الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكاتب: محمد رشيد رضا
ماذا نعمل
؟
كثر الخوض في هذه الأيام في شؤون المسلمين والإسلام، فكتب في الجرائد
الكاتبون، وخطب في محافل الجمعيات الخاطبون، أما الجرائد فقد غلب على كل
منها ما يناسب وجهتها ويوافق مشارب ذويها، و (المنار) لم يختلف رأيه في هذه
الأثناء - أثناء خوض الجرائد في مباحث الجامعة الإسلامية - عن رأيه الأول الذي
قام يدعو إليه منذ أنشئ، وهو أنه لا يعود للإسلام مجده ويرجع إلى أهله عزهم إلا بتعميم التعليم الصحيح والتربية العملية على ما يرشد إليه هدي الدين الذي كان عليه السلف الصالح، وأن هذين الأمرين يتوقفان على أمور كثيرة منها إزالة
البدع، والرجوع إلى كتب الأئمة الأولين في اللغة والدين، والأخذ بكتب أهل هذا
العصر في العلوم الدنيوية، وقد بيّنا في السنة الماضية أن الإصلاح المطلوب لا بد
لتعميمه من وجود جمعية إسلامية عامة، يكون مقرها في مكة المكرمة، ولها شُعَب
في سائر البلاد الإسلامية، وبينا وظيفة هذه الجمعية وأعمالها، مبادئها وغايتها،
وقلنا: إن الرجاء فيها ضعيف الآن، ولكن لا بد أن توجد متى استعدت الأمة
لإيجادها، وزالت الموانع التي تحول دونه، ومن الأسف أن هذا الفكر قد لعب في
الأذهان، فتلاعبت به الخيالات حتى أبرزته في صورة غريبة، فطفق الكُتََََََّاب
يطلبون إنشاء مؤتمر إسلامي في الأستانة العلية، وزعموا أن مجد الإسلام وحياته
تناط بهذا المؤتمر، ولا يقول هذا القول إلا من انفصل عن عالم الوجود، فلم يعلم ما
يجوز وما لا يجوز، وزَجَّ بنفسه في عالم خيالي يجوّز المحال، ويصور نيل ما
لا ينال، ولا حاجة للاستدلال على أن إنشاء المؤتمر في الأستانة لا يكون، ولئن
كان فإنه يضر ولا ينفع، وإنما نقول شيئًا واحدًا، وهو أن سيدنا ومولانا السلطان
الأعظم لا يرضى بإنشاء هذا المؤتمر في عاصمته تحت رئاسته، ومما يصح أن
يستدل به على هذا عدم وجود دعوة جرائد الأستانة إليه واستحسانها له، مع علمها بما
كتبت الجرائد الأخرى فيه، وأسأل حضرة الكاتب الذي ما فتئ ينوّه به ويشيد، ويبدئ
القول ويعيد، أن يكتب مقالة في المسألة لإحدى جرائد الأستانة المعتبرة؛ ليعلم ما يكون من شأنها فيها.
وأما الجمعيات، فالمشهور منها في مصر ثنتان: جمعية (شمس الإسلام)
وجمعية (مكارم الأخلاق) وهناك جمعيات أخرى تقتضي حالها عدم التنويه بها،
فأما جمعية (شمس الإسلام) فقد ابتدأت بالتربية الصحيحة والتعليم القويم، فضمت
إليها المدرسة التحضيرية التي أسسها أحد أعضائها كما ذكرنا هذا من قبل، عهدت
إلى كاتب هذه السطور بقراءة درس ديني عام للأعضاء (انظر باب التربية
والتعليم) وأما جمعية (مكارم الأخلاق) فلم تزل وعظيّة محضة، يحشر إليها
الناس في كل ليلة جمعة يسمعون الخطب التي تشرح لهم مجد الإسلام الغابر،
وهوان أهله الحاضر، وتزجرهم عما فشا فيهم من الفواحش والمنكرات، وتحثهم
على عمل البر والمحافظة على الصلوات، لا يقال: إن هذه الأمور معلومة للجمهور،
فالكلام فيها لا يفيد غير التحبيذ لذي الفصاحة، والتأفف من صاحب العي والفهاهة،
فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وللخطابة شأن في نفوس السامعين، نعم لا مندوحة
لمن يتكلم في أدواء الإسلام عن شرح العلاج الحقيقي العام، وقول أولئك الخطباء:
عليكم بالاتحاد والإخاء، واعتصموا بالوفاق والوئام، واحذروا من التنازع والخصام،
وما أشبه هذه الأقوال التي يلوكها كل قوَّال هي كلمات مجملة، وفي نظر الجمهور
كالمهملة؛ لأنها لا ترشد إلى عمل معروف، ولا تهدي إلى الوقاية من مصارع
الحتوف.
