المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أميل القرن التاسع عشر - مجلة المنار - جـ ٢

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (2)

- ‌28 شوال - 1316ه

- ‌خطاب وعظي للإنسان

- ‌الإيثار

- ‌التربية والتعليم

- ‌الحوادث والأخبار التاريخية

- ‌6 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الإيثار

- ‌الحبالى وتربية الأجنة(1)

- ‌التعليم بالعمل

- ‌ما قيل في الخال

- ‌الجامع الأزهر الشريف

- ‌الأخبار والآراء

- ‌13 ذو القعدة - 1316ه

- ‌تأثير العلم في العمل

- ‌أيها الفتى

- ‌أخبار الحجاج

- ‌اعتذار

- ‌20 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الاتحاد

- ‌اختيار المعلمين

- ‌الحدود بين القطر المصري والسودان

- ‌27 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الإصلاح الإسلامي

- ‌تأثير الوعظ والتذكير

- ‌عبرة لمن يعقل

- ‌إحصاء الأوقاف

- ‌تنازع الدول الأوربيةعلى الممالك الإسلامية

- ‌5 ذو الحجة - 1316ه

- ‌الإصلاح الإسلامي

- ‌عداء وخداع

- ‌الجمعية الإسلامية الهندية في لاهور

- ‌19 ذو الحجة - 1316ه

- ‌الأعياد

- ‌الساكت عن الحق شيطان أخرس

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌26 ذو الحجة - 1317ه

- ‌التعليم القضائي

- ‌المتكلمة بالقرآن

- ‌مقتطفات

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌3 محرم - 1317ه

- ‌الاعتماد على النفس

- ‌استنهاض همم(2)

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌10 محرم - 1317ه

- ‌التصرف في الكون

- ‌استنهاض همم(3)

- ‌التربية النفسية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌17 محرم - 1317ه

- ‌حياة الإسلام في مصر

- ‌استنهاض همم(4)

- ‌الطاعون واتقاؤه

- ‌كتاب تحرير المرأة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌24 محرم - 1317ه

- ‌استنهاض همم(5)

- ‌التربية النفسية

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مسألة القضاء الحاضرة

- ‌2 صفر - 1317ه

- ‌العز والذل

- ‌استنهاض همم(6)

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌9 صفر - 1317ه

- ‌فهم الدين

- ‌استنهاض همم(7)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الأخبار

- ‌16 صفر - 1317ه

- ‌كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية

- ‌استنهاض همم(8)

- ‌مراكش

- ‌ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [[

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مقتطفات الأخبار

- ‌23 صفر - 1317ه

- ‌النهضة الإسلامية في مصر

- ‌استنهاض همم(9)

- ‌إزالة شبهة

- ‌اختبار علم كل عارفمن ألباء أرباب المعارف

- ‌وفاة

- ‌29 صفر - 1317ه

- ‌استنهاض همم(10)

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أرزاء وطنية

- ‌يستحيل إرضاء الناس

- ‌ وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى [[

- ‌7 ربيع الأول - 1317ه

- ‌كان يا ما كان(2)

- ‌استنهاض همم(11)

- ‌الكتابان الجليلان

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الاحتفال بتذكارالمولد النبوي الشريف

- ‌14 ربيع الأول - 1317ه

- ‌المولد النبوي

- ‌كان يا ما كان(3)

- ‌استنهاض همم(12)

- ‌مَضَارُّ الْغِلْظَةِ فِي التَّرْبِيَة

- ‌تأييد عالم وتفنيد واهم

- ‌شعر في حب العلم

- ‌21 ربيع الأول - 1317ه

- ‌الحياة المِلِّية

- ‌كان يا ما كان(4)

- ‌استنهاض همم(13)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مدرسة الجمعية الخلدونية

- ‌إحصاء عن عدد سكان أوربا

- ‌28 ربيع الأول - 1317ه

- ‌الجنسية والدين الإسلامي

- ‌كان يا ما كان(5)

- ‌استنهاض همم(14)

- ‌تعليم النساء

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌5 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌الجامعة الإسلامية

- ‌استنهاض همم(15)

- ‌حقوق الجار ومدح المناربما يبديه من هدي الكبار

- ‌الإسلام في البرازيل

- ‌12 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌الدين والدولةأو الخلافة والسلطنة

