنفاقه
في سبيل شهواتهم؟ ليت شعري بماذا يمتاز المسترسلون في ملاذهم المنغمسون في
شهواتهم عن البهائم المرسلة إذا لم يبذلوا جزءًا من دثرهم - مالهم الكثير - في إنقاذ
أمتهم من الجهالة، وتنوير عقول شبانها بالعلم والعرفان.
مهما تنعَّم المرء في ضروب الترف وتقلب في أنواع الرفه كان حظ البهيمة في
ذلك أكمل ولذاتها أتم، البهيمة تسعى في تلمس شهوة نفسها واستيفاء لذة حواسها،
فالخليق بالإنسان أن يباينها في ذلك ويسعى في تطلُّب شهوة عقله واستيفاء لذة
وجدانه وشعوره، شهوة العقل هي الارتياض بالكمالات والقيام بالواجبات. لا كمال
أرفع ولا واجب أقدس من خدمة المرء لأمته وسعيه في إصلاح قومه. لا عمل
يحفظه التاريخ ويشكره الله مثل عمل المرء في صيانة وطنه وإنقاذه من المخاطر
المحتفَّة به. ما ينتظر المتقاعدون عن العمل؟ ماذا يرجو المخلفون عن مشايعة
العاملين؟ ما الذي يثبط الهمم عن السعي؟ ما الذي يُضعف العزائم عن الجهر
بالحق والنصيحة؟ أينتظرون صيحة من العالم العلوي تثير الراكد وتوقظ الراقد؟!
أيرتقبون هُتافًا من عالم الأرواح يزعج الأنفس المطمئنة ويتلتل الهمم المستكنة؟!
أيصيخون إلى نبآت وهمسات من خلل برازخ الأموات تجمع البدد وتصلح ما
فسد وتعلم الجاهل وتنبه الغافل؟ !
جلت عظمة الله وتقدست حكمته، إن هي إلا نواميس كونية وسنن إلهية
وضعها تعالى من العالم موضع القطب من الرحى أو الروح من الجسد، فمَن رعاها
حق رعايتها، وتوخى السير عليها ظفر، ومن دابرها أو تنكّب جددها عثر تلك
النواميس والسنن لا تبديل فيها، ولا تخلف يعترض دون اطرادها إلا ما كان
في أزمنة النبوات أزمنة التحدي بالخوارق والمعجزات.
وبالجملة، إن ما تواتر على الأمة من القوارع وتتابع من وخزات الحوادث
كافٍ لإماطة غشاوة الغفلة عن أبصار آحادها وتفكيك هممهم من العقل والأغلال التي
كبلتها. وما رأيناه لهذه الآونة من تلك الروح العلوية الفائضة عن ألسنة عقلائنا
والطائفة على أسنان أقلامهم في خطبهم وكتاباتهم - جدير بإحياء ميت الآمال فينا
وإثارة رواكد الأماني في نفوسنا وحقيق بأن يبعثنا على اطِّراح اليأس والقنوط
والأخذ بأسباب الحيطة والحزم قبل تقلص الفرص وتجافي الأسباب وحدوث ما لم
يكن في الحسبان. فلنلُف اليأس بالكسل ونرمي بهما من حالق جبل. ولنضع أمام
أعيننا نور الأمل ثم لنُقبل على العلم والعمل، وعلى الله سبحانه العصمة من الزلل.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
أهاب به: زجره وصاح به، والمهوّم: مَن غلبه النُّعاس فجعل يهز رأسه.
(2)
رجالات: جمع رجال فهو جمع الجمع ولكنه لا يستعمل إلا في أشراف القوم وعظمائهم.
(3)
بهره: بهته ورماه بما هو براء منه.
(4)
زنه: اتهمه.
(5)
أخذ بأكظامه بمعنى: قبض على حلقه ومدارج أنفاسه.
(6)
الرِّكْز والحسيس معناهما: الصوت الخفي.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التعليم القضائي
بينا في نبذة سابقة أن مُثْلَى طرائق التعليم هي التعليم بالعمل، وذلك إجمال لو
فُصل ببيان كيفياته بالنسبة إلى كل علم وفن - لاحتاج إلى مجلدات كثيرة، ولكن
العالِم بفن من الفنون تكفيه الإشارة؛ لأنه مهما كان جاهلاً بطريقة التعليم وغير
عامل بعلمه فلا بد أن يكون عالمًا بكيفية العمل وما عليه في تحصيل المَلَكَة إلا أن
يزاول العمل مرة بعد أخرى، وكلما مضى فيه سهل عليه حتى يصير بغير تكلف.
وهو ما يعبر عنه بالملكة.
ونريد الآن أن نقول كلمة في التعليم القضائي بالعمل وهي: يعلم القراء أن
الحكومة المصرية تحاول في هذه الأيام إصلاح المحاكم الشرعية بناءً على ما جاء
في (تقرير المستشار القضائي) الإنكليزي من نسبة الخلل إليها، وتريد أن تبتدئ هذا
الإصلاح بتعيين قاضيين من قضاة محكمة الاستئناف الأهلية النظامية في المحكمة
الشرعية، يحضران الدعاوي المهمة. ويعلمون أن مجلس شورى القوانين رفض
هذا الاقتراح بناءً على فتوى شرعية صدرت من جانب سماحة قاضي القضاة
وفضيلة مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر، ملخصها: أنه ليس للحكومة المصرية
ولا لأمير البلاد الحق في نصب قاضٍ شرعي؛ لأن هذا خاص بالخليفة ونائبه الذي
هو في مصر قاضي القضاة، لا سمو الخديو، وأن القاضي الشرعي يجب أن
يحكم بالصحيح والراجح من المذهب النعماني، وأن يكون عالمًا بهما، وأن يكون قد
مارس المرافعات الشرعية والحكم فيها. وبناءً على اعتبار هذا الأمر الأخير في
القضاة - سواء أكان واجبًا وشرطًا كما يفهم مما مرّ أَمْ (لا) - نقول:
لا يجوز أن يراد بممارسة المرافعات ما يكون بالقضاء الحقيقي؛ لأنه يلزم منه
الدور، ولكن الممارسة تكون بأحد أمرين: أحدهما حضور المرافعات في
المحاكم وهو لا يتيسر لجميع المتعلمين الذين يترشحون للقضاء، ويلزم له زمن
طويل يصرف بعد طلب العلم في المحكمة. وثانيهما (التعليم القضائي) الوضعي
الذي نريده ونقترحه على فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ومجلس
إدارته؛ لأنه أسهل الطرق للتحقق بما جاء في الفتوى.
هذا النوع من التعليم يُختار له الكتب التي تذكر الأحكام في ضمن الوقائع
وأكثر كتب المتقدمين - لا سيما قبل المئة الخامسة - كذلك؛ لأنهم كانوا يتعلمون
الفقه للعمل، وأول عمل ضاع به الفقه كغيره من العلوم والفنون الإسلامية - تأليف
المتون الوجيزة المختصرة، والعمل الثاني للضياع: اختيار هذه المتون للتدريس
والاستعانة على ذلك بشرحها، والعمل الثالث - وهو الذي تم به الضياع - هو
وضع الحواشي ثم التقارير عليها والخروج بذلك كله عن كون العلم مبينًا للعمل
شارحًا للوقائع إلى البحث في الألفاظ والأساليب وخلط الفنون بعضها ببعض. ولم
يكن وضع المختصرات في أول الأمر لأجل التعليم والتعلم، وإنما كان الغرض منها
تذكرة المنتهي لا سيما في السفر الذي يعسر فيه حمل الأسفار الكبيرة سيما في تلك
الأزمنة.
ومما يوجب لأسلافنا الفخر ويُظهر أننا شر خلف لهم أن الباحثين في فن
التعليم اهتدوا بعد العناء الطويل إلى أن خير طرق التعليم وأقربها هو (التعليم
بالعمل) وبيان المسائل في ضمن الأمثلة والأحكام الشرعية في صور الواقعات، وهو
ما كان عليه سلفنا من قبل ألف سنة، وإنما يكمل هذا النوع من التعليم بتأليف هيئة
للمحاكمات الوضعية كهيئة المحكمة الحقيقية - رئيس وقضاة (أعضاء) ومدَّعٍ
ومدعَى عليه أو وكلاء (محامون) وبينات وتحقيق وحكم.
وينبغي أن تكون المرافعة علنية وأن يتناوب طلاب العلم القضاء فيها وأن
تكون العناية بالدعاوى التي يحكم فيها بالشرع في هذه الأيام أشد من العناية بغيرها.
يقول قائل: أي حاجة للعناية بالأحكام التي لا يعمل بها؛ لأن أمراء المسلمين
نسخوها بالقوانين الوضعية؟
والجواب: أن عدم التعليم القضائي جعل الشريعة السماوية الواسعة ضيقة لا
تفي بحاجة العصر، والأمراء والحكام يرون أنفسهم مضطرين إلى مجاراة العصر في
شؤونه العامة، ويجب أن تكون الأحكام مطابقة لحاجات الناس في كل عصر بحسبه
لا أن تقاوم الطبيعة، وتغير أساليب العمران؛ لتوافق ما يفهمه العلماء على تقصيرهم
من الكتب الشرعية القديمة؛ لأن هذا غير ممكن للناس. فإذا حسنت حال التعليم
ووجد في الأمة علماء يعرفون حال العصر ويستنبطون من قواعد الشريعة العامة
التي نفتخر بها بأنها تنطبق على أحوال كل زمان ومكان ما يوافق مصلحة الناس
بحسب زمنهم هذا؛ فلا شك أن الأمراء والحكام المسلمين يحكمون بها مهما وَهَى بناء دينهم وسحلت مرائر يقينهم، لعلمهم بأنها أقرب لصلاح الناس لخضوع السواد
الأعظم لها ظاهرًا وباطنًا، اللهم إلا إذا غلبوا على أمرهم بالسلطة الأجنبية. ولا
نقصد مما ذكرنا تبرئة الأمراء من تبعة ذنب الانحراف عن الشريعة وحصره
بالعلماء! !
كلا ثم كلا، وإنما غرضنا بيان السبب، وقد بلغنا أن إسماعيل باشا الخديوي
الأسبق طلب من علماء الأزهر أن يؤلفوا له كتابًا شرعيًّا في الحقوق والجنايات سهل
العبارة مرتبًا على ترتيب كتب القوانين وموافقًا لحال العصر (كمجلة الأحكام
الشرعية التي يُعمل بها في محاكم ولايات الدولة العلية) فأبوا عليه ذلك وسمعت أن
إحجامهم كان خوفًا من طعن العامة في دينهم إذا هم وضعوا الأحكام الشرعية في
أسلوب كتب القوانين. ومهما كان من السبب فالتبعة الكبرى فيه على العلماء
كما هو ظاهر.
يقول المعترض إن الحكومة المصرية مغلوبة على أمرها للأجانب فكيف نرجو
تحويل المحاكم الأهلية شرعية ونحن نرى الحكومة تحاول إلغاء المحاكم الشرعية
والاكتفاء بالمحاكم الأهلية؟ وإذا لم يكن لنا أمل في الحكم بالشرع فعَلامَ العناية وإِلامَ
احتمال العناء في تعلمه تعلمًا قضائيًّا أو غير قضائي؟ !
ونقول في الجواب:
أولاً - أن التعليم موجود في الأزهر بالفعل، ونحن إنما نطلب تحسينه، وقد
ورد في الحديث الشريف أن الله تعالى يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه وما
ذكر قد يمنع من أصل التعليم ولكنه لا يمكن أن يمنع من تحسينه مع وجوده.
ثانيًا - أن الأزهريين يشتغلون جميعًا فيما لا يتعلق به عمل في هذا العصر
كأحكام الرقيق بأنواعها بناءً على أن مرادهم حفظ هذه العلوم وإن لم تكن تستعمل؛
ولذلك تبرم شيوخهم من زيادة بعض الفنون في الأزهر، لئلا تشغلهم عنها. وتعلمها
بالكيفية التي نريدها أقرب لتحصيلها ولحفظها.
ثالثًا - أن الأمل لم ينقطع من العمل بها ولا ينقطع إلا إذا بقي تعلمها على
حاله أو رجع القهقرى كما هو الشأن في أمتنا منذ قرون.
فإذا نفضنا عن رؤوسنا غبار الخمول والكسل واجتهدنا في تحصيل العلوم على
الوجه الذي يؤدي إلى إتقان العمل فلا يمضي زمن قليل إلا ونكون أمة من الأمم،
لها قول يُسمع ورأي يُحترم، وعند ذلك نحكم بما نريد ونرغب؛ لأن قوة الشعب قوة
إلهية لا تُغلب، فمن عمل لهذا الرجاء فأولئك هم المفلحون.
{قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَاّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
تربية الأطفال
تكلمنا في العدد الماضي عن طور الرضاعة ووظائفه، ووعدنا بأن نتكلم عن
إطعام الأطفال وتقريمهم (تعليمهم الأكل)، فنقول: لا هادي إلى تربية الطفل
كالطبيعة والفطرة، فعلى المربي أن يسترشد بها؛ لأنها هداية إلهية ممنوحة للجميع.
قلنا في بحث الرضاع: ينبغي أن ترضع الطفلَ أمُّه، وإلا فمرضع يكون ولدها
الرضيع في سنه والحكمة في ذلك أن الله تعالى جعل اللبن في الأم موافقًا لسن ولدها،
ففي أول الأمر يكون سهل الهضم جدًّا وكلما تقدم في السن وقويت معدته على
الهضم تزيد المواد المغذية في اللبن.
أما الأكل فيرشد إليه من الطبيعة ظهور الأسنان فمتى أسنَّ الطفل (نبتت
أسنانه) وصار قادرًا على المضغ يُطعَم، ولكن يبتدأ في إطعامه بما كان سهل الهضم
كلبن الحيوانات والأرروط والنشا، ولا يكون هذا إلا بعد بلوغه بضعة أشهر حتى إذا
ما كملت مواضغه (أضراسه) يطعم من سائر أنواع الطعام، ويراعَى فيه سنة الفطرة
بالتدريج؛ لأن آلات الأكل تظهر فيها تدريجًا. وإطعام الأطفال الأطعمة النشوية
والسكرية في سن اللبان يولد فيهم الأمراض ويكثر فيهم الموتان. ويحسب الأمهات
الجاهلات أن معالجة الطعام وتلويقه (جعْله لينًا) ، بحيث لا يحتاج إلى مضغ يسهل
هضمه على الوليد ويغتررن بواحد من عشرات ومئات يطعم فيسمن، ولا يعتبرن
بالعشرات والمئات الذين يمرضون ويموتون؛ وذلك لأنهن لا يعرفن سبب مرضهم
وموتهم، وهو في الغالب من المآكل الغليظة العسرة الهضم، لا سيما مع عدم الوقاية
من البرد.
ولا بد من التوقيت والانتظام في تقريم الأطفال، فيطعمون أربع مرات في
اليوم - بعد القيام من النوم وعند الظهر وعند العصر وبعد المغرب - فطعام الصباح
والعصر: اللبن والبيض والخبز وشيء من الحلوى، وطعام الظهر: اللحم والبقول
والفاكهة، وطعام المساء: الشوربا والبقول ولو باللحم والرز، أما مقدار ما يأكله
الطفل فليس بمحدود، بل يُترك وشأنه، يأكل ما شاء، لا يلزم بالزيادة، ولا يمنع
من الاستزادة، إلا إن كان شرهًا يأكل فوق طاقته، وقلما يكون الشره إلا من سوء
التربية. ويمنع الأطفال الإكثار من الفاكهة والحلوى، ويمنعون من شرب الشاي
والقهوة فضلاً عن المسكرات والأشربة الروحية التي هي سموم قاتلة، لا يقل فتكها
بالكبار عن فتك سائر الأمراض الخبيثة.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
المتكلمة بالقرآن
قرأنا في كتاب روضة البلاغة للعلامة أبي الحسن البارزي ما نصه:
عن أحمد بن عبد الله الواسطي قال: خرجت إلى مكة فإذا بامرأة على الطريق
تتلو آية من كتاب الله تعالى وهي: بسم الله الرحمن الرحيم: (من يهدِ الله فلا
مضل له ومن يضلل فلا هادي له) [1] ، فلم أشك أنها ضالة، فقلت لها: يا أمة الله،
أحسبك ضالة، فقالت (بعد البسملة - وهكذا كان كل الأجوبة مصدّرًا بالبسملة
فحذفناها للاختصار) : {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (الأنبياء:
79) فقلت لها: يا أمة الله، أين تريدين؟ قالت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) فقلت: يا أمة الله، من أين؟
قالت: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي
بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1) فعلمت أنها من بيت المقدس، فقلت: يا أمة الله،
ما لك لا تكلمينا؟ فقالت: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18)
فقلت لصاحبي: أحسبها حَرورية. قالت: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء: 36)، فقلت: لا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنها لا تكلمنا إلا من كتاب الله، فقلت: يا أمة
الله، آخُذ بعيرك، فأقوده إلى مكة؟ قالت:{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 215) ، فأخذت بعيرها أقوده، فبينما نحن كذلك إذ أشرفت من طريق
الشام قافلة، قالت:{وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل: 16) قلت: يا
أمة الله ما تريدين؟ قالت: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَه} (يوسف: 19) الآية، فقلت: في القافلة قرابة لها. قال: فلما أقبلت القافلة قلت:
يا أمة الله، بمَن أصيح ومَن لك في القافلة؟ قالت: {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ
وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِياًّ} (مريم: 12){يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} (مريم: 7){يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْض} (ص: 26) فصحت:
يا يحيى، يا زكريا، يا داود. فأجابني ثلاثة نفر، فقالوا: ما تريد؟ قلت:
معي عجوز لا تكلمنا إلا من كتاب الله تعالى. فقالوا: إنها أمنا، قد ضلت منذ ثلاثة
أيام قال: فلما أبصرتْهم تبسمت، وقالت: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى
المَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} (الكهف: 19)، قال: فعلمت أنها تريد أن تزودني وتبرني، فقلت: لا حاجة لي
في زادكم وفي بركم، أخبرونا عن هذه العجوز ما لها لا تتكلم إلا من كتاب الله
تعالى؟ ! قالوا: إنها - منذ أربعين سنة - ما تكلمت إلا من كتاب الله مخافة
الكذب. اهـ
(المنار)
إن المحافظة على الصدق من أفضل الفضائل على الإطلاق، وقد يبلغ الغلو
بالشيء والتعمق فيه إلى ما يُستغرب وقوعه كما ينقل عن الأسخياء والشجعان. ومن
ذلك خبر هذه المرأة، ويلوح للذهن أن الحكاية مخترعة، لا لأن استحضار الآيات
التي تشير إلى المقاصد عسير؛ بل لأن الصبر عن الكلام هذه السنين الطوال محل
غرابة، ولكن الأصل في الكلام - لا سيما كلام أهل العلم - أن يكون صادقًا، ولله
في خلقه شؤون.
هذا، وقد نص بعض الفقهاء على أن استعمال القرآن للتخاطُب في الأمور
العادية محظور.
_________
(1)
كذا في الأصل، ولا توجد آية بهذه الألفاظ، بل هي كلمات من خطبة الحاجة أو النكاح للرسول صلى الله عليه وسلم مع إضافة الهاء لنهاية (يهد)، وهناك آيات قريبة من ذلك:[وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ](الإسراء: 97)، [مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِياًّ مُّرْشِداً] (الكهف: 17) ، [وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ] (الزمر:37) .
الكاتب: محمد رشيد رضا
مقتطفات
(اليابان)
يؤخذ من تقرير وزير المعارف في اليابان عام 1894 أن عدد سكان اليابان
بلغ- إذ ذاك -: 42426921 نفسًا وعدد الطلبة: 7320191 ولم تكن تجد ثلثهم
عام 1873 وبلغ عدد المدارس: 23874 مدرسة وعدد المعلمين والمعلمات:
69845.
وبلغ عدد سكان اليابان في الإحصاء الصادر في السنة الجديدة: 43 مليونًا
و229 ألفًا من النفوس، نصفهم ذكور ونصفهم إناث على وجه التقريب، وقدرت
ميزانيتها للسنة الجارية: 189 مليون (ين) للواردات و113 مليونًا للنفقات؛
فتكون الزيادة في النفقات: 30 مليون (ين) والين - من الفضة - يساوي فرنكين
ونصفًا وهو يقابل (الكروان) الإنكليزي قيمة.
***
أهدانا الفاضل الأديب الشيخ محمد بشير ظافر المدني الأزهري قصيدة من
نظمه في التنفير عن المدارس الأجنبية؛ لأنها أُسست على دعائم الدعوة إلى
النصرانية والاستمالة إليها ونقش تعاليمها في ألواح نفوس الولدان، حتى كان الذي
يرسل ولده إليها لا يبالي أخرج مسلمًا أم غير مسلم! ، فنحثّ معه سائر الشعراء
على النظم في مثل هذا من المواضيع الاجتماعية، والخروج بالشعر من مضيق
الأماديح والأهاجي الشخصية.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(مراكش)
لمكاتبنا الفاضل في تونس
لم تزل الأخبار تتوارد علينا يومًا فيومًا بسوء حالة هاته المملكة الإسلامية
وتعاسة سكانها إلى درجة يخشى معها سوء العاقبة وفساد المنقلب. ولا تزال رجالها
في غفلة عما هم عيه من موجبات السقوط والاضمحلال فداخليتها على غاية من
الاحتلال والفوضى قد ضربت أطنابها بسائر أنحائها، فالقبائل بعضها لبعض عدو،
والدولة عدوة للجميع، والدول الأورباوية قد اشتدت وطأتها عليها بنزف أموالها ولولا
التحاسد لفقدت استقلالها من قديم فدولة الأسبان تود الاستيلاء عليها منذ عهد بعيد
وترى أنها أحق الدول بذلك؛ لقدم المجاورة التي بينهما وكل من فرنسا وإنكلترا
وألمانيا يزاحمها ويسعى في احتلال جزء منها، ولهذا السبب عاشت دولة
المغرب العليلة ولم يفارق جسمها المنهوك الروح.
كان على عهد السلطان مولاي الحسن نهضة تحريرية في جرائد الإسلام
حذرته وأنذرته سوء العاقبة وأطلعته على ما يجب عليه سلوكه لحفظ مملكته من
السقوط والتلاشي، ولم ينجح شيء. وبقي متماديًا في شأنه يقاتل رعاياه ويبتز أموالهم
التي حرم الله، وازداد نفوذ الأجنبي في أيامه زيادة لها بال، إلى أن وقعت حادثة
مليلة الشهيرة التي دفعت حكومة المغرب لأجلها عشرين مليونًا من الفرنكات
لحكومة الأسبان إرضاء لها عن تعدي قبائل الريف على حدودها وعلى رعاياها.
وهكذا كان يدفع الأموال الطائلة بغير انقطاع، وكانت أيامه كلها منقسمة إلى عملين
عظيمين: وهما سفك دماء الرعايا لأخذ أموالهم، ودفعها للأجانب على وجه
الترضية. ولم يصدر عنه أدنى عمل لإصلاح المملكة.
ولما تولى السلطان عبد العزيز عليها أملت الناس أن يجري فيها بعض
الإصلاحات لحداثة سنة المقارنة لنور التمدن الحالي الذي وقع له طنين لسمع الصم
ونطق به البكم فضلاً عن السامعين المبصرين، فذهب ذلك الأمل أدراج الرياح، وسار في إدارة المملكة سير أبيه وجده الخالي عن كل تنظيم وخروج عن المعتاد.
ومن تأمل في أحوال هاته الدولة وفيما هي عليه من سوء التدبير يدخله
الذهول والحيرة والاستغراب، فإن الإصلاح ولاسيما الابتدائي ضروري لكل ذي
عقل سليم وفكر مستقيم، ويحكم بعدم لياقة هاته العائلة الحاكمة وعدم صلوحيتها لأقل
الأعمال (وهنا ذكر الكاتب جملة غالى بها في ذم كل أفراد الأسر الإسلامية
المالكة لا سيما دولة المغرب اضربنا عن ذكرها صفحًا) .
هذا، ولقد كتبنا هذه الأسطر القليلة تمهيدًا لما سنكتبه بعد في هاته المملكة
الحاضرة وفيما يجب عليها اتباعه في الاستقبال لاستقامة أحوال المسلمين طبق
الشريعة المطهرة، وكتاب الله وسنة رسوله بين أيدينا وسيرة السلف الصالح بين
أظهرنا. وحيث كانت جريدتنا المنار موقوفة على خدمة المسلمين وموسمة بذلك
نطلب من محررها الفاضل ومن براعة قلمه ومن عموم جرائد الإسلام أن يعضدونا
في هذا العمل ويفوقوا سهام اللوم والتنديد نحو هاته المملكة أو تستقيم، والله بالسرائر
عليم.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... (ش. د)
(المنار)
كلنا على علم إجمالي بحال هذه المملكة وبعدها عن الإصلاح، وكتبنا في ذلك
نبذًا متفرقة، وما كنا نظن أن ملوكها بهذه الدرجة التي ذكرها بل لا نزال نظن أن في
وصفه لهم مبالغة في الذم ونرجو أن يبين في مقالاته الآتية عنها الحقائق من غير
مذمة شعرية.
في ليلة الثلاثاء الماضية اخترمت المنية رجلًا من خيرة رجال العلم والفضل
وحملة الأقلام وهو السيد وفا أفندي زغلول أمين الكتبخانة الخديوية. مات رحمه الله
تعالى عن خمسين عامًا قضاها في خدمة العلوم والآداب، وقد ترك آثارًا علمية نافعة
منها كتاب الرد المبين، وكتاب البرهان الساطع على وجود الصانع. وكتاب التحفة
الوفائية في اللغة العامية، ورسالة في الرد على ابن خلدون. وكان محرر جريدة
الكوكب المصري التي كانت تصدر قبل الثورة العرابية، وكتب مدة في الوقائع
الرسمية، وله في الجريدتين مقالات تؤذن بفضله، أما وفاؤه ومحاسن أخلاقه فقد رأينا
وروينا عنها ما يدل على طيب أعراقه وكمال تهذبه، فنسأل الله تعالى أن يحسن عزاء
شقيقه المفضال السيد نصر الدين أفندي المحامي الشهير وسائر آله الكرام.
***
(تطبق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية)
كتب إلينا صديقنا الفاضل مؤلف كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على
نواميس المدنية) يعترف بأن انتقادنا عليه بهضمه حق المنار في محله، ويعتذر واعدًا
بتوفيته حقه في طبعة ثانية قال: (فأثر لدي خطئي في بخس حق المنار كثيرًا وهو
في الحقيقة خطأ يخجل منه كل مؤلف لأنه جرم ضد التاريخ، ولكن لي من كرم
أخلاقكم أكبر شفيع على إسدال سترة المعذرة على هذه الهفوة وسأجعل أول واجب
علي عند الشروع في الطبعة الثانية إصلاح تلك الغلطة البينة.. إلخ) .
وهذا كما ترى دليل على فضل الرجل وأنه ما قال في الكتاب بأنه لم يسمع
بأن عاقلاً قام يبحث عن أسباب اضمحلال الأمة الإسلامية إلا ذهولاً عن المنار كما
هو ظننا الحسن به.
***
أقبل الحر على مصر وأقبل معه وفود حزب الأحرار من الأستانة العلية، ولا
يقدمون في مثل هذه الأيام إلا لأمر ذي بال، وممن حضر من زمن قريب الفاضلان
محمد توفيق أفندي مدير المكتب الإعدادي سابقًا في بلدتنا طرابلس الشام، وعلي
مظهر بك، فعسى أن تتلا في الحضرة السلطانية أيدها الله تعالى هذه الحركة التي
كادت تكون عامة بالتي هي أحسن.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الاعتماد على النفس
] وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [
{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس: 17) يجني على نفسه ويلحق بها
البلاء بسعيه، ويهمل أسباب سعادته، ويتنكب طرق رفاهته ثم يتجرم على الناس أو
يتذقح ويتجنى على الطبيعة زاعمًا أنه ما مني بالنوائب ومنع من الرغائب إلا من
نكد الزمان وتقصير الإخوان، فإن ضاقت به سبل الأعذار أنحى باللوم على
المقدار، وقال: ما تنفع حيلة البشر إذا كان خصيمهم القضاء والقدر!
وغدَا يعتب القضاء ولا عذ
…
ر لعاصٍ فيما يسوق القضاء
كل ملي يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق بإرادته واختياره على حسب ما سبق
في علمه، وممن خلق نوع الإنسان الذي يعمل بإرادة واختيار ينشآن عن العلم بوجوه
المصالح والمنافع والمفاسد والمضار، وهذا العلم منه ما يكون له بالضرورة، ومنه ما
يكتسبه اكتسابًا من طرق واضحة تؤدي إلى غاياتها إذا لم ينحرف السالك عن جادتها
فهل الاعتقاد بعلم الله وإرادته يكون عذرًا للإنسان إذا زاغ عن الصراط المستقيم
فوقع في الرجز الأليم؟ ! وهل إذا فرض أن العالم وُجد بالاتفاق من غير خالق أو
أن خالقه - تعالى وتقدس - جاهل أو مكره (سبحانه سبحانه) يزول عذر الإنسان؟
كلا، إن هذا هذيان لا يقول به عاقل.
ولكن ما بال المسلمين يحتجون بالقضاء والقدر حتى صاروا سخرية عند
سائر البشر. واعتقدت الأمم المتمدنة أن هذا الاعتقاد سد بينهم وبين الارتقاء. وإن
ساد به من قبل آباؤهم القدماء. بل وإن كانوا يعتقدون معهم أن الله لم يخلق شيئًا إلا
بإرادته. وأن جميع ما وجد في الكون موافق لما سبق في علمه أو مشيئته. ولا يخرج
معنى القضاء والقدر عند أئمة المسلمين عن هذا الذي قلناه، ولم يقل أحد
منهم بأنه يجوز الاحتجاج بالقضاء والقدر على تقصير الإنسان في علمه وإخفاقه في سعيه، بل صرحوا بالمنع منه تصريحًا؛ لأن فيه مع إساءة الأدب بنسبة
القبيح إلى الله تعالى - مخالفة هدي الكتاب والسنة ونصوص الأئمة؛ فقد ساق القرآن احتجاج الكفار بالمشيئة مساق التوبيخ والتقريع حيث قال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنْ
أَنتُمْ إِلَاّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148) وقد فسر البيضاوي وغيره (الخرص)
هنا بالكذب ولو لم يكن في المسألة غير هذه الآية لكانت كافية في الزجر والردع
عن الاحتجاج بالقدر، كيف وهناك آيات كثيرة منها ما هو صريح في المعنى كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ
يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (يس: 47) ومنها ما هو غير
صريح. والأحاديث وآثار الصحابة وأكابر السلف من الأئمة المجتهدين وغيرهم في
الأمر بالإمساك عن الكلام في القدر والنهي عن الخوض فيه - لا تكاد تُحصى.
الإسلام دين الفطرة (أي: الطبيعة والخليقة) فليس فيه شيء يخالف الواقع
الذي ثبت وجودًا أو ينابذ العقل الصحيح؛ أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة
فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء (كاملة
البدن) هل تحسون فيها من جدعاء؟ !) ثم يقول: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: 30) . والفطرة تدلنا بالوجدان
الذي هو أقوى البراهين أننا نعمل باختيارنا، والاختبار والاستقراء الصحيحان يثبتان
لنا أن سعادة الإنسان في أفراده ومجموعه نتيجة أعماله، وأن شقاءه من آثار كسبه
وأنه متى استوفى الأسباب الطبيعية لأمر من الأمور- بلغه وأدركه، وأنه لا يخيب
أمله ويخفق سعيه إلا لأسباب أخرى تحول بين المبدأ والغاية، وأنه قلما تتعاصى هذه
الأسباب الحائلة عن قدرة الإنسان.
وجاء الإسلام موافقًا للفطرة فصرح كتابه الحكيم بقوله: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن
مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} (الشورى: 30) وبقوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (النجم: 39-40) وبقوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (النساء: 123) الآية. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة
وأكثرها عام لأعمال الدنيا وأعمال الآخرة.
وأما قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن
نَّفْسِكَ} (النساء: 79) وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78)
فلا ينافيان ما تقدم؛ لأن الثاني بيان لأن الله تعالى خالق كل شيء، وقد جاء ردًّا على
الذين {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ
عِندِك} (النساء: 78) وهم اليهود، وكانوا يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه
وسلم، ومعنى:{مِنْ عِندِك} (النساء: 78) بشؤمك علينا، فنفى القرآن
اعتقاد الشؤم، وأثبت أن الأشياء إذا أضيفت إلى غير أسبابها الظاهرة فلا تضاف إلا
إلى خالق الأكوان الذي يرجع إليه الأمر كله، وأما الأولى فمعناها أن جميع ما خلقه
الله تعالى للإنسان من الحسنات والنعم فهو فضل منه وإحسان لا في مقابلة عبادتهم
له؛ لأن العبادة لا تنفعه وعدمها لا يضره، ومهما بلغ العبد من العبادة فلا يكافئ
نعمة الوجود فكيف يقتضي غيره؟ وأن جميع ما يصيبه من السيئات فهو من
نفسه؛ لأن الله تعالى بيّن له أسبابها بما هداه إليه من سنن الكون وأحكام الشرع التي تؤدب النفس وتقف بها عند حدود الاعتدال في الأعمال والمعاملات كلها، فمن
استرشد بسنن الكون ووقف عند حدود الشرع لا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن
ذكر الله المبين لها فإن له معيشة ضنكًا في هذه الحياة الدنيا ولَعذابُ الآخرة أشد
وأبقى. فهذه الآية كالتي صدرنا بها المقالة في بيان أن شقاء الإنسان إنما هو من نفسه
بسوء أعماله وقبيح كسبه، وإعراضه عن هداية الله تعالى في الاعتبار بكتابه
وبخليقته. وأما الآية: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78) فهي مبينة
للاعتقاد بالله تعالى لا للأسباب والمسببات، والكل حق لا يرتاب فيه عاقل وإن لم
يكن مسلمًا.
إذا علمنا هذا، فعلينا أن نرجع على أنفسنا بالتعنيف، وننحّي عليها بالعذل
والتوبيخ. ونطالبها بجميع ما نزل بنا من البلاء. وحل في أمتنا من الأرزاء، لا
أن نعتب الأقدار. ونحيل على الأغيار؛ فإن الله تعالى ما ظلمنا ولكن ظلمنا أنفسنا،
أليس قد هدانا النجدين وبيَّن لنا السبيلين، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة لعلنا
نشكره باستعمالها فيما خُلقت له. ألم يخبرنا بل لهذا الكون سننًا لا تتبدل ولا تتحول
فَلِمَ نُعرض عن مراعاتها؟ ! ألم نقرأ في كتابه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) فعلامَ لا نعتمد على أنفسنا
ونتكل - بعد الثقة بالله - على أعمالنا؟ ألم يأمرنا بالسير في الأرض والاعتبار
بأحوال الأمم وها نحن أولاء نشاهد الأمم النشيطة في الكسب العظيمة الهمة
المعتمدة أفرادها على أنفسهم مع مراعاة نواميس الخليقة قد سادوا على العالم
واستخدموا الأمم واستأثروا بالسلطان، وأصبح أضعف أفرادهم أكبر همة وأعز نفسًا
من أعظم الأمراء والملوك. أنكتفي في مصائبنا الشخصية بمعاداة إخواننا والعدوان
على أبناء أوطاننا وفي مصائبنا القومية ينبز الذين سلبوا استقلالنا بالألقاب ونسبتهم
للظلم والغشمرة؟ ونحن نعلم أن من سنن الكون استيلاء القوي على الضعيف
وامتصاص الغني ثروة الفقير. والاعتراض على نواميس الخلق اعتراض على
الحكيم العادل. وانتظار خرقها أو تغييرها لا يصدر إلا من أخرق أو جاهل.
سبحان الله، كلنا يحب أن يكون غنيًّا غير فقير، وعزيزًا غير ذليل وسعيدًا
غير شقي. كل مصري يتألم من احتلال الأجانب لبلاده واستيلائهم على ينابيع
الثروة والسيادة فيها حكامًا وتجارًا، حتى من يقول: إن الاحتلال نفع ولا يزال نافعًا
من بعض الوجوه. كل شرقي يتململ من استعمار الغربيين لجزء كبير من الشرق
وطموحهم لاستعمار باقيه، فإذا كان غير المسلمين من الشرقيين يعذر لتقاليده الدينية
بالجهل وعداوة العقل والتشاؤم من علم الاجتماع البشري ومن الفنون الطبيعية التي
تبين له طرق السيادة والسعادة، فهل يصح للمسلمين ذلك والقرآن بين أيديهم
يحذرهم وينذرهم ويستصرخ عقولهم ويستنجد هممهم ويرشدهم إلى سنن الخليقة
ويبين لهم الطريقة ويلحق بهم عار التقصير ويقول لهم: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ
فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى: 30) .
_________
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
استنهاض همم
(2)
أما زعماء هذه النهضة والعاملون عليها والقائمون على مجاري الإصلاح فيها
فهم ثلاثة: حاكم، وعالم، وذو فضلة من مال.
أي امرئ مسلم يمكنه أن يقتصد شيئًا من نفقاته ويستبقي فضله من ماله فيعده
لخير المسلمين وفائدتهم ودفع الضر عنهم وتعليم نشئهم وأحداثهم ولم يفعل - كان
آثمًا إن لم يكن إثمًا شرعيًّا كان إثمًا عقليًّا سياسيًّا.
كل عالم في طاقته وعظ العامة وإرشادهم لما فيه خيرهم وتعليمهم ما يجب
عليهم وحثهم على الألفة وحسن المعاشرة والتخلق بالأخلاق الفاضلة والسعي وراء
الكسب وترك البطالة أو تأليف الكتب وإيداعها مسائل العلم الحق الذي ينور الأذهان
ويرشد إلى العمل ويبث روح النشاط في الأفراد أو إنشاء صحيفة سيارة يكتب فيها
ما فيه فائدة للأمة؛ كحثها على بذل المال في سبيل نجاحها وإشراع مناهج
الإصلاح، لها وإرشادها إلى ما به قوام وحدتها وحفظ جنسيتها وتحذيرها من مقاصد
الطامعين فيها وتنبيهها إلى الواجب لها وعليها، كل ذلك في طاقته ولم يفعل - كان
مجرمًا بغيضًا ممقوتًا إن لم يكن من جانب الشرع [1] فمن قِبَل العقل والطبع.
كل حاكم يلي عملاً من أمور المسلمين فيسلبهم الأمن ويأخذ عليهم الطريق في
أعمالهم المفيدة ويخزل (يعوق) العاملين منهم عن النهوض لما توخوه من الإصلاح،
ويوصد دون مشروعاتهم النافعة أبواب النجاح، ويتقاعد عن حماية حوزتهم،
ويتغاضى عن مصالحهم العامة أو يكون كنافذة يطل منها الأجنبي على أسرارهم
ومطويات شؤونهم - كان مذؤومًا (مذمومًا) مدحورًا على لسان العقل والشرع
والناس أجمعين.
أي فرد من أفراد الأمة دُعي إلى عمل فتقاعس عنه وهو مقدور له أو اعترض
في سبيل العاملين أو ثبط الهمم عن مشايعتهم ومظاهرتهم، أو طفق يقع في أعراضهم
وتناول منهم لؤمًا وخبثًا - كان مرذولاً مذمَّمًا عند الله والناس وفي الملأ الأعلى إلى
يوم الدين.
هذا ما يحسن بالأمة أن تتجه إليه أفكارها وتلهج به ألسنتها وتخفق لأجله أقدام
رجالها:
العلماء يصلحون كتب العلم وينقحون كتب التعليم، ويضعون في كل فن كتبًا
سهلة المأخذ فصيحة العبارة، ويعقدون اللجان للمذاكرة في إنجاز ذلك، ويلقنون العامة
والدهْماء عقائد الدين وتعاليمه الحقة ويطهرون نفوسهم من لوث الرذائل والخرافات
والأوهام.
والحكام من وراء العلماء يؤيدون أعمالهم ويعضدون أفكارهم ويحملون الكافة
على تلقي ما وضعوه وتقبل ما دونوه.
المتمولون يؤسسون الشركات المالية ويؤلفون الجمعيات الخيرية بغية نشر
الصنائع وأشغالها وتأييد الزراعة وأعمالها وافتتاح المكاتب الابتدائية والإعدادية
لتهذيب الأحداث وتثقيف عقولهم وتخريجهم على حب دينهم ووطنهم والذب عن
حوض جامعتهم. وليكن نشر العلم بين كافة الطلاب على وتيرة واحدة وطريقة فاذة
(واحدة) والحكام من وراء أصحاب الأموال تحافظ على حقوقهم وتحمي مصالحهم
وتمنحهم امتيازات تعضد مصنوعاتهم وتروج محصولات [2] مزروعاتهم وتخفف
عليهم الضرائب والمكوس والوضائع [3] بحيث يسهل عليهم العمل والقيام
بالمشروعات المفيدة للوطن والأمة.
