المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (2)

- ‌28 شوال - 1316ه

- ‌خطاب وعظي للإنسان

- ‌الإيثار

- ‌التربية والتعليم

- ‌الحوادث والأخبار التاريخية

- ‌6 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الإيثار

- ‌الحبالى وتربية الأجنة(1)

- ‌التعليم بالعمل

- ‌ما قيل في الخال

- ‌الجامع الأزهر الشريف

- ‌الأخبار والآراء

- ‌13 ذو القعدة - 1316ه

- ‌تأثير العلم في العمل

- ‌أيها الفتى

- ‌أخبار الحجاج

- ‌اعتذار

- ‌20 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الاتحاد

- ‌اختيار المعلمين

- ‌الحدود بين القطر المصري والسودان

- ‌27 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الإصلاح الإسلامي

- ‌تأثير الوعظ والتذكير

- ‌عبرة لمن يعقل

- ‌إحصاء الأوقاف

- ‌تنازع الدول الأوربيةعلى الممالك الإسلامية

- ‌5 ذو الحجة - 1316ه

- ‌الإصلاح الإسلامي

- ‌عداء وخداع

- ‌الجمعية الإسلامية الهندية في لاهور

- ‌19 ذو الحجة - 1316ه

- ‌الأعياد

- ‌الساكت عن الحق شيطان أخرس

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌26 ذو الحجة - 1317ه

- ‌التعليم القضائي

- ‌المتكلمة بالقرآن

- ‌مقتطفات

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌3 محرم - 1317ه

- ‌الاعتماد على النفس

- ‌استنهاض همم(2)

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌10 محرم - 1317ه

- ‌التصرف في الكون

- ‌استنهاض همم(3)

- ‌التربية النفسية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌17 محرم - 1317ه

- ‌حياة الإسلام في مصر

- ‌استنهاض همم(4)

- ‌الطاعون واتقاؤه

- ‌كتاب تحرير المرأة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌24 محرم - 1317ه

- ‌استنهاض همم(5)

- ‌التربية النفسية

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مسألة القضاء الحاضرة

- ‌2 صفر - 1317ه

- ‌العز والذل

- ‌استنهاض همم(6)

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌9 صفر - 1317ه

- ‌فهم الدين

- ‌استنهاض همم(7)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الأخبار

- ‌16 صفر - 1317ه

- ‌كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية

- ‌استنهاض همم(8)

- ‌مراكش

- ‌ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [[

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مقتطفات الأخبار

- ‌23 صفر - 1317ه

- ‌النهضة الإسلامية في مصر

- ‌استنهاض همم(9)

- ‌إزالة شبهة

- ‌اختبار علم كل عارفمن ألباء أرباب المعارف

- ‌وفاة

- ‌29 صفر - 1317ه

- ‌استنهاض همم(10)

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أرزاء وطنية

- ‌يستحيل إرضاء الناس

- ‌ وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى [[

- ‌7 ربيع الأول - 1317ه

- ‌كان يا ما كان(2)

- ‌استنهاض همم(11)

- ‌الكتابان الجليلان

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الاحتفال بتذكارالمولد النبوي الشريف

- ‌14 ربيع الأول - 1317ه

- ‌المولد النبوي

- ‌كان يا ما كان(3)

- ‌استنهاض همم(12)

- ‌مَضَارُّ الْغِلْظَةِ فِي التَّرْبِيَة

- ‌تأييد عالم وتفنيد واهم

- ‌شعر في حب العلم

- ‌21 ربيع الأول - 1317ه

- ‌الحياة المِلِّية

- ‌كان يا ما كان(4)

- ‌استنهاض همم(13)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مدرسة الجمعية الخلدونية

- ‌إحصاء عن عدد سكان أوربا

- ‌28 ربيع الأول - 1317ه

- ‌الجنسية والدين الإسلامي

- ‌كان يا ما كان(5)

- ‌استنهاض همم(14)

- ‌تعليم النساء

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌5 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌الجامعة الإسلامية

- ‌استنهاض همم(15)

- ‌حقوق الجار ومدح المناربما يبديه من هدي الكبار

- ‌الإسلام في البرازيل

- ‌12 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌الدين والدولةأو الخلافة والسلطنة

- ‌كان يا ما كان(6)

- ‌خاتمة رسالةاستنهاض همم

- ‌تنبيه

- ‌دم أضاعه أهله

- ‌عناصر النمسا

- ‌19 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌كلمة في الحجاب

- ‌تهنئة الأستاذ المفتي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌26 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌تحريف الكلم عن مواضعه

- ‌الحديث الموضوع

- ‌الاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني

- ‌كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌3 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌حقوق الأخوة(3)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌10 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌حقوق الأخوة(4)

- ‌الوثنية في الإسلام

- ‌نجاح الجمعيات الإسلامية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌17 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌ماذا نعمل

- ‌المسلمون في روسيا

- ‌الأميرة الفاضلة صاحبة الدولةالبرنسس نازلي هانم أفندي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌24 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌القسم الثانيمن خطبتنا في التربية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌2 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌رد على باحث في كتابسر تقدم الإنكليز السكسونيين

- ‌القسم الثانيمن خطبتنا في التربية

- ‌شذرات

- ‌9 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أخبار وآراء

- ‌16 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌فلسفة الحرب الحاضرة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الشكوى من ظلم هولندا

- ‌وفاة والدة عبد الحليم أفندي حلمي

- ‌23 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌ذكرى لرؤساء الأمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أهم أخبار الحرب

- ‌شكر

- ‌30 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌الفرصتان

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌أهم أخبار الحرب

- ‌عودة الخديوي وأسرته

- ‌منع جريدة المشير

- ‌المدرسة العثمانية

- ‌إزالة وهم تاريخي

- ‌بعض التفصيل

- ‌6 رجب - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌بدع رجب

- ‌14 رجب - 1317ه

- ‌مناشير المهدي السوداني

- ‌فائدة الانتقاد

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌21 رجب - 1317ه

- ‌عزاء

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌بضعة أيام في خدمةجمعية شمس الإسلام

- ‌إصلاح غلط

- ‌28 رجب - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الدولة العلية في أفريقية

- ‌مساجد الصعيد

- ‌6 شعبان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأسطول الفرنساوي

- ‌رزء وطني عظيم

- ‌كنسة الإمام

- ‌13 شعبان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المنار والمناظر

- ‌السيول الجارفة

- ‌الجغرافيا والحرب

- ‌20 شعبان - 1317ه

- ‌الشريعة والطبيعةوالحق والباطل

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌عيد المولد الهمايوني

- ‌العالم الإسلامي

- ‌الحرب الحاضرة

- ‌27 شعبان - 1317ه

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌5 رمضان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌12 رمضان - 1317ه

- ‌اقتراح على السادة العلماءفي تقويم اعوجاج الوعّاظ والخطباء

- ‌الصيام والتمدن(2)

- ‌التقريظ والانتقاد

- ‌مأثرة لجمعية شمس الإسلام

- ‌19 رمضان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌26 رمضان - 1317ه

- ‌الزكاة والتمدن(2)

- ‌الاقتراح على المنار

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌ذم الهوى

- ‌الأخبار والآراء

- ‌المسجد الحسيني

- ‌10 شوال - 1317ه

- ‌طفولية الأمّةوما فيها من الحيرة والغمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الاجتماع العامفي جمعية شمس الإسلام

- ‌الأخبار والآراء

- ‌17 شوال - 1317ه

- ‌الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌جمعية شمس الإسلامفي القاهرة

- ‌الأمراء والعلماء

- ‌أفكوهة غريبة

- ‌خاتمة السنة الثانية للمنار

الفصل: ‌3 محرم - 1317ه

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌خطاب وعظي للإنسان

بسم الله الرحمن الرحيم

{فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) .

أما بعد: فيا أيها الإنسان خلقك الله وسطًا بين العوالم الجسدية والروحية

وأعطاك سلطانًا على العوالم السفلية والعلوية، منحك المشاعر البادية والكامنة

وأسبغ عليك نِعَمه ظاهرة وباطنة، ولم يجعل لاستعدادك حدًّا معروفًا، ولا لرقيك

منتهى محدودًا، فلماذا قنع بعض أبنائك بالمرتبة الدنيا فوقفوا عند الدرجة السفلى؟

يتخطى إخوتهم رقابهم وهم سائرون، ويطؤون هامهم وهم صاعدون، ولكنهم

وادعون ساكنون، كأنهم لا يحسون ولا يشعرون، العبر أمامهم ووراءهم والمنبهات

عمت أرضهم وسماءهم. ولكنهم لا يعتبرون ولا يتنبَّهون {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ

سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (يس: 9) .

يا أيها الإنسان، ما هذا الفرق الكبير الذي بين أفرادك. واحد كألف، وألف

كأف. بل واحد يدبر شؤون أمة كاملة حتى كأنه روح مدبرة، وهي أعضاء مسخرة

فأجدر بالإنسانية أن تقر لهذا بنسبته، وتنكر أولئك وإن كانوا على صورته

{أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) .

ويا مَن خُلق على صورة الإنسان، ولكنه يعيش بروح أخس حيوان. أَفِقْ من

سكرتك، وهب من رقدتك، واكفُفْ عن التمادي في الشهوات البهيمية، والاسترسال

في التعديات الوحشية. واعلم أن لك روحًا أخرى إذا غلبتها على هواك، وحكَّمتها في

قواك. فإنك ترتقي إلى حال جديدة تحيا بها حياة سعيدة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ

لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4) .

ويا أيها الشرقي تذكر وتدبر، واعلم أن ذنوب الأمم لا تُغفر، فما من أمة فشا

في آحادها الكذب والخيانة والنفاق، وفسدت من آحادها الآداب والأخلاق. فانحرفت

عن الشريعة الإلهية، ولم تسترشد بالسنن الكونية - إلا وصب عليها مدبر الكون

سوط عذاب {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَاّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ

العِقَابِ} (الأنفال: 25)، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 21) .

إن شر الدوابِّ عند الله الصم الذين لا يسمعون سماع تعقل وتدبر، البُكم الذين

لا ينطقون بالحق فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر. فاسمعوا وأطيعوا

واعلموا واعملوا. وألفوا الشركات المالية، واعقدوا الجمعيات العلمية والأدبية

{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (التوبة: 41) .

وهاكم هذه المجلة التهذيبية. الخادمة لجامعتكم الملية والوطنية. تنتقي لكم ما

هو أمسّ بمصلحتكم، وأقرب - إن شاء الله تعالى - لمنفعتكم، وأدعى - بفضل الله

تعالى - إلى نهضتكم. وأرجى - بتوفيق الله عز وجل لجمع كلمتكم. فتبين البدع

التي مازجت العقائد، والمفاسد التي عرضت للسجايا والعوائد؛ فأمرضت العقول

وانحرفت بالنفوس عن سواء السبيل، وتهدي لعلاج هذه الأمراض الروحية

والأدواء الاجتماعية. بكشف الحجاب عن وجوه التربية النافعة، وتسهيل سبل

التعاليم الناجعة. وتختار من الآثار العلمية والأدبية، والملح والنوادر الفكاهية، ما

ترتاح له مع الفائدة النفوس، وتنجلي به على نزاهته الهموم والبؤوس.

أما جوائب الأخبار، وحوادث الأقطار والأمصار فنذكر منها أهم ما يفيد

القارئين - لا سيما المصريين والعثمانيين - وسالكين فيه منهج المؤرخ العادل، من

غير طعن ولا تحامل. فالخدمة الصحيحة للدولة والأمة إنما تكون بتبيين الرشد من

الغي، وتمييز الخطأ من الصواب، والتزييل بين النافع والضار؛ إذ التجريح

والترجيح، والذم والمديح - لا يخفض شيء منها قدرًا، ولا يرفع ذكرًا، ولا يكون

مناطًا لعزة ورقي، ولا لذلة وهُوي، وسواء كان ذلك في الأمم والدول، أم في الآحاد

والأشخاص. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا في سنتنا هذه لأحسن ما وفقنا له في سنتنا

الخالية. ونرجو من فضلاء الأمة الذين استعذبوا مشرب الجريدة. واعتقدوا أن

مباحثها نافعة مفيدة أن يشدّوا أزرنا، ويساعدونا على تعميم نشرها {وَتَعَاوَنُوا عَلَى

البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) وتمسكوا من الإصلاح بالسبب الأقوى {وَاتَّقُوا اللَّهَ

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (البقرة: 189) ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى

السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) .

خلق الله الإنسان عالمًا صناعيًّا، ويسّر له سبيل العمل لنفسه، وهداه للإبداع

والاختراع، وقدر له من الرزق من صنع يده بل جعله ركن وجوده، ودعامة بقائه،

فهو على جميع أحواله من ضيق وسعة، وخشونة ورفاهة، وتبدٍّ وحضارة صنيعة

أعماله: أقواته من معالجة الأرض بالزراعة أو قيامه على الماشية، وسرابيله وما

يقيه من الحر أو البرد والوجى من عمل يديه نسجًا أو خصفًا. وأكنانه ومساكنه

ليست إلا من مظاهر تقديره وتفكيره، وجميع ما يتفنَّن فيه من دواعي ترفه ونعيمه

إنما هي صور أعماله ومَجَالِي أفكاره، ولو نفض من يديه من العمل لنفسه ساعة من

الزمان، وبسط أكفّه للطبيعة يستجديها نفسًا من حياة - لشحت به عليه بل دفعته إلى

هاوية العدم. وهو في صنعه وإبداعه محتاج إلى أستاذ يثقفه، وهادٍ يرشده، فكما

يعمل لتوفير لوازم معيشته وحاجات حياته - يعمل ليعلم كيف يعمل، وليقتدر على أن

يعمل؛ فصنعته أيضًا من صنعه، فهو في جميع شؤونه الحيوية عالم صناعي كأنه

منفصل عن الطبيعة بعيد من آثارها، حاجته إليها كحاجة العامل لآلة العمل.

هذا هو الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه.

دعْه في هذه الحالة وخذ طريقًا من النظر إلى أحواله النفسية من الإدراك

والتعقل والأخلاق والملكات والانفعالات الروحية - تجدْه فيها أيضًا عالمًا صناعيًّا:

شجاعته وجبنه، وجزعه وصبره، كرمه وبخله، شهامته ونذالته، قسوته ولينه

عفته وشرهه وما يشابهها من الكمالات والنقائص. جميعها تابع لما يصادفه في

تربيته الأولى، وما يودع في نفسه من أحوال الذين نشأ فيهم وتربَّى بينهم، مرامي

أفكاره، ومناهج تعقله ومذاهب ميله ومطامح رغباته ونزوعه إلى الأسرار الإلهية،

أو ركونه إلى البحث في الخواص الطبيعية، وعنايته باكتشاف الحقيقة في كل شيء،

أو وقوفه عند بادئ الرأي فيه وكل ما يرتبط بالحركات الفكرية، إنما هي ودائع

اختزنها لديه الآباء والأمهات والأقوام والعشائر والمخالطون. أما هواء المولد

والمربي ونوع المِزَاج وشكل الدماغ وتركيب البدن وسائر الغواشي الطبيعية فلا أثر

له في الأعراض النفسية والصفات الروحانية، إلا ما يكون في الاستعداد والقابلية،

على ضعف في ذلك الأثر؛ فإن التربية وما ينطبع في النفس من أحوال المعاشرين

وأفكار المثقفين تذهب به كأن لم يكن أودع في الطبع. نعم، إن أفكارًا تتجدد،

ومعقولات من أخرى تتولد وصفات تسمو، وهممًا تعلو حتى يفوق اللاحقون فيها

السابقين، ويظن أن هذا من تصرف الطبيعة لا من آثار الاكتساب، ولكن الحق فيه

أنه ثمرة ما غرس، ونتيجة ما كسب؛ فهو مصنوع يتبع مصنوعًا، فالإنسان في

عقله وفي صفات روحه عالم صناعي.

هذا مما لا يرتاب فيه العقلاء والسذج، ولكن هل تذكرت مع هذا أن الأعمال

البدنية، إنما تصدر عن المهلكات والعزائم الروحية، وأن الروح هي السلطان

القاهر على البدن؟ أظنك لا تحتاج فيه إلى تذكير؛ لأنه مما لا يعزُب عن الأذهان،

إنما قبل الدخول في موضوعنا أقول كلمة حق في الدين ولا أظن منكرًا يجحدها:

إن الدين وضع إلهي ومعلمه والداعي إليه البشر تلقاه العقول عن المبشرين

المنذرين فهو مكسوب لمن يختصهم الله بالوحي [1] ، ومنقول عنهم بالبلاغ والدراسة

والتلقين، وهو عند جميع الأمم أول ما يمتزج بالقلوب، ويرسخ في الأفئدة وتصبغ

النفوس بعقائده وما يتبعها من المَلَكات والعادات، وتتمرن الأبدان على ما ينشأ عنه من

الأعمال عظيمها وحقيرها، فله السلطة الأولى على الأفكار وما يطاوعها من العزائم

والإرادات، فهو سلطان الروح ومرشدها إلى ما تدبر به بدنها. وكأنما الإنسان في

نشأته لوح صقيل، وأول ما يخطّ فيه رسم الدين، ثم ينبعث إلى سائر الأعمال بدعوته

وإرشاده. وما يطرأ على النفوس من غيره فإنما هو نادر شاذ، حتى لو خرج مارق

عن دينه لم يستطع الخروج عما أحدثه فيه من الصفات بل تبقى طبيعته فيه كأثر

الجرح في البشرة بعد الاندمال.

وبعد هذا، فموضوع بحثنا الآن الملة المسيحية والملة الإسلامية، وهو بحث

طويل الذيل، وإنما نأتي فيه على إجمال ينبئك عن تفصيل: إن الديانة المسيحية

بُنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص واطِّراح الملك

والسلطة ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم

المتدينين بها وترك أموال السلاطين للسلاطين والابتعاد عن المنازعات الشخصية

والجنسية بل والدينية، ومن وصايا الإنجيل: (مَن ضربك على خدك الأيمن فأدرْ له

خدك الأيسر) ومن أخباره أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد وهي فانية،

والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح وهي لله وحده. فمَن يقف على مباني هذه

الديانة ويلاحظ ما قلنا من أن الدين صاحب الشوكة العظمى على الأفكار مع

ملاحظة أن لكل خيال أثرًا في الإرادة يتبعه حركة في البدن على حسبه - يعجب كل

العجب من أطوار الآخذين بهذا الدين السلمي المنتسبين في عقائدهم إليه؛ فهم

يتسابقون في المفاخرة والمباهاة بزينة هذه الحياة ورفَه العيش فيها، ولا يقفون عند حد

في استيفاء لذَّاتها [2] ، ويسارعون إلى افتتاح الممالك والتغلب على الأقطار الشاسعة،

ويخترعون كل يوم فنًّا جديدًا من فنون الحرب، ويُبدعون في اختراع الآلات

الحربية القاتلة، ويستعملها بعضهم في بعض ويصولون بها على غيرهم،

ويبالغون في ترتيب الجيوش وتدبير سوقها في ميادين القتال، ويصرفون عقولهم في

إحكام نظامها حتى وصلوا إلى غاية صار بها الفن العسكري من أوسع الفنون

وأصعبها، وإن أصول دينهم صارفة لعقولهم عن العناية بحفظ أملاكهم فضلاً عن

الالتفات إلى طلب غيرها.

الديانة الإسلامية وُضع أساسها على طلب الغلب والشوكة، والافتتاح والعزة،

ورفض كل قانون يخالف شريعتها، ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية

على تنفيذ أحكامها؛ فالناظر في أصول هذه الديانة، ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل

يحكم حكمًا لا ريب فيه بأن المعتقدين بها لا بد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم

وأن يسبقوا جميع المِلَل إلى اختراع الآلات القاتلة، وإتقان العلوم العسكرية،

والتبحُّر فيما يلزمها من الفنون كالطبيعة والكيمياء وجرّ الأثقال والهندسة وغيرها.

ومن تأمل في آية {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) -

أيقن أن مَن صُبغ بهذا الدين فقد صُبغ بحب الغَلَبَة وطلب كل وسيلة إلى ما يسهل له

سبيلها والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية فضلاً عن الاعتصام بالمَنَعَة والامتناع من

تغلب غيره عليه. ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرم المراهنة إلا في السباق

والرماية - انكشف له مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرن عليها.

ولكن مع كل ذلك تأخذه الدهشة من أحوال المتمسكين بهذا الدين لهذه الأوقات؛

إذ يراهم يتهاونوا بالقوة، ويتساهلون في طلب لوازمها، وليست لهم عناية في فنون

القتال ولا في اختراع الآلات، حتى فاقتهم الأمم سواهم فيما كان أول واجب عليهم،

واضطروا لتقليدها فيما يحتاجون إليه من تلك الفنون والآلات، وسقط كثير منهم

تحت سلطة مخالفيهم واستكانوا ورضخوا لأحكامها. ومَن وازن بين الديانتين حار

فكره كيف اخترع مِدفع الكروب والمتراليوز وغيرهما بأيدي الديانة الأولى قبل

الثانية؟ وكيف وجدت بندقية مرتين في ديار الأولين قبل وجودها عند الآخرين؟

وكيف أُحكمت الحصون ودُرعت البواخر وأُخذت مغالق البحار بسواعد أهل السلامة

والسلم دون أهل الغلة والحرب؟ !

لِمَ لا يحار الحكيم وإن كان نطاسيًّا؟ لم لا يقف الخبير البصير دون استكناه

الحقيقة؟ ألم تكن القرون الخالية والأحقاب الماضية كافية لرسوخ الديانتين في نفوس

المستمسكين بعُرَاهما، هل نبذت كل ملة من الملتين عقائد دينها ظِهْريًّا من أجيال

بعيدة؟ هل اقتصر النصارى في دينهم على الأخذ بشريعة موسى واقتفاء سيرة

يوشع بن نون؟ هل تخللت بعض (آيات) الإنجيل من حيث يدري ولا يدري

بين الخطب والمواعظ التي تُتلى على منابر المسلمين، أو أُلقي شيء منها في أمانيّ

معلميهم وناشري شريعتهم عند ما يتربعون في محافل دروسهم؟ هل تبدلت سنة الله

في الملتين؟ هل تحول مجرى الطبيعة فيهما؟ هل استبدت الأبدان فيهما على

الأرواح؟ أو وُجد للأرواح مدبر سوى الفكر والخيال؟ أو انفلتت الأفكار من سلطة

الدين، أو تعاصت النفوس عن الانتقاش بنقشته وهو أول حاكم عليها وأقوى مؤثر

فيها؟ هل تتخلف العلل عن معلولاتها؟ هل تنقطع النسب بين الأسباب ومسبباتها؟

ماذا عساه يرشد العقول إلى كشف المساتير وحل المعميات؟ أينسب هذا إلى اختلاف

الأجناس، وكثير من أبناء الملتين يرجعون إلى أصول واحدة ويتقاربون في الأنساب

الدانية؟ أينسب هذا إلى اختلاف الأقطار، وكثير من القبيلين يتشابهون في طبائع

البلدان، ويتجاورون في مواقع الأمكنة؟ ألم يصدر من المسلمين - وهم في شبيبة

دينهم - أعمال بهرت الأبصار وأدهشت الألباب؟ ألم يكن منهم مثل فارس والعرب

والترك الذين دوخوا الممالك واستووا على كرسي السيادة فيها؟

كان للمسلمين في الحروب الصليبية آلات نارية أشباه المدافع فزع لها

المسيحيون، وغابوا عن معرفة أسبابها. ذكر ملكام سرجم (إنكليزي) في تاريخ

فارس أن محمودًا الغزنوي كان يحارب وثنيي الهند بالمدافع، وكانت هي الأسباب في

انهزامهم بين يديه سنة 400 للهجرة! وما كان المسيحيون لذلك العهد يعرفون شيئًا

منها. فأي عون من الدهر أخذ بأيدي الملة المسيحية فقدمها إلى ما لم يكن في قواعد

دينها، وأي صدمة من صدماته دفعت في صدور المسلمين فأخَّرتهم عن تعاطي

الوسائل ما هو أول مفروض في دينهم؟

مقام للحيرة وموضع للعجب، ويظن أنه لا بد لهذا التخالف من سبب، نعم،

وتفصيله يطول، ولكن نجمل على ما شرطنا:

إن الدين المسيحي إنما امتد ظله، وعمت دعوته في الممالك الأوروبية من أبناء

الرومانيين وهم على عقائد وآداب وملكات وعادات ورثوها عن أديانهم السابقة

وعلومهم وشرائعهم الأولى، وجاء الدين المسيحي إليهم مسالمًا لعوائدهم ومذاهب

عقولهم، وداخلهم من طرق الإقناع ومسارقة الخواطر لا من مطارق البأس والقوة،

فكان كالطراز على مطارفهم، ولم يسلبهم ما ورثوه عن أسلافهم. ومع هذا فإن

صحف الإنجيل الداعية للسلامة والسلم لم تكن لسابق العهد مما يتناوله الكافة من

الناس بل كانت مذخورة عند الرؤساء الروحانيين. ثم إن الأحبار الرومانيين لما

أقاموا أنفسهم في منصب التشريع وسنّوا محاربة الصليب ودعوا إليها دعوة الدين

التحمت آثارها في النفوس بالعقائد الدينية، وجرت فيها مجرى الأصول ولحقها على

الأثر تزعزع عقائد المسيحيين في أوروبا وافترقوا شيعًا وذهبوا مذاهب تنازع الدين

في سلطته، وعاد وميض ما أودعه أجدادهم في جراثيم وجودهم ضرامًا، وتوسعوا

في فنون كثيرة وانفسح لهم مجال الفكر فيها. وكانت براعتهم في الفن العسكري

واختراع آلات الحرب والدفاع مساوقة لبراعتهم في سائر الفنون.

وأما المسلمون فبعد أن نالوا في نشأة دينهم ما نالوا، وأخذوا من كل كمال

حربي حظًّا، وضربوا في كل فَخار عسكري بسهم، بل تقدموا سائر الملل في فنون

المقارعة، وعلوم النزال والمكافحة، ظهر فيهم أقوام بلباس الدين وأبدعوا فيه

وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت بينهم قواعد الجبر وضربت في الأذهان حتى

اخترقتها، وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعِنانها عن الأعمال، هذا إلى ما أدخله

الزنادقة فيما بين القرن الثالث والرابع، وما أحدثه السوفسطائية الذين أنكروا مظاهر

الوجود وعدّوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق، وما وضعه كَذَبة النقل من

الأحاديث ينسبونها إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ويثبتونها بالكتب، وفيها

السم القاتل لروح الغيرة، وإن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفًا في الهمم وفتورًا

في العزائم، وتحقيق أهل الحق وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك - لم

يرفع تأثيره عن العامة؛ خصوصًا بعد حصول النقص في التعليم، والتقصير في

إرشاد العامة إلى أصول دينهم الحقة ومبانيه الثابتة التي دعا إليها النبي وأصحابه،

فلم تكن دراسة الدين على طريقها القويم إلا منحصرة في دوائر مخصوصة بين فئة

معينة، لعل هذا هو العلة في وقوفهم، بل الموجب لتقهقرهم وهو الذي نعاني من

عنائه اليوم ما نسأل الله السلامة منه.

إلا أن هذا العوارض التي غشيت الدين وصرفت قلوب المسلمين عن رعايته

وإن كان حجابها كثيفًا - لكن بينها وبين الاعتقادات الصحيحة التي لم يُحرَموها

بالمرة تدافُع دائم وتغالب لا ينقطع، والمنازعة بين الحق والباطل كالمدافعة بين

المرض وقوة المِزَاج، حيث إن الدين الحق هو أول صبغة صبغ الله بها نفوسهم، ولا

يزال وميض برقه يلوح في أفئدتهم بين تلك الغيوم العارضة فلا بُدَّ يومًا أن يسطع

ضياؤها ويقشع سحاب الأغيان، وما دام القرآن يُتلى بين المسلمين وهو كتابهم

المنزل وإمامهم الحق، وهو القائم عليهم، يأمرهم بحماية حوزتهم والدفاع عن ولايتهم

ومغالبة المعتدين وطلب المنَعة من كل سبيل، لا يعين لها وجهًا، ولا يخصص لها

طريقًا - فإننا لا نرتاب في عودتهم إلى مثل نشأتهم، ونهوضهم إلى مقاضاة الزمان ما

سلب منهم، فيتقدمون على مَن سواهم في فنون الملاحمة والمنازلة والمصاولة حفظًا

لحقوقهم وضنًّا بأنفسهم على الذل، وصونًا لملتهم من الضياع، وإلى الله تصير

الأمور.

...

...

...

...

(العروة الوثقى)

_________

(1)

هذا ما كُتب بقلم الأستاذ الشيخ محمد عبده عن لسان الحكيم الإسلامي السيد جمال الدين الشهير وبالاتفاق معه؛ فليخشَ الله مَن كان يتهم هذين الحكيمين أو أحدهما بالقول بأن النبوة مكتسَبة، وما أعظم بهتان مَن يقول: إن المرحوم السيد جمال الدين صرح بهذا الاعتقاد في الخطاب العام الذي ألقاه في الآستانة في الحث على الصنائع، أما وسر الحق لو صرح به في الآستانة لما صرح بخلافه في باريس حيث كان يُصدر العروة الوثقى.

(2)

ذكَّرنا هذا ما جاء في (المقتطف) الأغر (جزء 20، صفحة 860) في تقريظ منشور المجمع القسطنطيني الأرثوذكسي ردًّا على منشور البابا لاون الثالث عشر وهو بنصه:

ومن العجب أن رؤساء الطوائف المسيحية يتنازعون على العقائد المذكورة آنفًا (أي: ككون

العماد لا يصح بالتغطيس، وسر الشكر يجب أن يكون بالخبز المخمَّر) ولا يتحرك لهم قلم، ولا ينطق لهم لسان في طلب إنصاف المظلوم والقضاء لليتيم والمحاماة عن الأرملة، وقد نخر سوس الفساد عظام التمدن الأوربي، وصار المال معبود المسيحيين ولا همّ لرؤسائهم إلا لبس الوسامات واتساع السلطة، ونخشى أنه إذا جاء ابن الإنسان لم يجد إيمانًا على الأرض؛ لأن الاهتمام بالعَرَض شغل الناس عن الاهتمام بالجوهر، ولأن حب الدنيا سدل حجابًا على العيون.

ص: 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإيثار

جعلت الديانة الإسلامية الأعمال الفاضلة على قسمين: قسم حُكمه الوجوب،

وهو ما لا حرج فيه ولا مشقة على الناس كلهم باتباعه: كأداء الزكاة وإنظار المعسر

والمساواة والمماثلة في العقوبة. وقسم حكمه الندب والاستحباب؛ وهو ما لا يمكن أن

يكون عليه الناس كلهم: كالعفو عن الجاني، وإبراء المعسر والإيثار على النفس مع

الحاجة والخَصاصة، والأعمال الواجبة التي كلف بها جميع الناس جزمًا أفضل من

الأعمال المستحبة التي طُلبت طلبًا غير جازم في الغالب؛ فإن إبراء المعسر أفضل

من إنظاره كما لا يخفى، ويتراءى لغير المحقق أن الإيثار - ولو بالضروري -

أفضل من الإنفاق مما زاد على الحاجة الذي هو أصل الشريعة، ودونك ما أوردناه

في كتابنا (الحكمة الشرعية) من تحقيق هذا البحث وفاءً بوعدنا في العدد الماضي

وهو:

إن كتب السنة وأخبار السلف وآثارهم؛ تشهد لهم بفضيلة الإيثار على أنفسهم،

وقد مدح الله عز وجل به الأنصار بقوله - عز من قائل -: {وَيُؤْثِرُونَ

عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) وأقوال العلماء المصرِّحة بأن المؤاثرة أفضل درجات البذل مالئة

بطون الدفاتر، ومع هذا فقد حقق إمام العارفين الشيخ الأكبر محيي الدين أن مقام

أكمل الكملة تقديم أنفسهم وعدم المؤاثرة، فقد ذكرنا في رسالته (روح القدس) كلامًا

في مناظرة نفسه أقنعها فيه بأن ليس لها قدم مع الأنبياء ولا مع الصحابة، وأراد أن

يقنعها بذكر أحوال بعض التابعين بأنها لم تبلغ لهم أيضًا شأوًا أيضًا، فقصَّ عليها

أحسن القصص من أحوال أُويس القَرني رضي الله عنه وسيرته في الإنفاق.

قال قدس سره [1] :

فقالت النفس - يا سيدي -: ارفقْ بي ولا تعجل، فقد ظهر لي في مسألة

أويس هذا أمر خرج الحَلَاّج فيه فوقه، وذلك أن الحلاج رضي الله عنه قال مخبرًا

عن حالته: إذا قعد الرجل عشرين يومًا دون غذاء، ثم جاءه طعام فعرف أن في

البلد مَن هو أحوج منه لذلك الطعام فأكله، ولم يؤثر ذلك المحتاج به فقد

سقط.

وهذا مقام عالٍ كما رأيته. وهذا أويس رضي الله عنه ما كان يتصدق

إلا بفضل طعامه وثيابه، فيأخذ حاجته أولاً، ثم يعطي ما فضل عن قُوته كل، ليلة

وهو يعلم أن ثَمَّ جائعًا ولم يعطه وهذا كما رأيته قال:

قلت لها: يا نفس ما أنتِ إلا اعترضت اعتراض من لا يعرف الحقائق، ولكنك

جهلت المقال، فاسمعي الجواب، واعلمي أن أويس هو الإمام الذي لا يلحق.

واعلمي أيتها النفس أن العارف إذا كان صاحب حال مثل الحلاج فرق بين نفسه وبين

غيره، فعامل نفسه بالشدة والقهر والعذاب، وعامل نفس غيره بالإيثار والرحمة

والشفقة، وإذا كان العارف صاحب مقام وتمكين وقوة صارت نفسه عنه أجنبية، لا فرق عنده بينها وبين نفوس العالم، فما يلزمه في حق نفوس الغير من الرحمة

والشفقة - يلزمه في حق نفسه؛ لكونها صارت عنه أجنبية وارتفع هو علويًّا،

وبقيت، هي مع أبناء جنسها سفلية، فلزمه العطف عليها كما لزمه على غيرها؛

فإن صاحب الصدقة العارف إذا خرج بصدقته ولقي أول مسكين يدفع إليه الصدقة،

فإن تركه ومضى إلى مسكين آخر، فقد انتقل من رضى ربه إلى هوى نفسه وخرج

من ديوانهم، فإنها مثل الرسالة لا يخص بها شخصًا، أول مَن يلقاه يقول له: قل:

(لا إله إلا الله) .

ولا شك أن هذا العارف إذا وهبه الله تعالى رزقًا يعلم أنه مرسَل إلى عالم

النفوس الحيوانية فينزل من حضرة عقله إلى أرض النفوس، ليؤدي إليهم ذلك القدر

الذي وُجه به، فأول نفس تلقاه نفسه لا نفس غيره، وسبب ذلك أن نفوس الغير غير

ملازمة له ولا متعلقة به؛ لأنها لا تعرفه، ونفسه متعلقة به ملازمة لبابه فلا يفتحه

إلا عليها فتطلب أمانتها منه فيقدمها على غيرها؛ لأنها أول سائل.

وإلى هذا السر أشار الشارع بقوله: (ابدأ بنفسك ثم بمَن تعول والأقربون أولى

بالمعروف) ؛ لتعلُّقهم بك ولزومهم بابك والغير لا يتعلق بك ولا يلازمك ملازمة

نفسك وأهلك، فلما تأخروا أخروا كما هي حال الأسرار سواء؛ تخرج من عند

الحق على باب الرحمة، فأي قلب وجد متعرضًا سائلاً عند الباب دفع إليه حظه من

الأسرار والحكم، وحظه منها على قدر ما يرى فيه من التعطش والجوع والمذلة

(أي: لله) والافتقار، وهم خاصة الله تعالى.

