المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكاتب: محمد رشيد رضا - مجلة المنار - جـ ٢

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد رقم (2)

- ‌28 شوال - 1316ه

- ‌خطاب وعظي للإنسان

- ‌الإيثار

- ‌التربية والتعليم

- ‌الحوادث والأخبار التاريخية

- ‌6 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الإيثار

- ‌الحبالى وتربية الأجنة(1)

- ‌التعليم بالعمل

- ‌ما قيل في الخال

- ‌الجامع الأزهر الشريف

- ‌الأخبار والآراء

- ‌13 ذو القعدة - 1316ه

- ‌تأثير العلم في العمل

- ‌أيها الفتى

- ‌أخبار الحجاج

- ‌اعتذار

- ‌20 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الاتحاد

- ‌اختيار المعلمين

- ‌الحدود بين القطر المصري والسودان

- ‌27 ذو القعدة - 1316ه

- ‌الإصلاح الإسلامي

- ‌تأثير الوعظ والتذكير

- ‌عبرة لمن يعقل

- ‌إحصاء الأوقاف

- ‌تنازع الدول الأوربيةعلى الممالك الإسلامية

- ‌5 ذو الحجة - 1316ه

- ‌الإصلاح الإسلامي

- ‌عداء وخداع

- ‌الجمعية الإسلامية الهندية في لاهور

- ‌19 ذو الحجة - 1316ه

- ‌الأعياد

- ‌الساكت عن الحق شيطان أخرس

- ‌تقريظ المطبوعات

- ‌26 ذو الحجة - 1317ه

- ‌التعليم القضائي

- ‌المتكلمة بالقرآن

- ‌مقتطفات

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌3 محرم - 1317ه

- ‌الاعتماد على النفس

- ‌استنهاض همم(2)

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌10 محرم - 1317ه

- ‌التصرف في الكون

- ‌استنهاض همم(3)

- ‌التربية النفسية

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌17 محرم - 1317ه

- ‌حياة الإسلام في مصر

- ‌استنهاض همم(4)

- ‌الطاعون واتقاؤه

- ‌كتاب تحرير المرأة

- ‌الأخبار والآراء

- ‌24 محرم - 1317ه

- ‌استنهاض همم(5)

- ‌التربية النفسية

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مسألة القضاء الحاضرة

- ‌2 صفر - 1317ه

- ‌العز والذل

- ‌استنهاض همم(6)

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌9 صفر - 1317ه

- ‌فهم الدين

- ‌استنهاض همم(7)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الأخبار

- ‌16 صفر - 1317ه

- ‌كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية

- ‌استنهاض همم(8)

- ‌مراكش

- ‌ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [[

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مقتطفات الأخبار

- ‌23 صفر - 1317ه

- ‌النهضة الإسلامية في مصر

- ‌استنهاض همم(9)

- ‌إزالة شبهة

- ‌اختبار علم كل عارفمن ألباء أرباب المعارف

- ‌وفاة

- ‌29 صفر - 1317ه

- ‌استنهاض همم(10)

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أرزاء وطنية

- ‌يستحيل إرضاء الناس

- ‌ وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى [[

- ‌7 ربيع الأول - 1317ه

- ‌كان يا ما كان(2)

- ‌استنهاض همم(11)

- ‌الكتابان الجليلان

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌الاحتفال بتذكارالمولد النبوي الشريف

- ‌14 ربيع الأول - 1317ه

- ‌المولد النبوي

- ‌كان يا ما كان(3)

- ‌استنهاض همم(12)

- ‌مَضَارُّ الْغِلْظَةِ فِي التَّرْبِيَة

- ‌تأييد عالم وتفنيد واهم

- ‌شعر في حب العلم

- ‌21 ربيع الأول - 1317ه

- ‌الحياة المِلِّية

- ‌كان يا ما كان(4)

- ‌استنهاض همم(13)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌مدرسة الجمعية الخلدونية