ذكرت في (المنار) الذي قبل هذا أنني خطبت القوم في تلك الجمعية
خطبة في التربية، وما حملني على إجابة دعوة الداعي إلى الخطابة إلا أن أحد
الخطباء تكلم عن فساد الأمة، وأطنب في شرح حال الفحش وتهتك النساء في الشرق
بعد انتشار الغربيين في بلاده، ثم قال: وأما علاج هذا البلاء ودواء هذه الأدواء
فكلكم تعرفونه، والصواب أنهم إنما يعرفون الداء الذي شرحه؛ لأنهم هم المتلبسون
به كما قال، ولو عرفوا الدواء لعرفوا أن فيه سعادتهم، ومن عرف معرفة صحيحة
أن في شيء ما سعادة له، فإن إرادته تبعثه للعمل به طبعًا كما بيناه في مقالة
(تأثير العلم في العمل) وقد أحببت أن أكتب ملخص ما بقي في ذهني من تلك
الخطبة إجابة لطلب من استحسنها، وهو:
(أيها الإخوان، تكلم الخطباء الأفاضل في أمراضنا الروحية، وأدوائنا
الاجتماعية، فلم يدعوا مقالاً لقائل، ولا مجالاً لجائل، مثلوا الداء للأنظار حتى كاد
يحس، وصوَّروه حتى تخيلت أنه يلمس، فبقي علينا أن نتكلم في العلاج، ونشرع له
أقرب منهاج (أشرع الطريق: بيِّنه) وليس من قصدي الخطابة وإنما أحب أن أقول
كلمات ثلاث أبين بها ماذا يجب علينا أن نعمله لإرجاع مجدنا، أثار هذه الكلمات في
نفسي قول الخطيب الثاني: (كلكم تعرفون الدواء) وربما يكون قالها لتوجيه
نفوسكم للبحث في هذه المسألة المهمة، أو لعدم إيقاعكم في وهدة اليأس ولا أخاله
يعتقد أن علاج الأمم. يأخذه الكافة من أَمَم (قرب) يصاب أحدنا بوجع في
إصبعه، أو يخرج دمل في عضو من أعضائه، فيحار هو والناس في معالجته،
فماذا عسى أن يقال في معالجة أمة عظيمة يزيد عديدها عن الثلاثمائة مليون، وقد مر
عليها ثلاثة عشر قرنًا ونيف، وتبوأت كل أرض، وتكلمت بلغات كثيرة،
وحكمت من أمم ودول متعددة، وطرأ عليها من البدع والأهواء ما لم يطرأ على
سواها، فهل يقال: إن إرجاع مجدها إليها يعرفه كل أحد؟ كلا، إن علاج مثل هذه
الأمة أمر كبير لا يعرفه إلا الحكماء والراسخون في العلم، وقليل ما هم، كتبنا وكتب
الكاتبون، وقلنا وقال آخرون ، والبحث لم يزل في أوله، والجماهير لم تزل
تتخبط في دياجير الحيرة، وتهيم في أودية المشكلات، يقال لكم: عليكم بالإخاء،
عليكم بالاتحاد، وما أشبه هاتا، وهذا كلام إجمالي يخرج كل سامع له غير عالم بما
يُطلب منه، وما يجب أن يأخذ به، ولهذا أحببت أن أختصر القول بثلاث كلمات
ليعيها الواعون، ويعمل بها الموفقون، وهن بيان ما لما أجمله الخطباء والكتاب في
قولهم: إننا لا يرجع إلينا مجدنا إلا بالدين.
الكلمة الأولى: كيف نربي أنفسنا تربية دينية صحيحة؟ والثانية: كيف نربي
نساءنا؟ والثالثة: كيف نربي أولادنا؟ فهذه هي الفرق التي تتألف منها الأمة.
تربية الكبير أمر عسير جدًّا؛ لأن مناشئ العمل من العقائد والأخلاق والصفات
تكون راسخة فيه بالعمل يصعب اقتلاعها وانتزاعها، وبيان هذا أن الإنسان إذا
عمل عملاً يحدث لعمله أثر مخصوص في مركز مخصوص من دماغه، وكلما أعاد
العمل يقوى الأثر حتى يصير المركز العصبي هو الذي ينبه لذلك العمل ويزعج
الأعضاء لفعله كلما جاء وقته، أو عرض سببه، فيندفع الإنسان لفعله بلا رويّة ولا
تكلف، وهذا هو الذي يسمى الخُلُق والمَلَكة.