- ‌كان يا ما كان(6)

- ‌خاتمة رسالةاستنهاض همم

- ‌تنبيه

- ‌دم أضاعه أهله

- ‌عناصر النمسا

- ‌19 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌كلمة في الحجاب

- ‌تهنئة الأستاذ المفتي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌26 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌تحريف الكلم عن مواضعه

- ‌الحديث الموضوع

- ‌الاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني

- ‌كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌3 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌حقوق الأخوة(3)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌10 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌حقوق الأخوة(4)

- ‌الوثنية في الإسلام

- ‌نجاح الجمعيات الإسلامية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌17 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌ماذا نعمل

- ‌المسلمون في روسيا

- ‌الأميرة الفاضلة صاحبة الدولةالبرنسس نازلي هانم أفندي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌24 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌القسم الثانيمن خطبتنا في التربية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌2 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌رد على باحث في كتابسر تقدم الإنكليز السكسونيين

- ‌القسم الثانيمن خطبتنا في التربية

- ‌شذرات

- ‌9 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أخبار وآراء

- ‌16 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌فلسفة الحرب الحاضرة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الشكوى من ظلم هولندا

- ‌وفاة والدة عبد الحليم أفندي حلمي

- ‌23 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌ذكرى لرؤساء الأمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أهم أخبار الحرب

- ‌شكر

- ‌30 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌الفرصتان

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌أهم أخبار الحرب

- ‌عودة الخديوي وأسرته

- ‌منع جريدة المشير

- ‌المدرسة العثمانية

- ‌إزالة وهم تاريخي

- ‌بعض التفصيل

- ‌6 رجب - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌بدع رجب

- ‌14 رجب - 1317ه

- ‌مناشير المهدي السوداني

- ‌فائدة الانتقاد

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌21 رجب - 1317ه

- ‌عزاء

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌بضعة أيام في خدمةجمعية شمس الإسلام

- ‌إصلاح غلط

- ‌28 رجب - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الدولة العلية في أفريقية

- ‌مساجد الصعيد

- ‌6 شعبان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأسطول الفرنساوي

- ‌رزء وطني عظيم

- ‌كنسة الإمام

- ‌13 شعبان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المنار والمناظر

- ‌السيول الجارفة

- ‌الجغرافيا والحرب

- ‌20 شعبان - 1317ه

- ‌الشريعة والطبيعةوالحق والباطل

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌عيد المولد الهمايوني

- ‌العالم الإسلامي

- ‌الحرب الحاضرة

- ‌27 شعبان - 1317ه

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌5 رمضان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌12 رمضان - 1317ه

- ‌اقتراح على السادة العلماءفي تقويم اعوجاج الوعّاظ والخطباء

- ‌الصيام والتمدن(2)

- ‌التقريظ والانتقاد

- ‌مأثرة لجمعية شمس الإسلام

- ‌19 رمضان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌26 رمضان - 1317ه

- ‌الزكاة والتمدن(2)

- ‌الاقتراح على المنار

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌ذم الهوى

- ‌الأخبار والآراء

- ‌المسجد الحسيني

- ‌10 شوال - 1317ه

- ‌طفولية الأمّةوما فيها من الحيرة والغمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الاجتماع العامفي جمعية شمس الإسلام

- ‌الأخبار والآراء

- ‌17 شوال - 1317ه

- ‌الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌جمعية شمس الإسلامفي القاهرة

- ‌الأمراء والعلماء

- ‌أفكوهة غريبة

- ‌خاتمة السنة الثانية للمنار

الفصل: ‌أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

‌أميل القرن التاسع عشر

(6)

من هيلانة إلي أراسم في يناير سنة -185

قد تلقيت مكتوبك أيها الحبيب من يد البريد السري، فكان له عليّ أحسن أثر

وأنفعه، فإني كنت في حاجة عظمى إلى شيء يسليني ويسرّي عني بعض الألم،

فلشدّ ما قاسيته منه مدة شهر، قد ضعفت صحتي وانحطت قوتي، وللطبيب الذي

يداويني في غيبتك ويوجه إليّ كثيرًا من الأسئلة فكرة في سبب هذا المرض أراها

تَشِف عن جنونه فإنه يزعم أني

كلا، إنني لموقنة بخطئه في ذلك.

