المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: محمد رشيد رضا - مجلة المنار - جـ ٢

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (2)

- ‌28 شوال - 1316ه

- ‌خطاب وعظي للإنسان

- ‌الإيثار

- ‌التربية والتعليم

- ‌الحوادث والأخبار التاريخية

- ‌6 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الإيثار

- ‌الحبالى وتربية الأجنة(1)

- ‌التعليم بالعمل

- ‌ما قيل في الخال

- ‌الجامع الأزهر الشريف

- ‌الأخبار والآراء

- ‌13 ذو القعدة - 1316ه

- ‌تأثير العلم في العمل

- ‌أيها الفتى

- ‌أخبار الحجاج

- ‌اعتذار

- ‌20 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الاتحاد

- ‌اختيار المعلمين

- ‌الحدود بين القطر المصري والسودان

- ‌27 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الإصلاح الإسلامي

- ‌تأثير الوعظ والتذكير

- ‌عبرة لمن يعقل

- ‌إحصاء الأوقاف

- ‌تنازع الدول الأوربيةعلى الممالك الإسلامية

- ‌5 ذو الحجة - 1316ه

- ‌الإصلاح الإسلامي

- ‌عداء وخداع

- ‌الجمعية الإسلامية الهندية في لاهور

- ‌19 ذو الحجة - 1316ه

- ‌الأعياد

- ‌الساكت عن الحق شيطان أخرس

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌26 ذو الحجة - 1317ه

- ‌التعليم القضائي

- ‌المتكلمة بالقرآن

- ‌مقتطفات

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌3 محرم - 1317ه

- ‌الاعتماد على النفس

- ‌استنهاض همم(2)

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌10 محرم - 1317ه

- ‌التصرف في الكون

- ‌استنهاض همم(3)

- ‌التربية النفسية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌17 محرم - 1317ه

- ‌حياة الإسلام في مصر

- ‌استنهاض همم(4)

- ‌الطاعون واتقاؤه

- ‌كتاب تحرير المرأة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌24 محرم - 1317ه

- ‌استنهاض همم(5)

- ‌التربية النفسية

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مسألة القضاء الحاضرة

- ‌2 صفر - 1317ه

- ‌العز والذل

- ‌استنهاض همم(6)

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌9 صفر - 1317ه

- ‌فهم الدين

- ‌استنهاض همم(7)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الأخبار

- ‌16 صفر - 1317ه

- ‌كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية

- ‌استنهاض همم(8)

- ‌مراكش

- ‌ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [[

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مقتطفات الأخبار

- ‌23 صفر - 1317ه

- ‌النهضة الإسلامية في مصر

- ‌استنهاض همم(9)

- ‌إزالة شبهة

- ‌اختبار علم كل عارفمن ألباء أرباب المعارف

- ‌وفاة

- ‌29 صفر - 1317ه

- ‌استنهاض همم(10)

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أرزاء وطنية

- ‌يستحيل إرضاء الناس

- ‌ وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى [[

- ‌7 ربيع الأول - 1317ه

- ‌كان يا ما كان(2)

- ‌استنهاض همم(11)

- ‌الكتابان الجليلان

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الاحتفال بتذكارالمولد النبوي الشريف

- ‌14 ربيع الأول - 1317ه

- ‌المولد النبوي

- ‌كان يا ما كان(3)

- ‌استنهاض همم(12)

- ‌مَضَارُّ الْغِلْظَةِ فِي التَّرْبِيَة

- ‌تأييد عالم وتفنيد واهم

- ‌شعر في حب العلم

- ‌21 ربيع الأول - 1317ه

- ‌الحياة المِلِّية

- ‌كان يا ما كان(4)

- ‌استنهاض همم(13)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مدرسة الجمعية الخلدونية

- ‌إحصاء عن عدد سكان أوربا

- ‌28 ربيع الأول - 1317ه

- ‌الجنسية والدين الإسلامي

- ‌كان يا ما كان(5)

- ‌استنهاض همم(14)

- ‌تعليم النساء

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌5 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌الجامعة الإسلامية

- ‌استنهاض همم(15)

- ‌حقوق الجار ومدح المناربما يبديه من هدي الكبار

- ‌الإسلام في البرازيل

- ‌12 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌الدين والدولةأو الخلافة والسلطنة