وإلى هذا المقام أشار المشايخ وعليه حرضت الشريعة بقولها: (تعرضوا

لنفحات ربكم) ومن تأخر أُخِّرَ، ومَن نَسِيَ نُسِيَ، فانظري كم بين المنزلتين: منزلة

الحلاج ومنزلة أويس؟ ! وانظري هذا المقام على علوه وسموه كيف اشترك في

الظاهر صاحبه مع أحوال العامة، فإن العامة أول ما تجود على نفوسها، وحينئذ

يتعدى جُودها إلى غيرها ، وإنما يتصرفون تحت حكم هذه الحقيقة وهم لا يشعرون،

ولما عموا عن هذا السر وصاروا مثل البهائم لا يعرفون مواقع أسرار العالم مع الله

تعالى حرصوا على الإيثار ومدحوا به، وهو مقام الحلاج الذي ذكرت عنه ورأيت

أنه غاية فهكذا فلتُغزل الحقائق، وتُحاك حُلل الرقائق.

فقالت النفس: هذا شيء -واللهِ - ما قرع قط سمعي، و {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ

اليَقِينِ} (الواقعة: 95)، و {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61)

وفي مثل هذا {فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} (المطففين: 26) ، لقد شرحت صدرًا

ورفعت في المعارف قدْرًا. اهـ

هذا ما جاء في (روح القدس) بنصه الشائق، الذي هو صفوة الحقائق، هو

جدير بما وصفناه، لكن ربما توهم منه الغبي أنه يقتضي تفضيل أويس على

الصحابة في هذا المقام الذي أثنى به عليهم الملك العلام وأنَّى لأويس -على فضله -

بذلك؟ ! والذي يتجلى لنا في الجواب ما نقصّه عليك مفصلاً تفصيلاً.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

المنار: كنا إلى عهد نشر هذه المناظرة في المنار نأخذ جُلّ كلام الشيخ محيي الدين بالتسليم وما ننكره - وهو أقله - نتأوله أو نأخذ فيه بقول من قالوا: إن المراد منه غير ظاهره. وقد منَّ الله تعالى علينا من قبل إعادة طبع هذا منه - أن صار عندنا كغيره من العلماء والصوفية نحكّم في جميع أقوالهم الدليل، ولله الحمد.

ص: 12

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التربية والتعليم

(التربية)

هي مساعدة القوى التي من شأنها أن تربو وتنمو على بلوغ الكمال في

نموها المستعدة هي له في أصل الفطرة والخلقة، وذلك بإزالة الأسباب التي تعيق

النمو أو تنحرف بالقوى عن جادة الاعتدال المطلوب، وبإمداد هذه القوى بما تغتذي به

من المواد (في القوى المادية) والمعلومات (في القوى المدركة العاقلة) الخارجة

عنها. وأحوج العوالم الحية إلى التربية الإنسان؛ لأن سائر الحيوان والنبات يصل

غالبًا إلى كماله في الجملة من غير تربية إلا الطبيعة، وما يهبه البارئ تعالى للحيوان

الأعجم من الإلهام.

أما الإنسان فهو - كما مر في مقالة (العروة الوثقى) - عالم صناعي في

جميع أطواره الجسدية والروحية، فمتى أُطلق علم التربية ينصرف لتربيته، وإن كان

الكثير أو الأكثر من النبات والحيوان يصل بتربية الإنسان له إلى درجة من الكمال

لا يرتقي إليها بنفسه إذا تُرك لطبيعته، ولعِلْمَيْ تربية النبات والحيوان أسماء أخرى

عند الذين قسموا العلم.

اختلف علماء التربية في ابتداء تربية الإنسان: أتكون من يوم العلم بالحمل به

أو من يوم يولد؟ وأرى أن هذا الخلاف لفظي؛ إذ لا خلاف بينهم في أن أحوال الأم

الجسدية والنفسية يكون لها أثر في نمو الجنين واستعداده؛ ولذلك يأمرونها بالرياضة

المعتدلة وتناول الأغذية اللطيفة وعدم التعرض لما يهيج بالانفعال ولا سيما الخوف

والفزع والحزن. وكأيِّن من وليد خرج ذا عاهة لم يكن لها من سبب إلا ما ألمَّ

بوالدته وهي حامل به. ومن جراء هذا سنبتدئ مباحثنا في تربية الإنسان بالكلام

على الحوامل وما ينبغي لهن بعبارة واضحة تفهمها السيدات وإن كن غير متعلمات.

(التعليم)

له إطلاقان: أولهما: إمداد القوى المدركة بعرض الأشياء عليها تدريجًا بالقول

والفعل بحيث تدركها وتقدر عن التصرف فيها قولاً وعملاً (كل شيء

بحسبه) وهذا المعنى داخل في مفهوم التربية ويشمل، تعليم العلوم الاعتقادية

والأدبية والفنون الصناعية.

وثانيهما: علم أساليب التعليم وطرقه القريبة، وهو فن نفيس ارتقى المشتغلون

به الدرجات العلى في العلوم والفنون، حيث أمكنهم تحصيل الكثير في الوقت

القصير، ولا يأذنون في أوربة وأمريكة بالتدريس والتعليم إلا لمن أتقن هذا الفن في

مدارسه التي أنشئت له. هذا، ونحن لا علم لأكثرنا بأن أساليب التعليم قد وُضع لها

علم مخصوص، واختيار المعلمين عندنا يكون بالشفاعات التي تُبنى غالبًا على

كون هذا المعلم مستحقًّا للمساعدة المالية لفقره أو كونه من الأسرة أو الطائفة الفلانية

مثلاً. وأبعدُنا عن معرفة التعليم هم الشيوخ الذين يعلّمون الدين وفنون اللغة

في الجوامع والمساجد.

وسنكتب في ذلك نُبذًا مفيدة إن شاء الله تعالى في الأعداد الآتية.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 15

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحوادث والأخبار التاريخية

أهم الحوادث الخارجية:

ما نُكبت به دولة فرنسة في 5 مارس وهو احتراق خمسين ألف كيلو من

البارود في دار الصناعة البحرية في طولون، حصل منه انفجار عظيم كانفجار

البراكين دمر به في المدينة مسطح عشرة آلاف متر وهلك جميع مَن في دار

الصناعة من الجند والصناع وخلق كثير من غيرهم. وأما الخسائر فهي عظيمة لا

تكاد تُقدر، وقد أرسل الملوك والأمراء رسائل التعزية لحكومة فرنسة على المصاب

بعد تعزيتهم لها على موت رئيس جمهوريتها السابق فلكس فور الذي مات قبل هذه

الحادثة الهائلة بأيام. وقد قام الفرنسيس يكتتبون لجمع المال من أول يوم وقعت فيه

النكبة إعانة للمصابين وإغاثة لأهالي المنكوبين، فهكذا تكون الحياة الوطنية، وهذا

هو الفرق بين الإنسانية والحيوانية.

وأهم الحوادث الداخلية:

ثبوت وقوع مرض في جدة يشبه الطاعون، وقد سمي طاعونًا كما كان في العام

الماضي، وضربت المحاجر على ما يرد من جدة، وأخذت الحكومة المصرية

الاحتياط كالعام الماضي، ونقل البرق أنه قد حدثت إصابة في مكة أيضًا. نسأل الله

السلامة.

اقتُرح علينا أن نفتح في المنار بابًا للسؤال والاقتراح، وجوابنا أننا نقبل ما يرد

علينا من الأسئلة والاقتراحات، ونُدخلها في الأبواب التي تناسبها.

_________

ص: 16

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإيثار

(تتمة لما سبق)

إن لما أنزل الله لنا من الرزق ثلاث مراتب:

(الأولى) الضرورة وهي ما لا بد منه للمحافظة على حياة المرء

الجسدية كرغيف يأكله وكساء يستره، بحيث إذا لم يحصل عليه تضرَّر جسمه

غالبًا أو خشي عليه التلف، وهي مرتبة الزهاد.

(الثانية) الحاجة وهي ما زاد على الضرورة ولم ينتهِ إلى الترف

والرفاهة، كأن يجد الإدام الواحد أحيانًا والحلوى والفاكهة أوقاتًا بمقدار ما يكفيه

أو يزيد قليلاً وهي مرتبة المتوسطين.

(الثالثة) الرفاهة وهي الحالة التي يحصل صاحبها ما شاء من الملاذ

تُستطاب له كل يوم الألوان باللحوم والبقول والفاكهة والحلوى كما يشاء ويُختار

بحسب حالة الزمان والمكان، وهي مرتبة المترفين من أهل الثراء والدثور.

فإلايثار بما زاد عن الضرورة عند هؤلاء - لا شك أنه أفضل من تمتيع النفس

به، وهو الذي كان شائعًا في الصحابة ومَن اهتدى بهدْيهم من أهل القرون

الأولى في الأمة.

ومَن كان له أهل وأقارب تجب عليه نفقتهم فضرورتهم كضرورته.

ويدل لهذه الأفضلية حديث أبي هريرة عند البخاري والنَّسَائي قال: قال النبي صلى

الله عيه وسلم: (أفضل الصدقة ما ترك غنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ

بمَن تعول) وفي رواية: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنىً) ومثل الصدقة

غيرها من الإنفاق المشروع كالهدية ومواساة الإخوان الذي تقدم عن بعضهم

تفضيله على الصدقة. وربما يفهم من الحديث أن الصدقة الفُضلى إنما تكون

مما زاد عن الحاجة لا عن الضرورة فقط، وهو ظاهر ولا ينافيه قوله تعالى:

{وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} (الحشر: 9) ؛ إذ ليس في الآية أن ذلك الإيثار

هو أفضل الإنفاق، بل قصاراه أنه فضيلة يمتدح بها، وقد رجح الإمام الرازي

وغيره أن الآية نزلت في إيثار الأنصار والمهاجرين بالغنيمة مع مشاركتهم لهم

في دورهم وأموالهم، وجعلوا ما نقل عنهم في الصحيح من المؤاثرة للضيف وغيره

مما يدخل في عموم الآية، لكن أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي

هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتى رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا

رسول الله، أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا - وفي

رواية غير الماء - فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا رجل يضيف هذا

الليلة يرحمه الله) فقام رجل من الأنصار وفي رواية: فقال أبو طلحة: أنا يا رسول

الله. فذهب به إلى أهله فقال أكرمي ضيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي

فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلت، ثم غدا الضيف على رسول الله

صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله أو ضحك (الشك من الراوي) من

فلان وفلانة [1] وأنزل الله تعالى فيهما: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ

خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) ورُوي أن الآية نزلت في حكاية رأس الشاة الذي دار

على ثمانية من الصحابة. وقد تقدم.

قلت: وقد يكون الإيثار للغير أفضل في حق ذي الحاجة وذي الضرورة

في بعض وقائع لخصوصية كأن يرى ذو الضرورة مضطرًّا مشرفًا على

الهلاك، ولا يخاف ذلك على نفسه لو آثره بقوته، بل لا يبعد هنا وجوب

الإيثار. وفي مثل ضيف النبي عليه الصلاة والسلام الذي أجهده الجوع، وفي

ذي الحاجة الشحيح، أو الذي يتهم نفسه بالبخل والشح ويحاول تطهيرها من هذه

الرذيلة؛ لترجع إلى الاعتدال الذي هو أكمل الكمال.

والحاصل أن أصل الشرع يأمر بأن يقدم الإنسان المعصوم نفسه بالنفقة، ثم

الأزواج والأقارب من فروع وأصول الخدم على الترتيب المذكور في الفقه، ثم

يتصدق ويهدي من العفو والفاضل عمن تجب عليه نفقته ممن ذُكر، والأفضل

أن لا يتصدق بجميع ما يملك ويدع ورثته عالة يتكففون والثلث كثير كما في

حديث سعد في الصحيح (عند الستة) ومن ثم قال الإمام النواوي في شرح

مسلم: إن بعضهم استدل بالحديث على تفضيل الغني على الفقير وسكت عليه،

ويأمر (أي: الشرع) بالجود والسخاء والصلة والإحسان، وبالغ في ذم

البخل والبخلاء؛ لأنه من الأخلاق المذمومة التي تدنس النفوس الإنسانية، وتقف

بها عن الصعود إلى المراتب العلية، فالمهذب الكامل الذي زكيت نفسه من أدران

الشح والبخل كأويس القرني وأضرابه يقفون عند حدود الشرع في الإنفاق

بتقديم أنفسهم ثم الأقرب فالأقرب ملاحظين في ذلك ما تقدم شرحه عن الشيخ

محيي الدين - أعني أن تقديم أنفسهم ليس لأجل التمتع والتنعم - وإنما كان يبذل

أويس رضي الله عنه جميع ما فضل عن حاجته؛ لأنه لم يكن له أهل ولا ولد

يرثه، بل كان سائحًا منفردًا، والأفضل في حقه إنفاق العفو مع التوكل بخلاف

المعيل أو من يضطرب قلبه؛ لأنه لم يقم في مقام التوكل.

وأما مَن لم يوق شح نفسه فالأفضل له المبالغة في البذل والإيثار بما وراء

سد الرمق من الحاجيات إلى أن ترجع نفسه إلى الاعتدال الذي هو السخاء

الحقيقي، وما دام السالك لم يبلغ مرتبة الكمال القصوى، فهو يتهم نفسه بالطمع

والوقوف مع الحظوظ، ولا يطمئن لما توسوس به إليه من أنها تزكت من أدران

البخل، وتحلت بحلي السخاء والجود، وإن كانت في واقع الأمر قد تزكت

والتحقت بنفوس الأولياء العارفين الأبرار، فصاحب هذه النفس يظل يؤثر الغير؛

لاتهامه نفسه بما ذكر. يؤثر ذلك عن جماعة من مشاهير الأولياء كالحسين بن

منصور الحلاج [2] والشيخ أحمد بن الرفاعي. وكان أحمد يقول: طريقتنا مبنية

على ثلاثة أشياء: لا تسأل ولا ترد ولا تدخر. نقله عنه العارف الشعراني

وغيره، ونقله البحريني نفسه في (ص36) وهنا أوردنا في كتابنا (الحكمة

الشرعية) كلامًا نفيسًا في الادخار عند الصوفية لا ينبغي ذكره في الجرائد؛

لأنه خاص بأهله، ثم قلنا:

ويحتمل أن الإيثار من بعض الصحابة عليهم الرضوان، والمبالغة في

الإنفاق التي لا تنطبق على الوجه الذي قلنا: إنه أصل الشرع - كان يقصد به

تهذيب النفوس لاتهامها بالبخل والشح، وربما يشعر بذلك قوله تعالى بعد

مدحهم بالإيثار: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) ولا

يلزم منه تفضيل مثل أويس على هؤلاء؛ لأنه من أحوال بدايتهم، وما تقدم عنه

هو حاله في نهايته. على أنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وهم

قد سبقوا بفضيلة الصحبة التي لا تُوزن بها فضيلة ولا تعادَل بها منقبة

لذاتها فضلاً عما يحتفّ بها من الفضائل والمزايا.

وخلاصة القول أن البخل مذموم والتبذير أو الإسراف مذموم والسخاء -

الذي هو وسط بينهما - هو المحمود والممدوح شرعًا وعقلاً.

بين تبذير وبخل رتبة

وكلا هذين إن زاد قتل

ومَن خرج عن مرتبة الاعتدال في خلق من الأخلاق فسبيل إرجاعه إليها

حمْله على المبالغة في الطرف المقابل، أعني أنه يؤمر بالإفراط إن كان في

جانب التفريط وبالعكس؛ ومن ثم ورد الشرع في ذم الإفراط والتفريط ومدح

الاعتدال والعدل، مع أنه جاء في سيرة الشارع وأصحابه وتابعيهم بإحسان -

حكايات كثيرة في المبالغة في السخاء والحِلم والتواضع وغيرها من السجايا الفاضلة،

بحيث تصل إلى حد الإفراط، والمراد بذلك الإرشاد والتهذيب لمن هو في طرف

التفريط؛ ليرجع إلى الاعتدال، ومن ذلك إيثار صاحب الضرورة أو الحاجة

غيرَه بما هو محتاج أو مضطر إليه مثله أو أزيد، والمرجع إلى محكم التنزيل القائل

بالقسط والاعتدال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ

قَوَاماً} (الفرقان: 67) ، {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ

فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} (الإسراء: 29) والله أعلم وأحكم وهو أقوم قيلاً.اهـ.

فعُلم من هذا أن الاقتصاد أصل من أصول الفضائل الإسلامية، ولكن

المسلمين أهملوا مراعاته، والأوربيون أعطوه من العناية ما ينبغي له. وألَّفوا

فيه الكتب، وأوجبوا تعليمه في جميع المدارس؛ لأنه من مقومات المدنية، فحتَّامَ

- يا قوم - لا نكاد نرى من أغنيائنا إلا سفيهًا مبذرًا، أو شحيحًا مُقترًا، بل

كاد يعم الإسراف والتبذير كل غني وفقير، يتلهى المستمسك منهم بدينه

بإلهيات شعرية، وجُمل خطابية، كقولهم: (أنفقْ ما في الجيب يأتيك ما في

الغيب) والمنحرف عن هدْي الدين لا تسلْ عن جنونه وفنونه، وسنعود إلى

مباحث الاقتصاد والبخل والسخاء في فرصة أخرى، إن شاء الله تعالى.

_________

(1)

فسرنا العجب أو الضحك في الطبعة الأولى بالرضا والقبول على طريقة الأشعرية ومذهب السلف أنه عجب أو ضحك يليق بكماله وتنزُّهه عن مشابهة.

(2)

حاشية للطبعة الثانية: الذي ترجح عندنا بعد كتابة هذا بسنين أن الحلاج كان دجالاً محتالاً.

ص: 17

الكاتب: أبو حامد الغزالي

حقوق الأخوة

(الحق الثاني) في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال،

وتقديمها على الحاجات الخاصة. وهذه أيضًا لها درجات كما للمواساة بالمال، فأدناها

القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح

وقبول المنة. وقال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضِها فكبِّرْ عليه واقرأ

هذه الآية: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} (الأنعام: 36) وقضى ابن شبرمة حاجة

لبعض إخوانه كبيرة فجاءه بهدية فقال: ما هذا؟ ! قال: لما أسديتَه إليَّ. قال:

خذ مالك - عافاك الله - إذا سألت أخاك حاجة فلم يُجهد نفسه في قضائها فتوضأ

للصلاة وكبرْ عليه أربع تكبيرات وعُدّه في الموتى! قال جعفر بن محمد: إنى

لأتسارع إلى قضاء حوائج أعدائي مخافة أن أردهم فيستغنوا عني. هذا في الأعداء،

فكيف في الأصدقاء؟ !

وكان في السلف مَن يتفقَّد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم

بحاجتهم، ويتردد كل يوم إليهم ويموِّنهم من ماله، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا

عينه، بل كانوا يرون منه ما لم يَرَوْا من أبيهم في حياته. وكان الواحد منهم يتردد

إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول: هل لكم زيت، هل لكم مِلح، هل لكم حاجة؟

وكان يقوم بها من حيث لا يعرفه أخوه، وبهذا تظهر الشفقة والأخوة، فإذا لم تثمر

الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه فلا خير فيها. قال ميمون بن

مهران: (مَن لم تنتفع بصداقته لم تضرك عداوته) وقال صلى الله عليه وسلم:

(ألا وإن لله أواني في أرضه وهي القلوب، فأحبّ الأواني إلى الله تعالى

أصفاها وأصلبها وأرقها) أصفاها من الذنوب، وأصلبها في الدين، وأرقها

على الإخوان.

وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك وأهم من حاجتك، وأن

تكون متفقدًا لأوقات الحاجة، غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك،

وتغنيه عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة، بل تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك

قمت بها ولا ترى لنفسك حقًّا بسبب قيامك بها، تتقلد منه بقبول سعيك في حقه

وقيامك بأمره، ولا ينبغي أن تقتصر على قضاء الحاجة، بل تجتهد في البداية

بالإكرام في الزيادة والإيثار والتقديم على الأقارب والولد.

كان الحسن يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا. وقال عطاء: تفقدوا

إخوانكم بعد ثلاث؛ فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو كانوا

نسوا فذكِّروهم. روي أن ابن عمر كان يلتفت يمينًا وشمالاً بين يدي رسول الله

صلى الله عليه وسلم؛ فسأله عن ذلك فقال: أحببت رجلاً فأنا أطلبه ولا أراه. فقال:

(إذا أحببت أحدًا فسلْه عن اسمه واسم أبيه وعن منزله؛ فإن كان مريضًا عدته

وإن كان مشغولاً أعنته) وفي رواية: (وعن اسم جده وعشيرته [1] ) وقال الشعبي

- في الرجل يجالس الرجل، فيقول: أعرف وجهه ولا أعرف اسمه -: تلك

معرفة النوكي. وقيل لابن عباس: مَن أحب الناس إليك؟ قال: جليسي. وقال: ما

اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثًا من غير حاجة له إليَّ فعلمت ما مكافأته من الدنيا.

وقال سعيد بن العاص: لجليسي عليَّ ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حدث أقبلت

عليه، وإذا جلس أوسعت له. وقد قال تعالى {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) إشارة

إلى تمام الشفقة والإكرام. ومن تمام الشفقة أن لا ينفرد بطعام لذيذ أو بحضور في

مسرة دونه، بل يتنغَّص لفراقه ويستوحش بانفراده عن أخيه. اهـ. من (الإحياء)

فهكذا تكون الأخوة، وهكذا تكون آداب الأمم في طور الحياة، وكأنِّي بالذين في

قلوبهم مرض تنفر نفوسهم من هذه الآثار، ولو نقل مثلها عن الإفرنج لأُعجبوا بها

وتنافسوا فيها.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

رواه الترمذي عمن قال: إنه لا نعرف له رواية. والخرائطي والبيهقي بسند ضعيف.

ص: 22

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحبالى وتربية الأجنة

(1)

نعني بتربية الجنين:عناية الحامل به بصحتها لما؛ لذلك من التأثير في صحته.

فقد قلنا في الجزء الماضي: إن لأحوال الأم الجسدية والنفسية أثرًا في نمو الجنين

واستعداده. ولا نعني بالأحوال النفسية إلا ما مثّلنا به من نحو الخوف والحزن لا ما

هو شائع من أن أية شهوة من شهوات الوحمى تؤثر في الجنين حتى تظهر صورة

المشتهى في جسده إذا هي لم تصبه؛ ولذلك يجتهد الناس في إنالة الوحمى كل ما

تشتهي. ويستدلون على هذا بحكايات قصاراها أنها تنهض استقراءً ناقصًا لا يثبت

به المدعى قطعًا. ولكن المعقول الذي يريده العلم أن الانفعالات القوية تؤثر في

الصحة، ويتبع هذا تأثيرها في الجنين، وبيانه باختصار: أن الجهاز التناسلي يتأثر

بالانفعال الشديد كالجهاز العصبي والهضمي وغيرهما، وهو في أثناء الحبل يكون

مشغولاً بأداء وظيفته؛ فما يطرأ عليه إما أن يساعده في عمله، وإما أن يعوقه عنه.

ولا يحسبنَّ الحبالى أن أقل كدر عادي أو حزن عارض أو خوف خفيف يؤثر

في أجنتهن فيستولي عليهن الوسواس كلما ألمّ بهن شيء مما لا يخلو عنه الإنسان في

الغالب. كلا، إن الجنين شخص مستقل في نفسه صلته بأمه صلة المظروف

بالظرف، وإنه يتغذَّى من دمها؛ ولذلك لا يؤثر فيه إلا ما يحدث أثرًا في الدم الذي

يتغذى به، وحصول هذا نادر، أو في الرحم الذي هو بيئته ووطنه، وما كل انفعال

يُحدث هذا الأثر، نعم، إن الأمراض الوراثية وما يطرأ على الأعضاء ولا سيما

البطن من نحو ضرب ووكز ولبس الثياب الضيقة إذا كانت تضغط البطن؛ كل ذلك

مقطوع بسوء تأثيره وضرره، ومن العلماء مَن زعم أن كل ما يعرض لعضو من

أعضاء الحبلى ينقل منها إلى مثله من الجنين، فعلى الحامل أن تراعي ما

سنذكره في النبذة الآتية في الجزء التالي لهذا.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 24

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التعليم بالعمل

جاء في الحدث الشريف: (مَن عمل بما علم ورثه اللهُ علمَ ما لا يعلم) ويؤثر

عن الإمام علي - كرم الله وجهه - أنه قال: (يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا

ارتحل) ، وقد أخذ الإمام هذا الأثر من مفهوم الحديث. وغاية ما انتهى إليه

الباحثون في فن التعليم أن الأعمال هي التي تطبع ملكات العلم والعمل في النفوس،

وأن المسائل العلمية التي تعرض على العقول من طريق السمع مرة أو مرات - لا

تكاد تثبت، وإذا ثبت بعضها فإنما يكون كآلة موجودة في بيت رجل لا يُحسن

استعمالها، بخلاف ما إذا عرضت المعلومات بأعيانها أو أمثلتها عند الكلام عليها

وكلف المتعلم أن يستعمل علمه ويطبقه على المعلومات. وهذا مما أرشد إليه النبي

والإمام من 13 قرنًا واهتدى إليه الأوربيون من عهد قريب.

فمَن أحب ألا ينسى ما يتعلمه من قواعد العربية مثلاً فليُكثرْ من الأمثلة في

كل مسألة، وليراعِ القواعد في كلامه بالتكلف قولاً وكتابة؛ حتى تنطبع في نفسه،

وتصير ملكة راسخة يصدر عنها الكلام العربي الصحيح بغير رويَّة ولا تكلف،

ونحن نرى الذين لا ينهجون هذا المنهاج يقضون أعمارهم في مدارسة الفنون

العربية، ولا يحسنون قولاً ولا كتابة. ولا بد في تحصيل ملكة الفصاحة والبلاغة من

كثرة قراءة الكلام البليغ مع تفهم معانيه وملاحظة أساليبه ومناحيه.

ومعرفة القواعد تعين على هذا ولكنها لا تفيد في الوصول إلى المطلوب بدون

هذا العمل، فكأيِّن من أستاذ قرأ كتب السعد وغيرها مرارًا وهو أعيى باقل،

وأعجز عن الكتابة البليغة من صبية المدارس. وقد أحسنت نظارة المعارف المصرية

بحظرها على معلمي العربية الكلام العُرفي (البلدي) في أثناء الدروس،

وإلزامها إياهم بأن يجعلوا شرح الدروس وتلقينها للتلاميذ بالكلام العربي الصحيح.

وأجدر بشيوخ الأزهر الأفاضل ونحوهم من معلمي المدارس الدينية - أن يكونوا هم

السابقين إلى هذه السُّنة الحسنة، وعسى أن يتداركوا ما فاتهم من السبق في البداية،

بالسبق والتبريز في النهاية؛ فإن السبق في نفس العمل المقصود خير من السبق

في الابتداء والشروع.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 25

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌ما قيل في الخال

قال مظفر الأعمى:

لا تحسبوا شامة في خده طبعت

على صحيفة خد راق منظره

وإنما خده الصافي تخال به

سواد عينيك خالاً حين تنظره

وأحسن منه في هذا المعنى قول بعضهم:

صقيل الخد أبصر مَن رآه

سواد العين فيه فخال خالا

وقال ابن حمديس:

يا سالبًا قمر السماء جماله

ألبَستني في الحب ثوب سمائه

أشعلت قلبي فارتمى بشرارة

علقت بخدك فانطفت في مائه

ومثله قول المقري في مزدوجته:

وما أرى في خدك اليسار

أنقطتا مسك بجلنار

أم ذاك لهيب النار

رمى شرارتين في الأوار

...

... فانطفتا في ماء ذاكالورد

وينظر إليه قول الأستاذ الشيخ عبد الغني الرافعي الشهير وأحسن ما شاء:

وما نقط ذاك الخال في الخد خلقة

ولا حيلة جاءت بها صنعة السحر

ولكننا لما اجتمعنا عشية

وقدمت من أهوى اعتناقًا إلى صدري

تقاطر دمعي فوق جمرة خده

فكان سواد الخال من ذلك القطرِ

وينظر إلى قول المقري: (أنقطتا مسك بجلنار) قول بعضهم:

ومهفهف من شعره وجبينه

يبدو الورى في ظلمة وضياء

لا تنكروا الخال الذي في خده

كل الشقيق بنقطة سوداء

وقال ابن رشيق في خال تحت الحنك:

حبذا الخال كائنًا منه بين الـ

ـخد والجِيد رقية وحذارا

رام تقبيله اختلاسًا ولكن

خاف من سيف لحظه فتوارى

وأحسن منه في بابه قول الشاب الظريف:

وبين الخد والشفتين خال

كزنجي أتى روضًا صباحا

تحير في الرياض فليس يدري

أيجني الورد أم يجني الأقاحا

ويناسبهما قولي في الخال تحت الشعر:

والخال لص شام ثغرك ضاحكًا

فأتى ليسرق منه ذاك الجوهرا

لكنه خاف اللحاظ وقد رأى

آس العذار مخيمًا فتسترا

وقال غوث الدين العجمي في العذار والخال:

لهيب الخد حين بدا لعيني

هوى قلبي عليه كالفراشِ

فأحرفه فصار عليه خالاً

وها أثر الدخان على الحواشي

وللشيخ ناصيف اليازجي معنى في الخال غريب وهو:

مليح شهدنا أن نارًا بخده

لأنا وجدنا بينها فحم خاله

وأنت ترى أنه أهان الخال ونقصه قدره، وهو ذنب لا يغفره له عشاق

الحسان، ويستحق عليه الهجر من الغوان! وقريب من هذا قوله:

في خدها نار المجوس التي

قام لديها الخال كالموبذان

وقال في مطلع قصيدة وأحسن ما شاء:

ما بال تلك الشامة الخضراء

في النار وهي كأنها في الماء

وقد تفننوا في تشبيه الخال بالمسك والعنبر، ومما قاله ابن سهل في ذلك من

قصيدة:

غزال براه الله من مسكة بري

بها الحسن منا مسكة المتجلدِ

وأبدع فيها الصنع حتى أعارها

بياض الضحى في نعمة الغصن الندي

وأبقى لذاك الأصل في الخد نقطة

على أصلها في اللون إيماء مرشدِ

وله في الخال أيضًا:

لا أرى الخال فوق خد

يك ليلاً على فلق

إنما كان كوكبًا

قابل الشمس فاحترق

_________

ص: 26

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجامع الأزهر الشريف

من جملة التنظيم الجديد في الأزهر الامتحان السنوي لمن شاءه من طلاب العلم

فيه، ويمتحن في العلوم والفنون التي يختار الطالب أن يمتحن فيها، وقد خَصص

مجلس إدارة الأزهر ستمائة جنيه لمكافأة النابغين في التحصيل سنويًّا. ويؤخذ من

الرقيم الذي رفع من فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع إلى عطوفة رئيس مجلس

النظار أن الذين طلبوا الامتحان في العام الماضي كانوا نحو ستمائة وامتحنوا في

ثمانية عشر علمًا. وأما الذين طلبوا في هذا العام فكانوا 1502 وامتحنوا في ثمانية

وعشرين علمًا، والذين نجحوا يعرفون بحساب النسبة المئوية مما يأتي:

الناجحون في علم التوحيد 18 في المائة، وفي علم التفسير 19 (نحذف لفظ

في المائة اختصارًا) والحديث 66، والفقه 50، والميراث 78، والنحو 47،

والصرف 26، والمعاني 75، والبيان والبديع، 49، والمنطق 43، ومصطلح

الحديث 60، والحساب للسنة الأولى 62، وللسنة الثانية 80، وتقويم البلدان

(الجغرافية) للسنة الأولى 65، والثانية 85، والهندسة 70، والميقات 75،

والتاريخ 85، والعَروض والقافية 70، وعلم الإنشاء 25، والخط 77، والأخلاق

الدينية 50، وآداب البحث 75. وفي كل من علم الحكمة والوضع والاشتقاق نجح

جميع الذين امتحنوا، ولم ينجح في علمي الجبر والمقابلة والهيئة أحد ممن امتحنوا،

ولم يحضر للامتحان في علم أصول الفقه أحد ممن كان طلبه!

والذين طلبوا الامتحان في كل من التفسير والحديث ومصطلحه والميراث

والبديع والعروض والقافية والتاريخ والإنشاء والميقات كانوا فوق العشرين ودون

المائة - وفي كل من علم الأصول والحكمة وآداب البحث والوضع والاشتقاق،

والأخلاق الدينية والجبر والمقابلة والهيئة أقل من عشرة، والذين امتحنوا في كل علم

مما عدا هذه العلوم - لا سيما التوحيد والفقه والنحو والمنطق والبيان والحساب

والهندسة وتقويم البلدان - يعدون بالمئات.

أما أخذ المكافآت فهو بحسب درجات التحصيل التي تقدر ويعبر عنها (بالنمر)

وقد جعلت الدرجة الثانية عشرة (نمرة 12) علامة النجاح، وكل من انتهى إليها

في العام الماضي أخذ المكافأة التي أقلها جنيه واحد، وأكثرها ثلاثة.

وأما في هذا العام فقد خصصت المكافأة بالنابغين لقلتها وكثرة الطالبين،وجعلت

درجة النبوغ 16، فأصحاب الدرجة 12 إلى 15 عدوا ناجحين غير نابغين فلم

يستحقوا مكافأة، وأصحاب الدرجة 16 فما فوقها أخذوا المكافآت على هذه الطريقة

العادلة، وهي أنه جمعت درجات النبوغ في العلوم كلها وقسم عليها مبلغ المكافأة

بتمامه، فما أصاب الدرجة الواحدة جعل سهمًا لمكافأة النابغ في فن واحد بدرجة

واحدة، فمن بلغت درجاته في العلوم التي امتحن فيها مائة مثلاً نال مائة سهم،

وهكذا، وظاهر أن هذه الطريقة أعدل وأحكم من الطريقة الأولى؛ لأن كل طالب

يأخذ فيها على قدر استحقاقه.

هذا ملخص الرقيم، ويسرنا منه حسن النظام الذي يجري عليه مجلس إدارة

الأزهر الشريف، ونرجو أن يترقى به إلى أعلى درج النجاح الممكن، فإن النظام

روح السعادة في أعمال الإنسان وساءنا أن الذين امتحنوا في علم الأخلاق - وإن

شئت قلت: علم الدين - جمعهم جمع، قلة؛ بل علمنا أنهم أربعة أخذ الجائزة منهم

اثنان، وعسى أن يكون في الأزهر ممن لم يطلب الامتحان عدد كبير من المشتغلين

بهذا العلم؛ فإنه هو الأساس الذي يقوم عليه بناء السعادة الدنيوية والأخروية.

_________

ص: 28

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار والآراء

(الحج والوباء)

اجتمع مجلس النظار اجتماعًا خصوصيًّا للمذاكرة في أمر منع الحج الذي يراه

مجلس الصحة البحرية ضروريًّا لمنع انتقال الوباء من بلاد الحجاز إلى مصر، ولما

كان المنع من الحج منعًا من ركن ديني أساسي لم يكن للنظار أن يبرموا فيه أمرًا إلا

بعد الاستفتاء من العلماء؛ ولهذا طلب عطوفتلو رئيس مجلس النظار لحضور

الاجتماع صاحب السماحة قاضي مصر وأصحاب الفضيلة شيخ الأزهر ومفتي الديار

المصرية والشيخ عبد الرحمن النواوي مفتي الحقانية والشيخ عبد القادر الرافعي

رئيس المجلس العلمي سابقًا، فحضروا وتذاكروا مع النظار وبعد أن انفضوا من

المجلس اجتمعوا، وأجمعوا على كتابة هذه الفتوى وإرسالها إلى مجلس النظار وهي

بحروفها:

الحمد لله وحده.. لم يذكر أحد من الأئمة من شرائط وجوب أداء الحج عدم

وجود المرض العام في البلاد الحجازية؛ فوجود شيء منها فيها لا يمنع وجوب أدائه

على المستطيع. وعلى ذلك لا يجوز المنع لمن أراد الخروج للحج مع وجود هذا

المرض متى كان مستطيعًا.

وأما النهي عن الإقدام على الأرض الموبوءة الواردة في الحديث، فمحمول

على ما إذا لم يعارضه أقوى؛ كأداء الفريضة، كما يستفاد ذلك من كلام علمائنا.