مهما كان الأمر أريد أن أراك، فإن هذا الفراق العاجل بعد الزواج الذي لم

يمض عليه أكثر من سنة خَطْب هائل لا يطاق، ولا يمكنني أن أعيش معه، وإني

مسافرة مساء هذه الليلة من باريس ومعي إجازة موقع عليها من ناظر الحقانية بالإذن

لي بزيارتك، فلا بد أن يُسمح لي بدخول السجن، ولا يمكن أن ما عقدته رابطة

الحب يحله استبداد المستبدين.

لا تخش من شيء في هذه المقابلة، فأنا لم أقصد بها الرغبة إليك في أن

تستَميح الحكومة عفوًا عنك، فإني وإن كنت أتألم لغيبتك كثيرًا إلا أني أحترم

وجدانك وهواجس نفسك، وإن لم أفهمها حق الفهم، اعلم أن فيّ ما في بقية النساء

من مواضع الضعف ومظان العجز إلا أني منزهة من دناءة الخدين وخيانتها

لصاحبها، فإن شرفك داخل فيما أحبه منك، وإنك على احتباسك عني وبعدك عن

ناظري بما فيك من عزة النفس والشهامة وإباء الضيم لأجَلُّ في نفسي منك وأنت

بين يدي أرى مبادئك ومعتقداتك التي جريت على سننها طول حياتك، إني لما

تزوجتك تزوجت شيئًا آخر معك ألا وهو ضميرك ووجدانك، فإن بقيت على ولائه

متبعًا ما يرشدك إليه أقسمت لك أني أكون في الإخلاص لك كما تكون في الإخلاص

له مدة حياتي، أودعك الآن لأراك قريبًا إن شاء الله، وأكاشفك محبة قلبي إياك

وامتلاءه بالإشفاق عليك.

(7)

من هيلانة إلي أراسم في 20 يناير سنة - 185

إني لم يتيسر لي أن أحدثك بشيء مما أردت محادثتك به عند اللقاء مع أن

حديثي ذو شجون، من أجل ذلك أردت أن أعتاض عما فاتني منه بالمكاتبة

فسطرت لك هذه الكلمات.

كان مجيئي إلى السجن بالأمس واستفتاحي بابه في الساعة الثانية بعد الظهر

وبعد أن تحادثت مع مديره برهة أقبل نحوي أحد خزنته يهدج في مشيته وأنا أسمع

خفق نعليه بشدة على البلاط، وأخذني إلى الغرفة التي كنت أنتظرك فيها، كان قلبي

قد وعدني قبل دخولي السجن ورؤيتي ما فيه أن يستجمع كل ما لديه من الجراءة

والثبات؛ ليدفع بذلك عني بوادر الجزع وخواطر الهلع، فلم يلبث بعد دخولي هذه

الغرفة أن نقض ميثاقه وحل وثاقه، وأعوزتني رباطة الجأش وثبات الجنان لما

رأيتني وحيدة لا أنيس لي، وجمد الدم في عروقي لما استولى عليّ من الدهشة

والوحشة مع انقطاع الصوت في قباب السجن إلا ما يكون من صرير الأبواب

وصلصلة أغلاقها من بعيد أثناء فتحها وإقفالها، فلما بدا محياك لناظري فقدت بقية

رشادي وغبت عن وجودي، فإن فرحي برؤيتك بعد احتجابك عني وحزني لوجودك

في مثل هذا المكان قد أثارا عليّ جميع ضروب الانفعال ففدحتني وصرعتني، ولم

تبق لي من القوة سوى ما أسكب به العبرات، وأردد الزفرات، فألقيت نفسي عليك،

وكنت كما تعلم بين يديك، إنني رأيتك وقت التلاقي شاحب اللون متمقعه، فهل

كنت مريضًا؟ وليس من العجيب أني نسيت أن أسألك عن ذلك، فإنني إذ ذاك كنت

فانية فيك، فما كنت أفتكر ولا أرى ولا أحس ولا أقول شيئًا.

أتعلم ماذا كان يقلقني من الأفكار فوق ذلك؟ إنه كان يخيل لي أن لتلك

الجدران - جدران السجن - المخيفة أبصارًا وأسماعًا وإدراكًا، وأنها تحس بي لو

صافحتك، وتراني لو أشرت إليك إشارة ما، وتسمعني لو أفضيت إليك بسر فتذيعه.