هذا هو الدواء لمرض الأمة والعلاج الناجع بمعونة الله في شفائها وإبلالها، وما
عليها إلا أن تُقدِم على تناوله بهمم عالية وتتقحم مخاطره بعزائم صادقة، وعلى الله
قصد السبيل.
عظمة الأعمال وجلالة المشروعات يعوزها تخوّض [4] مشاق تَعذُب لديها
سكرات المنون، وتشرف بالقائم بها على مهاوي من الأخطار ينعكس من أعماقها
صدى أنين أرواح الشهداء من أنصار الحق ممزوجًا بخرير دمائهم وخشخشة
عظامهم. ما أجدر القائمين بتلك الأعمال المتعرضين لهاته العظائم والأهوال بأن
يكونوا ذوي سجايا جليلة ومزايا سماوية ومواهب قدسية ونفوس كبيرة، تقوى
وتقاوم وتصبر وتصادم وتستقبل الموت الزؤام بفرح وابتسام!
ما ظنكم يا قوم؟ ! أليس في الأمم الإسلامية رجال من هذا القبيل في الفتوة
والإقدام وعلى هذا النمط في الغيرة والشهامة؟ ألا يوجد فتيان من سلالة أولئك
الغطارفة الأمجاد يبذلون مهجهم في خدمة بلادهم وإنقاذ أمتهم؟ ألا يوجد بيننا من
يشري ثناء الدهر وعز الأبد ببذل فضلات أمواله - وهي حطام نافد وعرض زائل-
في افتتاح المدارس وإنشاء أندية العلم لتدريب أبناء أمته وأطفال قومه وترشيح
أنسالهم وأعقابهم في أنواع العلوم وضروب العرفان علّهم يقوون بذلك على مساورة
الأمم الطامحة ويدفعون عنهم غارات الشعوب الطامعة؟ ألا يوجد في سلائل أولئك
الأبطال العظام ذو نجدة يغلي في عروقه دم النخوة والحمية فيلوي عن زهرة الدنيا
وزبرجها (زينتها) يواصل العمل ويدأب في السعي وراء جمع شتات المسلمين
وإزاحة عللهم وتوحيد المتعدد من آرائهم وضم المتفرق من أهوائهم؟ ألا يوجد بقية
من سلالة أبطال بدر واليرموك ومغاوير القادسية ونهاوند تجيش نفوسهم وتضطرب
أرواحهم؛ حذرًا وإشفاقًا مِن فَقْدِ تراثِ أجدادهم، وثمن دماء آبائهم؛ حذراً وإشفاقاً من
أن ترى المعاهد الشريفة والمشاهد المكرمة والحضرات المباركة موطئاً لنعال
الأجنبي أو تكون في كلاءته وتحت حمايته. ألا يستحي مستحٍ ممن استودعنا كتابه المنزل واستحفظنا شريعته المطهرة واستوثق منا في العمل بهما والقيام
بالدعوة إليهما أن يرانا مفرطين في العمل عاكفين على الشقاق متفقين على
عدم الوفاق؟ أهذا ما أوصانا به نبينا من الاستمساك بأسباب الوحدة وتوثيق وشائج [5]
الأخوة بيننا؟ أهذا ما عهد إلينا به أن نكون كالبنيان المرصوص يشد بعضنا
بعضاً أو كالجسد إذا تداعى منه عضو تداعى له سائر الجسد؟ أهذا ما أمرنا به من
إعداد وسائل القوة وتوفير ذرائع المنعة للدفاع عن حمى الإسلام والذود عن حقيقة
الدين والذب من وراء حوزة الأمة؟ أيطيب لنا عيش ونحن نرى نسور المطامع
الأجنبية تحوّم حول جزيرة العرب وتحلق في أجوائها؟ أينعم لنا بال ونحن نسمع
أن الأجنبي يحلم باستعمار تلك الجزيرة المقدسة ومد رواق سلطته فوق الحرمين
الشريفين؟ !
ألا نفوس أبِيَّات لها همم
…
أما على الخير أنصار وأعوان
الله الله يا قوم في مستقبلكم، احموا حقائقكم، اجمعوا أمركم، كونوا في ذات
الله إخواناً وأصلحوا إن الله يحب المصلحين.
الإصلاح المطلوب هو اتحاد الشعوب الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها،
بحيث تبقى كل حكومة منها مطلقة اليد في إدارة شؤونها الداخلية مرتبطة مع باقي
أخواتها بالمصلحة العامة والوجهة السياسية الخارجية ومداره دفع غارات الناهبين
وقطع أطماع الطامعين. ولا يتم هذا إلا باتفاق الحكومات الأربع وارتباط كل منها
بالأخرى ارتباطًا دينيًّا سياسيًّا، وأن تتفق تلك الحكومات الأربع على توحيد التعاليم
الدينية فتنتشر بين كافة المسلمين عقائد دينية سمحة وتعاليم أدبية بسيطة، وتحمل
أولئك الشعوب على تقبلها وممارسة العمل بها.
إذا نجح ذلك المشروع وصدقت تلك الأمنية يوشك أن لا يأتي على الشعوب
الإسلامية حين الدهر حتى ينقلب خوفها أمناً وبؤسها رخاءً وشغفها عزةً وقوةً وتصل
بمشيئة الله من رفعة الشأن ونفوذ السلطان إلى مكانة عليا لا تسموها مكانة الاتحاد
الألماني ولا الاتفاق الأمريكي.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: نقول: هو ممقوت في نظر الشرع ألبتة؛ فإن الله تعالى أخذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه وفي الأحاديث وعيد شديد على كتمان العلم.
(2)
لفظ (محصول) يستعمله الكُتاب اليوم بمعنى غلة الأرض وليس عربيًّا فيما أعلم.
(3)
الوضائع - جمع وضيعة: ما يأخذه السلطان من الخراج والعشور.
(4)
تخوّض الرجل: تكلف الخوض، لازم واستعمله الكاتب هنا متعديًا.
(5)
الوشيجة: ليف يُشد بين خشبتين ينقل عليهما المحصود، فاستعير لما يجمع بين الناس من قرابة ونحوها (ج) وشائج.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تقاريظ
(الدين القويم)
كتاب ألّفه حديثًا الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد زناتي ناظر (مدرسة العزبة
المتمدنة) من مدارس سمو مولانا الخديوي الخصوصية بإرشاد سعادة أحمد شفيق بك
رئيس قلم التحريرات الفرنساوية الخديوية، وجعل الكتاب برسم تلك المدارس.
وهو بأسلوب جديد نافع حاوٍ - على اختصاره - أهم ما يحتاج إليه المبتدئ من
الاعتقادات والعبادات والأخلاق والآداب الدينية، وفيه بعض أحكام المعاملات
أيضًا، وقد جرى في الأحكام على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
ولقد كنا نشكو من كتبنا الدينية أننا لا نكاد نجد فيها كتابًا مختصرًا سهل العبارة
خاليًا من اصطلاحات الفنون العربية والحشو، حاويًا أهم ما تمس إليه حاجة
الناس، ليقرأ للعوام والأطفال، وهذا الكتاب من هذا النوع إلا أنه أهمل بعض
الأبواب المهمة كالأيمان والنذور والصيد والذبائح والأضحية ونحو هذا مما هو أهم من الإجارة والحوالة والرهن.
***
(متانت)
وصل إلينا بعض الأعداد الأولى من هذه الجريدة التي تصدر في (قنديا -
كريت) وهي جريدة تركية أسبوعية سياسية أدبية لمديرها الفاضل قدسي زاده نوري
أفندي وهي عثمانية اللهجة، فنرجو لها الثبات والنجاح.
***
(المدارس)
جريدة علمية تهذيبية مصورة يحررها جماعة من الكتاب المصريين، وهي
تصدر مرة في الشهر، وقيمة الاشتراك فيها خمسة غروش في السنة، ولعل رخص
ثمنها يكون سببًا في سرعة انتشارها وإن كانت أربع صفحات صغيرة، لا سيما وهي
مزينة بالرسوم وورقها جيد ولا ينال أصحابها منها كسبًا ما لم يعد المشتركون فيها
بالألوف فنحث التلامذة على تعضيدها.
***
(تاريخ إنكلترا)
صدر الجزء الأول من هذا التاريخ لمؤلفه الكاتب الفاضل جرجي أفندي زيدان
منشي الهلال الزاهر، وفيه تاريخ هذه الدولة من أول عهدها إلى انقضاء الدولة
اليوركية، وكان نشر فصولاً متتابعة في مجلد السنة الثانية من الهلال. ودقة مؤلفه
وذوقه وإنصافه في التاريخ يغني عن الإطناب في تقريظ الكتاب، وهو يُطلب من
مكتبة الهلال في مصر، وثمنه 4 غروش وأجرة البريد غرش واحد.
***
(جريدة الصبح)
لقد كنا قرظنا هذه الجريدة الغراء بعد ورود عددها الأول إلينا، وضاق يومئذ
عدد المنار عن نشر التقريظ، والجريدة سياسية أدبية تجارية أسبوعية، أصحابها من
أدباء وطننا السوري وهم: خليل أفندي ملوك، وشكري أفندي الخوري، ومحررها
الأول الكاتب الأديب خليل أفندي شاول، وقد قرأنا في العدد السادس منها مقالة
مفيدة في (السوري وتباين أخلاقه) بحث فيها كاتبها بحثًا فلسفيًّا، وحث فيها
أصحاب الجرائد على جمع الكلمة وأهل الوطن على تربية البنات، وهذا من أفضل
ما يكتب في الجرائد، فنتمنى للصبح أن يزيد ضياءً ولضيائه أن يزيد انتشارًا.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(الدعوة إلى الدين)
كثر حديث الناس في هذه المدة الأخيرة بدعوة المرسَلين الإنجيليين من الإنكليز
وغيرهم إلى ديانتهم، واستفاض الخبر في مصر بأنهم يخدعون الناس بإيهامهم أنهم
يعطون مبلغًا معينًا من المال لمن يعتنق مذهبهم، وأنهم استعملوا الخشونة في كيفية
الدعوة، ولكن رئيس الجمعية التي نسب إليها هذا كذَّب خبر إعطاء النقود وقال: إنه
غير صحيح. ونشر ذلك في جريدة المؤيد، وصرح به الدعاة في مجتمعهم الذي
عقدوه في المدرسة الإنكليزية ليلة الاثنين الماضية. وقد تكلمت الجرائد المسيحية
في هذه المسألة، ونددت بالمرسلين الإنكليز، وقد نقلت جريدة المؤيد مقالة في ذلك
عن جريدة الرأي العام، وإننا ننقل ما كتبته جريدة الفلاح في ذلك؛ لئلا نُنسب
إلى التحامل والتعصب إذا تكلمنا من نفسنا، قالت الجريدة ما نصه بحروفه:
شيء جديد
حضر إلينا بعض المعتبرين من الإسلام الكرام وأفادنا بأنه بينما كان مارًّا
بشارع محمد علي شاهد بعض المرسلين البروتستانت واقفين أمام المدرسة الإنكليزية
الكائنة في تلك الجهة، يحثون المسلمين على اعتناق الدين المسيحي على شكل
خارج عن دائرة الأدب؛ إذ إنهم كانوا يطعنون على الدين الإسلامي ويغررون الناس
بإعطاء الأموال إذا ارتدوا إلى الدين المسيحي، ويا ليتهم يقفون عند هذا الحد، بل
إنهم كانوا يجذبون الناس إلى داخل المدرسة كي يقنعوا بصحة دعواهم، حتى إنه
ترتب على ذلك اجتماع خلق كثير أمام المدرسة وعلت الغوغاء وكثرت الرِّعَاع
وتنوعت الأقوال بما استفز بعض صغار الوقوف إلى الرمي بالحجارة والسب واللعن
وخصام استوجب مداخلة البوليس، إلى غير ذلك مما لا يليق، وقد التمس منا هذا
البعض التنبيه إلى ذلك، واستلفات نظر الحكومة إلى منع مثل هذه الأفعال حذرًا من
أن يتولد من ورائها ما لا يستحسن، والبلاد في حاجة إلى الراحة والسكينة لا إلى
الفتن والثورات.
ثم بلغنا بعد ذلك أنه على إثر مداخلة البوليس طار الخبر إلى الحكومة، وأن
حضرة مستشار الداخلية بحث في هذه المسألة، ونبه على أولئك المرسلين أن لا
يتجاوزوا حدود الإرشاد بالمعروف.
هذا ما بلغنا وكيفما كان الحال فنحن نعلم أن الدين المسيحي يوجب علينا
احترام كافة الأديان والإرشاد بالمعروف فضلاً عن أننا في بلاد تحكمها الأمة
الإسلامية تحت ظل الشريعة الإسلامية والسواد الأعظم فيها من المسلمين، والسيد
المسيح في الإنجيل الجليل أوجب علينا بل حتم علينا الطاعة لكل حاكم والخضوع
لكل سلطة؛ فإنه قال عليه السلام: (اخضعوا للسلاطين فإن كل سلطة من الله) ،
بل إنه عليه السلام امتثل لشريعة حكام زمانه ودفع الجزية لهم.. إلخ، مما لو أردنا
استيفاء البحث عنه لطال بنا المطال، ومع ذلك الإنجيل الجليل يثبت لنا أن السيد
المسيح عليه السلام كان يرشد إلى الدين بالكلام المعقول وفعل المعجزات لا
باستعمال القوة ولا بالتغرير بالأموال بل إنه عليه السلام نهى تلامذته عن حمل
المال بالكلية، فإذا عرفنا ذلك وكان ما فعلناه صحيحًا - يكون تصرف أولئك
المرسلين مخالفًا للشرع المسيحي من جهة ومخالفًا للآداب لعدم احترامنا
السلطة الحاكمة من جهة أخرى.
ونحن لا ننكر أنه يجب على علماء كل ملة الإرشاد إلى ملتهم ولكن بطريقة
أدبية، وطالما نددنا على علماء الإسلام الكرام بالنسبة لتقاعدهم عما هو واجب عليهم
من هذا القبيل خصوصًا، بينما يرون أن أرباب كل دين يجاهدون في نشر دينهم
ويتجشمون المتاعب والمشقات لمثل ذلك، وكم تمنينا أن تتشكل جمعية من كرام
المسلمين باسم جمعية الإرشاد الديني الإسلامي، ويجمعون لها الأموال من ذوي الخير
وينفقونها على العلماء؛ لكي يطوفوا البلاد للإرشاد إلى الدين الإسلامي كما تفعل
الأجانب، ولكن لسوء الحظ لم نجد من يلبي هذا الطلب الذي لا صعوبة فيه
غير السعي والحركة.
ولا نظن أن كرام الأمة تأبى المساعدة في دفع شيء طفيف من فضلات ما
لهم إلى مثل هذه الغاية الحميدة. والمصيبة كل المصيبة أن كبارنا يتقاعسون عن
مثل ذلك، وصغارنا يبذرون الألوف من الجنيهات بسخاء لا مزيد عليه في المنكرات
وعلى المفاسد والملاهي.. إلخ إلخ، ونحن في غفلة عن مواجبنا، ولو فرضنا
وتحرك فريق من المسلمين وشكل جمعية إسلامية تحت اسم عمل خيري لاستدرار
أموال المسلمين وبحثنا بدقة عن نتيجة العمل فلا نرى من نتيجة هذا العمل شيئًا
يذكر. هذا، إن فرضنا أن ذلك الاجتماع خالٍ من المقاصد والغايات والمنافع
الشخصية.
وحاصل القول: إن الإفرنج في مساعيهم الدينية تجاوزوا حدود الآداب والكمال
في طرق الإرشاد واستعمال المنكر مثل التغرير بالأموال والمنافع وما شاكل مما
ينكره الدين المسيحي نفسه والإسلام قد قصروا في مساعيهم الواجبة لتنشيط علمائهم
فتقاعسوا وقصروا مع أنهم يعلمون أن كل مَن سار على الدرب وصل. وهذا التقاعس
قد أفاد الأجانب؛ لأنه ليس أمامهم من ذوي الإرشاد في الدين الإسلامي في القطر
المصري والجهات المتوحشة من يناظرهم فإن بقيت الهمم الإسلامية في القطر
المصري فاترة لا يعجبهم إلا الغرور الظاهر والتعصب في الغايات وعدم معرفة
النافع من الضار والسقيم من السليم. فعلى القطر المصري والسودان (الذي ستنشأ
فيه مدرسة إنكليزية كلية في الخرطوم ونحن في غفلة عن كل سعي يقاوم ما يماثلها
وغير جهات من إفريقيا وسواها) السلام؛ فإن الأقوال لا تقوم مقام الأعمال، فالعبرة
بالعمل، وألا نكون عبرة لمَن يقول ولا يفعل.
وعلى الأمة الإسلامية أن تفتكر في مستقبلها وتنتبه من رقدتها وتفعل ما ينفعها
في الحال والاستقبال، وإلا لو ملأت الدنيا صياحًا وهي واقفة وغيرها ماشٍ، فالهواء
يبدد الكلام، والعمل يغير الحال ولا تشعر إلا وهي في دور الاضمحلال.
فيا أمة الإسلام، هذه نصيحة من سليم ملخص في الخدمة للأمة بحسب ما
تقتضيه الهمة والذمة، فإن الحق أولى أن يقال على كل حال، وعلى الله
الاتكال. اهـ
(المنار)
نشكر لسعادة الكاتب غيرته ونصحه، ونقول لإخواننا المسلمين: أما كفاكم أن
المخالفين لكم في الدين يسجلون عليكم تقصيركم في خدمة دينكم بأموالكم وأنفسكم
وعلمكم وعملكم، ويحثونكم على القيام بحقوقه يائسين منكم، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي
الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .
قد انتدب الفقير منشئ هذه المجلة صديقه الفاضل رفيق بك العظم ناظر
المدرسة العثمانية بأن يلقي في القسم الليلي الذي افتتح في المدرسة دروسًا في الدين
واللغة والمناظرة، أما درس الدين فبيان حقيقته وكيفية إسعاده للبشر، وأما درس
اللغة فهو عمل يخرج به المتعلم كاتبًا خطيبًا، وأما المناظرة فيتقدم العمل فيها دروس
في فن المنطق وآداب البحث، وقد شرعنا في هذه الدروس، فعلى الراغبين أن
يبادروا، والله الموفق.
***
(سوق تمشي)
رأت لجنة معرض 1900 أن الوسائط التي استعملت في معرض شيكاغو
وبرلين لانتقال المتفرجين على أقسام المعارض لم تكن كافية لراحتهم، وأن
قطارات (داكوتيل) التي استخدمت عام 1889 في باريس ما كانت لتفي بالمطلوب
مع شدة الاعتناء بها، وقدرت تلك اللجنة أن معرضها الآتي سيحشر فيه عدد يزيد
ثلاثة أضعاف العدد الذي كان في معرض 1889؛ فمن الضرورة إذًا أن تكون
وسائط الانتقال أهم وأوفر وأكثر سرعة وسهولة.
وبعد مباحث عنيفة واختبارات دقيقة اعتمدوا أن يضعوا سوقًا تمشي بعجلات
تدار على خطوط حديدية تدفعها قوة الكهرباء وتديرها الآلات بأيدي الساقة الماهرين.
أما تلك السوق أو بالحري تلك المدينة البهية فهي مؤلفة من ثلاث طبقات، كل
طبقة منها مستقلة بحركتها عن الثانية. فالطبقة السلفى لا حركة ذاتية بها بل هي
مرقاة إلى الطبقتين العلويتين.
أما الطبقة العالية فتدور 4 كيلو مترات بالساعة، وهي معدل مشي الإنسان
المسرع، وأهم من كلتيهما الطبقة العليا؛ لأن سرعتها مضاعف سرعة الثانية وأدق
صنعًا وألطف منظرًا.
وكل طبقة من هذه الطبقات تقسم إلى أقسام متتابعة مرتبة بغاية اللطف والهندام،
ولا يعيب هذه السوق غير أصوات العجلات المزعجة على أن المهندسين تعهدوا
إزالة كل علة. اهـ
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... (الصبح)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
التصرف في الكون
] سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [
واحسرتاه على أمة أعطيت أمثل التعاليم. وهديت إلى الصراط المستقيم.
فأُلبِست تاج السيادة. وأُفرغت عليها حلل السعادة. ثم ما عتمت. أن حرّفت
وانحرفت. وتمزقت بعدما اجتمعت، حرفت التعاليم فاشتبه عليها الباطل بالحق،
واتبعت السبل فتفرقت بها عن سبيل الحق. وكانت أمة واحدة. فأمست شيمًا متعددة
فذاق بعضها بأس بعض. ثم امتهنت في جميع بقاع الأرض {انظُرْ كَيْفَ
نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} (الأنعام: 46) .
سعادة الإنسان في هذه الحياة الدنيا في معرفة المنافع والمصالح بأسبابها، وإتيان
البيوت من أبوابها. ويحصل هذا بالنظر والتأمل. والاختبار والتعقل. وبناء
اللاحق على عمل السابق. حتى تظهر السنن الكونية. والنواميس الطبيعية. التي
لا يضل من اهتدى إليها. ولا يصل إلى الغاية إلا من سار عليها. ولكن دون
الوصول إلى معرفة سنن الله في خلقه عقبات. وفي طريق النظرين - العقلي
والحسي - شبهات {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ
عَنْ قَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) .
ما أعظم عناية الله بالإنسان؛ منحه أنواعًا من الهداية ليصل بها إلى سعادته:
الإلهام الفطري والوجدان الطبيعي والمشاعر الظاهرة والباطنة والعقل والدين وكل
هداية من هذه الهدايات تُصلح ما يقع من الخطأ الذي يعرض للهداية الأخرى ولا
يصل الإنسان إلى حد كماله إلا بمجموعها، ولكن الإنسان خُلق ضعيفًا، فمع هذه
الهدايات كلها لم يزل الضلال آخذًا بزمامه والشقاء في شعوبه ضاربًا بجرانه، وما
ذلك إلا لغلبة ناموس الارتقاء التدريجي على جميع هذه الأشياء ولا بد أن يصل
الإنسان به إلى كماله ولو بعد قرون، فانتظروا إنا منتظرون.
الدين أعلى أنواع الهداية ومرشدها ومدبرها وقد سار كغيره على سُنَّة الارتقاء
فكان آخره (وهو الإسلام) أكمله، وإلى ذلك الإشارة بما جاء في إنجيل يوحنا عن
سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام من قوله: (16 إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي
16 وأنا أطلب من الآب فيعطيكم (فَارْقِلِيط) آخر ليثبت معكم إلى الأبد) أي:
تثبت تعاليمه فلا يأتي بعدها تعاليم إلهية، ثم قال:(26 و (الفارقليط) روح
القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلته لكم) ،
ومعلوم أنه لم يبعث نبي علَّم البشر كل شيء يحتاجونه في سعادتهم إلا نبي الإسلام
عليه الصلاة والسلام؛ فموسى جاء بشريعة عملية، وعيسى جاء بأخلاق روحية،
ومحمد علّم الناس العقائد والأخلاق وأحكام الشريعة بأنواعها وجمع بتعليمه بين
مصالح الروح والجسد ومنافع الدنيا والآخرة ووفق بين العقل والدين وأرشد إلى سنن
الكون والاعتبار بها، فكان من مقتضى هذه التعاليم أن تكون أتباعه أسعد الناس حالاً
وأن يسودوا على سائر الأمم، ولقد كان هذا كله ثم اتبعوا سَنَن مَن قبلهم، فلما زاغوا
عن ذلك الصراط المستقيم في أخلاقهم وأعمالهم أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدي القوم
الفاسقين.
قال لهم هذا الدين: اطلبوا الأشياء بأسبابها {وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (البقرة: 189) وأرشدهم إلى أن سعادتهم وشقاءهم نتيجة أعمالهم وأنه {لَا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) ، فقام فيهم
محرفون زعموا أنه ليس في وسعهم شيء من العمل ولا طاقة لهم على القيام
بمصالحهم ومنافعهم، زاعمين أنهم يعظمون الله تعالى بمصادمة فطرته ومصادرة
شريعته. وقد فندنا هذا المذهب في مقالة (الاعتماد على النفس) من الجزء الماضي
وهو العقبة الكبرى في طريق الإصلاح الإسلامي، وأنشأنا هذه المقالة لتمهيد عقبة
أخرى ضررها يوازي ضرر الأولى في الحيلولة بين الأمة وسعادتها وإن كانت في
حقيقتها مناقضة للأولى عقلاً ودينًا ألا وهي: عقيدة تصرُّف بعض العباد في
الكون.
أليس من العجيب أن يسلب قوم أنفسهم العمل الثابت لهم بالوجود والوجدان
سواء كان بمبدئه أو بغايته لأجل تعظيم جانب الألوهية التي منحتهم إياه، ثم يزعمون
أن منهم من يتصرف في الكون ويقدر على قلب نواميسه وتبديل سننه وتحويلها
فيسعد ويشقي ويفقر ويغني من غير سبب غير مجرد تصرفه ذلك أو الاستعانة
بطلاسمه مما اختص الله تعالى بالقدرة عليه من دون عبادة كما هو ثابت بالدلائل
العقلية والنقلية جميعًا. أليس من الجهالة العمياء أن تُنبذ البراهين العقلية وتُصرف
الآيات القرآنية عن ظواهرها لأجل تصحيح هذه المسألة التي ما أنزل الله بها من
سلطان؟ ! أليس من البلاء العام أن تكون قلوب معظم أفراد الأمة متعلقة
بالأضرحة والقبور وبجماعة من الدجالين والمشعوذين أو البُلْه والمجانين؟ ! معتقدة
بهم أنهم يدفعون مصابًا ويزيلون أوصابًا. أو يملكون نفعًا وإسعادًا. وينيلون هدايةً
ورشادًا بمجرد أسرارهم الباطنية، وقواهم الغيبية؟ أليس من الانحراف عن الدين
أن تلهج الألسنة بالأموات، وتستعين بالعظام الرفات كلما نزل خطب أو ألمَّ كرب؟!
هذه العقيدة المضرة نفث سُمَّها في روح الأمة الإسلامية قومٌ من مدعي الصلاح
والإرشاد الذين رمقتهم العامة بعين الاعتقاد وذلك بعد امتزاج المسلمين بأهل الملل
الأخرى الذين خضعوا لرؤسائهم الروحيين خضوعًا أعمى بل اتخذوهم أربابًا،
وجعلوهم عن الحضرة الإلهية نوابًا. وما من أمتين تتمازجان إلا ويسري لكل واحدة
من الأخرى شيء مما هي عليه، تأخذه برمته أو تصبغه بغير صبغته. ولقد تلاعب
الدجالون بعامة هذه الأمة فزعزعوا بمثل هذه الأوهام عقائدها. وهدموا بالتمويهات
قواعدها؛ طلبًا للمال والجاه. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولقد آل بهم الأمر إلى جراءة أفسق الفساق وأفجر الفجار من شيوخ الطريق
على دعوى التصرف في الكون والانتقام ممن لا يخضع له! فضلاً عمن ينال منه
بقول أو عمل، ويستدلون على ذلك بما لا يخلو عنه الكون من مصائب تنزل بأعدائهم
لحصول أسبابها الطبيعية، وبمثل هذا يستدل المعتقدون بتصرف الأموات يقولون:
حلف فلان بالولي الفلاني كاذبًا فرماه بسهم أمرضه أو أمات ولده أو قريبه ونحو ذلك
ولا يقولون ذلك فيمن يحلف بالله كاذبًا، ويوجد في المسلمين ألوف كثيرة يتجرؤون
على الحلف بالله كذبًا ولا يحرك أحدهم لسانه بالحلف بالولي أو الشيخ الذي يعتقده؛
لا سيما إذا كان عند قبره. وقد صرح الفقهاء بأنه لا يجوز الحلف بغير الله مطلقًا
وقالوا: من حلف بغير الله معظمًا له كتعظيم الله تعالى في ذلك كان كافرًا، فماذا
عساهم يقولون فيمن يزيد في تعظيم الشيخ على تعظيم الله تعالى كالذي علمت؟ !
ومن هؤلاء الدجالين من يسعى بإيقاع الضرر بعدوه بأسبابه العادية؛ لا سيما
النفوذ والجاه الدنيوي كمساعدة الحكام الظالمين وغيرهم، ثم يدعي بعد ذلك أنه
تصرف فيه بسره ومدد شيوخه وأجداده فيقول: إن فلانًا تكلم فيَّ فقُطع لسانه وفلانًا
ناوأني فعُزِلَ من وظيفته. وفلانًا آذى بعض أتباعي فحُبِسَ ونُكِبَ. ويغفل الأنوك عن
وقوف الناس على أسباب هذه النكبات وعرفانهم أن مثلها من تصرفات الأشرار لا
من تصرفات الأسرار، ولا يعتبر المغرور بما ينزل بأنصاره من البلاء كالنفي
والجنون ونتف اللحى وقلع العيون بل بما ينزل به نفسه أحيانًا؛ وذلك لأنه يؤوّل
لنفسه عند نزول البلاء بأن أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فإذا كشفت عنه
قال: إنما نزل به ما نزل لتظهر أسراره وعناية الله تعالى به نعوذ بالله من
الاستدراج بالغرور والتغرير.
ألم يعلم المدعي الجاهلي بل الخادع المتجاهل أن الناس يعلمون بأن أكابر
شيوخهم كانوا يشتمون ويهانون وما كان يحل بمن أهانهم بلاؤه. هذا الشيخ أحمد
الرفاعي الكبير (رحمه الله تعالى) كان يغمطه ويغمزه أكابر العلماء في عصره [1]
ولم ينقل أنه تصرف بأحد منهم فقطع لسانه مثلاً مع أن أكثر أهل طريقته يدعونه
أكثر مما يدعون الله تعالى، وقد نسبوا له العظائم حتى قالوا إنه كان يتصرف في
الدنيا والآخرة وكان يبيع قصورًا في الجنة كما يفعل بعض رؤساء الأديان الأخرى
ويكتب بذلك صكوكًا [2] ويغفل الخادع والمخدوع عما أورده الإمام حجة الإسلام
الغزالي في الرد على الذين يدعون أن نزول البلاء بأعدائهم يكون انتقامًا لهم على
سبيل الكرامة من أن الذين كانوا يؤذون الأنبياء ويقتلونهم ما كان يحل بأشخاصهم
البلاء والعذاب، فهل كان هؤلاء الأشقياء أو الصلحاء أكرم عند الله من الأنبياء
(سبحانك هذا بهتان عظيم) ومما يقضي بالعجب أن مسألة التصرف في الكون
لقد هزلت حتى بدا من هزالها
…
كلاها وحتى سامها كل مفلس
يدعيها الدجال المسترسل في الفجور الذي أغواه الشيطان بشهادة الفساق أو
الكفار له بالقطبية والغوثية من مراتب الولاية لينالوا منه مالاً أو جاهًا، وحسب العاقل
هذا في النفور عن أهل هذه الدعوى وتكذيبهم، فكيف والوجود بكذبهم والشواهد التي
أشرنا إليها تفند مزاعمهم؟! وفوق ذلك كله كتاب الله يخاطب نبي الله إرشادًا لعباد الله
بمثل قوله: {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَراًّ} (الأعراف: 188) وقوله: {قُلْ
إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلَا رَشَداً} (الجن: 21) نعم إن الدجالين قد جعلوا مسألة
التصرف من باب كرامة الله لأوليائه. وسيأتي الكلام على الكرامات إن شاء الله
تعالى.
_________
(1)
ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني (رحمه الله تعالى) في كتاب لطائف المِنَن (صفحة 411 و 412 من النسخة المطبوعة في مطبعة بولاق الأميرية سنة 1288) ما نصه: (وكان الشيخ سالم السلماباذي يحط هو وأصحابه كثيرًا على سيدي أحمد بن الرفاعي فلقيه مرة سيدي أحمد في طريق ومعه أكبر أصحابه، فأول ما رآهم سيدي أحمد نزل عن دابته وكشف رأسه وقبَّل لهم الأرض (انظروا وتأملوا) وقال لأصحابه: بالله عليكم أن أغلظوا عليَّ القول فاصبروا ساعة، فلما قبَّل يد السلماباذي ورجله وهو راكب (اعتبروا) تلقاه بكل قبيح وشتمه وقال له: أي أعور، أي دجال، أي مستحل الحرام، أي مبدل القرآن، أي ملحد! حتى قال له: أي كلب! هذا كله وسيدي أحمد يقبل يده، ويقول: أي سيدي بفضلك ارضَ عني وأنا خادمك وحِلمك يسعني) إلخ وذكر في الصفحة 412 أيضًا ما نصه: (وكان الشيخ إبراهيم الأعزب يقول: كان البستي (وهو من أكابر العلماء) يحط على سيدي أحمد فأرسل مرة له كتابًا فيه: أي أعور، أي دجال، أي مبتدع، أي مَن جمع بين الرجال والنساء، الكلب ابن الكلب! (تأملوا)، فأرسل له الجواب: صدقت فيما قلت: جزاك الله عنا خيرًا، فلا تخليني من دعائك - يا أخي - وحلمك يسعني) ، ثم قال الشعراني:(ورَوى الشيخ عبد الرحمن القوصي رضي الله تعالى عنه بسنده إلى يعقوب خادم سيدي أحمد، قال: كنت كلما لقيت الشيخ عبد الله الهندي، يقول لي: احمل هذه الرسالة إلى شيخك وقل له: أي ملحد، أي باطني، ونحو ذلك من الألفاظ القبيحة، فكنت أخبر سيدي أحمد بذلك، فيقول لي: قل له: صدقت) اهـ.
(2)
من ذلك ما رأيته في البهجة الرفاعية عند بني الصياد في طرابلس الشام، وهو أن سيدي أحمد اشترى من الشيخ إسماعيل بن عبد المنعم شيخ أونيه بستانًا بقصر في الجنة، وكتب له بذلك صكًّا بخطه هذه صورته:(بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى إسماعيل بن عبد المنعم من الفقير الحقير أحمد بن أبي الحسن الرفاعي الضامن على كرم الله سبحانه وتعالى قصرًا في الجنة، يجمعه حدود أربعة: الأول إلى جنة عدن، والثاني إلى جنة المأوى، والثالث إلى جنة الخلد، والرابع إلى جنة الفردوس بجميع ولدانه وحوره وفرشه وأسرَّته وأنهاره وأشجاره عوض بستانه والله شاهد وكافل) ، ثم إنه طوى الكتاب وسلمه إليه اهـ والقصة مبسوطة في ذلك الكتاب وفيه من أمثالها كثير، وقد أتينا في كتابنا (الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) على العجب العُجَاب من مثل ذلك وسيُطبع عن قريب إن شاء الله تعالى.
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
استنهاض همم
(3)
قال قائل من مستمعي حديثي: وإذا تخاذلَتْ - والعياذ بالله - تلك الحكومات
وتباطأت عن الشروع في تأسيس هذه الوحدة ووضع مقدمات الإصلاح، وأخفق سعي
عقلاء الأمة العاملين على النهضة الساعين في تنبيه الأفكار وتنوير الأذهان، كيف
تكون النتيجة، وإلامَ تؤول حال المسلمين، وإلى أي منقلب ينقلبون، وهل يسلم
لواحدة من تلك الحكومات استقلالها أم يعجز كل منها عن الدفاع ويسقط بين يدي
العدو؟ هذا السؤال هو الذي حملنا على وضع هذه المقالة كما ألمعنا إلى ذلك في
فاتحتها.
ونقول في الجواب بالإجمال:
إن عاقبة تفريط المسلمين في لمِّ شعثهم وإفراطهم في لهوهم وغفلتهم وتثاقلهم
على مداركة الخلل الساري في شؤونهم - سقوط حكوماتهم بين أيدي الأمم الغربية
شيئًا فشيئًا، ثم تقلص ظل شعائرهم وشرائعهم عن وجه البسيطة حالاً فحالاً. ولا
إخالك إلا راغبًا في تقصّي الأحوال غير مجتزئ بهذا الإجمال لما أنه قلما يجهله إلا
مَن ران على قلبه وطمست عين بصيرته.
(المسألة الشرقية) وكل واحد على شيء من العلم بالمسألة الشرقية. هي
اقتسام دول الغرب لحكومات الشرق. ما منشؤها؟ هو ذلك الينبوع الذي انبثق في
ربوع الحجاز ثم تعاظم مده وطما سيله حتى غمر معظم الأصقاع الشرقية في آسيا
وأفريقيا وتنفست أمواجه على السواحل الجنوبية من قارة أوربا وتدرجت رويدًا رويدًا
حتى كادت تصافح أمواج البحر الشمالي لو لم يقف شارل مارتل (ملك فرنسا) في
وجهه ويعترض جريته، ففلّ سورته وعرامه [1] وأرجعه أدراجه.
ما غرض ساسة أوربا في المسألة الشرقية، وما الذي حملهم على التداخل في
خُويِّصة الشرق وشؤونه وأي عذر لهم في اقتسامه واستباحة التهامه؟ يزعمون أن
شعوب الشرق مسلوبو الخلال التي ترشحهم للمدينة فاقدو المزايا التي تؤهلهم لتكوين
أمة ذات حضارة وعمران على نسق حضارة أوربا وعمرانها. عامتهم جهلاء لا
إلمام لهم بشيء مما تتوقف عليه راحة الإنسان وانتظام معيشته الصحية والأدبية
أذلاء مستعبَدون لحكامهم، لا يعرفون كيف يطالبون بحقوقهم، ولا كيف يلزمون
حكامهم حدود العدل والإنصاف. عمالهم على جهل تام بأمور الإدارة الداخلية وكيفية
ارتباطها بسياسة الأمة الخارجية لا يعلمون الواجب عليهم ليقفوا عنده ولا يحفلون
بالحقوق ليبذلوها إلى أصحابها. معظم همهم في مخالسة رشا (جمع رشوة) أو
مجالسة رشا. أمراؤهم لاهون وعن النصيحة معرضون، لا يهمهم صلاح رعيتهم ولا
يبالون بشقوتهم، ولا يصيخون لشكيتهم. يتفننون في ابتداع الأساليب لابتزاز أموال
الرعايا وإنفاقها في ضروب ملاذهم وشهواتهم سعادة. أحدهم في مراوحته بين
الافتراش والاكتراش. وبالجملة إن حكام الشرق وأمراءه استذلوا رعاياهم
وتهضموهم وبخسوهم حقوقهم وتلاعبوا بهم، كما تتلاعب الزعازع بالنباتات الغضة
والغصون اللينة.
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
…
فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
وتدّعي دول الغرب أن إبقاء أهل الشرق على هذه البيئة السيئة والشؤون
البهيمية وتركهم وتعاليمهم المختلة وآدابهم المعتلة وحكمهم الظالم واستبدادهم الغاشم
جناية على الإنسانية وضربة قاضية على المزايا البشرية وإخلال بتعاليم الشريعة
الأدبية، وأن الواجب والضمير يأمران أولئك الدول بالدمور [2] على أهل الشرق
والاستيلاء عليهم شاؤوا أو أبوا، ثم إن كان الشرقيون عاجزين عن إدارة بلادهم
الداخلية قصروا أيديهم عنها وتناولوها منهم وكان استعمارًا صرفًا، وإلا خلوا بينهم
وبينها واستبدوا بسياسة البلاد الخارجية ومصالحها العمومية الكبرى، وسموا ذلك
حماية.
ويموهون بأن هذا الحجر إنما هو مُوَقَّت بزمن عجز المحجوزين وقصورهم
حتى إذا أدركوا وبلغوا الحالة التي يمكنهم معها القيام بشؤونهم الإدارية والسياسية
خلوا بينهم وبين بلادهم وودعوهم وانصرفوا مأجورين لا مأزورين. هكذا يزعمون.
ومما يقدمون عذرًا - بين يدي فعلتهم هذه - قولهم: إننا قد أرخينا الطِّوَل [3]
لحكومات الشرق منذ نصف قرن وأكثر، وانتظرنا إفاقة أمرائهم من غفلتهم وانتعاشهم
من عثرتهم، وما زلنا في أطواء تلك المدة نتقدم إليهم بالوعظ تارة وبالإنذار أخرى،
وننصح لهم بأن يصلحوا شأنهم ويرعَوُوا عن غشمرتهم، ويعرفوا لشعوبهم حقوقهم
وهم عن ذلك معرضون وبالترف لاهون وبالترهات مغترون.
هل المسألة الشرقية تقتصر في تناولها على الشعوب الإسلامية أو يتعدى
حكمها إلى سائر الأمم الأخرى؟ إنما وضعت تلك المسألة في أول أمرها لأجل
مقاومة الإسلامية ومساورة أهلها، واسترجاع ما افتتحوه من الأقطار المسيحية
والولايات الرومانية التي سقطت أمامها وعنت لسلطانها، فمن هذا تعلم أن حقيقة
المسألة الشرقية دينية، لكنها مموهة الظاهر بالصبغة السياسية التي تقدم شرحها.