- ‌إحصاء عن عدد سكان أوربا

- ‌28 ربيع الأول - 1317ه

- ‌الجنسية والدين الإسلامي

- ‌كان يا ما كان(5)

- ‌استنهاض همم(14)

- ‌تعليم النساء

- ‌الشعر العصري

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌5 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌الجامعة الإسلامية

- ‌استنهاض همم(15)

- ‌حقوق الجار ومدح المناربما يبديه من هدي الكبار

- ‌الإسلام في البرازيل

- ‌12 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌الدين والدولةأو الخلافة والسلطنة

- ‌كان يا ما كان(6)

- ‌خاتمة رسالةاستنهاض همم

- ‌تنبيه

- ‌دم أضاعه أهله

- ‌عناصر النمسا

- ‌19 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌كلمة في الحجاب

- ‌تهنئة الأستاذ المفتي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌26 ربيع الثاني - 1317ه

- ‌تحريف الكلم عن مواضعه

- ‌الحديث الموضوع

- ‌الاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني

- ‌كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌3 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌حقوق الأخوة(3)

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌10 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌حقوق الأخوة(4)

- ‌الوثنية في الإسلام

- ‌نجاح الجمعيات الإسلامية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌17 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌ماذا نعمل

- ‌المسلمون في روسيا

- ‌الأميرة الفاضلة صاحبة الدولةالبرنسس نازلي هانم أفندي

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌24 جمادى الأولى - 1317ه

- ‌القسم الثانيمن خطبتنا في التربية

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌2 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌رد على باحث في كتابسر تقدم الإنكليز السكسونيين

- ‌القسم الثانيمن خطبتنا في التربية

- ‌شذرات

- ‌9 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أخبار وآراء

- ‌16 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌فلسفة الحرب الحاضرة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الشكوى من ظلم هولندا

- ‌وفاة والدة عبد الحليم أفندي حلمي

- ‌23 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌ذكرى لرؤساء الأمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌أهم أخبار الحرب

- ‌شكر

- ‌30 جمادى الآخرة - 1317ه

- ‌الفرصتان

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌أهم أخبار الحرب

- ‌عودة الخديوي وأسرته

- ‌منع جريدة المشير

- ‌المدرسة العثمانية

- ‌إزالة وهم تاريخي

- ‌بعض التفصيل

- ‌6 رجب - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌بدع رجب

- ‌14 رجب - 1317ه

- ‌مناشير المهدي السوداني

- ‌فائدة الانتقاد

- ‌قليل من الحقائق عن تركيافي عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌21 رجب - 1317ه

- ‌عزاء

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌بضعة أيام في خدمةجمعية شمس الإسلام

- ‌إصلاح غلط

- ‌28 رجب - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الدولة العلية في أفريقية

- ‌مساجد الصعيد

- ‌6 شعبان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأسطول الفرنساوي

- ‌رزء وطني عظيم

- ‌كنسة الإمام

- ‌13 شعبان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌المنار والمناظر

- ‌السيول الجارفة

- ‌الجغرافيا والحرب

- ‌20 شعبان - 1317ه

- ‌الشريعة والطبيعةوالحق والباطل

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌عيد المولد الهمايوني

- ‌العالم الإسلامي

- ‌الحرب الحاضرة

- ‌27 شعبان - 1317ه

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌5 رمضان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار والآراء

- ‌12 رمضان - 1317ه

- ‌اقتراح على السادة العلماءفي تقويم اعوجاج الوعّاظ والخطباء

- ‌الصيام والتمدن(2)

- ‌التقريظ والانتقاد

- ‌مأثرة لجمعية شمس الإسلام

- ‌19 رمضان - 1317ه

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الأخبار التاريخية

- ‌26 رمضان - 1317ه

- ‌الزكاة والتمدن(2)