لما عاد إلينا خازن السجن ونَبَّهنا إلى أن وقت التلاقي الممنوح لنا قد انقضى

من بضع دقائق قفّ شعري واقشعرّ جسمي وطار لُبّي، ولو أقسمت له عن سلامة

صدر بأنه لم يمض على دخولي السجن شيء من الزمن وأن في الساعة خللاً أدّى إلى

هذا الخطأ - لما كنت في اعتقادي حانثة، ووددت لو بعت حياتي وجميع ما أملكه

من حطام الدنيا - وإن قلّ - بساعة أخرى أقضيها معك.

لم تكن لي مندوحة من فراقك على غصتي بمرارته، ففارقتك مملوءة الفؤاد

من الحزن، مستفرغة الدموع من العينين، معتقلة اللسان من الوجوم على شرفٍ من

فقد الإدراك والشعور، واجتزت مكان الأسلحة يتقدمني دليل يحمل مصباحًا، فإن

الليل كان قد جنَّ على ما ظهر لي، لم يكن ابتعادي عن حضرتك حائلاً بيني وبينك،

ولا شاغلاً قلبي عن الاستغراق في شهودك، كلا إنني كنت أخالني في كل خطوة

أخطوها أسمعك تناديني مسترجعًا إياي، ولقد التفتُّ مرة لأتبين هذا النداء الوهمي

فلم يقع نظري إلا على وجه من الحجر، ذلك هو أحد البابين العظيمين

الحافظين لمدخل القرية.

سار بي ذلك الدليل الخرّيت الواسع الخبرة بشاطئ المحيط ومواقعه على حافة

الساحل متجهًا نحو قرية

حيث يجب أن أقضي ليلتي هناك في ناموس [1]

الصيادين، هذا الطريق وعثٌ، وقد أمضني فيه الحزن والنصب حتى لقد حدثتني

نفسي غير مرة بأن أجلس فيه وأقضي ليلتي على تلك الرمال، وإني أستميحك العفو

عن ذلك، فإني كنت أعلل النفس بقولي: إنني بجلوسي هاهنا أنام بالقرب من سجنه

على الأقل، وإذا اغتالتني الأمواج فحسبي أنني قضيت نحبي وأنا على مقربة منه،

كنت في سبيل توطين نفسي على الصبر وتشجيعها على احتمال المكروه أردد

النظرإلى جهة

وكان الليل ساكنًا إلا أنه كان حالك الظلام مخيفه، فلا كوكب يبدو

فيه ولا قمر، وكان يزيد في كثافة حجب الظلام ذلك السحاب المركوم وما يجود به

من الرذاذ البارد، أما البحر فكنت أسمع له من بعيد زمجرة وهديرًا، وأرى فوقه

أبخرة سنجابية اللون قد تنوّرت - على ما وصفت لك من شدة الظلمة - ضوءًا

ضعيفًا كان يظهر بصيصه من نافذة في جهة الجبل، وتعذر عليّ أن أحكم إن كان

هذا الضوء المتذبذب منبعثًا من السجن أو من أحد مساكن القرية، وكنت مع هذا الشك

الذي كان يخامرني في مصدره أنظر إليه نظر المحب إلى أثر حبيبه، وكنت أفتكر أنه

إن انطفأ ينطفئ معه نبراس حياتي.

قد وصلنا بفضل همة الدليل وخبرته بعد الجد في السير إلى نقطة تقابل

فلم

يبق بيننا وبينها سوى جدول يُجتاز على المركب، جلست في المركب على مقعد من

الخشب أرشدني إليه الجدافون لما أضنتني الأفكار ونهكت قواي الخواطر، فكانت

هذه الراحة والسكون المستتب حولي سببًا في توجيه أفكاري إلى فكرة جديدة، فبينا

أنا أفكر فيما كنت أفضيت به إليك من حالة صحتي وما استنتجه العلم منها إذ شعرت

على الفور بحركة شيء حي تحت منطقتي - الله اكبر - إن الطبيب كان مصيبًا،

فسأكون عمّا قليل أمًّا، لا أحسبك نسيت أن أعظم أمنية كانت لنا في أيام الهناء

الماضية هي أن يرزقني الله ولدًا منك، وإنني لترتعد فرائصي عند التفكر في ذلك.