ومن جرّاء ذلك لم يقتصروا في مدلول تلك الكلمة على الشعوب الإسلامية فقط، بل
تجاوزوا بها إلى سائر الشعوب على اختلاف أديانهم وتعاليمهم.
وما لي لا أتوخَّى في بحثي الصدق وأتحرى في حكمي الحق. إن فَسيلة تلك
المسألة وإن كانت زرعت حبتها الأصلية لأول عهدها في تربة التحمُّس الديني
وسقيت بمياه الأحقاد الملية، لكنها - والحق يقال - لم تستغلظ وتستوِ على ساقها إلا
في هذه الأزمنة المتأخرة وبين الأمم الغربية، حيث تعهدوها بالأسمدة السياسية وأتموا
تشذيبها وعذق تربتها بمعاذق الأطماع والأغراض والأثَرَة الجنسية؛ فبذلك أصبحت
تلك الفسيلة شجرة عظيمة غليظة الساق ممتدة الفروع ضاربة الأغصان تظل
بأوراقها وغصونها بقاع آسيا وإفريقيا وجزائرها وشبه جزيرة البلقان، بما يسرح
فيها من الشعوب المختلفة والأمم المتباينة والقبائل المتنوعة، لا فرق تحتها بين دين
ودين، ولا تمييز بين مذهب وآخر.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
عُرامه بالضم: بمعنى سورته أي: شدته وحدته.
(2)
الدمور: الدخول بدون استئذان.
(3)
الطِّوَل كعنب: قِيَاد الدابة يطال لها في المرعى للتوصل إلى الكلأ ويُكَنَّى به عن الإهمال.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التربية النفسية
من الناس من يرغب عن قراءة ما يُكتب في شؤون الأطفال احتقارًا له كما أن
الأطفال محتقَرين عندهم ولا يلذّ لهؤلاء إلا الكلام عن الملوك والحكام وشؤون الدول
والأمم، وهذا دليل على أنهم أصحاب أهواء لا نفع لقراءتهم؛ فإن الملوك والحكام
كانوا أطفالاً وأحوالهم - في كبرهم - مبنيَّة على تربيتهم في صغرهم، والأمم مؤلفة
من الأفراد الذين لم يوجد واحد منهم كبيرًا قط. فتربية الأطفال هي المسألة الأساسية
في حياة الأمة، فمَن لا يكترث لها لا يكترث للأمة كلها، مهما ثرثر وتشدق في
الكلام عنها.
يرى المراقب للأطفال والولدان أن الكذب والشراسة والظلم والتعدي والأثرة
والدناءة والشَّرَه ونحوها من الرذائل - أغلب عليهم من الصدق والدَّعَة والإنصاف
والرضى بالحق والمؤاثرة على النفس والشهامة والعفة وأشباهها من الفضائل؛ ولهذا
ذهب بعض علماء الأخلاق إلى أن الإنسان شرِّير بالطبع وإنما يكتسب الخير
بالتربية والتعليم. وهذا باطل كمقابله وهو أن الإنسان خيِّر بالطبع ويطرأ عليه الشر
من فساد التربية والتعليم. والحق أنه - في أصل فطرته - قابل للأمرين على السواء
وهناك مرجِّحات ترجّح أحدهما على الآخر أضعفها حالة القطر ونوع المزاج
وأقواها الوراثة والتربية والتعليم وغلبة الشرور والرذائل على الأطفال، إنما هي
من سوء الوراثة والتربية معًا؛ لأن أهل التهذُّب والتهذيب في الدنيا قليلون. ولا
يكفي في وراثة الخير والفضيلة أن يكون الأبوان خيِّرين فاضلين؛ لأن الطفل كما
يرث من والديه يرث من أجداده وإن علوا، وهذه الوراثة لا يحجب الأدنى فيها
الأعلى كإرث الأعيان شرعًا.
يتهاون الناس بتربية الطفل الأدبية من أول النشأة زاعمين أنه لا يفهم ولا يعقل
فيغرسون في تربة نفسه الطيبة بذور الرذائل، فلا يلبث أن ينمو ذلك الغرس فيجنون
منه حنظلاً ويطعمون ضَريعًا وزقُّومًا. أول شيء يتعلمه الطفل الكذب الذي هو منبع
الشرور وجرثومة الرذائل، أرأيت كيف تُسكته جدته أو عمته إذا بكى في غيبة
المرضع بإلقامه ثديها الذي لا لبن فيه؟ ! أرأيت كيف يلاعبون الوليد فيأخذون منه
الألهية (ما يُتَلاهَى به) ويحجبونها عن عينه، قائلين: أخذها البعبع أو الغراب!
ثم يُظهرونها له؟ ! فيثبت مثل هذا الكذب في نفسه بالتكرار، ويكون ملكة راسخة
لا يتأتى الرجوع عنها بعدُ بمجرد قول أبيه أو معلمه: إن الكذب قبيح أو حرام إلا
إذا عقل وقويت إرادته وجاهد نفسه على الاحتراس من الكذب وتحري الصدق زمنًا
طويلاً، فقد جربنا هذا وقاسينا منه العناء عدة سنين ورُبَّ كلمة واحدة يتعلم بها الولد
عدة رذائل، وذلك كأن تعطيه أمه تفاحة وتقول له: اخفِ خبرها عن أخيك. تعلِّمه
بها الكذب والأَثَرَة والبخل والظلم، حيث لم تساوِ بينه وبين أخيه وسوء المعاشرة
والسرقة؛ لأن مبدأها أخْذ الشيء خُفية وغير ذلك.
ومن الجهالة الدائمة والمنتشرة ما يعتقده أكثر الناس من أن الكذب على
الصغار مباح، وأصل هذا قول بعض العلماء: يجوز ترغيب الصبي أو ترهيبه في
حمله على الذهاب إلى المكتب ونحوه، ولو بما لا ينوي المرغب والمرهب الوفاء
به، وهذا إذا تعذر حصول المصلحة بغير ذلك وكيف يعقل أن الشريعة الحكيمة تبيح
إفساد نفوس الولدان بطبع هذه الرذيلة في نفوسهم؟! روى ابن أبي الدنيا من حديث
أبي هريرة مرفوعًا: (مَن قال لصبيه: ها أعطيك. فلم يعطِهِ كُتبت كذبة) ومن
حديث ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا من حديث طويل: (وأن الكذب لا يصلح منه جد
ولا هزل ولا يعِد أحدكم صبيًّا ولا ينجز له) وجميع ما ورد في الكتاب
والسنة من التشديد والوعيد على الكذب يتناول الكذب على الصغار، بل ربما
كان هذا النوع من الكذب أقبح من غيره؛ لأن المكذوب عليه يتضرر منه بطبع ملكة
الرذيلة فيه، بخلاف الكبير فإنه يبقى على ما رُبي عليه غالبًا، فليعتبر الآباء
والأمهات بما ذكرنا وما سنذكر بعد.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(ثمرات الفنون)
قد تم لهذه الجريدة الغراء بانتهاء عام 1316 خمس وعشرون سنة ربع قرن
قمري كامل في خدمة الملة والدولة، فاحتفل صاحبها المفضال سعادتلو عبد القادر
أفندي القباني بموسمها الفضي في أول العام الجديد عام ست وعشرين للجريدة
احتفالاً بديعًا في ثلاث ليال، كان منزله فيها موردًا عذبًا للعلماء والوجهاء والأدباء
من جميع المذاهب والأصناف، وقد افتتح الاحتفال سعادته بخطاب لطيف خُتم
بالدعاء للحضرة السلطانية من الجميع ثم تأثره الخطباء والشعراء بألسنة تفيض الثناء
على هذه الجريدة الوطنية الصادقة ومؤسسها بما هما أهله.
وقد استغرق منظومهم ومنثورهم العدد الأول من السنة الجديدة الذي طبع بحبر
مذهب على ورق فضي كالورِق وبقي بقية. فنهنئ سعادة رصيفنا بالتوفيق لبلوغ
هذه الغاية في جهاده الأدبي، ونسأل الله تعالى أن يديم له التوفيق والنجاح حتى يهنأ
بالموسمين الذهبي والماسي وتبقى جريدته إلى ما شاء الله.
***
(تقويم المؤيد)
طبعت نفوس الغربيين على الترقي في كل شيء ولم يجدوا سبيلاً لترقية
التقاويم السنوية إلا بإيداعها كثيراً من الفوائد المقتطفة من كل فن وكذلك يفعلون.
ولم يتلُ أحد من أصحاب التقاويم العربية تلوهم في هذا إلا حضرة الكاتب البارع
محمد أفندي مسعود أحد محرري جريدة المؤيد الشهيرة؛ فقد أنشأ تقويماً أودعه فوائد
شتى من جميع الفنون، بحيث يجد حامله منه معلماً ومسلياً إذا نظر فيه، لا سيما
في أوقات الفراغ وقد انتقدنا عليه أن ذكر فيه مسألة خرافية وهي (معرفة حظ
الإنسان بمواقيت ميلاده) ، وإن كان يُسر بها أكثر الناس.
***
من عجيب تحامل الأوربيين وأنصارهم من العثمانيين نسبة الدولة العلية إلى
إهانة النصارى وعدم مساواتهم بالمسلمين، والواقع أنها تفضلهم على المسلمين في
كثير من الشؤون ونذكر الآن مسألة الصحافة فقد رقت الدولة أصحابها من النصارى
أكثر مما رقت أصحابها من المسلمين، ففي مصر يوجد مَن ارتقى من أولئك إلى
رتبة (مير ميران) وصاروا من باشاوات الدولة، ومن ارتقى إلى الرتبة الأولى،
ولا يوجد مسلم نال رتبة ما، وهذا عطوفتلو نجيب بك ملحمة رقته الدولة بسبب ما
كان يكتب في جريدة البصيرة إلى أهم مركز سياسي في بلادها، حيث جعلته
مندوبًا ساميًا في البلغار وما أدراك ما البلغار وفي هذه الأيام أنعمت عليه الحضرة
السلطانية مجددة مجد الدولة برتبة (بالا) الرفيعة ولا يمكن أن يحلم بهذا صاحب
جريدة مسلم.
وأعظم من هذا في معناه أنه بعد صدور جريدتنا المنار الإسلامية أراد بعض
كهنة المسيحيين إصدار جريدة دينية بهذا الاسم، فأنهى ملجأ ولاية بيروت رشيد بك
إلى ملجأ الخلافة العظمى بإصدار إرادة سنية بمنع المنار الإسلامي من بلاد الدولة
العلية، وإرادة أخرى بإصدار المنار المسيحي فصدرت الإرادتان على حسب الطلب
من مقام ثالث العمرين - أيد الله ملكه وأجرى في بحر التوفيق فُلْكه -
وفي هذه الأيام قرأنا في جرائد سوريا بأن مولانا أمير المؤمنين أنعم بالوسام
العثماني الرابع على حضرة الشماس أرسانيوس حداد صاحب جريدة المنار المسيحية
الغراء مكافأة له على إخلاصه وصدق تابعيه وهذا الإنعام وإن كان لم ينله ابتداءً
صاحب جريدة إسلامية - لكن قد نال مثله العلامة الشيخ حسين أفندي الجسر بعد
تأليف (الرسالة الحميدية) فهو ليس بامتياز عظيم، ونبشر رصيفنا الشماس بأن أول
الغيث قطر ثم ينهمل. ولا يختلجنَّ في فكر أحد أن في نفسنا شيئاً من رفيقتنا
وسَمّيتنا (المنار المسيحية) الغراء. كلا، إننا نعتقد أن الجرائد الدينية أنفع
لوطننا المحبوب من الجرائد السياسية إذا كانت كتابتها في تعاليمهم الدين الأصلية
وقد بينا في مقالات التعصب أن الغلو في التحمس الذميم لا يستأصله من نفوس
المسلمين والنصارى إلا الرجوع إلى آداب القرآن ومواعظ الإنجيل.
ولذلك نرجو أن تدعو جريدة المنار وجريدة المحبة وأمثالهما إلى الاتفاق
والائتلاف باسم الدين، كما دعوا إلى ذلك باسم الدين عندما كانت جريدتنا تدخل البلاد
العثمانية، وإنما غرضنا من هذه النبذة إعلام قراء منارنا في الشرق والغرب بأن من
ينسب إلى الدولة العلية تمييز المسلمين على النصارى متحامل عليها، وأن الأمر
بخلاف ذلك في كثير من الشؤون، وأما نحن فلا يسعنا إلا الرضى من دولتنا
وسلطاننا كيفما عُوملنا؛ إذ لا دولة لنا نلجأ إليها إذا هُضمت حقوقنا، وإلى
الله المصير.
***
كتبت جريدة المجلة العثمانية الغراء مقال في صدر العدد الثاني بيَّن فيها
منشئها الفاضل فرح أفندي أنطون أن المسلمين والمسيحيين في بلاد الدولة العلية
على غاية الوفاق والوئام وأن ما تتهمهم به أوربا من خلاف ذلك مبني على
الأغراض السياسية، وأن إمبراطور ألمانيا أدرك هذه الحقيقة في سياحته الأخيرة،
وأن قول جلالته للخطيب المسيحي - الذي خطب أمامه بين أكابر المسلمين في مأدبة
بلدية دمشق: (إن خطابك بقي الليل كله يرنَّ في أذني) معناه أنه استدل منه على
حسن حال النصارى مع المسلمين، ويؤكد ذلك قوله لوزير خارجيته - بعد
خروجه من المأدبة -: (إن المسيحيين في بلاد الدولة أحسن حالاً من الأيرلنديين في
إنكلترا، والمسلمين في الهند والروسيا، واليهود في الجزائر وأكثر ميلاً إلى مسالمة
إخوانهم المسلمين والمسلمون أكثر رغبة في مسالمتهم مما يصفهم به الواصفون) ولم
نكد نقرأ هذه المقالة حتى صارت ترد علينا جرائد أميركا وفيها مقالات متسلسلة
تحت عنوان (حبذا الموت في سبيل الإصلاح) لإلياس أفندي أنطون شقيق
منشئ الجامعة، زعم كاتبها أن طرابلس الشام (التي قتل فيها رجل من أسافل
النصارى رجلاً من سراة المسلمين) فضلاً عن غيرها - قد خضبت أرضها بالنجيع
الأحمر من دماء النصارى، وأن المسيحيين في بلاد الدولة يكرعون السم، ويحث
إخوانه ويهيج نفوسهم على إضرام نار الثورة في سوريا لتحرير المسيحيين من
الاستعباد والظلم الذي مثَّله في مقالاته تمثيلاً يشبه تمثيلات بطرس الراهب التي
فاض عنها طوفان حرب الصليب.
كل هذا - وأعظم منه - يُكتب في تلك الجرائد، ولا تنبس الجرائد التي تدَّعي
خدمة الدولة في مصر بكلمة في الرد عليها، ولكنهم يُظهرون الغيرة على الدولة،
بقولهم: إن المصريين الذين احتفلوا بعيد الجلوس الهمايوني ليسوا مخلصين للدولة
والسلطان وإن المؤيد يظهر خدمة السلطان والدولة لأجل مصلحته. هكذا يشقون
الصدور ويردون على ما في القلوب، أما الكلام الشائن والطعن الصريح فلا يردون
عليه، فهكذا يكون الإخلاص في الخدمة!
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
حياة الإسلام في مصر
كلما ذاق كأس مرير
…
جاء كأس من الرجا معسول
يزداد في كل يوم طوفان السياسة الإنكليزية فيضانًا على مصر فيجرف كل ما
يعترض في سبيله ويغمر المصالح ويعلو جميع المنافع، حتى إنه ليتراءى للمشرف
على مجاري سيوله أن الأمة المصرية قد غرقت منه في بحر لُجي تعلوها أمواجه
والفيض على ما جاورها أثباجه. ففقدت بذلك الحياة السياسية. وأضاعت المزايا
القومية. وانقطعت منها الآمال في الحال والمآل. حكم ناموس تنازع البقاء العام
الذي لا يقبل النقض بعد الإبرام. فيلتهم القوي بمقتضاه حق الضعيف ويسود العالَمَ
الجاهلُ. ويقيس الناظر مصر على الهند وجاوا وسائر البلاد الإسلامية التي أظلتها
السلطة الأوربية؛ فحالت بينها وبين كل تقدم وارتقاء.
كل هذا يخطر في البال ويجول في فضاء الخيال، ولكن حديد النظر بعيد الفكر
يعلم أن من مقتضى ناموس تنازع البقاء أيضًا مجاراة كل أمة لمجاورتها في أسباب
الارتقاء وتقليد القوية للضعيفة في وسائله إذا كانت على علم بها ولو بالإجمال (وكل
مَن سار على الدرب وصل) وإن قياس المصريين على الهنديين والجاويين قياس
مع الفارق. والفرق من وجوه شتى:
أحدها - أن الأجانب استولوا على الأولين وهم على جهل تام بأحوال الاجتماع
البشري؛ فكان أهم عمل لهم بعد فقد استقلالهم معاداة كل ما عليه الأوربيون من
العادات، ومحاربة ما عندهم من العلوم والفنون وطرق السياسة والاقتصاد
وسائر الشؤون الاجتماعية، والمصريون ليسوا كذلك.
وثانيها - أنه لم يكن عندهم جرائد حرة تعرِّفهم ما لهم وما عليهم وما هم فيه،
ولم يكن لهم روح اجتماع بحيث تتلاقى أفكارهم في جو واحد، وإن تلاقي الأفكار في
جو واحد نافع وإن كان هواؤه فاسدًا؛ لأن التفرق لا يأتي إلا بالشرور، والاجتماع
ولو على الباطل والخطأ مبدأ للوحدة لِما يتوقع بعده من الانتقال إلى الاجتماع على
الحق والصواب. والمصريون قد سبق لهم اجتماع من عهد قريب باسم الأمة
والوطن وهو ما كان من أمر الثورة العرابية العشواء ثم ما كان من الغيرة على الدولة
العلية في حالة الحرب الأخيرة ثم في حالة الإعانة العسكرية الشاهانية، فقد ظهر من
المصريين في هاتين الحالتين من الإخلاص والغيرة والبذل مع ما يعتقدون من عدم
ارتياح حكومتهم لذلك ما لم يظهر من غيرهم من العثمانيين.
ثم إن لهم اجتماعات من دون هاتين كالاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني الذي
بُذلت فيه أموال كثيرة، وكالعناية والاهتمام بمحاكمة صاحب جريدة المؤيد التي يعتقد
السواد الأعظم بصدق وطنيتها وابتهاجهم بما كان له من الفلج على الحكومة التي
كانت خصمه في تلك المحاكمة، وهذا وما قبله ليس بالأمر الصغير من شعب هو
أشد الشعوب هيبة لحكومته وخضوعًا لها، وعندهم جرائد يعرفون من مجموعها ما
لهم وما عليهم، نعم، إن الدهماء منهم يرجحون فيها الوهم على الحقيقة ويختارون
الهزل على الجد وهذه هي العقبة الكبرى في طريق ارتقاء الجرائد.
ثالثها - أن المصريين يمتازون على سائر الشعوب الإسلامية بأمرين عظيمين
وهما: المنافسة، وسرعة قبول الإصلاح إذا جاء على يد عظيم محترم إما
لدينه وإما لما يُرجى من خيره أو يُخشى من شره، فإذا تسنى لبعض الكبراء فيهم
إشراع مناهج الارتقاء الاقتصادي والأدبي، وإن شئت قلت الديني والدنيوي، فلا
يلبثون أن يتباروا ويتنافسوا في السباق؛ حتى لا تدرك شأوهم الشعوب الأخرى التي
تفوقهم في الهمة والإقدام والثبات كالسوريين وغيرهم.
إن أمام المصريين وسائر المسلمين سدًّا منيعًا من الوهم يحُول بينهم وبين
السير في طريق الترقي، فإذا استطاعوا أن يَظهروه أو ينقبوه، ولا أقول: أن
يدركوه. يتسنى لهم الإيجاف والإيضاع في ذلك المنهاج الواضح، والمهيع الواسع.
وإن ذلك السد هو الاعتماد على دولهم وحكوماتهم التي أمست أغلالاً في أعناقهم
وسلاسل في أيديهم وقيودًا في أرجلهم وغشاوة على أبصارهم ووقرًا في أسماعهم
ورينًا على قلوبهم. وكل ما نزل بالمسلمين من بلاء فإنما نزل من سماء عظمتهم
واستبدادهم. وإن تعجب فعجب قول مَن ليس للدولة العثمانية في بلادهم أمر ولا
نهى ولا نفوذ ولا سلطان: (إن حياتنا بين يدي المابين! وإن السعادة ستهبط علينا
من أفق الباب العالي) وهم يعلمون أن البلاد التي تحت جناح المابين ونفوذ الباب
العالي تنقص من أطرافها ويتمزق أهلها كل ممزَّق، ولا ينال تلك البلاد وأهلها من
المابين والباب العالي إلا الاعتراض على من مزق الأشلاء وشرب الدماء!
ماذا جنى ويجني أهل جاوا والهند ومصر من الظهور القولي في حب
مظاهرة الدولة العثمانية؟ لعمرك إنهم لا يجنون إلا الحنظل والزقوم؛ فإن هولاندا
وإنكلترا كلما آنستا منهم إليها ميلاً أو سمعتا منهم فيها قولاً - تزيدان عليهم الضغط
والاضطهاد والقهر والاستبداد. أَوَ لا يرَوْن أن الدولة لا تُرجِع إليهم قولاً ولا تملك
لهم ضرًّا ولا نفعًا؟ ! لا أقول لهؤلاء المسلمين: أبغضوا الدولة العثمانية. ولكني
أقول: إذا أحببتموها فاكتُموا حبها ولا ترجوا منها ما لا ينال واعتمدوا في رقيكم على
المعونة الإلهية ثم على جدكم وكدكم وعلمكم وعملكم، فإن رأيتم من الدولة نهضة
فعلية فانهضوا معها إن كنتم صادقين. كل عاشق يحذر العذال والرقباء فكيف لا
تحذرون؟ ألم تعلموا أن الدولة لا ينالها من كثرة لغطكم بذكرها إلا مثلما ينالكم من
الضغط الأوربي والاضطهاد؟ نعم، إن السلطان يفرح ويسر من خضوعكم له
ولهجكم بتمداحه، ولكن هل تشترون فرح شخص وسروره بمصالحكم ومصالح
الدولة؟
أقول هذا، وأنا اعتقد أنه لباب النصح الذي يوجبه علينا ديننا وإخلاصنا لأمتنا
ودولتنا، ومن بين لنا بالبرهان أننا مخطئون، فإننا نرجع إلى رأيه. وإذا كان القول
صوابًا، فعلى إخواننا المسلمين أن يتدبروه، وعلى جرائدهم أن ترجع صداه،
والمنتظر من الجرائد الهندية التي تتفضل دائمًا بترجمة مقالات المنار أن تنقله إلى
لغتها ليحيط به قراؤها علمًا.
أيها الإخوان المصريون، لا يروعنّكم طوفان الاحتلال، ولا تقنطوا من النجاح
لاستئثار الأجانب بالوظائف والمناصب وعبثهم بالمصالح والمنافع، فنجاح وطنكم
بالزراعة والاقتصاد وحياة أمتكم كلها بالمعارف، وإن الإسلام لينتظر منكم ما لا
ينتظر من سواكم، فأنتم أكثر المسلمين بذلاً للدرهم والدينار، وأشدهم منافسة ومباراة
في طرق الفخار، تبذلون الألوف والملايين للدنيا وباسم الدين، ولا حاجة للإسلام
بعمارة المساجد؛ فإنها تزيد على حاجة المصلين، ولا لإقامة الموالد؛ فإنها من بدع
المحدثين، وليس الفخار بالنفقات الواسعة في الأفراح والمآتم والوضائم، ولا ببناء
القصور و (الأحواش) على القبور. وإنما حاجة الإسلام - وفيها الفخار الحقيقي
والشرف الصحيح - إلى بناء المدارس، والنفقات الواسعة على تعميم المعارف، لكن
لا لأجل خدمة الحكومة، بل لأجل خدمة الأمة، أفلا يوجد فيكم - يا قوم - عاقل
فهم هذا ووقف على سر أن تقدم أوربا هو الهبات المالية للعلم فأقدم على العمل لتقدم
أمته؟ !
ألا يوجد مسلم يوقن بأن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم لإعلاء كلمته
ونصرة دينه فيبذل ماله في سبيل الله؟ ألا يوجد فيكم محب للمحمدة الحقة والمجد
المؤثل يعمل عملاً، كهذا يحفظه له التاريخ إلى الأبد. ويكون مفخراً لقومه ما بقي
منهم أحد؟ ، بلى، إن الاستعداد لهذه الأعمال متأصل فيكم وأنتم أحق بها وأهلها،
ولكن عَدَتْ على الروابط العمومية عُوَّاد، اشتبه بها على الناس سبيل الرشاد،
و {الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ} (يوسف: 51) وبادر إلى العمل أهل الإخلاص والصدق
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ} (الواقعة: 10-11) .
أول مَن فتح هذا الباب صاحب السعادة المِفضال عثمان باشا ماهر الذي كان
رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية إلى عهد قريب، فإنه وقف منذ سنين 250 فدانًا
على الأزهر الشريف، ومنذ أيام ألحق بهذا الوقف أحد عشر فدانًا أخرى ثم وقف بقية
أطيانه - وهي 445 فدانًا أو تزيد، يبلغ ريعها في السنة نحو مائة جنيه - على
إنشاء مدرسة إسلامية تعلم العلوم الشرعية. والآلية من معقول ومنقول وفروع
وأصول. وقام في إثره الفاضل الغيور علي بك فهمي المهندس المقاول الشهير بالبر
والإحسان يشرع في عمل عظيم، ألا وهو إنشاء (دار علوم) على نحو دار العلوم
التي أنشأها الطيب الذكر والأثر علي باشا مبارك ناظر المعارف المصرية سابقًا
(رحمه الله تعالى) على نفقة الحكومة، تعلم فيها العلوم الدينية العالية وجميع الفنون
الرياضية والطبيعية التي يتوقف عليها ارتقاء الأمة ومجاراتها الأمم القوية العزيزة
وهذه هي الخدمة الكاملة للإسلام الذي بُني على دعائم السعادتين، ووُضع لفوز
الآخذ به بالحُسنيين، وستكون تلامذتها من نجباء طلاب العلم في الأزهر، يُختارون
بالامتحان، ويوقف عليها وقفًا يبلغ ريعه في السنة أربعة آلاف جنيه، وهذا هو السخاء الحقيقي والكرم الحميد.
إذا قام في المصريين عدة رجال مثل هذين الرجلين الكريمين ومثل العالم
الفاضل عزتلو علي بك رفاعة (وكيل وزارة المعارف سابقًا) الذي بنى مدرسة في
طهطا ووقف عليها ما يكفي لقوامها ودوامها إن شاء الله تعالى، ومثل الفاضل الهمام
سيد أحمد بك زعزوع الذي بنى مدرسة للذكور ومدرسة للبنات في بني سويف
ووقف عليهما سبعين فدانًا من أحسن أطيانه، فبمثلهم تنهض البلاد وتحيا الأمة، وإذا
حييت مصر فلا ريب أن روح الحياة يسري منها إلى جميع العالم الإسلامي.
نعم، نعم، إن الحياة في تعميم العلوم الدينية والدنيوية جميعًا لا بكون قاضينا
من الآستانة ولا حاجة لنا مع هؤلاء الرجال الأخيار الذين يجودون بالدرهم والدينار
إلا إلى معلمين أكْفاء ومدرسين أحياء، يستخدمون الدين والعلم لكشف الغمة ونفخ
روح الحياة في جسم الأمة، ولا يخفى على نبيه أن فاقد الشيء لا يعطيه، فإلى هذا
نوجه أنظار هؤلاء المؤسسين، فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله
ورسوله، ومَن كانت هجرته إلى نحو رتبة ينالها أو حكومة يتقرب إليها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
_________
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
استنهاض همم
(4)
هل تفلت من حبالة المسألة الشرقية شعب من شعوب الشرق؟
نعم قد تفلت من أطماع أوروبا وتخلص من نير تغلبها أمة حديثة في نشأتها
حكيمة في حَزْمها وتدبرها، وهي أمة اليابان ونهضت نهضة الأسد من عرينه
فأماطت غشاوة الجهل عن عينيها، ونزعت رداء الكسل عن منكبيها، وقرنت العلم
بالعمل، وجمعت بين الإرادة والسعي في إنجاز المراد وإنقاذه فاقتبست من أوروبا
فنونها وآدابها النافعة، وأعرضت عن مَقَاذِرِها ورذائلها الفاضحة، فلم يمض عليها
قرن حتى أمر (عظم) أمرها وعظم شأنها وعدت في مصاف الدول العظمى،
وسميت بإنكلترا الشرق. وقد أمست دول أوروبا تتوقى ضيرها، وتتوخى خيرها،
وتخطب مجاملتها، وتود محالفتها. يكفيك أنها قهرت الصين الضخمة وهي منها
بمنزلة الواحد من العشر بل الألف من الصفر (كذا) ولعمري إن الإصبع الواحدة
السليمة تقاوي عشرًا من الأصابع المشلولة ولو عززت بالذراعين.
وهناك دولة أُخرى من دول الشرق وهي وإن لم تكن كهذه في التمدن وحسن
الانتظام واقتباس أساليب الحضارة الأوربية لكنها يوشك أن تأمن على استقلالها
وتحافظ على مركزها، وتستبد بإدارة شؤونها الداخلية والخارجية وهي أمة الأحبوش
فإن ذلك الشعب تحرشت به دولة إيطاليا وهي دولة متمدنة منظمة وهو شعب فيه
توحش وعلى غير نظام، فعاثت في أطراف بلاده، وعبثت بحقوقه السياسية، ولم
تبال بحرمته، فصمد إليها وصدمها صدمة زحزحتها عن موقف ثباتها، وكادت
تقضي على قوتيها العسكرية والمالية، فانسلت من بلاده، صاغرة انسلال الأفعى من
حجر الورل [1] ولما رأت أوروبا منه ذلك وأنست منه الرشد وتوسمت فيه القوة
ومنعة الجانب، وأحست بأن في نفسه شيئًا من الشهامة وفي دمه بقية من النخوة
والحمية؛ عرفت ذلك له، وحادت عن طريقه، وهابت التعرض له وخلت بينه
وبين نفسه؛ حاسبة أن تلك المزايا التي فيه والأخلاق الشريفة التي قامت بنفسه
كافية لسوقه إلى المدينة، وحمله على تناول العمران الأوروبي وهصر أفانينه،
واقتباس فنونه. وطفقت الدول من يومئذ تتزلف إلى ذلك الشعب وتدلي إليه
بالوسائط المختلفة. إنكلترا تمت إليه بالجوار ووحدة المصلحة في دفع غارة
المهدويين أعدائها وأعدائه، وصد هجمتهم وفلّ غرارهم وروسيا وفرنسا تمتان
إليه بوحدة المذهب، واشتباك الطقوس الكنائسية (كذا) وفائدتها من إمداده وارفاده
اتخاذه ظهيرًا لهما على مساورة إنكلترا في ضفاف النيل، ومقاومة نفوذها ثمة. إلا
أن في بلاد الأحبوش رؤساء وقوادًا تتكالب على تسنم الرئاسة وأحزابًا سياسية، كل
حزب يعضد رأسًا من تلك الرؤوس، ويقوم معه في منازعه العاهل الأكبر
(النجاشي) زمام السلطة والأمر.
وهذا لا ريب يضعف البلاد قليلاً، ويباعد بين قلوب رجال الشعب ويعده لنمو
مكروب الداخلة الأجنبية فيه، ويوقعه تحت أحكام مسألتنا الشرقية، ومن متناولات
فروعها، اللَّهم إلا أن يقال: إن الدين مهما تضاءل أثره في أعمال دول أوروبا
وضعفت عوامله في أفكار ساستها لا بد أن تكون له في بعض الأحايين صولة على
السياسات فيصرف مهابها، وسلطة على القلوب والنفوس؛ فيبعث بعواطفها وأميالها.
فالدين الذي شُدَّت أواصر تعاليمه بين الشعب الحبشي والشعوب الإفرنجية
وتوثقت وشائج طقوسه بين الكهنة ورجال الإكليروس من القبيلتين جدير بأن يشفع
بالأمة الحبشية لدى دول أوروبا ويثير في نفوس تلك الدول عواطف الرأفة والحنان
عليها فتمهلها لبينما تهب من الرقدة، وتستأنيها ريثما تستقيم على الطريقة، بل ربما
تواطأت الدول على أرفادها ومؤازرتها بالأموال والدثور، وتبرعت بإنشاء مدارس
وكليات لتهذيب أبنائها وناشئتها، ومتاحف وكتبخانات لتثقيف عقول طلبتها،
وتخريج شبانها كما يصنع بعض الدول لهذه الآونة في أمة اليونان وشعوب البلقان.
هل ابتدأ العمل بالمسألة الشرقية ومناجزة أهل الشرق في هذه الأعصر
المتأخرة أم كان الشروع قبل ذلك؟
حدثت مناوشات عديدة بين الفريقين في القرون الوسطى كان أمرها سجالاً
وأعظم تلك المناوشات وأظهرها أثرًا وأبعدها ذكرًا وأشدها صدى ودويًّا في بطون
التواريخ حملتان صادقتان، بل بركانان منفجران، وقد أنجحت إحدى هاتين
الحملتين وأخفقت الأخرى. أما الحملة المُنْجحة فهي حملة الشعب الأسبانيولي على
عرب الأندلس وإجلائهم عن تلك البلاد بعد رسوخ قدمهم في ترتبها قرابة عشرة
قرون. وتلك الحملة وإن تكن دينية النزعة فإن فيها شَوْبًا من النزعات السياسية
وعليها مسحة من الحقوق الدولية. وأما الحملة الأخرى التي أخفقت فهي حملة دينية
محضة لا شائبة للمنازع الساسية فيها، يدلك على هذا أن الذين حضوا نارها وأثاروا
غبارها إنما هم رجال الدين وحزب الكهنوت، وتلك حملة أمم أوروبا على مسلمي
فينقية وفلسطين.
تداعت شعوب الإفرنج إلى تلك البلاد من كل صوب ونسلوا إليها إرسالاً من
كل حَدَبٍ وأغاروا عليها بقضهم وقضيضهم [2] أو شابًّا [3] من أجناس مختلفة وأروم
متباينة، حتى أصبحت سواحل البحر المتوسط لذاك العهد كأرض بابل مذ تبلبلت
فيها الألسنة، وتفرقت اللغات، وبعد طول مراس وعراك بين تلك الشعوب وأهالي
البلاد نكصوا بالخذلان، وباءوا بالخيبة والخسران، ومهما كان من شأن هاتين
الحملتين وما حدث فيهما من إراقة الدماء، وإزهاق النفوس؛ فإن بعض حُذًّاق
المؤرخين يذهب إلى أن ما حصل في أصقاع الغرب من الانقلاب الفلسفي والسياسي
والمذهبي وما أعقب ذلك من الإصلاح العام في سائر الأوضاع والأعمال والشؤون
إنما نشأ عن تينك الحملتين ونتج من مخالطة أمم أوروبا للمسلمين، وإشرافهم على
مجاري أعمالهم في السياسات وأطوارهم في الإدارات ووقفوا على طرائِقِهم في
الصناعة والزراعة، وأساليبهم في الفنون والمعارف فتخيروا من فسائل حضارتهم
أجودها وأنضرها وغرسوها في تربة بلادهم وسقوها من عرق جبينهم؛ فنمت
وربت وأثمرت من كل زوج بهيج؛ وكأن أهل الغرب قبل أن يُظْعِنوا من رُبوعنا
تقصوا كل جراثيم العمران فيها، وتأثروا كل وسائل المدنية التي بين أهليها فسلبوهم
(واحرباه) إياها ثم تحملوا واستقلوا بها إلى أوطانهم.
أراك تتلع وتتشوف إلى معرفة الأسباب التي قضت بنجاح حملة الأندلس
وخيبة حملة فلسطين.
الذي مَكَّنَ يد العدو من مسلمي الأندلس إنما هو انغماسهم في الترف، وإكبابهم
على الشهوات، وتخاذلهم في الموازرة، وتواكلهم دون النجدة، ومناوأة أولى الأمر
بعضهم بعضًا، وتحرش المحاظي، وحاشية القصر بأعمال الإدارة والسياسة، وقيام
كل أمير في صقع يدعي الخلافة، ويجاذب الآخر زمام السلطة والرئاسة.
وتفرقوا شيعًا فكل مدينة
…
فيها أمير المؤمنين ومنبر
بل بلغ بهم السفه والخرق إلى أبعد مما استفظعه شاعرنا فإن آخر مدن الأندلس
سقوطًا في يد العدو وهي غرناطة كان العدو محدقًا بها من الخارج متكالبًا على نهشها
عاملاً في تقويض أسوارها وافتتاحها وإجلاء أهلها. وهل تعلم ماذا يصنع جندها
ومقاتلها في داخلها؟ لعلك تسارع وتجيب لا شأن لهم إلا الاستبسال في الدفاع
واستفراغ الجهد في حماية الحوزة والاستماتة في صيانة الشرف والحريم، بل يمثل
لك الخيال أن سكان هذه المدينة في تلك السويعة شاكيهم وأعزلهم، ذكرهم وأنثاهم،
تألبوا على قلب رجل واحد وتراكضوا إلى الأسوار مصلتين سيوفهم مشرعين
رماحهم يكادون من شدة تغيظهم وفوران دم النخوة والحمية في عروقهم يلقون
بأنفسهم على عدوهم؛ يمضغون لحمه ويرشفون دمه. نعم إن ذلك العمل الشريف
لجدير بأن تأتيه شرذمة مقتطعة من إخوانها مختزلة عن سائر بني جنسها منتبذة في
ناحية عن أهل ملتها، جدير بأن تأتيه شرذمة أوشكت تغادر معاهد دينها وأضرحة
عظمائها وأبطالها ومعالم مدنيّتها وعمرانها لوطء أقدام عدوها، وعبث يده الجائرة؛
جدير بأن تأتيه شرذمة استنزلها الدهر على حكمه ونزع عنها لباس عزها ومجدها
وسلبها تراث آبائها وأجدادها، ومكن يد العدوّ من نواصي أوطانها.
جدير بأن تأتيه شرذمة هي بقية ملايين من أبطال المسلمين، وغطاريفهم
عَمَّروا تلك البلاد وتكونوا من ترابها، واقتبسوا أرواحهم من هوائها، نعم نعم ذلك
جدير بهم حق عليهم لو كانوا يفعلون. اسمع - كان العدو يصطدم بأسوار المدينة
من خارجها والأهالي داخلها يتخالسون مهجاتهم ويسفكون دمائهم بأيديهم؛ ذلك أنه
كان في غرناطة لذلك العهد حزبان، أهل المدينة حزب، وأهل البيازين وهي محلة
كبيرة من محلات غرناطة حزب آخر، وقلما يتفق الحزبان على بيعة خليفة
واحد، فمن جري ذلك كانت غرناطة لا تخلو من استشراء الفتن [4] واستعار نار
الثورات فيها حتى كان ذلك اليوم العصيب الذي أحدق فيه العدو بالمدينة وأخذ يناطح
أبراجها فلم يلفتهم ذلك عن المناهدة [5] والمناصاة [6] والمواثبة ولم يكن كافيًا لجمع
أهوائهم وتوحيد مشاربهم ريثما يدفعون بصدر العدو عن عقر دارهم [7] فامتشقوا
الصفاح وقوموا سمر الرماح، ونشبت بينهم في شوارع غرناطة وساحاتها وأرباضها
ملحمة بيعت فيها الأرواح بيع السماح. ماذا أصاب هؤلاء القوم يا رب؟ ما الذي
فتَّ في أعضادهم؟ ما الذي طأطأ من أعناقهم؟ ما الذي سلبهم مزايا أجدادهم؟ ما الذي أذال (أهان) نفوسهم وطأمن من أشرافها، ما الذي تلاعب بطبائعها وأوصافها؟
أي شيء طرأ على أرواح أولئك القوم حتى غَيَّرَ تكوينها؟ أي شيء لابسها حتى كاد
يمسخها؟ أليست هذه النفوس نفحات منبثقة من نفوس أولئك الفاتحين فما الذي دنسها؟
أليست هذه الأرواح أنوار مقتبسة من أرواح أجدادنا الأولين، فما الذي
أطفأها؟ تبارك شأن الله وتنزهت صفاته، حكيم فَطَرَ هذا الكون على سنن ونواميس
مطردة فلن تتبدل. عادل وضع لسير هذه الخلائق أحكامًا منتسقة فلن تتخلف. سبحانه
ما أجل شأنه. ذلك يا أخي قصص مسلمي الأندلس فكف من عبراتك، ونهنه من
زفراتك، وسل الله الحماية من أمثال هذه الغواية.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
الحجر: ما تحتمره الهوام والسباع لأنفسها، والورل: بالتحريك دابة كالضب أو العظم من أشكال الوزغ وهو العدو للأفعى فإنه يأكلها أكلاً ذريعًا.