- ‌كان يا ما كان(6)

- ‌خاتمة رسالةاستنهاض همم

- ‌تنبيه

- ‌دم أضاعه أهله

- ‌عناصر النمسا

- ‌19 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌كلمة في الحجاب

- ‌تهنئة الأستاذ المفتي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌26 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌تحريف الكلم عن مواضعه

- ‌الحديث الموضوع

- ‌الاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني

- ‌كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌3 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌حقوق الأخوة(3)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌10 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌حقوق الأخوة(4)

- ‌الوثنية في الإسلام

- ‌نجاح الجمعيات الإسلامية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌17 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌ماذا نعمل

- ‌المسلمون في روسيا

- ‌الأميرة الفاضلة صاحبة الدولةالبرنسس نازلي هانم أفندي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌24 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌القسم الثانيمن خطبتنا في التربية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌2 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌رد على باحث في كتابسر تقدم الإنكليز السكسونيين

- ‌القسم الثانيمن خطبتنا في التربية

- ‌شذرات

- ‌9 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أخبار وآراء

- ‌16 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌فلسفة الحرب الحاضرة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الشكوى من ظلم هولندا

- ‌وفاة والدة عبد الحليم أفندي حلمي

- ‌23 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌ذكرى لرؤساء الأمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أهم أخبار الحرب

- ‌شكر

- ‌30 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌الفرصتان

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌أهم أخبار الحرب

- ‌عودة الخديوي وأسرته

- ‌منع جريدة المشير

- ‌المدرسة العثمانية

- ‌إزالة وهم تاريخي

- ‌بعض التفصيل

- ‌6 رجب - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌بدع رجب

- ‌14 رجب - 1317ه

- ‌مناشير المهدي السوداني

- ‌فائدة الانتقاد

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌21 رجب - 1317ه

- ‌عزاء

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌بضعة أيام في خدمةجمعية شمس الإسلام

- ‌إصلاح غلط

- ‌28 رجب - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الدولة العلية في أفريقية

- ‌مساجد الصعيد

- ‌6 شعبان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأسطول الفرنساوي

- ‌رزء وطني عظيم

- ‌كنسة الإمام

- ‌13 شعبان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المنار والمناظر

- ‌السيول الجارفة

- ‌الجغرافيا والحرب

- ‌20 شعبان - 1317ه

- ‌الشريعة والطبيعةوالحق والباطل

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌عيد المولد الهمايوني

- ‌العالم الإسلامي

- ‌الحرب الحاضرة

- ‌27 شعبان - 1317ه

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌5 رمضان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌12 رمضان - 1317ه

- ‌اقتراح على السادة العلماءفي تقويم اعوجاج الوعّاظ والخطباء

- ‌الصيام والتمدن(2)

- ‌التقريظ والانتقاد

- ‌مأثرة لجمعية شمس الإسلام

- ‌19 رمضان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌26 رمضان - 1317ه

- ‌الزكاة والتمدن(2)

- ‌الاقتراح على المنار

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌ذم الهوى

- ‌الأخبار والآراء

- ‌المسجد الحسيني

- ‌10 شوال - 1317ه

- ‌طفولية الأمّةوما فيها من الحيرة والغمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الاجتماع العامفي جمعية شمس الإسلام

- ‌الأخبار والآراء

- ‌17 شوال - 1317ه

- ‌الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌جمعية شمس الإسلامفي القاهرة

- ‌الأمراء والعلماء

- ‌أفكوهة غريبة

- ‌خاتمة السنة الثانية للمنار

الفصل: الكاتب: محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌العز والذل

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ

وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) .