ومهما كان من الأمر فلا أُخفي عليك نتيجة شعوري بالحمل، وهي أني بعد أن

تكدرت برهة أحسست بأن شعاعًا من الفرح والعزة يضيء في جوانب ظلمات حزني

وأني في رجوعي من عندك لم أكن فريدة محرومة من الرفيق، وخِلتُ أني قد

وجدتك بعد فقدك، نعم أدركت مع الزهو والإعجاب أن ذلك الذي يجنه حشاي

وتنضم عليه جوانحي هو أنت أيها الحبيب، وهل هو إلا مثالك الحي وبضعة من

لحمك ودمك؟ ثم خُيل لي بعد ذلك بلحظة أن الأمواج المضطربة تُحَييني بلسانك

تحية الزوجة والأم، وقلت في نفسي: إنني الآن في وسعي أن أقتحم ظلمات الليل

والرمال الوعثة، ولا أبالي بالسجن ولا بأوامره الشديدة وحرَّاسه وسجانيه، وصحت

بأن هؤلاء ليس في قدرتهم أن يأخذوه مني، وأنه هو في الجملة أبوه، أو على الأقل

بضعة منه يمكنني أن أخفيها في مستقري فأجعلها حرة بعيدة عن عدوان المعتدين،

كما تخفي اللبؤة الجريحة شبلها في عرينها.

أقول هذا ولكنني أرى أمرًا يروعني ويبلبل فكري وهو طريقة تربية هذا الولد

فإني طالما سمعتك تتكلم فيما يجب على الوالدين لأولادهم بعبارات هي من سمو

البلاغة، وقوة التأتير بحيث إن قلبي كان يخفق لسماعها أملاً في أنه سيكون المقصود

بها، واليوم قد اقترب تحقق هذا الأمل، وأنا مِن تَحَقُّقِهِ في إشفاق ورعب.

مَن ذا الذي يقوم بتلك الفروض التي أنت تعلمها أكمل العلم، فقد كنت تقول

لي: لو رزقني الله ولدًا لوقفت حياتي على تعليمه وتربيته، وكنت تجاهر كل

المجاهرة بإنكار الطرق السائدة في تربية الناشئين واستهجانها شديد الاستهجان، كل

ذلك لا يزال منقوشًا في ذاكرتي، لكني بقدر ما كنت أعجب بأفكارك ومقاصدك

تعتريني الآن رعدة خوف أمام هذا التكليف الذي سيقع ثقله عليَّ وحدي، فقد فرَّق

بيننا قانون الإنسان بهوّة حفرها لتكون حاجزًا يحول بيني وبين الوصول إليك في

وقت أكون فيه أشدّ حاجة إلى الاسترشاد بنصائحك والاستضاءة بنور معارفك

والاعتماد على معونتك الأدبية، ليت شعري ما سيكون من أمر هذا الولد إذا كبر

وهو محروم من رعاية والده وعنايته؟ وما عسى أن أفعله له وأنا كالقصبة الضئيلة

قد رزحت بضعفي وضعضعني سقمي؟

قد وجدت قوبيدون الزنجي البارّ الذي أحضرته معك من أمريكا في انتظاري

هو وزوجته على الشاطئ الآخر للجدول، فلما رأياني أرادا تقبيل يدي رغمًا عني

قائلين: إن هاتين اليدين صافحتا يديك، وإن لك الفضل عليهما في الحصول على

حريتهما، ما وصلت إلى الشاطئ إلا وأنا في قفقفة من البرد قد وصل أثرها إلى

أعماق نفسي، وكانت ثيابي مبللة، فوجدتهما والحمد الله قد أعدا لي فراشًا في أحد

نواميس الصيادين التي على ضفة الجدول، وأذكيا لي بها نارًا من قضبان أشجار

يابسة، فأخذ البرد يزول عني تدريجًا بتوقد اللهب في المستوقد، وارتحت لما كان

يبديه لي كل من هذين الشخصين من إخلاصه في الحب والولاء، ما أشد عدوى بِر

الإنسان وأعظم أثر إحسانه، فإني قد نِمت هذه الليلة أحسن من نومي في سوابقها

بعد ذلك النهار- نهار التعب الجسماني والنفساني- الذي كدت فيه أن أسخط على

الحياة وأسأمها، وأنا أكتب إليك الآن في ناموس الصيادين بعد استيقاظي من النوم

صباحًا.