ثبت هذا التدقيق في الفلسفة الجديدة، ويشير إليه الناس بقولهم: العادة طبيعة
خامسة، الأعمال هي التي تطبع الملكات والأخلاق في النفوس، والأعمال التي
يندفع إليها المرء بطبيعته من غير تكلف إنما تنبعث عن الملكات والاعتقادات
الراسخة الممتزجة بالنفس، وهي التي عليها مدار السعادة والشقاء، لولا أن الإنسان
خُلِق قادرًا على التكلف بالعمل على خلاف ما يقتضيه خلقه وعادته لكانت تربية
الكبير متعذرة، ولاستحال أن يصلح من خلل أو يرجع عن زلل، ولكن العاقل إذا
ثبت عنده شرعًا أو عقلاً أن شيئًا مما اعتاده وتخلق به مضرٌّ له في دينه أو دنياه،
يمكنه أن يتكلف ترك العمل الذي ينشأ من تلك العادة أو الخلق، ويتكلف العمل
بضدها، وإذا واظب على هذ التكلف زمنًا طويلاً يضعف الخلق الأول، وينشأ له
خلق جديد، لا أنكر أنه لا يقدر على هذا العمل كل إنسان، لا يقدر عليه إلا أرباب
الفطرة الزاكية، والهمة العالية، والعزيمة الصادقة، ولابد من الاستعانة عليه
بأمرين، أحدهما كثرة المذاكرة في قبح القبيح الذي يريد تركه، وحسن الحسن الذي
يحاول استبداله به، وثانيهما أن يجعل بعض أصدقائه مهيمنًا ورقيبًا عليه، ويأذن له
بأن يذكره إذا نسي، ويؤنبه ويعنفه إذا أخل بما التزمه من ترك الرذيلة والتلبس
بالفضيلة، مَن يرضى منا أن يوصف بضعف الاستعداد الفطري للخير؟ من يرضى
أن يرمى بوهن العزيمة؟ من يرضى أن يغمز بقلة الهمة؟ لا يرضى أحد مِنَّا بهذه
المثالب، فعلى كل منا أن يجعل مرمى نظره، وقبلة عزيمته تهذيب نفسه وتزكيتها،
وإلحاقها بنفوس الكَمَلة، إن صح منك الهوى أرشدت للحيل، متى شرعنا في العمل
يفتح في وجهنا باب العلم بنفوسنا ومصالحها، فكلما أصلحنا شيئًا يلوح لنا غيره
فنشتغل بإصلاحه، وهذا هو معنى الحديث الشريف: من عمل بما علم ورثه الله
علم ما لم يعلم. يجب أن يبدأ كل منا بالرجوع عن كبائر ذنوبه، وبمعالجة أسوأ
أخلاقه، وهذه العظائم لا تخفى على أحد منا، الحلال بَيّن والحرام بَيّن، وإنما
يجهل الكثير من الناس الشبهات، ولا يتقي الشبهات إلا من اتقى الفواحش
والمنكرات.
(لها بقية)
_________
الكاتب: محمد رشيد رضا
دروس جمعية شمس الإسلام
(الدرس الأول)
قرر مجلس إدارة جمعية (شمس الإسلام) باتفاق الآراء انتداب هذا العاجز
منشئ (المنار) لإلقاء دروس دينية في الاجتماع العمومي الأسبوعي للجمعية،
فتلقيت أمر المجلس بالامتثال، بل أديت فرضًا عليّ لأمتي وملتي، وكان إلقاء
الدرس الأول في ليلة الاثنين الماضية، وبعد الفراغ منه اقترح عليّ وكيل الرئيس
أن أنشر ملخص هذه الدروس في (المنار) ليكون تذكرة للإخوان، ولينتفع به من
لم يحضره، لا سيما شُعَب الجمعية في خارج القاهرة، ورأيت الحاضرين ارتاحوا
لهذا الاقتراح، فتلقيته بالقبول، وهاؤم اقرءوا ملخص الدرس الأول.