قالت السادة الصوفية إن الإنسان مجمع الحقائق ونسخة صغيرة تمثل العالم

الكبير، فروحه من عالم الملكوت الأعلى، وجسمه من عالم الملك الأسفل، وقد

خُلق في أحسن تقويم، فكان سيدًا لهذا العالم العظيم، وجعله الله في أرضه خليفة،

وكفاك بها منقبة شريفة، استعد بها لتسخير الحيوان لخدمته، وجعل قوى الطبيعة

تحت مشيئته بحيث يتصرف بجميع ما على وجه البر، ولا يتعاصى عليه شيء مما

في قاع البحر، بل بلغت به قدرته أن طار في الهواء، واستنزل البرق من السماء:

وتزعم أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

إذا رُبي الإنسان على مبدأ كرامة النفس التي منحها إياه مُبدِعه وبارئه تظهر

فيه استعداداته وتبرز عنها آثارها علمًا وعملاً؛ حتى يفوز بالسيادة والسلطان. وتتم

له الخلافة الإلهية في الأكوان. ولكن اعترض الإنسان في سبيل هذه التربية النافعة

التي تهديه إليها الفطرة القويمة استبداد الذين أداروا دولاب مجتمعه بسياسة تغلب

العصبية. أو باسم السلطة الروحية الدينية، ولا استغناء له عن هاتين السلطتين؛

لأنهما من لوازم الاجتماع المدني وهو مدني بالطبع.

ولقد كان من رحمة الله تعالى بهذا النوع الشريف أن منحه الديانة الإسلامية،

التي محت الامتيازات الجنسية، وقيدت بشريعتها السلطتين السياسية والروحية،

(كما أوضحنا ذلك من قبل) ووضعت أصل المساواة بين الناس، حتى إن الخليفة

الثاني لم يبالِ في سبيل المساواة بردة جبلة بن الأيهم ملك بني غسان وكان قد أسلم

هو وقومه ولطم أعرابيًّا في المصاف فأراد عمر أن يقتص منه فأبى وفر مرتدًا إلى

النصرانية، وقد علمت ما كان من مساواته بين الإمام علي وبعض آحاد اليهود،

فأي عزة لمن يدخل في هذا الدين أعلى من مساواته بالأئمة والملوك؟ وأية نهضة

وسيادة تكون أرقى من سيادة أمة يرى كل صعلوك من أهلها أنه يزاحم بالمناكب

أصحاب العروش والمواكب؟ فإن قيل: إن هذا إذلال للملوك وإهانة للأئمة، نقول:

نعم، إنه كذلك في شريعة الاستبداد وقانون الاستعباد أما في شريعة الحق وقانون

العدل فإنه لا ذل ولا هوان في المساواة وإنما الذل في النقصان ولا عز ولا كرامة

في الاستعلاء وإنما هو بغي وطغيان.

عزة النفس تتبعها الشجاعة والمنعة وعلو الهمة وكلها من خلال الإيمان، ألم

تر أن الإمام العادل عمر بن الخطاب كتب إلى سعد بن أبي وقاص حين استجازه في

انتفاع سلب الجالنوس من زهرة بن حوبة وكان زهرة قد قتله وأخذ سلبه يوم

القادسية فانتزعه منه سعد، (تعمد إلي مثل زهرة وقد صَلَى بما صَلَى به [1] وبقي

عليك ما بقي من حربك وتكسر فُوقه [2] وتفسد قلبه) ، وأمضى له عمر سلبه. وقد

بيَّن الحكيم الإسلامي ابن خلدون أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم،

ذاهبة بالمنعة منهم، ومما قال في هذا:

(وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية؛ لأن وقوع العقاب به

ولم يدافع عن نفسه يُكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك وأما إذا كانت

الأحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء (لمرباه)

على المخافة والانقياد فلا يكون مدلاً ببأسه؛ ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل

البدو أشد بأسًا ممن تأخذه الأحكام ونجد أيضًا الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن

مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم

كثيرًا ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه. وهذا شأن طلبة العلم

المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجلس

الوقار والهيبة فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس. ولا تستنكر ذلك بما وقع

في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا

أشد الناس بأسًا؛ لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان

وازعهم فيه من أنفسهم لما يُتلى عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم

صناعي ولا تأديب تعليمي، إنما هي أحكام الدين وآدابه الملقاة نقلاً يأخذون أنفسهم

بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق، فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما

كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم، قال عمر رضي الله عنه: (مَن لم يؤدبه

الشرع لا أدبه الله) ، حرصًا على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه ويقينًا بأن

الشارع أعلم بمصالح العباد. ولما تناقص الدين في الناس وأخذوا بالأحكام الوازعة

ثم صار الشرع علمًا وصناعةً يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة

وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم، فقد تبين أن الأحكام

السلطانية والتعليمية مفسدة البأس؛ لأن الوازع فيها أجنبي، وأما الشريعة فغير

مفسدة؛ لأن الوازع فيها ذاتي) اهـ.