وأيضًا فإن النهي عن الدخول أو الخروج تابع لاعتقاد الشخص الذي يريد الدخول

أو الخروج كما يفيده ما في تنوير الأبصار متن الدر المختار؛ حيث قال: (وإذا

خرج من بلدة بها الطاعون وهو الوباء العام- فإن عَلِمَ أن كل شيء بقدر الله تعالى فلا

بأس بأن يخرج ويدخل، وإن كان عنده أنه لو خرج نجا ولو دخل ابتُلي به كُره له ذلك، فلا يدخل ولا يخرج) اهـ. وأيده شارحه السندي. والله أعلم. في 2

ذي القعدة سنة 1316.

(المنار)

ولو قيل بجواز المنع إذا تحقق أن فيه المصلحة العامة لنِيطَ بالإمام الأعظم؛

لأنه من وظائفه ولم يكن لغيره أن يُقْدم عليه إلا بإذنه، وسوف نشرح هذه المسألة

في مقالة نكتبها في موضوع (ثبوت العدوى) إن شاء الله.

***

ورد على صاحب الدولة الغازي مختار باشا رسالة برقية من دولة والي

الحجاز ملخصها أن الاحتياطات الصحية في جدة في غاية الإتقان، وأنه لم يُصب أحد

في مكة بعد ذلك البخاري، وأن الوفيات في جدة بين واحدة واثنتين في اليوم، ورسالة

أخرى في 15 مارث ملخصها أنه لم يحدث في جدة إصابة ولا وفاة في تاريخها.

***

كتبت (ثمرات الفنون) الغراء مقالة وجيزة في (الانتقاد والجرائد) ومما

انتقدناه عليها فيها أنها جاءت بنبذة من (العروة الوثقى) في أطواء الكلام ولم تسندها

إليها أو تميزها بوضعها بين قوسين ليعلم أنها تضمين.

***

يؤخذ من الجرائد الإنكليزية أن سفير إنكلترا الجديد في الآستانة آنس من

الحضرة السلطانية ارتياحًا؛ لما أبداه لها من رغبة دولته في إعادة الوداد السابق بين

الحكومتين.

***

صدر الأمر العالي بفصل (تفتيش الوادي) عن نظارة المالية وإلحاقه

بديوان الأوقاف العمومية، ولكن بشرط أن تتولى نظارة الأشغال العمومية أعماله،

لتصلح شؤونه إحدى عشرة سنة، ثم يتولاه ديوان الأوقاف مباشرة.

***

وقفنا على قصيدة لطيفة في التهنئة بولي عهد الخديوية حرسه الله بعين

عنايته الأبدية، لناظمها الأديب الفاضل مصطفى صادق أفندي نجل الأستاذ الكامل

الشيخ عبد الرزاق أفندي الرافعي قاضي مديرية الغربية الشرعي مطلعها:

بزغت شموس الأنس من أفق الهنا

وتبسم الإسعاد أي تبسم

ومنها وفيه تاريخ هجري:

فالكون أرّخ مصر يُنبي سعدها

بولي عهد القطر (عبد المنعم)(1316)

(وختامها)

راق الهنا أرخ له شمس الكما ل محمد الأفضال عبد المنعم

(1899)

فنعتذر بضيق المقام عن شرحها كلها، كما نشكر لحضرة الناظم ما تفضل

علينا به من تقريظ المنار وتهنئتنا نظْمًا ونثرًا بإكماله السنة الأولى.

***

رأينا في جريدة طرابلس مقالة - كليالي الشتاء - تعتذر فيها عن العلماء

الذين أهملوا وظائفهم الدينية بما يمثل الذنب ويؤيده، وسنرد عليها في العدد الآتي

إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 30

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تأثير العلم في العمل

] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ [[1]

أنشأ الله الإنسان يعمل بإرادة تأتمر في تحريك الأعضاء على العمل بأمر العلم

الذي تنكشف به وجوه المصالح والمنافع، فمتى كانت علوم الإنسان في أفراده

ومجموعه صحيحة منطبعة في النفس بتكرر العمل أو بالنظر والاعتبار تصدر عنه

أعمال جليلة وآثار جميلة. ومتى كانت العلوم مضطربة بامتزاجها بالأوهام أو غير

منطبعة في النفس لعدم التربية عليها والعمل بها والنظر فيها بعين التأمل والاعتبار،

فلا جرم أن الأعمال تأتي مختلة سيئة. والسعادة إنما تُنال بالأعمال؛ فالأمة

الجاهلة بعيدة عن السعادة.

العلم الإجمالي قلما يفيد صاحبه؛ لأنه دائمًا عرضة للجهالة بما يرد على

جزئياته من الشكوك التي لا تُنفى إلا بالعلم التفصيلي الكامل. ألا ترى أن أكثر

الناس يعلمون بالإجمال أن أمهات الرذائل وكبائر المعاصي من أسباب الشقاء، ولو

كان هذا العلم صحيحًا كاملاً لا اضطراب فيه لصدرت عنه آثاره حتمًا، وهي ترك

تلك الرذائل والمنكرات، وكذلك يقال في أصول الفضائل والأعمال الصالحة النافعة

يعلمها عامة الناس علمًا إجماليًّا سطحيًّا يلوح في الخيال، ولكن لا أثر له في النفوس

والأرواح؛ لأن كل صفات الروح تظهر على الجسد بالأعمال، ومن كان علمه كاملاً

بشيء ما، وظهر من أعماله ما لا ينطبق عليه، فإنما يكون ذلك لأثر في النفس

أقوى من ذلك العلم كالوجدانات والانفعالات العارضة؛ فإن النزيه ربما ينطق

بالسب والهجر من القول لغضب شديد يعرض له، لكنه لا يلبث أن يعود إلى رشده،

وأمثال هذه النوادر التي تعرض للعلماء والمهذبين لا تحبط أعمالهم ولا تنحرف بهم

عن جادة السعادة {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن

قَرِيبٍ} (النساء: 17) .

خفيت هذه المسألة عن الجاهلين بعلم النفس وعلم فلسفة الأخلاق، فزعموا أن

العلم لا يؤثر في الحمل على العمل، وربما يكابر بعض الذين يحسبون أنهم على شيء

من العلم ويمارون في القول؛ لأنه جاء مجملاً، ولذلك رأينا أن نزيده بقليل من

التمثيل.

إن الذي يعلم علمًا ناقصًا أن الحسد والكبر هو (غمط الحق واحتقار الناس)

رذيلتان ممقوت صاحبهما عند الله والناس، وأنه يجب عليه أن يجاهد نفسه ويطهرها

من رجسهما - يشتبه عليه الأمر في الجزئيات، فيحسد ويتكبر ويرى أنه غير حاسد

ولا متكبر، وإذا قيل له في ذلك لجأ إلى الاعتذار والتأويل فيقول في الحق الذي غمطه

ولم يخضع له - لأنه جاء من قِبل مَن يرى نفسه فوقه مثلاً -: إنه ليس بحق.

وينتحل ما تجود به قريحته من الشبه لإثبات أنه ليس بحق، وإذا لم يجد شبهة يطفئ

بها نور؛ الحق لقوة شعاعه يقول: إنه حق ولكن جاء في غير وقته ووضع في

غير موضعه، فأنا أغمطه لا لذاته بل لأنه لم يأتِ على منهاج الحكمة. (وكأن الحكمة مختصة به لا يعلم مواقعها غيره، نعوذ بالله من الغرور) ويقول - في الإنسان الذي احتقره -: إن ما صدر مني في شأنه مما يدل على انتقاصه واحتقاره لم

أقصد به إلا بيان الحقيقة أو إسداء النصيحة للناس كيلا ينخدعوا به.

والدليل على أن جهله بأخلاق نفسه هو الذي أراه باطله حقًّا وأعماه عن

جزئيات رذائله - أن ما وقع منه لو عرض على مَن هو أعلم منه بالأخلاق لجزم

بأنه حسد وكبر لا يحتمل التأويل وعجيب أن مثل هذه التعلَاّت تصدر من أمثل

العلماء. اجتمع الأستاذ فضيلتلو الشيخ حسين أفندي الجسر محرر جريدة طرابلس

بالسيد جمال الدين الحكيم الشهير فقال له السيد: إن جريدتكم قد جمعت بين الكفر

والإيمان! تكتب مقالة في تحريم الكذب وقبحه ثم تُملأ بعد ذلك بالكذب وغش الأمة

بمدح الجهلاء الأشرار الذين تجعلهم أئمة علماء: وأتقياء صلحاء. قال: (وإننا لا

نخطو خطوة واحدة إلى الأمام ما لم نعطِ كل ذي حق حقه، فنقول في العالم: عالم.

وفي الجاهل جاهل وهكذا) فقال له الأستاذ المحرر: (إن هذا تَقِيَّة؛ لأن مَن

عنيت مُضِرُّون يُخشى شرُّهم) فقال له السيد: (التقية مذهب الشيعة) .

ومثال آخر للشكوك التي ترد على العلم الناقص فتزلزله حتى ما تصدر عنه

آثاره - ولولا ضعفه وزلزاله لصدرت - أن عامة المسلمين الذين يأتون الفواحش

والمنكرات وهم يسلمون بأنها موجبة لسخط الله وعذابه في الآخرة لا يأتونها في

الغالب إلا لأن علومًا أخرى مسلمة مثلها؛ لأنها جاءت من الدين عارضتها وصارعتها

فقويت عليها بمساعدة الهوى والغرض كالمكفرات للذنوب من الأعمال الصالحة فإنهم

يسمعون من الوعاظ والخطباء أن مَن صام يوم عاشوراء غُفرت له ذنوب سنة، ومن

صام يوم عرفة غفرت له ذنوب سنتين - السنة السابقة والسنة اللاحقة - ومن صام

يومًا من رجب استوجب رضوان الله الأكبر، وأن من سبّح كذا في وقت كذا غفرت له

ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج أو زبد البحر، وأن الله يعتق في كل ليلة من رمضان

كذا، والمجموع يستغرق الأمة، وكالشفاعات فقد توسع فيها الوعاظ والقُصَّاص وفي

الكتب منها العجب العجاب، فيقولون: إن العالم يشفع في كذا بيتًا من جيرانه بعد

الشفاعة لأهله وخلانه. ويتوهم علماء السوء ويوهمون الناس أنهم هم

الشفعاء؛ ليعطوهم ويعظموهم. وبعض ما يوردونه في ذلك باطل لم يرد في الشرع

(كما بيناه في مقالات سابقة) وبعضه له معانٍ صحيحة لا يترتب عليها هذا الغرور

الذي أبطل فائدة الإنذار الذي جاءت به الرسل والأديان. مثلاً: إن ما ورد في

المكفرات للذنوب مقصود به الترغيب في الطاعة، وإنما المراد بالذنوب التي تكفَّر

هي الصغائر والهفوات التي لا يخلو الإنسان من الإلمام بها لا العظائم والموبقات

كأكل أموال الناس بالباطل وشهادة الزور والكذب والخيانة وعدم الوفاء بالوعد؛ فإن

مثل هذه لا تكفر إلا بالإقلاع عنها ورد الحقوق إلى أربابها، وإلا لكان هدي الدين

عبارة عن كلمات أو أعمال قليلة يباح للإنسان معها كل شيء، ولبطلت فائدة

النصوص المنفرة عن المعاصي والرذائل.

كيف يصح أن نقول: إن حركة اللسان بكلمات أو صيام يوم أو أيام يكفر هذه

السيئات الفاشية التي دهورت الأمة في مِهواة الشقاء وأنزلت بها صواعق البلاء.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث مَن كُنَّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى

وحج واعتمر: وقال إني مسلم - إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان)

رواه بهذا اللفظ أبو يعلَى بسند محتج به، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ

أخرى بمعناها في رواية مسلم التصريح بقوله: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)

وظاهر هذا الحديث أن مَن كانت فيه هذه الثلاث فهو ليس بمسلم حقيقة ولا يغني

عنه ادعاء الإسلام والإتيان بأعماله العظيمة الظاهرة كالصوم والصلاة والحج، ولكن

العلماء أوَّلوه وقالوا: إن المراد به (النفاق العملي) ولكن لا يستطيع أحد منهم أن

يقول: إن هذا النفاق العملي يكفَّر بالصوم والصلاة والتسبيح؛ لأنه إبطال للحديث

ورفْض له.

وأما العفو وشفاعة النبي - وهي عبارة دعاء يدعو به يوم القيامة فيستجيبه الله

تعالى له - فالحكمة في الأول أن لا ييأس المسرف على نفسه؛ لأنه إذا يئس

يسترسل في الفجور، ومراد الشريعة رجوعه عنه والحكمة. في الثانية إظهار كرامة

للشافعين، على أنهم لا يشفعون إلا بإذنه ولمَن ارتضى. والكتاب والسنة طافحان

ببيان ما يرتضيه تعالى وما لا يرتضيه ونكتفي هنا بقوله تعالى: {رضي الله عنهم

وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة: 8) على أن العفو والشفاعة مبهَم

أمرهما، والأصل أن الجزاء على الأعمال {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن

يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) وفي الصحيحين قام رسول الله

صلى الله عليه وسلم حين أُنزل عليه] وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [ (الشعراء:214)

فقال: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله تعالى؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا،

يا بني عبد مناف؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس يا عم رسول الله؛ لا أغني

عنك من الله شيئًا، يا صفية يا عمة رسول الله؛ لا أغني عنكِ من الله شيئًا،

يا فاطمة يا بنت محمد سَليني من مالي ما شئت؛ لا أغني عنك من الله شيئًا.

وأضرب لهم مثل العفو والشفاعة عند الملوك والأمراء الذين تتغير انفعالاتهم

ويمكن للمقرب منهم أن يؤثر في نفوسهم ويحملهم على ما يريد منهم ونحو هذا مما

هو ممتنع في جانب الله تعالى - هل يتجرأ آحاد الناس على الجرائم والجنايات

جهرًا اتكالاً على عفو الأمير أو السلطان أو توقعًا لاحتمال الشفاعة له من أحد

المقربين إليه؟ ! كلا، إن مَن يجاهر من الناس بالجناية رجاء العفو أو الشفاعة

لا بد أن تكون له مكانة عند السلطان أو المقرب إليه؛ بحيث يجزم أو يرجح أن العفو

يناله، بل إنه لا يُسأل عما يفعل، وإنما يكون هذا في الحكومات الاستبدادية التي لا

يتقيد سلطانها بشريعة ولا نظام، ومثل هذا مستحيل في جانب أحكم الحاكمين سبحانه

وتعالى. وهذه المسألة دليل واضح على مسألتنا؛ وهي أن العمل إنما ينشأ عن العلم

الأثبت والأقوى في النفس. وإليك مع هذا البيان المعقول من البراهين النقلية الآية

التي صدَّرنا بها هذه المقالة: {إِِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28)

وحديث: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية) .

ثبت بما ذكرناه أن العقل والنقل متفقان على أن العلم الصحيح السالم من

الشوائب والعلل هو الباعث لإرادة الإنسان على تحريك الأعضاء للعمل. فيصح أن

يستدل بأعمال الأفراد وأعمال الأمم على مكانتها من العلوم بوجوه منافعها ومصالحها

وما عندها من الفنون التي يزيد العمل بها إتقانًا وارتقاءً. ومعلوم أن سعادة الأمم

بأعمالها، وأعمالها لا ترتقي في مدارج الكمال إلا بالاتفاق والتعاون، والاتفاق

والتعاون لا يأتيان إلا من تهذيب الأخلاق وتقويم العادات وتصحيح العقائد التي يُبنَى

عليها الترغيب والترهيب اللذان يقودان إلى التهذيب، وحسبك من الدليل النقلي على

ذلك حديث: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وتعليم التهذيب هو وظيفة العلماء

ورثة الأنبياء، وإهمال أصحاب هذه الوظيفة لها هو الذي يدهور الأمم في مهاوي

الشقاء. فثبت بهذا كله أن مبدأ ما حل بالشعوب الإسلامية من التأخر والانحطاط

إهمال العلماء وظائفَهم في الإرشاد والتهذيب، والداء إنما يُشفَى بإزالة علته وسببه

واصطلام الجراثيم التي يتولد هو منها؛ ولذلك جعلنا من مقاصد جريدتنا الأولية بيان

تقصير العلماء وأسبابه، والبحث في العلل التي أفسدت التعليم وحالت بين المتعلمين

وبين غايات العلوم والفنون التي يتدارسونها، ومزج هذه المباحث بلوم العلماء

تارة، وحثهم على الإصلاح تارة أخرى، وقد رأينا من أفاضل علماء مصر

المنصفين - وبلغنا عن مثلهم من علماء تونس والهند - استحسان عملنا هذا

وتقريظه، وأنه يُرجى الانتفاع به؛ فزادنا هذا نشاطًا واجتهادًا، والله يهدي مَن

يشاء إلى صراط مستقيم.

_________

(1)

(فاطر: 28) .

ص: 33

الكاتب: محمد رشيد رضا

مؤاخذة العلماء والرد على جريدة طرابلس

كم أداوي القلب قلَّت حيلتي

كلما دويت جرحًا سال جرحُ

ذكرنا في العدد الماضي أننا رأينا في جريدة طرابلس مقالة - كليالي الشتاء -

أي: طويلة مظلمة باردة، تعتذر فيها عن العلماء الذين أهملوا وظائفهم في

إرشاد الأمة وتزعم أنهم غير مؤاخَذين بترك الواجب عليهم لأوهام وتخيلات، ذكرتها

ولولا خشية انخداع الناس بقولها وتوهم صاحبها أنه جاء بحق مقنع؛ لما تعرضنا للرد

عليها ولكن هذه المسألة التي تنفيها هي ونثبتها نحن (مؤاخذة العلماء بترك إرشاد

الأمة الذي هو مناط سعادتها بالاتفاق حتى من جريدة طرابلس) - هي القطب الذي

يدور عليه ما نرجوه من إصلاح حال الأمة؛ ولذلك نرى من الواجب أن نزيح عنها

شُبه المشتبهين، ونزيل تمويه المموهين {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ

عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 42) ؛ أي، ليظهر للمرتاب - في كونه

مؤاخَذًا- أنه مؤاخَذ، فيكون هلاكه بترك الواجب إذا هو تركه عن بينة، وحياته

بالقيام به إذا هو فعل عن بينة، والله سميع لأقوالنا عليم بنياتنا؛ فيجازينا عليها.

أما كون المقالة باردة فقد عنينا به ما فيها من التنديد بأحد الكُتاب ونبزه

بالألقاب. وقد انبعق قلم كاتب المقالة في هذا، ونضح إناؤه بما لعله يعيبه على غيره

إذا هو صدر منه، وعهدنا بأناته أنه لا ينطق بمثل ذلك الكلام إلا إذا غلب على

أمره بانفعال شخصي قوي، أما المصالح العامة فإنه فيها هين وكلامه لين. وأدب

الشرع في الوعظ معروف، وهو الشدة في الكلام العام الذي يوجه إلى صِنف من

الناس بحسب درجة انحرافهم، حتى جوَّز لعن الفاسقين ولم يجوِّز لعن كافر

معين بالشخص أو الوصف الذي يتعين به، ويا ليت شِعْري هل يقول: إن رمي

أحد الناس بالغلظة والفظاظة والسفه والحُمق - يكون من الرقة واللطافة

والحلم والعقل التي ينضح بها إناء الإنسان الكامل؟ !

وأما كونها مظلمة فلما فيها من العسلطة، واشتباه الحق بالباطل وتمويه

الصواب بالخطأ الذي يرمي الأمة في هوة اليأس والقنوط؛ بزعمها أن العلماء

سقط عنهم وجوب إرشاد الأمة مع الاعتراف بأن نهوض الأمة منوط بإرشادهم،

وأن التبعة ينبغي أن تُلقى على الأغنياء، وعللت ذلك بقولها: (إن المطالب أولاً

وبالذات بالإنشاءات العمومية التي بها نجاح الأمة هم أهل الثروة وذوي (كذا)

الغِنى) ثم اعترفت: (بأن أرباب الثروة ليسوا كلهم عارفين ثمرات تلك

المشروعات العمومية) وأنهم يحتاجون إلى موقظ ينبههم من هذا السبات، وأنه (ليس

ثمة من موقظ من ذلك الإيقاظ ومنبه ذلك التنبيه وباعث ذلك البعث - إلا قيام العلماء

نافذي الكلمة؛ يعظون المواعظ الحسنة ويخطبون الخطب الطنانة ويتكبدون مشاق

الأسفار وينشرون في الجرائد خطاباتهم دون إسرار) وأنت ترى أن هذا يرجع

باللائمة على العلماء أولاً وبالذات خلافًا لقوله الأول؛ لأن الأغنياء لا ينبعثون

إلى العمل إلا بإرشادهم كما قال فهم المطالِبون بالإصلاح قبل كل أحد.

إن صاحب العلم الإجمالي عندما يتكلم في مسألة غير محيط بأطرافها، وعلى

غير بيِّنة من جميع دخائلها وعوارضها ربما يحتج على النفي بما يقتضي الإثبات،

وعلى الإثبات بما يقتضي النفي، ويقر بالشيء في معرض الإنكار وينكره في معرض

الإقرار؛ فتأتي في تضاعيف كلامه القضايا الصحيحة في غير مواضعها، فلا يكاد

يستفاد منها، ولكن عندما تقوم الحجة عليه بنفي شيء أو إثباته - يتنصل ويخطِّئ

صاحب الحجة مستدلاً بأنه قال كذا في مكان كذا! ومن هذا القبيل ذكرت جريدة

طرابلس أن المطالب بنجاح الأمة - أو وبالذات الأغنياء - فإنه لا معنى لذكره في

مقام رقع التبعة عن عواتق العلماء إلا إذا كان صحيحًا على إطلاقه، لكنه ليس

بصحيح؛ لأن الأغنياء يحتاجون قبل ذلك إلى مَن يعرِّفهم بمنافع الإنشاءات العمومية

كالمدارس والمصانع، وقد اعترفت الجريدة بذلك كما علمت، وأهم من هذا حاجتهم

قبل ذلك إلى تهذيب يجمع كلمتهم وينفخ فيهم روح الثقة الوطنية؛ فإن أهل الشرق

الآن لا يكادون يثقون في الأعمال العمومية إلا بالأجانب!

الأعذار الثلاثة:

اعترفت الجريدة المذكورة بأن الواجب على العلماء إرشاد الخلق إلى مصالح

المعاش والمعاد، ولكن زعمت أنهم بتركه معذورون وبتفويته (كذا في الأصل) غير

موزورين وانتحلت لذلك أعذارًا ثلاثة نذكرها ونبين فسادها:

(العذر الأول) ملخصه أن العلماء - في الغالب - ليسوا أصحاب ثروة، وأن

أغلبهم يعيش من نحو تدريس أو إمامة أو خطابة ومداخيل (كذا في الأصل) ، هذه

الوظائف قلّ أن تزيد عن الكفاية، قال الكاتب: فإذا أرادوا أن يقوموا في تلك

(كذا) الوظيفة التي نقول: إنها واجبة عليهم. وهي وظيفة تحتاج لتفريغ أوقات

كثيرة للقيام بالخطب والمواعظ ونشر المقالات الحادثة في الجرائد وتجشُّم أسفار -

فمَن يا تُرى يقوم بمصارفهم (كذا) إن قاموا بتلك الأعباء؟ ! .. إلخ.

الجواب:

إن هذا العذر ممثل للذنب تمثيلاً لا يدع للتمويه والانتحال سبيلاً؛ ذلك أن ما

هو مورد رزقهم من الخطابة والتدريس لو قاموا به حق القيام لأدوا الواجب عليهم

للأمة، ولكن دروسهم وخطبهم هي مما يفسد الأخلاق والأعمال بما تنفثه من سُم الجبر

باسم القضاء والقدر والتكسيل عن العمل بحجة الزهد والتوكل، والتجرئة على

المعاصي بالتمنية بالشفاعات والمكفرات، والإياس من قوة الأمة وترقيها بما يزعمون

من أن سعادة الأمة وعزتها لا يكونان إلا على يد المهدي المنتظر، وأن هذا الشقاء

الذي وقعت فيه لا مفر منه؛ لأنه علامة على قرب الساعة وانتهاء الزمان، ولأن

القاعدة المقررة أنه لا يمضي يوم إلا والذي بعده شر منه، ونحو ذلك من التعاليم

الغامضة والفاسدة المنتشرة في الكتب والخطب وبها، يعظون ويعلِّمون. وقد فصلنا

القول في بعضها، وموعدنا - ببيان سائرها - الأعداد الآتية إن شاء الله تعالى.

سبحان الله! كيف يعتذر بمثل هذا العذر سوري وأكثر العلماء المدرسين في

سوريا لا يقرؤون الدروس الوعظية إلا في شهر رمضان، ويأخذون من مال الأوقاف

أجور سنة كاملة، ويقضون معظم أوقاتهم في البطالة، وشأنهم في نواديهم وسُمَّارهم

الخوض مع الحائضين في اللغو واللهو، فهل نظرت للواقع - يا أستاذ طرابلس -

وراقبت الله تعالى عندما قلت: إن قيامهم بالواجب منه السفر الذي هم عاجزون عنه

لفقرهم؟ ! ورتبت على هذا أنهم عاجزون عن القيام بوظيفتهم على الإطلاق، وقلت

إن: (أهل الغفلة لا يعذرونهم وإنهم عند الله لمعذورون) ، ألا تذكر - يا أستاذ

طرابلس - أننا اقترحنا عليك أن تقرأ للطلبة في مدرستك درسًا في أخلاق الدين

كالجزء الثالث من الإحياء فاعتذرت بضيق الوقت، فقلت له: استبدل هذا الدرس

بدرس مقامات الحريري القليل الجدوى، فاعتذرت بما ملخصه أن التلامذة يستثقلون

مثل هذا الدرس ولا يرتاحون له، مع أن هذا العلم فرض عين وتعليمه من فروض

الكفاية، ولم يقم به في بلدك أحد، ومرت السنون ولم تقرأ في الأخلاق شيئًا، قلت:

لا يكفي مجرد وعظ العلماء في دروسهم المقامة في بعض المساجد لقلة مَن حضره.

فهل تقول مثل ذلك أيضًا في خطب الجوامع إن كنت تحب إرشاد الناس؟ ! فاعقد

بالله مجلس وعظ بعد صلاة الجمعة، واجعلْه كل أسبوع في مسجد وانظر أيجتمع

عليك الناس أفواجًا أفواجًا أم لا؟ ! قل لي - يا رعاك الله - هل يُنقص هذا من

رزقك الذي تأخذه من الأوقاف أو من خزينة الدولة أو من المطبعة والجريدة؟ وهل

تخشى منه على عيّلك الفقر والمسكنة.

اللهم بصِّرنا نفوسنا وأرنا الحقائق كما هي كيلا نضل ونشقى.

(لها بقية)

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 39

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أيها الفتى

ما هذا اللهو واللغو، والفرح والمرح؟ ! تميل كالغصن مع الهوى. وأنت

ريَّان من ماء الشباب والصبا. ولكنك لا تجد على نار الحوادث هدى. أتحسب أنك

خُلقت عبثًا. أو أنك تترك سدى؟ ! كلا، إن أمامك خطوبًا فادحة. ونصالاً جارحة.

وأثقالاً بَيْتية ووطنية. تنوء بالعصبة أولي القوة، ولكن سُكر الشباب يفعل ما لا

يفعله سكر الأكواب. فهو الذي جعل في أذنيك وقرًا وعلى عينيك غشاوة. وران

على قلبك ما تعمل من السيئات. وتجترح من الخطيئات. تصور أن هذه الفتاة

الهيفاء والغادة الحسناء التي تغازلها وتناغيها. وتسايرها وتجاريها - ستكون ربة

بيتك. ومربية ولدك. ومالكة زمام أمورك، سعادتك بيدها. وراحتك في راحتها.

وشرفك بشرفها. ومستقبل ذريتك بآدابها ومعارفها. أفتحسب أن هذه الغر التي تميل

مع كل ريح. وتلين لكل صبيح أهل لما يُطلب منها. وكفؤ لما يناط بها؟ !

أفتحسب أنها - بعد أن تتشرف بالاقتران بك تتغير طباعها. وتنقلب أوضاعها.

وتتبدل صفاتها. وتستحيل ملكاتها. أم ترضى بها قرينة على ما تشاهد من علَاّتها.

وتعلم من هفواتها وسيئاتها؟ ! كلا، إنك سادر [1] في غفلتك، ملتخ [2] في سكرتك،

لا تفكر في أنك تجني على نفسك، وعلى جميع أبناء جنسك بإفساد آداب الفتيات

بتعرُّضك لهن حتى في الطرقات. وستذوق مرارتها في بيتك. إن لم تقلع عنها من

وقتك (دقة بدقة، ولو زدنا لزاد السَّقَّا)[3] .

***

أيتها الفتاة

لقد طوى الزمان الذي كان قدرك فيه مجهولاً. وجنسك اللطيف عند أهله

مفضولاً أو مرذولاً. وجاء زمان تنبه فيه الفضلاء والعظماء لما للمرأة من الشأن

الكبير في الارتقاء. وأنتِ مستقبلة عصر الكمال. الذي فيه يظهر سر قول النبي:

(النساء شقائق الرجال) ولكن من سماء عقلك يُشرق بدره. ومن بين ثناياك اللامعة

يتنفس فجره؛ لأن والدتك - وأعيذك بفضلك - جاهلة. وعن مقامها في المجتمع

الإنساني غافلة. فاعذريها على جهلها. ولا ترضي بأن تكوني مثلها. أتدرين - يا

سيدتي - بماذا يرتفع قدرك في هذا الزمن. وتكونين عقد زينة في جيد الوطن؟ !

إذا سألت عمتك (الست هانم) عن هذا السؤال، تقول لك: إن الذي يرفع المقدار،

ويستلفت الأنظار إنما هو تجعيد الطرة وعقص الذوائب. وكحل العيون وتزجيج

الحواجب. وحسن الالتفات والتثني. وأساليب الدلال والتجني. واللطف في

الإشارة. والظرف في العبارة. وإن خفة الحركات هي زينة البنات. وما وراء ذلك

إلا الثياب الحريرية. والحلية الذهبية والجوهرية. ولكن عمتك غالطة كالسيدة

الوالدة؛ فإن هذه الأمور هي التي أضرت بالوطن من قبل؛ لأن المرأة التي تجعل

همها في هذه الأمور، وتحسب أنها كالرياحين والزهور - ما خُلقت إلا نزهة للناس.

وزينة للحواس. يدل حسبانها هذا على أنها رضيت بما دون رتبة الحيوان. (أي:

حيث رضيت أن تكون قيمتها قيمة الزهر وهو من النبات والحيوان أشرف منه) ،

فكيف يقبل حكمها في رفعة شأن الأوطان. وهي من خصائص الكاملين من نوع

الإنسان؟ !

ولكن إذا سألت (المدام) فلانة أو تربك (المدموازيل) عن هذا

السؤال نفسه تسمعين جوابًا عجيبًا؛ لأنها تقول لك: إن قدر الفتاة إنما يكون رفيعًا

بعلومها وآدابها وفضائلها، وباستعدادها لمساعدة الرجل على إسعاد منزله وأهله

وإسعاد وطنه وأمته، فإذا كانت غير متخلقة بالأخلاق الفاضلة كيف يمكنها أن

تغرس فَسِيل الفضائل في نفوس أبناء الوطن الذين يعهد إليها بتربيتهم من يوم

يوجدون بحكم الطبيعة والشريعة معًا؟ وإذا كانت لا تعرف قيمة العلوم والفنون

والآداب التي تسعد بها البلاد فهل يخطر في بالها أن ترغِّب أولادها في ذلك وتسلك

بهم في هذه المسالك؟ ! بل ربما قالت لك حضرة المدموازيل: إن الفتاة كالفتى،

والمرأة كالرجل والوطن يطالبهما بحقوقه مطالبة واحدة؛ فيجب أن ترشح الفتاة نفسها

لأي عمل من الأعمال العظيمة النافعة التي يقوم بها الرجال حتى الأعمال

الحربية والسياسية. لكن هذا الأخير إفراط عظيم يقابله ما ترين عندنا من التفريط

والإهمال. والصواب أن البيت مثال المملكة الجمهورية؛ فالرجل هو الرئيس وناظر

الخارجية (أي: ما هو خارج البيت) ووظيفة المرأة نظارة الداخلية. والممالك

العظيمة إنما تتألف من هذه البيوت، فمتى كانت الحياة فيها سعيدة سعدت بذلك المملكة

كلها.

هذه إشارة لطيفة إلى مقامك السامي - أيتها الفتاة - وأفضل ما تستعدين له هو

تربية الأولاد، بل هو أفضل الأعمال كلها، والاستعداد له إنما يكون بمعرفة عقائد

الدين الصحيحة والتخلق بأخلاقه الفاضلة والتأدب بآدابه الكاملة ثم معرفة مبادئ

الفنون لا سيما حفظ الصحة وتدبير المنزل والحساب والتاريخ، فإذا التفت إلى هذه

الأشياء ووفيتها حقها من العناية؛ عرف لك الوطن العزيز حقك، ورقاك فضلاؤه إلى

الأوج الذي تستحقين ولا يغرنك هؤلاء الشبان الأغرار الذين يختالون في الشوارع

والمهايع ويرمون بأبصارهم إلى الكُوَى والنوافذ يفتنون الفتيات الغافلات،

ويستهوون السيدات المصونات. فليس تحت طرابيشهم المائلة إلا أحلام (عقول)

سفهة وأخلاق سافلة. وسيذهب فساد طباعهم وقبح أعمالهم. بما بقي لهم من

دثورهم وأموالهم. فويل لمَن اتصل بهم وقرب منهم، وهنيئًا لمَن إذا عرفهم قلاهم

وبعُد عنهم.

_________

(1)

السادر: المتحير والذي لا يبالي بما صنع؛ ومن معانيه الذاهب عن الشيء ترفُّعًا عنه، والسادر ثوبه؛ أي: السادل له.

(2)

يقال: سكران ملتخ؛ أي: طافح مختلط لا يفهم شيئًا لاختلاط عقله.

(3)

يُحكى أن شيخًا عفيفًا صادف في الطريق امرأة فقبَّلت يده، فغمزها بيدها الناعمة، ولما بلغ منزله وجد السَّقَّاء يغمز يد امرأته؛ فقاله، فسار مثلاً.

ص: 43

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقاريظ

(الوشاح في شرح عروض المِفتاح)

أهدانا نسخة من هذا الكتاب مؤلفه حديثًا العالم الفاضل القاضي ظفر الدين

أحمد أستاذ الكلية الشرقية بلاهور، الهند ولما تتسنى لنا مطالعته فقصارى ما نقول

في هذا المقام: إن إحياء كتب فرسان البلاغة وجهابذة علوم اللسان (كالعلامة السكاكي

صاحب المفتاح) بالشرح والدرس - عمل شريف تحيا به اللغة العربية إن شاء الله

تعالى.

ثم نشكر لحضرة الأستاذ فضله. ونثني عليه كما أثنى علينا بما هو أهله، ومن

الله نسأل تحقيق ما أمله في خدمتنا (المنارية) من جمع كلمة الأمة الإسلامية.

ولا غرو؛ فقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) وعد لمَّا

يتحقق كما قال بعض المحققين الأجلة. ولا بد من تحقيقه بفضل الله تعالى.

***

(الجامعة العثمانية)

ظهر العدد الأول منها يتدفق بالمباحث المفيدة لا سيما مباحث التربية والتعليم

التي نحن أحوج إليها من كل شيء، وأحسن تقريظ لها أن ننقل نبذة من أنفع نبذها

وأفيدها، فإليكها نموذجًا حسنًا، قال الكاتب:

(إن المدارس الأجنبية في بلاد الدولة العثمانية قد صنعت خيرًا عظيمًا، ولكنها

قد صنعت شرًّا عظيمًا أيضًا. فعلينا أن نجد دواءً لهذا الداء، قد أنشأ الغرب للشرق

مدارس يعلم فيها أبناء الشرق الميل عن دولتهم إلى دولة غريبة عنهم، فلتنشئنَّ - أيها

العثمانيون - بإزاء تلك المدارس مدارس جديدة، يكون أساس تعليمها حب الوطن

والأمة، وتعليم ما هو الوطن وما هي الأمة. لنؤسس مدارس جديدة نُدخل إليها طرق

التعليم الحديثة ووسائل التربية الحديثة، وندخل إليها قبل ذلك عناصر الأمة كلها،

فنربيها فيها على مقاعد واحدة ونلقنها دروسًا واحدة ومبادئ واحدة؛ حتى تكون بعد

خروجها من حياة المدرسة إلى الرجولية بقلوب واحدة وأفكار واحدة، فإن هذا هو

السبيل إلى تقوية جدار الوطنية العثمانية ووقايته من الثلم أو الهدم) .