تجد مكتوبي كما اتفقنا بالأمس مخبأ فيما أرسله لك من الملابس التي توليتُ

طيها وإصلاحها بنفسي، ورق هذا المكتوب وإن كان رقيقًا إلا أنه متين، وقد

طويته طية جعلته فيها على شكل زر، فليت شِعري هل يتيسر لك قراءة خطي الذي

هو كأرجل الذباب؟ !

سأعود بعد غد إلي السجن، فقد وُعدت بأن يؤذن لي في الدخول من الساعة

الأولى مساء، وعسى أن أتجلد في هذه المرة فأستجمع شتات فكري، أُقَبِّلك الآن

قُبلة الوداع بكل ما في نفسي من قوة الشوق، والملتقى قريب إن شاء الله. اهـ

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

الناموس لفظ مشترك بين جملة معانٍ منها منزل الصيادين.

ص: 516

الكاتب: محمد رشيد رضا

دروس جمعية شمس الإسلام

(5)

(أماليّ دينية - الدرس الخامس)

(17)

وجود الواجب: عرفتم من الدرس الماضي معنى الواجب والمستحيل

والممكن، وأن وجود هذا العالم ممكن، وأن الممكن يحتاج في نظر

العقل إلى مرجح يرجح وجوده على عدمه، لأنهما متساويان عنده، وترجيح أحد

المتساويين بلا مرجح محال، والآن نقول: إن المرجح لوجود هذا العالم الممكن

على عدمه لا بد أن يكون واجبًا، وبيانه أن ترجيح وجود الممكن عبارة عن إيجاده،

وموجد الشيء لابد أن يكون غيره، ولا موجود غير الممكن إلا الواجب، فتعين أن

يكون ما يستند إليه وجود الممكن واجبًا، أما كون موجد الشيء لا بد أن يكون غيره

فهو بديهيّ، لأنه لو أوجد نفسه لكان سابقًا عليها في الوجود إذ المؤثر سابق على

أثره طبعًا، فيقتضي أن يكون موجودًا قبل وجوده، أي موجود غير موجود في آنٍ

واحد وهو محال بالبداهة، فإن قيل: إنما يصح هذا بالنظر إلى طبيعة الممكن التي

تشمل جميع الممكنات، ولنا أن نقول: إن بعض هذه الممكنات أوجد البعض الآخر،

نقول في الجواب: إذا لم نقم لكم الدليل في جملة الممكنات فإننا نقيمه في أول

جزء وجد منها، فإنكم سلَّمتم أنه لا يكون إلا حادثًا وأنه يستحيل أن يحدث الشيء

نفسه، فتعين أن يكون الذي أحدثه هو الواجب؛ لأننا فرضنا أنه لا ممكن قبله فثبت

المطلوب.

(18)

ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الاعتقاد بوجود بارئ الكون فطري

في الإنسان، بل قال بعضهم: إنه فطري في الحيوان؛ لأنك إذا ضربت الهرة من

ورائها أو صِحت بأي حيوان، يلتفت لما؛ هو مركوز في فطرته من أن كل فعل

لا بد له من فاعل، وكل حادث لا بد له من محدث، وقد سُئل أعرابي عن الدليل على

وجود الله تعالى، فقال: البَعْرة تدل على البعير، وآثار الأقدام تدل على المسير،

فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فِجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على وجود

العليم الخبير؟ ! استدل أهل هذا المذهب بالاستقراء التاريخي، فإنه لم توجد أمة من

الأمم ولا شعب من الشعوب إلا وهو يعتقد بإله للكون وموجد للعالم، أجمع على

هذا الاعتقاد في الجملة المتمدنون والهمج، حتى زنوج إفريقيا وسكان جزائر المحيط

من أكلة لحوم البشر وغيرهم، ويدل عليه ما جاء في القرآن من محاجة الأنبياء

لأقوامهم، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ

وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ

وَقَالُوا إنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي

اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ

مُّسَمًّى قَالُوا إنْ أنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أن تَصُدُّونَا عَمَّا كَأنَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا

بِسُلْطَأنٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إن نَّحْنُ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ

مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَأنَ لَنَا أن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ

المُؤْمِنُونَ} (إبراهيم: 9-11) فجواب الأمم لأنبيائهم عن قولهم:] أَفِي اللَّهِ

شَكٌّ [بقولهم:] إنْ أنتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا [يدل على أنهم لم يكونوا شاكين في وجود الله

تعالى، وإنما كان شكهم في النبوات لاستبعادهم أن يمتاز بشر مثلهم بالسفارة بين الله

تعالى وبين خلقه، وقد أجابهم الأنبياء بما سمعتم في الآية، وسيأتي توضيحه

في محله إن شاء الله تعالى، حقًّا إن أهم مسائل علم العقائد مسألة الوساطة بين الله

تعالى وبين الناس، فقَصْرُهذه الوساطة على التبليغ فقط يشمل أمرين (أحدهما)

التوحيد الذي يصطلم جراثيم الوثنية التي أهلكت جميع الأمم (وثانيهما) النبوة التي

أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، أما وجود الله وعلمه وقدرته فلا يشك فيها

عاقل.

يقول قائل: إن من الناس مَن أنكر وجود صانع للكون، فكيف يكون الاعتقاد

به فطريًّا؟ والجواب: إن هؤلاء شرذمة قليلة كما قال بعض علمائنا، وأظنه السعد

التفتازاني وعبارته التي أذكرها هي: (اتفق الناس على وجود الصانع تعالى خلا

شرذمة قليلة ذهبت إلى أن وجود العالم أمر اتفاقي، وهو بديهي البطلان) وقد رد

عليهم العلماء بالأدلة النظرية كالدليل الذي تشير إليه العبارة من أن هذا الاعتقاد

يستلزم أن يكون العالم وجد بالمصادفة والاتفاق من غير فاعل يرجح وجوده على

عدمه، وهذا كما قال بديهي البطلان وملزومه كذلك بالضرورة، وإنما قلت: يستلزم

ما ذكر لأن منكري الصانع من المشتغلين بالعلوم العقلية لا يقولون بالمصادفة بل

ينكرونها أشد الإنكار، ولئن قال بها بعضهم فلا يقول بها كلهم، والجواب الصحيح

إن هؤلاء الشذّاذ قد أصابهم مرض في عقولهم خرج بهم عن مزاج الفطرة المعتدل

بالنسبة لهذه العقيدة، والعقول تمرض كما تمرض الأجسام فلا تؤدي وظائفها على

الوجه الذي تقتضيه الفطرة المعتدلة، ألا ترى أن الصفراوي يذوق العسل مُرًّا،

والأحْوَل يرى الواحد اثنين، هذا ما أجاب به أستاذنا الأكبر مفتي الديار المصرية

لهذا العهد، وهو جواب لا أحسن منه، ولا يصدنكم عن قبوله أن ممن ينكر الباري

بعض الفلاسفة وهم من أكبر الناس عقولاً، لأنه كما يطرأ الضعف على الجسم

القوي فيعطِّل بعض أعضائه عن وظائفها ويبقى سائر الجسم قويًّا كذلك يفعل بالعقل،

فقد ثبت في العلم الحديث أن لكل نوع من أنواع الإدراك مركزًا مخصوصًا في

الدماغ، وأن المرض قد يطرأ على بعض هذه المراكز دون بعض، وقد اهتدوا

بمعرفة هذا إلى معالجته بالطرق الجراحية، من ذلك أن بعض الناس نسي بعض

الأرقام الحسابية لجلطة دموية أصابت المركز الذي يدركها من الدماغ، فصار لا

يقدر على حل مسألة حسابية فيها ما نسي من الأرقام حتى عولج معالجة جراحية

وشفي، وثبت أيضًا أن من الناس من تختل بعض مراكز الإدراك في دماغه بحيث

يكون مجنونًا، ويقوى مع ذلك بعضها بحيث يفوق في إدراكه به أعقل العقلاء، كان

بعض المجانين يُسأل عن أعوص مسائل الحساب والجبر، فيجيب عنها بالبداهة،

ولو سئل عنها أمهر الرياضيين لاحتاج في حلها إلى ساعات، وحاصل القول إذا لم

يثبت أن الاعتقاد بوجود صانع الكون مودع في غرائز البشر وفطرهم، فإن

البراهين النظرية على ذلك كثيرة، ومنها ما أوردناه في صدر الدرس: {إنَّ فِي

خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (آل عمرأن: 190){وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 20-21) .

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

ص: 522