- ‌الاقتراح على المنار

- ‌طائفة من الأخبار

- ‌ذم الهوى

- ‌الأخبار والآراء

- ‌المسجد الحسيني

- ‌10 شوال - 1317ه

- ‌طفولية الأمّةوما فيها من الحيرة والغمة

- ‌أميل القرن التاسع عشر

- ‌الاجتماع العامفي جمعية شمس الإسلام

- ‌الأخبار والآراء

- ‌17 شوال - 1317ه

- ‌الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة

- ‌تقرير فضيلة مفتي الديار المصريةفي إصلاح المحاكم الشرعية

- ‌جمعية شمس الإسلامفي القاهرة

- ‌الأمراء والعلماء

- ‌أفكوهة غريبة

- ‌خاتمة السنة الثانية للمنار

الفصل: الكاتب: محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

‌الإيثار

(تتمة لما سبق)

إن لما أنزل الله لنا من الرزق ثلاث مراتب:

(الأولى) الضرورة وهي ما لا بد منه للمحافظة على حياة المرء

الجسدية كرغيف يأكله وكساء يستره، بحيث إذا لم يحصل عليه تضرَّر جسمه

غالبًا أو خشي عليه التلف، وهي مرتبة الزهاد.

(الثانية) الحاجة وهي ما زاد على الضرورة ولم ينتهِ إلى الترف

والرفاهة، كأن يجد الإدام الواحد أحيانًا والحلوى والفاكهة أوقاتًا بمقدار ما يكفيه

أو يزيد قليلاً وهي مرتبة المتوسطين.

(الثالثة) الرفاهة وهي الحالة التي يحصل صاحبها ما شاء من الملاذ

تُستطاب له كل يوم الألوان باللحوم والبقول والفاكهة والحلوى كما يشاء ويُختار

بحسب حالة الزمان والمكان، وهي مرتبة المترفين من أهل الثراء والدثور.

فإلايثار بما زاد عن الضرورة عند هؤلاء - لا شك أنه أفضل من تمتيع النفس

به، وهو الذي كان شائعًا في الصحابة ومَن اهتدى بهدْيهم من أهل القرون

الأولى في الأمة.

ومَن كان له أهل وأقارب تجب عليه نفقتهم فضرورتهم كضرورته.

ويدل لهذه الأفضلية حديث أبي هريرة عند البخاري والنَّسَائي قال: قال النبي صلى

الله عيه وسلم: (أفضل الصدقة ما ترك غنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ

بمَن تعول) وفي رواية: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنىً) ومثل الصدقة

غيرها من الإنفاق المشروع كالهدية ومواساة الإخوان الذي تقدم عن بعضهم

تفضيله على الصدقة. وربما يفهم من الحديث أن الصدقة الفُضلى إنما تكون

مما زاد عن الحاجة لا عن الضرورة فقط، وهو ظاهر ولا ينافيه قوله تعالى:

{وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} (الحشر: 9) ؛ إذ ليس في الآية أن ذلك الإيثار

هو أفضل الإنفاق، بل قصاراه أنه فضيلة يمتدح بها، وقد رجح الإمام الرازي

وغيره أن الآية نزلت في إيثار الأنصار والمهاجرين بالغنيمة مع مشاركتهم لهم

في دورهم وأموالهم، وجعلوا ما نقل عنهم في الصحيح من المؤاثرة للضيف وغيره

مما يدخل في عموم الآية، لكن أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي

هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتى رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا

رسول الله، أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا - وفي

رواية غير الماء - فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا رجل يضيف هذا

الليلة يرحمه الله) فقام رجل من الأنصار وفي رواية: فقال أبو طلحة: أنا يا رسول

الله. فذهب به إلى أهله فقال أكرمي ضيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي

فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلت، ثم غدا الضيف على رسول الله

صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله أو ضحك (الشك من الراوي) من

فلان وفلانة [1] وأنزل الله تعالى فيهما: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ

خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) ورُوي أن الآية نزلت في حكاية رأس الشاة الذي دار

على ثمانية من الصحابة. وقد تقدم.