فشكرًا لك - أيها الكاتب الفاضل - ونجَّح الله تعالى الجامعة العثمانية بمبادئك

الصحيحة.

***

(أنين مظلوم)

جريدة ظهرت في القاهرة تشكو من ظلم رجال الدولة لا سيما في ولاية بيروت،

وتستصرخ مولانا السلطان الأعظم طالبة تفويض الأعمال إلى الأَكْفَاء الصادقين.

وعسى أن يكون كلام صاحبها صادرًا عن غيرة صحيحة وتألم حقيقي، فعهدنا

بالذين ينشئون الجرائد للطعن بالحكام والشكوى منهم أنهم طلاب رزق ووظيفة أو

رتب ووسامات، كما ثبت ذلك للدولة العلية بالاختبار؛ ولهذا ارتفعت الثقة بكلام

أمثال هذه الجرائد من الدولة والأمة، فاشتبه الحق بالباطل والإخلاص بالنفاق، ولا

علاج لهذا إلا أن تقرر الدولة حرمان أصحاب الجرائد عمومًا من الرتب والرواتب

والأعمال والوظائف؛ لينقطع أملهم مما وراء عملهم وثمراته الذاتية، فمن أحسن

ونجح في عمله فحسبه إحسانه شرفًا وكسبًا، ومن ساء فعليه ما يلاقيه من الجزاء،

وما دامت الدولة تغدق النعم على السفهاء منعًا لسفههم؛ فإنها تغري بذلك غيرهم،

فتضيع الأجور ويكثر الفجور ومحاولةُ إرضاء جميع الناس غرورٌ.

_________

ص: 46

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌أخبار الحجاج

بلغ عدد الحجاج الذين قصدوا الأقطار الحجازية عن طريق الإسكندرية لغاية 16

الجاري 7602، والذين برحوا هذا الثغر في ذلك اليوم فقط 801، منهم 509

عثمانيون و136 مصريون و58 روسيون و40 فارسيون و29 من الزولوس و26 من

البوسنيين و3 من البرتغاليين.

أما الذين سافروا من القاهرة فيبلغ عددهم إلى اليوم نحو الثلاثمائة حاج.

...

...

...

...

...

...

...

...

... المؤيد

_________

ص: 48

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اعتذار

ضاق هذا العدد عن النصائح والوصايا التي أعددناها للحبالى، وعن باب

الأخبار والحوادث، وموعدنا العدد الآتي إن شاء الله تعالى.

_________

ص: 48

الكاتب: أحد علماء الأزهر

‌الاتحاد

لأحد أفاضل العلماء المدرسين في الجامع الأزهر الشريف

الاتحاد هو الاتفاق على أمر من الأمور وبه يقوى هذا الأمر ويعظم، إلا أنه

تارة يكون ممدوحًا وتارة يكون مذمومًا، فإن كان المتفق عليه ممدوحًا كمقاومة العدو

الصائل كان ممدوحًا، وإن كان مذمومًا كالسلب والنهب واللهو واللعب ومنع خير

وجلب شر كان مذمومًا. ومما هو في المرتبة العليا في المدح - اتفاق أهل المملكة أو

المدينة أو المنزل على ما به صلاح مملكتهم أو مدينتهم أو منزلهم وعلى ما فيه

حفظها من الاضمحلال والتلاشي مما يضمن لهم بقاء المجد والشرف ويحفظ لهم

القوة والمَنَعَة، ألا وهو تدبير أمورهم بالقوانين العادلة والأفكار النيِّرة والتحابُب

والتوادد وعمل كلٍّ لنفسه ولغيره من أهل مملكته أو مدينته أو منزله، فيجتمعون

بالروح والجسد على من له العراقة في الإمارة عليهم، المحافظ على ترقيهم ومجدهم،

ويساعدونه في تدبير أمورهم بالقوانين المرضية مخلصين له ناصحين لا يتساهلون

فيما فيه النفع العام ولا يتغافلون عما فيه الضرر اللاحق بهم وبغيرهم، ولا يتخالفون

فيما بينهم لغرض نفساني أو حظ مالي؛ فتفتر همتهم وتضعف شوكتهم فيكونون

عرضة لتسلط الغير عليهم وتمكنه منهم واستيلائه عليهم، فيصيرون في ربقة الرق

ذليلين مقهورين لا يُبالَى بهم، ولا يكترث بكبيرهم ولا صغيرهم، ولا يُعتنى بشريفهم

ووضيعهم، ولا يتباغضون ولا يتحاسدون ولا يُؤْثِر أحدهم نفسه بالعمل فيعمل لحظ

وقتي له يراه وقت العمل ثم يكون كالهباء المنثور، بل كالسراب يحسبه الظمآن ماءً

وهو عدم، بل يعمل لأمته ومستقبله لا لنفسه فقط؛ لأن الإيثار ليس من الكمال في

مثل هذا، ولأن وقته الحاضر قد انكشف له ما فيه وظهرت له شؤونه إن كانت سارة

أو ضارة، وأما المستقبل فلم ينكشف له ما يكون فيه؛ فحقه أن يعمل ما يحفظ له حاله

فيه بحسب طاقته.

على المرء أن يسعى إلى الخير جهده

وليس عليه أن يساعده الدهر

فيا ذوي الأبصار، يا أولي الأنظار، عليكم بالتأمل في تقلبات الدهر وحوادثه؛

فإنه يكون لمن اتحدت كلمتهم واجتمعت قلوبهم، ويكون على من اختلفت كلمتهم

وتنافرت قلوبهم، فوحدوا كلمتكم واجمعوا قلوبكم {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ

رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) وسارعوا جميعًا إلى ما به حفظ الأمة والدين كما

تسارعون إلى ما به حفظ المال والبنين، ولا يقعدكم عن هذا الانهماك في اللذات

والتقلب في الشهوات؛ فإن الإنسان ما خُلق للشهوة واللذة لما فيه كمال النفس التي

هو بها إنسان من التخلق بالأخلاق الحميدة التي منها عدم الاسترسال في الشهوات

واللذات، بل يأخذ من ذلك قدرًا يسيرًا يروِّح به نفسه فقط ويردعها عما زاد؛ لأن

الزائد تتعاصى به عليه فلا يطيقها فتجره إلى ما ليس فيه كماله وحفظ عشيرته، ولا

يحول بينكم وبين ذلك توهم أنه يصيبكم مكروه؛ فإن الإنسان لا يصيبه إلا ما قدر

عليه حتى لا تكونوا أكلة ذئب ولا فريسة أسد، لا سيما العلماء؛ فإنهم أئمة لغيرهم

ويُقتدَى بهم ويُهتدَى بهديهم، فعليهم أن يتحدوا وأن يتخلوا عن الرذائل والدناءات،

وأن يتجردوا من التعصب ورد الحق على قائله، وأن يتبعوا الخطة الحميدة والطريقة

المفيدة؛ ألا وهي ما أمر به أمير البلاد وخديويها المعظم، وارتضاه مشاهير العلماء

من ترك قراءة الحواشي وصرف الزمن في المناقشات والمشاغبات؛ فإنه اشتغال

وضياع للوقت في خدمة كلام المخلوق، وإعراض عن الاشتغال بكلام الخالق،

وتفويت للإحاطة بأحكام الشريعة الغراء والفنون الأدبية.

وما يتوهم من أن الاشتغال بالحواشي يقوي الذهن دون ما دعاهم إليه مجلس

إدارة الأزهر - فغلط أَوْقَعَهُمْ فيه حكم العادة التي شبُّوا عليها وذلك لأنه بترك

الحواشي والمناقشات يتيسر لهم الاشتغال بالفنون العقلية من الحساب والهندسة،

فتفيدهم في الذهن قوة أكثر مما يستفاد بالحواشي؛ ولذا كان الحكماء يشتغلون

بالرياضيات قبل العلوم الحكمية وقد أمرهم أمير البلاد بالخطة الجديدة لأجل أن يكون لهم إحاطة بالعلوم وترقٍّ في المعارف؛ ولأنه رأى ما لم يروه من تعييب أهل الوقت لخطتهم حتى كان من الحسن عندهم تفريق هذا الجمع، فعسى أن يلتفت قومنا

لما هو الأحرى والأنفع دنيا وأخرى.

_________

ص: 50

الكاتب: محمد رشيد رضا

مؤاخذة العلماء والرد على جريدة طرابلس

(تتمة ما سبق)

(الاعتذار الثاني) ملخصه: إذا شرع العلماء في الخطب في المجامع

والنوادي، وركبوا الأخطار للمواعظ، ونشروا المقالات في الجرائد والدفاتر،

واجتمعوا للمذاكرة وتدبير شؤون الأمة واستنباط القواعد المتكفلة بالإصلاح،وجمعوا

الثروة لإقامة الشركات العمومية وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر.

قالت (طرابلس) :

(لا سيما لأهل السطوة والنفوذ، وشدوا على الكثير من فاسدي الأخلاق،

وحاولوا نزع خلالهم الفاسدة عنهم إلى أمثال ذلك من الشؤون التي يرجى عندها

نهضة الأمة، فهل يروق ذلك منهم في كل نظر، ويساعدون عليه من أهل البدو

والحضر، أو يعارضون أشد المعارضة ويقصدون بالأذى من ذوي الشرور وحقائب

الريب والعيب، ولا يقوم بمساعدتهم إلا من لا تجدي مساعدته نفعًا، وربما نسب إليهم

أنهم جماعات إفساد ودسائس ضد الحكومة أو الأمة أو مثل ذلك ويرشقون بسهام

الملام من أكثر الأنام حتى يقول قائلهم: ما لهؤلاء القوم يتعرضون لما لا يعنيهم. إذا

منوا بالأذى ظهرت الشماتة بهم حتى من أهليهم وقيل: هكذا جزاء التعرض لما لا

يعني الإنسان. فما كان أغنى هؤلاء العلماء عن المطاردة في هذا الميدان) اهـ.

الجواب:

إذا كان وجوب الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطًا بأن

يروق عند الشروع فيه في كل نظر، ويساعد عليه أهل البدو والحضر كما يفهم من

صريح كلام الجريدة (طرابلس) ، فلا شك أن الوجوب ساقط عن العلماء بل لا

ريب في أن هذا الفرض لم يتحقق شرطه في عصر من الأعصار. وإن إيجابه في

الشرع لا معنى له، ولكن هذا الشرط لم يقل به شرع ولا عقل، فذِكره في معرض

الاعتذار عن العلماء وبيان سقوط الوجوب عنهم - لغو لا معنى له وأما المعارضة

والقصد بالأذى؛ فالأولى منهما لا معنى لذكرها أيضًا، ولكن القصد بالأذى محل نظر

ويحتاج القول فيه إلى تفصيل نكتفي بموجز منه؛ لأن كلامنا مع أهل العلم، فنقول:

أولاً - لأن القصد بالأذى لأجل الإرشاد غير محقق، وإنما هو احتمال يصح أن

يفرض وقوعه في كل عمل.

ثانيًا - أن القصد لا يوجب الإيقاع لاحتمال الموانع من جانب القاصد أو

المقصود أو الأحوال الخارجية.

ثالثًا - أن الأعمال الواجبة على العلماء كثيرة جدًّا، وغير جائز أن يكون كل

عمل متروك منها يعود على فاعله بالضرر والأذى، فيجب على العالم أن يأتي ما

يغلب على ظنه السلامة فيه حتى إذا ما ساوره البلاء وواثبه الإيذاء وتحقق أنه لا

يستطيع الغلب - يعدل عنه إلى عمل آخر.

رابعًا - أن الأذى أو الضرر الذي يخافه من يقوم بخدمة الأمة له درجات

سنفصل القول فيها عند الكلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونكتفي هنا

بقول أئمة العلماء: إن توقع الإيذاء الشديد حقيقة كالضرب المُبَرِّح والقتل والسلب

إذا غلب الظن بأَمارات واضحة - يُسقط وجوب الحسبة ويبقى الاستحباب، وأما

الرشق بسهام الملام - الذي يخاف منه أستاذ طرابلس وذكره في الاعتذار - فلا يسقط

الوجوب. قال الإمام حجة الإسلام الغزالي: (ولو تُركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب

فاسق أو شتمه أو تعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله - لم يكن للحسبة

وجوب أصلاً؛ إذ لا تنفكّ الحسبة عنه) .

ثم إن ما نحن في أشد الحاجة إليه من إرشاد العلماء يحصل بإصلاح التعليم

والخطابة الجمعية وكثرة المذاكرة في مواضيع الإصلاح في المنتديات والسّمار، ولا

خطر على العلماء في شيء من ذلك إلا في دار السلطنة حيث يمنع الاجتماع والكلام

في الإصلاح الذي يمس السياسة فقط، فعليهم أن يستبدلوا ما لا خطر فيه بما فيه

الخطر. ووراء هذا كله نقول: أين وراثة النبوة التي هي مفخر العلماء؟ أَمَا كان

الأنبياء يُضربون في سبيل تعليم الحق وإرشاد الناس ويهانون ويسبون ويشتمون

ويهجرون ويطردون بل وكثير منهم يقتلون؟ أليس العلماء أحق الناس بالأخذ

بآية {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر} (الأحزاب: 21) أما يعلم صاحب الأعذار أن رسوله أوذي في الله فأُلقي عليه سلا

الجَزور وهو يصلي ورمي بالأحجار وأُلجئ إلى ترك وطنه وشج رأسه وكسرت

رباعيته؟ أين الذين لا يخافون في الله لومة لائم؟ هل يرضى العلماء أن يكونوا

ممن قال تعالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ

النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت: 10) ؟ إذا كانوا يعلمون أن الله اشترى من

المؤمنين أموالهم وأنفسهم وكلفهم بأن يبذلوهما في سبيل الحق فكيف يعرضون عن

عمل يعترفون بأن فيه قوة الملة ومنعتها وعزها وشرفها إجابة لداعي الوهم وإخلادًا

إلى الراحة والكسل، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68) .

(العذر الثالث) ملخصه: كما في أسئلة جريدة طرابلس ما ترى: (هل لديك

من يضمن حسن العاقبة لهؤلاء الأخيار ويؤمّنهم على مستقبل حالهم إن تجشموا هذه

الأخطار) تأملوا - أيها الناس - وتعجبوا: (وتالله لئن كان لديك - أيها اللائم

حضراتِ العلماء على تقصيرهم المزعوم - من يضمن لهم أمر معاشهم ومعاش

عيالهم ويؤمنهم على حياتهم وشرفهم إن هم قاموا بما به عليهم حكمت أني أنا

الضمين بأنهم يتهالكون على إرشاد الأمة وبعث نفوس أهل الثروة إلى خدمة الأوطان

والسعي على مقتضى نوايا جلالة السلطان - نصره الله تعالى فهم - والله - ليسوا

في هِمَمهم دون همم سواهم من وعاظ الغرب، ولا أقل نشاطًا ولا أضعف قوةً، بل

فيهم الهمم العالية والنفوس السامية والإيمان الذي يحملهم على إخلاص النصيحة إن قدروا وسلموا، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) .

الجواب:

إن هذا العذر مبني على سابقيه؛ لأن حاصل العذر الأول أن الإرشاد المطلوب

يتوقف على الثروة فإن كان يوجد من يمد العلماء بالمال؛ فإنهم يقومون به. وحاصل

الثاني أن الذي يقوم بالإرشاد يكون عرضة للوم اللائمين وإيذاء المفسدين واتهام

المتهمين (وما أغنى العلماء عن المطاردة في هذا الميدان) نعوذ بالله من الغفلة،

وأما الثالث هذا فحاصله أن القيام بالإرشاد يشترط لوجوبه مع احتمال ما ذكر من

الأخطار أن يكون هناك ضامن يضمن للمرشد ولعياله حياتهم ومعاشهم وشرفهم،

ويدخل في ضمان الشرف ضمان الألسنة اللائمة والقلوب الشامتة، ولا شك أن

شركات الضمان الأوربية التي تضمن الأموال والأعمار إلى أجل مسمى لا تُقْدم على

ضمان الألسنة والقلوب التي يخاف صاحب طرابلس من لومها وشماتتها. فإن كان

يتنزل لنا عن ضمان الألسنة والقلوب اتباعًا لحكم الشرع واسترشادًا بنور العقل -

فإننا نضمن له ما عداهما.

ليؤلف في بلده جمعية من العلماء الذين وصفهم بما مر عنه، وليبحثوا في

أساليب التعليم النافعة والخطب المفيدة، وليتعاهدوا على التعاون بما يظهر لهم أنه

الأنفع، ثم ليعملوا، وليكن مما يتعاهدون عليه أن يكون كلامهم في النوادي والسمار

في مصلحة الأمة والملة عوضًا عن الكلام الذي يضيعون به الحياة العزيزة، وهو ما

نعلمه نحن ويعلمه هو. ليكفوا عن جعل الخطب في فضائل الشهور وبعض وقائع

الدهور. وليجعلوها سهلة العبارة. خالية من غريب المجاز والاستعارة ولا يتكلفوا

فيها التسجيع ولا أنواع البديع؛ ليفهم الناس جميع ما يقولون ويعلموا أنهم به

مخاطَبون، لا أنه مقصود بالذات، مكفر بأسراره للسيئات. ليجعلوا الخطب

والمناظرات والدروس والمذاكرات في هذه الأمراض الروحية والأدواء الاجتماعية

وفي مناشئها من العقائد الزائغة ومثاراتها من طريق الإرشاد الرائغة وبيان الحق بالحجج البالغة وزهق الأباطيل بالحقائق الدامغة. ليبينوا للناس حقائق التوحيد

والتوكل والزهد والتواضع والاقتصاد؛ ليعلموا أن مراعاة سنن الخلقة والتمسك

بالأسباب الظاهرة هو طريق السعادة في الدنيا، كما أن موافقة الأعمال للشريعة

الحقة هو سبب السعادة في العُقبى، وأن طلب الشهادتين بغير هاتين الوسيلتين غرور

وأن الكسل والذل والخمول والسرف والمخيلة والاحتجاج بالقدر والاستعانة بغير

الله تعالى والاعتماد على العفو والشفاعات مع التقصير في العمل - كل ذلك من

أسباب الشقاء والخذلان.

ولينظروا (أي: العلماء) مع ذلك في طرق التعليم والتأليف الجديدة،

ويعتمدوا على أقربها وأفيدها، ويرشدوا الناس إلى ما هم في أشد الحاجة إليه من

الفنون الرياضية والطبيعية، ويوضحوا لهم أن الدين والدنيا لا يُحفظان إلا بها.

هذه إشارة إلى ما تطلبه الأمة من العلماء، فهل يقول أستاذ طرابلس إن قيامهم

به يعود عليهم بالضرر والأذى -وإن الوجوب سقط عنهم لذلك أو يوجد ضامن يضمن

لهم ما ذُكر؟ إن كان يقول هذا فأنا الضامن له ولمن شاء من أهل بلده وغير بلده ما

سوى الألسنة والقلوب. حقًّا أقول: إنه إذا تدبر في الأمر فإنه يرجع عن أحكامه

واعتذاراته ويتثبت - بعد ذلك - في مثلها من الأحكام والإيمان وما يتذكر إلا مَن

ينيب.

_________

ص: 51

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌اختيار المعلمين

لا ينبغي أن يكون الغرض من إنشاء المدارس إفادة التلامذة بعض مسائل من

العلوم والفنون التي تدرس فيها بحيث تكون تلك المسائل مخزونة في أذهانهم مع

سائر المعلومات التي يستفيدونها من خارج المدرسة في عامة أحوالهم. وإنما يجب

أن يكون الغرض من المدارس نفخ روح السعادة الإنسانية في التلامذة. ولا يُنفخ

هذا الروح إلا بتربية النفس وتهذيبها ثم دلالتها على طرق الحياة وكيفية سير الناس

فيها على الوجه الذي يؤدي إلى المقصد من غير ضلال وبأقل تعب وعناء وبيان

قُطاع هذه الطرق التي تحول بين سالكيها وبين الغاية.

كل علم لا يهدي إلى طرق الحياة السعيدة فهو لغو، وأجدر به أن يسمى

جهلاً، والمشتغلون بهذا اللغو أو الجهل كثيرون بل هم الذين جعلوا العلوم والفنون

المرشدة إلى الأعمال النافعة لغوًا؛ إذ لا يوجد علم لا يهدي إلى عمل نافع للإنسان؛

فالعلم إما بيان للعمل اللساني أو العضوي أو القلبي، وإما ركن تستند إليه الهداية كعلم

العقائد، ولكن هؤلاء خرجوا بالعلم في التعليم والتأليف عن كونه مرشدًا هاديًا يبعث

الآخذ به ويزعجه إلى ما هداه إليه وجعلوه مقصدوًا لذاته. جعلوه عالمًا مستقلاًّ لا

مندوحة لمن يشرف عليه عن الانفصال عن العالم الوجودي. وعندما ينفصل عن

العالم الوجودي يمكنه أن يتصل بذلك العالم الخيالي (الذي يسمونه العلم) ويشاهد

بعض ما فيه من العجائب التي يتأتَّى له بها أن يحكم على بعض الجزئيات في عالم

الوجود بالصحة أو الخطأ إن هي عرضت له.

ويرى هؤلاء أن عالم الخيال الذي هو علمهم له الحكم والسلطان على عالم

الوجود. فإذا قرر بعض علمائهم مسائل مخالفة لما في الوجود، ولا تنطبق على سنن

الخليقة ومصالح البشر يذهبون إلى صحة ما قاله عالمهم وفساد ما في الوجود

والواقع، وإلى وجوب تبديل سنن الخلق وتحويل المصالح؛ لتوافق ما جال في خيال

المرحوم الأستاذ المؤلف، وهو في غرفته منقطعًا عن العالم أو ما أُلهمَه وهو في

خلوته بعيدًا عن الناس يستمد العلوم والحقائق من عالم الغيب، ولكن من عرف سنن

الخليقة يعلم أن محاولة تحكيم الخيال فيها عبث وجنون، وأن كل خيال يخالف الحقائق

ويصادم النواميس والمصالح جهل لا علم، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. ولا في دينه

حرجًا.

تعليم أمثال هؤلاء مضر غير نافع فينبغي أن لا يفوض إليهم أمر التعليم فإنهم

إذا حكموا في نفوس الأحداث الضعيفة يجورون في الحكم ولا يعدلون، ويفسدون في

أرضها ولا يصلحون.

إن اختيار الأساتذة والمعلمين أهم ما تحتاج إليه الأمم المريدة للإصلاح

والطالبة للترقِّي كالأمم الشرقية عامة والمسلمين خاصة، أوّاه أواه! ينهض رجل

غيور محب للمجد الصحيح والكمال الحقيقي فيؤسس مدرسة وطنية لخدمة أمته

ورفعة شأنه فيختار لها مكانًا حسنًا، ويجلب لها من الأثاث والأدوات أحسن ما يكون

في أمثالها، وماذا يكون من أمره في اختيار المعلمين وهم روح ذلك الهيكل الحسن؟

ما هي المرجحات التي تلاحظ في الاختيار من صاحب المدرسة ومستشاريه؟ يختار

في الغالب من لديه شهادة بالتحصيل، ولهم الحق في ذلك؛ لأن أصحاب الشهادات

أعلم من غيرهم في الأكثر، فلا ينبغي العدول عنهم إلا لمن يفضلهم بالمزايا التي

سنذكرها، ثم يرجح من هؤلاء من يتصل بأهل الترجيح والاختيار بقرابة أو صحبة

أو من يتخذ وسيطًا من الوجهاء. ومن المرجحات المسلمة عند الشرقيين في مثل هذا

من الأمور العامة حتى أعمال الحكومة ووظائفها حاجة الرجل إلى التعيش بالوظائف

يقولون: فلان صاحب عيال، فلان من آل البيت الفلاني الذي انتابته

النوائب، فمن المروءة والكمال السعي في حفظ كرامته وإبقاء مظهره وبذلك نستحق

الأجر من الله تعالى، يقولون هذا ويعملون به وهم في غفلة عما يخربون من البيوت

بعمران هذا البيت وعما يذهبون به من كرامة الأمة كلها إذا كان الموظف غير أهل

لعمله، وعن حرمان الأمة من أبنائها النبلاء إذا لم يكن قادرًا على تربيتهم وتعليمهم

على الوجه الذي يكون هاديًا إلى سعادتهم وسعادة بلادهم.

أول ما تجب مراعاته في الأستاذ المعلم:

* حسن الخلق والآداب؛ فإن سيء الأخلاق يبني بتعليمه قصرًا ويهدم بإفساده

آداب التلامذة مصرًا.

* ويلي هذا معرفة أساليب التعليم وتمرنه عليها، فليس كل عالم يحسن التعليم.

* ثم معرفة جملة من علم الفلسفة العقلية وعلم الهيجين (مداراة الصحة)

ليعرف ما ينبغي أن يلقَّن للتلميذ بحسب سنه واستعداده العقلي.

* وبعد هذا وذاك يُشترط أن يكون الأستاذ واقفًا على أحوال عصره

الاجتماعية عارفًا بمواضيع جميع العلوم والفنون المتداولة فيه وغاياتها في الجملة،

لئلا ينفر التلامذة من غير الفن الذي يقرؤه لهم مما يكون نافعًا للبشر. ومعاداة العلوم

والفنون إنما تكون من الجهل بها، وهي من أكبر أسباب تأخر الأمم وضعفها لا سيما

إذا كانت من رجال الدين الذين يذمون ما يجهلون وينفرون عنه بحجة أنه مخالف

للدين، فتأخذ آحاد الأمة كلامهم بالقبول، فيُحرَمون من الإقبال على تلك الفنون النافعة

واجتناء ثمارها.

* وصفة أخرى من الصفات التي يرجح بها اختيار المعلمين وهي الغيرة

الملية والحمية القومية؛ فمن فقد هذه الصفة قلما تستفيد الأمة من تعليمه أبناءَها.

صاحب هذا النعت الشريف هو الذي ينفخ الكمال في جسوم التلامذة، ويحبب

إليهم أوطانهم، ويغرس في نفوسهم مبدأ الميل إلى المنافع العامة. وهذه الصفة من

كمال تهذيب الأخلاق الذي ذكرناه أولاً وإنما أفردناها بالذكر؛ لأن أكثر الناس لا

يخطر لهم هذا المعنى ببال عندما يذكر تهذيب الأخلاق، وقد قال بعض الباحثين في

فن التربية والتعليم من الإفرنج: إن مما تنبغي مراعاته في الأستاذِين: حسن

الوجه ونظافة الثياب لما لهما من التأثير في حب التلامذة لهم واقتدائهم بهم.

ولَعَمري إن حب التلميذ لأستاذه من أعظم أسباب انتفاعه به، ومن ينفر من

معلمه لأي سبب من الأسباب قلما ينتفع به.

هذا ما عَنَّ لنا في هذا المقام فعسى أن يلتفت إليه أصحابُ المدارس الوطنية

وطلابُ العلم المختارون في انتقاء الشيوخ، والله الهادي إلى سواء السبيل.

_________

ص: 56

الكاتب: محمد رشيد رضا

وصايا للحوامل

أو تربية الجنين

1-

تجتنب الحبلى المآكل الغليظة العسرة الهضم والكثيرة الدسم والتوابل،

ولا تزيد من تناول الأطعمة اللطيفة عن الاعتدال لا سيما في أوائل الحمل؛ حيث

تكون معرضة لسوء الهضم، وما تزعمه النساء الجاهلات من أن الحبلى تحتاج إلى

كثرة الأكل في أوائل الحمل خطأ، والصواب أن ضرر التخمة في أوله أكثر منه في

آخره، والاعتدال أسلم في كل حال.

2-

تجتنب أشد الاجتناب شرب المسكرات؛ فإنها تهيج الدم وتكون

سببًا في قلة نمو الجنين فيأتي صغيرًا وضئيلاً، ولا تُكثر من شرب المنبهات

كالشاي والقهوة.

3-

ينبغي أن تكون أوقات أكلها ونومها مرتبة ومعينة بانتظام.

4-

تلبَس من الثياب والأحذية الواسع الذي لا يضغط الجسم والرجلين،

أما الجسم - لا سيما البطن - فظاهر، وأما الرِّجلان؛ فلأنهما في مدة الحمل يكونان

عرضة للتورم.

5 -

تعتني بتنظيف جسمها، وتجتنب الاغتسال بالماء الحار والبارد؛ وفي

مهاب الهواء كالبحر والنهر، وأفضل الماء للاغتسال ما كانت حرارته كحرارة

الجسم أو تزيد قليلاً.

6-

من أهم النظافة نظافة غرفة المنام وتجديد هوائها، وتعريضها للشمس؛ فإن

استنشاق الهواء النقي ضروري لحفظ الصحة.

7-

من المهمات التي تهملها نساء الأغنياء الرياضة، وهي ركن من أركان

الصحة، وتتأكد العناية بها في وقت الحبل. أما نساء الفقراء فهن مضطرات إلى

الرياضة، وإنما يؤمرن بمراعاة الاعتدال في أثناء الحبل؛ لأن الرياضة العنيفة تضر،

وربما تفضي إلى الإسقاط، على أن اللواتي يعتدن الراحة والكسل أكثر تعرضًا

للإسقاط، وتألمًا من الولادة، فعلى الغنية الوهنانة (الكسلى من التنعم) أن تكلف

نفسها الرياضة المعتدلة ولو بالخدمة في البيت، وأن تمشي أحيانًا في الأماكن النقية

الهواء، وتجتنب العَدْو والوثبان والرقص. ونرى الكثيرات من الحوامل يقضين

معظم النهار مستلقيات، فيستولي عليهم الضجر والسآمة والإقهاء (فقد شهوة الطعام)

والاستلقاء أحيانًا لازم لا سيما عندما تثقل الحامل، وحيث يخشى من الإسقاط.

8-

ينبغي الاحتراز من كل ما يهيج الانفعال الشديد كالخوف والفزع

والحزن، وذلك بالتباعد عن أسبابه، وبالتلاهي والتسلي إذا وقعت الأسباب.

9-

ينبغي أن لا يحسب الحبل مرضًا من الأمراض، فتتوهم صاحبته أن

الأخطار محدقة بها؛ فإن هذا الوهم ربما يضنيها ويؤثر - إذا قوي - في جنينها.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 60

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقاريظ

(دائرة المعارف)

كل مشتغل بالعلوم والفنون تعرض له عند المطالعة أو التأليف مسائل يحتاج

إلى المراجعة عنها في كتبها الخاصة بها، كما يعرض له ألفاظ مفردة لا يعرف

ضبطها أو معناها، فيفتقر إلى مراجعتها في معاجم اللغة، ولا يخفى أن في مراجعة

كل مسألة في كتب الفنون كلفة وإنفاق جزء كبير من الوقت؛ ومن ثم كانت الحاجة

شديدة إلى تأليف كتب في اصطلاحات العلوم والفنون، وأسماء المدن والأمكنة

والمعادن والنبات والحيوان، وتراجم مشاهير الرجال، وقد ألف علماء الإسلام في

كل نوع من هذه الأنواع كتبًا خاصة بها في أيام حضارتهم ومدنيتهم، ثم دالت العلوم

والفنون إلى الغرب فألفوا في ذلك كتبًا شتى، ومنها النوع الذي يسمونه

(إنسكلوبيديا) .

ولما اشتغل أهل المشرق بالعلوم الغربية لم يكن لهم بد من هذا النوع، ولم

ينتدب له من الناطقين بالعربية غير الحسن الذكر والأثر المعلم بطرس البستاني أحد

أركان النهضة العلمية الأخيرة في بيروت، فشرع في تأليف إنسكلوبيديا عربية

سماها (دائرة المعارف، قاموس عام لكل فن ومطلب) وساعده في ذلك ولده سليم

أفندي الذي كان خير مثال له في علمه وفضله وهمته وإقدامه. وبعد أن اخترمت

المنون الوالد ظل يشتغل بها الولد، ثم من بعده لم يؤلَّف إلا جزء واحد هو

التاسع، وتوقف العمل، ولكن بيت البستاني بيت العلم والهمة، وقد انتدب أخيرًا

لإتمام الدائرة منهم العلماء الأفاضل سليمان أفندي ونجيب أفندي ونسيب أفندي

فأصدروا الجزء العاشر على منوال الأصل في الفوائد والرسوم، ويزيد على الأجزاء

السابقة بما زاد في العلم من التحرير والاكتشاف وهو مفتتح بمادة (سليكون) من

حرف السين، ومختتم بترجمة السلطان (صلاح الدين) فنشكر لهؤلاء الأفاضل

سعيهم، ونرجو لهم النجاح والتوفيق لإكمال عملهم، وعسى أن يساعدهم قراء العربية في ذلك بالإقبال على الكتاب.

***

(تاريخ المشرق)

التاريخ من العلوم التي لم تبلغ كمالها إلا في الغرب، ولقد كان أقرب إلى

الأفاكية المسلية منه إلى العلوم المفيدة، فأمسى أعظم مرشد للناس في جميع الشؤون؛

لأنه هو الذي يشرح سير البشر في بداوتهم وحضارتهم، وفي علومهم وآدابهم

وأديانهم وأعمالهم، وما يحتف بها من أحوال معايشهم في كل قطر من أقطار

الأرض. وإن الأمم الشرقية في أشد الحاجة إلى كتب التاريخ المؤلفة على الطراز

الجديد النافع؛ لأنها ركن من أركان التقدم لا يقوم بدونه.

وقد أهدانا حديثًا الكاتب الشهير عزتلو أحمد بك زكي السكرتير الثاني لمجلس

النظار نسخة من ترجمته لكتاب (تاريخ المشرق) الذي ألفه بالفرنسية المسيو

ماسبيرو، وهو كتاب قد جمع على اختصاره ملخص التاريخ القديم لمصر والكلدانيين

والآشوريين والفينيقيين والماديين والفرس، وفيه من الرسوم والخرائط ما تتم

به الفائدة منه، وقد علق عليه جناب المترجم شروحًا في ضبط بعض الأسماء

المبهمة وبيان أصلها وغير ذلك مما لا غِنْية عنه، وقد قدرت نظارة المعارف الكتاب

المترجم قدرَه، فطبعته على نفقتها وأمرت بتدريسه في المدارس الأميرية.

فنشكر لحضرة المترجم فضله عسى أن يكون الشكر سببًا في المزيد.

_________

ص: 61

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الحدود بين القطر المصري والسودان

جاء في جريدة الوقائع المصرية ما نصه:

صورة ما صدر من الداخلية لمحافظة النوبة بتاريخ 26 مارس سنة 1899

نمرة 9 إدارة بشأن الحدود الفاصلة بين مصر والسودان.

قد اطلعنا على إفادة حضرتكم رقم 14 مارس سنة 1899 نمرة 19 محاسبة

المتضمنة أنه بناءً على طلب جناب قومندان حلفا، وتنفيذًا للوفاق المبرم بين حكومة

جلالة ملكة إنكلترا والحكومة المصرية بتاريخ 19 يناير سنة 1899 فيما يختص

بالحدود الفاصلة بين مصر والسودان - قد تقرر فيما بين حضرة القومندان المُومَى

إليه وضابط بوليس التوفيقية من جهة، وبين مأمور فرقة أملاك الميري بمحافظة

ذلك الطرف ومعاون بوليس مركز حلفا من جهة أخرى على جعْل نهاية حدود بلاد

السودان شمالاً من الجهة الغربية على مسافة 200 متر شمالاً من البربه بناحية

فرص ومن الجهة الشرقية على البريّة الكائنة بناحية أدندان، وأنه وضع هناك

علامتان مكتوب على وجهة كل منهما الشمالية (مصر) والجنوبية (السودان)

وكان ذلك بحضور عُمد ومشايخ الناحيتين المذكورتين.