(2)
جاء القوم قضهم (بفتح القاف وكسرها وفتح الضاد وضمها) وقضيضهم أي: جميعهم. كما
يقال: جاؤوا عن بكرة أبيهم، وقيل: القض الحصى الصغار، والقضيض الكبار؛ أي: بكبيرهم وصغيرهم، وقيل: الأول بمعنى القاض أو الثاني بمعنى المقضوض من قضّ الخيل عليهم إذا أرسلها، ويقال: قضضهم بالفك ويقال جاؤوا قضيضهم.
(3)
أخلاطًا ليسوا من جنس واحد.
(4)
اشتدادها وانتشارها.
(5)
قصد العدو والوثوب إليه وإنما كان يناهد بعضهم بعضًا لا عدوهم الحقيقي.
(6)
التماسك بالنواصي.
(7)
وسطها.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الطاعون واتقاؤه
إن الطاعون يعد من الحميات الخبيثة الضعيفة، وأظهر ما يستدل الناس به
عليه دبول في الجسد وجمرات على الجلد، ولكن الأطباء يعتمدون اليوم على
مكروبه، فمتى وجدوا هذا المكروب في مصاب جزموا بأنه مطعون. وهو يبتدئ
عادة كما يبتدئ أكثر الحميات بتعب وضعف في القوى وقشعريرة وغثيان ووجع في
الرأس مع دوار وشعور بثقل فوق المعدة ثم يسخن الجلد ويشتد العطش وتخبث
رائحة النفس وربما تقيأ العليل قيئًا أسود اللون وربما أصابه رعاف؛ فنزل الدم من
أنفه ويغلب الذرب في معدته على القبض ثم لا يمضي على ذلك بضعة أيام حتى تظهر
أورام غُدية في العليل تسمى بالدبول ويغلب ظهورها في الرقبة والإبط والأربية
وتظهر الجمرات بعدها على أقسام متعددة من الجسد وهذا الطاعون هو المشاهَد في
الإسكندرية الآن وهو أقل شرًّا وأخف وطأةً من الطاعون الذي لا تظهر الدبول فيه،
لأن الأول يعدي بالملامسة فلا يتفشى ولا يكثر انتشاره، بخلاف الثاني فإنه يعدي
بالملامسة وبلا ملامسة، فهو شديد التفشي كثير الانتشار.
وقد ثبت قديمًا وحديثًا أن الطاعون يزداد انتشارًا غالبًا في البيوت الواطئة
المزدحمة الفاسدة الهواء الحارة الرطبة، حيث تكثر القاذورات والفضلات الحيوانية
والنباتية الفاسدة، وأن معظم الذين يصابون به يكونون من الفقراء الذين لا تغتذي
أبدانهم بما يكفيها، أو بما يلائمها من الطعام، حتى لقد سمي في بلاد الإنكليز قديمًا
بوباء الفقراء. وأما الذين يعتنون بنظافة منازلهم وإطلاق النور والهواء النقي فيها
ويعتنون أيضًا بنظافة أبدانهم ويأكلون ما يغذيهم ويقويهم، فقلما يصابَون بالطاعون؛
ولذلك لا يكاد يطعن أحد من الطبقات العليا في الناس إلا نادرًا؛ ولذلك أيضًا زال
من أوربا شيئًا فشيئًا بإحكام التدابير الصحية وزيادة النظافة بين الخاصة والعامة،
حتى إنه إذا دخل إليها ينقطع منها ولا يتفشى بين أهلها.
فأحسن الوسائط لاتقاء السليم شر الطاعون أن يعتني بنظافة جسده وثيابه
ومسكنه وكل آنيته وأمتعته ويطلق الهواء والنور في غرفه ويعتني اعتناءً تامًّا بكنفه،
فيتعهدها بالنظافة ومزيلات الفساد؛ حتى لا يجد مكروب الطاعون سبيلاً إليه. ومن
الحكمة في أيام الطاعون أن لا يُشرب ماء إلا بعد إغلائه لقتل الجراثيم التي تكون
فيه، ولا يؤكل طعام إلا بعد ما يُقتل كل ما عليه من الجراثيم، إما بالطبخ أو بالسلق
أو بالشيّ وما شاكل، ومن الحكمة أيضًا الابتعاد عن جميع الذين يتكاسلون عن تنظيف
أبدانهم وأثوابهم ومنازلهم.
هذا في ما يختص بالسليم، وأما إذا أصيب أحد بالأعراض التي ذكرناها فأحسن
ما يفعله محبوه لخيره أن يخبروا رجال الصحة حالاً بأمره ولا يخفوا خبره؛ لأن
رجال الصحة لا يفعلون شيئًا إلا ما يكون فعله واجبًا لشفاء المصاب ووقاية الذين
حوله، وفي خلال ذلك يقفل المنزل الذي يكون فيه ويمنع الناس من الدخول إليه ومن
الخروج منه حتى يأتي رجال الصحة ويطهروا ما يطهرون ويشيروا بما يشيرون.
ومن أعظم الضرر أن يخالط الأصحاء المطعونين؛ فلذلك تجتنب هذه
المخالطة إلا حيث تجب وجوبًا لتمريض المطعونين والاعتناء بصحتهم وحينئذ يجب
على الممرضين أن يعتنوا أتم الاعتناء بالنظافة ويكثروا من غسل الأيدي ويجتنبوا
نفس المطعونين ومبرزاتهم على قدر الإمكان ويحذروا من التعب وكثرة السهر؛ لئلا
يضعفوا فيتعرضوا للخطر.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
...
…
المقطم
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
كتاب تحرير المرأة
أهدانا صديقنا الفاضل محمد أفندي كامل صاحب مكتبة الترقي نسخة من كتاب
(تحرير المرأة) الذي ألفه حديثًا العالم الفاضل والقانوني المحقق عزتلو قاسم بك أمين
المستشار في محكمة الاستئناف الأهلية وقد عهد إلينا المؤلف بانتقاد الكتاب؛ ولذلك
أرجأنا الكلام عليه إلى أن نُتم مطالعته وهو مطبوع طبعًا متقنًا على ورق جيد كما يليق
به، وثمنه عشرة قروش ويطلب (من) مطبعة الترقي.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار والآراء
(مشروع المحكمة الشرعية)
قد أشرنا في كلام سابق إلى مشروع المحكمة الشرعية الذي قامت له قيامة
الجرائد وقد قُضي الأمر وصدر الأمر العالي بالمشروع، وقد انتدبت الحكومة أولاً
للمحكمة الشرعية الأستاذ الكامل الشيخ محمد عبده والفاضل عِزَّتْلُو سعد بك زغلول
من قضاة الاستئناف الأهلي فلم يقبلا، فانتدبت بعد ذلك عزتلو أحمد بك عفيفي
وعزتلو يوسف بك شوقي فقبِلا وصدر الأمر العالي بتعيينهما عضوين في المحكمة
الشرعية العليا. ومن حجة المنتقدين على الحكومة أن هذين القاضيين لم يدرسا الفقه
الإسلامي، فكيف يكون الإصلاح بمشاركتهما لأهل المحكمة في عملها وهو الحكم
والإفتاء الشرعيين، وقد رفض صاحب السماحة قاضي مصر المشروع قطعيًّا فعزمت
الحكومة على عزله وتعيين قاضٍ بدله من علماء مصر والموعد هذا النهار؛ حيث
يلتئم مجلس النظار تحت رئاسة الجناب الخديوي في الإسكندرية.
وقد كثر القيل والقال وظهر لجماهير المصريين أن تولية قاضي مصر من
حقوق السلطان الأعظم، لا من حقوق الجناب الخديوي ومما يلهج به الناس الآن
أن أحكام المحكمة لا تنفذ ولا تكون صحيحة شرعًا إذا كانت تولية القضاء من قبل
الجناب الخديوي، وهذا القول غير صحيح، وربما نوضحه في الجزء الآتي
بالأدلة إذا قُضي الأمر.
صدرت الإرادة السَّنِية بأن يلتزم منتخبو القرعة العسكرية الحق والعدل، وهذه
الإرادة يكون أثرها كأثر الإرادات التي صدرت بمعناها لسائر الولاة والحكام، ولا شك
أن مولانا السلطان الأعظم - وفقه الله تعالى - يعلم أن الطفل لا يتربى بالكلام فكيف
يترك الولاة والحكام - الذين أضلهم الله على علم - الظلم وهم يأتونه متعمدين، وإنما
التربية النافعة تكون بالمعاملة وقد ضجت السماء والأرض بالشكوى من والي بيروت
فلم يعزل ويناقش الحساب على عمله.
***
انعقد مؤتمر السلام في مدينة لاهي (عاصمة هولندا) وسنذكر ما يتفق عليه
الرأي وفي وقته ملخصًا.
ترسل جمعيات الأرمن في مكدونية ومصر وسائر البقاع رسائل الاستغاثة إلى
مؤتمر السلام لأجل استقلال بلادهم، فهكذا كل الشعوب تحيا والعرب، بل والترك
يموتون وتذهب بلادهم من أيديهم مملكة بعد مملكة.
يؤخذ من جرائد أوروبا أن الفتنة في اليمن قد استفحل أمرها وظهر الثوار
على عبد الله باشا، فمتى - يا رب - يهتدي حُكامنا للعدل الذي تسكن به العباد
وتسعد البلاد.
***
أمر الباب العالي سفيريه في لندن وباريس أن يعترضا كتابةً على وفاق النيل
الذي أبرمته إنكلترا وفرنسا؛ لأنه مجحف بحقوقه وراء طرابلس الغرب وقد امتثلا
الأمر ولكن الدول القوية لا تبالي بقول مَن لا يستطيع أن يفعل، لا سيما بالنسبة
للأمور التي انتهت، وليس الإجحاف واقعًا وراء طرابلس فحسب، بل في كل مكان،
فحسبنا الله، على أن الله لا يرضى بالحسبلة والاتكال مع الإهمال وترك الأعمال.
_________
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
استنهاض همم
(5)
ولنعد بك إلى الحملة الصليبية وذكر السبب الذي كان عاملاً في إخفاقها:
قيض الله للإسلام في ذلك العهد رجلين نبيلين أو وليين مقربين بل مَلَكين
سماويين - هبطا إلى العوالم السفلية وتجلببا بجلباب البشرية وسُميا بنور الدين
وصلاح الدين، يقولون: لكل اسم من مسماه نصيب. وما أظهر انطباق قولهم هذا
على الرجلين. فلقد كان الأول نورًا انسلخت بأشعته ظلمات الظلم واستبان بوميضه
مهيع العدالة والحكم وكان الثاني صلاحًا لأمته وعماد وجودها وملاك راحتها وقوام
سعادتها. لم يكُ الرجلان من صميم العرب ولا من سروات عدنان ولا من بيوتات
قريش ولا من معادن الخلافة، فإن أحدهما تركي والآخر كردي، لكنهما وصلا في
استجماع المزايا الإنسانية واستتمام الكمالات البشرية إلى مرتبة هي أقصى ما يُتاح
لغير الأنبياء والمرسلين، وبلغا من التزام حدود الشرع والاستمساك بعروة الدين
وانتهاج منهج السلف الصالح مبلغًا لم يبلغه - بعد الخلفاء الراشدين -أحد غيرهما.
هذا ما حمل بعض نقاد المؤرخين على إدماجهما في مصاف الخلفاء الراشدين وطي
اسمهما في سجل أسمائهم. وحق ما فعل. دين وعلم وعفة ونجدة ونخوة وبسالة
وحزم ودهاء وبصارة وحماية وزهادة ورأفة وتواضع، وهل يعوز الخلافة الراشدة
غير هذه الخلال؟
أليس نور الدين هو الذي كان يتبحث عن أحوال النبي صلى الله عليه
وسلم ويتقصى شؤونه كلها؛ ليقتدي بها ويهتدي بهدْيها؟ أليس هو الذي كان يخاطر
بنفسه في الدفاع عن بيضة الإسلام وحوزة الأمة، فقال له بعض عظماء دولته: الله
الله في نفسك يا مولاي، ارفق بها ولا تعرض المسلمين بعدها للخطر، فغضب
من مقالته وقال: (مَن يكون محمود - يعني نفسه - حتى تتوقف سلامة المسلمين
عليه إن للمسلمين ربًّا يتولى حفظهم وكلاءتهم) ، الله أكبر هذا القول من نور الدين
جدير بأن يُتَّخذ قانونًا في معاملة الملوك لأممهم، فلا يرون لأنفسهم عليهم فضلاً
ولا منة، فضلاً عن استدراجهم في العبودية وامتهانهم بسلب إرادتهم واختيارهم
وإماتة نفوسهم وهضم حقوقهم وحرمانهم من واجباتهم بل إنزالهم منزلة البهائم
تغدو وتروح في حاجات أصحابها، ولا ينالها من سعيها إلا بعض العلف يلهو
به كرشها.
أما صلاح الدين فكان آية من آيات الإسلام في القرون الوسطى. كان جامعًا
بين شهامة الملوك وعظمة السلاطين وبين دعة الزهاد وسكينة النساك، وشؤونه في
إدارة بلاده الداخلية وفي سياستها الخارجية، وأعماله في إبان السلم وأوقات الحرب،
ومعاملته للعدو في كلتا الحالتين - كل ذلك لو دوِّن كان خير نظام للدول وأحسن قانون
تحذو على مثاله الشعوب والأمم. لو عرضت وقائع هذا البطل وأعماله وأطواره
وأقواله على ما اخترعته أوروبا ودعته حقوق الدول - لكانت منطبقة عليه، بل ربما
كانت على وضع أقرب إلى طبائع الناس وأضمن لمصالحهم وأوفق لنواميس
الاجتماع البشري وأكفل لانتظامه.
وقد كان رحمه الله كريم الأخلاق طيب النفس واقفًا عند حدود الشرع مع
معاهديه وأهل ذمته، يبذل لهم في حالة السلم والهدون من العدل والمساواة بينهم وبين
غيرهم والرحمة والرفق بهم وحسن المعاشرة والمجاملة معهم ما لا يطمعون به
إبان الحرب وساعة الطعن والضرب، ويريهم بعد انسلاخ الهدنة ومُضي مدة العهد
من الصلابة والحمس الديني والشدة والغلظة ما لا يتخيلونه فيه وقت السلم ولا
يستشعرونه منه في سُويعات الأُنس والمباسطة. بينما هو نور بسيط يبهج النفس ويلذ
المشاعر في وقت السلم إذا هو في الحرب شرارة كهربائية وصاعقة جوية
تقتنص الآجال. وتدك راسيات الجبال.
نسيم لطيف ينعش الحواس ويفرح القلب، فما أسرع ما يتحول إلى إعصار فيه
نار ينسف الأبراج والحصون وينزل بمن لحقه ريب المنون ماء زُلال سائغ
للشاربين، حتى إذا استصرخته الحرب عاد سيلاً أتيًّا (غريبًا) يقتلع ما يمر عليه ويجرف ما اعترض في سبيله. هكذا فليكن الرجل المسلم، هكذا أُمرنا أن نكون.
هكذا كان شأن الأمة في الصدر الأول. محاسنة ملائكية في وقت السلم، مخاشنة
غضنفرية في وقت الحرب. بهذا امتد رواق الدين على رؤوس الأمم. بهذا خضعت
الرقاب لتعاليم الإسلام. بهذا تقبَّلت الناس دين الله ودخلوا فيه أفواجًا أفواجًا.
وكان صلاح الدين نور الله مرقده غيورًا على مصالح أمته ولوعًا برفع شأنها
مقبلاً بشراشره (بكُليته) على حمايتها والذود عنها، ألا تعيرني إصغاءك وتسمع
من نجدة هذا الرجل وبُعد همته وكبر نفسه ما يُحدث لك عجبًا وتهتز نفسك له طربًا؟
لما كانت تضع الحرب العَوان أوزارها بين المسلمين والصليبيين ويتهادن
الطائفتان ويتحاجز العسكران - كان صلاح الدين يأذن لجنوده وأبطاله أن ينقلبوا إلى
منازلهم ويقضوا لباناتهم من لقيا أهليهم ومناغاة أطفالهم، وما تظنه فاعلاً هو؟ !
ما كان يناغي ويباغم [1] ويلهو وينادم، بل كان يعمد إلى هضبة مشرفة على
حدود العدو فينصب عليها خيمته ويرتبط بجانبها فرسه ويركز على بابها رمحه
ويعلق فيها شكته [2] ويرفع فوقها رايته، ويلبث هناك في نفر من مماليكه وبطانته
طول مدة الهدون والمتاركة، تتلاعب بخيمته الرياح المتناوحة. وتهطل عليه
السحب الغادية الرائحة. كل ذلك ليكون متبوَّؤه بمثابة مسلحة [3] للمسلمين تدرأ عنهم
الطوارئ. وهو فيها كربيئة [4] وعين تحرسهم من العدو المفاجئ.
يا سبحان الله! ما أشد كلف هذا الرجل ببذل ما وجب عليه. وما أنشطه
للقيام بحماية ما أُسند من أمر الأمة إليه. أما والله لو كان في الإسلام منقبة فوق
الخلافة الراشدة لوجبت لهذا البطل وكان أحق بها وأهلها. لِمَ نضنّ على الرجل بهذه
المفخرة الجليلة وهو قد سعى إليها سعيها؟ لِمَ لا نشيد بذكره وننوه باسمه على تعاقب
الأيام والسنين؟ لم لا يحفظ لنا تاريخنا شأنه ويوفيه حقه من الإطراء والثناء
والشكر؟ وحق الإنصاف لو كان هذا البطل في أمة اليونان القديمة لجذبوا بضبعه
إلى مصاف الآلهة وبوّءوا تمثاله أرفع مكان في (بانتيون)[5] .
أستغفر الله، إن هذا الإغراق في القول والتنطع في الوصف والتفنن في الألقاب
إنما بعثه في نفوسنا وهاجه في خواطرنا وحرك به ألسنتنا وأقلامنا ما نراه لهذا العهد
في أمراء المسلمين وملوكهم من التفريط في شؤون أممهم والتواكل في العمل للمّ
شعثهم، وإلا فالرجل لم يأتِ ببدع ولم يعمل عجبًا ولم يفعل ما فعل عن تبرع
وتطوع، ولم يلزم نفسه بمزاولة ما وراء المطلوب منه، ولم يكلفها بغير ما تتقاضاه
الذمة إياه، فهو إنما أتى بالواجب عليه لأمته وقضى حقًّا لها وقام بما تستوجبه
بيعتها؛ فإن للأمة على خليفتها حقوقًا وواجبات كما له عليها طاقة وإتاوات. وهذا
لم يكن بالشيء المجهول بين أهل الإسلام حتى عند عجائزهم.
ألم يبلغك قصة تلك العجوز مع الخليفة الثاني؟ حكي أن عمر رضي الله عنه
كان يعسّ حول المدينة فمر في تطوافه على خباء سمع فيه دندنة فتسمّع فإذا بعجوز
في صبية يتضاغَوْن (يتصايحون) من الجوع وهي تلهيهم وتعللهم بقدر وضعتها
على النار وجعلت فيها ماءً وألقت فيه حصيات، فجعل الأولاد كلما سمعوا أزيز
القدر هدءوا وهوَّموا فلامها عمر وقال: لِمَ لَمْ تأتِ الخليفة وتأخذي من بيت مال
المسلمين ما به كفايتك وكفاية أطفالك؟ فرفعت إليه بصرها وقالت له - كالمتعجبة-:
على أي شيء بايعناه إذا لم يتفقد حاجتنا ويتعهد ذوي الفاقة منا، بما يسد
عوزهم، ثم ذهب عمر إلى بيت المال واحتمل لهم بنفسه طعامًا وطلب من العجوز أن
تجعله في حل من هذه التبعة وكتب بذلك (قطًّا) أوصاهم أن يدسوه في مَطاوي
أكفانه. كل ذلك منه خشية أن يلقى الله وفي الأمة التي بايعته عجوز تدعي أنه لم
يفِ بحقوق البيعة. هذه هي الخلافة في الإسلام. هذه هي واجبات الخلافة المقدسة.
هذا هو الخليفة الذي يخشى أن تلحقه تبعة ولو من إحدى عجائز رعيته. هذه هي
الأمة التي تطالب بحقوقها. هذه هي الأمة التي خالط حب الحرية لحمها ودمها.
هذه هي الأمة التي يعرف كل فرد من أفرادها حتى العجائز، ما هو له وعليه. بهذه
المبادئ الشريفة سادت تلك الأمة على مَن ناوأها. بهذه المبادئ الشريفة غمرت
آداب تلك الأمة وتعاليمها سائر الآداب والتعاليم.
لا ريب أن الذكي الألمعي قد فهم مما ذكرناه عن نور الدين وصلاح الدين أن
البلاد الشامية لعهدهما كان فيها روح يمكنها به صد غارات الحملة الصليبية وفلّ
غربها، لكن بقي من شؤون تلك البلاد حينئذ شأن هو منها بمنزلة الأعصاب من
الجسم الحيواني، أو نسبة الشؤون إلى ذلك الشأن نسبة العين إلى بؤبئها الذي
تجتمع فيه الأشعة ويتوحد متعددها فتبصر العين المرئيات. ذلك الشأن هو الوفاق
والوحدة ليس ذلك بين الملكين المذكورين فقط، بل بين لفيف الأمراء والقواد
والأبطال ومساعر هاتيك الحروب. ومما يسر السامع ويزيد من ثلجه واستبشاره أنه
لم يكن تجاه الحملة الصليبية خليفتان كخليفتي غرناطة المشؤومة بل كانت الزعامة
الكبرى والسلطة العظمى في يد نور الدين والكل خاضعون له عارفون حقه واقفون
أنفسَهم على شد أزره وموازرته حتى إذا استأثر الله به وزفت الملائكة روحه
المباركة إلى حيث تسرح أرواح المقربين، قام بعده بالأمر صلاح الدين خير قيام
وساور وحده جميع ملوك الإفرنج ومارس أقيالهم وعلوجهم ودافع عن الوطن دفاعًا
قانونيًّا عرفه له الغربيون قبل الشرقيين، ولم تزل تلهج به ألسنة الإفرنج على اختلاف
اللغة والدين.
اتفاق أمراء الشرق حينئذ والتئام أهوائهم هو الذي سدد سهامهم في نحر العدو
ومكن عواليهم من مقاتله. نظروا رحمهم الله في سَوْرة تلك الحملة وشدة بأسها
وطغيان مدها وحدة تذمرها (تغيظها) ، فقابلوها من بأسهم بأشد، ومن طغيان هممهم
وحدتها بأطغى وأحدّ. علموا أن مغبة التفريط في صدها وخيمة، وعاقبة التخاذل عن
تلافيها مشؤومة فتآمروا وتذامروا [6] وأرهفوا أشفار العزائم ووطنوا النفوس على
استعذاب الموت الكريم أو تسترد عليهم بلادهم ويخلص إليهم استقلالهم. لا جرم
أنهم لو قصروا حينئذ في مدافعة العدو عن هذه البلاد وتقاعدوا عن تحريرها من
استرقاقه وانتياشها من فخ سلطته لما علم أحد غير الله ماذا كانت حالة الشعوب
الإسلامية الآن، ليست الشعوب المتوطنة في فينيقية وفلسطين فقط، بل كل
الشعوب المنتشرة على سواحل البحر المتوسط وسوريا وبين النهرين وجزيرة
العرب؛ فإن ثمانية قرون كفاية لضعضعة دين ومحو تعاليم وتغيير لغات وتبديل
عادات. فالذي حفظ علينا ديننا وتعليمنا ولغتنا وعادتنا منذ ثمانية قرون إلى الآن -
هو تلك الشرذمة التي كان يقودها البطل صلاح الدين.
تلك الشرذمة العربية التي اصطدمت بتلك الزحوف الأعجمية؛ فأركستها
وجعلت عاليها سافلها وأبلت في مصابرتها بلاءً حسنًا، تلك الشرذمة التي تقحَّمت
ذلك البحر الخضم وعرضت نفسها للهلك فيه أو تنتشل من لججه الإسلام ومَن يَدين
به إلى أبد الأبيد؛ خشية امِّحائه من لوح الوجود وتجلجله في أعماق العدم، حيث
تختلط نغيته بزمزمة [7] مادي وآشور وبابل والكلدان والرومان، تلك الشرذمة
التي اعترضت ذلك السيل المتحدر بغية وقايتنا - نحن الذين أدركتنا أوائل هذا
السيل ولما نتفق بعدُ على كيفية سكره [8] أو تحويله عن دراجه [9] .
واعجبًا! شرذمة تفعل ما لا تقدر مئات من الملايين أن تفعله لا جرم، أما
أن تكون هذه الشرذمة ارتقت من أفق الإنسانية إلى عالم سماوي أعلى، أو تكون
الملايين انحطت عن أفقها الإنساني إلى أفق البهائم والعجماوات.
ترى ما هو قدر استبشار العالم الإسلامي باتفاق هذه الشرذمة ونجدة أبطالها؟
ماذا كان وقع عملهم الشريف بين العوالم السماوية، وكيف كانت مظاهر التهاني بهم
في (ملا) الحظائر القدسية. لو ترى كيف كانت تتناغى حور الجنان بأحاديث
أولئك الأبطال، كيف كانت تتغنى بذكر وقائعهم ومجيد غاراتهم. كيف كانت أولئك
العذارى تتمسح برشيح عرقهم وتتنافس بطيبه؟ كيف كانت تتخطف رشاش دم
شهدائهم وتتضمخ بمسكه وتتزين بخضابه، بل لو تسمَّعت إلى برازخ أرواح أجدادهم
لسمعت عجبًا - تسمع لأصوات الابتهاج والبشرى طنينًا وصدًى في جو ذلك العالم
المهيب. تسمع ضجيج الفرح يترجرج فوق تلك الجماهير النيرة اللطيفة. ترى
أرواح الآباء تستنشق روائح أولئك الأبناء وتنتعش برياها تشوفًا وسرورًا. ترى تلك
الأرواح تسرح عصائب عصائب في فضاء ذلك العالم وتتزاور وتباهي بصنيع
خلائفها وبرهم بوالديهم. ترى تلك الأرواح ترفرف أسرابًا أسرابًا ولها حفيف حول
شجرة طوبى والبيت المعمور تستنزل الرحمة الإلهية لأولئك الأبطال وتناجي الحق
برضاها وتسأل رضاه عنهم وتجأر إليه بالدعاء وطلب الغفر لهم إزاء أيامهم المأثورة
وجزاء مساعيهم المشكورة، والله لا يضيع أجر المحسنين.
واختزال الكلام في هذا المقام أن العامل في خيبة الحملة الصليبية هو اتفاق
أمراء ذلك العهد ونجدتهم وعدلهم ومحاكاتهم للسلف في أعمالهم واحتذائهم مثال
الصدر الأول في أطوارهم؛ فكل ذلك حببهم إلى قبيلهم وأمَّنهم غائلة ثورته وأذى
نائرته ودفع بذلك القبيل إلى الاستماتة مع أمرائه في سبيل حماية الوطن وصيانة
الشرف، علمًا بأن التقاعد عن الدفاع مصيره فقد الجنسية واللغة والدين، وفي ذلك
الشقاء والذل والخزي أبد الآبدين.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
باغمها: حادثها بصوت رخيم.
(2)
شكته: سلاحه وعدة حربه.
(3)
المسلحة: موضع تمكث فيه المقاتلة ويلقون فيه أسلحتهم خوف مباغتة العدو.
(4)
الربيئة: العين يربأ العدو ويراقبه.
(5)
لفظ كان يطلقه اليونان على المعبد الجامع لآلهتهم وربما يقابله عند العرب لفظ الزون بضم الزاي، قال - في القاموس -:" الزون: موضع تجمع فيه الأصنام وتنصب وتزين ".
(6)
تذمروا: تحاضّوا على القتال.
(7)
النغية: الصوت اللطيف، والزمزمة: رطانة العلوج على الطعام التي لا تُفهم.
(8)
سكره: سده.
(9)
دراجه: مجراه.
الكاتب: محمد رشيد رضا
التربية النفسية
تدور التربية النفسية على قطبي الترغيب والترهيب؛ إذ هي عبارة عن
الحث على الفضائل والكمالات والتنفير عن الرذائل والنقائص، فالترغيب يحدث
الرجاء والأمل بالمثوبة وحسن الجزاء على العمل الصالح، والترهيب يورث الخوف
والرهبة من العقوبة. ووقوع البلاء على العمل القبيح. والخوف والرجاء هما
الجناحان اللذان يطير بهما المؤمن في جو السعادة الدنيوية حتى ينتهي إلى مقعد
الصدق في جوار الحق.
الترغيب حليف اللين، والرأفة والترهيب قرين الشدة والغلظة، ولكل من
الأمرين موضع يليق به ووقت لا يصلح فيه سواه.
ووضع الندى في موضع السيف في العلى مضر كوضع السيف في موضع الندى
وقد بحث علماء التهذيب في مسألة تغليب الخوف على الرجاء وعكسه وليس
هذا موضع بيان ذلك، وإنما نقول هنا: إن تربية الأطفال يُختار فيها اللين على
القسوة ويغلب الترغيب على الترهيب. خلافًا لجماهير الشرقيين الذين لا يفهمون
من تربية الطفل إلا شفاء الغيظ بنهره وسبه وإهانته وضربه كلما عمل عملاً لا
يرضى به أبواه أو أستاذه أو غيرهما من الأولياء والقُوَّام. وجدير بمن يسلك هذا
المسلك في تربية أولاده أن يعتقد أن التربية لا تنفع ولكن قد تضر؛ لأن هذه
المعاملة - معاملة الغلظة والإهانة - تُفسد الأخلاق وتسيء الأعمال. ولا أذم هذا لأنني أستحسن ما يقابله عند الأغنياء والمترفين من قومنا الذين يرخون لأولادهم
العنان ويتركونهم لطبيعتهم يتمتعون بأهوائهم ويسمونهم (مدلَّلين) . كلا، إن هذا شر
من ذاك وليس هو مرادنا باللين الممدوح. وكيف نجعل هذا الإهمال من التربية
والعامة أنفسهم لا يسمونه تربية، أمَا تسمعهم يقولون:(فلان مدلل لم يتربَّ) !
وهذا القول صحيح وإن كان مبنيًّا على فاسد وهو أن التربية هي الإهانة والغلظة في
المعاملة كما علمت تفريط وإفراط، والحق في الاعتدال وهو المطلوب في كل حال.
أما مضرة الغلظة والخشونة وآثارهما فهي من وجوه كثيرة، وإننا نمثل لك
بعضها تمثيلاً.
إذا كنت تهين ولدك وتشتمه عند صدور الذنب منه لأجل أن يكف عنه ولا
يعود إليه - فلا شك أنك تطبع في نفسه بذلك رذائل كثيرة تتولد منها ذنوب لا
تُحصى، كل واحد منها ربما تزيد مضرته على مضرة الذنب الذي كان سبب
الإهانة، وإذا كان الذنب الذي أُهين من أجله مما يتولد من تلك الرذائل فيزداد رسوخًا
ويقوي الملكة؛ لأن الأعمال حسنها وقبيحها تطبع الملكات في النفوس، وقلما تكون
الإهانة - لا سيما القولية - سببًا لترك الذنب وكثيرًا ما تكون مغرية به وباعثة
للإصرار عليه. وإنما يحال بين الوليد وبين الأفعال الذميمة التي يكون معرضًا
لاقترافها بقطع أسبابها عليه، من حيث لا يدري كما سنوضحه فيما بعد.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشعر العصري
أبيت ومن نفسي لنفسي لائم
…
يخاصمني طورًا وطورًا أخاصم
تجردت من نفسي فأبصرت أنها
…
سواي ولي منها سمير ينادم
فأشكو له بثي وحزني وتارة
…
يبث لي الشكوى وما هو ناقم
يخاطبني أربع على ظلمك [1] الذي
…
تريد محال عن ما أنت رائم
وقال ألم تدرِ بأنك عائل
…
بمظهر مثر والمجالي حواكم
وإن ما في نفع أمته غدًا
…
مرومًا به ما لا تطيق الروائم [2]
فقلت له هيهات ما أنا يائس
…
ولو أن لي هذا الزمان مقاوم
فقد خاب من هاب العوادي وإنما
…
(على قدر أهل العزم تأتي العزائم)
فقال اتل لا تلقوا فبسملت قارئًا
…
ولا تيأسوا من روحه فهو راحم
كذلك شأني في الدجى طول ليلتي
…
أراني في لوم وما ثَم لائم
وأرضك [3] للتسهيد والنوم أعيني
…
فلا أنا يقظان ولا أنا نائم
وكيف يذوق النوم ولهان قرحت
…
محاجر عينيه الدموع السواحم
له من جيوش الفكر كل ليلة
…
وقائع يصلَى نارها وملاحم
أبيت على ذا كله وعواذلي
…
على سُرُر فوق الحشايا نوائم
رجال بهم طبع الأنوثة سائد
…
فلم تغنِ عنهن اللحى والعمائم
يريهم قصور العقل أن الظهور في
…
عوالي قصور للظهور قواصم
وإن بتقليد الأوربي عزهم
…
وما هو إلا ذلة ومآثم
وأعرق كل الناس بالنقص مقهل [4]
…
تكلف أن تجبى إليه الذمائم
سعادته أن لا يزال ممتعًا
…
بما فضلته في جناه البهائم
وأُشرِب حب المال في قلبه فلا
…
تراه يبالي كيف تأتي الدراهم
يبيع بها الأوطان والدين يشتري
…
بها وصل حب أغيد الجيد باسم
وضل على علم به فإلهه
…
هواه وتلك الواجبات المحارم
لئن هام في حب الحسان فإنني
…
بحب جمال الدين لا الجسم هائم
حكيم بأفق الشرق لاح فأشرقت
…
بأنواره تلك في الغرب تلك المعالم
وطاف بقاع الأرض طائر صيته
…
فنعمت خوافي ريشه والقوادم
وجاء لدين الله بالحق حجة
…
تقصر في البرهان عنها الصوارم
دنت منه أفنان الفنون يوانعًا
…
فنال جنى جناتها وهو ناعم
أحاذر أن آتيه بعض حقوقه
…
فتفطن بي عذّالنا واللوائم
ولست أسمي عذّلي في تعلقي
…
بأسباب حبيه لما أنت عالم
(ومنها)
وأزلف من غير ازدلاف ولم تكن
…
دواعي ترقيه رقى وطلاسم
ولكن سجايا قد سمت ومعارف
…
بها هتفت في الخافقين العوالم
عفاف وعدل حكمة وشجاعة
…
فهل بعد هاته في السجايا كرائم
فإن زاحم الشاني علاه بمظهر
…
فثم مزايا أعجزت من يزاحم
وما اشتبها في مظهر بل تشابها
…
كما شابهت بعض الذباب التوائم [5]
فهل يتساوى بالمراد المريد أم
…
تفاخر أملاك السماء البهائم
وبالضيف يسوى واغل متطفل
…
لأن كِلا الشخصين حاس وطاعم
فهيهات ما البدء السري كمقنس
…
دَعِي وذو جهل كمَن هو عالم [6]
ورُب حسود راح ينكر بعض ما
…
خصصت به والله للفضل قاسم
لقد قرعت آي انفرادك في الورى
…
مسامعه لكنه يتصامم
وباح لعينيه الوجود بسرها
…
ولكن تعامى وانثنى وهو كاتم
يصانعه بالمدح قوم تَقِيَّة
…
ولا حجة فيما يقول المآثم [7]
إذا ما دُعي رب الفصاحة والندى
…
فبأقلهم قس وما در حاتم
ومن طمست بالعجب عين فؤاده
…
فليس له من أمر ربك عاصم
فيا أيها الحبر الذي لطف طبعه
…
كروض أريض باكرته النسائم
ويا أوحدًا في حبه لست أوحدًا
…
فثم الأثابي جمة والتوائم [8]
ومن فصلت من عالم القدوس روحه
…
ونِيطت بجثمان له الأم فاطم
نفخت بجسم الشرق روح تنبه
…
وقد كاد يقضي وهو بالجهل نائم
فهبَّ بَنوه للمعالي وحاولوا
…
نهوضًا فحالت دون ذاك الصواكم [9]
فأوضحت أعلام السلوك وإنما
…
بآفاقهم غيم الونى متراكم
غزلت ولم ينسج سواك دقيق ما
…
غزلت ولم تكسر لديك المبارم [10]
وأبديت من سحر البيان عجائبًا
…
هي العروة الوثقى لمَن هو حازم
ولو أن أعمال الإدارة قارنت
…
إرادتكم ما قاربتها المآزم
ولكن أباها الحاكمون فكارِه
…
لها جاهل أو مُكرَه وهو عالم
يدليه شيطان العدا بغروره
…
وللوهم سلطان على النفس حاكم
فأواه من دهر يقدم معشرًا
…
مغانم هذا الشرق فيهم مغارم
(ولها بقية)
_________
(1)
تقال هذه الكلمة لمَن يحاول ما لا يطيقه.
(2)
الروائم: الأثافي؛ أي: أحجار القدر.
(3)
أرضك عينيه: غمضهما وفتحهما.
(4)
أقهل الرجل: تكلف ما لا يعنيه دنس نفسه.
(5)
التوائم: النجوم المشابكة والمراد ببعض الذباب الحباحب (سراج الليل) .
(6)
البدء: السيد الأول في السيادة والمقابل بفتح الباء: كريم النسب من الأبوين، والمقنس: المدعي إلى قنس شريف وهو خسيس.
(7)
الكَذوب.
(8)
الأثابي: الجماعات، والتوائم: الأزواج.
(9)
النوائب.
(10)
المغازل.
الكاتب: محمد رشيد رضا
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع عدد 36 من السنة الأولى)
(دَيْن تركيا) :
جرت بين تركيا ودائنيها مخابرات على خطة من الصدق ارتاحت إليها أنفس
هؤلاء فأحلوها محلها من القبول وسارت من على نمط من الحنق عجيب يشاكل
المعجزة في خواصها فأفضت إلى حل مسألة الدين في 20 ديسمبر سنة 1881.
وكان كل الدين قد بلغ في ذلك الوقت 254292000 جنيه إنكليزي؛ لأن القروض
التي حصلت في عهد السلاطين السالفة من سنة 1858 إلى سنة 1875 وفي ضمنها
قرض السهام التركية ذات الفائض وهو رأس مال إيراده السنوي 14000 فرنك عن
كل كيلو متر من السكك الحديدية التي تنشأ في تركيا تضمنه سكة حديد الرومللي كل
هذه القروض مجموعها يبلغ 218436540 جنيهًا إنكليزيًّا وكان الذي دفع من هذا
المبلغ إلى وقت تأخر تركيا عن دفع أقساط الدين (الكوبون) هو 25947825
جنيهًا إنكليزيًّا فنقص بذلك الدين إلى 192488715 جنيهًا إنكليزيًّا، لكن بسبب
زيادة مبلغ 61803915 جنيهًا وهو متأخرات الفوائد المستحقة من شهر سبتمبر سنة
1875 قد وصل مجموع الدين العمومي في 20 ديسمبر سنة 1881 إلى المبلغ
السائب ذكره أي: 254292000 جنيه.
يجب أن يضاف إلى هذا المبلغ هذه المبالغ الأخرى وهي:
أولاً: مبلغ 8590000 جنيه مجيدي وهو مجموع مبالغ اقترضت من
مصارف غلطة قبل حلول سنة 1880 سدًّا لحاجات الخزينة وذلك الفرع من الدين قد
تنازلت بسببه حكومة تركيا لدائنيها بمقتضى الاتفاق المبرم في 22 نوفمبر - عن
إيرادات الِملْح والتبغ و (المشروبات الروحية) وطوابع البوستة والحرير والأسماك.
ثانيًا: الغرامة الحربية المستحقة لروسيا بمقتضى معاهدة الصلح وهي تقرب
من مبلغ 802500000 فرنك.
ثالثًا: التعويض المستحق للتجار الروسيين بسبب خسائر الحرب من سنة
1877 إلى سنة 1878.
لم يكن الغرض من الاتفاق المبرم في 20 ديسمبر سنة 1881 التعويض لما
كان يتوقع أن يكون لروسيا قبل تركيا من المطالب؛ فإن معاهدة برلين قد كفت
المتفقين مؤنة البحث في ذلك؛ إذ نص فيها صريحًا على أن هذه المطالب يقوم
بأدائها حاملو السندات التركية وإنما كان القصد من الاتفاق المذكور حينئذ مجرد
البحث في مسألة الدين العمومي.
بني هذا الاتفاق على أمرين؛ أحدهما: الحقيقي، وهو مجموع القروض التي
حصلت في سنين 1858 و 1860 و 1862 و1863 و 1865 و 1867 و 1872
و1875 والثاني: الأسهم التركية، وقُسم الدين الحقيقي هكذا:
أولاً: مبلغ 176756510 جنيهات إنكليزية وهو مجموع القروض الثمانية
المذكورة، استنزل منها مبلغ 18932060 جنيهًا إنكليزيًّا هو مجموع تسديدات
(استهلاكات) مختلفة حصلت إلى وقت كف تركيا عن دفع أقساط الدين واستنزل منه
بعد ذلك أيضًا مبلغ 8668450 جنيهًا إنكليزيًّا، كان إذ ذاك في الخزينة فانحط بذلك
رأس المال المقترض إلى 159156000 جنيه إنكليزي.