أقول: وقد اهتدى إلى هذا أهل الغرب فتلافوا بقدر استطاعتهم ضرر

السيطرة والحكم وأقاموا جدار التربية والتعليم على أساس العزة والكرامة والحرية والمساواة وإذا كان هذا هو أثر التأديب والحكم بطبيعته أي وإنْ كان عادلاً فما بالك بمَن يحكمون بالظلم والاستبداد؟ ! لعمرك، إن تأخر الأمم على نسبة الظلم

فيها شدةً وضعفًا. ثم إن الديانة الإسلامية مع أن الوازع فيها ذاتي لا يذل النفس ولا

يُذهب بالبأس، وقد جعلت عزة النفس وكرامتها من سجايا الدين بشهادة {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) ومن أحكام شريعتها أنه لا يجب على

مَن فقد ثوبًا يستر به عورته في مصلاه أن يستوهبه أو يستعيره لما في ذلك من المذلة

للناس، بل يصلي عاريًا. وليس وراء هذا غاية في حفظ كرامة النفس

وعزتها.

بهذا ساد الإسلام واستخلف أهله في الأرض، وبدلوا من خوفهم أمنًا، ومن

بعد فقرهم وضعفهم غنًى وسلطانًا. وبهذا كان المجتمع الإسلامي لا يحتمل الضيم،

فهاج تلك الهيجة الشؤمى على الخليفة الثالث انفعالاً من ظلم عماله وسوء أعمالهم

دون أعماله ولم تفتأ قدر الهيجان إلا بعد طل دم تأثرته سيوف مسلولة، ودماء

مطلولة، ومن كان يعلم ما خُبئ لهذه الأمة في ضمير الغيب من تحريف التعاليم

والانحراف عن الصراط المستقيم؟

انحراف الملوك عن هدي الدين فاستبدوا بالرعية وأذلوها حتى انتكث فتلها،

وسحبت مرائرها. وصارت طعمة لكل طاعم، وبلغت المهانة من الأمة التي قتلت

عثمان في القرن الأول - خير القرون - أن صارت تقدس الملوك والأمراء الذين

يمتصون دماءها ويهتكون أعراضها ويستلبون أموالها حتى من الجهة الدينية. وقد

بلغ من أمر بعض سلاطين المسلمين لهذا العهد أن أحد المارقين قال: إن حبي

للسلطان أشد من حبي لله تعالى! فأمر له السلطان بخمسمائة جنيه جزاءَ هذا

التهور، وسرق مصحف من المكتبة السلطانية ثم وجد وأرجع إليها فكتبت إحدى

الجرائد أن المصحف قد رُفع إلى الأعتاب السلطانية، فاستكبر ذلك واستنكره

بعض رجال الحاشية وأخبر به السلطان طالبًا منه أن ينهى عنه فانتهره وأهانه

ولا أُسمي هذا السلطان فهو يعرف نفسه ويعرف له هذه الأعمال الألوف من رعيته،

ومع ذلك كله ترمي جماهير المسلمين كل مَن ينسب له ولغيره من ملوكهم أدنى

تقصير - بالمروق من الدين، ويعدونه عدوًّا للمسلمين، فأي انحراف عن الإسلام

أشد من هذا الانحراف؟ !

وحرف بعض رجال الدين التعاليم، وأزاغوا الأمة عن صراطه فطفقوا ينفثون

في أرواح المسلمين سم الذل والمهانة باسم الدين حتى أماتوا هممهم ومحوا من ألواح

نفوسهم آيات العزة الإيمانية، والشهامة الإسلامية ولولا أولياء الشيطان وخطباء

الفتنة لما قدر الملوك بظلمهم على كسر سورة الحمية الإسلامية؛ لأن المسلمين لا

يذلون إلا لسلطان؛ ولذلك خلق علماء السوء الأحاديث الموضوعة في تعظيم

السلاطين، وإعلاء شأنهم على جميع العالمين. وسنبين فساد ذلك في وقت آخر.