ونتج عن هذا أن ناحية فرص التي تتبعت للسودان تُرك من زمامها لمصر 3

أفدنة وقيراطان أطيانًا و58 نخلة، وترك السودان من زمام ناحية أدندان التابعة

لمصر 99 فدانًا و7 قراريط أطيانًا و150 نخلة، وأنه بهذا التحديد دخل حدود

السودان من بلاد المحافظة عشرة بلاد، زمامها 4094 فدانًا و12 قيراطًا و2 سهمًا

أطيانًا بما في ذلك 112 فدانًا و5 قراريط و11 سهمًا أطيانًا غير مربوطة و2206

نخلة ومقدار أهاليها 13138 نفسًا، وأنه بناءً على ما ذكر رأيتم تقسيم البلاد

الباقية من مركزي حلفا والكنوز على مركزين كما كانا حسب الآتي بعد:

أولاً: مركز حلفا يُسَمَّى بمركز الدر ويكون مقره ناحية كروسكو ويتبع له 22

بلدًا من أدندان إلى شاترمه شمالاً، حيث يكون امتداده 152 كيلو متر وزمامه

9117 فدانًا و10 قراريط و8 أسهم أطيانًا و254193 نخلة وتعداد أهاليه 31703

نفسًا.

ثانيًا: مركز الكنوز يسمى بمركز أبي هور ومقره بناحية أبي هور ويتبع له

18 بلدًا تبتدئ جنوبًا من ناحية المضيق إلى ناحية الشلال شمالاً، حيث يكون

امتداده 144 كيلو متر وزمامه 8025 فدانًا و5 قراريط أطيان و110440 نخلة

وتعداد أهاليه 22319 نفسًا.

وهذا حسب المبين بالكشف الوارد مع الرسم النظري على إفادتكم المذكورة،

وقد تصادف ورود مكتوب من نظارة المالية نمرة (5) أموال مقررة بأنها وافقت

على ما ذكر بناءً على الإخطار الذي أرسلتموه لها أيضًا، ولكنها ترى أن مركز

حلفا يكون اسمه مركز كروسكو لا الدر كما رأيتم وأن المديرية تسمى مديرية

(أصوان) وقد أوضحت في مكتوبها علاوة على ما بينتموه في إفادتكم الداخلية

أسماء العشرة بلاد المذكورة وهي نواحي سره شرق وفرص وجزيرة فرص ودبيرة

وسره غرب وأشكيت وأرفين ودغيم وعنقش وديروسه وأن فيها عدا الزمام الذي

ذكرتموه و720 فدانًا، و5 قراريط و8 أسهم أطيانًا من أملاك الميري الحرة،

وحررت لحضرتكم بذلك.

وحيث إننا قد وافقنا أيضًا على هذا التحديد الشامل لعدد البلاد والأهالي

ومقادير الزمام المذكورة مع تسمية مركز حلفا بمركز كروسكو كما رأت المالية

وكاسم الناحية التي سيكون بها وتسمية المحافظة بمديرية أصوان فاقتضى ترقيمه

لحضرتكم بذلك ولنظارات الحقانية والأشغال والمالية للعلم به.

...

...

...

...

ناظر الداخلية

...

...

...

...

(مصطفى فهمي)

_________

ص: 63

الكاتب: أحد أفاضل الكتاب في دمشق ـ الشام

‌الإصلاح الإسلامي

لأحد أفاضل الكتاب في دمشق -الشام

رنّ في هذه الأيام صدى كلمة الإصلاح في هيئة المجتمع الإسلامي لتقويم أوده

وإرجاع سالف مجده، وهي الكلمة التي أصغت لسماعها الآذان حينًا من الدهر،

ورصدت لها العيون ظهورًا في هذا العصر، وقد أخذ نبهاء الكتاب، ممن أوتوا

الحكمة وفصل الخطاب - في سلوك سبل توصل إلى هذا المقصد العزيز، وأناروا

مصباح رأيهم في هذا الميدان الرحيب، الذي ضربت عليه سرادق ظلام الجهل،

وخفيت فيه أنوار العلم والفضل، حتى تاهت في بيدائه العقول وحارت في أرجائه

الألباب، إلى أن أسفر للبعض منهم صبح من الإصلاح سار تحت ضيائه، وأرشد

الكافة إلى نوره وسنائه، والبعض لاح له حباحب يضيء، فظن أنه سيظهر شمسًا،

أو يكون في عالم الإصلاح بدرًا، والبعض رأى ما رأى مما وقفتم عليه في الجرائد،

ولكلٍّ وجهة اتجه إليها، وعول فكره عليها، إلا أن من سبر غور الحوادث وتتبع

سير تقلباتها وتنوع أطوارها - علم أن سيرها على جادة مستقيمة وخطة قويمة ما

كانت تحدث طفرة بل بسير متتابع بعضه خبب وبعضه عنق.

ونحن إذا نظرنا إلى ما اقترحه الكتاب من الأخذ بالأسباب المزعوم بها

الإصلاح وجدنا مقترحهم من نوع الطفرة التي هي محال في سير الزمان وتقلبات

الأحوال، وقد تبرعوا به في غير وقته، وكان الأجدر أن يلتفتوا إلى ما هو أمامه من

العقبات التي تعيق دون الوصول إليه فإذا مهدت ظهر نجاح مقترحهم [1] (لا ندري

من يريد بطالبي الطفرة) .

وما دامت هذه الأطواد الشوامخ حائلة في طريق الإصلاح ولها السيطرة القوية

والنفوذ التام على الخاص والعام فمن المحال الوصول إلى المطلوب إلا بالطريق

الذي سلكت عليه أوربا أول حضارتها، وقد علمتم أسبابه وكشفتم نقابه. وفي مقدمة

تاريخ (شرلكان) ما فيه كفاية للوقوف على نهضة الأمم الغربية من رقدتها، وكيف

زحزحوا العقبات الناشبة في طريق تقدمهم حتى ظفروا ببغيتهم، ولم يتنبه

المعترضون في سبيلهم إلا والقوة كانت في طرف أخصامهم فهبوا إلى إثارة شرار

الشر ضدهم فلم ينجحوا، وخاب مسعاهم فلم يفلحوا، أو بالطريق الذي سلكت عليه

اليابان في تقدمها ونشأة حضارتها إلا أن هذا متوقف على نشاط ملوك

الإسلام وإمدادهم فيه.

فأُولى هذه العقبات عقبة النفع الذاتي الذي يتخلل الأعضاء والجوارح وتنمو

الأجسام عليه حتى صار ملكة راسخة يعسر زوالها ولا يرجى برؤها، وهي أعظم

حائل دون المرام من الإصلاح، وما دامت هذه الروح الخبيثة تتردد في شغاف القلب

وتجول في ميدان اللب، فلا وأبيك نرى إصلاحًا لفسادنا ولا نجاحًا لأعمالنا (إنما

يضر حب الذات الذي تضيع به الحقوق العامة وهذا عرض يزول بالتربية والتعليم

الصحيحين) .

والثانية من هذه العقبات العصبية القومية التي إذا التفتنا إلى جهتها نقضي

لأول نظر باليأس من النجاح في خطة التقدم والفلاح؛ فإن ما نراه ونسمعه من

السعي في إفساد ذات البين الذي جاء الإسلام بحظره وخطره يحملنا على إنكار القول

بإمكان الإصلاح (هذا غلو في اليأس) ولا يخفى أن الأمة الإسلامية وحدت كلمتها

وضمت متفرقها برفع المغايرات الجنسية، فإذا انحلت هذه الرابطة ونظر كل شعب

وقبيل إلى نفعه حكم بتفريقها وتوزيع سلطتها ضرورة كالحبل المؤلف من أجزاء، فإذا

انحلت أجزاؤه ذهبت متانته وتلاشت منه القوة التي يقتدر بها على حمل الأثقال، وقد

استلفت الدين الإسلامي الجمهور إلى التمسك بعروة الإخاء الديني كيلا تتمكن

الدسائس الإبليسية والشهوات النفسانية من حل عُرَاه، وقد أبت السياسة الخرقاء إلا أن

تفرق هذه القبائل والشعوب التي أمر الله بتعارفها وائتلافها لوجهة من السياسة مظلمة

وطريق من التحكم وعر.

وإذا نظرنا إلى تقابل الطوائف الإسلامية التي فرقتها اللغات وجمعها الدين نراه

كالتقابل بين الأمم التي فرقتها الألسن، والأديان ولا يسعنا الحال الحاضر أن نبين

مقدار الانفراج الحاصل بين الشعوب الإسلامية؛ لئلا ينكشف الطلاء.

الثالثة منها الاختلافات الطرائقية والمذهبية، ولا يحقر شأن هذه الاختلافات

التي باعدت بين الأمة وقد أحدثت خللاً عظيمًا يصعب تلافيه.

الرابعة منها السعي في إفساد الأخلاق والآداب من أفراد يعلم شأنهم.

الخامسة منها السعي في انحطاط درجة علماء الدين من أنظار الأمة، وقد أخذ

بعضهم في لومهم لتقصيرهم عن القيام بإرشاد الأمة، وقد ذهل اللائم عن السبب

الباعث على سكوتهم وسكونهم وما هو إلا ما اتُّخِذَ من الحجر على أسباب معاشهم

وحصرها تحت يد مَن يتسنى له تسييرهم على مقتضى أغراضه وأهوائه (تأملوا

أيها العلماء بماذا يدافع عنكم من يعذركم من الأمة فما بال من يعذلكم؟ !) ولم يزل

السعي بتقليص نفوذهم من أنظار الأمة بأسباب معلومة واتخاذ من تشبه بهم من

أراذل الناس في الوظائف؛ لتتسع دائرة التهم عليهم فينحط شأنهم ويسقط سلطانهم.

ويكفي لانحطاط شأنهم ما يلقى في بعض المكاتب العالية إلى التلامذة من بعض

المعلمين من أن علماء الدين هم السد بين الأمة والترقي (ولماذا لا يكذبونهم بفعلهم؟)

وهذا الفكر تلقفوه من الأورباويين وقلدوهم في إطلاقه، وما علموا الفرق بين

سلطة العلماء في الدين الإسلامي وسلطة رؤساء الدين المسيحي؛ فإن من تتبع

تواريخ الأمة الإسلامية لا يقدر على إثبات حادثة تسند إلى علمائه تداخلاً في شؤون

الحكومات إلا ما كان من ضمن دائرتهم، ولم يكونوا في عصر ما حاجزين الناس عن

تعلُّم ما يفيد في معاشهم ومعادهم (في هذا نظر ظاهر إلا إذا أراد الحجز بالقوة

وليس من شأنهم) والتصانيف العديدة في أنواع العلوم والمعارف شاهدة (أين

مصنفات علماء هذا العصر من الفنون؟ !) وإعطاء حرية الأفكار ضمن صحائفها

مما يعلم به درجة التقدم، وثمة عقبات وسدود أرجأتها لوقت آخر.

...

...

...

...

(م. ع. م)

(المنار)

لقد جمعت هذه المقالة على إيجازها ما لم تجمعه المطوَّلات التي كُتبت في

موضوعها، لكن فيها إجمالاً وإبهامًا لا بد معهما من بعض البيان والتفصيل.

أشار الكاتب إلى أن للإصلاح طريقين اثنين لا ترتقي أمة إلا بأحدهما أو

كليهما. ذلك بأن الارتقاء إما أن يكون من قبل الأمة كارتقاء أوربا، وإما أن يكون من

جانب الحكومة كارتقاء اليابان التي نهض بها إمبراطورها (الميكادو) نهضة واحدة

وقد أشار الكاتب إلى هذا بقوله: (إلا أن هذا متوقف على نشاط ملوك الإسلام

وإمدادهم فيه) ، وكان الأَوْلى أن يقول: متوقف على نهوض ملوك المسلمين وأمرائهم

وقيامهم به. وأما الأول فقد بينه بعض البيان بذكر العقبات الخمس. ذكر خمس

عقبات وسكت عن بعض العقبات والسدود أو أرجأها، ولكنه أهمل بيان الأطواد

الشوامخ التي يسهل بالنسبة إليها كل حَزَن وتقتحم كل عقبة.

تلك الأطواد مؤلفة من سلسلتين عظيمتين، وهما: رجال الدين، ورجال

الحكم والسلطان. فقد كان الفريقان متحدين في أوربا على مقاومة: كل ما يسمى

علمًا واكتشافًا واختراعًا وحرية وعدالة ومساواة، وإن شئت قلت: مقاومة كل ما

يصرف قلوب الناس عن العبودية لهما ويجعلهم مستقلين في إدارتهم كاملين في

إنسانيتهم. أما رجال الدين، فكانوا يعادون بالعقل والعلم ونتائجهما باسم الدين وكانوا

يزعمون أن كل علم أو عمل لم ينطبق على ما في كتبهم الدينية - فهو كفر وإلحاد،

ومن جاء به مباح الدم والمال. وكان الملوك والحكام تبعًا لهم ومنفذين لإرادتهم، وما

ذلك إلا لأن الفريقين كانا مشتركين في تلك السلطة المطلقة والمشيئة النافذة، وما كانا

يقابَلان به من الخضوع الأعمى والطاعة التامة. نعم، كانوا يعادون العلم؛ لأنهم

جهلاء، والناس أعداء ما جهلوا، فلما علموا صاروا أنصار العلم وأعوانه، كانوا

يرون أن العلم يصدهم عن حفظ الدين، فصاروا يعتقدون أنه لا يمكن حفظ الدين

وإبقاء شرفه إلا بالعلم؛ ولذلك ترى نظار المدارس وأكثر أساتيذها من الرهبان

والقسيسين، بل معظم المدارس في الغرب والشرق للجمعيات الدينية، وهل الترقي

إلا بالمدارس وفي المدارس ومن المدارس. فمبدأ ترقي أوربا الإصلاح الديني

وإمام المصلحين فيها هو الرجل العظيم (لوثر) .

ونتيجة هذا كله أن الإصلاح الإسلامي يتوقف قبل كل شيء على إقناع العلماء

ورجال الدين بأن العلوم الرياضية والطبيعية - التي هي محور الثروة والقوة والعزة -

ضرورية لا مندوحة عنها، ويجب أن تُعلم مع الدين وأن يقوم بتعليمها رجال الدين؛

لأن تركها للمدارس الأميرية والأجنبية التي يقولون: (لا دين فيهما) - يجعلها

خاصة بمن لا دين لهم وهؤلاء لا يرجى منهم خير للأمة والملة ولا يسقط الوجوب

بهم، وتركها بالكلية مُذهب للدنيا والدين؛ إذ الدين لا يمكن حفظه إلا بالدنيا فتعين

أن يجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا (الرياضيات والطبيعيات) .

وإن الشريعة الإسلامية تصرح بأن تعلم الصناعات التي يحتاج إليها البشر في

معاشهم واجبة على مجموع الأمة، وأن ما يتوقف عليه الواجب المطلق كالجهاد واجب

أيضًا، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الجهاد والصناعات ممكنة بغير هذه الفنون،

مع هذا كله نجد أكثر رجال الدين عندنا يعادون هذه الفنون وأهلها بل يكفرونهم،

ومنهم من عمي عن الوقت والزمان فزعم أنها لا حاجة إليها ألبتة. ومن العجيب أن

فقههم يقتضي أن تعلُّم الفنون العسكرية التي يتوقف عليها الحرب - فرض عين في

أكثر البلاد الإسلامية وهذا الحكم الذي لا نزاع فيه بينهم يستلزم أن جميعهم فساق

تاركون للفريضة، وربما يستلزم أكثر من هذا لا سيما باستحلال هذا الترك.

هذا وإن هناك عقبات أخرى في طريق الإصلاح دخلت على الأمة من خروق

وكوى فتحت في جدار الدين، فإذا لم تسد هذه الخروق والكوى فإن الإصلاح يكون

كالعلاج مع تناول الأغذية المضرة، وقد أخذنا على نفسنا الدأب في هذا العمل

الشريف طول حياتنا، ولنا الرجاء في عقلاء العلماء أن يوازرونا ويعضدونا ولا بد

أن ينتهي هذا الجهاد بانتصار الحق وانكسار الباطل والعاقبة للمتقين.

وأما السلسلة الأخرى (الأمراء والحكام) فإنها لا تغلب إلا بالعلم فهي تستبد

في الأمر وتستعبد الرعية ما دامت الرعية جاهلة خرقاء، فإذا علمت ما لها وما عليها،

وصارت رشيدة عاقلة؛ يرتفع الحجْر والاستبداد بالطبع. ولله در السيد جمال الدين

الحكيم الإسلامي الشهير حيث كان يقول: (إن العاقل لا يظلم لا سيما إذا كان أمة) ؛

ولهذا نقول: إن المطالِب بالإصلاح قبل كل أحد العلماء وهذا. هو المراد بكونهم

ورثة الأنبياء. وكل العقبات التي ذكرها الكاتب الفاضل تزول بإرشادهم وإصلاحهم إذا هم قاموا به على وجهه إن شاء الله تعالى.

ثم إن لنا كلامًا في العقبة الخامسة: وهو أن ما ذكره من السبب في سكون

العلماء وسكوتهم عن الإرشاد صحيح إلا أنه لا ينهض حجة شرعية ولا عقلية على أنه

عذر لهم عند الله والناس، إلا إذا كانت الرشوة حجة على عذر المرتشي إذا هو ظلم

وضيع الحقوق، نعم، إن الحكومة استمالتهم إليها بجعل معاشهم من الأوقاف في

قبضتها، وبإعطائهم الرتب والوسامات حتى أذعنوا لباطلها وسكتوا على انحرافها

عن جادة الشرع، بل صاروا يمدحونها ويعظمونها تملقًا ونفاقًا حتى سقطوا من

عين الأمة والحكومة معًا، وضعف نفوذهم فيهما، ولو وقفوا عند الحدود المشروعة

وقاموا، بوظيفتهم المقدسة مع مراعاة الحكمة لزادهم الحكام والمحكومون تعظيمًا

وتبجيلاً، ولكل هذا أمثال مشهودة لا يستطيع أحد إنكارها.

ثم إن جماهيرهم مُعْرضون عن معرفة أحوال الوقت في غيبة عما يحتاجه

الناس وعن طرق الوصول إلى تلك الحاجات بحسب الزمان والمكان، ولذلك صار

الناس لا يشعرون بأن لهم حاجة إلى العلماء إلا في مسائل شاذة نادرة. ويسهل

عليهم أن يختبروا حال الأمة بالامتزاج بالعامة وتقصي أمورها المعاشية والدينية

والأدبية والوقوف على رغائبها ثم إيقافها على ما تحتاج الوقوف إليه من الطرق

التي يوافق رغائبها ويسهل عليها سلوكها.

عند هذا تشعر الأمة بشدة حاجتها إليهم فتزيد في تعظيمهم وتبجيلهم وإكرامهم

ولهذا أيضًا أمثلة مشهودة لا يستطيع إنكارها إلا من يكابر الحس وينكر الموجود. من

فهم هذا يتجلى له أن المنار قد خدم العلماء وتعمَّل في زيادة تعظيم شأنهم؛ حيث قد

ألقى معظم تبعة الأمة عليهم؛ لأن أكثر الناس كانوا يظنون أنه لا شأن لهم في

الإصلاح، كما أنه خدم الحكام بعدم حصر التبعة فيهم كما كان يعتقد السواد

الأعظم، وما أقصد بهذا وذاك إلا بيان الحق والإصلاح من طريقه، والله عليم

بذات الصدور.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

كل ما كُتب بين قوسين في هذه المقالة فهو عن لسان المنار.

ص: 65

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تأثير الوعظ والتذكير

كان منشئ هذه الجريدة جالسًا يومًا من أيام رمضان في مقصورة ضريح سيدنا

الحسين عليه السلام والرضوان) وبجانبه شيخ من أكبر علماء القطر المصري

فنظرنا إلى القوم الذين يُقبّلون الأرض وقفص النُّحَاس الذي على القبر ويستغيثون

ويطلبون حاجاتهم، فقرأ الشيخ:{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: 52) وأشار إليهم، فقرأت أنا:{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: 53) ثم قلت له: ما بالكم - معاشرَ العلماء - ساكتين على هذه

المنكرات وقد وصلت إلى هذا الحد؟ ! فقال: إن الزمان قد فسد فلا يلتفت الناس إلا

إلى الباطل. قلت: إن الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه، فإذا تصارع هو والباطل

وثبت - فلا بد أن تنتهي المصارعة بالغلب له، فقال:(إذا ثبت!) قلت: وما

يمنعه من الثبات؟ ! قال: إن المشتغلين بالوعظ المضر والتعليم الممزوج بالخرافات

يسعون في منع من يُعلِّم تعليمًا صحيحًا ويَعِظ وعظًا نافعًا، ويساعدهم من يتصلون

به من الكبراء، ويطعنون بالواعظ الصادق المطاعن الدينية والسياسية. قلت له:

على كل حال يجب على صاحب الحق أن يُظهره حتى يُمنع، ويجاهد به جهادًا

كبيرًا أو يُغلب على أمره. قال الشيخ: لو تصدّى عالم لقراءة التوحيد الصحيح

والأخلاق لا يُقبِل عليه الناس؛ ولكنهم يقبلون على القُصّاص الذين يوافقون

أهواءهم. قلت: الأمر يخالف ذلك؛ فإن حوادث الزمان قد أعدت النفوس إلى

قبول الحق وطلب الإرشاد الذي ينتاشهم من هذه المهاوي وينقذهم من هذا

الشقاء، وإنني قد بلوت الناس فألفيتهم كما حدثتك، وها أنا ذا أقرأ درسًا هنا وقد

أقبل عليَّ الناس إقبالاً لم يكن يُنتظر، وصاروا يتحدّثون من أول يوم بنفعه، حتى

قال بعضهم: لو أن عندنا مائة مدرس كهذا لما حلَّ لنا ما نحن فيه من الرزايا. قال

الشيخ: وهل أقبلوا عليك كما يقبلون على فلان؟ فنقول إن التعليم النافع يروج كما

يروج غيره مثلاً؟ ! قلت له: لا، ولكن السبب في زيادة إقبالهم على فلان ليس هو

تفضيل تعليمه، ولكنهم اعتادوه بطول الزمن مع موافقته لرغائبهم كما قلتم، وأنا أرجو

أن يرجحوا جانب الحقيقة الذي فيه مصلحتهم على جانب التمويه الذي فيه لذّتهم إذا

وجد من يُمَيِّزُ ذلك لهم.

هذا ما دار بيننا من المحاورة والتَّجْرِبَة تشهد لما قلته آنًا بعد آن، وإليك هذه

الواقعة التي حدثت في هذه الأيام.

قام أحد الشيوخ في هذه الأيام يرغِّب الناس في الحج في مديرية الشرقية

ويحثهم على أدائه في هذا العام فجوَّل في مديرية الشرقية بهذا الوعظ، فأثّر في نفوس

الناس حتى استسهلوا المصاعب واستخفّوا بالنوائب وارتكبوا معصية الربا الفاحش

فاستدانوا ورهنوا أملاكهم للدائنين ثم استأجروا منهم الفدان الواحد بأربعة جنيهات؛

فكان مجموع الفضل الذي أُخذ منهم عشرين في المائة وهو ربا لا يصح في شرع

ولا قانون، ارتكبوا هذه الكبيرة عالمين بأن في بعض البلاد الحجازية وباءً يُخشى

أن يعلق بهم مكروبه وتلحق بهم كروبه ومستيقنين أن النفقات في هذا العام تكون

مضاعفة، كما أن أثقال السفر ومشقاته مضاعفة، وربما كان بعضهم يعتقد أن زيادة

الأجور والنفقات عن قدر الاعتدال تُسقِط الوجوبَ عن المستطيع.

لماذا حمل هؤلاء هذه الأوزار والأثقال وأقدموا على هذه الأعمال؟ ! أليس

إجابةً لداعي الوعظ الذي حملهم عليه العالم باسم الدين؟ ! بلى، قد امتثلوا أمر

الواعظ ولم يلتفتوا إلى قول الشاعر:

إذا حججت بمال أصله دنس

فما حججت ولكن حجت العيرُ

لا يقبل الله إلا كل طيبة

ما كل مَن حج بيت الله مبرورُ

فإذا كان قول العلماء يقبل بمثل هذا، وتنتهي طاعتهم إلى هذا الحد؛ فماذا يكون

من أمرهم إذا أنشأوا يبيّنون للناس طرق سعادتهم في دينهم ودنياهم من الوجوه التي

تتغذى بها عقولهم وتتشرَّبها نفوسهم وقلوبهم؟ ! لَعَمْرُك، إن الأمة تنهض بذلك

نهضة الأسود؛ فتحفظ موجودًا، وتسترد مفقودًا، وتنال عند الله مقامًا محمودًا.

_________

ص: 72

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عبرة لمن يعقل

كان أحد أعيان الشرقية الأغنياء مغرمًا بحب الأولياء. معتقدًا بركاتهم ملتمسًا

لنفحاتهم. وكان يرى أن أفضل ما يتقرب به إليهم المتقربون. ويستحق به رفدهم

ونوالهم الطالبون - إنما هو الاحتفال بموالدهم وإنفاق الأموال في معاهدهم. فكان

يشد في كل سنة إليها الرِّحَال وينفق بَدر الأموال، حتى إنه كان يُسَيِّرُ إلى مولد

السيد البدوي مائة وسبعين راحلة. وإلى مولد البيومي مثل هذه القافلة. ويضرب

في تلك المعاهد الخيام ويذبح لإقراء الضيوف الأنعام حبًّا في أولئك السادات.

وتعرضًا لتلك الفيوضات. وما كان ريع أرضه الواسعة الخصبة ليفي بنفقاته وبهذه

القربة؛ ولذلك كان يستدين النقود من بعض صرافي اليهود. وأنت تعلم أن شعب

إسرائيل لا يقنع بالرباء القليل. فما زالت تلك البركات الوهمية. والفيوضات

الخيالية تمحق بالرباء أمواله. كما تُحبط بالمعاصي أعماله. حتى جعلته أفقر أهل

زمانه. وأمسى الصراف اليهودي يتمتع بمائتين وثمانين فدانًا من أطيانه، ولم يزل

ذلك الأحمق السفيه حيًّا يعيش في حجر أخيه!

فهذه الواقعة الحقيقية تفيد أحد أمرين: إما أن الأولياء - كسائر الأموات - لا

يملكون للناس (ولا لأنفسهم) ضرًّا ولا نفعًا لا بالذات ولا بالواسطة والشفاعة، وإما

أن الاحتفال بالموالد يُغضبهم ولا يرضيهم ويسوءهم ولا يسرهم؛ فلذلك يتصرفون

بفاعله أسوأ التصرف. ويتوسلون إلى الله أن ينتقم منه أشد الانتقام. فليتبصر

المسرفون في أمرهم الذين ذهبت الاعتقادات الفاسدة بدينهم ودنياهم. وليخش الله

أهل العمائم الذين يؤولون لهم بأنهم لا يعتقدون أن للولي قدرة يقدر بها على النفع

والضر فيكونون وثنيين مشركين وإنما يعتقدون أن البركات تنزل عليهم من عند الله

تعالى؛ فتزيد في أرزاقهم وأعمارهم وتشفي مرضاهم بواسطة الولي الذي يعظمونه

ويحتفلون في مولده، وليرجعوا بالمسلمين إلى السنة الصحيحة وسيرة السلف

الصالح؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عِمارة القبور وعن تعظيمها، وما

كان السلف يعرفون شيئًا من هذه البدع، وما كان يخطر ببال أحد منهم أن يوسّط

ميتًا في قضاء حاجته، كما سبق لنا تفصيل ذلك غير مرة.

_________

ص: 74

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌إحصاء الأوقاف

في يوم الأحد الماضي احتفل ديوان الأوقاف العمومية هنا بافتتاح محله

الجديد الذي شيده في باب اللوق تابعًا لوقف المرحوم عباس باشا الأول.

وشرف هذا الاحتفال مولانا الخديوِ المعظم عباس باشا الثاني. وفي خلال

الاحتفال رفع سعادة فيضي باشا مدير عموم الأوقاف - خلاصة تضمنت إحصاء ما

جدده الديوان وعمَّره من المباني منذ سنة 1893 إفرنجية إلى الآن وهو العهد الذي

تولى هو إدارة الديوان فيه عقيب تولي الجناب الخديوي المعظم أريكة الخديوية

والنظر على الأوقاف، فكانت كما يأتي:

10200

مساجد وملاجئ خيرية إنشاءً.

100

... مساجد وملاجئ خيرية ترميمًا.

10300

جملتها.

90

... عمارات ريع إنشاءً.

2750

عمارات ريع ترميمًا.

ــ

2840

جملتها

60

... مباني زراعية إنشاءً.

300

مباني زراعية ترميمًا.

ــ

360

جملتها.

4230

جملة جميع المباني التي عُمرت.

وتلى ذلك إحصائية عامة شاملة لواردات ونفقات الأوقاف من تاريخ تولية الجناب الخديوي (سنة 1892) إلى هذا العهد مع فوائد أخرى كما ترى.

باب الإيرادات

...

إيرادات

...

إيرادات

جملة

...

الأوقاف الخيرية

... الأوقاف الأهلية

جنيه

...

جنيه

...

... جنيه

190735

... 153775

...

36960

سنة 1892

223114

... 178487

...

44627

سنة 1893

255131

... 205451

...

49680

سنة 1894

293841

... 238941

...

54900

سنة 1895

326097

... 236962

...

89135

سنة 1896

350644

... 221474

...

129170

سنة 1897

344303

... 213112

...

131190

سنة 1898

فيظهر مما تقدم أن الفرق بين إيرادات سنة 1892 وبين سنة 1898 هو الآتي:

... سنة

... سنة

الفرق

... 1892

... 1898

153568

190735

344303

مصروفات ديوان عموم الأوقاف من سنة 1892 إلى سنة 1898:

جملة

...

... مصروفات الأوقاف الخيرية

إقامة الشعائر حفظ وترميم

مصاريف

مصاريف

المساجد والأملاك عقارية وزراعية الإدارة العمومية

جنيه

جنيه

جنيه

جنيه جنيه

117129 47774 20378 16010 32967

... سنة 1892

172472 44354 42772 49665 35681

... سنة 1893

206518 51528 74143 43521 27326

... سنة 1894

197882 50125 54487 53493 39777

... سنة 1895

234402 58644 46742 73296 55720

... سنة 1896

194532 50919 34785 38134 70694

... سنة 1897

185847 56759 31124 38470 59494

... سنة 1898

فيظهر أن الفرق في المصروفات بين سنة 1892 وببن سنة 1898 هو الآتي:

... سنة

... سنة

الفرق

... 1892

... 1898

جنيه

... جنيه

... جنيه

8985

47774

56759

إقامة الشعائر.

10746

20378

31124

حفظ وترميم.

22460

16010

38470

مصاريف عقارية وزراعية.

26527

32967

59494

مصاريف الإدارة.

_________

68718

117129 185847

بيان الأملاك التي اشتراها ديوان الأوقاف من سنة 1892 لغاية سنة 1898:

...

من

... من

جملة

...

أموال البدل

زائد الإيراد

جنيه

... جنيه

جنيه

فدان

153784 25212 128572 أطيان شباس والصافية 3417

102968 36417 6651

أطيان قلين والبكاتوش 4000

28152

6120 22032 أطيان المنشأة الكبرى 662

51657

33552 18105

أطيان الشناوية

854

26848

...

26848

مباني وأراضي فضاء

_________

_________

...

363409

... 101301

262108

8933

بيان الباقي للأوقاف الخيرية من النقود الموجودة بالخزينة لغاية سنة 98 تحت استعماله في صالح مصلحة الأوقاف

جنيه

27332

من زائد الإيرادات.

34668

من أموال البدل.

62000

الجملة.

بيان تقدير ميزانية إيرادات ومصروفات الأوقاف سنة 1899

جنيه

...

... الإيرادات

210500

الأوقاف الخيرية.

14000

الأوقاف الأهلية.

_________

350500

المصروفات

مصروفات الأوقاف الخيرية

63327

إقامة الشعائر

18435

حفظ وترميم المساجد والأملاك عدا الإنشاء.

38449

مصاريف عقارية وزراعية.

53648

مصاريف الإدارة العمومية.

_________

173859

بيان عدد الأوقاف التي يديرها الديوان وعدد المساجد والتكايا والمكاتب

والمستشفيات وعدد الخدمة القائمين بالعمل

عدد

...

... الأوقاف

1707 أوقاف خيرية

176

أوقاف أهلية

1362 مساجد وزوايا وأضرحة

20

تكايا

37

مكاتب

2

مستشفيات بالأزهر وب قلاوون

5200 خدمة إقامة الشعائر.

815

خدمة الإدارة العمومية.

بيان النقدية الموجودة بخزينة ديوان الأوقاف لغاية يوم الأحد 2 أبريل

سنة 1899 أي يوم الاحتفال بمحل الديوان الجديد

جنيه

878

ورق بون

150592

نقود

151470

الجملة

_________

ص: 75

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تنازع الدول الأوربية

على الممالك الإسلامية

(تابع)

أشرنا في عدد سابق إلى تنازع الدول الأوروبية على الممالك الإسلامية

وخصصنا بالذكر وداي وبرنو وعمان، وقد كتبنا ملخص ما جرى في شأن هذه

الممالك وفاتنا أن ننشره في العدد الأسبق وهو:

أما عمان فقد انتهى النزاع فيها الآن ورضيت إنكلترا بأن تأخذ فرنسا محطة

في ميناء مسقط بشرط أن لا تضم إليها أرضًا أخرى؛ وذلك بعد أن أجبرت أمير

مسقط على الرجوع بقوله فرجع. وأما وداي فقد جاءنا البرق من أيام بخبر اتفاق

الدولتين أيضًا في مسألة بحر الغزال، وهو:

(من لندرا في 22 مارس - أُمْضِيَ أمس الاتفاق بين إنكلترا وفرنسا فكان

ذيلاً ملحقًا باتفاق النيجر. وقد أخذت إنكلترا بموجبه بحر الغزال ودارفور وأخذت

فرنسا وادي وبقرمي والبلاد الواقعة شرقي بحيرة تشاد وشماليها، واعترفت إنكلترا

بأن الأراضي التي في غربي الخط الممتد من جنوبي كانين على طول صحراء ليبيا

حتى الدرجة 15 من خطوط العرض الشمالي واقعة في منطقة النفوذ الفرنسوي، وقد

اتفق الفريقان على أن الحقوق التجارية بينهما متساوية في الجهات التي بين النيل

وبحيرة تشاد من الخط الخامس من خطوط العرض إلى الخط 15، فصار بذلك لفرنسا

منفذ إلى النيل. وقد تعاهدت الدولتان على أن لا تدعي واحدة منهما بحقوق سياسية

أو ملكية في الأراضي الخارجة عن الحدود المرسومة في هذه العهدة) .

مساحة وداي وبقرص نحو 172 ألف ميل مربع وسكانهما نحو الثلاثة ملايين

ومساحة كانم 30 ألف ميل مربع وسكانها مائة ألف نفس.

وفي الجوائب الأخيرة أن الدولة العلية احتجت على هذا الاتفاق؛ لأنه يمس

حقوقها لا سيما في طرابلس الغرب.

جاء في رسالة برقية من طنجة أن حكومة مراكش خنعت لبلاغ ألمانيا؛

فدفعت التعويض الذي طلبته منها وهو 60 ألف مارك.