ثانيًا: مبلغ 1829685 أصدرت به سندات وقتية تدعى سندات رمضان
بمقتضى إرادة سنية صدرت في 6 أكتوبر سنة 1875 الموافق 6 رمضان سنة
1292 من أجل سداد المبلغ المستحق في سبتمبر سنة 1875 وهذه السندات تعطي
لحاملها الحق في نصف الربح ونصف المبلغ المستهلك من الدين بسببها.
هذا المجموع العام هو مبلغ 160985688 جنيهًا إنكليزيًّا قد نقص إلى مبلغ
92225827 جنيهًا إنكليزيًّا ومنشأ هذا النقص حط الدائنين لتركيا من رأس المال
الأصلي 71. 42 في المائة وهذا المبلغ كان يعطي فائدة سنوية قدرها 1 في المائة
وكان في حالة من شأنه فيها أن يزيد ربحه تدريجًا تبعًا للظروف إلى 4 في المائة.
أما الأسهم التركية فقد جزئت إلى 1980000 سهم قيمة كل منها 400 فرنك
وربحه السنوي 3 في المائة تسدد (تستهلك) في 104 سنين بست سحبات سنوية
تحصل في أول فبراير وإبريل ويونيه وأغسطس وأكتوبر وديسمبر من كل سنة.
والذي استهلك منها حتى أول أكتوبر سنة 1875 هو 11000 سهم من ذات
الأربعمائة فرنك أي: 4440000 أو 177600 جنيه إنكليزي وبقي منها في أيدي
حامليها ما قيمته 31512400 جنيه إنكليزي وقد نقصت قيمة كل سهم من هذه
السهام بمقتضى اتفاق 20 ديسمبر سنة 1881 - 09. 45 في المائة فصار ثمن
السهم على صورته الجديدة 180 فرنكًا و36 سنتيمًا، وحدد رأس مال السهام التركية
الجديدة بمبلغ 14211406 جنيهات إنكليزية. بلغ عدد السندات التركية ذات
الفائض التي أصدرت في خلال المدة الفاصلة بين الأمرين العاليين الصادرين في
أكتوبر وديسمبر سنة 1875 وجعل استهلاكها في هذه المدة 15350 سهمًا وهي
رأس مال اسمي قدره 28180000 فرنك وقد جعلت تركيا لنفسها في هذه السهام
الحق في حطيطة 25 في المائة من الدفعة السنوية المضافة إلى السهام التركية من
عهد رجوعها إلى دفع الأقساط والمضافة أيضًا مبلغ العشرين في المائة من قيم
السهام ذات الفائض المستهلكة.
كفت تركيا عن دفع فائدة السهام ولم يكن عليها أن تعود إلى الدفع حتى يتوفر
لديها مبلغ يزيد عن اللازم لسد طلبات السندات ذات الفائض، فإذا توفر هذا المبلغ
تكون الفائدة مستحقة الدفع هي وقيم السندات المسحوبة. ولما نقص الدين بهذه
الطريقة قد خصصت الحكومة التركية لمصلحته جملة إيرادات تنازلت عنها لدائنيها
حتى يتولوا إدارتها بأنفسهم وهذه الإيرادات هي
…
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مسألة القضاء الحاضرة
بعد أن جعلنا المنار مجلة أخذنا على نفسنا ألا نناقش الحكومة على أعمالها
ولو كانت مخطئة في اعتقادنا وقد ذكرنا مشروع المحكمة الشرعية في الجزء
الماضي وكدنا نخرج فيه عن جادتنا الجديدة بسبب تأثير الحالة العامة؛ حيث ذكرنا
شيئًا من حُجة المنتقدين على الحكومة مع الإقرار عليها، فقلنا: (وظهر لجماهير
المصريين أن تولية قاضي مصر من حقوق السلطان الأعظم لا من حقوق الجناب
الخديوي) ولكن مع ذلك قام بعض الناس ينتقد عبارة قلناها في الموضوع تمهيدًا
لنصيحة دينية أردنا بيانها بالإيضاح إذا عين سمو الخديوي قاضيًا لمصر. قصاراها
أن أحكامه تنفد.
وقد نقل المقطم عنا تلك العبارة وهذا ما دفع ببعض الناس إلى انتقادها وزعمهم
بأنها تدل على أن للجناب الخديوي أن يولي قاضي مصر؛ ولهذا اضطررنا إلى
توضيح المسألة بعض التوضيح (وإن قرر مجلس النظار برئاسة سمو الخديوي في
يوم الخميس إبقاء قاضي مصر في منصبه وغضّ النظر عن مشروع انتداب
القاضيين من الاستئناف للمحكمة الشرعية العليا) ، فنقول:
لو ولى الخديوي القاضي فلا يخلو الحال في الواقع من أن تكون التولية بحق
بأن يكون مأذونًا بها من صاحب الحق، والأمر حينئذ ظاهر، أو تكون بالتغلب
وحينئذ تنفذ للضرورة، كما كانت الأحكام نافذة في السلطة العثمانية في أفضل
أيامها من عهد السلطان عثمان إلى عهد السلطان سليم الذي لُقب بالخليفة، وكما تنفذ
أحكام القضاة في هذه العصور ومع عدم استيفائها الشروط المنصوصة. ونقول مع
ذلك: إن سمو الخديوي ما دام يعتقد أن السلطان العثماني خليفة المسلمين فلا شك أنه
لا يجوز له تولية القضاة إلا إذا علم أنه مأذون منه بها وإذا ولى يكون الإثم عليه،
ولكن الأحكام الشرعية لا تتعطل؛ لأن تعطيلها أعظم حرج في الدين وهو مدفوع بنص القرآن.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
العز والذل
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) .
قالت السادة الصوفية إن الإنسان مجمع الحقائق ونسخة صغيرة تمثل العالم
الكبير، فروحه من عالم الملكوت الأعلى، وجسمه من عالم الملك الأسفل، وقد
خُلق في أحسن تقويم، فكان سيدًا لهذا العالم العظيم، وجعله الله في أرضه خليفة،
وكفاك بها منقبة شريفة، استعد بها لتسخير الحيوان لخدمته، وجعل قوى الطبيعة
تحت مشيئته بحيث يتصرف بجميع ما على وجه البر، ولا يتعاصى عليه شيء مما
في قاع البحر، بل بلغت به قدرته أن طار في الهواء، واستنزل البرق من السماء:
وتزعم أنك جرم صغير
…
وفيك انطوى العالم الأكبر
إذا رُبي الإنسان على مبدأ كرامة النفس التي منحها إياه مُبدِعه وبارئه تظهر
فيه استعداداته وتبرز عنها آثارها علمًا وعملاً؛ حتى يفوز بالسيادة والسلطان. وتتم
له الخلافة الإلهية في الأكوان. ولكن اعترض الإنسان في سبيل هذه التربية النافعة
التي تهديه إليها الفطرة القويمة استبداد الذين أداروا دولاب مجتمعه بسياسة تغلب
العصبية. أو باسم السلطة الروحية الدينية، ولا استغناء له عن هاتين السلطتين؛
لأنهما من لوازم الاجتماع المدني وهو مدني بالطبع.
ولقد كان من رحمة الله تعالى بهذا النوع الشريف أن منحه الديانة الإسلامية،
التي محت الامتيازات الجنسية، وقيدت بشريعتها السلطتين السياسية والروحية،
(كما أوضحنا ذلك من قبل) ووضعت أصل المساواة بين الناس، حتى إن الخليفة
الثاني لم يبالِ في سبيل المساواة بردة جبلة بن الأيهم ملك بني غسان وكان قد أسلم
هو وقومه ولطم أعرابيًّا في المصاف فأراد عمر أن يقتص منه فأبى وفر مرتدًا إلى
النصرانية، وقد علمت ما كان من مساواته بين الإمام علي وبعض آحاد اليهود،
فأي عزة لمن يدخل في هذا الدين أعلى من مساواته بالأئمة والملوك؟ وأية نهضة
وسيادة تكون أرقى من سيادة أمة يرى كل صعلوك من أهلها أنه يزاحم بالمناكب
أصحاب العروش والمواكب؟ فإن قيل: إن هذا إذلال للملوك وإهانة للأئمة، نقول:
نعم، إنه كذلك في شريعة الاستبداد وقانون الاستعباد أما في شريعة الحق وقانون
العدل فإنه لا ذل ولا هوان في المساواة وإنما الذل في النقصان ولا عز ولا كرامة
في الاستعلاء وإنما هو بغي وطغيان.
عزة النفس تتبعها الشجاعة والمنعة وعلو الهمة وكلها من خلال الإيمان، ألم
تر أن الإمام العادل عمر بن الخطاب كتب إلى سعد بن أبي وقاص حين استجازه في
انتفاع سلب الجالنوس من زهرة بن حوبة وكان زهرة قد قتله وأخذ سلبه يوم
القادسية فانتزعه منه سعد، (تعمد إلي مثل زهرة وقد صَلَى بما صَلَى به [1] وبقي
عليك ما بقي من حربك وتكسر فُوقه [2] وتفسد قلبه) ، وأمضى له عمر سلبه. وقد
بيَّن الحكيم الإسلامي ابن خلدون أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم،
ذاهبة بالمنعة منهم، ومما قال في هذا:
(وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية؛ لأن وقوع العقاب به
ولم يدافع عن نفسه يُكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك وأما إذا كانت
الأحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء (لمرباه)
على المخافة والانقياد فلا يكون مدلاً ببأسه؛ ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل
البدو أشد بأسًا ممن تأخذه الأحكام ونجد أيضًا الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن
مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم
كثيرًا ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه. وهذا شأن طلبة العلم
المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجلس
الوقار والهيبة فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس. ولا تستنكر ذلك بما وقع
في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا
أشد الناس بأسًا؛ لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان
وازعهم فيه من أنفسهم لما يُتلى عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم
صناعي ولا تأديب تعليمي، إنما هي أحكام الدين وآدابه الملقاة نقلاً يأخذون أنفسهم
بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق، فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما
كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم، قال عمر رضي الله عنه: (مَن لم يؤدبه
الشرع لا أدبه الله) ، حرصًا على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه ويقينًا بأن
الشارع أعلم بمصالح العباد. ولما تناقص الدين في الناس وأخذوا بالأحكام الوازعة
ثم صار الشرع علمًا وصناعةً يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة
وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم، فقد تبين أن الأحكام
السلطانية والتعليمية مفسدة البأس؛ لأن الوازع فيها أجنبي، وأما الشريعة فغير
مفسدة؛ لأن الوازع فيها ذاتي) اهـ.
أقول: وقد اهتدى إلى هذا أهل الغرب فتلافوا بقدر استطاعتهم ضرر
السيطرة والحكم وأقاموا جدار التربية والتعليم على أساس العزة والكرامة والحرية والمساواة وإذا كان هذا هو أثر التأديب والحكم بطبيعته أي وإنْ كان عادلاً فما بالك بمَن يحكمون بالظلم والاستبداد؟ ! لعمرك، إن تأخر الأمم على نسبة الظلم
فيها شدةً وضعفًا. ثم إن الديانة الإسلامية مع أن الوازع فيها ذاتي لا يذل النفس ولا
يُذهب بالبأس، وقد جعلت عزة النفس وكرامتها من سجايا الدين بشهادة {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) ومن أحكام شريعتها أنه لا يجب على
مَن فقد ثوبًا يستر به عورته في مصلاه أن يستوهبه أو يستعيره لما في ذلك من المذلة
للناس، بل يصلي عاريًا. وليس وراء هذا غاية في حفظ كرامة النفس
وعزتها.
بهذا ساد الإسلام واستخلف أهله في الأرض، وبدلوا من خوفهم أمنًا، ومن
بعد فقرهم وضعفهم غنًى وسلطانًا. وبهذا كان المجتمع الإسلامي لا يحتمل الضيم،
فهاج تلك الهيجة الشؤمى على الخليفة الثالث انفعالاً من ظلم عماله وسوء أعمالهم
دون أعماله ولم تفتأ قدر الهيجان إلا بعد طل دم تأثرته سيوف مسلولة، ودماء
مطلولة، ومن كان يعلم ما خُبئ لهذه الأمة في ضمير الغيب من تحريف التعاليم
والانحراف عن الصراط المستقيم؟
انحراف الملوك عن هدي الدين فاستبدوا بالرعية وأذلوها حتى انتكث فتلها،
وسحبت مرائرها. وصارت طعمة لكل طاعم، وبلغت المهانة من الأمة التي قتلت
عثمان في القرن الأول - خير القرون - أن صارت تقدس الملوك والأمراء الذين
يمتصون دماءها ويهتكون أعراضها ويستلبون أموالها حتى من الجهة الدينية. وقد
بلغ من أمر بعض سلاطين المسلمين لهذا العهد أن أحد المارقين قال: إن حبي
للسلطان أشد من حبي لله تعالى! فأمر له السلطان بخمسمائة جنيه جزاءَ هذا
التهور، وسرق مصحف من المكتبة السلطانية ثم وجد وأرجع إليها فكتبت إحدى
الجرائد أن المصحف قد رُفع إلى الأعتاب السلطانية، فاستكبر ذلك واستنكره
بعض رجال الحاشية وأخبر به السلطان طالبًا منه أن ينهى عنه فانتهره وأهانه
…
ولا أُسمي هذا السلطان فهو يعرف نفسه ويعرف له هذه الأعمال الألوف من رعيته،
ومع ذلك كله ترمي جماهير المسلمين كل مَن ينسب له ولغيره من ملوكهم أدنى
تقصير - بالمروق من الدين، ويعدونه عدوًّا للمسلمين، فأي انحراف عن الإسلام
أشد من هذا الانحراف؟ !
وحرف بعض رجال الدين التعاليم، وأزاغوا الأمة عن صراطه فطفقوا ينفثون
في أرواح المسلمين سم الذل والمهانة باسم الدين حتى أماتوا هممهم ومحوا من ألواح
نفوسهم آيات العزة الإيمانية، والشهامة الإسلامية ولولا أولياء الشيطان وخطباء
الفتنة لما قدر الملوك بظلمهم على كسر سورة الحمية الإسلامية؛ لأن المسلمين لا
يذلون إلا لسلطان؛ ولذلك خلق علماء السوء الأحاديث الموضوعة في تعظيم
السلاطين، وإعلاء شأنهم على جميع العالمين. وسنبين فساد ذلك في وقت آخر.
ولا شبهة لوعاظ السوء على أن الذل والمهانة من الدين إلا إدخال ذلك في
مفهوم التواضع جهلاً وغباوةً وخداع الناس بحكايات عن بعض المتصوفة الذين لا
يُحتَج بأقوالهم، ولا يُقتدَى بأعمالهم، وهذا من أعظم المفاسد التي دخلت على الأمة
باسم التصوف وأهل التصوف الحقيقيون براء منها.
امتازت طائفة الرفاعية على جميع فرق المتصوفة باللفظ في هذا وزعموا أن
شيخ الطائفة الكبير أحمد بن الرفاعي قد يسبق جميع الأولياء إلى المقامات العليا
بالعدل والانكسار وأنه طرق جميع الأبواب الموصلة إلى الله تعالى فوجدها مزدحمة
بمريدي الحق وأهل قربه إلا باب الذل والانكسار فإنه وجده خاليًا فسبق القوم منه
(وإذا صح هذا فما دخلوه إلا لكونه غير موصل إلى الله تعالى فالنتيجة باطلة)
وينقلون عنه من ذلك أنه كان يتمرغ بتراب المقابر والطرق، وأنه كان ينام على
الطريق ويُسجَّى بنحو حصير ليطأ عليه الناس وأنه كان يؤاكل كل الكلاب الجربَى
ويسلم عليهم وعلى الخنازير ويحييهم وأنه كان يقبِّل الأرض والأحذية لأهل الجاه
والمظاهر ويقبل الشتم والإهانة والرمي بالإلحاد من غير أدنى انفعال وتأثر بل مع
التصديق ويزعمون أن هذا من مقامات الدين {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ
المُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8) وإذا صح هذا كله فأحسن ما يقال فيه إنه
عن جذب خرج به صاحبه عن التكليف فلا يُلتفت إلى عمله ويحذر الناس منه؛ لأن
الدين والعقل والفطرة ترشد إلى السعادة البشرية ولا تنال إلا بعزة النفس وكرامتها ما
لم ينتهِ إلى الكبر وفي الحديث: (غمط الحق واحتقار الناس) ، فكرم نفسك ما
استطعت واجتنب هذين الأمرين، وأما التواضع فهو وسط بين الكبر الذي هو إفراط
في العزة وبين الذل الذي هو تفريط فيها وسنتكلم على الكبر والتواضع في مقالة
مخصوصة إن شاء الله تعالى.
هذا، وإن بعض المؤرخين قد أثنى على الشيخ أحمد الرفاعي الكبير بالصلاح
والتفقه وأرى من حسن الظن أن يؤخذ بقول هؤلاء ويرفض ما في كتب المناقب
التي من شأنها تؤلف للإغراب والإعجاب؛ فإن شذوذ هؤلاء القوم هو الذي جعل
الناس يتهمونهم بالخروج عن الشريعة [3] وقد أقمت الأدلة الكثيرة في كتاب (الحكمة
الشرعية) ، على أن هذه الكتب التي نشرها الرفاعية في هذه السنين وفيها من
التلاعب بالدين العجب العجاب - كلها مزورة لا تصح نسبتها للمتقدمين، على أنه
يحتمل أن يكون ما نُسب لابن الرفاعي من ذلك كان في بدايته ثم رجع عنه وحسنت
حاله وإن لم يقل ذلك الذين ينالون فيه بالإطراء حتى كادوا يفضلونه على الإنسان بل
حتى إن أشهر شيوخهم يجعل حضرة الذكر أدوارًا - دور يذكر فيه الله ودور يذكر
فيه الرفاعي - وهكذا شأن الجاهل يريد المدح فيذم، ويحاول النفع فيضر، وغرضنا
من ذكر هذه الكتب أن لا يغتر بها الجهلاء الذين يتوهمون أن جميع ما في الكتب
صحيح والله الهادي إلى سواء السبيل.
_________
(1)
أي في الحرب يقال: صَلَى النار وبالنار: إذا قاسى حرها واحترق بها وصلى بالأمر: قاسى شدته.
(2)
الفوق بضم الفاء: مشق رأس السهم، حيث يقع الوتر ويأتي بمعنى النصيب.
(3)
راجع الصفحة 315 من كتاب لطائف المنن للشعراني المطبوع بالمطبعة الأميرية سنة 1288.
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
استنهاض همم
(6)
هذا ما كان من أمر المسألة الشرقية في القرون الوسطى، وأما شأنها في
الأعصر المتأخرة، فمُباين جدًّا شأنها الأول، رأى القوم أن الزحف على الشرق
بالقوة، وإعمال السلاح في شعوبه فيه إنهاك للبشر وضعضعة لأسس الاجتماع
الإنساني وهذا مفوت لمقصودهم، مانع مما يتوخونه في قيام دولهم، وراحة شعوبهم
إلى تأسيس الدولة ورفع بنيتها لها، يكون على قواعد وأركان، فيها تكاثر أفرادها
ونمو مواليدهم وانتشار أمور الصناعة، وطرق الزراعة بين أهلها، ودوران دولاب
التجارة فيهم؛ ليكون عاملاً على ترويج المصنوعات، وتصريف المحصولات،
وروح كل ذلك الوئام بين الأفراد والطوائف؛ فيورثهم تضافرًا وتعاونًا على تأييد
صناعتهم وزراعتهم، وصيانة مصالحهم العامة من الاختلال والاضمحلال، فافتتاح
الأقاليم بمقاليد الصوارم، وإخضاع أعناق المماليك بصدور اللهازم، والتغلب على
شعوبها بالحرب وسفك الدم، هادم بنيان الدولة قد عثر (مقوض) لقواعدهم
وأركانها، الحرب تحصد البشر وتمحق أرواحهم، وتوقف دولاب التجارة، وتبطل
حركته، وبوقوفه تتقهقر الصناعة والزراعة، والحرب تشرب قلوب المغلوبين
أَوغَارًا وأحقادًا على الغالبين، وتلوث نفوس هؤلاء بالريبة والحذر من أولئك، وزِِد
على ذلك ما إذا كان في القبيل المغلوب طوائف متضافرة متناصبة، وكان ضلع
القبيل الغالب مع إحدى تلك الطوائف، فإن أخوف ما يخاف على الدولة الغالبة
حينئذ استشراء الفتن في داخليتها، وشبوب نارها بين الشعوب المكونة لهيئتها،
وفوق ذلك كله: مناظرة الدول بعضها لبعض، وتسابقها في حلبة التمدن، وطمع
كل منها في إحراز النصيب الأوفر من الحضارة والعمران، واستتمام النظام
الاجتماعي، فلو تهورت إحداهن وتقحمت حربًا جرت عليها ضعضعة في الداخل،
وضعفًا في الخارج، كان ذلك باعثًا لأخواتها على مد أيدي الطامعين إلى أطرافها،
بل مدعاة لتطلعهن للظفر بقلبها. هذا ما أشعر قلوب الأمم الغربية التخوف من
الحرب، والتهيب لسوء عقابها، وحدا بهم لتنكُّب سبيلها، وسلوك سبل أخرى تؤدي
إلى ما تؤدي إليه الحرب من الفتح، والتغلب بدون أن يعترض سالكها ما يعترضه
في سلوكه سبيل الحرب، وتلك السبل هي شؤون مؤلفة من تعاليم دينية - سرية
وجهرية - ومبادئ فلسفية وأدبية، ووسائل تجارية وزراعية وصناعية، تتمشى
في الشعوب والبلدان، تمشي الوسن في الأجفان، وراء كل هذه الشؤون المعنوية
قوة من الإرهاب والتهويل والتخويف والتهديد، تؤيد تلك الشؤون وتحميها، فإذا
أجزأ ذلك، وكفى في التغلب على الشعب المطموع فيه، وافتتاح بلاده والإعزاز
بالقوة الجهنمية قوة الموزير والمكسيم، فأنت ترى أن تلك الشؤون السلمية المعنوية
التي اعتمدت عليها لدول في قهر شعوب الشرق، وإن لم تكن حربًا، فهي معتمدة
على الحرب معضدة بها، أو الحرب منها بمنزلة الروح من الجسد، هو يتقلب في
وظائفه، ويراوح بين أعماله، والروح تدبره وتسدد حركاته.
منذ اهتدت أوروبا إلى هذه السبل، والشؤون في الاستيلاء والفتح، أعملتها
في المسألة الشرقية، وتغلبت بها على جزء عظيم من ممالك الشرق وأصقاعه،
وأوقعت في فخاخها كثيرين من أقوامه وشعوبه، وهي لا تزال تنصب هذه الفخاخ،
وأمم الشرق لا تزال تقع فيها الواحدة بعيد الأخرى، كأن على البصائر رينًا، أو
على الأبصار غشاوة، ولم تكتب السلامة على واحدة منهن سوى أمة اليابان وربما
كانت مكتوبة أيضًا لأمة الأحبوش، وقد أتينا على تفصيل ذلك أولاً، أما سائر الأمم،
فيختلف قربها وبعدها من تلك الفخاخ باختلاف حسن الإدارة الداخلية في تلك الأمم
وقبحها، وانتظام شؤونها المالية والعسكرية وعدمه، وكثرة تنور أهلها بالعلم
والعرفان وقلته، وهكذا استعمار أوروبا في الشرق بلغ من النكاية في المسلمين مبلغًا
لم يبلغه في سائر أممه على اختلاف أديانها ولغاتها، ونكلت بهم سلطة الأجانب
تنكيلاً تركهم مثلاً وعبرة لكل معتبر غيرهم- إنكلترا تسوس من مسلمي الشرق
سبعين مليونًا ويتلوها هولانده في الجاوه فإنها تسوس ثلاثين مليونًا ثم البلجيك في
الكونغو وتسوس عشرين مليونًا ثم فرنسا وتسوس سبعة عشر مليونًا ولروسيا
وتسوس خمسة عشر مليونًا ثم وثم حتى الجبل الأسود يسوس من المسلمين أربعة
عشر ألفًا.
وبينا نسوس الناس والأمر أمرنا
…
إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
ومجموع ما هو تحت سلطة الأجانب من المسلمين يناهز مائتي مليونًا، والذي
لم ترهقه بعد تلك السلطة يشارف مئة مليوناً، وهذه المئة المستقلة منها خمسون
مليونًا مندمجة في إمارات بسيطة هي أقرب إلى البداوة منها إلى الحضارة، ومطوية
في قبائل رحل ضاربة في موامي إفريقيا وفيافي آسيا وجزيرة العرب ليسوا على
شيء من الإدارة، لا نظام يسوسهم، ولا انتظام يقود مقاتلتهم، وأما خمسون مليونًا
الأخرى، فهي موزعة على الحكومات الأربع على هذا الحرص في الحكومة
العثمانية، ثلاثون مليونًا، وفي الفارسية تسعة، وفي المراكشية ثمانية، وفي
الأفغانية أربعة، وإنما كان ذلك خرصًا وتخمينًا؛ لأن عدد السكان في المراكشية لم
يدخل بعد تحت الإحصاء المدقق، وكذا سكان ولايتي طرابلس الغرب واليمن من
ولايات العثمانية [1] .
مهما يكن من سائر الشؤون، فإن الخطاب في الإصلاح الإسلامي، والتكليف
في القيام بمقدماته، والدعوة إلى الشروع فيه؛ إنما هو موجه نحو زعماء وعقلاء
تلك الحكومات الأربع المستقلة [2] التي تسوسها ملوك وسلاطين، وتشغل مركزًا
سياسيًّا، ويحكم فيها بشريعة ونظام، ولها وزراء وقواد وقضاة، وخرج ودخل
وصادر ووارد.
أما درجات تلك الحكومات الأربع في الانتظام، واتساق هيئة الاجتماع،
فالعثمانية أولاً، ثم الفارسية، ثم الأفغانية والمراكشية. العثمانية أكثر نفوسًا،
وأقوى نفوذًا، وأضخم سلطانًا، وأعظم شأنًا، وأعرق دولة، وأشد صولة، وهي
من سائر العالم الإسلامي بمكانة الدماغ من جسد الإنسان. هذا ما حمل عقلاء الأمة
ونبهاءها الساعين في دعم ما تداعى من بنائها على اللياذ بالخليفة العثماني،
وللصوق بسدته. تراهم متلعين بأعناقهم، شاخصين بأبصارهم، مصيخين بآذانهم،
علَّهم يتلقون من ذلك المقام الرفيع كلمات تكون محورًا تدور عليه الوحدة الإسلامية،
أو قانونًا يرجع إليه العاملون في إصلاح الشؤون.
جدير بالمسلمين أن تتصدى رجالاتهم وساداتهم للتأليف والتقريب بين تلك
الحكومات الأربع، وتوثيق وشائج الاتحاد بينها، وتسعى في إحالة الخلاف والمودة
من الخلاف والمحادَّة. هذه فرصة على مَقربة منهم فليغتنموها، ونهزة أغضى لهم
الدهر عنها فلينتهزوها، ومصلحة عامة يتوقف عليها استقلالهم، وبقاء أمرهم
فليبتدروها، ما لأمراء تلك الحكومات لا يميطون عن أنوفهم تلك الخنزوانة
(الكبرياء) الجاهلية، ويصطلمون من نفوسهم تلك العزة الوهمية؟ ! ليخفضوا لذي
السلطة الكبرى جناح الانقياد والطاعة؛ ليشايعوه في مدافعة تلك المخاطر التي
تحتف ببلادهم، وتهدد استقلالهم؛ ليمالئوه على إصلاح حال المسلمين، وتوحيد
متفرقهم، والتحلئة (الدفع) عن حرضهم؛ علَّهم بذلك يجددون للأمة عِزَّها،
ويرجعون إليها سالف مجدها؛ فيستوجبون من الله جزاء جليلاً، ومن التاريخ ثناء
جميلاً. ما لهم لا يأتسون بأمراء الشام؟ ! سالت عليهم الفجاج بشعوب الإفرنج؛
فالتفوا حول أميرهم الأكبر، وتلقوا تلك السيول المنحدرة -غمرة بعد غمرة -بعزائم
الأبطال؛ ففلُّّوا عزمها، وبَدَّدوا نظامها. ما أخوفني عليهم أن يتخاذلواتخاذل أمراء
الأندلس؛ فيفشلوا- لا قدَّر الله فشلَهم - ويصيبهم من الدواهي مثل ما أصابهم، ومن
هنا نلفت إلى ما كان اعترَضنا به في غضون الحديث أحد الحاضرين، وهو قوله:
كيف يكون انحلال عقد تلك الحكومات إذا لم نتفق وهل يسلم لواحدة منها استقلالها؟
فنقول:
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار) يوهم الكلام أن الإحصاء في سائر ولايات الدولة في إيران والأفغان دقيق محرر، وليس كذلك.
(2)
يرى كثير من العقلاء أن الإصلاح الإسلامي بعيد المنال في ظل هذه الحكومات، وأنه يرجى في البلاد الهمجية كبعض إمارات إفريقية، وفي البلاد التي ظنتها، كمصر والهند، ما لا يرجى في تركيا وإيران ومراكش، ورأينا أن لا ييأس أحد من الإصلاح حيث كان.
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار التاريخية
(مستقبل الإسلام في الصين)
نشر مبعوثو البروتستان من الإنكليز تقريرًا ضافيًا عن أعمالهم في الصين
جاء فيه كلام عن حالة الإسلام في مملكة ابن السماء، فبعد أن ذكر كاتب التقرير
تاريخ دخول الإسلام في الصين، وكيف كان انتشاره، حتى صار المسلمون هناك
أكثر عددًا من سكان أكبر مملكة إسلامية - قال:
وإذا نظرنا إلى حالة المسلمين في الصين نجدهم على ثروة وسعادة يتمتعون
في ضروب الراحة والهناء، شديدو التمسك بدينهم، فلا تحولهم عنه الجبال،
ولا تغيرهم الوعود والآمال؛ إذ هم يعتقدون اعتقادًا لا يشوبه أدنى ريب أن
مستقبل البلاد الصينية لهم، وأنهم سيرفعون مجدها يومًا من الأيام.
ومن الكُتَّاب الذين كتبوا في هذا الموضوع البروفسور فاسليوف فهو يعتقد مثل
ذلك، كما صرح به في كتابه؛ ولذلك هو يخشى عواقب ذلك الانقلاب المنتظر على
أوروبا.
قال الكاتب: والحقيقة أن الظن ليس من الأمور البعيدة؛ لأن المسلمين في
الصين أرقى بكثير من البوذيين وغيرهم، تبعًا لترقي دينهم الذي يرشدهم إلى
آداب وفضائل تميزهم عمن عداهم، فضلاً عن اتحاد كلمتهم، وقوة جامعتهم،
وتراهم يهتمون كثيرًا بالزراعة والتجارة والفنون الحربية، أكثر من اهتمامهم
بالعلوم والمعارف، ولهم شهرة فائقة في خِلال الصدق والأمانة والوفاء، فقوم هذه
صفاتهم، وعددهم ليس بالقليل، لا يبعد أن يكون لهم مستقبل هذه البلاد التي أخنى
الزمان على سكانها الأصليين، وقضى الله عليهم بالضعة والهوان، والمستقبل
كشاف لما تطويه سجلات الأيام.
ثم انتقل الكاتب إلى شرح عوائد المسلمين في الصين واختلافها عن عوائد
غيرهم من السكان، ثم تكلم عما يعتقده الصينيون في أبناء وطنهم من المسلمين،
ومما قال: إن البوذيين لا ينفرون من المسلمين، بل يألفونهم، ويقولون: إنهم على
دين الفيلسوف الصيني القديم كونفوشيوس أو هم لا يختلفون عن مذهبه غير قليل.
وأما علاقتهم بالحكومة، فهم مخلصون للإمبراطور، لا يميلون إلى حزب من
الأحزاب، وجل مآربهم تقوية شأنهم، وازدياد ثروتهم، وما داموا على هذا الدأب
فإنَّ ظنَّ البروفيسور فاسليوف سيصدق فيهم، ويصبحون يومًا ما القابضين على
أزِمَّة الأمور في مملكة ابن السماء.
ثم قال الكاتب: والخلاصة أن الإسلام في الصين عقبة دون تقدم المسيحية
هناك، وأن المسلمين لا يفتئون يرشدون الناس إلى دينهم، ويُرَغِّبونهم فيه بكل
وسائل الترغيب، ولكونهم من أهل البلاد، ولغتهم لغتها، فهم يعرقلون مساعينا
دائمًا؛ لأنهم ينافسوننا، وكثيرًا ما يميل الصيني إلى اعتناق النصرانية، ثم لا نلبث
أن نراه مسلمًا، يصلي مع المسلمين في مساجدهم، وهذا ما يحدو بنا إلى القول:
بأن الإسلام سيكون له المستقبل العظيم في البلاد الصينية. اهـ ملخصًا.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... (المؤيد)
***
(أخبار فرنسية وإنكليزية)
من أهم الأخبار الخارجية أن محكمة النقض والإبرام في فرنسا قررت إعادة
دريفوس من منفاه في جزيرة الشيطان إلى فرنسا للنظر في قضيته، حيث أسفر
الصبح بعد خمس سنين عن التزوير والخيانة والتعصب على دريفوس، وإذا برأت
المحكمة دريفوس بعد كل ذلك التحامل عليه، ومع ما فيه من ثلم شرف الجيش
الفرنسوي، فلا يسع أحدًا أن ينكر أن الفضيلة في الحكومة الفرنسوية أقوى من
الرذيلة، وأن العدل والإنصاف غالب على الجور والاعتساف.
ومنها أن مجلس العموم الإنكليزي قرر إعطاء الحكومة للورد كتشنر حاكم
السودان العام ثلاثين ألف جنيه مكافأة على خدمته لدولته.
ومنها أن الخلاف قد اشتد بين إنكلترة وحكومة الترانسفال فقد أنبأ البرق أن
المذكرات في بلومفوتين بين الرئيس كروجر والسر ألفرد ملنر أسفرت عن تعسر
الاتفاق في مسألة التجنس بالترانسفالية، ومسألة حرية الانتخاب.
ولم يقبل الرئيس البحث إلا بشرط أن تقبل إنكلترا بالتحكيم في مسائل الخلاف،
فاستكبر للإنكليز هذا، وظن أن الحرب متوقَّعة.
***
(وفاة عالم جليل)
نَعَتْ إلينا أنباءُ بغداد الخصوصية وفاة العلامة الفاضل المتفنن السيد الشريف
الشيخ نعمان خير الدين أفندي الآلوسي نجل العلامة الكامل الشهير محمود شهاب
الدين الآلوسي مفتي بغداد سابقًا وصاحب تفسير (روح المعاني) وللفقيد - تغمده الله
برحمته - سيرة حسنة وآثار نافعة -إن شاء الله تعالى - منها كتاب (جلاء العينين
في محاكمة الأحمدين) وكتاب (غالية المواعظ) وكتاب في الرد على رسالة الكندي
الذي زعموا أنه ناظر الخليفة المأمون العباسي في الدين، وهو كتاب ضخم جليل،
وقد كانت وفاته في سابع المحرم الماضي، فاهتزت لها بغداد، بل العراق كله،
وكان يومًا مشهودًا شيعت جنازته بالاحتفال الذي يليق بمقامه، ومكانة أسرته
الكريمة، عوَّض اللهُ المسلمين منه خيرًا.
***
(الأحداث في القطر المصري)
بلغ عدد الذين أصيبوا بالطاعون في الإسكندرية إلى يوم الجمعة (أمس) 21
نفسًا، مات منهم 8، وشُفي 4، والباقون تحت المعالجة.
صدر الأمر العالي الخديوي بفصل الأستاذ الشيخ حسونة النواوي من مشيخة
جامع الأزهر وإفتاء الديار المصرية، ونوط المشيخة بالأستاذ الشيخ عبد الرحمن
القطب والإفتاء بالأستاذ الشيخ محمد عبده.
وكان ذلك في 24 من المحرم سنة 1317، و3 من يونيه سنة 1899 م.
***
(الوشاية في طرابلس الشام)
علمنا من أخبار طرابلس الشام أن بعض الوشاة والمفسدين طفقوا يسعون إلى
بني الأنجا بمن يحبون التشفي منهم، زاعمين أنهم هم الذين يكتبون للرائد المصري
الطعن فيهم، وقد دبت عقاربهم إلينا؛ فزعموا أن فلانًا وفلانًا يكتبان رسائل الطعن
ونحن نكتبها للرائد، ولو كَتَبَا، لم تكن حاجة لكتابتنا، وقد أرجف بنا فيما كتب
مُسَعِّرُ نار الفتنة، ولكن ليعلم أننا لا نتعرض للمطاعن الشخصية، بل غرضنا خدمة
الأمة ونصحها، ولو كان من مشربنا ما نُسب إلينا؛ لخصصناه بوالي بيروت الذي
أضرنا وأضر وطننا كله دون أبناء بلدتنا، ولكتبنا في جريدتنا - أو بإمضائنا -
فإننا في بلاد لا نخاف فيها غير الله تعالى، ولقد وُشي بنا إلى أعظم عظماء الأمة،
فما قدر على أن ينال منا شيئًا، فإذا عاد المرجف إلى إرجافه - تلويحًا أو تصريحًا-
فلينتظر ما هو أَمَرُّ مِمَّا مَرَّ
…
***
(الجمعيات في مصر)
تألفت في هذا العام ثلاث جمعيات في القاهرة الأولى (جمعية مكارم الأخلاق)
وهي جمعية أدبية إسلامية، رئيسها الأستاذ الفاضل، والخطيب المفوه الشيخ زكي
الدين سندوهي تجتمع في كل ليلة جمعة، وتُلْقَى فيها الخطب، والثانية (جمعية
التعليم الإسلامي) ولم تزل اجتماعاتها إدارية محضة، ومتى حاولت الاجتماع
العمومي يعلن عنها في الجرائد، والثالثة (جمعية النهضة الأدبية) ألفتها فَعَلَةُ
المطابع، ووضعت لها قانونًا طُبِعَ، ويباع بقرش أميري واحد، وغرض الجمعية
التعاون المالي، والاعتصام الأدبي، والعمل لترقية الصناعة، وارتباط بعض
أعضائها ببعض، وهذه أول جمعية للفَعَلَةِ في بلاد الشرق، فيما نعلم.
***
قالت (ثمرات الفنون) الغرَّاء:
يقال: إن شورى الدولة يبحث الآن في مواد مهمة بشأن المعارف، وإنه
استعلم عن الحصة التي برسم الولايات، ومقدار ما يؤخذ من الأوقاف، وكيف
تصرف من هذه المبالغ، حتى إذا أورده الحساب بادر بعمل ما ينوي عمله، وعسى
أن يكون من وراء هذه الأعمال فوائد تذكر في ترقية أحوال المعارف في البلاد
العثمانية؛ لأن النجاح يتوقف عليها كما بَيَّنَّا مِرَارًا.
(المنار)
يعلم كل عثماني أن ما يؤخذ من الولايات باسم المعارف، لا ينفق فيها أعشار
عُشره، وأكثره يُحشر إلى الآستانة فإذا وُفِّقَت الدولة العلية إلى إنفاق مال كل ولاية،
أو أكثره فيها، فذلك كل ما تطلبه الرعية من الحكومة في هذا الباب.
وقالت الثمرات أيضًا: (إن الأراضي القابلة للزراعة، والتي هي بورغير
مأهولة في ولاية سورية - تبلغ مليونين ونصف مليون دونمًا؛ أي أن كل دونم من
الأرض يبذر من فيه مد الحبوب) . ونحن نقول: أفليس من سوء إدارة الحكومة أن
يهاجر أهل بلاد فيها هذا القدر من الأراضي الجيدة المهملة؛ لاستعمار أميركا
وإحياء أرضها؟ !
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
فهم الدين
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (الزمر: 27){قُرْآناً عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 28) .
قال مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في تفسير
قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6) ما مثاله بالإيجاز:
منح الله تعالى الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته:
أولاها: هداية الوجدان الطبيعي، والإلهام الفطري، وتكون للأطفال.
وثانيتها: هداية الحواس والمشاعر.
وثالثتها: العقل.
ورابعتها: الدين.