ولا شبهة لوعاظ السوء على أن الذل والمهانة من الدين إلا إدخال ذلك في

مفهوم التواضع جهلاً وغباوةً وخداع الناس بحكايات عن بعض المتصوفة الذين لا

يُحتَج بأقوالهم، ولا يُقتدَى بأعمالهم، وهذا من أعظم المفاسد التي دخلت على الأمة

باسم التصوف وأهل التصوف الحقيقيون براء منها.

امتازت طائفة الرفاعية على جميع فرق المتصوفة باللفظ في هذا وزعموا أن

شيخ الطائفة الكبير أحمد بن الرفاعي قد يسبق جميع الأولياء إلى المقامات العليا

بالعدل والانكسار وأنه طرق جميع الأبواب الموصلة إلى الله تعالى فوجدها مزدحمة

بمريدي الحق وأهل قربه إلا باب الذل والانكسار فإنه وجده خاليًا فسبق القوم منه

(وإذا صح هذا فما دخلوه إلا لكونه غير موصل إلى الله تعالى فالنتيجة باطلة)

وينقلون عنه من ذلك أنه كان يتمرغ بتراب المقابر والطرق، وأنه كان ينام على

الطريق ويُسجَّى بنحو حصير ليطأ عليه الناس وأنه كان يؤاكل كل الكلاب الجربَى

ويسلم عليهم وعلى الخنازير ويحييهم وأنه كان يقبِّل الأرض والأحذية لأهل الجاه

والمظاهر ويقبل الشتم والإهانة والرمي بالإلحاد من غير أدنى انفعال وتأثر بل مع

التصديق ويزعمون أن هذا من مقامات الدين {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ

المُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8) وإذا صح هذا كله فأحسن ما يقال فيه إنه

عن جذب خرج به صاحبه عن التكليف فلا يُلتفت إلى عمله ويحذر الناس منه؛ لأن

الدين والعقل والفطرة ترشد إلى السعادة البشرية ولا تنال إلا بعزة النفس وكرامتها ما

لم ينتهِ إلى الكبر وفي الحديث: (غمط الحق واحتقار الناس) ، فكرم نفسك ما

استطعت واجتنب هذين الأمرين، وأما التواضع فهو وسط بين الكبر الذي هو إفراط

في العزة وبين الذل الذي هو تفريط فيها وسنتكلم على الكبر والتواضع في مقالة

مخصوصة إن شاء الله تعالى.

هذا، وإن بعض المؤرخين قد أثنى على الشيخ أحمد الرفاعي الكبير بالصلاح

والتفقه وأرى من حسن الظن أن يؤخذ بقول هؤلاء ويرفض ما في كتب المناقب

التي من شأنها تؤلف للإغراب والإعجاب؛ فإن شذوذ هؤلاء القوم هو الذي جعل

الناس يتهمونهم بالخروج عن الشريعة [3] وقد أقمت الأدلة الكثيرة في كتاب (الحكمة

الشرعية) ، على أن هذه الكتب التي نشرها الرفاعية في هذه السنين وفيها من

التلاعب بالدين العجب العجاب - كلها مزورة لا تصح نسبتها للمتقدمين، على أنه

يحتمل أن يكون ما نُسب لابن الرفاعي من ذلك كان في بدايته ثم رجع عنه وحسنت

حاله وإن لم يقل ذلك الذين ينالون فيه بالإطراء حتى كادوا يفضلونه على الإنسان بل

حتى إن أشهر شيوخهم يجعل حضرة الذكر أدوارًا - دور يذكر فيه الله ودور يذكر

فيه الرفاعي - وهكذا شأن الجاهل يريد المدح فيذم، ويحاول النفع فيضر، وغرضنا

من ذكر هذه الكتب أن لا يغتر بها الجهلاء الذين يتوهمون أن جميع ما في الكتب

صحيح والله الهادي إلى سواء السبيل.

_________

(1)

أي في الحرب يقال: صَلَى النار وبالنار: إذا قاسى حرها واحترق بها وصلى بالأمر: قاسى شدته.

(2)

الفوق بضم الفاء: مشق رأس السهم، حيث يقع الوتر ويأتي بمعنى النصيب.

(3)

راجع الصفحة 315 من كتاب لطائف المنن للشعراني المطبوع بالمطبعة الأميرية سنة 1288.

ص: 193