(الدرس الأول - تمهيد ومقدمات)
ابتدأت بالبسملة والحمدلة والتصلية والدعاء، ثم قلت:
(1)
الدين: لم يبق سمع لم يطرقه الكلام في الشكوى من حال الإسلام،
وأن علاج ما نحن فيه من البلاء المبين هو الأخذ بتعاليم الدين، مقتفين آثار
أسلافنا الأولين، فما هو الدين؟ عرَّف الدينَ علماؤنا بأنه وضع إلهي سائق
لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى ما فيه نجاحهم في الحال وفلاحهم في المآل،
فهل ينطبق علينا هذا التعريف؟ هل نحن ناجحون في الدنيا؟ كلا إننا أمسينا وراء
جميع الأمم والشعوب، فاليهود الذين لا سلطة لهم يفوقوننا بالعلم والثروة
وارتباطهم بالإخاء المِلِّي، والوثنيون في الهند سابقون للمسلمين في الفنون
والصنائع، والأخذ بزمام الأحكام، ولقد كانت السيادة للمسلمين عليهم في كل
شيء مع كونهم أقل منهم عددًا، وإلى الآن لا يقدر الوثنيُّ على بلوغ شأو المسلم
إذا هو جاراه، ولو صرخ مسلم بمائة وثني لَوَلَّوا منه فِرَارًا ولَمُلِئوا منه رعبًا؛
بسبب ما بقي له من آثار وراثة أسلافه، من العجيب أنه لا يوجد شعب إسلامي
ناجح مع أن النجاح داخل في مفهوم دينه. عدم انطباق تعريف الدين علينا يدل
على أننا لسنا على الدين، لا أقصد بهذا أن كل من ينتمي للإسلام ليس على
الإسلام، وإنما أريد به ما تدل عليه المشاهدة من أن مجموع المسلمين منحرفون
عن تعاليم دينهم القويمة التي تؤدي بطبيعتها إلى النجاح، وتستلزم الفوز والفلاح،
كما وقع لأسلافنا الذين سبقونا بالإيمان.
صرَّح التعريف بأن الدين يوصل ذويه إلى سعادة الدنيا والآخرة، فعدم
وصولنا لإحدى السعادتين دليل على أننا لا نصل إلى الأخرى أيضًا؛ لأنه
ناشئ عن عدم أخذ الدين على وجهه الصحيح، القياس جلي ظاهر، وسنزيده
تفصيلاً عند الكلام على فروع العبادات والحكمة فيها، ككون الصلاة المَرضية
عند الله تعالى تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكفوائد الزكاة الاجتماعية، وغير
ذلك (توسعنا بهذه المسألة في الدرس) من التعاليم الفاسدة الزائغة بيننا، قول
عامتنا وخاصتنا فينا وفي المخالفين لنا في الدين: لهم الدنيا ولنا الآخرة، وهذا
مخالف لصريح القرآن، فإن الله تعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً
يَوْمَ القِيَامَة} (الأعراف: 32) فقد جعل الله الزينة والطيبات للمؤمنين
بالاستقلال، ولولا أن قال:{خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) لما
عُلِم أن غير المؤمن يستحق شيئًا منها، أليس من الجهل الفاضح أن نزعم أن
ديننا هو الذي قضى بحِرْمَانِنا من سعادة الدنيا، أي جناية على الدين أشد من
رجوع أهله به إلى ما هو أشبه بحالة الرهبانية الأولى من الإفراط في الزهادة
والخمول ومخالفة القرآن؟ إن الديانة الإسلامية وعزة الدنيا وسلطانها توأمان،
ارتفعا معًا وانْحطَّا معًا، ولا يمكن لنا أن نحفظ ديننا إلا بالثروة وبسطة العلم
والسلطان، وأن تلك التعاليم المخالفة لهذا المنهاج القويم هي التي أوقعتنا في
الرجز الأليم.
(2)
التعليم: إنما يؤخذ الدين بالتعليم، كذلك تلقاه النبي عن الروح
الأمين، وكذلك تلقاه عنه الصحابة وهكذا، كان التعليم بالقول والعمل، ثم
صار بعد ذلك صناعة، والصناعات تقوى بترقي العمران، وتضعف بتدليه،
وقد ضعف عمراننا؛ فضعف تعليمنا حتى كاد يكون فهم الدين منه متعذرًا، إن
دين الإسلام هو دين الفطرة، وهو أسهل الأديان تعقلاً، وأقربها مثالاً،
وأسهلها على النفوس، وقد قال صلى الله عليه وسلم بعثتُ بالحنيفية السمحة،
ليلها كنهارها، وكان الأعرابي يتعلم الدين من صاحبه في مجلس واحد، وإننا
نرى اليوم الذين يقدمون لتأدية امتحان التدريس في الأزهر، يخرج الكثير منهم
مجروحًا في العقائد والفقه والتفسير، ويكون قد قضى في الأزهر نحو عشرين
سنة ولم يفهم الدين، فإذا كان التعليم محصورًا في الطريقة الأزهرية، فمتى
يتأتى تعميمه بين المسلمين؟ ترون في الجرائد آنًا بعد آن خلقًا كثيرًا قد
دخلوا في الديانة الإسلامية، وأن سبب دخولهم فيها هو سهولتها وتعقل عقائدها
وأحكامها، سبب متفق عليه بين الجرائد الأوروبية والجرائد الإسلامية، هذا
وإن الدين لم يبق على سذاجته الأولى؛ لأن أحكامه امتزجت بمسائل الفنون
الحادثة في المِلَّة، ووجد في كتبه ما يتبرأ الدين منه، فما بالكم لو كان الدين
وأهله في هذا الزمن الذي اتصل به العالم بعضه ببعض على ما نعلم من حالهما
في النشأة الأولى.