_________

ص: 80

الكاتب: رفيق بك العظم

‌الإصلاح الإسلامي

بعدل القوام

أو التكافل العام

لحضرة الكاتب الفاضل صاحب الإمضاء

قضت سنن الوجود المدني منذ فطر الله الإنسان على حب الاجتماع - أن تشد

أواخي الألفة العمومية بنظام شامل تطمئن إليه النفوس الخيِّرة وتتلاشى دونه الأهواء

النزَّاعة إلى الشر، ومناط ذلك النظام إنما هي الشرائع المؤسسة على العدل المبنية

على أساس المصلحة العامة دون أن يخالطها شيء من الحشو التابع لأغراض

النفوس، وإنما تتكفل هذه الشرائع بسعادة الأمم واستمرار نظام الألفة بأحد شرطين:

عدل القوام أو تكافل الأقوام. ومتى فقد هذان الشرطان امتنع الانتفاع بالشرائع مهما

كانت في نفسها عادلة، وتعذر التأليف بين النفوس المتغالبة والعناصر المتباينة،

وناهيك بما ينشأ عن فقد الألفة من التعطيل في سائر ما تدعو إليه الحضارة ويتطلبه

الاجتماع، كما يؤيده الاستقراء ويشهد به الحس في كل عصر وعند سائر الأمم.

وهذه صفحات التاريخ الاجتماعي تنبئ عن جميع الدول الغابرة والشعوب

الماضية كالفرس واليونان والرومان وغيرهم من جماعات الإنسان ودول الحضارة

التي كان يتناوبها الشقاء والسعادة بنسبة حال قوام الشرائع وحفاظ القوانين، وفي

النظر إلى تاريخ الإسلام ما يغني عن التوغل في العصور القديمة والأمم البائدة؛

فإن الشريعة الإسلامية في صدر الإسلام لما كانت قائمة على أساس التكافل العام

بلغت بالأمة مكانة من الألفة الاجتماعية ضمت تحت كنفها مئات الملايين من البشر

كانوا في أبسط أطوار المدنية الإسلامية أنعم حالاً وأرقى نظامًا وأعظم قوةً ومجدًا من

سائر مَن أقلتهم يومئذ الغبراء وأظلتهم السماء، حتى بلغ من الشعور عند المسلمين

بمنافع قيام شرائع الإسلام على أساس التكافل العام - أن بني أمية لما حاولوا حل

عُرى هذا النظام وتفريق ذلك الالتئام رغبة بالاستئثار بالسلطة بما كانوا يدسُّونه على

المسلمين دون علم الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه وسرى ذلك في أفكار الأمة

سريان الشرارة الكهربائية في سائر الأقطار الإسلامية - هب الناس من مضاجع

الراحة منكفئين على المدينة المنورة من كل صوب يطالبون عثمان رضي الله تعالى

عنه بكف يد المستأثرين من عشيرته وقومه عن التسلط المطلق على النفوس

والأموال ثم استحكم أمر الفتنة وفعلوا به ما فعلوه مع أنه - علم الله - كان بريئًا من

تبعة فعل الأمويين، ولكن لا حيلة لتسكين الأفكار العامة إذا اندفع تيارها وتأججت

نارها، لا سيما وإن ما أتاه بنو أمية يومئذ من المبالغة في الاستئثار بمصالح

المسلمين - كان أهم دواعي الجرأة على هتك حرمة الخلافة وزوال هيبة عثمان

رضي الله تعالى عنه من نفوس المسلمين بخلاف ما كان عليه الحال على عهد عمر

بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من الاطمئنان الشامل والتكافل العام، بحيث لم

يكن من ذوي العصبيات في الإسلام مَن تحدثهم النفس بأدنى عمل من شأنه الإخلال

بقاعدة التكافل مهما بلغ بهم الأمر من حب الأثرة والميل إلى التسلط، وأين حادث

عثمان رضي الله عنه من حادث خالد بن الوليد لما كان في أرمينيا يقود خمسين ألف

مقاتل، كلهم طوع إشارته، وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ما كدّر

خاطره عليه فأرسل إلى أبي عبيدة في الشام أن استدعِ إليك خالدًا وسلْه عن الأمر

الفلاني فإن أقر فأقم عليه حد الشرع، وإن أنكر فابعث به إليَّ مع الرسول مقودًا

بعمامته. فاستدعاه أبو عبيدة إلى الشام وأبلغه أمر أمير المؤمنين أمام جماهير

المسلمين، فسمع وأطاع ثم ذهب مع الرسول قاصدًا المدينة المنورة دون أن ينبث

ببنت شَفَة؛ فإن هذه المبالغة بالطاعة والخضوع من مثل خالد بن الوليد وهو مَنْ

علمت مقاتل أهل الردة وفاتح العراق العربي والشام وأرمينيا - تدل على أن هناك قوة

أسمى من هيبة الخلافة في نفوس المسلمين، وهي قوة التكافل العام في حفظ

شرائع الإسلام، وقد كان منها على كل نفس رقيب عتيد يحمل سائر المسلمين على

معرفة الحقوق والواجبات التي تُلزم كل فرد منهم بالوقوف عند الطاعة والامتثال لأمر

الخليفة، ما لم يمس جانب الشرع أو يخل بنظام ذلك المجتمع الإسلامي العظيم، ولا

يخفى ما في هذا من نفوذ كلمة الخليفة وسلامة حياة الأمة.

هذا ومع ما عقب حادث عثمان رضي الله تعالى عنه من قيام الفتنة التي مهدت

لبني أمية سبيل الاستيلاء على الدولة والانفراد بالسلطة - فقد راعى بنو أمية أمر

التكافل في قيام الشريعة لارتباطها بقيام الملك، وكان قُوام الشرع بعدُ محافظين أشد

المحافظة على شرط العدل حتى تسنى للأمويين أن ساسوا الأمة سياسة أنتجت بسط

السلطة الإسلامية على معظم أنحاء المعمور. ولما أفضى المُلك إلى بني العباس

ورأى الخليفة السفاح وهو أولهم ما دخل على قاعدة التكافل العام من الفساد لاختلاط

الأمر باختلاط العناصر الداخلة في الإسلام - اتخذ له وزيرًا أبا سلمة حفص بن

سليمان؛ ليستعين به على بسط جناح العدل والمراقبة العامة، فكان أول مَن لُقب

بالوزير في دولة الإسلام، وكانت وزراته يومئذ وزارة تنفيذ لا وزارة تفويض، فلم

تستقم بها الأمور للدرجة التي تقوم مقام التكافل العام وما زالت كذلك حتى قيام

الرشيد بأعباء الخلافة الإسلامية، حيث رأى أن الأقرب لقاعدة التكافل والأحسن في

تنظيم شؤون الدولة وسلامة أحكام الشرع - أن يجعل الوزارة وزارة تفويض تكون

مسؤولة أمام الناس والخليفة عن نتائج كل عمل تعمله في الدولة، وكان ذلك كذلك.

ووزارة التفويض هذه هي بمثابة ما يسمونه الآن الوزارة المسؤولة عند

الحكومات المعتدلة؛ لأن من مقتضاها أن يفوض إلى الوزير تدبير الأمور بنفسه

وإمضائها باجتهاده، وأن يقلد وزارة الحرب والمظالم وغيرهما من شاء أو يتولى ذلك

بنفسه وبالجملة فقد قال العلماء فيها: إن كل ما صح عن الإمام صح عن الوزير إلا

في أمور ثلاثة استثنوها لتعلقها مباشرة بالخليفة. ووجه جواز هذه الوزارة في

الإسلام مأخوذ من قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ

أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه: 29-32)

قالوا: فإذا صح مثل هذه الوزارة في النبوة فهي في الخلافة أولى.

ومنذ تأسست هذه الوزارة في دولة الإسلام أثرت في نظام الدولة آثارًا صالحة

دعت إلى ترقي الأمة في معارج التمدن ترقيًا ما زال ولن يزال مسطَّرًا على

صفحات الوجود إلى الأبد، ومن ثم أصبحت وزارة التفويض في الإسلام - بما

ارتبطت به من المسؤولية أمام الراعي والرعية - من أهم دواعي العدل عند قوام

الشريعة وحفاظ القوانين، ثم ما زالت تُجرَى عليها القوانين وتدون لها الدواوين على

أشكال شتى تترقَّى بترقِّي الدول الإسلامية وتتدلَّى بتدليها حتى استحكمت الصبغة

الأعجمية في الدول الإسلامية، وغلت يدي الوزارة وقيدتها بقيود الاستبداد المطلق؛

فانمحت آثار العدل الصالح من تاريخ الوجود الإسلامي، وزاغ قوام القانون عن

مناهج الاستقامة أجيالاً عديدة، لا يبالون بما يفعلون ولا يحذرون غائلة عدو ربما

يغتنم فرصة هذا الخمود المطلق والضعف المستمر، ولكن الدول الأخرى كانت يومئذ

أضعف حالة وأشد جهالة، ثم ظهرت بوادر النهضة الغربية وأخذت تنكفئ قوى

المدنية الجديدة على أنحاء المشرق تتزاحم فيها بالمناكب وتخترق الأمم وتسلب حرية

الشعوب وحاول منذ ذلك الحين - بعض قوام الشريعة والقانون وسُوَّاس الأمة أن

يتداركوا هذا الخطر المحدق، ولكن بوسائل بطيئة السير عديمة النفع؛ لابتعادهم فيما

حاولوه عما قام عليه الإسلام، وصِين به نظام الأمة وهو التكافل العام وعدل القوام،

وهما الركنان اللذان قامت على دعائمهما دول الإسلام ولا تحيا إلا بحياتهما الأمم

وإنما أصاب المسلمين ما أصابهم من التقهقر ودخل على دولهم الضعف بضعف

هذين الشرطين، كما رأيت لا بضعف القانون أو حاجة الأمة إلى وضع أوضاع

جديدة أو تراتيب مفيدة في نظام الأمة وانتظام شؤون الدولة؛ إذ لو كان يغني وضع

القوانين وتدوين الدواوين عن هذا التقهقر المريع والضعف السريع - لأغنت

الشريعة الإسلامية نفسها وهي أعدل ما جاء من الشرائع وأعظمها مرشدًا لمصالح

البشر هاديًا لطرق السعادة وإنما هي تغنى عن ذلك بعدل قوامها، وهذا مفقود بفقد

المسؤولية، ولا يفيد دون هذه وضع الأوضاع العقلية والمنشورات السياسية بل

هي تكون كخط على ماء أو نقش في هواء. والله يهدي من يشاء إلى صراط

مستقيم. اهـ

...

...

...

...

... (رفيق)

...

...

...

(استدراك المنار)

يريد الكاتب الفاضل بقوله: (التكافل العام) . معرفة مجموع الأمة بحقوقها

العامة ومصالحها المشتركة معرفة صحيحة تحملهم على الاتفاق على حفظها

وصيانتها، بحيث إذا عبث بها عابث أو نال منها ظالم ينفعل ذلك المجموع ويهبّ

للذود عنها وحفظ كِيانها، وهذا الأمر هو روح سياسة الإسلام. وقد بيناه في

المقالة التي تكلمنا فيها عن السلطتين - الروحية والسياسية - وفي مقالات (الخلافة

والخلفاء) وغيرها، ولكن هذا الروح الشريف الذي جاء به الوحي عاش به الخليفتان

أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقرراه بعملهما في نفوس المسلمين حتى كاد يكون

عامًّا، وظهر أثره في زمن عثمان عليه الرضوان فنسل الناس إليه من كل حدب

يلقون عليه تبعة ظلم عُماله، وبرهن لهم على احترامه سلطة الشعب واعترافه

بسيطرته اللتين جاءتا من ذلك الروح بقوله على المنبر: (أمري لأمركم تبع) كما

قال من قبله الخليفة الثاني على المنبر: (مَن رأى منكم فيَّ عِوَجًا فليقوِّمْه) . وبنو

أمية هم الذين اعتزوا بالعصبية وبدؤوا بإزهاق هذا الروح من عهد عثمان

(حاشا مثل عثمان وعمر بن عبد العزيز) لكن الروح كان قويًّا بنفسه والتعاليم

الإسلامية الأخرى: ككون إجماع الأمة واجب الاتباع وكقاعدة: لا طاعة على أحد

فيما يخالف الشريعة. وكوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو كان الآمر

والناهي عبدًا مملوكًا والمأمور المنهي خليفة أو مليكًا تمده وتغذيه؛ ولذلك قدر على

مقاومة سعي أكثر الخلفاء والملوك في إعادة الاستبداد والانفراد بالسلطة على نحو ما

كان معهودًا عند الدول والأمم السابقة على الإسلام والمعاصرة له مع أن ذلك

كان معززًا بالوراثة، وكان كلما ضعف الدين بانتشار البدع والفسوق وفساد التعاليم

واتباع علمائه لأهواء الحكام والسلاطين يضعف ذلك الروح. واشتد ظهور الضعف

عندما صارت السلطة في أيدي الأعاجم؛ لأن هؤلاء قد رثوا شدة الخضوع لملوكهم

ولو بالباطل عن أسلافهم الذين عبدوا كثيرًا من الملوك ولم يتناولوا الإسلام إلا بعدما

دخلته البدع ووهت أركان سياسته وقد انتهينا إلى زمان انقلبت فيه الأحكام وجهلت

أصول الإسلام، حيث يعتقد أكثر الناس أن الخليفة أو السلطان مقدس، وأن من

يقول: يجب عليه كذا أو يحرم عليه كذا؛ فهو منابذ للدين، وقد خلق علماء الفتنة

أحاديث في مدح السلاطين والخضوع الأعمى لهم يتبرأ منها الإسلام. وسنبين

ذلك كله في مقالة مخصوصة.

نحن على اتفاق مع صاحب المقالة في أن الإصلاح إنما يكون بعدل القوام أو

بالتكافل العام، وهذا هو معنى ما نكرره دائمًا من أن الإصلاح يكون إما من جانب

الحكام وإما من جانب الأمة وحيث كان أملنا في حكامنا ضعيفًا - جعلنا معظم كلامنا

في تربية الأمة على الوجه الذي تعرف به حقوقها وتقوم بحفظها بالتعاون وهو ما

سماه الكاتب (التكافل العام) ولكننا نخالفه في بعض الجزئيات ككون خلفاء بني أمية

حافظوا على التكافل العام وقد علم رأينا في ذلك مما كتبناه آنفًا، وكقوله: إن خضوع

الأمير خالد لأمر الخليفة سببه التكافل العام. ورأينا أن سببه حرمة الخلافة الدينية

واعتقاده أن الإسلام يفرض عليه أن يطيع أمر الخليفة فيما دعاه إليه من المحاسبة،

وبغير هذا يستحيل أن تقوم سلطة أو تثبت حكومة.

ثم لا شك أن سعادة الأمم إنما تكون بما عليه مجموع أفرادها من العلم والعمل

والفضائل. وعدل الحكام إنما يكون وسيلة للسعادة؛ لأنه يساعد الأمة على الترقي فيما

ذُكر بما يدفع عنها من العوارض التي تعيقها عن الترقي، فوظيفة الحكام في الهيئة

الاجتماعية كوظيفة الأطباء والحكماء بالنسبة للأشخاص وتمام السعادة إنما

يكون بصلاح الفريقين جميعًا وبالله التوفيق.

_________

ص: 81

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌عداء وخداع

أوغلت الدول الطامعة في الاعتداء وغلت في هضم الحقوق غلوًّا كبيرًا

تتحالف وتتخالف. وتتعادى وتتناصف. وتتنازع على الممالك والبلاد. ويرضي

بعضها بعضًا بحقوق العباد. وأما العدل والفضيلة والإنسانية والمدنية وحقوق الدول

والأمم فهي تارة تكون طلاءً قوليًّا يموهون به أفعالهم الشنعاء وتعديهم المشوه، وطورًا

تكون سلاسل وأغلالاً يقيدون بها الضعيف؛ لكيلا يكدر صفاء كأسهم ويضطرهم إلى

شيء من التعب في كبحه إذا حمله اليأس على الاستبسال في المدافعة عن نفسه.

تنازع أمس الأشعبان [الإنكليز والفرنسيس] في النيل الأعلى، وانتهى التنازع

باقتسام تلك الأراضي الفيح والملك الفسيح، فأرضت إحداهما الأخرى بحقوق

غيرهما حتى كأن بلاد الضعفاء مختصة بهما، وهذا هو حكم الجبروت الظالم والقوة

القاهرة التي عبر عنها فقيد السياسة (بسمارك) بقوله المشهور: (القوة تغلب

الحق) وقد وقعت وداي وبقرمي في سهم فرنسا وهما من البلاد الداخلة في ظل سلطان

الدولة العلية. وكانت إيطاليا تنتظر في مثل هذه القسمة أن يكون لها سهم فتفوز

بطرابلس الغرب مطمح نظرها ومنتهى أمنيتها، ولقصر نظرها توهمت أن إنكلترا

تساعدها على هذا الأمر، فلما خاب الأمل طفقت جرائدها تسلق الإنكليز بألسنة حِدَاد،

ولكن العجب أن فرنسا التي تطمع في طرابلس لمجاورتها لها في تونس والتي زاد

طمعها فيها أخذ وداي وبقرمي في جنوبيها ذكرت إحدى جرائدها المعتبرة (الطان)

كلمة إغراء لإيطاليا باحتلال طرابلس الغرب، وطير هذا الخبر البرق إلى سائر

الأقطار.

فإذا لم يكن هذا القول تهكمًا وسخرية فهو خداع لإيطاليا كما أنه عداء ظاهر

للدولة العلية. أما وجه الخداع فهو أن ولاية طرابلس ليست مذللة بالظلم أو الترف

ولا مفتونة بمدنية أوربا، وأهلها أولو قوة وأولو بأس شديد، وعندهم النظام العسكري

والسلاح الجديد، فإذا قدرت إيطاليا أن تدك بأسطولها الحصون والمعاقل الحربية

المنشأة على الطراز الحديث وتحل بعساكرها في الولاية؛ فإنها تلاقي من

الطرابلسيين ما ينسيها ألم الخذلان والانكسار في الجيش ويخرجها خاسئة خاسرة

فتستفيد فرنسا بذلك زيادة ضعف إيطاليا وهي من أعدائها والفلّ من حد الطرابلسيين

الذين يطمعون فيهم ويخشون بأسهم.

أعظم حسنات مولانا السلطان عبد الحميد: ثِنْتان - الآلايات الحميدية، وتعميم

التعليم العسكري، ولا يوجد في الدنيا بلاد إسلامية قائمة بواجب التعليم العسكري؛

بحيث يقدر جميع أهلها على المدافعة المفروضة شرعًا إذا دخل العدو البلاد إلا

طرابلس الغرب وأفغانستان، ولقد قوي الأفغانيون من قبل على الإنكليز وأخرجوهم

من ديارهم كرهًا بعدما احتلوها، ولم يكونوا كما هم الآن، وهم حتى الآن ليسوا كأهل

طرابلس فيما نعلم. الطرابلسيون أرمى من الثعلبين، لا تكاد تخطئ الغرض لهم

رصاصة، ولا يكلفون الدولة في الحرب شيئًا؛ فإن جراب الدخن الذي يضعه أحدهم

على ظهره وقت المجالدة والمكافحة - يكفيه شهرًا كاملاً! وهم يحتقرون عسكر

الأتراك الذين يذهبون إلى بلادهم، وقد علم الناس أجمعون أنه عسكر شهدت له أوربا

كلها بأنه لا يفوقه عسكر في العالم، ومن الطرابلسيين جماعة السنوسي وهم الذين قال

فيهم الفرنسيون: إنهم أشد من الصخور؛ لأن هذه قابلة للتفتت وهم لا يتفتتون.

ووراءهم أهل وداي وبقرمي وسائر السودان الغربي، وكلهم خاضعون للدولة العلية

فإذا ألمَّ بإخوانهم في طرابلس ما يكرهون كانوا أعوانًا لهم، والله نعم المعين.

_________

ص: 88

الكاتب: محمد رشيد رضا

تربية الأطفال

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ

وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78) ، فأول ما يشعر به الطفل ألم الجوع وألم

البرد وأول ما يُلهَمه امتص حلمة الثدي ثم تزيد الإدراكات فيسمع ويبصر من غير

تمييز بين مدرك وآخر ثم يميز بين مرضعته وغيرها حتى إن بعض الأطفال الذين

يعودون على الرضاع من امرأة واحدة إذا اتفق أن حاولت مرضع أخرى إرضاع

أحدهم يأباها وينفر منها، وهو نوع من التمييز في سن اللبان ظاهر لكن التمييز بين

النافع والضار ووعي الخطاب والاعتبار به إنما يتم في بضع سنين؛ ولذلك قال

الفقهاء والحكماء: إن السنة السابعة هي سن التمييز. وأوجبوا على قيِّم الطفل أن

يأمره بالعبادة كالصلاة والصوم إن أطاقه في هذا السن، ويتوهم كثير من الناس أن

الابتداء بالتربية يكون من هذا الوقت، وهو خطأ لا يحتمل الصواب، والحق ما قدمناه

في نبذة سابقة من أن التربية تكون منذ الولادة أو الحمل في قول، ولا نعني بهذا

التربية الجسدية فقط بل التربية بأنواعها الثلاثة - الجسدية والنفسية والعقلية -

يُبتدأ بها من يوم الولادة.

يقول قائل: إن دماغ الطفل لا عمل له في أول طور الطفولة كما أنه لا عمل

عضويًّا اختياريًّا له يطبع في نفسه ملكات الفضائل أو الرذائل، فما معنى تربية نفسه

وعقله حينئذ؟ !

والجواب: إن خلايا الدماغ - الذي هو محل الإدراك - تنمو بنمو الجسد؛

فالعناية بتربية جسد الطفل عناية بتربية عقله، وقد قلنا: إنه يدرك في سن اللبان

بعض الجزئيات ويميز أيضًا بينها تمييزًا ما. وكل إدراك وتمييز له أثر في

الدماغ، وكل عادة يعود عليها الطفل يكون لها أثر في نفسه وإن لم تظهر آثار ذلك

كله إلا في المستقبل، فالمعاملة التي يعامَل بها الوليد من أول النشأة هي بمنزلة

الأساس لأخلاقه وملكاته وعاداته ومدركاته، لكن الغافلين يرون البناء الرفيع ولا

يتفكرون في أنه قائم على أساس خفي في الأرض وأن ثباته وقوته بذلك الأساس.

ومن الجهل الفاضح أن ينكر الإنسان الآثار التي لا تظهر فورًا. ألم تر أن الكبير

إنما تنطبع العادات في نفسه بتكرار العمل حتى تصير ملكات راسخة تتعسر عليه

مقاومة آثارها. يشرب من لم يكن معتادًا على التدخين سيجارة مسايرة لصديق له، ثم

أخرى إجابة لصديق آخر، فينصحه بعض العقلاء بترك هذه المسايرة والمجاراة

محذرًا له من صيرورة التدخين عادة، فلا يلتفت إلى قوله، وربما يصرح له بأن

من المُحال أن يعتاد هذا أو ينفق عليه درهمًا! فلا يزال يعمل التكرار في دماغه

في مركز مخصوص منه حتى تنطبع الملكة وتدفع الرجل إلى المواظبة وإنفاق

المال مهما كانت حاجته إليه شديدة. وهكذا شأن من يتعود على الميسر (القمار)

وغيره من الأعمال القبيحة أو الحسنة. فإذا كان العمل الاختياري من المميز

والعاقل لا يظهر أثره إلا في نفسه إلا بعد زمن طويل فهل يصح لنا أن نحكم بأن

ما نعامل به الطفل لا يؤثر في نفسه؛ لأننا لا نشاهد الأثر عقيب المعاملة؟ ! كلا.

فليعلم الآباء والأمهات أن سعادة أولادهم بل سعادة أوطانهم وبلادهم - تتوقف

على تربية أولئك الأولاد من أول النشأة، فالمرأة التي لا تعتني بتنظيف وليدها

وبإرضاعه وتقريمه [تعليمه الأكل] وتنويمه في أوقات معينة وبكيفيات منتظمة،

والتي تكذب عليه بالقول أو العمل لأجل الترغيب أو الترهيب، وتسبه وتفحش عليه

وتهينه وتضربه عند الغضب، والتي لا تبالي بسيئاته إذا أساء وتسترضيه إذا غضب

ولو بالباطل بالشهوات المضرة، والتي تؤْثر أحد أولادها على الآخر ذكرًا كان أم

أنثى - التي تعامل أولادها في الصغر بما ذكر لا ينبغي أن تعتب على الحظ أو تحيل

على القدر إذا رأتهم في الكبر قذرين متهاونين في شؤونهم وشؤون أوطانهم لا يتقنون

عملاً ولا يتحامون زللاً، كذَّابين منافقين مسرفين ظالمين فاحشين أرذلين متعادين

متباغضين يؤثر كل واحد شهوته على كل شيء ويزاحم أخاه بما يتسامح بمثله مع

الأجنبي. بل يجب أن تعتقد هذه الأم الشقية أن هذا البلاء هو ثمرة ما غرست

وعاقبة ما قدمت، وسنفصل القول في أنواع التربية الصحيحة تفصيلاً.

***

التعليم الفطري

جميع العلوم والفنون مأخوذة قواعدها الكلية من المحسوسات؛ فالصغير يدرك

في أول أمره الجزئيات الحسية ثم ينتزع الكليات من التوافق والتباين اللذين يراهما

فيها. ولا يخفى على العلماء أن تمحيص الحقائق وصيرورة حدود القواعد العامة

جامعة مانعة لم يصل إليهما الإنسان إلا بعد بحث طويل في سنين كثيرة. فإدراك

الكليات والإشراف منها على الجزئيات هو غاية العلم ومنتهى التحصيل، ومن

الحماقة والجهالة أن يطالَب الأحداث في ابتداء تعليمهم بغايات العلماء بعد الأبحاث الطويلة في العصور والأجيال، وهو فهم القواعد الكلية واستنباط الجزئيات منها.

والصراط المستقيم لحسن التعليم هو صراط الفطرة والطبيعة وهو أن تلقي

للتلميذ أمثلة محسوسة كثيرة ثم تنبهه على أن هذه الجزئيات يجمعها أمر كلي يسهل

على من تعقله أن يلحق كل ما يعرض له من الجزئيات به وهو كذا، ثم يطالَب بأن

يأتي بعدة أمثلة من عند نفسه، ويلي هذا الطريق أن يفهم التلميذ القاعدة إجمالاً ثم

توضح له بكثرة الأمثلة. وبهذا التعليم يستغني بقراءة كتاب واحد مرة واحدة عن

قراءة الكتب الكثيرة وتكرارها، وبهذا التعليم تُحفظ المسائل فلا تُنسى إلا ما شاء الله،

وكل طالب علم يعرف من نفسه أنه ينسى أو يذهل عن أكثر المسائل التي لا

يستعملها، ولا يأتي عليها بأمثلة كثيرة ما لم تكن المسألة من البديهيات.

الإتيان بالأمثلة الكثيرة على القواعد نوع من العمل، وقد كتبنا نبذة سابقة في

(التعليم بالعمل) بينا فيها أن العلم إنما يثبت وينمو بالعمل، والعلم الصحيح الذي

يجدر أن يسمى صاحبه عالمًا - هو ما كانت ملكته راسخة في النفس تصدر عنها

آثارها بلا تعمُّل ولا رويّة. وقد علمت مما تقدم آنفًا في نبذة (تربية الأطفال) أن

الملكات لا تنطبع في النفس إلا بتكرار العمل.

وإن تعجب فعجب قولهم: إن العالم مَن إذا قرأ الكتب التي درسها مرارًا يفهم

أساليبها ونكتها ويقدر أن يأتي في المسألة الواحدة باحتمالات كثيرة - وربما لا يجزم

بشيء منها - ولا يشترط فيه أن تكون المسائل والقواعد راسخة في نفسه بحيث

يأتي بجزئياتها بغير تكلف ولا ملاحظة قاعدة.

حقًّا أقول: إن كل هذا هو العلم فما أقل فائدة العلم! وما أبعد المسافة بينه وبين

سعادة البشر، بل أقول: إن العلم الذي لا يؤثر في أخلاق النفس ولا يبعث ويزعج

إلى إصلاح أعمالها لغو لا فائدة فيه ألبتة ولا يصح أن يسمى علمًا. فإن قيل: فائدته

القيام بإفادة الناس به بالتعليم. نقول: ولماذا يتعلم الناس ما لا أثر له في أخلاقهم

وأعمالهم التي هي مصدر سعادتهم؟ ! قال بعض علماء التعليم من أهل

الغرب: إن كثرة المطالعة تورث النسيان وكثرة المكث في المدرسة تورث البلادة.

وقال: قد ثبت بالاستقراء أن أكثر النابغين كانت مدة إقامتهم في المدارس قليلة.

فعسى أن يتنبّه طلاب العلم - لا سيما الأزهريين ومَن على شاكلتهم - إلى

طريقة التعليم المثلى، فيستفيدون في الوقت القصير علمًا كثيرًا وما يتذكر إلا مَن

ينيب.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 90

الكاتب: محمد رشيد رضا

تقاريظ

(غرائب الزمان في فتح السودان)

صدر الكتاب الأول من هذا التاريخ لمؤلفه الأديب محمود أفندي طلعت وفيه

الكلام على السودان من أيام فتحه في عهد إسماعيل باشا إلى أيام الفتنة العُرابية.

وصاحبه قد سافر إلى السودان وكان من عمال الحكومة المصرية فوصف ما شهده

واختبره بنفسه، ووضع الكتاب في شرح رحلته، وذكر فيه ما وقع معه من الشؤون

الغرامية فكان رواية تاريخية غرامية صحيحة، وهذا يضمن له الرواج. وقد تصفحنا

بعض صفحاته، فاستعذبنا القول على أن فيه غلطًا كثيرًا، لكنه مدرك بالبداهة.

***

(المناظر)

جريدة عربية جديدة ظهرت في (سان باولو - البرازيل) رئيس تحريرها

الكاتب الأديب نعوم أفندي لبكي ومديرها الأديب فارس أفندي سمعان. فماذا عسى

نقول في الثناء على همة أبناء وطننا السوري وحبهم للمعارف والآداب، وهذه

الشرذمة منهم في بلاد البرازيل لم تكتفِ بجريدة ولا جريدتين فهكذا هكذا وإلا فلا لا.

***

(شكوى الاحتلال بلسان الحال)

قصيدة غراء مما نسميه بالشعر العصري لناظمها الشاعرالمجيد أحمد أفندي

محرم وقد علق عليها شرحًا لطيفًا وطبعها به، وربما نذكر بعض غُرر أبياتها في

فرصة أخرى.

_________

ص: 94

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الجمعية الإسلامية الهندية في لاهور

حملت إلينا جريدة (بيسه أكبر - لاهور) الهندية علاوة تبين فيها حال

هذه الجمعية وهذه ترجمتها:

وصل إلينا التقرير السنوي الذي أذاعه كاتب سر هذه الجمعية ومحصله أن

مسلمي بنجاب أسسوا منذ 14 سنة في مدينة لاهور بحاضرة بنجاب جمعية إسلامية

لتعليم أولاد المسلمين وتربيتهم وسموها (أنجمن حماية إسلام لاهور)

والغرض منها:

(1)

تعليم العلوم الدينية والتربية عليها؛ لينشأ المتعلمون على الفضائل

والكمالات الصحيحة.

(2)

تعليم العلوم الدنيوية واللغات الأجنبية؛ تسهيلاً لطرق المعاش.

(3)

العناية بتربية اليتامى؛ إنقاذًا لهم من دعاة الديانة المسيحية ومن

الموت بالجوع.

ثم توسعت الجمعية في عملها فأنشأت مدارس للبنات، وأرسلت وعاظًا إلى

كثير من الأقطار؛ ليبينوا حقيقة الإسلام ويثبتوا حقيقته لمن يجهلها من الأنام.

والأمر الذي يستلفت الأنظار هو أن مؤسسي الجمعية ليسوا من الأمراء ولا

من كبراء الموظفين وإنما هم أفراد من عامة أهل العلم والمستخدمين، وكان زعيمهم

وصدرهم أحد مشاهير العلماء صاحب الفضائل الحاج مولوي خليفة حميد الدين

(رحمه الله تعالى) وابتدأ القوم عملهم بالاكتتاب العمومي وكانوا في أول الأمر

يجمعون الدقيق كل يوم من البيوت بواسطة شيوخ الحارات ويأخذون الصدقات من

الولائم والوضائم (طعام الخزن) حتى كان يخيل أن الجمعية إنما هي لإطعام

الفقراء والمساكين المضطرين. ولما شاهد الأمراء وكبراء الموظفين وعامة الناس

ثبات المؤسسين وحسن نظامهم ونجاح عملهم الذي كانوا يعتنون منه بالتربية وحسن

السيرة أكثر مما يعتنون بالتعليم - أقبلوا على الجمعية وتنافسوا في أن يكونوا من

أعضائها حتى إن بعض أمراء الحاضرة رضي بأن يتولى إدارتها وبعض موظفي

نظارة المعارف قبلوا أن يكونوا مفتشين فيها، كانت الجمعية في أقصى الهند، ولما

طار صيتها توالت عليها الوكلاء من كل جانب، وهُرِع الناس لحضور احتفالاتها

السنوية من كل صوب، وتنافس الخطباء والشعراء بإلقاء الخطب المؤثرة وإنشاد

القصائد البليغة في تعظيم شأنها حتى صارت منتجع العلماء ومورد الأمراء، وبلغ

شهود احتفالها ستة آلاف رجل في السنة، وأجمع أهل الحِجَا والفهم وأصحاب الغيرة

والهمة على مساعدتها وتعضيدها، فرسخت جذورها وامتدت فروعها وتشعبت

أفنانها فأنشأت بناءً فسيحًا للدروس الخارجية وشيدت غرفًا خاصة لليتامى، فهم في

معاهدها يأكلون وينامون ويصلون ويتعلمون ويشتغلون ويرتاضون.

أما عدد التلامذة فقد كان في السنة الماضية كما ترى في الأرقام:

أقسام المدرسة

العدد في أول السنة

العدد في آخرها

القسم الكلي

...

62

...

63

القسم التجهيزي

... 52

...

67

القسم المتوسط

... 205

...

192

القسم الابتدائي

... 516

...

561

المجموع

...

835

...

883

وأما الواردات والنفقات والتوفير فقد كانت في السنة الماضية كما تراه بحساب

الروبيات والجنيهات:

التوفير من سنة 1897 (18902)

... روبية أو 1260 جنيه

واردات سنة 1898

... (31043)

روبية أو 2069 جنيه

المجموع إلى آخر ديسمبر منها (49945)

روبية أو 3329 جنيه

النفقات إلى آخر ديسمبر منها (33837)

روبية أو (2255) جنيه

فيكون الموفر لسنة 1899

(16108)

روبية أو (1074) جنيه

وتجتهد الجمعية في اقتناء الأملاك وتشتغل بتأليف الكتب المدرسية وتطبعها

على نفقتها؛ لتربح من بيعها. وبيان مجموع ما عند الجمعية من النقود، الكتب

المطبوعة والأملاك المشتراة والتي تبرع بها أهل الغيرة والحمية إلى آخر ديسمبر

سنة 1899 ما يأتي:

قيمة الأملاك

...

32445

روبية أو 2163 جنيه

قيمة الكتب

...

13904

روبية أو 927 جنيه

النقود الموفرة من سنة 98

16108

روبية أو 1074 جنيه

المجموع

...

... 62457

روبية أو 4164 جنيه

وقد أسست الجمعية منذ سنتين مدرسة خصوصية لتعليم العلوم العربية والدينية

على طريقة المتقدمين سمتها (المدرسة الحميدية) نسبة لرئيس الجمعية سابقًا

المرحوم مولوي خليفة حميد الدين وتذكارًا له. وتعد هذه المدرسة فرعًا من مدرسة

(أنجمن حماية الإسلام) وكان أكثر الناس تبرعًا بالنقود لتأسيس هذه المدرسة

المولوي خليفة عماد الدين أكبر أنجال المرحوم وأحد مفتشي المدارس الأميرية في

لاهور اهـ. من ترجمة الفاضل عبد الرحمن الهندي مُكاتب جريدة وكيل الهندية

الغراء.

فهكذا تكون الهمم وهكذا تكون العلماء، نجَّح الله مقاصد هذه الجمعية وجزى

الأفاضل الذي أسسوها وعضدوها أفضل الجزاء.