ثم بيَّن أن الهداية الأولى والثانية، يشارك الإنسان فيهما الحيوان الأعجم وأن
الإنسان لا يمكن أن يصل إلى كماله المستعد هو له بهما؛ لما يعرض لهما من الخطأ
وسوء الاستعمال، وبعد أن ضرب المثل لهذا الخطأ، وبيّن وجه حاجة الإنسان إلى
العقل الذي ينتزع المعلومات الكلية من مدركات الحواس، ويُمَيّز بين خطئها
وصوابها، قال: إن العقل أيضًا عرضة للخطأ ومحل للقصور، فلا يمكن أن يحيط
بمصالح الإنسان في أفراده ومجموعه، ويحدد أسباب سعادته في معاشه ومعاده،
ومن ثَمَّ كان الإنسان في أشد الحاجة، لا سيما بالنسبة لأمر المعاد إلى الهداية الرابعة
هداية الدين، وقد منحه الله إياها، ولما كان معظم قصور الحس والعقل في الإنسان
إنما هو فيما يختص بسعادة المعاد، كان بيان طريق السعادة الأخروية أهم ما جاء به
الدين. وهل يعتور هذه الهداية ما يعتور غيرها من الخطأ وسوء الاستعمال،
فيتنكب أهلها جادة السعادة؟ ؟ نعم، فإنه كما يخطئ الإنسان في إدراك
المحسوسات؛ لمرض في حواسه، وفي فهم المعقولات؛ لآفة في عقله، أو لسوء
استعمال الحس والعقل، كذلك يخطئ في فهم الدين؛ بسبب الأمراض الروحية
التي تطرأ على مزاج الأمة.
إذا تمهد هذا، فغرضنا الآن كشف الغطاء عن شبهة أوردها على الدين
أصحابُ مجلة (المقتطف) في الجزء الصادر في أول يونيو، الذي نحن فيه عند
تقريظ كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) وملخص ما هنالك أنه
نُشر في القطر المصري كتب وجرائد، حاول كُتَّابُها التوفيق بين الأصول الدينية
والحقائق العلمية، قال: (وقد يجدون ذلك سهلاً؛ لأنه قَلَّما يَجْسُرُ أحدٌ على مخالفتهم،
ولكن لو كان في البلاد علماء أشداء كالجلال السيوطي
…
لشبَّت نارُ الحرب منذ
الآن) (انظروا وتأملوا) ثم ذكر أن هؤلاء الكُتًَّاب يجيبون من سألهم عن السبب في
عدم وجود هذه المدنية في ربوع المشرق؛ بأن سبب ذلك سوء فهم الدين وحمْله
على غير المراد منه، وعلى هذا الجواب بنى شبهته الكبرى، فقال: (ولكن إذا
قيل له: ألاينتظر من الدين أن يكون معناه واضحًا؛ حتى لا يقع سوء في فهمه،
ولا يحمل على غير المراد منه، وهل أساء كل علماء الشرق فهم دينهم منذ ألف سنة،
أو حواليها إلى الآن، ولم يقم منهم من يحمله على المراد منه إلا في هذا العصر
وفي هذا العام؟ ! إذا قيل له ذلك لم يكن الجواب عليه بالأمر السهل) . اهـ.
ولا يخفى أنه يعني بكلامه الإسلام والمسلمين؛ لأن الكلام معهم، وهم الذين
نشروا الكتب والجرائد في القطر المصري، ويسهل عليهم الجواب الذي حسبه
صعبًا حضرة السائل، وهو
…
إن الكاتب اعترف معنا بأن فهم الدين على غير وجهه، إنما وقع في
الإسلام من نحو ألف سنة، أي من بعد انتشار البدع، وتفرق المذاهب في الدين
الواحد الذي جاء بالتوحيد والتأليف، ونهى عن التفرق والاختلاف، وبديهي أن
أصحاب الآراء والمذاهب من أهل الأهواء يحاولون تعزيز مذاهبهم بالشبه مهما
تضاءلت افتضاحًا.
ويؤولون الحجج المخالفة لهم، مهما أضاءت اتضاحًا. فهذا هو السبب الأول
في سوء فهم الدين الإسلامي، والانحراف به عن صراطه، والسبب الثاني:
اختلاط المسلمين بأمشاج من جميع الأمم والملل دخلوا في دينهم، ومنهم الصادق
ومنهم المنافق، وهؤلاء اجتهدوا في إفساد تعاليم الدين، وإدخال بعض مسائل من
أديانهم السابقة مصبوغة بصبغة الإسلام، ووضع الأحاديث المكذوبة على صاحب
الشرع صلى الله عليه وسلم والسبب الثالث: العدوى المعنوية، وهي أنه ما من
رجلين يتصاحبان، أو شعبين يتمازجان، إلا ويسري من أخلاق أحدهما وآدابه شيء
للآخر، وكذلك دَبَّ إلى الإسلام داء الأمم قبلهم، وكادوا يتبعون سَنَنَ مَنْ قبلهم شبرًا
بشبر وذراعًا بذراع كما في الحديث الصحيح، بُذِرَت بذور هذه التعاليم المضرة في
أرض الإسلام، وسُقيت بأمواه التعصبات والأهواء؛ فنمت بالتدريج حتى صارت
دوحات كبيرة؛ تتساقط منها الثمرات المضرة، وكان من تنبه لها من العلماء
الراسخين إنما يسعى في قطعها، لا في قلعها؛ ولذلك عاد كلما قطع منها أبسق
مما كان، نشير بهذا إلى ما كان من مقاومة تلك التعاليم الفاسدة في كل عصر،
وإن لم تقوَ عليها، وهو جواب عن قول المقتطف: (وهل أساء كل علماء المشرق
فهم دينهم منذ ألف سنة، أو حواليها) نعم، إن القرون الثلاثة الأولى هي التي كان
الغلب فيها لتعاليم الدين الصحيحة وأخلاقه وآدابه، كما هو الشأن في كل دين، ووفاقًا
للحديث الشريف خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم فقول
المقتطف لا يفتش عن فعل الدين في حروف كتبه، بل في أخلاق أتباعه وأفعالهم،
غير مسلّم على إطلاقه؛ فإن الكِتَابَ الذي هو أصل الدين، كالقرآن مثلاً،
إذا كان مُصَرِّحًا بشيء، فلا مندوحة عن القول بأنه من الدين، وإن خالفه الذين
يدَّعون اتِّبَاعَه. نعم، لا يجوز أن يتفق المنتسبون لدين من الأديان على مخالفة
أصوله في عصر النبوة، وما يقرب منه، ولكن إذا طال الزمان تُفْتَن الأمةُ بالتحريف
والتأويل، وتضل سواء السبيل، إلا أفرادًا لا يكون لهم صوت في الأمة
مسموع، وأصحاب المقتطف يعرفون هذا من تاريخ الملل، وإلى هذا يشير قوله
تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا
كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) أي: خارجون عن هدي دينهم، ونحن نأتي بمثال واحد مما
خالف الجماهير فيه هدي الدين الإسلامي، وهو من أصول العقائد، ومن أهم ما
جاء به الدين، ومما له أثر كبير في سعادة الأمم وشقائها؛ ألا وهو الاعتقاد بأن
لبعض البشر تأثيرًا في النفع والضر بقوة غيبية وراء الأسباب الظاهرة
التي اقتضتها الحكمة الإلهية، وجعلتها مناط الأعمال.
هذا الاعتقاد هو الذي شَقِيَ به قبل الإسلام مَنْ لا يُحصَى مِنَ الأقوام، هذا
الاعتقاد هو الذي يُقَيِّد إرادة الإنسان بإرادة غيره من أبناء جنسه؛ فيفقد استقلال
الإرادة الذي هو العامل الأكبر في السعادة البشرية، هذا الاعتقاد هو الحجاب الكثيف
بين الإنسان، وبين معرفة السنن الإلهية في الترقي والتدلِّي، وإدراك أسباب الضُّرِ
والنفع، هذا الاعتقاد هو المرض الذي يُفسد العقل، ويجعله يرجو ما لا يُرجى
ويخاف مما لا يُخاف، هذا الاعتقاد هو شعبة من الشرك كانت أكثر شعابه امتدادًا
وانتشارًا في الأمم كلها؛ ولذلك كانت عناية الإسلام بمحوه فوق كل عناية.
يتوهم كثيرون أن الكفر والشرك اللذين يندد بأهلهما القرآن كثيرًا، هما عبارة
عن إنكار وجود الله تعالى، وعن اعتقاد أن للكون آلهة غيره، يَخْلُقون كما يخلق،
ويرزقون كما يرزق، مع أن هذين القسمين من الناس كانوا أقل الكفار والمشركين
في كل زمان ومكان، وإنما الشرك الذي كان فاشيًا في العرب، وغيرهم ممن ظهر
الإسلام فيهم، هو الذي قال القرآن في أهله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ
وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} (الزخرف: 9) ومثل هذه الآية آيات.
كانوا يعتقدون - كما يعتقد أكثر البشر - أن مبدع الكون وخالقه واحد، ولكنه لمَّا
كان غيبًا مطلقًا، جعلوا وِجْهَتَهُم في عبادته بعضَ مظاهر قدرته الباهرة من خلقه،
من جماد وحيوان وإنسان، وزعموا أن تلك المظاهر هي الواسطة بين الله وبين
عباده في نفعهم وضرهم، ويعلل علماؤهم ذلك؛ بأن عامة الناس من الخطاة
والمذنبين لا يليق بخستهم أن يخاطبوا الجناب الإلهي الرفيع بحاجهم، فلا جرم
كانوا في حاجة إلى واسطة بينهم وبينه، كما هو الشأن عند عظماء الملوك
والسلاطين، وهذا وإن كان في ظاهره تعظيمًا لله تعالى - فقد عدَّه القرآن شركًا،
وذكر شبهة ذويه في معرض التشنيع والإنكار، حيث قال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ
بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 2-3)، وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ
بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس:
18) ، فانظر كيف لم يعتدّ بأن اتخاذهم شفعاء نافٍ لكونهم معبودين لهم، وكيف
صرح بأن دعوى الشفاعة افتئات على الله تعالى؛ حيث لم يكن بإعلام منه، وقال
فيمن كان يعتقد هذه الوساطة والشفاعة من أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لَاّ
إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31) ومعلوم أن أهل الكتاب لم تقُل
فرقة منهم بأن رؤساءهم أرباب حقيقة، يشاركون الله تعالى في الإيجاد والإعدام كما
هو معروف من تاريخهم، وإنما هو اعتقاد الشفاعة والوساطة بين الله والناس في
مصالحهم [1] .
الواسطة الصحيحة بين الله وبين عباده هم الأنبياء، ووساطتهم إنما هي في
التعليم والإرشاد، لا في الخلق والإيجاد، وقد بيَّن الله في ذلك آيات كثيرة جاءت
بصيغة الحصر؛ لتكون نصًّا قاطعًا لأعناق الأباطيل، منها قوله تعالى: {وَمَا
نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام: 48)، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلَاّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الإسراء: 105)، وقوله:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ البَلاغُ} (الشورى: 48) وقد نفى عن النبي الأعظم السيطرة والوكالة على الناس، بقوله:
{لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 22)، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الأنعام:
107) ، ونفى عنه الهداية بمعنى الإيصال إلى الخير بالفعل، بقوله:
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: 272)، وقوله:
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: 56) ، بخلاف
الهداية بمعنى الدلالة بالتعليم؛ فقد قال فيها:
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52)[2] ، وأمره أن يتنصَّل من
دعوى النفع والضر بقوله تعالى: {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعاً إِلَاّ مَا شَاءَ
اللَّهُ} (يونس: 49)[3]، بل أمره أن يتبرأ مع ذلك من امتلاك الرشد لهم بقوله:
] قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلَا رَشَداً [4] * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ
أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً [5 {* إِلَاّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} (الجن: 21-23) ، أي
لا أملك إلا البلاغ من الله تعالى فلم يبقَ إلا أنه كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ
مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيّ} (الكهف: 110) .. إلخ.
هذا كله نقطة من بحر توحيد القرآن، ومع ذلك كله كان من أمر المسلمين
نحو ما قاله المؤرخ المحقق دوزي الهولندي، فيما كتبه في الإسلام، حيث قال - ما
مثاله -: (إن محمدًا عليه السلام بذل كل فصاحته، وجميع عنايته في اجتثاث
جذور الوثنية، ومحو أساطيرها من لوح الوجود، وظل يجاهدها عشرين سنة،
حتى ظفر بها، واستبدل بها التوحيد الخالص، ولكن النوع البشري لما رسخ فيه
من جذور الوثنية بالوراثة المتمكِّنة في الأحقاب الطويلة، لم يكن مستعدًا للثبات على
هذه العقيدة، عقيدة التوحيد؛ ولذلك لم يمضِ على أتباع محمد أكثر من قرن واحد،
حتى ثابت إليهم الوثنية السابقة بأنواعها، ولكن بأسماء وألوان أخرى) ومَن عرف
الإسلام والمسلمين يعرف صحة قول دوزي هذا، دعْ عنك ذكرى الذين قالوا بألوهية
الإمام علي - كرَّم الله وجهه - في العصر الأول، فقد كان صوتهم ضعيفًا،
وضلالهم معروفًا، وارمِ بنظرك إلى فرق الباطنية الذين كانوا سُلاًّ في رئة الأمة،
لم تنجُ من كروب ميكروبه طائفة منها، خلقوا الأحاديث، وحرَّفوا كلم القرآن عن
مواضعه، وسرت فتنتهم إلى الطائفة المعتدلة من المسلمين باسم التصوف، فآل
الأمر إلى أن فشا في أهل السنة الغلو في شيوخ الصوفية كغلو الباطنية في أئمتهم
وخلفائهم، وهو اعتقاد أن لهم تصرفًا في الكون وراء الأسباب الظاهرة.
فالجاهلون يعتقدون أن هذا لهم بأنفسهم، ولا يتفكرون بالوساطة وما في معناها
من التأويلات، حتى إننا نشاهد عامتهم تتحامى الحلف كذبًا بالشيوخ المعتقدين، لا
سيما عند أضرحتهم، ويحلفون بالله كذبًا، وهم يعلمون.
ويشاركهم في هذا التعظيم والاعتقاد، كثير من اللابسين لباسَ العلماء،
ولكنهم يؤولون لهم ولأنفسهم بأن المحظور في الدين إنما هو الاعتقاد بالاستقلال،
وهم إنما يعتقدون أنهم واسطة بين الله والناس، ولكن إذا سألتهم: ما معنى هذه
الواسطة؟ وما هو الدليل عليها؟ وكيف لم يصرح بها القرآن، وهي في هذه
المكانة من الأهمية؟ والله يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38)
وكيف يمكن تأويل النصوص الكثيرة التي تنفيها - إذا سُئلوا عن هذا يرتكسون
بين أمواج الحيرة، يدفعهم ريب، ويتلقاهم شك إلى أبد الأبيد.
يا سبحان الله! إن الله تعالى وصف مشركي الجاهلية بأنهم عند شدة الضيق
يدعون الله تعالى وحده، مخلصين لا متوسطين، فقال: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ
دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَاّ
كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان: 32) ، ولكنَّا نرى المُتَّسمين بِسَمة الإسلام ينادون عند
أشد الضيق: يا باز يا سيد يا رفاعي يا متولي، وما أشبه هذه الأسماء التي ما أنزل
الله بدعوتها من سلطان، أليس من العجيب أن يقال: إن الدين لا يؤخذ من كتبه؟ !
فتترك نواهي القرآن البليغة الصريحة عن الشرك الظاهر والباطن، ويحكم على
الإسلام بقول هؤلاء الغوغاء الذين يزعمون أن المتصرفين في الكون أربعة:
الجيلي والرفاعي والبدوي والدسوقي. إذا كان لله سبحانه وكلاء من الأموات
يدبرون الكون، فلماذا لم يكن منهم إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة
والسلام؟! تعالى الله عن ذلك كله علوًّا كبيرًا!
وقد طال بنا الشرح فلنمسك عِنان القلم؛ فقد حصحص الحق، وظهر أن
انحراف الكثير من الناس عن هدي الإسلام من سوء الفهم، وإن سوء الفهم ليس
لصعوبة أحكامه وبُعدها من الأفهام، وإنما هو لأمراض اجتماعية طرأت على الأمة؛
فحالت دون انتفاعها بدينها، كما حالت دون الانتفاع الكامل بعقولها وحواسها.
ولما كان الإسلام دين الفطرة بشهادة القرآن، فإننا نرجو - كما يرجو عقلاء
العلماء من المسلمين - أن يكون ظهور قوانين الفطرة ونواميسها من أعظم المنبهات
إلى فهم الإسلام على حقيقته، ولسنا نقول بهذا إنه بين جميع نواميس الطبيعة،
ولكن نقول: إنه بين ما يحتاج إليه الناس لسعادتهم في دينهم ودنياهم، وسنبيّن هذا
في مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.
_________
(1)
ليس غرضنا في هذا الكلام الرد على هذه الفرقة من أهل الكتاب، وإنما هو بيان ما هو تعليم القرآن في هذه العقيدة.
(2)
المعنيان للهداية معروفان في اللغة، وفي الغالب يتعدى اللفظ بالمعنى الأول بنفسه، وبالمعنى الثاني بإلى.
(3)
قوله تعالى: [إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ](يونس: 49) هذه الكلمة جاءت في القرآن بمعنى التأبيد، كقوله تعالى:[خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ](هود: 107)، وقوله:[سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ](الأعلى: 6-7) .
(4)
في الآية احتباك، أي، لاأملك لكم ضرًا ولا نفعًا ولا رشدًا ولا غواية، فحذف من كل منهما ما أثبت مقابله في الأخرى.
(5)
ملتحدًا: أي ملتجَأً ألتجئ إليه.
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
استنهاض همم
(7)
إذا بقيت الحكومة المراكشية تتسكع في ظلمات الجهالة، وتتنكب مناهج العدالة
واسترسلت في إعراضها عن ملافاة الخلل، وشعب الصدوع التي تودي بمملكتها،
وتهوي بها إلى هاوية الاستعباد، وتزجُ بها في عالم الخفاء، لا جرم أنه يصيبها ما
أصاب جارتيها الأندلس والجزائر مما يبعث الشجن، ويزيد في الحزن، وتجيش
النفوس له حسرة ما نقرؤه لهذه الأيام في صحف الأخبار عن جوائب تلك البلاد من
أن المناصبة والمناوأة بلغت مبلغها بين صاحب مراكش مولاي عبد العزيز وبين
أخيه الرشيد ولكل منهما حزب يعضده وينافح معه، يا سبحان الله! ما أسرع ما
نسي هذان الخليفتان قصص خليفتي غرناطة المشئومين، وما حل ببلادهما؛ بسبب
شقاق بينهما، ما أسرع ما ذهلا عن تاريخ الأندلس، وهي على مرمى سهم منهما.
لَشَدَّ ما غفلا عن الأعداء المحدقة بالمملكة تتربص بها غير الدهر وكوارثه؛ لتلتهمها.
لَشَدَّ ما غفلا عن أمر الشارع بالاتحاد، ونهيه عن التعزي بعزاء الجاهلية، كيف
يفسحان بتباعد بينهما مجالاً يجري فيه العدو خيول مآربه وأطماعه؟ يوشك - إن
دام الشقاق والنزاع بين هؤلاء القوم - أن تتداخل الأعداء في شؤون مراكش
وتستعمرها، أو تتكفل بحمايتها، وتقوم بالوصاية عليها، كما فعلت بصُوَيْحِبَاتِها.
لا ريب أن الناشئين من الأسرة الملكية في مراكش إنما يَشُبُّون على ما وجدوا
آباءهم عليه؛ من البغضاء والشحناء، فإذا ترشحوا للمناصب العالية كانوا أسرع
إلى النزاع والمواثبة من السيل المنحدر إلى قرارة الوادي، وهذا مما يطيل أمد
الوبال والشقاء على الحكومة المراكشية، ويُمَكِّن يد العدو من ناصيتها.
لا يبلغ الأعداء من جاهل
…
ما يبلغ الجاهل من نفسه
أعداؤها التي تتربص بها الدوائر جاراتها الثلاث: أسبانيا جارتها القديمة
وفرنسا التي تجاورها من جهة الشرق بمستعمرة الجزائر، ومن الجهة الجنوبية
بصحراء إفريقية، فإن تلك الصحراء المتسعة كادت تخلص لفرنسا بحذافيرها وأما
إنكلترا فتجاور مراكش ببوغاز جبل طارق.
وإذا كانت كل من تلك الدول الثلاث تُخفي في نفسها الاستيلاء على مراكش،
وتجاذب الأخرى زمام النفوذ فيها، فمَن التي يشتد ساعدُها منهن وتقوى على
رفيقتيها وتستخلص ذلك الزمام؟
أسبانيا تود من كل قلبها، وصميم فؤادها، أن تستولي على مراكش لكوْن
شفعتها في الجوار أحق وأقدم من شفعة فرنسا، لكنها لا تنال منها شيئًا؛ لتأخرها في
الانتظام، وتضعضع قوتها، لا سيما عقب الحرب الأخيرة الأميركية؛ فإنها لُطمت
فيها لطمة ألقتها لحلاوة القفا، وقد لا تستطيع معها قيامًا أبد الدهر، على أن أسبانيا
عاثرة الجلد لا حظّ لها في الاستعمار؛ فان جُل أميركا كان لها، والآن لم يبق لها قل
من ذلك الجل، وربما ودت، أو أملت من مناظرتيها أن يستأنياها ولا يمسا مراكش
بسوء؛ ريثما يشتد ساعدها وتقوى على مغالبتهما، لكني لا أظنهما يحفلان برجائها.
أما إنكلترا، فليست ممن يؤمل، أو يطمع في شيء من مراكش، لا خجلاً
وضعفًا عن مقاواة فرنسا، بل لأن همها الأكبر في نصف إفريقية الشرقي، ووصل
الإسكندرية برأس الرجاء الصالح بالسكة الحديدية، فهي إن عارضت فرنسا في
مراكش، إنما تعارضها إيهامًا وإرهابًا؛ لكي تحملها بذلك على التساهل معها فيما
ترومه من أمر إفريقية، وفي أطماعها في شبه جزيرة العرب وسوريا والنهرين،
فإن في هذه الغنائم ما يبعث إنكلترا على السماح لفرنسا بألف مراكش.
إذن مراكش لفرنسا، وإذا تمكنت من ولاية طرابلس الغرب كما سيأتي تفصيله
في محله، يخلص لها حينئذ نصف إفريقية الغربي، كما يخلص نصفها الشرقي
لإنكلترا، ويكونان قد اقتسما القارة شق الأبلمة. [1]
(الحكومة الفارسية والأفغانية) مكانتهما في نظر أوروبا، وأطماع سواسها
واحدة، وكل منهما مما يتنازعه عاملا الطمعين، ويحوم حوله نسر الأملين،
الإنكليزي والروسي.
الشعب الأفغاني يغلب عليه البسالة والعزة والتحمس، ولم يزل كارهًا
للإصلاحات العصرية، معرضًا عن اقتباس الشؤون المدنية، مستخفًا بهبوب
الأعاصير السياسية، مزدريًا باتفاقه مع جارته الفارسية، أو شقيقته العثمانية أميره
لهذا العهد، ضابط لسياسة البلاد، مقبل بشراشره على الذياد، يُطمع الروسيا تارة،
ويوالي الإنكليز أخرى. فالأفغانية من جرَّاء ذلك في حرز ومأمن من السقوط الآن،
لكنها بعد هذا الأمير يوشك أن تقع في أيدي غلمة من الأسرة المالكة؛ يتجاذبون
أطراف المملكة، ويتواثبون لتناول تاجها، وتسنم عرشها، فتهوي البلاد في عواثير
الاستعباد، كما هوت من عهد غير بعيد أختُها زنجبار ذلك أن النزوان على الرئاسة
الكاذبة شِنْشِنَة غريزية في أمراء الشرق، قد تبوَّأت من نفوسهم متبوَّأ النطق
والإدراك، بل ربما تضاءل أثر الإدراك في نفوسهم، وضعف بصيصه في زواياها
وتلك الشنشنة حية يشتد أصلها، وينمو فرعها، ويستعر شواظها، ويقوي عرامها، ألم
يبلغك ما حصل في تلك البلاد منذ ثلاثين سنة من الفتن والملاحم بين أمرائها
وأبناء أسرتها؟ حتى كاد يرميها بين يدي العدو، ويُنزلها على حكمه، لولا أن
تداركتها الألطاف وانتشلتها يد الأقدار.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
مثل، يُكنَى به عن اقتسام الشيء بالسوية والأبلمة: خوصة المقل، وهو شجر خوصته، أي: ورقته إذا فُصلت باليد كانت قسمين متساويين.
الكاتب: محمد رشيد رضا
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
(تابع عدد 12)
(دَين تركيا) :
أ- الأنواع الستة من الأموال غير المقررة، أو عوائد المِلْح والتبغ والمشروبات
الروحية، وطوابع البوستة، والحرير، والأسماك، التي يردها أصحاب مصارف
(بنوك) غلطة بعد تحصيلها إلى حاملي السندات العثمانية.
ب- زيادة رسوم الجمرك التي تنشأ من تغيير تعريفة الرسوم عند حصول
تنقيح في اللوائح التجارية؛ فتستفيد إدارة الدين العثماني من هذه الزيادة.
ت- زيادة الإيرادات التي تنشأ من تعميم تطبيق القانون الخاص بالامتيازات،
عند مقارنتها بالإيرادات التي كانت تُحَصَّل فيما سبق من رسوم التمتع.
ث- الجزية التي تدفعها إمارة البلغار إلى الوقت الذي حددتها فيه الدول
المُوَقّعة على معاهدة برلين بمبلغ 100000جنيه مجيدي يدفع مسانهة من رسوم
التبغ.
أما إن رأى الباب العالي بعد تقرير الجزية، أو الضريبة بهذه الصفة - أن من
صالحه استعمالها كلها، أو استعمال جزء منها في سبيل آخر، وجب عليه أن
يُعَوّض هذا المبلغ، الذي يكون بهذه الواسطة قد سحبه من حاملي السندات بمبلغ
مساوٍ لعوائد التبغ، وفي حالة عدم كفاية هذا المورد، يؤخذ المبلغ من مورد آخر
وافٍ به.
ج- الزيادة في إيرادات جزيرة قبرص وتعوض في الحالة التي تخرج فيها
هذه الجزيرة من قبضة الحكومة العثمانية بمبلغ سنوي قدره 130000 جنيه مجيدي،
يُستنزل من عوائد التبغ، بعد احتساب مبلغ 100000جنيه، الذي استبدلت به
جزية البلغار، فإذا لم تكفِ هذه الزيادة لتكملة مبلغ 130000 جنيه، كان على
مصلحة عموم الجمارك أن تعطي بالباقي سفاتج في كل نصف سنة.
ح- دَين الرومللي الشرقي الذي حُدد بمبلغ 240000 جنيه مجيدي في السنة،
مضافًا إليه الإيراد الصافي لعوائد هذا الإقليم، الُمقَدَّر بمبلغ 5000 جنيه مجيدي.
خ- إيراد التنباك المحدد بمبلغ 50000 جنيه مجيدي، تضمنه مصلحة
الجمارك بسفاتج، تسحب عليها في كل نصف سنة.
د- جميع المبالغ التي تدفعها للحكومة العثمانية كل من حكومات السرب
والجبل الأسود والبلغار واليونان مما فرض عليها دفعه من الدين الأهلي في معاهدات
برلين والاتفاق المبرم في القسطنطينية يوم 24 مايو سنة 1881.
الأنواع الستة من الأموال غير المقررة، المذكورة في حرف (أ) ضُمِّنَت كما
قلنا لأصحاب مصارف (بنوك) غلطة دَينهم الذي على الحكومة العثمانية، وقدره
8590000 جنيه مجيدي، وقد تنازل هؤلاء بمقتضى اتفاق حصل بين الطرفين في
20 ديسمبر سنة 1881 عن إدارة هذه الأموال؛ لتكون تابعة لنِظَارة المالية في
مقابلة إيراد 371363 سهمًا، قيمة كل منها 22 جنيهًا مجيديًا، وربحه السنوي
خمسة في المائة، وذلك عبارة عن رأس مال قدره 8169986 جنيهًا مجيديًا.
لحاملي هذه السهام حق الأولوية على مَن عداهم من أصحاب قروض الدَّين العثماني
العمومي، وهذا الحق يكسبهم مبلغ 590000 جنيه مجيدي، بعضه فائدة، وبعضه
من أصل الدَّين، يُستنزل لهم في كل سنة بمقتضى هذا الامتياز من صافي إيراد
الأموال المتقدم ذكرها؛ ولذلك سميت هذه السهام بالسهام الممتازة.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
الأخبار
(تداركها يا أمير المؤمنين!)
جاءتنا رسالة مطبوعة عنوانها (ضجيج الكون من فظائع عون) ، يُنسب فيها
للشريف أمير مكة لهذا العهد من الظلم والإلحاد في الحرم العجب العُجاب. ولم نلقِ
لها بالاً لأول وهلة، ولكننا أخذنا صباح أمس بريد الهند وجاوه فإذا فيه كتاب لنا
من مُكاتِبِنا في سنغافور يَذْكُر فيه الرسالة، ويعظم من أمرها، ومما قاله:
(الرسالة المذكورة تُرجمت، ووزعت في أقطار جمة، وهي حَرية بإمعان النظر؛ إذ
الاختلال الجاري بالحجاز أشهر من أن يُذكر، وقد صار لهذه الرسالة تأثير عظيم،
حتى إن بعض المساجد قطع الخطبة لمولانا الخليفة - أيده الله - تحاشيًا من الكذب
بأنه خادم الحرمين، وقد اغتنم بعض أعداء الدولة هذه الفرصة، وابتدأوا يجوسون
ويؤملون أن تجد الدول الأورباوية سبيلاً للتداخل في الحرمين (لا قدر الله ذلك) ،
فكان من الواجب التحذير والتنبيه لسد الذريعة، وحسم الداء؛ لعلنا نصل إلى
الاتحاد المرغوب، والعاقل حَذور.
ولو أَلْفُ بَانٍ خَلْفَهُم هادِمٌ كَفَى
…
فكيفَ بِبَانٍ خَلْفَه ألْفُ هَادِم
وقد يسوءني - ككل مخلص للدولة - سعي كثير من الجرائد في سبيل
التمويه والمواربة، بل غش الدولة وتغريرها، والله المستعان) . اهـ المراد منه.
(المنار)
إن الذين يكتبون في تنبيه الدولة العلية، وانتقادها ثلاثة أقسام:
1-
المخلص الذي يلتهب غَيْرَة عليها وقليلٌ ما هم.
…
...
…
...
…
...
…
2-
والشامِتُ المتشفِّي.
3-
والطامع بالرفد والنوال.
ولمّا ظهر لمُحبي الدولة أنه لم توجد جريدة منتقدة إلا وظهر أنها منبعثة بأحد
الغرضين المذكورين آنفًا، مقتوا كل منتقد، فصار النَّاصِحُ في حَيْرَة لا تسمح له
ذمته بمجاراة المنافقين الذين يغشون الدولة بتقديس جميع أعمالها، ولا تتسنَّى له
النصيحة؛ لأنها تُقابَل بالمقت والظنة، ويرمى صاحبها بالعداوة لدولته وأمته، لا
سيما والأكثرون لا يكادون يفقهون حديثًا، والحق أن الذي يبحث عن الخلل - وإن
كان متشفِّيًا - أنفع ممن يجعل السيئات حسنات؛ لأن هذا غاشّ خادع، وفي الحديث
الشريف: (مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا) .
عِدَاتي لهم فضل عليَّ ومِنَّة
…
فلا أَذَْهَبَ الرحمن ُعَنِّي الأعاديا
هم بحثوا عن زَلتي فاجتنبتها
…
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
وكأني بهؤلاء المنافقين، وقد استهانوا بمسألة الشريف، فمنهم مَن كتمها،
ومنهم يموه تمويهًا، ولكننا نحن نستلفت أنظار مولانا أمير المؤمنين إليها، ونسأله
أن يغضي عن سياسة استدراج الشرفاء، وملاينتهم الآن، ويتدارك هذا الأمر الجَلَل
ولو بما يقنع المسلمين في أقطار الأرض باهتمامه في شؤون الحرمين الشريفين
(والله له خير ناصر ومعين!) .
***
أنبأنا بريد سوريا بأن جماعة سماحتلو الشيخ أبي الهدى أفندي في طرابلس
الشام فأنشأوا يضطهدون أهلينا؛ لأن جريدتنا (المنار) غير مرضية عند سماحته،
وبلغنا أنهم سيخلقون تهمًا يلصقونها بإخوة هذا الفقير منشئ (المنار) إذا لم يبادر
بإرضاء صاحب السماحة، ويشهد له بالإمامة، والقطبية الكبرى، كما شهدت
له بعض الجرائد المنافقة.
وكيف يسمح لنا ديننا وضميرنا بهذه الشهادة لمن يسعى بعقاب طائفة شريفة
نزيهة إذا هو غضب على واحد منهم، وهم لا يعلمون بذنبه، بل كيف يمكننا أن
نصف مَن يعمل مثل هذا العمل بالإسلام، ونبي الإسلام، يقول: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ
الْمُسْلِمُونَ مِنْ شَرِّ يَدِهِ وَلِسَانِهِ) فإذا كان حاكم طرابلس ومتصرفها، صنيعة الشيخ
أبي الهدى وابن عمه بالمصاهرة، فلِمَن يشكو أهلونا، وحاكمهم هو خصمهم،
وبينهم وبين السلطان الأعظم حُجُب، أكثفها أبو الهدى نفسه؟ !
نقول: ليشكوا أمرهم إلى الملك العدل، وهو الله العلي الكبير.
***
(إعطاء القوس باريها)
لا خلاف في أن المحاكم الشرعية في القطر المصري كله في اختلال عظيم
تحتاج بسببه إلى إصلاح عظيم، ولكن إصلاحها أعيا أطباء النظام، والجالسين
على أرائك الأحكام، فسماحة قاضي القضاة، على فضله ونُبْله - لم يُداوِ لها عِلَلاً،
ولم يُصلح خللاً، ولقد مكث في منصبه هذا بضع سنين، بحيث يصح أن يقال له:
{أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (فاطر: 37) وحَوَّمَتِ
الحكومةُ حول الإصلاح غير مرة، ولكن لم تقع عليه، ورمت إليه عدة سهام،
فأخطأت كلها الغرض، فأجمعت آراء أُولي الأمر. عقيب ذلك الأمر الأمَرّ، وبعد
إجالة قداح الفكرعلى إعطاء القوس باريها، علمًا بأن صاحب الدار أدرى بما فيها.
اتفق الجميع على تفويض العمل إلى علَاّمةِ الشرع والأحكام، وحكيم الإدارة والنظام.
الذي لم يُعرف له ثانٍ، متبحر على علم الدنيا والدين، جامع بين الإرادة الفعالة،
والغَيْرَة على مصلحة المسلمين. ألا وهو أستاذنا الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي
الديار المصرية.
أناطت الحكومة بفضيلته تفتيش المحاكم الشرعية، ووضع الأصول التي
يراها كافية لإصلاحها، فتلقت جميع الجرائد هذه البُشرى بالبِشر والارتياح.
واتفقت على اختلاف منازعها ومشاربها، على أن هذا هو طريق النجاح. وأعربت
عن الأمل بإصلاح الخلل، وإزالة العلل. فدل هذا على أن الأستاذ هو الرجل الفرد
الذي نال الثقة الكاملة من مجموع الأمة، حاكمها ومحكومها، فليتأمل هذا بعض
المخدوعين. الذين يأخذون ترجمته من أفواه الحاسدين، وخرص المذاعين.
***
(الحياة)
مجلة علمية إسلامية شهرية، لصاحبها الكاتب الفاضل محمد فريد أفندي
وجدي وقد صدر العدد الأول منها طافحًا بالمقالات المفيدة، منها مقالة في التمدن
والتديُّن، وأخرى في (تغذية الجَنان ببدائع الأكوان) ، ومقالة في إثبات وجود
الله تعالى، ومقالة في ما وراء المادة، وشذرات علمية مفيدة على فكاهة فيها. وقد
سلك في مباحثها مسلك كتابه تطبيق الديانة الإسلامية.. إلخ.
والجريدة في حجم المنار (ملزمتين) ، وقد طُبعت في مطبعته بحروفه
الصغيرة، وقيمتها 15 غرشًا في القطر المصري، و20 في غيره، ولطلاب العلم
10، فنحث القُرَّاء على الإقبال عليها.
تصحيح غلط
وقع غلطٌ في بعض الآيات في الملزمة الأولى؛ ففي السطر الذي قبل الأخير
من صفحة 3 (ألا لله الخالص)، والصواب:{الدِّينُ الخَالِص} (الزمر: 3) ،
وفي السطر 3 من صفحة 214: (ما في السموات وما في الأرض) ، والصواب
{فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الأَرْض} (يونس: 18) وفي السطر 15 منها (إن عليك
البلاغ) ، والصواب:{إِلَاّ البَلاغُ} (المائدة: 99) ، وفي السطر الذي بعده
(وما أنت عليهم بمسيطر)، والصواب:] لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ [ (الغاشية:22) .
_________
الكاتب: رفيق بك العظم
كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية
ألَّفه حديثًا؛ لتربية أفكار النشء الإسلامي على مبادئ الدين من طريق العلم
والعقل، ومبادئ العمل من طريق الدين، صديقُنا الكاتب الفاضل رفيق بك العظْم
ناظر المدرسة العثمانية، وإننا ننقل دَرْسًا مُخْتَصَرًا مِن دروسه نموذجًا للقرَّاء، وهو:
(الدرس السابع: معرفة الدِّين واجبة)
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108)
إذا كان الدين ضروريًّا لازمًا للاجتماع، فمعرفة الدِّين أيضًا لازمة لكل فرد
من أفراد أهله، بلا استثناء، ولا يكفي في هذه المعرفة كون المسلم مثلاً يعرف
الأركان الخمسة للإسلام، بل يلزمه أن يكون على بصيرة من دينه وعلم، ولو
إجمالي بشرائعه وسياسته، فإذا سمع قارئًا يقرأ، أو قرأ هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) -
يتدبر معنى هذه الآية؛ لقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (ص: 29) .
ويكون على علم، ولو إجمالي من فوائد هذه الطاعة، وأنه يترتب عليها
مصلحة المؤمنين، وترتبط بها سعادة المسلمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأمر
عباده إلا بالخير، والرسول كذلك لايأمر إلا بخير أيضًا، فوجبت الطاعة لهما فيما
يأمران به، وينهيان عنه؛ لأنه خير ومصلحة للمؤمنين، وكذلك وليّ الأمر، إنما
وجبت له الطاعة من حيث وجبت لله وللرسول؛ لكونه منفِّذًا لأوامر الله والرسول،
وهي خير كما تقدم، فالطاعة له خير أيضًا. ولا جرم أن العلم بالشيء - من حيث
إنه خير - يوجب الرغبة فيه، والميل إليه، فعلم المسلمين بهذه الطاعة أنها خير
يوجب تأصل الشعور في نفس كل فرد منهم بأن هذه الطاعة واجبة لله في جميع ما
شرع من الأحكام للمسلمين، فوجب معها العمل بكل ما أمرهم به من التمسك بالعقائد
والمحافظة على الدين، والذود على حياض الشريعة، والقيام في وجه العدو،
والاتحاد على كلمة الإسلام، وغير ذلك من المصالح المتوقفة على الطاعة التي لا
سبيل إلى أدائها إلا بالعلم بها، وما لا سبيل إلى أداء الواجب إلا به فهو واجب،
فالطاعة واجبة، والعلم بها واجب أيضًا، وهكذا الحال في سائر ما جاء به الدين؛
لأن التوحيد الذي هو أول ركن من أركان الدين إنما دعانا الله إليه من طريق العلم،
فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ} (محمد: 19) فما بالكم ببقية فروع الدين
وأصوله؛ لهذا كان العلم بالدين واجبًا على جميع المسلمين، وبمعرفة هذا الواجب
عمل الصحابة الكرام بسائر ما جاء به القرآن، وأمر به نبيُّنا - عليه الصلاة
والسلام - فمن لم يكن منهم على علم تفصيلي بأمر الدِّين كفاه العلم الإجمالي، فدعا
إلى الله على بصيرة، وعمل بعلم، وبهذا وَصَفَ الله المؤمنين، وإليه أرشدهم في
قرآنه العظيم، فقال تعالى - مخاطبًا لنبيه عليه الصلاة والسلام: {قُلْ هَذِهِ
سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) وبهذا أَلَّفَ
الصحابةُ الكرام قلوبَ الأمم على الإسلام، وعَمَّموا الدين واللغة والسياسة بين الأنام؛
فملأوا الأمصار علمًا، وضربوا دون الجهالة سدًّا؛ فأخذوا بنواصي الأمم،
وانقادت لهم الشعوب، وانحطت دون هممهم الهمم، وأخضعوا قياصرة الروم
وأكاسرة العجم، ومرت على ما أسَّسوه من قواعد العمل بالعلم أعوام وأيام، أتى
بعدها خَلْف انقلب إلى الشهوات، وقنع بآثار المجد، وخَلْف آخر أحرجه مرض
القلوب؛ فلجأ إلى الحشو في الدين، والإكثار من القول على غير يقين؛ ففرقوا
وحدة الأفكار، وشتتوا أجزاء الأمة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ألا بئس ما
كانوا يصنعون! اهـ.