(3)
البصيرة في الدين: لا يؤدي الدين إلى غايتيه اللتين ذكرناهما ما لم
يكن الآخذون به على بصيرة فيه، فإن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه
وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف:
108) ولا يكون الإنسان على بصيرة فيه إلا إذا كان موقنًا بعقائده لأخذها
ببراهينها، ومذعنًا بأن أحكامه وآدابه موافقة لمصلحته ومصلحة الأمة كلها
إذعانًا يمازج روحه، ويخالط وجدانه بحيث يصدق عليه قوله تعالى: {أَفَمَن
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر: 22) ولا يتناوله
الويل المشار إليه بقوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ
مُّبِينٍ} (الزمر: 22) العلم بالدين على هذا الوجه لا نصيب منه لأهل التقليد
الذين يعتقدون لأن قومهم اعتقدوا، ويعملون لأن أباهم أو شيخهم عمل، وقد
عاب الله تعالى في كتابه هذا الفريق من الناس في آيات كثيرة، فإن قيل: إنك
تحاول بهذا أن يكون كل فرد ولو أميًّا عالمًا دينه بالدليل والبرهان، وهذا لم
يحصله إلا القليل ممن انقطع للعلم الديني، فكيف يحصله بتعليمك حتى الصناع
والزراع؟ أقول: إن المنقطعين للعلم إنما يتناولون الدين من كتب يتوقف فهمها
على إتقان علوم وفنون كثيرة لا يتقنها إلا قليل منهم، لسوء أساليب التعليم،
بل إنهم أهملوا المهم منها، كالتفسير والأخلاق، وعلم النفس والاجتماع،
وتركوا تطبيق العلم على ما في الوجود، إذا أنا قرأت لكم العقائد بالبراهين
المنطقية فلا شك في أنه لا يستفيد منها إلا نفر قليل، ما لي وللقياس الاقتراني
والاستثنائي، ولبرهان التطبيق والخلف، أنا أحب أن أشرح المسائل بعبارة
يفهمها كل سامع، وأقيم عليها الأدلة الواضحة التي تتقبلها العقول، وتشربها
القلوب، وتسكن إليها النفوس بحيث يكون متناولها على نور من ربه، فلا
يرجع عنها ولو رجع جميع العالمين، وبهذا القدر يخرج من مضيق التقليد
المذموم الذي هو الأخذ بقول الغير بغير بصيرة.
(4)
قواعد الدين: شرع الله الدين لتصحيح العقائد وتهذيب الأخلاق
وإصلاح الأعمال، فمقاصد علوم الدين ثلاثة، أما علم العقائد فخصصوا
مباحثه في ثلاث قواعد (1) ما يعتقد في الله تعالى و (2) ما يعتقد في الأنبياء
والرسل و (3) ما يعتقد تفصيلاً في عالم الغيب، أي ما جاء به الدين من
الأخبار التي لا تعرف إلا بالسمع، كوجود الملائكة والجنة والنار إلخ، يجب
الاعتقاد بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعُلِم من الدين بالضرورة
غير مختلف فيه، كوجوب الصلاة والزكاة، وتحريم الزنا والخمر، والحسد
والكبر، فمن كان لا يعتقد بهذه الأشياء لا يكون مسلمًا، وإنما قصروا علم
العقائد على القواعد الثلاث؛ لأن سائر ما يجب اعتقاده يبحث عنه في العلوم
التي تبين أحكامه بالتفصيل، وسيأتي كل شيء في محله إن شاء الله تعالى.
هذا مجمل الدرس ومن حضره يتذكر منه التفصيل، والله الهادي إلى سواء
السبيل.
((يتبع بمقال تالٍ))
_________