_________

ص: 95

الكاتب: عبد الحق الأعظمي البغدادي

‌الأعياد

] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ [[1]

لحضرة الفاضل الأزهري صاحب الإمضاء

عبد الحق حقي البغدادي الأعظمي الأزهري

العيد اسم لما يحصل فيه الاجتماع العام على وجه معتاد، سواء كان سنويًّا أو

شهريًّا أو أسبوعيًّا، زمانيًّا أو مكانيًّا وقد يصدق على مجموع اليوم وما يصنع فيه،

وعلى المكان وما به وعلى الاجتماع وحده أو مع ما يصحبه من العبادات والعادات

وبضرورة تباين العرب في المذهب والمشرب - تباينت أعيادهم في الزمان والمكان

ولمناسبة عيدنا الأكرم أردت توضيح ذلك على وجه الإجمال والاختصار تفكهة لقراء

(المنار) بهاته النبذة التاريخية.

اعلم أن العرب كانوا في الجاهلية شيعًا متفرقين وفرقًا مختلفين فقد كانت

(النصرانية) في ربيعة وغسان وبعض قضاعة، وكانت (اليهودية) في حِمير وبني

كنانة وبني الحارث بن كعب وكِندة، وكانت (المجوسية) في تميم، وكانت الزندقة

في قريش، أخذوها من الحيرة، والمراد بالزندقة هنا عدم الإيمان بالآخرة والربوبية

وكان بنو حنيفة اتخذوا في الجاهلية إلهًا من حيس فعبدوه دهرًا طويلاً ثم أصابتهم

مجاعة فأكلوه، فقال فيهم رجل من تميم شعرًا:

أكلت حنيفة ربها

زمن التقحم والمجاعة

لم يحذروا من ربهم

سوء العواقب والتباعة

ولا شك أن الأعياد من الديانات ولواحق العبادات، وإلى ذلك ذهب بعض

المفسرين في قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوه} (الحج: 67)

حيث فسروا المنسك بالعيد، فلم يكن العرب يومئذ متفقين في الأعياد كما لم يتفقوا

في الدين والاعتقاد.

أما المشركون من عَبَدَة الأصنام فقد كان لهم في الجاهلية أعياد كثيرة، منها

مكانية، ومنها زمانية:

أما (المكانية) فكثيرة وهي مواضع أصنامهم وأوثانهم وأمكنة طواغيتهم،

وكانت الطواغيت الكبار التي كانت تشد إليها الرحال وتقام عندها الأعياد ثلاثة:

(اللات) و (العزى) و (مناة الثالثة الأخرى) وكل من هذه الثلاثة لمصر من

أمصار العرب؛ فكانت اللات لأهل الطائف، والعزى لأهل مكة، ومناة لأهل

المدينة، يهلّون لها شركًا بالله تعالى. وكانت لهم مواسم من السنة مخصوصة

للاجتماع عند هذه الثلاثة وتقصدها العرب من كل فج وتعظمها كتعظيم الكعبة،

وكان لها سدنة وحُجَّاب، وكانوا يهدون إليها كما يهدون للكعبة ويطوفون بها وينحرون

عندها مع اعترافهم بفضل الكعبة؛ عليها لعِلمهم أنها بيت أبيهم إبراهيم الخليل عليه

السلام ومسجده. وكان ذو الخلصة بيتًا باليمن لخثعم وبجيلة فيه نُصُب يعبدونها ولهم

فيه من السنة موسم وعيد، وكان أهل نجران يعبدون نخلة طويلة بين

أظهرهم لها في كل سنة موسم وعيد، وإذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب

حسن وحُلي النساء ثم خرجوا إليها وعكفوا يومًا.

وأما (الزمانية) فهي كثيرة، منها أيام مسراتهم وأفراحهم لظفرهم على عدوهم

ونصرتهم على خصومهم ومحاربيهم، وذلك يختلف باختلاف الشعوب والقبائل،

فيتفق أن يكون يوم عيد لقوم يوم حزن وبؤس على آخرين. وكان لأهل المدينة

يومان يلعبون فيهما فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال لهم: قد أبدلكم الله

بهما خيرًا منهما يوم الفطر والأضحى. ومنها يوم السبع وهو عيد من أعياد قبيلة من

قبائل العرب في الجاهلية، كانوا يشتغلون فيه باللهو واللعب، وكذلك يوم السباسب.

وأما أعياد المجوس - وهم الفرس وشرذمة من العرب وغيرهم - فهي كثيرة

جدًّا، إلا أنَّا نقتصر على المشهور منها الذي أولع الشعراء بذكره واعتنى الأمراء

بأمره وهو (النيروز) والمهرجان والسذق - فهو تعريب نوروز وهو أعظم

أعيادهم ويقال: إن أول مَن اتخذه جمشاد وهو أحد ملوك الطبقة الأولى من الفرس،

وسبب اتخاذهم هذا اليوم عيدًا أن طمهورة لما هلك ملك بعده جمشاد فسمي اليوم

الذي ملك فيه نوروزًا؛ أي: (اليوم الجديد) ومن الفرس من يزعم أن النيروز هو

اليوم الذي خلق الله تعالى فيه النور، وأنه كان معظمًا قبل جمشاد. وبعضهم يزعم أنه

أول الزمان الذي ابتدأ الفلك فيه بالدوران ومدته عندهم ستة أيام، أولها اليوم الأول من

شهر أفرود ريزماه الذي هو أول شهور سنتهم، ويسمون اليوم السادس النيروز الكبير؛

لأن الأكاسرة كانوا يقضون في الأيام الخمسة حوائج الناس على اختلاف طبقاتهم

ثم ينتقلون إلى مجالس أُنسهم مع خواصهم فيه، وهو يعمل في 17 حزيران، وقيل:

في 11 منه. وأما المهرجان فوقوعه في 16 تشرين أول من شهور السريان، ومن

شهور الفرس في 16 من مهرماه وهو ستة أيام ويسمى اليوم السادس المهرجان الأكبر.

وسبب اتخاذهم له [2] أن بيوراسب وهو الضحاك ويقال له: أوذهاق. ذو الحبتين

والأفواه الثلاثة والأعين الست الداهية الخبيث المتمرد لما قتل جمشاد

وملك جاءه إبليس في صورة خادم فقبَّل منكبيه فبدت فيهما حبتان وكانتا تؤلمانِه

فوصف له دمعة الناس فكان يقتل كل يوم غلامين لذلك، فأجحف بقتل الولدان في

الرعية، فخرج رجل بأصبهان يقال له: كابي. وعقد لواءً من جلد أسد ودعا الناس

إلى محاربة الضحاك، فاجتمع له خلق كثير ولما تحقق عند الضحاك ذلك هابهم

وهرب منهم فاجتمع الفرس إلى كابي ليُملِّكوه فقال: ما أنا من أهله.

وذكر لهم أن معه صبيًّا من ولد جمشاد يسمى فريدون وقال: أرى أن تملكوه وتعيدوا

المُلك إلى أهله. فملكوه، فخرج فريدون في طلب الضحاك فوجده، فأخذه وشده

وحبسه في جبل دنياوند وجعل ذلك اليوم عيدًا وسماه المهرجان. وقيل في

سبب اتخاذه غير ذلك.

وكانوا يتهادون في النيروز والمهرجان بالمسك والعنبر والعود الهندي

والزعفران والكافور. وأول من رسم هداياهما في الإسلام الحجاج بن يوسف الثقفي،

وأول من رفع ذلك عمر بن عبد العزيز واستمر ذلك إلى أن فتح الهدية فيه أحمد بن

يوسف الكاتب، فإنه أهدى فيه للمأمون سفط ذهب فيه قطعة عود هندي في طوله

وعرضه وكتب معه: (هذا يوم جرت فيه العادة بألطاف العبيد للسادة) .. إلى آخر

ما قال.

وأما السذق فيعمل في ليلة 11 من شهر أيار - مايو - ويسمى هذا اليوم عند

الفرس روزابا؛ لأن لكل يوم من أيام الشهر عندهم اسمًا، ويقال في سبب اتخاذهم له

أن فراسياب لما تملك سار إلى بلاد بابك فأكثر فيها الفتنة وخرب ما كان عامرًا منها

فخرج عليه زفرب بن طهمازشب فطرده عن مملكة فارس إلى بلاد الترك، وكان ذلك

في يوم روزابان فاتخذ الفرس هذا اليوم عيدًا وجعلوه ثالثًا لعيدي النيروز والمهرجان

ولما تملك وضع عن الناس خراج سبع سنين فعمرت البلاد. وقيل في السبب غير

ذلك، وللفرس أعياد دون ما ذكرناها منها عيد يسمى نيركان وأيام الفيروزجاة، أي:

تربية الروح وركوب الكوسج وبهمنجه.

أما القبط والنصارى فقد قيل: إن أعيادهم أربعة عشر عيدًا، سبعة يسمونها

كبارًا وسبعة أخرى يسمونها صغارًا.

فالكبار: البساره (1) والزيتون (2) والفصح (3) وخميس الأربعين

(4)

وعيد الخميس (5) والميلاد (6) والغطاس (7)، وأما الأعياد الصغار:

فالخنان (1) والأربعون (2) وخميس العهد (3) وسبت النور (4) وحد

الحدود (5) والتجلي (6) وعيد الصليب (7) .

وأما اليهود فقد قيل: إن أعيادهم خمسة، يسندونها إلى التوراة وهي:

(1)

عيد رأس السنة يعملونه عند رأس سنتهم وينزل عندهم منزلة عيد

الأضحى عندنا. (2) وعيد صوماريا وهو عندهم الصوم العظيم الذي فرض

عليهم صومه ومدته خمس وعشرون ساعة، (3) وعيد المطل (4) وعيد الفطير

(5)

وعيد الأسابيع - وهذه الثلاثة الأخيرة حجوج عندهم - والذي أحدثوه بعد

الخمسة عيد الفور وعيد الحنكة.

وأما المسلمون فلنذكر ما اشتهر من أعيادهم على سبيل الاختصار والإيجاز

فنقول:

قد تقدم أصل مشروعية عيدي الفطر والنحر وأنهما استبُدلا بيومين كان أهل

المدينة يلعبون فيهما في الجاهلية وقيل: هما النيروز والمهرجان. وسبب الاستبدال

أنه ما من عيد إلا وسببه إقامة شعار ديني أو تعظيم بعض أئمة الدين أو شيء مما

يضاهي ما ذُكر، فكان في هذا الاستبدال محو ما عساه يكون منشأ اللعب في ذينك

اليومين من شعار الجاهلية وإقامة سنة سلفهم الضالين وإثبات شعائر الملة الحنيفية

وإقامة سَننها، وشرع فيهما مع التجمل والتوسع والفرح والسرور - ذكر الله تعالى

وطاعات أخرى تنزهًا عن إمضاء الوقت كله في اللهو واللعب وخلوّه من إعلاء كلمة

الله.

أحد العيدين يوم الفطر من صيامهم وأداء نوع من زكاتهم، فيجتمع فيه الفرح

الطبيعي بالتفرغ من مشقة الصيام، وبتوسعة الأغنياء على أنفسهم وأخذ الفقراء

الصدقات، والفرح العقلي بالتوفيق لإكمال العدة والتعرض للمثوبة والأجر وببلوغ

الموسم مع النعم في الأهل والمال بالنسبة للأكثرين.

والثاني يوم الفراغ من معظم أركان فريضة الحج الواجب على مجموع الأمة،

ويقوم به بعضها في كل عام، وتذكار محاولة سيدنا إبراهيم ذبح ولده إسماعيل

(عليهما الصلاة والسلام) وإنعام الله تعالى عليهما بأن فداه بذِبْح عظيم. وناهيك بتذكر

أئمة الملة الحنفية والاعتبار بهم في بذل المهج والأموال في طاعة الله تعالى وقوة

الصبر، وفيه تشبّه بالحجاج وتنويه بهم وتشويق لما هم فيه.

وشرعت في الأول زكاة الفطر وهي واجبة، وفي الثاني الأضحية وهي سنة

عند بعض الأئمة وواجبة عند آخرين. وبهذين النوعين من الصدقة تكون أيام العيدين

أيام سعة على الأمة كلها وهو معنى كونها ضيافة الله تعالى، وشرع في كل منهما

التكبير والصلاة المخصوصة والخطبة؛ ليجتمع لهم السرور الروحاني والجسماني

معًا، وفي العيدين مقصد من أهم مقاصد الشريعة وهو الاجتماع العام للتعارف

والتآلف، ومعلوم أنه لا بد لكل ملة من اجتماع في صعيد واحد؛ لتظهر شوكتهم وتعلم

كثرتهم؛ ولذلك استحب في العيدين خروج جميع المسلمين إلى المصلَّى حتى الصبيان

والنساء، ومن لا يصلي من النساء يعتزلن المصلى ويقفن جانبًا يشهدن المصلين؛

ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يخالف في الطريق ذهابًا وإيابًا؛ ليطلع

أهل الطريقين على شوكة المسلمين. ولما كان الأصل في العيد إظهار الفرح

والسرور بالزينة ونحوها استحب فيهما حسن اللباس والتقليس - ضرب الدفوف -

وروي عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان

وتضربان - وفي رواية تغنيان - بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث، والنبي صلى الله

عليه وسلم متغشٍّ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن

وجهه وقال: دعْهما يا أبا بكر؛ فإنها أيام عيد، وفي رواية: (يا أبا بكر لكل قوم

عيد وهذا عيدنا) حديث متفق عليه.

وتفصيل القول - فيما يُطلب شرعًا في الأعياد - يراجع في كتب الفقه.

...

...

عبد الحق حقي البغدادي الأعظمي الأزهري

_________

(1)

(الحج: 67) .

(2)

المنار: هذه الحكاية من أساطير الفرس الخرافية يتناقلها المؤرخون الذين ألفوا الخرافات.

ص: 97

الكاتب: أحد أفاضل الأمراء والكتاب في الشام

‌الساكت عن الحق شيطان أخرس

لأحد أفاضل الأمراء والكتاب في الشام

عثرت - بطريق المصادفة والاتفاق - على مقالة في جريدة طرابلس في

العلاج الشافي من داء التأخر الملمّ بنا برّأ بها محررها ساحة العلماء من تبعة هذا

التأخر، وادعى أن العلاج الشافي هو عقد الشركات، وسكت عما سوى ذلك من الأمور المهمة مكتفيًا بالعَرَض عن الجوهر، فلم أشأ أن أسكت عن بيان الحق؛ لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس فأقول:

أما تبرئته ساحة العلماء فلا أراه مصيبًا فيه؛ لأن العلماء هم هداة الأمة

ومرشدوها وهم المطالبون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم إذًا المسئولون

بعد الأمراء الذين بيدهم الحل والعقد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ألا كلكم

راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) ، ولقوله أيضًا: (ما من عبد يسترعيه الله رعية

فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة) إلى غير ذلك من الآثار الكثيرة التي

نكتفي منها بما تقدَّم.

ووجه مسئولية العلماء هي لأنهم عدلوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إلى التزلف والتملق للأمراء وأصحاب الجاه واليسار، وعن الإرشاد الصحيح إلى

التضليل، وعن بث العلوم الصحيحة إلى التعلق بأهداب الخرافات والتُّرَّهَات، أما

الأول فهو ظاهر فيما نراه من إقبالهم على الأمراء وإطرائهم إياهم وتزيينهم لهم سوء

أعمالهم لرتبة ينالونها أو مال يصيبونه أو جاه يحصلون عليه؛ حتى إن واحدًا منهم

ألف كتابًا ضخمًا في مجلدين في إطراء أحد الظلمة الخونة. وأما الثاني فهو معلوم

من وعظهم وإرشادهم بحكايات يحكونها وروايات يروونها، ما أنزل الله بها من

سلطان؛ يُضلون بها العقول، ويفسدون الأفهام ويثبطون الهمم ويُقْعدون

العزائم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ألا ساء ما يعملون. وأما الثالث فلعدولهم

عن العلوم الصحيحة الحقة إلى السفاسف، ومزْجهم الحق بالباطل كما هو مثبت بتقاريرهم التي يلقونها في دروسهم المشحونة بالأقاصيص والحكايات، وبتآليفهم

السخيفة البعيدة عن التحقيق الحاوية ما تمجّه الأذواق وتأباه العقول السليمة.

نكتفي منها بإيراد ما يأتي من كتاب (الفواكه الجنوية في الملتقَطات النجوية

تأليف العالم العلامة البحر الفهامة مَن فضله في الأقطار ساري الأستاذ الشيخ عبد

الهادي نجا الإبياري أمد الله في حياته ونفع المسلمين بمؤلفاته، آمين) (كذا في

الأصل) ، فقد جاء في الصحيفة 145 من النسخة المطبوعة في القاهرة ما نصه

بالحرف الواحد:

(ومما جرب للقرينة وأخذناه عن بعض الأكابر أن يسقى الطفل لبن معزى

حمراء، ويدهن جسده كله من هذا اللبن، وأن يعلق عليه بندقى، وأن يحك عود

الصليب الهندي الأصلي في لبن البز، ويسقى له، وأن يؤخذ فراخ الحمام الصغار

وينتف ما على دبرها من الوبر ويوضع منفذ الدبر منها على منفذ دبر الصبي، فكل

حمامة ماتت توضع غيرها وهكذا. إلى أن يصيب الأخيرة شيء فيعلم أنها ذهبت،

ومما جربناه للقرينة أيضًا أن تحضر عجوز قد آيست من الحيض وتوضع وجه الطفل

أمام

وهو مفتوح، وتوضع إصبعها فتلطخه برطوبة

وتخط به (صليبًا!)

على جبهة الطفل، ثم تأخذ قطعة شبه زفرة قدر البندقة وتخط بها (سبع) خطوط

على جبهته أيضًا، ثم تحرقها وتضعها في رغيف وترميه لكلب أسود يأكله، والشب

المذكور إذا وضع على رف في البيت بعد أن حك به جبهة الصبي مرارًا وأحرق

وكان بالصبي نظرة - فإنها تذهب ولا تعود) (انتهى) .

فهؤلاء هم العلماء والمرشدون في هذا العصر، وفي كل يوم نسمع منهم أشياء

كثيرة تماثل ذلك أو تزيد عليه ومن أنكر عليهم رموه بالزندقة وقالوا: إنه مارق من

الدين. ونفروا العامة منه، فعلى مثل هذا الجهل يؤاخَذ العلماء. أما ما ذهب إليه من

عقد الشركات فهو من الأمور الثانوية و (حاجتنا الكبرى) إنما هي إلى عمال

أمناء صادقين أكْفَاء عفيفين متهالكين متفانين في حب الدولة والوطن، يساعدون سيدنا ومولانا الخليفة الأعظم على إنفاذ رغائبه في تعميم الإصلاح بنشر ألوية

العدل والضرب على أيدي الظلمة الخونة؛ فإن الظلم مُؤْذِن بخراب العمران، كما

أثبت ذلك العلامة ابن خلدون في مقدمته. وهذا لا يتم إلا بتوسيد المناصب

إلى أهلها، وتعميم العلوم والمعارف بين طبقات الناس والسيطرة على الأعمال

ومكافأة الأمين الصادق ومجازاة الخائن المارق ونهضة العلماء لإرشاد الناس لما

فيه صلاح دينهم ودنياهم فعندها تتوفر الأموال وتتوطد الأمنية فتعقد الشركات وتحيا

الصنائع وتنمو الثروة..إلخ، فعلى الجرائد الصادقة أن ترمي إلى هذا الغرض

وتبوح بهذا السر وتكشف عن هذا المُعمى؛ فإن كتمان الداء يزيده عياءً، والناصح

الأمين لا يماحك ولا يوارب ولا يغش ولا يخادع. وبالله التوفيق.

(المنار)

طفقت الأمة تتنبه إلى عذل العلماء ولومهم على تقصيرهم في إرشادها إلى ما

تقوم به مصالحها المعاشية والمَعادية وفقًا لدينها القويم، فهذه رسالة من أحد بلاد

سوريا، وعندنا رسالة أخرى أشد عذلاً من هذه. تنبهت الأفكار في جميع الأقطار فإذا

لم يلتفت العلماء إلى النظر الدقيق في أحوال العصر وما تقتضيه مصلحة الأمة فيه،

ويقوموا بالإرشاد الصحيح الموصل للغاية يوشك أن لا يمر بضع سنين إلا والرأي

العام منحرف عنهم أشد الانحراف بل ينتظر ما هو أعظم من هذا.

نعم، إن هذا مما تتوقع مضرته وتخشى مغبته، ولكنه ليس بأضر من الخضوع

الأعمى لهم، وهم على ما هم من الشؤون التي تكلمنا عنها في مقالات كثيرة وسنزيدها

شرحًا وبيانًا، أليس من العار أن تكون كتب المشهورين بالنباهة منهم مملوءة

بالخرافات والهذيان والغش من غير نكير، وأن ينقل عن بعض أكابرهم القول بأن فن

تقويم البلدان - بل وسائل الفنون الرياضية والطبيعية - لا لزوم لها ألبتة؟ !

أليس من الفضيحة أن يقول بعضهم: إن الانتظام والترتيب مفسد للأزهر ومُذهب

لبركته؛ لأن في الخلل القديم سرًّا روحانيًّا؟!

كفى كفى؛ مَن كتم داءه قتله. ليأخذ من لم يعرف أحوال العصر برأي من

عرف. ليخضع من تقوم عليه الحجة لها، وليتفقوا جميعًا على العمل قبل أن يخرج

الأمر من يدهم. والسلام.

_________

ص: 103

الكاتب: محمد رشيد رضا

تربية الأطفال

أول خدمة يخدم بها الطفل بعد فصله من أمه - غسله ودهنه وإلباسه ما يقي

بدنه من البرد وإرضاعه، وأما الغسل فينبغي أن يكون بماء فاتر مساوٍ لحرارة البدن

أو قريب منها، وأن لا تطول مدته، وأن يلف جسم الطفل كله بمنشقة ويدلك دلكًا

لطيفًا بغاية الرفق، ثم يدهن بزيت الزيتون ويلبَس ثيابًا واسعة لا تضغط جسمه،

ويحسن أن تكون في أيام الشتاء دافئة ولو بالعرض على النار، وأن تكون جافة؛

فالثياب الرطبة تضر الأطفال بل والكبار أيضًا، وبلغنا أن الإفرنج يمسحون في كل يوم أجساد أطفالهم بماء فاتر وماء بارد على التعاقب مرة من هذا ومرة من

ذاك ويقولون: إن تعويد الطفل على هذا يمنع سرعة تأثره بالتغيرات الجوية

كالانتقال الفجائي من الحرارة إلى البرودة ومن الجفاف إلى الرطوبة وبالعكس،

وقريب من هذا ما يؤثر في كتب الأدب العربية من أن رجلاً رأى أعرابية تغطس

طفلها في النهر في أيام الشتاء فسألها عن السبب في ذلك فقالت: أريد أن أجعله كله

وجهًا. تعني أن الوجه إنما لا يضره البرد لما اعتيد من تعريضه له من الصغر

فإذا عُود الجسم كله على برد الماء والهواء يصير يحتمله كما يحتمله الوجه.

ولكن هذا القول لا يؤخذ على إطلاقه؛ فالذين اعتادوا الترف والتنعم

والاحتراس من البرد وتوارثوا ذلك خلفاً عن سلف إذا عرض أحدهم طفله للبرد

الشديد وحاول جعله وجهًا بالتعويد يوشك أن لا يتم له ما يريد فيولد الماء البارد في

ولده الالتهابات التي ربما تنتهي بالممات! وقياس مترفي الحضر على الأعراب

قياس مع الفارق.

أما المسح بالماء الفاتر فالبارد بإسفنجة في نحو بضع دقائق ثم تنشيف البدن

ودلكه، فلعله ينفع ولا يضر حتى المترفين أصحاب الأجسام النحيفة الضاوية، ولا

بأس أن يغطس الطفل في الماء البارد فالسخن على التوالي والتعاقب بعد أن يكون قد

اعتاد جسمه على ذلك المسح، وبعد طور الرضاعة يكتفى بمسح الوجه والرقبة

والصدر بما ذكر؛ فهو يغني عن مسح البدن كله أو تغطيسه.

أكثر الأمراض التي تفتك الأطفال في سن الطفولية تكون من التغيرات الجوية؛

لأن الجسم فيه يكون سريع التأثر لا يقوى على الحر والبرد والرطوبة فضلاً عن

مقاومة مكروبات الأمراض العفنة الوبائية كالنزلة الوافدة أو الصدرية. وهذا العمل

يقولون: إنه يقي من هذه النزلة ومن التهابات الرئتين والشعب وأنواع الزكام وسائر

الأمراض الصدرية والمتولدة من التغيرات الجوية حتى قالوا: إنه يُذهب بالاستعداد

للسل. وحسبك هذا.

أما الرضاعة فيراعى فيها أمور، أهمها: أن ترضع الطفل أمه إن لم يكن

مانع من نحو مرض معدٍ أو هزال وضعف يضر المرضع أو الرضيع، فإن

أرضعته امرأة أخرى فينبغي أن تكون في سن الشباب سليمة من الأمراض المعدية

جيدة الصحة حسنة الخُلق والخَلق. وحسن الأخلاق من أهم شروط المرضع؛ لأن

اللبن كما يؤثر في انتقال المرض بالوراثة يؤثر في الأخلاق وإذا قلنا: إنه لا يؤثر في

الأخلاق. فمعاملة الفاسدة الأخلاق للطفل تكون غير منتظمة وقد قلنا من قبل إن

المعاملة التي تعامل بها الأطفال يكون لها تأثير كبير في عاداتهم وسجاياهم. يحكى

أن إمام الحرمين أرضعته مرة امرأة كافرة فاسدة الأخلاق فعلم والده بذلك فأقاءه

(جعله يقيء) ما رضعه، ثم إن الإمام بعدما كبر وصار علاّمة عصره كان إذا عسر

عليه حلّ مشكلة علمية أو بدرت منه بادرة غير مُرضية قال: إن هذا من آثار تلك

الرضعة. وقد ورد في الحديث الشريف: (لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء؛ فإن

اللبن يعدي) ويحسن أن يكون سن ولد المرضع مساويًا لسن الرضيع، وأن يكون قد

سبق لها إرضاع اختبرت به التربية.

وإذا لم يتيسر وجود مرضع بهذه الصفات فالأولى أن يغذَّى الولد بلبن

الحيوانات كالمعز والبقر بواسطة الآلة المعروفة؛ فإنه أسلم، ولكن لبن الأنعام أغلظ

من لبن البشر وربما اشتمل على مكروبات مرضية، فينبغي أن يضاف إليه قليل من

الماء والسكر بحسب تقدير الطبيب، وأن يسخن بحيث تموت مكروباته، ويكفي في

تسخينه حرارة 70 درجة بميزان سنتغراد. واللبن المغليّ أعسر هضمًا فلا يغلي لبن

الإرضاع غليانًا. ويجب أن تكون الآلة جديدة صالحة فإن كانت مما استعمل في

الإرضاع يجب تنظيفها وتطهيرها مما عساه يكون بها من التعفن ومكروبات

الأمراض.

هذا ما يراعَى في المرضع واللبن بالاختصار، أما الإرضاع نفسه فينبغي أن

يكون موقتًا بأوقات منتظمة لا يقل الزمن بين الرضعة والأخرى عن ساعتين في

أول الأمر، ثم تزيد المدة بينهما تدريجًا؛ لأن الطفل يأخذ في أول الأمر قليلاً من

اللبن وكلما كبر زاد مقدار ما يرضعه،والزيادة تقتضي زيادة المدة لأجل الهضم، وإن

كانت القوة تزيد معها أيضًا. وأكثر النساء لجهلهن لا يقصرن الإرضاع على التغذية

بل يجعلنه وسيلة للترضية، فكلما بكى الطفل يلقمنه الثدي، وربما يتوهمن أنه لا

يبكي إلا لطلب الرضاع أو أن كل بكاء يسكته الرضاع فهو لأجله، وإلا فهو عن

مرض. والصواب أن الطفل يبكي لأقل سبب كابتلال لفائفه وتألم بدنه ولو

من عقدة خيط في ثوبه.

وإذا حاول الطفل الحركة التي تقتضيها طبيعته فحال دون ذلك شد القماط عليه

يبكي، فليتجنب الإرضاع في غير وقته لأجل البكاء، وليعلم أن أكثر قيء الأطفال

من الإرضاع قبل الهضم، وناهيك به بلاءً على الأمهات والأطفال جميعًا.

أما مدة الرضاع فأكملها حولان تامان وأقلها واحد وعشرون شهرًا؛ أخذ ذلك

العلماء من قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن

يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233)، وقوله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ

شَهْراً} (الأحقاف: 15) وذلك بطرح مدة الحمل الغالبة (9 أشهر) من مدة

الحمل والفصال (أي: الفطام) معًا، كما استنبطوا من الآيتين أن أقل مدة لحملٍ ستة

أشهر، وسيأتي الكلام على إطعام الأطفال وتقريمهم إن شاء الله تعالى.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 107

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌تقريظ المطبوعات

(كتاب تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية)

لكل عصر من الأعصار مناهج مخصوصة في شؤون أهله الحسية والمعنوية

أو المادية والأدبية والأمور الثابتة التي تتغير بتغيُّر الزمان يطرأ التغيير على

وسائلها وعوارضها، وقد قال العلماء: إن من أسباب تغير الشرائع حتى

السماوية اختلاف شؤون البشر باختلاف الزمان. وأجمع المسلمون على أن الدين

الإسلامي آخر الأديان وشريعته خاتمة الشرائع. وإنما كان كذلك؛ لأنه جاء بقواعد

عامة تنطبق على مصالح البشر في عصر التشريع وفي كل عصر يأتي بعده مهما

بلغوا من الترقي في العلوم والأعمال، لكن هذه القواعد الصحيحة الثابتة تحتاج إلى

من يجليها في هذا العصر بما يناسبه ويستنبط منها الأحكام التي توافق مصالح

أهله، ولا يمكن أن يقوم بهذا العمل الشريف الذي يتوقف عليه حفظ الإسلام وأهله

فضلاً عن انتشاره وعزة أهله - إلا مَنْ عرف وقته وعرف الدين معرفة صحيحة.

ومن الأسف أن أكثر التصانيف الإسلامية في القرون الأخيرة أو كلها مأخوذة

من كتب المتقدمين نسخًا يشبه المسخ، وأنه لم يكن يوجد عندنا كتاب في الدين إذا

عرض على متمدني هذا العصر يأخذ من قلوبهم مأخذًا يستلفتهم إلى النظر في الدين

بتمثيله سائقًا لهم إلى سعادة الروح والجسد على الوجه الذي يناسب زمنهم وعمرانهم

حتى قام حكيم المسلمين في هذا العصر العلامة الشيخ محمد عبده وألف (رسالة

التوحيد) الشهيرة. وأمامنا الآن كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس

المدنية) الذي نوهنا به في العدد 33 من السنة الأولى لجريدتنا عند الشروع في

طبعه وذكرنا أن مؤلفه صديقنا هو القاضي الشاب الذي فاق الشيوخ أناة وكمالاً

وعملاً بعمله محمد فريد أفندي وجدي.

أما الكتاب فقد تم طبعه وقرأناه فإذا هو قد وافق اسمه مسماه، افتتحه بمقدمات

في الدين والعلم والإسلام، بيَّن فيها أن الدين ناموس عام ضروري في الكون كسائر

نواميسه، وذكر آراء مشاهير فلاسفة أوربا في النسبة بين الدين والعلم وفيما ينبغي أن

يكون عليه الدين، وبيّن أن العلوم الطبيعية خدمت الإسلام وأنها كلما ترقت وزاد

الناس رسوخًا فيها زادوا قربًا من الإسلام، وأن القواعد التي وضعها الفلاسفة

للديانة الطبيعية موجودة في دين الإسلام، وهي أربع:

(1)

الاعتقاد بأن الله غني عنا وعن أعمالنا.

(2)

وأنه رحيم بنا ويود صلاحنا.

(3)

أن العبادة يجب أن تنطبق على النواميس الثابتة للحياة وتلائم الطبيعة

البشرية لا أن تعارضها وتسعى في ملاشاتها.

(4)

وأن العبادة الجسمية يجب أن تعتبر وسائل لتطهير النفوس وتهذيبها لا

أغراضًا مطلوبة لذاتها.

واستدل على وجواد هذه الأشياء في الإسلام بالكتاب والسنة، ثم عقد فصولاً

في نواميس المدنية وانطباقها على الإسلام مبينًا النواميس بأقوال علماء أوربا

مستشهدًا على الانطباق بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وأراني مضطرًّا لأن

أقول: إن من الأحاديث التي أوردها ما لا يصح رواية وإن كان معناه صحيحًا ومسلّمًا

في الدين ولو راجع كتب الحديث لوجد في معنى تلك الأحاديث الواهية الإسناد

أحاديث صحيحة، وعساه يستدرك هذا في طبعة ثانية.

وقد خاض الكتاب في كثير من المسائل العصرية وبيّن نسبتها إلى الدين

الإسلامي: كالحرية بأنواعها، والواجبات بأنواعها، وبراءة الإسلام من الحقد

الديني المعبر عنه بالتعصب والاسترقاق، وأن الإسلام راعى فيه ناموس، الحضارة

وكون الإسلام هو الدين الوحيد الذي راعى حقوق الروح والجسد معًا، وختم الكتاب

بنظرة في الإسلام والمسلمين أجمل فيها القول في أمراض المسلمين وبيان دوائها

الذي هو الإسلام نفسه.

وكفى هذا الكتاب شرفًا أننا جعلناه ثاني كتاب رسالة التوحيد التي لم يؤلّف

مثلها في الإسلام قط، ولعمري إن مؤلفه الفاضل جرى على آثار الأستاذ في الرسالة

أسلوبًا وبحثًا، ولا يعيبه أنه لم يبلغ شأوه بلاغةً وتحقيقًا وتحريرًا؛ فالأستاذ حكيم

الأمة في هذا العصر وأبلغ كُتاب العربية أجمعين. ومن جملة ما تبع فيه رسالة

التوحيد تشبيه النوع الإنساني كله بشخص منه، وبيان أن جميع الأديان والشرائع

السابقة كانت مناسبة لأطوار النوع من الطفولية ومبادئ التمييز، وأن الإسلام هو

الدين الذي منَّ الله به على الإنسان عند ابتداء دخوله في طور الرشد والعقل؛ ولهذا

كان آخر الأديان، على أن في الكتاب من الفوائد الكثيرة ما ليس في الرسالة كما أن

فيها ما ليس فيه، فلا يُستغنَى بأحدهما عن الآخر. ومما يمتاز به الكتاب سهولة

التناول؛ فيتسنى لجميع طبقات الناس فهمه. وسننقل منه نموذجًا تعرف به مكانته من

الفائدة إن شاء الله تعالى. ومما انتقدناه على صديقنا الفاضل مؤلفه أنه هضم حقنا في

خدمتنا في المنار؛ حيث قال - في فاتحة الكتاب - ما نصه:

(نسمع كل جمعة على المنابر قائلاً يقول: لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا

من القرآن إلا رسمه. ولكنا لم نسمع قط بأن عاقلاً قام يبحث بدقة وثبات عن أسباب

هذا الاضمحلال الشديد الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية من منذ (كذا) قرون كثيرة،

أما والعلم لو بحث باحث عن علل هذا الهبوط الهائل بعد ذلك الصعود السريع -

ما وجدها إلا في ترك السنن واتباع البدع) .

نحن قد سبقناه إلى هذا في المنار إجمالاً وتفصيلاً؛ حتى إن عبارة الخطباء

التي قالها قد ذكرناها في مقالة افتتحنا بها العدد 19 من السنة الأولى أو تكلمنا فيها

على البدع. وقد كتب المؤلف - لهذا العاجز منشئ المنار - كتبًا كثيرة يثني فيها

على خدمتنا للإسلام، وكأنه ذهل عن ذلك عند كتابة ما ذكر، وسبحان المنزه عن

الذهول والنسيان.

***

(إظهار لفضل وإصداع بحق)

لبعض الأدباء التونسيين

لا يخفى على حضرة القراء أنه ظهر في عالم المطبوعات من عهد غير بعيد

جريدة المنار المصرية لمنشئها الفاضل السيد محمد رشيد رضا وهو أحد فضلاء

الشرقيين، ومن يوم بروز هاته الجريدة إلى عالم الوجود أخذت تنشر مقالات علمية

في مواضيع شتى، يكتب مضمونها بالنور على نحو الحور، ولقد تصفحنا ما صدر

منها عددًا عددًا؛ فوجدناها قد بينت الأسباب التي هدمت الهيكل الإسلامي وقوضت

مجده إلى أن أوصلته إلى حالة اليوم.