_________
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
استنهاض همم
(8)
وأما الشعب الفارسي، فهو حسن القابلية للحضارة، سريع الانقياد لدواعي
التمدن العصري، واقتباس أساليبه على مقربة من المعارف والآداب، لولا ما مُنِي
به من سوء إدارة أُمرائه، وتثاقل هممهم دون النهوض لإصلاح الشأن وبَثِّ العلم،
وجمع الكلمة. مضى الشاه السابق لسبيله، وخَلَفه ابنُه الحالي؛ فتطايرت الأنباء
بأنه راغب في الإصلاح، عامل على تهذيب أمته، مغذ السير في سبيل إسعادها،
ثم لم نلبث عشية أو ضحاها، حتى خاننا الأمل، وخامرنا اليأس، واستطارت
أخبارٌ عن شؤونٍ وأطوارٍ لا تنطبق على قانون انتظام الأمم، ولا تتمشى مع
نواميس نهضة الشعوب. وأهم ما سُطِّرَ في تاريخ الأمة الفارسية لهذه الأزمنة
المتأخرة، ظهورُ أحداث دينية، وتشعباتٍ مذهبية تَفَرَّقَ لها القومُ أحزابًا، وولجوا
في أطوائها من المصائب بابًا بابًا. فتح ميرزا علي محمد للشعب بابًا؛ فقلنا: هو
باب خير للإيرانيين يدخلون منه إلى جنات النعيم، فجاءهم من قِبَله العذاب الأليم!
يا ويح الشرق ولتعاسته! أتعترض السحب المكفهرّة في سماء أهل الغرب،
فتمطر عليهم النعماء، وتنبت في تربتهم أعشاب الفوائد، وثمرات المنافع؟ وإذا
اعترض مثلها في أفق الشرق، ورجا أهله منها ما أصاب أهل الغرب؛ رمتهم
بحجارة من سجيل، وأنبتت في أرضهم الحنظل والمرار (نبات مر) ، وأشواك
المحن والمضار. تُلَوِّحُ في جَوِّ أولئك بوارقُ تُرِيهم في ظلمات أحوالهم مواقع الخلل،
وتهديهم الجدد [1] ، وتعقبها صواعق تُقَوِّض صروح الاستبداد، وتمزق مسامع
ظالميهم، وتحصد رؤوس منافقيهم. وإذا لاحت بارقة من مثل ذلك في جو هؤلاء
المساكين؛ خطفت أبصارهم، وامتلخت قلوبهم، وبهرجت [2] بهم الجادة وأَرَتْهَا
لأعدائهم، فسلكوها إلى أذاهم، ومحو صواهم [3] ، وانقضّت معها صاعقة زلزلت
ديارهم، ومحقت خيارهم، ولبَّستهم شيعًا يذوق بعضهم بأس بعض. تهب أعاصير
الشقاق في ربوع أوروبا؛ فَتَقْتَلِع تماثيل الضلال، وتُقَوِّض هياكل الظلم والاستبداد،
حتى إذا هَبَّ في أصقاع الشرق ما يحاكيها؛ قَوَّضت صروح مجدهم، ونسفت معالم
عِزِّهم، وكشفت الغطاء لعدوهم عن عوارهم؛ فأغرته بهم، ومَهَّدَت أمامه طرق
الاستيلاء عليهم، يا سبحان الله! أما كانت التَّحَزّبات والتشعبات سببًا في نهضة
أوروبا وتنبهها؟ أما كانت مدعاة ليقظتها من غفلتها؟ أما هي التي رمت جذوة
الغيرة في قلوب الأحزاب والطوائف؛ فنشطوا للأعمال، وتنافسوا في إحراز
الكمالات؟ أما هي التي رفعت برجال كل قبيل؛ للعمل في خدمة قبيله، وتفضيله
مصلحته على مصلحة القبيل الآخر؟ أما هي التي بعثت رجال كل طائفة على
تذليل المشاق، والاستهانة بالأخطار في سبيل بث تعاليم طائفتهم، ونشر لغتها
وآدابها وعوائدها؟ مَن يصدق أن الثورة الفرنسوية العظمى، بل الفظاعة البربرية
الشؤمى هي كما زعموا جرثومة الإصلاح في الغرب، وأرومة تلك المدنية العبقرية
التي يتنافس فيها المتنافسون، وأن صُبْح الحرية لم يتنفس في جو الغرب إلا بعد أن
استمد أنواره من نيران ذلك البركان المتفجر، والجحيم المتسعر، فما لحباحب حادثة
الباب جرَّت على الشعب الإيراني الويل والبلاء، وسحبت على معالم عِزِّه ذيول
الخيبة والعفاء؟ أسباب ذلك كله أسرار مكتومة في مطاوي شؤون معلومة، وما
يعقلها إلا العالمون.
ومما شرحناه من حال الحكومتين الأفغانية والفارسية؛ يستبين للنبيه أنهما
على مقربة من مداخلة الأجنبي، والوقوع في حبالة طمعه، لا سيما والعدو منهما
على قاب قوسين أو أَدْنى - عدوهما اثنان الروسية تشرف عليهما من جهة الشمال،
وإنكلترا من الشرق، أما الروسية فدعواها بطمعها فيهما اعتراضهما في طريقها
إلى البحر؛ لأن لهفها زائد، وشوقها قوي لتوسيع دائرة تجارتها، وهي إن أصدرت
من داخليتها مصنوعاتها ومحصولاتها غمرت وجه البسيطة، وإن استوردت
حاجاتها من الخارج استنزفت ما للبشر من المصنوعات والمحصولات، كل ذلك
لوفرة عدد رعاياها، وكثرت انفساح بلادها، فهي في ظمأ شديد لورود بحار
تتناول منها وتناولها وماء البحر الأسود وقزوين والبلطيق ثماد ووشل لا ينفع لها
غلة، ولا يشفي علة، ولُجَج المحيط الباسفيكي التي تردها في الشرق الأقصى،
وإن كانت كافية لرِيِّها؛ لكنها بعيدة عن مركز التجارة العام، مترامية عن الجادة
العظمى التي تصل الشرق بالغرب، وتسلكها شعوب الخافقين، فليس على كثب منها
سوى البحر الهندي والذي يصدها عن وروده الحكومتان المذكورتان، وكذا الهند
والولايات العثمانية الشرقية، فهي في حاجة إلى احتلال هذه المراكز، وقوتها أحدثت
لها طمعًا في الاستيلاء عليها، أوالطمع في الاستيلاء أحدث لها القوة واستحثَّها لتوفير
وسائلها، وهذا الذي أَسْهَرَ عَيْنَ إنكلترا، واستطار لُبَّها.
وقد شرعت الروسية بالعمل؛ فتغلبت على كثير من الإمارات التترية، وأَلْقَتْ
بنفوذها في صحراء مرو المتاخمة لحكومتي الأفغان والفرس، وأنبأتنا الجوائب
الأخيرة أن السكة الحديدية التي مَدَّتها الروسية في صحراء مرو، قد أخذت
قضبانها تناطح حدود هاتين الحكومتين، فليطرب أفغانيي هرات وفارسي مشهد
لسماع تلك الألحان - أزيز مراجل السكة الروسية، وزمير بخارها، وزمزمة
رجالها.
إنكلترا حرصها على الهند، وتفانيها في حفظه أخرجها من الاعتدال،
وزحزحها عن موقف الكمال، وحملها على الجشع في كل ما له مساس بالهند؛
فتراها في ظمأ شديد لعبّ البحار، حتى كان بها داء الاستسقاء، وفي قرم زائد
لالتهام الشعوب، كأنها أصيبت بجوع البقر، وما ذلك إلا شغف بالهند، وحذر عليها
من أبناء أبيها آدم، والحكومتان الأفغانية والفارسية واقعتان في قارعة الطريق
الأعظم المؤدي إلى الهند، فلا غرو أن كان لهما خطر وشأن في نفس إنكلترا. ومما
يشحذ من غرار طمعها في هاتين الحكومتين، ما تراه من دأب الروسية في التقرب
منهما، والتزلُّف إليهما، والتحويم حولهما؛ فتخشى أن تصيبهما يومًا ما دائرةُ سوء
من قِبَلها، أو تمسي الروسية محتفَّة بالهند، وآخذة بأكظامه (مدارج أنفاسه) شمالاً
وغربًا؛ فإنكلترا في أوساط آسيا أخشى مَن تخشاه؛ بل لا تخشى أحدًا سوى
الروسية، تحذر من أن يشتد بها الظمأ؛ فتهوي بكتائبها الرجراجة من قمم جبال
هندكوش على تلك البسائط، ولا تقف إلا حيث تتنفس أمواج البحر الهندي.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
(الجدد) بالتحريك: الطريق يؤمن فيه العثار.
(2)
(بهرجت بهم) إلخ: أي عدلت بهم عنها، وغيَّبتها عن أنظارهم، فتنكّبوها.
(3)
(الصوى) : جمع صوّة: وهي أَعْلام تُنصب في المفاوز؛ يهتدي بها المسافرون.
الكاتب: كاتب من تونس
مراكش
لمكاتبنا الفاضل في تونس
مضت السنون، وتطاولت الأزمان على سلطنة مراكش وهي على حالتها
الطبيعية، لم تسعَ - ولو بعض السعي - في تحسين أحوالها الداخلية، بل راضية
بما هي عليه من الحالة الراهنة التي أمست فيها رعاياها، كأمة فوضوية؛ حيث إننا
نرى كل يوم في أعمدة الجرائد أن القبيلة الفلانية شقت عصا الطاعة، وسكان الجهة
الفلانية نهبوا أو قتلوا بعض الرعايا الأجنبية، ونحو هذا من الأخبار المحزنة التي
تفتت لها أكباد مَن كانت لهم أدنى حمية إسلامية.
هذا، والسبب الوحيد في استدامة الأمة المغربية هذه السيرة، هو حب ملوكهم
للاستبداد والجهل المستولي على عقول الرعايا، ولو فَتَحَت بينهم المكاتب، وتغذت
أبناؤهم بلبان المعارف؛ لعرفوا اليوم ما لهم وما عليهم. ألا ترى أن أوروبا كانت
أتعس القارات؟ وكان الاستبداد والظلم فيها سائدَين، ولمَّا بثت بين سكانها العلوم؛
عرفوا حقائق الأمور، وقَيَّدوا استبداد حكامهم بسلاسل القوانين، ولم يَقِف في سبيل
عملهم هذا عظمة الملوك والإمبراطورين، ولا تَحَزُّب أحزاب الأشراف، وتعصب
النُبَلاء والكبراء.
إن هاتِه المملكة القائم استقلالها على أسِنَّةِ رماح أوروبا، لولا التحاسد؛
لاحتلتها أقلَّ الدول الأوربوية، ولم ينفعهم ذلك الكَرّ والفَرّ، وتلك الشجاعة البربرية
أمام النظام وصواعق الآلات. ومن العجيب أن القوم لم ينتبهوا، وقد تكررت
عليهم المصائب الأوربوية، ولم تدخل فيهم روح الغيرة، وقد جعلت أرضهم
للاستظهارات الحربية! ألم يقرأ سلطانهم وعلماؤهم وأعيانهم قوله تعالى:
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) ؟ ألم يطَّلِعوا على الحديث
الشريف: (مَنْ قَاتَلَ فَلْيقَاتِلْ كَمَا يُقَاتِلُ) ؟ لقد كان الخلفاء الراشدون - رضوان الله
عليهم - عاملين بإرشاد كتابهم، وهَدْي نبيّهم، ولقد كانت وجوههم مشرقة بنور
الإسلام، وقلوبهم تخفق بأجنحة الإيمان، ولم يعتمدوا على ذلك، بل فعلوا ما أمرهم
الله من وجوب اعتبار السبب قبل الاتِّكَال؛ حتى بلغت الأمةُ الإسلامية في تلك
الأزمان أقصى درجات العز، وداست أقدام الجنود الإسلامية غالب المعمور،
وعبثت باستقلال مَن هُم أشد منها باسًا وأقوى سلطانًا. وهكذا كانت حالة الإسلام
نحو سبعة قرون، مع أن الخلافة انقلبت إلى الملك وانغمست الأمة في الترف، إلا
أنهم كانوا محافظين على الشريعة، عاملين بإرشادها، ولا سيما فيما يتعلق بأمر
المصاولة والمكافحة، وبذلك دام ملكهم، واتسعت فتوحاتهم، ووصل الإسلام إلى
أوْج الفخر، وقصارى العز، ولمَّا نَبَذْنا الشريعة وراءنا، وتَتَبَّعْنَا الأهواء والصالح
الذاتي؛ دارت علينا الدوائر، وفُقدت غالب الممالك الإسلامية من أيدينا، وصِرْنَا
اليوم موسومين بأننا لسنا قادرين على تدبير الملك.
إن الممالك الإسلامية هي التي جعلت الأمم الأجنبية في ريب من شريعتنا
السمحة الصالحة لكل زمان ومكان، فزعموا أنها غير كافية في هذا العصر لإدارة
الأمور الدنيوية، بل يجزمون بأن ذلك التأخر الضارب أطنانه في كل شعب إسلامي
ناشئ عن دواعٍ دينية، ونحن لا نعترض على من يَعْتقد هذا الاعتقاد؛ إذ جهله
بالشريعة الإسلامية يجعلنا نضرب عن قوله صفحًا، وقد شَهِد العارفون منهم بحسن
شريعتنا، وصلاحيتها دينًا ودنيا، كما أننا لا نحتاج إلى استحسان قول زيد، وانتقاد
قول عمرو، وإنما أقول: إن الخلل المُحْدِق بالممالك الإسلامية في هاته القرون
الأخيرة، كان منشؤه الانحراف عن الدين؛ بإيثار الملوك منافعهم الشخصية على
المنافع العمومية، وانقسام السلطة، والانهماك في اللَّذات، فلم تسقط الممالك
الأندلسية التي سقط لسقوطها عِزُّ الإسلام شرقًا وغربًا إلا لانقسامها إلى ملوك
طوائف، ولو لم تخرق ملوكها سياج الشريعة؛ لكانت اليوم أعظم الدول نظرًا لما
أَبْدَته الأمةُ الأندلسية من الاستقامة والتدبير والمدنية. ولكن أنَّى لها ذلك، وقد سبق
في علم الله القديم أن تلك المملكة لا بد أن تُمحَى بسوء تدبير سواسها من لوح
الوجود. ولنُثنِ عِنان القلم إلى بيان أحوال مملكة الغرب الأقصى لهذا العهد، فنقول:
كلما وقع حادث سياسي في تلك الأصقاع يزداد النفوذ الأورباوي هناك، ويتخذ
الأجانب كل واقعة ذريعة إلى تنفيذ أغراضهم، وزيادة التداخل في أحوال المملكة
الداخلية، وهذا أمر يُخشى معه على استقلال تلك المملكة؛ إذ الحوادث الماضية
أرتنا ما تفعل يد الدسائس الأجنبية في الممالك الشرقية، وقد صارت اليوم هدفًا لنبال
الدسائس، وآلة بيد الأجانب، ومع ذلك لم يتعظ القوم، بل مازالوا على ضلالهم
القديم، ولو كانوا يتعظون لاتعظوا بحربهم مع فرنسا سنة 1260 الذي تسبب عن
دخول الأمير عبد القادر الجزائري الشهير إلى أراضي المغرب؛ إذ إن رجال
المغرب في ذلك الوقت كانوا غافلين عما صارت إليه الجنود الأورباوية من النظام؛
فلم يكترثوا بالجند الفرنساوي الذي كان ضاربًا أطنابه بالقرب منهم، وعندما قصد
المارشال الفرنساوي بجنوده المنظمة المحلة المغربية، لم يجد أمامه إلا قومًا مذبذبين،
ليس لهم نظام ولا معرفة بالمواقع الحربية، وقد قاد هذا الجند المختل الأمير محمد
ولم يكن على علم بقيادة الجيوش في ميادين القتال، ولكنه اكتفى بكثرة ما لديه من
الجنود، فلما التقى الجمعان، انهزمت الجيوش المغربية الجرَّارة أمام الجيوش
الفرنساوية القليلة أسوأ الانهزام، وما ذلك إلا بسبب النظام وحسن الآلات،
والمعلومات الحربية التي صارت اليوم علمًا طويلاً يتنافس فيه أولو الغيرة الوطنية،
والحمية الجنسية. وكم من حادثة مثلها، أو أشد منها عليهم. وغير بعيد ما حلَّ
بتلك الحكومة من المذلة والعار في واقعة مَلِيلَة التي دفعت فيها لحكومة الأسبان
عشرين مليون فرنك إرضاءً لها عن تعدي القبائل على حدودها ورعاياها، وليست
هذه بالأولى، بل في كل عام تدفع قسطًا عظيمًا من دخلها؛ إرضاءً لزيد، وتسكينًا
لغضب عمرو {أَوَ لَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا
هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .
ولو حَسَّنت داخليتها، وكَفَّت أيدي رعاياها عن أي تعدٍّ، وجمعت تلك الأموال
التي تدفعها كل عام، وفتحت بها مكاتب أماطت بها حجاب التغفل عن عقول أولئك
القوم، لكان خيرًا لها، وأقوم لشرفها وبقائها بين الأمم، فكل ذي لب يعلم أن تقدم
تلك المملكة متوقف على بث العلوم والمعارف - لا سيما التاريخية والاقتصادية،
والزراعية والعسكرية - بين سكانها؛ حتى يعلموا أن وراء البحار أممًا
يسهرأهلهاعلى مصلحة بلادهم، والذَّبِّ عن أوطانهم، ويتعاضدون على كل ما يعود
عليهم بالفخر، وعلى أوطانهم بالعمران، وأن لهم جنودًا قد فاقت الحد عُدة وعددًا
وأساطيل، يَرْتَجُّ لها المحيطُ عندما تعلوه، وتَخِرُّ لها الاستحكامات والحصون،
وتميد لها الجبال، وأن العلوم والمعارف عندهم نافقة أسواقها، متدفقة سيولها، ولها
أبناء قد تغذوا بلبانها، وشَبُّوا وشابوا على حبها، ومطالعة جمالها، وهاهم اليوم
مثابرون على إصلاح أمورهم، ومتعاضدون على مصلحة أوطانهم، وكلما يرون
بلدًا مختل النظام كبلادكم، أو إقليمًا عديم التدبيركإقليمكم، يستولون عليه بدعاوي
سياسية، ويتخذون ذلك الاختلال حجة للاستيلاء، وإذا دافع عن نفسه ضربوه بحد
السيف، وأجبروه على ترك الاستقلال.
إِلامَ - أيها الإخوان - أنتم غافلون؟ ! وحَتَّامَ - يا أبناء الأعزاء - وأنتم
متكاسلون؟ ! ألم يَدْعُكم كتابُكم إلى تحسين أحوالكم الدنيوية، كما دعاكم إلى
تحسين أحوالكم الأخروية؟ ألم يَدْعُكم نبيُكم - عليه أفضل الصلاة، وأزكى
التسليم - إلى الذَّبِِِ عن حوزة المِلَّةِ والدِّين ؟ أم لم تُنَبِّهْكم الحوادثُ التي رأيتموها،
وتََزْجُرْكم المَذلة التي شاهدتموها؟ أم لم تتعظوا بما حَلَّ بإخوانكم، لمَّا كانوا مثلكم
غافلين؛ فعبثت يدُ الأجانب باستقلالهم، وداست أقدام العدو أعناقهم، ولم ينفعهم
الندم بعد حلول القضاء، ولم يُنجِ التأسف عند فتح باب البلاء. لِمَ لا تنبذون هذه
المذلة وأنتم قادرون على الابتعاد عنها؟ ! . وعَلامَ لا تنتقلون من هذه الحالة التي
يجب انتقالكم عنها؟ ! . أترضون أن تدخل بيوتكم الأعداء، أم تحبون أن تستولي
على أوطانكم الأخصام الألدَّاء.
تلك نصائح صادرة عن حمية إسلامية، والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو
على ما نقول وكيل.
…
...
…
...
…
...
…
...
…
... (ش. د)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
]
أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [[
1]
منشئ هذه المجلة مسلم من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يُعبد غيره، ولا يُستعان إلا به {إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، ولا يُتَقَرَّب إليه إلا بالإيمان والعمل الصالح،
وترك المحرمات والقبائح، ويشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ما أرسله مسيطرًا
على العباد، ولا وكيلاً ولا جبارًا، وإنما أرسله مبشرًا ونذيرًا، ويشهد أن جميع ما
جاء به عن الله حق؛ مَن تمسك به سَعِد، وإن كان عبدًا زنجيًّا، ومَن أعرض عنه
شقي، وإن كان قرشيًّا فاطِميًّا؛ ففي حديث البخاري مرفوعًا: (يا فاطمة يا بنت
محمد سَليني مِن مالي ما شئت؛ لا أغني عنك من الله شيئًا) ويعتقد أن الله تعالى لم
يجعل لأحد من عبيده الأحياء - فضلاً عن الأموات - قدرة على التصرف في الكون،
وإسعاد الناس وإشقائهم وراء الأسباب العادية التي يصل إليها الإنسان بجِدّه واجتهاده،
وكسبه واختياره، وإن هذه الأسباب منها ما هو مشهور يعرفه جماهير الناس، ومنها
ما هو خفي لم يصل إليه إلا بعضهم. هذا مجمل ما يعتقده ويدعو الناس إليه في
(المنار) ، ولكن هذه الدعوة ساءت الذين بنوا هياكل مجدهم وسيادتهم على أساس
الاعتقاد بأنهم هم وشيوخهم يتصرفون في الأكوان، فيُسعدون ويُشقون، ويُميتون
ويُحيون، ويغنون ويفقرون؛ فقادوا الناس بسلاسل الوهم إلى الخضوع لهم، حتى
فَسَد دِينُهم، وخربت دنياهم. وحَبَّبَ هذا الاعتقاد إلى الدَّهْماء ما فيه من تخفيف ثِقَل
التكليف، بل ما فيه من معنى الإباحة.
وأي إباحة أعظم من اعتقاد المنتسب للطريقة الرفاعية أن مَن يلمس يد الرفاعي
أو أحد خلفائه وذريته لا تحرقه النار! ، كما هو مذكور في كثير من كتب هذه الطائفة
التي نشرت بالطبع في هذه العشرين سنة الأخيرة، وأي تغرير بالمسلمين في دينهم
أعظم من قول هؤلاء القوم: إن السيد أحمد الرفاعي الكبير قال: إن الولي يصل
إلى درجة يقول فيها للشيء كن فيكون! (راجع صفحة 85 من كتابهم المسمى
إرشاد المسلمين) ، فناشر هذه الكتب والتعاليم، وهو الشيخ أبو الهدى أفندي،
الشهير لا شك أنه استاء مما يدعو إليه (المنار) ، فكتب إلى ابن عمه متصرف
طرابلس بدري باشا بأن يضطهد أهلينا، فاتفق مع العسكرية على إرسال إخوتي في
العسكرية، مع أنهم من طلاب العلم الذين استثناهم القانون، وأحدهم جاوز الأسنان
بهذا الاستثناء، ولم يكتفِ بهذا، بل هددهم بأكثر منه، مما لا نذكره إلا إذا وقع.
وقد علمنا من أخبار الآستانة أن سماحته عازمة على إرسال شخص من أتباعه إلى
مصر ليقتل منشئ (المنار) ، وليس هذا على أفكاره ببعيد؛ فقد كان صرَّح لمدير
الجريدة - عندما كان في الآستانة - بأنه يرسل كتابًا إلى اللورد كرومر يطلب فيه
إرسالي إلى الآستانة بالقوة، وإلا يرسل مَن يقتلني في مصر. وكأنه حسب أن
اللورد كرومر، كابن عمه بدري باشا متصرف طرابلس - يطيع أمره؛ لأنه يخدم
السفارة الإنكليزية أحيانًا، ولكن أخطأ حسبانه. أما عزمه على قتل هذا الفقير، فهو
لأجل أن يدَّعي - إذا تم له هذا - بأنه كرامة من كراماته، كما ادَّعى أن موت
المرحوم السيد جمال الدين كرامة له. {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَاّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (التوبة: 51) ، إذا تم لبدري باشا استخدام الهيئة
العسكرية في اضطهاد قومنا، فإننا نأسف على إهانة الشرف العسكري العثماني أشد
مما نأسف لإهانة أهلينا، على أننا ممن يرى العسكرية شرفًا وأن تَرَفُّعَ أهل العلم
والشرف عن خدماتها خطأ، وعائق عن ترقيها، وبلوغها الكمال، وإننا ننتظر ما
يتم في هذه المسألة، فإذا ظَلُّوا متمادين في ظلمهم؛ نكشف الستار عن مخبآتهم في
الهيئتين الملكية والعسكرية، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
_________
(1)
غافر: 28.
الكاتب: محمد رشيد رضا
تابع
قليل من الحقائق عن تركيا
في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني
هذا الاتفاق المبرم في 20 ديسمبر سنة 1881 كثير النتائج الحسنة في زيادة
مالية المملكة العثمانية، لا من حيث ما لَقِيه من الفوائد العاجلة فقط، بل من حيث
الفوائد المستقبلة التي جعلها سهلة الحصول. وقد وضعت جلالة السلطان بما عهد فيها
من الحكمة في الإرادة السنية التي صدرت بهذا الاتفاق في شهر ديسمبر سنة 1881 -
مبدأ تحويل الدَّيْن العثماني الذي وحَّده توحيدًا، كان فيه أكبر فائدة لجميع المعاملات
العامة ولمصلحة حسابات المالية. لم يتوقف وكلاء البيوت المالية بلندرة وباريس
وفينا وبرلين، وهم أصحاب الأغلبية من حاملي السندات العثمانية في قبول هذا المبدأ،
فصدرت إرادة سنية في 31 يوليه سنة 1883 بالتصديق على مشروع مجلس إدارة
الإيرادات المتنازل منها للدائنين، الخاص بتحويل الدين العمومي الذي نقص مقداره
- كما علمت - وبالتصريح بإصدار سهام جديدة.
آخر الأعمال التي حصلت في هذا الشأن بعد تاريخ صدور هذه الإرادة - كان
في 13 مايو سنة 1884 ولمَّا تعين المندوبون لمراقبة التحويل في 23 يوليه من هذه
السنة، ابتدأت الأعمال في 20 نوفمبر منها، وتَحَرَّر لإنجازها ميعاد من أول مايو
سنة 1888 إلى 13 منه. غير أن هذا التحويل - أو توحيد الدين العمومي العثماني
- إن أردت تسميته باسمه الحقيقي، لم يكن إلا مقدمة لاتفاقات أخرى كان من شأنها
- فضلاً عن استمرارها على تقليل مقدار الدين العمومي والدين الداخلي المتداول -
أن تورد للخزينة العثمانية مبالغ مهمة. كذا كان تحويل الدين الممتاز وقرض الدفاع
في 27 إبريل سنة 1890.
وصدرت إرادة سنية مقتضاها، اقتراض مبلغ 19568500 فرنك يكون
ممتاز التحويل، بفائدة أربعة في المائة، تضمنه إيرادات الدين العمومي؛ لتحويل
السندات التي فائدتها السنوية 5 في المائة الممتازة المضمونة بتلك الإيرادات، أو
تسديد قيمها تبعًا لإرادة حامليها. قُسّم هذا القرض إلى 391363 سهمًا لحاملها،
قيمة كل منها 500 فرنك، وربحه السنوي عشرون فرنكًا، تُدفع أثمانها على أقساط
متساوية في أربع وأربعين سنة، أو على ثمانٍ وثمانين سحبة، تُحصل في كل
نصف سنة منها واحدة بالقسطنطينية في شهر فبراير وأغسطس من السنة، تحت
ملاحظة مجلس إدارة الدين العمومي، والمصرف (البنك) العثماني، وربح هذه
السهام يدفع ذهبًا في كل نصف سنة، يومي 13 مارس و13 سبتمبر من السنة بمدن
باريس والقسطنطينية ولندره وبرلين وفرنكفورت وأمستردام في مكاتب المصرف
العثماني، أو مكاتب وكلائه، حُدِّد ثمن السهم من هذه السهام الجديدة بمبلغ 411 فرنكًا
وخمسين سنتمًا، من 13 مارس سنة 1890 وأعطي الحق لحاملي السندات الممتازة
التي ربحها السنوي 5 في المائة في الاشتراك بالأولوية في تلك السهام بسعر 110
فرنكات، بدون أن ينقص هذا الحق شيئًا من حقوقهم، أو أن يدفعوا في نواله شيئًا.
إن مقدار الدفعة السنوية الواجبة لحاملي السندات الممتازة التي ربحها 5 في
المائة، والتي حُدِّد لتمام سدادها سنة 1906 - كان بمقتضى اتفاق 20 ديسمبر
1880 مبلغ 537000 جنيه إنكليزي، أما السهام الجديدة، فلما كانت دفعتها
السنوية مبلغ 392000 جنيه إنكليزي فقط، فقد نتج من ذلك نقص، فيما كان يدفع
مسانهة قدره 145000 جنيه إنكليزي في السنة، خُصص لسداد (استهلاك) أربعة
أنواع الدين على نسب متساوية، إلا الأول منها، فإن ما خُصص له من هذا المبلغ
هو 10000 جنيه إنكليزي فقط.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
مقتطفات الأخبار
نَعى إلينا بريدُ سوريا الأخير رجلاً جليلاً من أشهر سروات طرابلس الشام
وأَمَاجِدِها، وهو الحاج عبد القادر أفندي علم الدين توفاه الله تعالى في يوم الأربعاء
الأسبق، لستٍ مضين من صفر، عن نحو ثمانين سنة. أما الرجل، فقد كان سيد
قومه، ومفخر وطنه، مشهورًا بالتقوى والصلاح، والبر والإحسان، والرفعة
والشَّمَم، والرفق والتواضع، وحسن المعاملة قضاءً واقتضاءً. وهل يسود التاجر
التجار، ويكون الوجيه في قومه محل الثقة والاعتبار، إلا بمثل هذه المزايا
والصفات؟ ! ، فنعزي آل علم الدين الكرام، بهذا الفقيد الجليل، لا سيما شقيقه
الهمام، صاحب العزة الحاج عبد الرازق أفندي أحد أعضاء محكمة الجزاء، وأنجاله
الفضلاء الذين يُحيون ذكره بغُرر خصالهم، ومحاسن أعمالهم، أحسن الله لهم العزاء،
وجزى الفقيد في مقعد الصدق خير الجزاء!
***
اجتمع مجلس النُّظَّار في يوم الأربعاء الماضي في نِظَارة الداخلية تحت رئاسة
عطوفتلو مصطفى فهمي باشا، وأهم ما قرره التصريح لشركة إنكليزية باحتكار
المِلح في القطر المصري، ولشركة طليانية بإنشاء ملاحات في بورسعيد؛ لخزن
الملح فيها. وعلى تعيين صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار
المصرية عضوًا في مجلس شورى القوانين.
وقد عَظُم على المصريين أمر احتكار المِلح، ولقد كانوا في حَرج من احتكار
الحكومة له، فكيف وقد احتكرته شركة أجنبية؟ !
***
ذكرنا في الجزء الحادي عشر، الذي صدر في 17 محرم أن الباب العالي
أَمَر سَفيريه في لندن وباريس بالاعتراض على وِفَاق النيل بين إنكلترا وفرنسا؛
لأنه مجحف بحقوقه، وقد ذَكَر المؤيد الأغر في هذه الأيام أن الباب العالي بلَّغ
الحكومة المصرية مغزى الاحتجاج، ومما جاء فيه قوله: إن الباب العالي أبلغ
الحكومة الخديوية، بأنه رأى في المعاهدات الإنكليزية الفرنساوية بشأن السودان
أخيرًا ما يخالفه مقتضى قانون حقوق الدولة العلية؛ لأنها جعلت ما وراء طرابلس
داخلاً في النفوذ الفرنساوي، مع أن المعاهدات الدولية ناطقة من قبل بأن البلاد
السودانية من أملاك الدولة العلية؛ لذلك احتج الباب العالي على ما فعلت الدولتان،
وسارت العساكر الشاهانية؛ للمحافظة على أملاك الدولة العلية وراء طرابلس؛ مما
زعم أنه داخل بمقتضى الاتفاق الأخير ضمن دائرة النفوذ الفرنساوي. وأنه صار
من واجب الحكومة الخديوية إرسال قوة (فعلية) ؛ للمحافظة على الأراضي التابعة
للخديوية المصرية، التي هي من أملاك الدولة العلية. اهـ.
***
(المطالب)
جريدة أسبوعية كانت صدرت في القاهرة، ثم أُقْفِلت، وقد أُعيدت في هذه
الأيام ثانية، على أن تصدر في أيام الجُمع والآحاد، وانتهى إلينا أن صاحبيها
الأديبين حسين بك شاكر وحسن أفندي لبيب سيسلكان بها مسلكًا خيرًا من مسلكها
الأول، حقق الله لهما الآمال ورزقهما في عملهما النجاح!
***
(انتباه)
جريدة تركية، أصدرها في القاهرة الكاتبان البارعان علي مظفربك ومحمد
توفيق أفندي، ولم نقرأها، إلا أننا نستدل من تصديرها برسم السلطان مراد على
غرض صاحبيها منها، وهنا نستلفت الأنظار إلى ما كنا كتبناه عند ذكر جريدة
(أنين مظلوم) ، من أن الطمع في إرضاء الدولة لمَن ينتقد سياستها بالمال، هو الذي
أوجب زيادة القيل والقال؛ حتى صار يتعذر التمييز بين الصادق والمحتال، وبين
طالب الإصلاح ومبتغي الأرباح.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
النهضة الإسلامية في مصر
قالوا: إن للأمم ثلاثة أدوار: نموٌ، ووقوفٌ، وهبوط يَتْلوه الموت، ولكن،
كيف تتكون الأمة، فتتقلب في هذه الأدوار؟
كانت الأمم تتكون بالعصبية والحرب، وتحيا بقوة الساعد، وكثرة عدد
المساعد، وأما في هذا العصر، فقد ارتقى النوع الإنساني عن أن تكون حياته بقواه
الحيوانية وكثرته العددية، وصارت حياتُه بالقوّتين: العلمية، والأدبية، وما ينشأ
عنهما من القوة الصناعية، وفي اليابان والصين آية مبصرة للناظرين. وكيف
تنهض الأمم الخاملة بالعلم، وتحيا بعد موتها بالآداب؟
يسوق الله تعالى إليها، أو ينشئ فيها أفرادًا من أصحاب العقول الكبيرة،
والهمم العالية، والفضائل السامية، تكون لهم هذه المزايا بالفطرة، فيدركون بها
علل ضعف الأمة وخمولها، وأسباب صحتها ونباهتها، ويجتهدون في نشر هذا فيها
بالتعليم الصحيح، فعندما تُُلقى هذه التعاليم في الأمة تضطرب لها - وكيف لا
يضطرب الساهي تفاجئه صيحة الحق؟ ! - ثم تقع في حيرة، لا تدري هل
الصواب بقاؤها على ما كانت عليه؟ ، وإن أُنذرت بأن فيه حينها وهلاكها، أو
الأخذ بما تُدعى إليه، وفيه مفارقة عادها ومألوفها. ثم يكون الناس أزواجًا ثلاثة:
(1)
مقاومون معاندون ينفرون عن الدعوة إلى الإصلاح باسم الدين.
(2)
مخضرمون يصيخون إلى الدعوة، فلا يعقلونها كما هي، فيكون من
أثرها فيهم: نبذ التعاليم العتيقة - حسنها وقبيحها - والاكتفاء من التعاليم الجديدة بما
لا يظهر أثره في الإصلاح؛ فيكونون بما استهانوا به، حتى من محاسن أسلافهم،
وبما عساه يوجد فيهم من المغامز الشخصية حجة للمعارضين المعاندين.
(3)
وعقلاء فضلاء يكتنهون شؤون الأمة، ويقفون على عِلَلها وأمراضها،
ولو في الجملة، ومتى أخذوا بالعمل يزدادون بصيرة وعلمًا، ولكن أشعة أفكارهم لا
تخترق حجب الأوهام الضاربة في أذهان بني وطنهم إلا رويدًا رويدًا، كما هي سُنة
الله في الإنسان، يعرج في سلاليم الترقي درجة درجة، لا أنه يطفر طفورًا.
كان مبدأ هذه النهضة في مصر رجل أعجمي الوطن، علوي النسب، وهَبَه
الله من ذكاء العقل وذكاء الفطرة، ما يندر مثله في الأجيال الكثيرة والقرون الطويلة،
إلا وهو الحكيم الإسلامي الشهير السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني، نوَّر الله
مرقده! تربّى الرجل تربية دينية، فقرأ العلوم الإسلامية - وسائلها ومقاصدها -
وبرع في الفنون العقلية، كالحكمة القديمة والكلام والأصول، ثم نظر في الفنون
الرياضية والفلسفية على طريقة أوروبا الحديثة، وسلك طريق التصوف سلوكًا كاملاً
وأضاف إلى علمه الواسع في التاريخ الاختبار بالسياحة، وعني أشد العناية
بدراسة أحوال الإسلام، وتعرف أمراض المسلمين الاجتماعية، التي أرجعتهم من
مقدمة الأمم إلى ما وراءها.. إلخ، ما هو معروف من سيرته، وقد كان وقف نفسه
على تنبيه المسلمين من غفلتهم، وإرشادهم للقيام بواجب شؤونهم؛ لكي تلحق الأمة
بالأمم العزيزة، ولكن الأمة أمست كالمريض الأحمق، يأبى الدواء ويعافه من حيث
إنه دواء! ، وقد اعتادت منذ قرون على أن لا تقبل إصلاحًا إلا إذا كان صادرًا من
جانب القوة الحاكمة؛ ولذلك لم يوجد مستبد ظالم من سلاطينها وأمرائها حاول عملاً
مضرًا وقاومته فيه، بل تستبدل المساعدة له بالمعاندة، فإذا استفتى العلماء يحرفون
له الكلم، فيفتونه، وإذا استرفد الوجهاء يبذلون له النفس والنفيس، فيرفدونه،
ولأجل هذا لجأ السيد جمال الدين إلى عالم السياسة، وحاول أن يكون الإصلاح من
جانب الملوك والأمراء؛ لتخضع له الأعناق، ويسري سريان الرياح في جميع
الآفاق. ولقد كان سَلَك في مصر طريقة الإصلاح المثلى، وهي التربية والتعليم،
فانبرى له علماء السوء الذين أظهر تقصيرهم في العلم وخطأهم في التعليم،
فوضعوا في طريقه الأشواك والعواثير، وحاربوه بسلاح الدين الذي جعلوه آلة
للدفاع، وأُحبولة للانتفاع، وذلك بأن نفثوا في رَوْع الدَّهْمَاء من الناس بأنه منحرف
عن هدْيه، وشارك بعضَ علماء السوء في مظاهرته بعض ُالمخلصين، انخداعًا لهم،
وكان لهم في ذلك شبهات ثلاث:
(أولاها) : أنه كان يعرف الفلسفة، ومتوغلاً في العلوم العقلية، وهذا النوع
من السلاح هو الذي حاربوا به أساطين الأمة من قبل، وبهذه الشبهة كفَّروا الإمام
الغزالي وأضرابه وأحرقوا كتابه (إحياء علوم الدين) في الشرق والغرب، ثم
كتبوه بعد ذلك بماء الذهب، وسَمُّوا صاحبه (حجة الإسلام) ، وكذلك
يفعلون!
(الثانية) : عدم التقيد بالعادات التي ألفوها، ولوَّنوا الكثير منها بلوَن ديني؛
فصار في نظر العامة من شعائر الدين، وهو في الحقيقة مخالفٌ لأصوله أو فروعه.
(الثالثة) : أن كثيرًا من المترددين عليه والمتلقين عنه، كانوا لا يُبَالون
بأمر الدين، وإنما كان لهم هذا من فساد تربيتهم الأولى، لا من الاجتماع به؛ إذ لم
يكن هو الذي ربَّاهم وعلَّمهم من النشأة الأولى، والرجل كان يبذل الحكمة لكل مَن
يحضر مجلسه، من بر وفاجر، ولا يمنع منه مؤمن ولا كافر، والناس معادن كل
يؤخذ ما يلائم معدنه ويناسب مشربه، والحكمة كالمطر تُلقى في أرض النفوس،
فتتكيف كل نفس منها بحسب استعدادها، كما يغتذي البِطِّيخ والحنظل النابتين في
أرض واحدة من ماء واحد، ويكون ثمر أحدهما حلو المذاق، والآخر مُرًا زعاق:
{يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4) .