منها مقالة في الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية في تلافي

البدع والتعاليم الفاسدة التي انتشرت بين المسلمين انتشارًا أضر بجامعتهم.

ومنها مقالات في أعمال المنتسبين للأولياء والصوفية التي خالفت الشرع

ظاهرًا وباطنًا والاحتجاج عليهم بكتاب الله وسنة رسوله وأعمال السلف الصالح، إلى

غير ذلك من المقالات التي وقع لها دوي عظيم في الأصقاع الإسلامية، وحيث كانت

هاته الأفكار لا تخفى على مَن له اطلاع على ما جاءت به شريعتنا السمحاء وعلى

ما يعتقده غالب الإسلام من الخرافات الباطلة والأوهام الفاسدة - وجب علينا أن

نعضد هذا الفكر بكل ما في الوسع، ونعلن بفضل هاته الجريدة على رؤوس الملأ.

ولا فائدة لنا في بيان ما اشتملت عليه من الحقائق المسلّمة، وإنما نحثّ أبناء

العلم والوطن على اقتناء هاته الجريدة الغراء؛ فإنها المرشدة الوحيدة واللؤلؤة الفريدة

والناصحة الأمينة والدرة الثمينة، ونقدم إلى صاحبها خالص الشكر والثناء عما قام به

من النصيحة نحو المسلمين، والله لا يضيع أجر المحسنين.

...

...

...

...

... (الحاضرة)

(المنار)

إذا كان الإخلاص في النصيحة حسنًا فتوجيه النظر إلى سماعها يكون حسنًا

أيضًا، وإذا كانت خدمة الملة والأمة محمودة فلا شك أن المساعدة عليها محمودة،

وحيث كان الساعي بالخير كفاعله فصاحب هذه النبذة الحاضَّة على زيادة انتشار

المنار - هي مشاركة لنا في الخدمة به، فحمدًا له وشكري، ونسأل الله تعالى أن يكثر

في الأمة أمثاله من أهل الغيرة والفضل.

_________

ص: 109

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

استنهاض همم

رسالة مطولة لأحد فضلاء الكُتاب في سوريا

(1)

لم نر الحديث تسلسل في هذا الموضوع بين الكتاب مثلما رأيناه لهذا العهد، ولم

نعهد للأقلام جولة في هذا المضمار كجولتها في هذه الأزمنة المتأخرة شعور سماوي

قام في نفوس النبهاء من المسلمين وعقلائهم، وروح زكي هبط عليهم من عالم القدس

فبعث راقد هممهم. إذا تهامس أبناء طنجة بحديث في الإصلاح رنَّ صداه بين أبناء

سنغابور وحوّموا عليه، أو قدح هؤلاء زناد رأي في عمل لاح له وميض في جو

أولئك واشرأبُّوا إليه، وإن تموج الهواء من أقصى الجنوب لهمهمة مسلميها أصاخ له

إخوانهم في أقصى الشمال، وإن تناجَى اثنان هنا انتقلت نجواهما إلى هناك انتقال

الكهربائية بدون أسلاك، أهاب المتيقظ بالمهوّم [1] ، وصاح المنتبه بالغافل وتلتل

العامل المقصر واستحث السابق المتأخر، وهم - في حوارهم هذا - مجمعون على أن

الأمة في مرض يقرب من الحَرَض، وكادوا يصفقون على أن علاجه الناجع هو تعميم

التربية والتعليم. هل الأمة في عوز لتناول هذا العلاج، وهل يتسنى لها تناوله،

وإن أحجمت عن تناوله كيف يكون مصيرها وإلى أي بيئة تتحول بيئاتها؟

استدعى هذا السؤال جوابًا مسهبًا واستثار حديثًا طويلاً، وكنت في ملأ من أهل

اليسار والجاه والنعمة والرفاه؛ فأحببت أن أرفعه على صفحات (المنار) علّ فيه

موعظة وذكرى لأولي الأبصار.

قلت أولاً: إن الحكومات الإسلامية التي ما برحت تحافظ على استقلالها هي

أربع:العثمانية، والفارسية، والأفغانية، والمراكشية.أما بقية الجماعات الإسلامية

فهي إما إمارات مستضعفة تلوذ بالدول الإفرنجية أو تستظل بحمايتها. وإما قبائل

رُحَّل تضرب في صحارِ إفريقية ومجاهل آسيا، وهناك أقوام سقطوا في مهاوي

الاستعمار الأوربي وخنعوا لصولجان الحكم الأجنبي، ولا جرم أن النهضة في

إصلاح الخلل ورتق الفتق، إنما تُرجَى على أكملها في الحكومات الأربع المستقلة. إذا

لم تسعَ تلك الحكومات في التقرب من بعضها ولم تتدبر عاقبة أمرها فبشِّرْها

بسوء المنقلب وشؤم المآل.

كيف يؤمّل الإصلاح العام إذا لم يمشِ رجالات [2] من أهل المشرق إلى

رجالات من أهل المغرب، ويتحاوروا في إصلاح شؤونهم ويديروا الرأي في مواساة

عللهم وتضميد كلومهم؟ كيف تتحد القلوب وتلتئم الأهواء وعلماء تلك الحكومات

متخاذلون ومن الصراط السوي ناكبون، لا يعترف أحدهم للآخر بشأن ولا

يستصوب له رأيًا إلا إذا وافق هواه ولاءم ما قام في نفسه؟ إذا آنس أحدهم من

الآخر معارضة أو مخالفة بهره [3] بالزندقة والمروق، وزنه [4] بالكفر والإلحاد! -

كل ذلك ليلوي عنه أعناق السامعين ويصرف قلوب المعجبين، ويستأثر بالشهرة بين

العالمين. كيف يرجى الإشراف على الغاية التي تتوخى الوصايا إليها وأولو الأمر

في تلك الحكومات لا يهمهم سوى حفظ مراكزهم وصيانة جثمانهم؟ قصروا أيدي

نبهاء الأمة عن مشاركتهم في إدارة شؤونها ومشايعتهم في رأب صدوعها، وأخذوا

بأكظامهم [5] دون التفوه بكلمة تؤْذِن بإنعاشها وتعمل على إسعادها.

فعلوا ما فعلوا إرادة المحافظة على الإطلاق والاستئثار بالسلطة والانفراد

بالأمر، ليتهم يعلمون أن ذلك الإطلاق الذي توخوه هو عين التقييد والحجز، أليسوا

في هلع دائم وجبن خالع من حدوث ثورات تقضي على سلطتهم وتبزهم إطلاقهم

واستبدادهم؟ أليسوا في حذر وإشفاق من تألب الأمة عليهم وأخذها على أيديهم؟

أليس كل خطأ في سياسة البلاد أو خلل في إدارة مصالحها وأعمالها يُنسب في العادة

إلى عاهلها أو أميرها إذا كان مطلق التصرف ويُعزَى إلى أفن رأيه وسوء تدبيره؟

هذه شؤون المطلقين المستأثرين بالسلطة. اصرفوا أبصارَكم تلقاء أولئك الذين

زحزحوا عن عواتقهم عبء المسؤولية، وألقوا معظمه على رجال من أممهم، وقيدوا

أنفسهم بآراء المنتخبين والشرائع والقوانين - تروهم يتقلبون في شؤونهم وملء

عيونهم غمض، وحشو أجسامهم أمن، لا تسمع في بلادهم لاغية شكوى عليهم، ولا

تحس برِكْز أو حسيس [6] لثورة في خضد شوكتهم وثل عروشهم إذا ألمَّ بسياسة الأمم

ضعف أو فساد، أو حدث في مصالحها العامة تراخٍ أو خلل - كان المسؤول بتلك

التبعة والمطالب بسوء نتائجها هو الذي جناها واجترحتها يده، لا ينحى على الزعيم

الأكبر بلائمة ولا ينبس في النيل منه بكلمة. لا جرم أن المسمى بالإطلاق هو عين

التقييد، والمسمى بالتقييد هو عين الإطلاق.

أنى يُتاح للأمة إفاقة من هذا الخمار أو تفلت من أحابيل الجهل والضعف

والاستخذاء (المذلة) وروحها التي هي المال في قبضة أناس لا يهمهم سوى إنفاقه

في سبيل شهواتهم؟ ليت شعري بماذا يمتاز المسترسلون في ملاذهم المنغمسون في

شهواتهم عن البهائم المرسلة إذا لم يبذلوا جزءًا من دثرهم - مالهم الكثير - في إنقاذ

أمتهم من الجهالة، وتنوير عقول شبانها بالعلم والعرفان.

مهما تنعَّم المرء في ضروب الترف وتقلب في أنواع الرفه كان حظ البهيمة في

ذلك أكمل ولذاتها أتم، البهيمة تسعى في تلمس شهوة نفسها واستيفاء لذة حواسها،

فالخليق بالإنسان أن يباينها في ذلك ويسعى في تطلُّب شهوة عقله واستيفاء لذة

وجدانه وشعوره، شهوة العقل هي الارتياض بالكمالات والقيام بالواجبات. لا كمال

أرفع ولا واجب أقدس من خدمة المرء لأمته وسعيه في إصلاح قومه. لا عمل

يحفظه التاريخ ويشكره الله مثل عمل المرء في صيانة وطنه وإنقاذه من المخاطر

المحتفَّة به. ما ينتظر المتقاعدون عن العمل؟ ماذا يرجو المخلفون عن مشايعة

العاملين؟ ما الذي يثبط الهمم عن السعي؟ ما الذي يُضعف العزائم عن الجهر

بالحق والنصيحة؟ أينتظرون صيحة من العالم العلوي تثير الراكد وتوقظ الراقد؟!

أيرتقبون هُتافًا من عالم الأرواح يزعج الأنفس المطمئنة ويتلتل الهمم المستكنة؟!

أيصيخون إلى نبآت وهمسات من خلل برازخ الأموات تجمع البدد وتصلح ما

فسد وتعلم الجاهل وتنبه الغافل؟ !

جلت عظمة الله وتقدست حكمته، إن هي إلا نواميس كونية وسنن إلهية

وضعها تعالى من العالم موضع القطب من الرحى أو الروح من الجسد، فمَن رعاها

حق رعايتها، وتوخى السير عليها ظفر، ومن دابرها أو تنكّب جددها عثر تلك

النواميس والسنن لا تبديل فيها، ولا تخلف يعترض دون اطرادها إلا ما كان

في أزمنة النبوات أزمنة التحدي بالخوارق والمعجزات.

وبالجملة، إن ما تواتر على الأمة من القوارع وتتابع من وخزات الحوادث

كافٍ لإماطة غشاوة الغفلة عن أبصار آحادها وتفكيك هممهم من العقل والأغلال التي

كبلتها. وما رأيناه لهذه الآونة من تلك الروح العلوية الفائضة عن ألسنة عقلائنا

والطائفة على أسنان أقلامهم في خطبهم وكتاباتهم - جدير بإحياء ميت الآمال فينا

وإثارة رواكد الأماني في نفوسنا وحقيق بأن يبعثنا على اطِّراح اليأس والقنوط

والأخذ بأسباب الحيطة والحزم قبل تقلص الفرص وتجافي الأسباب وحدوث ما لم

يكن في الحسبان. فلنلُف اليأس بالكسل ونرمي بهما من حالق جبل. ولنضع أمام

أعيننا نور الأمل ثم لنُقبل على العلم والعمل، وعلى الله سبحانه العصمة من الزلل.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

أهاب به: زجره وصاح به، والمهوّم: مَن غلبه النُّعاس فجعل يهز رأسه.

(2)

رجالات: جمع رجال فهو جمع الجمع ولكنه لا يستعمل إلا في أشراف القوم وعظمائهم.

(3)

بهره: بهته ورماه بما هو براء منه.

(4)

زنه: اتهمه.

(5)

أخذ بأكظامه بمعنى: قبض على حلقه ومدارج أنفاسه.

(6)

الرِّكْز والحسيس معناهما: الصوت الخفي.

ص: 113

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌التعليم القضائي

بينا في نبذة سابقة أن مُثْلَى طرائق التعليم هي التعليم بالعمل، وذلك إجمال لو

فُصل ببيان كيفياته بالنسبة إلى كل علم وفن - لاحتاج إلى مجلدات كثيرة، ولكن

العالِم بفن من الفنون تكفيه الإشارة؛ لأنه مهما كان جاهلاً بطريقة التعليم وغير

عامل بعلمه فلا بد أن يكون عالمًا بكيفية العمل وما عليه في تحصيل المَلَكَة إلا أن

يزاول العمل مرة بعد أخرى، وكلما مضى فيه سهل عليه حتى يصير بغير تكلف.

وهو ما يعبر عنه بالملكة.

ونريد الآن أن نقول كلمة في التعليم القضائي بالعمل وهي: يعلم القراء أن

الحكومة المصرية تحاول في هذه الأيام إصلاح المحاكم الشرعية بناءً على ما جاء

في (تقرير المستشار القضائي) الإنكليزي من نسبة الخلل إليها، وتريد أن تبتدئ هذا

الإصلاح بتعيين قاضيين من قضاة محكمة الاستئناف الأهلية النظامية في المحكمة

الشرعية، يحضران الدعاوي المهمة. ويعلمون أن مجلس شورى القوانين رفض

هذا الاقتراح بناءً على فتوى شرعية صدرت من جانب سماحة قاضي القضاة

وفضيلة مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر، ملخصها: أنه ليس للحكومة المصرية

ولا لأمير البلاد الحق في نصب قاضٍ شرعي؛ لأن هذا خاص بالخليفة ونائبه الذي

هو في مصر قاضي القضاة، لا سمو الخديو، وأن القاضي الشرعي يجب أن

يحكم بالصحيح والراجح من المذهب النعماني، وأن يكون عالمًا بهما، وأن يكون قد

مارس المرافعات الشرعية والحكم فيها. وبناءً على اعتبار هذا الأمر الأخير في

القضاة - سواء أكان واجبًا وشرطًا كما يفهم مما مرّ أَمْ (لا) - نقول:

لا يجوز أن يراد بممارسة المرافعات ما يكون بالقضاء الحقيقي؛ لأنه يلزم منه

الدور، ولكن الممارسة تكون بأحد أمرين: أحدهما حضور المرافعات في

المحاكم وهو لا يتيسر لجميع المتعلمين الذين يترشحون للقضاء، ويلزم له زمن

طويل يصرف بعد طلب العلم في المحكمة. وثانيهما (التعليم القضائي) الوضعي

الذي نريده ونقترحه على فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ومجلس

إدارته؛ لأنه أسهل الطرق للتحقق بما جاء في الفتوى.

هذا النوع من التعليم يُختار له الكتب التي تذكر الأحكام في ضمن الوقائع

وأكثر كتب المتقدمين - لا سيما قبل المئة الخامسة - كذلك؛ لأنهم كانوا يتعلمون

الفقه للعمل، وأول عمل ضاع به الفقه كغيره من العلوم والفنون الإسلامية - تأليف

المتون الوجيزة المختصرة، والعمل الثاني للضياع: اختيار هذه المتون للتدريس

والاستعانة على ذلك بشرحها، والعمل الثالث - وهو الذي تم به الضياع - هو

وضع الحواشي ثم التقارير عليها والخروج بذلك كله عن كون العلم مبينًا للعمل

شارحًا للوقائع إلى البحث في الألفاظ والأساليب وخلط الفنون بعضها ببعض. ولم

يكن وضع المختصرات في أول الأمر لأجل التعليم والتعلم، وإنما كان الغرض منها

تذكرة المنتهي لا سيما في السفر الذي يعسر فيه حمل الأسفار الكبيرة سيما في تلك

الأزمنة.

ومما يوجب لأسلافنا الفخر ويُظهر أننا شر خلف لهم أن الباحثين في فن

التعليم اهتدوا بعد العناء الطويل إلى أن خير طرق التعليم وأقربها هو (التعليم

بالعمل) وبيان المسائل في ضمن الأمثلة والأحكام الشرعية في صور الواقعات، وهو

ما كان عليه سلفنا من قبل ألف سنة، وإنما يكمل هذا النوع من التعليم بتأليف هيئة

للمحاكمات الوضعية كهيئة المحكمة الحقيقية - رئيس وقضاة (أعضاء) ومدَّعٍ

ومدعَى عليه أو وكلاء (محامون) وبينات وتحقيق وحكم.

وينبغي أن تكون المرافعة علنية وأن يتناوب طلاب العلم القضاء فيها وأن

تكون العناية بالدعاوى التي يحكم فيها بالشرع في هذه الأيام أشد من العناية بغيرها.

يقول قائل: أي حاجة للعناية بالأحكام التي لا يعمل بها؛ لأن أمراء المسلمين

نسخوها بالقوانين الوضعية؟

والجواب: أن عدم التعليم القضائي جعل الشريعة السماوية الواسعة ضيقة لا

تفي بحاجة العصر، والأمراء والحكام يرون أنفسهم مضطرين إلى مجاراة العصر في

شؤونه العامة، ويجب أن تكون الأحكام مطابقة لحاجات الناس في كل عصر بحسبه

لا أن تقاوم الطبيعة، وتغير أساليب العمران؛ لتوافق ما يفهمه العلماء على تقصيرهم

من الكتب الشرعية القديمة؛ لأن هذا غير ممكن للناس. فإذا حسنت حال التعليم

ووجد في الأمة علماء يعرفون حال العصر ويستنبطون من قواعد الشريعة العامة

التي نفتخر بها بأنها تنطبق على أحوال كل زمان ومكان ما يوافق مصلحة الناس

بحسب زمنهم هذا؛ فلا شك أن الأمراء والحكام المسلمين يحكمون بها مهما وَهَى بناء دينهم وسحلت مرائر يقينهم، لعلمهم بأنها أقرب لصلاح الناس لخضوع السواد

الأعظم لها ظاهرًا وباطنًا، اللهم إلا إذا غلبوا على أمرهم بالسلطة الأجنبية. ولا

نقصد مما ذكرنا تبرئة الأمراء من تبعة ذنب الانحراف عن الشريعة وحصره

بالعلماء! !

كلا ثم كلا، وإنما غرضنا بيان السبب، وقد بلغنا أن إسماعيل باشا الخديوي

الأسبق طلب من علماء الأزهر أن يؤلفوا له كتابًا شرعيًّا في الحقوق والجنايات سهل

العبارة مرتبًا على ترتيب كتب القوانين وموافقًا لحال العصر (كمجلة الأحكام

الشرعية التي يُعمل بها في محاكم ولايات الدولة العلية) فأبوا عليه ذلك وسمعت أن

إحجامهم كان خوفًا من طعن العامة في دينهم إذا هم وضعوا الأحكام الشرعية في

أسلوب كتب القوانين. ومهما كان من السبب فالتبعة الكبرى فيه على العلماء

كما هو ظاهر.

يقول المعترض إن الحكومة المصرية مغلوبة على أمرها للأجانب فكيف نرجو

تحويل المحاكم الأهلية شرعية ونحن نرى الحكومة تحاول إلغاء المحاكم الشرعية

والاكتفاء بالمحاكم الأهلية؟ وإذا لم يكن لنا أمل في الحكم بالشرع فعَلامَ العناية وإِلامَ

احتمال العناء في تعلمه تعلمًا قضائيًّا أو غير قضائي؟ !

ونقول في الجواب:

أولاً - أن التعليم موجود في الأزهر بالفعل، ونحن إنما نطلب تحسينه، وقد

ورد في الحديث الشريف أن الله تعالى يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه وما

ذكر قد يمنع من أصل التعليم ولكنه لا يمكن أن يمنع من تحسينه مع وجوده.

ثانيًا - أن الأزهريين يشتغلون جميعًا فيما لا يتعلق به عمل في هذا العصر

كأحكام الرقيق بأنواعها بناءً على أن مرادهم حفظ هذه العلوم وإن لم تكن تستعمل؛

ولذلك تبرم شيوخهم من زيادة بعض الفنون في الأزهر، لئلا تشغلهم عنها. وتعلمها

بالكيفية التي نريدها أقرب لتحصيلها ولحفظها.

ثالثًا - أن الأمل لم ينقطع من العمل بها ولا ينقطع إلا إذا بقي تعلمها على

حاله أو رجع القهقرى كما هو الشأن في أمتنا منذ قرون.

فإذا نفضنا عن رؤوسنا غبار الخمول والكسل واجتهدنا في تحصيل العلوم على

الوجه الذي يؤدي إلى إتقان العمل فلا يمضي زمن قليل إلا ونكون أمة من الأمم،

لها قول يُسمع ورأي يُحترم، وعند ذلك نحكم بما نريد ونرغب؛ لأن قوة الشعب قوة

إلهية لا تُغلب، فمن عمل لهذا الرجاء فأولئك هم المفلحون.

{قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَاّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56)

_________

ص: 117

الكاتب: محمد رشيد رضا

تربية الأطفال

تكلمنا في العدد الماضي عن طور الرضاعة ووظائفه، ووعدنا بأن نتكلم عن

إطعام الأطفال وتقريمهم (تعليمهم الأكل)، فنقول: لا هادي إلى تربية الطفل

كالطبيعة والفطرة، فعلى المربي أن يسترشد بها؛ لأنها هداية إلهية ممنوحة للجميع.

قلنا في بحث الرضاع: ينبغي أن ترضع الطفلَ أمُّه، وإلا فمرضع يكون ولدها

الرضيع في سنه والحكمة في ذلك أن الله تعالى جعل اللبن في الأم موافقًا لسن ولدها،

ففي أول الأمر يكون سهل الهضم جدًّا وكلما تقدم في السن وقويت معدته على

الهضم تزيد المواد المغذية في اللبن.

أما الأكل فيرشد إليه من الطبيعة ظهور الأسنان فمتى أسنَّ الطفل (نبتت

أسنانه) وصار قادرًا على المضغ يُطعَم، ولكن يبتدأ في إطعامه بما كان سهل الهضم

كلبن الحيوانات والأرروط والنشا، ولا يكون هذا إلا بعد بلوغه بضعة أشهر حتى إذا

ما كملت مواضغه (أضراسه) يطعم من سائر أنواع الطعام، ويراعَى فيه سنة الفطرة

بالتدريج؛ لأن آلات الأكل تظهر فيها تدريجًا. وإطعام الأطفال الأطعمة النشوية

والسكرية في سن اللبان يولد فيهم الأمراض ويكثر فيهم الموتان. ويحسب الأمهات

الجاهلات أن معالجة الطعام وتلويقه (جعْله لينًا) ، بحيث لا يحتاج إلى مضغ يسهل

هضمه على الوليد ويغتررن بواحد من عشرات ومئات يطعم فيسمن، ولا يعتبرن

بالعشرات والمئات الذين يمرضون ويموتون؛ وذلك لأنهن لا يعرفن سبب مرضهم

وموتهم، وهو في الغالب من المآكل الغليظة العسرة الهضم، لا سيما مع عدم الوقاية

من البرد.

ولا بد من التوقيت والانتظام في تقريم الأطفال، فيطعمون أربع مرات في

اليوم - بعد القيام من النوم وعند الظهر وعند العصر وبعد المغرب - فطعام الصباح

والعصر: اللبن والبيض والخبز وشيء من الحلوى، وطعام الظهر: اللحم والبقول

والفاكهة، وطعام المساء: الشوربا والبقول ولو باللحم والرز، أما مقدار ما يأكله

الطفل فليس بمحدود، بل يُترك وشأنه، يأكل ما شاء، لا يلزم بالزيادة، ولا يمنع

من الاستزادة، إلا إن كان شرهًا يأكل فوق طاقته، وقلما يكون الشره إلا من سوء

التربية. ويمنع الأطفال الإكثار من الفاكهة والحلوى، ويمنعون من شرب الشاي

والقهوة فضلاً عن المسكرات والأشربة الروحية التي هي سموم قاتلة، لا يقل فتكها

بالكبار عن فتك سائر الأمراض الخبيثة.

_________

ص: 121

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌المتكلمة بالقرآن

قرأنا في كتاب روضة البلاغة للعلامة أبي الحسن البارزي ما نصه:

عن أحمد بن عبد الله الواسطي قال: خرجت إلى مكة فإذا بامرأة على الطريق

تتلو آية من كتاب الله تعالى وهي: بسم الله الرحمن الرحيم: (من يهدِ الله فلا

مضل له ومن يضلل فلا هادي له) [1] ، فلم أشك أنها ضالة، فقلت لها: يا أمة الله،

أحسبك ضالة، فقالت (بعد البسملة - وهكذا كان كل الأجوبة مصدّرًا بالبسملة

فحذفناها للاختصار) : {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (الأنبياء:

79) فقلت لها: يا أمة الله، أين تريدين؟ قالت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ

مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) فقلت: يا أمة الله، من أين؟

قالت: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي

بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1) فعلمت أنها من بيت المقدس، فقلت: يا أمة الله،

ما لك لا تكلمينا؟ فقالت: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18)

فقلت لصاحبي: أحسبها حَرورية. قالت: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ

السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء: 36)، فقلت: لا

حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنها لا تكلمنا إلا من كتاب الله، فقلت: يا أمة

الله، آخُذ بعيرك، فأقوده إلى مكة؟ قالت:{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 215) ، فأخذت بعيرها أقوده، فبينما نحن كذلك إذ أشرفت من طريق

الشام قافلة، قالت:{وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل: 16) قلت: يا

أمة الله ما تريدين؟ قالت: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَه} (يوسف: 19) الآية، فقلت: في القافلة قرابة لها. قال: فلما أقبلت القافلة قلت:

يا أمة الله، بمَن أصيح ومَن لك في القافلة؟ قالت: {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ

وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِياًّ} (مريم: 12){يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} (مريم: 7){يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْض} (ص: 26) فصحت:

يا يحيى، يا زكريا، يا داود. فأجابني ثلاثة نفر، فقالوا: ما تريد؟ قلت:

معي عجوز لا تكلمنا إلا من كتاب الله تعالى. فقالوا: إنها أمنا، قد ضلت منذ ثلاثة

أيام قال: فلما أبصرتْهم تبسمت، وقالت: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى

المَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} (الكهف: 19)، قال: فعلمت أنها تريد أن تزودني وتبرني، فقلت: لا حاجة لي

في زادكم وفي بركم، أخبرونا عن هذه العجوز ما لها لا تتكلم إلا من كتاب الله

تعالى؟ ! قالوا: إنها - منذ أربعين سنة - ما تكلمت إلا من كتاب الله مخافة

الكذب. اهـ

(المنار)

إن المحافظة على الصدق من أفضل الفضائل على الإطلاق، وقد يبلغ الغلو

بالشيء والتعمق فيه إلى ما يُستغرب وقوعه كما ينقل عن الأسخياء والشجعان. ومن

ذلك خبر هذه المرأة، ويلوح للذهن أن الحكاية مخترعة، لا لأن استحضار الآيات

التي تشير إلى المقاصد عسير؛ بل لأن الصبر عن الكلام هذه السنين الطوال محل

غرابة، ولكن الأصل في الكلام - لا سيما كلام أهل العلم - أن يكون صادقًا، ولله

في خلقه شؤون.

هذا، وقد نص بعض الفقهاء على أن استعمال القرآن للتخاطُب في الأمور

العادية محظور.

_________

(1)

كذا في الأصل، ولا توجد آية بهذه الألفاظ، بل هي كلمات من خطبة الحاجة أو النكاح للرسول صلى الله عليه وسلم مع إضافة الهاء لنهاية (يهد)، وهناك آيات قريبة من ذلك:[وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ](الإسراء: 97)، [مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِياًّ مُّرْشِداً] (الكهف: 17) ، [وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ] (الزمر:37) .

ص: 123

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌مقتطفات

(اليابان)

يؤخذ من تقرير وزير المعارف في اليابان عام 1894 أن عدد سكان اليابان

بلغ- إذ ذاك -: 42426921 نفسًا وعدد الطلبة: 7320191 ولم تكن تجد ثلثهم

عام 1873 وبلغ عدد المدارس: 23874 مدرسة وعدد المعلمين والمعلمات:

69845.

وبلغ عدد سكان اليابان في الإحصاء الصادر في السنة الجديدة: 43 مليونًا

و229 ألفًا من النفوس، نصفهم ذكور ونصفهم إناث على وجه التقريب، وقدرت

ميزانيتها للسنة الجارية: 189 مليون (ين) للواردات و113 مليونًا للنفقات؛

فتكون الزيادة في النفقات: 30 مليون (ين) والين - من الفضة - يساوي فرنكين

ونصفًا وهو يقابل (الكروان) الإنكليزي قيمة.

***

أهدانا الفاضل الأديب الشيخ محمد بشير ظافر المدني الأزهري قصيدة من

نظمه في التنفير عن المدارس الأجنبية؛ لأنها أُسست على دعائم الدعوة إلى

النصرانية والاستمالة إليها ونقش تعاليمها في ألواح نفوس الولدان، حتى كان الذي

يرسل ولده إليها لا يبالي أخرج مسلمًا أم غير مسلم! ، فنحثّ معه سائر الشعراء

على النظم في مثل هذا من المواضيع الاجتماعية، والخروج بالشعر من مضيق

الأماديح والأهاجي الشخصية.

_________

ص: 124

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الأخبار التاريخية

(مراكش)

لمكاتبنا الفاضل في تونس

لم تزل الأخبار تتوارد علينا يومًا فيومًا بسوء حالة هاته المملكة الإسلامية

وتعاسة سكانها إلى درجة يخشى معها سوء العاقبة وفساد المنقلب. ولا تزال رجالها

في غفلة عما هم عيه من موجبات السقوط والاضمحلال فداخليتها على غاية من

الاحتلال والفوضى قد ضربت أطنابها بسائر أنحائها، فالقبائل بعضها لبعض عدو،

والدولة عدوة للجميع، والدول الأورباوية قد اشتدت وطأتها عليها بنزف أموالها ولولا

التحاسد لفقدت استقلالها من قديم فدولة الأسبان تود الاستيلاء عليها منذ عهد بعيد

وترى أنها أحق الدول بذلك؛ لقدم المجاورة التي بينهما وكل من فرنسا وإنكلترا

وألمانيا يزاحمها ويسعى في احتلال جزء منها، ولهذا السبب عاشت دولة

المغرب العليلة ولم يفارق جسمها المنهوك الروح.

كان على عهد السلطان مولاي الحسن نهضة تحريرية في جرائد الإسلام

حذرته وأنذرته سوء العاقبة وأطلعته على ما يجب عليه سلوكه لحفظ مملكته من

السقوط والتلاشي، ولم ينجح شيء. وبقي متماديًا في شأنه يقاتل رعاياه ويبتز أموالهم

التي حرم الله، وازداد نفوذ الأجنبي في أيامه زيادة لها بال، إلى أن وقعت حادثة

مليلة الشهيرة التي دفعت حكومة المغرب لأجلها عشرين مليونًا من الفرنكات

لحكومة الأسبان إرضاء لها عن تعدي قبائل الريف على حدودها وعلى رعاياها.

وهكذا كان يدفع الأموال الطائلة بغير انقطاع، وكانت أيامه كلها منقسمة إلى عملين

عظيمين: وهما سفك دماء الرعايا لأخذ أموالهم، ودفعها للأجانب على وجه

الترضية. ولم يصدر عنه أدنى عمل لإصلاح المملكة.

ولما تولى السلطان عبد العزيز عليها أملت الناس أن يجري فيها بعض

الإصلاحات لحداثة سنة المقارنة لنور التمدن الحالي الذي وقع له طنين لسمع الصم

ونطق به البكم فضلاً عن السامعين المبصرين، فذهب ذلك الأمل أدراج الرياح، وسار في إدارة المملكة سير أبيه وجده الخالي عن كل تنظيم وخروج عن المعتاد.

ومن تأمل في أحوال هاته الدولة وفيما هي عليه من سوء التدبير يدخله

الذهول والحيرة والاستغراب، فإن الإصلاح ولاسيما الابتدائي ضروري لكل ذي

عقل سليم وفكر مستقيم، ويحكم بعدم لياقة هاته العائلة الحاكمة وعدم صلوحيتها لأقل

الأعمال (وهنا ذكر الكاتب جملة غالى بها في ذم كل أفراد الأسر الإسلامية

المالكة لا سيما دولة المغرب اضربنا عن ذكرها صفحًا) .

هذا، ولقد كتبنا هذه الأسطر القليلة تمهيدًا لما سنكتبه بعد في هاته المملكة

الحاضرة وفيما يجب عليها اتباعه في الاستقبال لاستقامة أحوال المسلمين طبق

الشريعة المطهرة، وكتاب الله وسنة رسوله بين أيدينا وسيرة السلف الصالح بين

أظهرنا. وحيث كانت جريدتنا المنار موقوفة على خدمة المسلمين وموسمة بذلك

نطلب من محررها الفاضل ومن براعة قلمه ومن عموم جرائد الإسلام أن يعضدونا

في هذا العمل ويفوقوا سهام اللوم والتنديد نحو هاته المملكة أو تستقيم، والله بالسرائر

عليم.

...

...

...

...

... (ش. د)

(المنار)

كلنا على علم إجمالي بحال هذه المملكة وبعدها عن الإصلاح، وكتبنا في ذلك

نبذًا متفرقة، وما كنا نظن أن ملوكها بهذه الدرجة التي ذكرها بل لا نزال نظن أن في

وصفه لهم مبالغة في الذم ونرجو أن يبين في مقالاته الآتية عنها الحقائق من غير

مذمة شعرية.

في ليلة الثلاثاء الماضية اخترمت المنية رجلًا من خيرة رجال العلم والفضل

وحملة الأقلام وهو السيد وفا أفندي زغلول أمين الكتبخانة الخديوية. مات رحمه الله

تعالى عن خمسين عامًا قضاها في خدمة العلوم والآداب، وقد ترك آثارًا علمية نافعة

منها كتاب الرد المبين، وكتاب البرهان الساطع على وجود الصانع. وكتاب التحفة

الوفائية في اللغة العامية، ورسالة في الرد على ابن خلدون. وكان محرر جريدة

الكوكب المصري التي كانت تصدر قبل الثورة العرابية، وكتب مدة في الوقائع

الرسمية، وله في الجريدتين مقالات تؤذن بفضله، أما وفاؤه ومحاسن أخلاقه فقد رأينا

وروينا عنها ما يدل على طيب أعراقه وكمال تهذبه، فنسأل الله تعالى أن يحسن عزاء

شقيقه المفضال السيد نصر الدين أفندي المحامي الشهير وسائر آله الكرام.

***

(تطبق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية)

كتب إلينا صديقنا الفاضل مؤلف كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على

نواميس المدنية) يعترف بأن انتقادنا عليه بهضمه حق المنار في محله، ويعتذر واعدًا

بتوفيته حقه في طبعة ثانية قال: (فأثر لدي خطئي في بخس حق المنار كثيرًا وهو

في الحقيقة خطأ يخجل منه كل مؤلف لأنه جرم ضد التاريخ، ولكن لي من كرم

أخلاقكم أكبر شفيع على إسدال سترة المعذرة على هذه الهفوة وسأجعل أول واجب

علي عند الشروع في الطبعة الثانية إصلاح تلك الغلطة البينة.. إلخ) .

وهذا كما ترى دليل على فضل الرجل وأنه ما قال في الكتاب بأنه لم يسمع

بأن عاقلاً قام يبحث عن أسباب اضمحلال الأمة الإسلامية إلا ذهولاً عن المنار كما

هو ظننا الحسن به.

***

أقبل الحر على مصر وأقبل معه وفود حزب الأحرار من الأستانة العلية، ولا

يقدمون في مثل هذه الأيام إلا لأمر ذي بال، وممن حضر من زمن قريب الفاضلان

محمد توفيق أفندي مدير المكتب الإعدادي سابقًا في بلدتنا طرابلس الشام، وعلي

مظهر بك، فعسى أن تتلا في الحضرة السلطانية أيدها الله تعالى هذه الحركة التي

كادت تكون عامة بالتي هي أحسن.

_________

ص: 128