كان فريق ممن يحضر مجلسه يُسيء الفهم، ويُسيء الأداء، ومنهم الذين
يلوون ألسنتهم بالكتاب ويحرفون الكلم عن مواضعه، ومنهم الذين يقولون كذبًا
ويخلقون إفكًا. وكل هذه الفرق كانت توجد في زمان الإصلاح النبوي، وإبَّان نزول
الوحي وظهور الآيات البينات. فما بالك بأتْباع غير الأنبياء ومتبوعوهم مهما
عظمت حكمتهم ضعفاء؛ لأنهم - وإن مُنحوا الحكمة - لم يؤيَّدوا بالعصمة. إنني ما
لقيت الرجل، ولكنني استقريت أنباءه وتتبعت مواقع الانتقاد عليه حتى عرفت
مثارها، ووقفت على مهب أهوائها. علمت أن بعضها كان من سوء الفهم،
وبعضها من سوء قصد الناقلين المذاعين، ألا لعنة الله على الكاذبين.
أذْكُر لسوء الفهم مثالاً واحدًا، قال لي منتقد من أهل العلم: إنني حضرت
مجلس السيد جمال الدين حتى نهانا عن الصلاة في يوم من الأيام، فانقطعت عنه!
فقلت له: كيف كانت القصة؟ وهل نهاكم عن الصلاة نهيًا صريحًا بأن قال: لا حاجة
إلى الصلاة، أو لا تصلوا؟ ! فقال: لا وإنما تكلم عن الصلاة كلامًا أبان فيه عن
أن صلاتنا لا يعبأ اللهُ تعالى بها، ولا يقبلها بأن قال - ما ملخصه -: إن الأعمال
الظاهرة في الصلاة، كالركوع والسجود، هي كأعضاء الجسم والإنسان، ليس
إنسانًا بأعضاء جسمه، وإنما هو إنسان بروحه ونفسه، وروح الصلاة الشعور
بعظمة الله تعالى وكمال سلطانه فيها، وتدبر ما يُتلى من القرآن والذكر المعبر عن
ذلك بالخشوع. قال محدثي: وإذا كانت صلاتنا ليست على هذا الوجه الذي لا
يرضى الله تعالى إلا به، فلا شك أنه يعني بأن الأوْلى تركها، مع أن قصارى ما
قاله فقهاؤنا: إن الخشوع مستحب أو مسنون. فقلت له: يا أستاذ، إن الذي قاله
الرجل موافق للقرآن والأحاديث الصحيحة، وقد فصَّل الكلام فيه علماء الآخرة الذين
بيَّنوا للناس ما يقربهم من الله، وما يبعدهم عن رضوانه، كالإمام الغزالي في
(الإحياء) ، أما الشرنبلالية، والولوالجية، والتتارخانية، ونحوها من كتب الفقهاء
فإنما وُضعت لضبط الأعمال الظاهرة، وهلَاّ حملت قول السيد على طلب الخشوع
الذي أناط الله تعالى به الفلاح في كتابه دون الحمل على ترك الصلاة بالمرة، فرجع
الرجل إلى قولي وكان منصفًا، فلو أنني أخذت منه القول الأول على غرّة وأذعته،
كما هو دأب الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا - لما تعديت في ذلك ما
عليه الدهماء مِنَّا، ولقد وقع لتلامذة المرحوم السيد جمال الدين كثير من أمثال هذا،
لا سيما في المسائل الفلسفية الغامضة ونسبتها للدين.
أما سوء القصد وما يتبعه من الكذب والافتراء، فلا تسلْ عن حال أهله مع
المصلحين، لا سيما في مثل الدَّور الذي فيه أمتنا اليوم من الضعف والاضمحلال
وفساد الأخلاق. وأعجب ما سُمع فيه أن بعض علماء السوء والفتنة أشاع بين الناس
في العام الماضي بأن فلانًا من العلماء أنكر وحدانية الله، وبعضهم قال: أنكر
وجوده إنكارًا صريحًا على ملأ من العلماء والطلاب في الجامع الأزهر، ومع أن
هذا غير معقول - وأين من يعقل؟ ! - أن يصدر ممن له أدنى تمييز، وإن كان
فاسد الاعتقاد؛ فإن كتاب ذلك العالم الذي كان يقرؤه في التوحيد بين الأيدي، وفيه
أقوى البراهين العقلية على وجود الله تعالى ووحدانيته، وهو من تأليفه، ولكن ماذا
تقول فيمن سَفِه نفسه واستخف عقولَ الناس، ولم يراقب الله تعالى، فحمله إغواء
شياطينه على ذلك البهتان العظيم، فنزل به - ثم بمستشاره - الجزاء الأليم. لقد
جمح القلم في بيان ما يعرض للإصلاح من العلل، فلنرجع إلى ما كنا فيه.
قلنا: إن الحكمة كالمطر، يأخذ كل أحد منها ما يلائم تربيته، وقد كان عدد
الذين اتصلوا بالسيد جمال الدين من المشتغلين بالعلوم الدينية - قليلاً؛ بسبب تنفير
الشيوخ عن حضور مجلسه لما علمت؛ ولذلك ظهرت النهضة القلمية في لابسي
الطرابيش أكثر من لابسي العمائم، وكان عدد الذين يسعون في إصلاح العلم والتعليم
الديني قليلين. وكما أننا في حاجة شديدة لرجال الأقلام الذين يجيدون الكتابة في
جميع المواضيع، لا سيما في الفنون العصرية التي عليها مدار التقدم الدنيوي -
كذلك نحن في أشد الحاجة لقوم يفهمون الدين على حقيقته التي ساد وسعد بها سلفنا
الصالح، وشَقي واستُعبِد بجهلها خلفُنا الطَّالح، إلى قوم يفهمونه ويحسنون تلْقينه
وتعليمه، فيأخذون بما ينبغي، وهو اللباب الخالص، ويلقون ما أُلحق به وتغلغل
في كتبه مما ليس منه، ولكنه صار حائلاً دون فهمه وتعلمه. ولقد كانت عناية السيد
رحمه الله بهذا النوع من إصلاح العلم والتعليم، أشد من غيره، ولكنه لم يجد
من المستمعين له إلا قليلاً، والكرام - كما قالوا: - قليل.
أمثل مَن اتّصل بالسيد مِن الذين تربَّوا في مهد الدين - علمًا وعملاً - العلَاّمة
المِفضال الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية لهذا العهد، وهو الرجل المفرد
الذي تُشبه فطرته الزكية فطرة السيد جمال الدين، وتُماثِل تربيتُهُ تربيتَهُ، حتى في
سلوك طريقة التصوف سلوكًا كاملاً. ولقد كان قبل معرفة السيد زيته صافيًا، يكاد
يضيء ولو لم تمسسه نار، فمسَّته بالاتصال به نار غيرته وحكمته، فاشتعل نورًا
على نور. ووقف على نتيجة أبحاثه واختباره الطويل في الإصلاح الإسلامي، بل
والشرقي أيضًا، وعومل من الشيوخ الذين يخافون أن يُظهر الإصلاح العلمي
تقصيرَهم في العلم أو التعليم - بمثل ما عومل به سابقًا؛ حتى لم يكن بينه وبين
معهد التعليم الإسلامي في (الأزهر) اتصال قبل هذه السنين الأخيرة؛ وسبب ذلك
وشايات الشيوخ به للخديوِ السابق، وتنفيرهم طلاب العلم عنه، بأنه فيلسوف يُخشى
من فلسفته على دينهم، وكأن هؤلاء لا ثقة لهم بدينهم؛ لأنهم ليسوا على بينة منه،
فيخافون من كل شبهة أن تأتي على زلزاله، أو زواله، والموقِنُ بالشيء لا يتوقع
ولا يتصور زواله، ومن لا يكون موقنًا لا يكون مؤمنًا.
ولقد بقي لهذا الوهم بقية في نفوس بعض طلاب العلم في الأزهر إلى السنة
الماضية، فكانوا عندما قرأ الأستاذ رسالته في التوحيد يتوقعون أن يأتي بمسائل
الخلاف بين الفلاسفة والمسلمين، ويُرَجِّح أدلة الأوّلين، فلما رأوه قد سلك في العقيدة
مسلك السلف؛ اطمأنت قلوبهم وزايلتهم أوهامهم.
تلك الدسائس والوساوس هي التي حرّمت الترقي على الأزهر في السنين
الخالية، وانحصر سعي الأستاذ في الطباعة زمنًا - قبل الفتنة العرابية - فكان له
أثر عظيم في النهضة القلمية وفي القضاء زمنًا آخر، والعهد به قريب، وقد كان
للمتصلين به في كل طور من الأطوار، وكل زمن من الأزمان أثر ظاهر في
النهضة الحاضرة، بحسب معارفهم وبيئتهم (حالهم ومحلهم) ، انظرْ تَرَ القضاة
الثلاثة: سعد بك زغلول وأخوه فتحي بك وقاسم بك أمين - وهم الذين يفتخر بهم
القطر المصري، وبمثلهم يصِحُّ له الاحتجاج بأن المصريين أهلٌٌ لأن يَحْكُموا أنفسهم
بأنفسهم، هم من أخصّاء الأستاذ والمتلقين عنه.
تَعَلَّم كثيرٌ من المصريين في مدارس أوروبا، كما تعلم قاسم بك وفتحي بك،
ولكن لم نرَ واحدًا منهم يشغل أوقات فراغه بالتأليف والترجمة للكتب النفيسة التي
يحتاج إليها الوطن في رُقيّه، كما هو شأن هذين الفاضلين. هل يوجد بين أيدينا من
الكتب النافعة لنا في نهضتنا الدينية والدنيوية - (كرسالة التوحيد) للأستاذ، وكتاب
(تحرير المرأة) لقاسم بك وكتاب (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) ، الذي ترجمه
حديثًا فتحي بك، وهو أَفْيَد كتاب أُلِّف في أوروبا في التربية والتعليم؟ كلا. إنه
يوجد كثير من المصريين لا يعرفون قيمة هذه الكتب، وآخرون لا يرفعونها إلى
مكانتها من الاعتبار التي تستحقها؛ لأغراض معلومة، وأمراض غير مجهولة،
ولكن سيأتي على مصر زمان تُجعل فيها دراسة هذه الكتب ضربة لازب، ويجزم
كل من يكتب في تاريخ مصر، بأن هذه الكتب كانت من أنفذ عوامل النهضة
الأخيرة، وأقوى أركانها (كما اعترف الذين كتبوا في ذلك كجرجي أفندي زيدان،
بأن السيد كان مبدأ هذه النهضة) ، وكما يجزمون بهذا يجزمون بأن هذه الكتب
الكثيرة التي وُضعت للبحث في ألفاظ الكتب وأساليبها، كانت عثرات في طريق العلم
بل وفي فهم تلك الكتب نفسها، وسدود أمام الترقي، وإن كانت ألقاب مؤلفيها
ضخمة، ونعوتهم كبيرة.
إن جهل الأمة هو الذي شبّه عليها النافع بالضار، وقد طفقت تتنبَّه إلى
مصالحها، وتخرج من مضيق الغرور والانخداع باللبوس والنعوت والألقاب، وهذه
حركة طبيعية اقتضتها سُنة الله في رقي الأمم، فمقاومتها جهلٌ وغرور؛ لذلك نرجو
من علمائنا العقلاء أن يسايروها ويساعدوها، لا أن يقاوموها ويعادوها، وأن يجعلوا
الحق ميزان الأعمال؛ إذ الرجال تُعرف بالحق، لا الحق يُعرف بالرجال.
_________
الكاتب: أحد الكتاب من سوريا
استنهاض همم
(9)
لا يُحَدِّث مُحَدِّثٌ عن النزاع بين إنكلترا والروسيا في أواسط آسيا إلا وتتمثل
في مخيِّلة السامع صورة بِرَاز بين إنكليزي وروسي على ذروة جبل هندكوش،
أحدهما: مهاجم، والآخر: مدافع، يتساوران ويتواثبان، وينتطحان انتطاح الكباش،
ولا يمكننا الجزم والحكم بفلج واحد منهما بعينه وإخفاق الآخر؛ لأن عند كل واحدة
من الأمتين الإنكليزية والروسية من وسائل النصرة والفلج، وذرائع الغلبة والدفاع ما
يوجد مثله، أو ما يحاكيه عند الأمة الأخرى.
ربما يحكم حاكم - ذهابًا مع الوهم - بأن النصرة ستكون للروسية، لما أن
الحرب تنتشب بين الدولتين برية، وقد لا يتخللها عمل بحري قط، فقوة إنكلترا
البحرية - التي توازن قوة روسيا البرية - لا نجدة تُرتجَى منها في تلك الحرب،
وأَحَجَّ بأن يصح هذا الوهم (أي: ما أحجاه وأحراه بالصحة) لو لم تكن إنكلترا قد
تداركت أمرها، وأعتدت لدفع ذلك الخطر قوة أدبية منبثّة في البلاد الهندية انبثاث
الهباء في الهواء، تؤيد بها قوتها البرية الثانوية، فتقويان معًا على مقاومة القوة
الروسية. ذلك أن الشعب الإنكليزي قد امتزج بمعظم الشعب الهندي امتزاجًا تامًا،
وقد سعت إنكلترا في أحكام هذا الامتزاج منذ قوي نفوذها ثمة، فمدت شوابك الألفة
والوحدة الأدبية بين القبيلين، ومهدت للشعب الهندي سبل تعلم اللغة، حتى كاد
تعلمها ينطوي تحت الفرائض الدينية. واللغة كما لا يغرب عن فهم اللبيب مناط
الجنسية، أو هي الإكسير السياسي تحوِّل أخلاق الشعب وآدابه وعاداته وعواطفه،
بل وتعاليم دينه إلى أخلاق الشعب المتغلّب الذي تعلمت لغته وإلى آدابه وعاداته
وعواطفه وتعاليم دينه، فضلاً عن أن إنكلترا ضمَّت إلى تعليم لغتها، تعليم سائر
العلوم والفنون العصرية، وتخيرت أمثل الوسائل وأقرب الطرائق لبلوغ غايتها من
قلب الشعب الهندي إلى شعب إنكليزي [1] حتى إنها طمعت بما لم يطمع به إلا أبو
مرة من العبث بعقائد المسلمين، واستلانة عرائك المستضعفين منهم، فبثّت بينهم
مبادئ التعطيل، وتعاليم الإلحاد والكفر (النيشرية) ، وأقامت لها دعاة من أنفس
المسلمين ممن استذلهم الشيطان واستهواهم الغرور، وهذا وإن يظهر له أثر في
الآباء، يوشك أن يلصق من لوثه بنفوس خلائفهم وأنسالهم، فليتقِ مسلمو الهند شرَّ
ذلك بنشر التعاليم الدينية، وتخريج أحداثهم ونشئهم على آدابها وعقائدها؛ حتى
ترسخ في نفوسهم وتقيها من ذلك اللوث والطبع. بتعليم أبنائنا لغتَهم ودينهم نصون
أمتنا، ونحمي استقلالها الجنسي من الزوال إلى الأبد؛ بذلك نحارب أوروبا
ونعترض في طريق أطماعها، بتلك القوة الأدبية نقاوم قوتها، ونفل غرب عاديتها.
لا يتخيلنَّ أحدٌّ أن الحرب أو الثورة ضد الأمة المتغلبة هي التي تحرر الشعب
الضعيف وتفتكه من عقال سلطتها وتعيد إليه استقلاله.
ربما كان الهرج والشغْب من أنفذ العوامل في تضاؤل الشعب وتوهين قوته،
وتمكين يد المتغلب من عنقه. حملوا علينا بسلاح علومهم ولغاتهم وآدابهم،
فلنتحصن منهم بمثل تلك القوى، ولنحمل على أيدينا تعاليمنا وآدابنا، وننشر ذلك
بين أبناء ملتنا. لنأخذ بحُجَز أطفالنا عن الوقوع في أسر العدو الأسر الأعظم،
والاندماج في جنسيته والتحول إلى طينته. بعيني رأيت شابًا هنديًا مسلمًا رثََّ الهيئة
يلبث الخلقان والأسمال، وعلى رأسه كمة بالية، دأبه السياحة ومواصلة الرحلة -
وكل هذا منه على سبيل الزهادة ومحاكاة أهل الرياضة - درس العلوم في المدارس
الإنكليزية العالية، وهو يتكلم بالإنكليزية كأحسن متكلم من أهلها، وقد ترشَّح في
تلك المدارس، وتثقَّف عقلُه بعلومها وفنونها، ووقف على دقائقها ونتائج أبحاثها، لا
سيما العلوم الفلسفية والطبيعية. حدثني مَن باحثَه أنه أدهشه بسعة اطلاعه وغزارة
مادته، كان لا يسلك معه مجهلة من مجاهل تلك العلوم إلا ووجده خِرّيتها، ولا هوى
به من هوة عن الدقائق الفلسفية إلا وألفاه عِفريتها، ومما حكى عنه - وهو معجب
بفرط ذكائه - أنه يشرح ما حققه الفلاسفة الطبيعيون في أبحاثهم العصرية المتأخرة
شرحًا يخيل للسامع أن ذلك الشاب هو الذي وضع تلك الأبحاث واستنبط نتائجها،
لكنه - واخيبتاه! - لا يعلم من الإسلامية إلا اسمها، ولا يحفظ من تعاليمها سوى
فاتحة كتابها! . رجوت محدثي عنه أن يجمعني به ومُذْ وقع طرفي عليه تمثلت
لمخيلتي الأطوار الشرقية ملتفة بالغواشي الغربية، رأيت في يده أنبوبة يدخن بها
ويعَض عليها مثلما يفعل أصحابه الإنكليز، فكلمته بالعربية فإذا هو لا يعلم منها
سوى بضع كلمات، واستنطقته بواسطة ثالثنا عن بعض شؤون إسلامية فألفيته خالي
الذهن من أمر الدين، لا يهمه شأنه، ولمَّا سألته عن معلوماته الدينية، قال: إنه
يحفظ الفاتحة! قلت: اقرأها فتلكأ أولاً، ثم مضى في قراءتها على غير سداد،
فأطرقت حينئذ إلى الأرض واجمًا راثيًا لحال الأمة التي يستولي عليها الأجنبي، ثم
حوقلت وانصرفت.
وبالجملة، إن إنكلترا طمعت في ركس (قلب) كل شأن من شؤون الهند
ومسخه وتغييره، سوى تغيير اللون النُّحاسي الهندي إلى اللون الأبيض الإنكليزي.
وما يدرينا أنهم لا يطمعون بذلك أيضًا. علَّهم يلقون على الشعوب الهندية نظامًا عامًّا
يقضي بأن لا يتزوج الهندي النحاسي إلا بأوروبية بيضاء، والأوروبي إلا بهندية،
وهكذا دهرًا طويلاً، فيقاومون بذلك طبيعة الإقليم [2] ويستولدون شعبًا خِلاسيًا [3]
أبيض اللون مكونًا من الشعبين، اللهم غفرًا! .
ولم تألُ الحكومة الإنكليزية جهدًا بمد رواق العدالة والحرية والأمن فوق
الشعوب الهندية، وقد تحبّبت إليهم بما يملكها أزِمَّة أميالهم وعواطفهم، وأمتن آخية
وثقت بها سلطتها في الهند، وأشدها أحكامًا ما فعلته من مزج مالية الشعب الهندي
بمالية الشعب الإنكليزي، وأودعت تلك الأموال في المصارف الإنكليزية في جزائر
بريطانيا، ووحدت بذلك مصالح الشعبين العامة، بحيث تكونت مشروعاتهم الكبرى
وشركاتهم التجارية برجال القبيلين وأموالهم، ثم أخذت تشرف من وراء ذلك على
مجاري تلك الأعمال وجداول هاتيك الأموال، وتجتني لنفسها من كل ذلك ثمرات
سياسية وأدبية قلما يوفق لاجتنائها أحد غير الإنكليز. وقد مضى على إنكلترا في شد
تلك العُرَى والأواخي وتوثيقها سنون وأعوام، وهي لا تزال تواصل العمل في أمثال
ذلك ما واتاها الدهر، وهو مواتٍ. فهل بعد ذلك يجزم جازم بأن روسيا تطرد
إنكلترا من الهند وتقلص ظلال سلطتها عنها؟ ! ، والسداد في الرأي التوقف كما
توقفنا، وترك أمر الغيب إلى مَن تفرَّد بعلمه سبحانه وتعالى.
وكيفما كان الأمر، فالأحجى بالحكومتين - الأفغانية والفرنسية - أن تكونا
على حذر ويقظة من شَرِّ الدولتين اللّتين تتربصان بهما الدوائر، وتنتهزا فرصة
الشِقاق بين تلك الدولتين، فتبادرا لرتق الفتق قبل اتساعه، ومواساة العِلَّة قبل
استحكامها، وتسارعا لعقد حلاف بينهما، وشدّ عروة وِفَاق تصونان به أمتهما
ودينهما من الضياع، وتمد أيديهما إلى الحكومة العثمانية، فهي-إن شاء الله تعالى-
تلبيهما كما تلبي الجميع الحكومة المراكشية، فتتم للإسلام وحدة مقدسة؛ يُصان
بها شرفه، وتُحمَى حقيقته.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________
(1)
المنار: لو كان هذا صحيحًا؛ لنجح الهنديون في دنياهم نجاحًا باهرًا، لكن قصارى ما فعل الإنكليز أنهم لم يجعلوا للهند ملجأً سوى إنكلترا.
(2)
المنار: لو حصل هذا لكانت الغلبة لطبيعة الإقليم، ولَتحوَّل الأوروبيون إلى اللون النحاسي دون العكس، ولكن من أين للأوروبيين بمئات الملايين، فيتزاوجون مع الهنديين؟ ! .
(3)
بكسر الخاء: الولد بين أبوين أبيض وأسود، والديك بين دجاجتين هندية وفارسية.
الكاتب: محمد رشيد رضا
إزالة شبهة
تُعرف أغراض الجرائد ومقاصدها من مجموع كلامها في الأعداد الكثيرة، ولا
يصِح الحكم على مقصد جريدة بجملة واحدة، يظهر أنها ترمي إلى غرض ما؛ لا
سيما إذا عُهِد منها في الكلام الكثير، تسديد سهامها إلى خلاف ذلك الغرض، أو إلى
ما وراءه، وإنما أصابه السهم؛ لأنه عرض في طريقه. ويعلم جميع قرَّاء (المنار)
أننا في مجموع كلامنا لم نخطئ الغرض الذي وضعناه له في العدد الأول وهو قولنا:
(وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين، لا التحامل على الأمراء
والسلاطين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، لا الاعتراض على القضاة
والقانون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة
في الأعمال النافعة، وطروق أبواب الكَسْب والاقتصاد، وشرح الدخائل التي
مازجت عقائد الأمة.. .) ، إلى أن قلنا: (.. . وتنبيه العثمانيين على أن الشركات
المالية هي مصدر العمران وينبوع العرفان، وأن عليها مدار تقدم أوروبا في الفنون
والصنائع، لا على الملوك والأمراء..) إلخ إلخ.
وقد بيَّنا في أعداد كثيرة من السنة الأولى والثانية، بأن الأمم الشرقية أو
الإسلامية إذا لم تعتمد في تقدمها على أنفسها - لا على حكومتها - فإنها لا تنهض
من هذا الحضيض إلى أبد الأبيد. ولما كان الإجمال قلَّما ينبه الغافل، والهمس لا
يكاد يوقظ النائم المستغرق، صرَّحنا بهذه النصيحة بصوت عالٍ غير مرة. وأشد
صيحة أزعجت السامعين قولنا - في العدد الحادي عشر من هذه السنة -: (إن
أمام المصريين وسائر المسلمين سدًا منيعًا من الوهم، يحول بينهم وبين السير في
طريق الترقي، فإذا استطاعوا أن يَظهروه أو ينقِّبوه - ولا أقول أن يدكوه - يتسنى
لهم الإيجاف والإيضاع في ذلك المنهاج الواضح، والمهيع الواسع، وأن ذلك السد
هو الاعتماد على دولهم وحكوماتهم التي أمست أغلالاً في أعناقهم، وسلاسل في
أيديهم، وقيودًا في أرجلهم، وغشاوة على أبصارهم، ووقرًا في أسماعهم، ورَينًا
على قلوبهم.. .) إلخ. ثم تعجبنا من كون المسلمين الذين أظلتهم الأجانب يطمعون
بأن يكون ترقّيهم على يد الدولة العلية مع أنه من الجهالة والحمق أن يعتمد
العثمانيون أنفسهم في ترقيهم على الدولة من دون أنفسهم ما بالك بغيرهم؟ ! ولكن
بعض الذين تمكّنت السلاسل والأغلال والقيود من أعناقهم، وأيديهم وأرجلهم،
وتكاثفت الغشاوة على أبصارهم، وقوي الوقر في أسماعهم، وغلب الرين على
قلوبهم - سلقونا بألسنة حداد؛ لأننا نَهينا مسلمي الهند والجاوه وأمثالهم عن الاعتماد
على الدولة العثمانية، وأراهم سوءُ الفهم أن هذا ينافي ما ندعو إليه في (المنار)
من ارتباط المسلمين بعضهم ببعض بجميع أقطار الأرض. ولو كان المعترِض
صادقًا في حب المصلحة الإسلامية؛ لكتب إلينا حيث كان بعيدًا عنّا بما يراه
صوابًا؛ لأننا قلنا - في المقالة التي ذكرنا فيها ما مرّ - إنه اعتقادنا: (ومن
بيَّن لنا بالبرهان أننا مخطئون، فإننا نرجع إلى رأيه) وكذلك فَعَل بعضُ
المخلصين من المصريين ذاكرنا وفهم قصدنا تمامًا.
ومن البلاء على المسلمين أن كل إنسان يدعي كمال الفهم في علم الاجتماع
الإنساني، والمعرفة بأسباب ترقي الأمم وتدلِّيها، لا سيما إن كان لديه شيء من
الوساوس السياسية التي يتلقفها من الجرائد، ونرجو أن تزول هذه الأوهام بانتشار
علم الاجتماع في الكتب النافعة والجرائد الصادقة. وعسى أن يَعُمّ انتشار كتاب
(سر تقدم الإنكليز) الذي طُبع حديثًا، فيفهم المسلمون أن اعتماد الأمة على
الحكومات القوية المرتقبة - كفرنسا وألمانيا - فيه خطر على مستقبلها، فضلاً عن
الحكومات الضعيفة، فضلاً عن اعتماد الشعوب على الحكومات التي لا تحكمها،
وأن مستقبل السيادة إنما هو للشعوب التي يعتمد أفرادها في سعادتهم على أنفسهم
وعلى سعيهم وجدّهم، وإلى الله تصير الأمور.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
اختبار علم كل عارف
من ألباء أرباب المعارف
جاءنا تحت هذا العنوان، السؤال المنظوم الآتي وما يتلوه من الذيل المنثور
من حضرة الأستاذ العلامة الفاضل الذي انتهت إليه الرئاسة في علوم الحديث واللغة
وآدابها في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي فنشرناه شاكرين له فضله
وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم
أسائلكم أهل المعارف من عل
…
إلى السفل والنحرير ينسى ويذهل
فعمّ السؤال العرب والعجم كلهم
…
وخص النصارى ذا السؤال المفصل
عن اسمين مشهورين شرقًا ومغربًا
…
أتى بهما الخنذيذ الاخطل دوبل
أبو مالك القس النزاري نسبة
…
ربيب النصارى الراهب المتبتل
أتى بهشام ثم بعدُ بنوفل
…
خلال مديح خالد ليس يجهل
مديح فتى الأعياص خالد مدحه
…
فنِعم الفتى يرجى ونعم المؤمل
فأدرج ذين ضمن بيت مهذب
…
يقر له بالحسن مَن كان يعقل
(أمية والعاصي وإن يدع خالد
…
يجبه هشام للفعال ونوفل)
فمن نوفل بل من هشام وما هما
…
أشخصان أم جنسان؟ عن ذاك أسأل
مجاز هما أم في المديح حقيقة
…
ألا فليُجب منكم عليم مبجل
فمَن كان نحريرًا أجاب مبيّنًا
…
براهين من علم له فيبجَّل
ومن كان ضِلِّيلاً أجاب مموهًا
…
أباطيل من جهل به فيجهل
وقال الرسول: حدثوني بعد ما
…
على صحبه ألقي سؤالاً، فأجبلوا
سوى ابن أبي حفص الكبير صغيرهم
…
درى، وحياء لم يجب حين هلّلوا
وقالوا لِخَير الخلق: ما هي؟ أفتِنا؟
…
وكل امرئ لم يدرِ، يعنو ويسأل
فقال النبي المصطفى: النخلة التي
…
لها شبه بالمسلم، القلب مسجل
وذا في حديث الجامع الفرد عندنا
…
عليه اتفاق في الصحيح المعول
فهذا الذي سَنَّ الرسول محمد
…
لنا؛ لاختبار العلم شرواه نفعل
وأنشأ ذاكم؛ لاختبار علومكم
…
محمد محمود الأغرّ المحجل
وسَمَّيت هذا السؤال: (اختبار علم كل عارف من ألباء أرباب المعارف) .
وعَمَّمت ُأهل المعارف من العرب والعجم؛ لعلمي بأن الله عز وجل لم يحصر
العلم في أحد الفريقين دون الآخر، بل أعطى كل عبد من عباده قِسطه منه، لكنه
فضَّل بعضهم على بعض في العلم، تفضيله بعضهم على بعض في الرزق، والعلم
أفضل الرزق؛ لأنه يُعلم به أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والسبب الحامل
على إنشاء هذا السؤال: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، عملاً بما في
باب طرح الإمام المسألة على أصحابه؛ ليختبر ما عندهم من العلم من كتاب الجامع
الصحيح للإمام البخاري، وذلك الحديث من مكرراته المفيدة، والحامل على
تخصيص النصارى بعض التعميم أمور: أولها: كونهم أكثر جنسهم مشاركة للعرب
في لغتهم من زمن الجاهلية، وهلمّ جرّا، ثانيها: كونهم أقرب الناس مودة للمؤمنين،
ثالثها: شدة اعتناء كثير منهم في هذا العصر بتعاطي لغة العرب ووضع التآليف
فيها، رابعها: كون نصارى بيروت هم الذين رفعوا ديوان الأخطل هذا - بطبعهم
إياه - من حضيض العدم إلى أعلى طود الوجود، فلهُم بذلك الفضل على غيرهم،
والحق يقال.
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
وفاة
نَعَتْ إلينا أخبارُ وطننا (طرابلس الشام) صديقنا الشاب الأديب، وغصن
الكمال الرطيب توفيق أفندي نجل عين الأعيان صاحب الفضيلة شنبور زاده عبد
الحميد أفندي العضو العامل في مجلس إدارة طرابلس، فنعزي فضيلة والده، وآله
بهذا المُصاب الذي أحزن القلوب وأبكى العيون.
{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156)
***
تخطئة
أسندت جريدة (انتباه) التركية الجديدة - في عددها الأول - جملة إلى (المنار)
تتعلق بجلالة مولانا السلطان الأعظم، و (المنار) بريء منها، فننبه القرَّاء إلى
ذلك.
_________
الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول
كان يا ما كان
ذكرى تمثل إعراض الناس عن أسباب سعادتهم، وضعها في سمط الأساطير
الخرافية التي كان يعتقدها قدماء اليونان المرحوم عالي بك أحد مشاهير كُتاب
الأتراك، فهي جد في قالب هزل، وموعظة في ثوب فكاهة، وقد نقلناها عن
ترجمة الكاتب البارع عمر خيري أفندي زغلول بتصرف كثير وهي:
سنح في خاطر (جوبيتر) الذي كان أكبر المعبودات عند اليونانيين الأولين
أن يجعل الناس كلهم سعداء، ويفيض عليهم الخيرات والبركات، فكاشف بما في
ضميره مستشاريه (نبتون) إله البحر و (بلوطون) إله الجنة، فأظهرا الدهشة
والإعجاب، واستهزآ بفكر مولاهما، ونسباه في أنفسهما إلى أفِن الرأي وسوء
التدبير.
ولقد كان هذا المعبود لا يتوانى في تنفيذ ما يعن له من الخواطر، ولا يتقاعد
عن إخراج مقاصده من القول إلى الفعل، وإن كانت من المستحيلات العادية تفكر
مليًا في هذا الأمر، ثم وجه نظره إلى السماء وحدّق إلى الكواكب السبعة السيارة؛
فتراءى له أن يعهد إليها بتنفيذ إرادته، فأمرها بالاجتماع في مكان واحد، فاجتمعت
فلما رأى أهل الأرض السيارات مجتمعات أخذتهم الحيرة، وشخصوا بأبصارهم إلى
السماء ذاهلين، وطفق المنجمون يخرصون ويخدعون الناس بأن هذا الاجتماع
المدهش علامة على قيام الساعة. ولما اجتمعت السيارات عند المعبود الأكبر دارت
بينهن وبينه هذه المحاورة.
السيارات: ها نحن أولاء قد جئناك - يا مولانا - فمُرنا بما تريد.
جوبيتر: عليكن بتجهيز أنفسكن للسفر، فقد اقتضت إرادتي أن تذهبن
إلى السياحة على سطح الأرض، فقد جعلت لكل منكن دينارًا للنفقة في كل
يوم.
السيارات: ما هو العمل الذي انتُدِبنا له، والخدمة التي سنؤديها؟
جوبيتر: قد ارتأيت أن أجعل الناس ناعمي البال، رافِلين في حُلل السعادة
والهناء، ورأيت من الصواب أن أبيعهم أسباب السعادة بيعًا؛ لأنني إذا أنعمت بها
عليهم إنعامًا بغير مقابل يستهينون بها؛ إذ لا يعرفون قيمتها، ولا يقدرونها حق
قدرها.
السيارات: سمعنا وأطعنا، فما هي بضاعتنا التي سنبيعها؟
جوبيتر: قفن أمامي صفًا، ثم امررن واحدة واحدة.
فامتثلن أمره ولما مرّت الأولى قال لها: أنتِ تبيعين (الذكاء والفَطانة) ، وقال
للثانية: وأنتِ تبيعين (العفة والاستقامة)، وقال للثالثة: وأنتِ تبيعين (الصحة
والعافية) ، وللرابعة: وأنتِ تبيعين (طول العمر)، وللخامسة:(الشرف والجاه) ،
وللسادسة: (الصفاء والمسرة)، وللسابعة:(النقود والثروة) .
هذه الأشياء هي أسباب السعادة، ولا تتم للناس السعادة التي يطلبونها من
معبوداتهم في صلاتهم ومناجاتهم إلا بها، فعليكن - أيتها السيارات - بالجد
والاجتهاد في بيعها منهم؛ ليتمتعوا بالسعادة التي يطلبونها، وينجون من الشقاء
المحدق بهم، الذاهب بهنائهم ورفاهتهم. ولقد كان المعبود الأكبر يُشرف على
السيارات بالأمر والإرشاد، ويَدُلُّهن على طرق السعادة، والمعبودان (نبتون) ،
و (بلوطون) يستهزآن بهذا الرأي المأفون، ويقولان بلسان الاستغراب: إن هذا لشيء
عُجاب، وبعد أن تجهزت السيارات للرحلة الأرضية، وأحضرن بضاعتهن
السماوية في صناديق بديعة الصنع محكمة الوضع، هبطن إلى العوالم السفلية،
فكان نزولهن في عاصمة من عواصم الممالك الشرقية، فطفقت السيارة الأولى تنادي
بأعلى صوتها في الأسواق والشوارع (ذكاء وفطانة للبيع، ذكاء وفطانة طرية عال
هل من راغب، هل من مريد؟!) فأقبل الناس إليه يزفون، من كل حدب ينسلون
فاختلفت فيها الأقوال لاختلاف الوجدان والانفعال، فقال أصحاب الجرائد والمؤرخون
ومؤلفو الروايات والممثلون: هل جُنَّّت هذه الفتاة، أم غلبت على بائعة الفطانة بلادة
الحيوانات؟ ! وقال الشبان - الذين شاهدوا جمالها الرائع -: بئس المبيع وحبذا
البائع؛ فتاة حسناء، وغادة هيفاء، لكننا نغازلها باللحاظ، فلا تدير إلينا طرفًا،
ونناديها بأرق الألفاظ فلا نسمع منها حرفًا، فالظاهر أنها مملوءة بالتعصب،
وذلك مما يوجب التأسف والتعجب، وقالت النساء: لا شك أن هذه الفتاة مختلة
الشعور؛ حيث جاءت بهذه البضاعة التي تكسد في كل مكان وتبور، ولولا نقص
عقلها لعلمت أننا لا حاجة لنا بالذكاء والفطانة، ولا بالعقل والرصانة، فإن عندنا
الأنسجة الحريرية، والحلي الذهبية والجوهرية، وهل تستلفت الفتاة أنظار الشبان
بالفطنة وذكاء الجَنان، أم بالحرير ذي اللمعان والألماس واللؤلؤ والمرجان؟!
وقد أجمعت الآراء على أن تلك السيارة ستموت جوعًا إذا بقيت في تلك
العاصمة؛ لأنه لا يوجد فيها من يرغب في بضاعتها، وبعدما ملت من الجولان،
وتعبت منها القدمان، رأت بابًا مفتوحًا وعليها أمرة (يفطة) أميرية، مكتوب عليها
(نِظَارة المعارف العمومية)، فقالت: ما أحوج أهل هذه الصناعة إلى ما عندي من
البضاعة، فههنا يحصل الرواج، وأُقابَل بالترحاب والابتهاج، ودخلت الباب مع
الداخلين، وترددت فيه ذات الشمال وذات اليمين، وأنشأت تنادي بصوت يقرع
جميع الآذان، ويستلفت كل ذي جَنان، فأثار نداؤها غضب الرئيس والأعضاء،
وقالوا: ما لنا وللفطانة وللذكاء! ، ثم قرروا - باتفاق الآراء - طرد السيارة من
تلك البطحاء، وصدر أمر الرئيس للحُجَّاب، الذين يقفون خارج الباب، بأن يمنعوا
بائعي الأشياء التي لا تنبغي للمجلس من الدخول، وأنه لا عذر لهم - في إدخالها -
مقبول، فخرجت السيارة تمشي على استحياء، يتنازعها عاملا اليأس والرجاء، ثم
رأت من الحزم تغليب عامل الأمل؛ لأنه لا ينجح بدونه عمل، وقالت: بالصبر
تَنفق السلع الخسيسة، فكيف لا تروج البضاعة النفيسة؟ ! ، ثم مضت في تطوافها
وتجوالها حتى انتهت إلى بناء كبير، قد اجتمع عنده خلق كثير، أخلاط من الوجهاء
والغوغاء، علت لهم جَلَبَة وضوضاء، فصاروا يتخاطبون بالإشارة، حيث لا تُفهم
العبارة، فقالت: لا شك أن هؤلاء الناس قد استحوذ عليهم الخبل والوسواس، فهم
لهذه البلادة والبلاهة في أشد الحاجة إلى الذكاء والفطنة والنباهة، فخاضت غمار
القوم، رافعة صوتها بالسوم، فلم يسمع أحد كلامها، ولا أُجيبت على سوامها،
حتى مرّ بالقرب منها رجلان في يد أحدهما نمط صغير (شنطة) ، ومع الآخر قلم
ودفتر يكتب فيه أرقامًا، فقالت لهما السيارة: هل لكما رغبة في الذكاء والفطانة؟ ،
فتوهم الرجلان أن الذكاء والفطانة نوعان من السهام المالية، قد أُنشئت لهما شركة
مساهمة حديثة، فانصرفا ولم يستوضحا منها عما تقول، وعلمت هي أن ذلك المكان
هو (البورصة) ، فاستأنفت النداء والسوم، فمر بها أحد الدلَاّلين وجرت بينهما هذه
المحاورة، (الدّلال) : ما هي بضاعتك؟ (السيارة) : الذكاء والفطانة،
(الدلال) : ذكاء
…
فطانة
…
، (السيارة) : ألا تدري ما هو الذكاء والفطانة؟
(الدلال) : لا، ولكن قد بلغني عنهما شيء، وأذكر أنني سمعت هذين اللفظين من
قِبَل، (السيارة) : إذن خُذْ لك منهما شيئًا ولو يسيرًا، (الدلال) : هل هما من
السهام المقبولة في البورصة؟ (السيارة) : لا، (الدلال) : إذا لم يكونا مقبولين
في البورصة، فلأي شيء جئت بهما إلى هنا.
وبعد انتهاء الحديث، نُمِّي خبرها إلى الشرطة (البوليس) ، فأُلقي عليها
القبض؛ لإقدامها على بيع سهام غير مقبولة في البورصة، ولكن رئيس الشرطة
(القومسير) كان دمث الأخلاق رقيق الجانب، فعذر السيارة بجهلها، وعدم وقوفها
على طباع أهل تلك المدينة، فلم يعاملها بما يوجبه النظام من السجن والتغريم،
واكتفى بطردها وإبعادها عن تلك العاصمة؛ فرجعت أدراجها راضية من الغنيمة
بالإياب!
(سيأتي خبر بقية السيارات)
((يتبع بمقال تالٍ))
_________