قلت: وقد يكون الإيثار للغير أفضل في حق ذي الحاجة وذي الضرورة

في بعض وقائع لخصوصية كأن يرى ذو الضرورة مضطرًّا مشرفًا على

الهلاك، ولا يخاف ذلك على نفسه لو آثره بقوته، بل لا يبعد هنا وجوب

الإيثار. وفي مثل ضيف النبي عليه الصلاة والسلام الذي أجهده الجوع، وفي

ذي الحاجة الشحيح، أو الذي يتهم نفسه بالبخل والشح ويحاول تطهيرها من هذه

الرذيلة؛ لترجع إلى الاعتدال الذي هو أكمل الكمال.

والحاصل أن أصل الشرع يأمر بأن يقدم الإنسان المعصوم نفسه بالنفقة، ثم

الأزواج والأقارب من فروع وأصول الخدم على الترتيب المذكور في الفقه، ثم

يتصدق ويهدي من العفو والفاضل عمن تجب عليه نفقته ممن ذُكر، والأفضل

أن لا يتصدق بجميع ما يملك ويدع ورثته عالة يتكففون والثلث كثير كما في

حديث سعد في الصحيح (عند الستة) ومن ثم قال الإمام النواوي في شرح

مسلم: إن بعضهم استدل بالحديث على تفضيل الغني على الفقير وسكت عليه،

ويأمر (أي: الشرع) بالجود والسخاء والصلة والإحسان، وبالغ في ذم

البخل والبخلاء؛ لأنه من الأخلاق المذمومة التي تدنس النفوس الإنسانية، وتقف

بها عن الصعود إلى المراتب العلية، فالمهذب الكامل الذي زكيت نفسه من أدران

الشح والبخل كأويس القرني وأضرابه يقفون عند حدود الشرع في الإنفاق

بتقديم أنفسهم ثم الأقرب فالأقرب ملاحظين في ذلك ما تقدم شرحه عن الشيخ

محيي الدين - أعني أن تقديم أنفسهم ليس لأجل التمتع والتنعم - وإنما كان يبذل

أويس رضي الله عنه جميع ما فضل عن حاجته؛ لأنه لم يكن له أهل ولا ولد

يرثه، بل كان سائحًا منفردًا، والأفضل في حقه إنفاق العفو مع التوكل بخلاف

المعيل أو من يضطرب قلبه؛ لأنه لم يقم في مقام التوكل.

وأما مَن لم يوق شح نفسه فالأفضل له المبالغة في البذل والإيثار بما وراء

سد الرمق من الحاجيات إلى أن ترجع نفسه إلى الاعتدال الذي هو السخاء

الحقيقي، وما دام السالك لم يبلغ مرتبة الكمال القصوى، فهو يتهم نفسه بالطمع

والوقوف مع الحظوظ، ولا يطمئن لما توسوس به إليه من أنها تزكت من أدران

البخل، وتحلت بحلي السخاء والجود، وإن كانت في واقع الأمر قد تزكت

والتحقت بنفوس الأولياء العارفين الأبرار، فصاحب هذه النفس يظل يؤثر الغير؛

لاتهامه نفسه بما ذكر. يؤثر ذلك عن جماعة من مشاهير الأولياء كالحسين بن

منصور الحلاج [2] والشيخ أحمد بن الرفاعي. وكان أحمد يقول: طريقتنا مبنية

على ثلاثة أشياء: لا تسأل ولا ترد ولا تدخر. نقله عنه العارف الشعراني

وغيره، ونقله البحريني نفسه في (ص36) وهنا أوردنا في كتابنا (الحكمة

الشرعية) كلامًا نفيسًا في الادخار عند الصوفية لا ينبغي ذكره في الجرائد؛

لأنه خاص بأهله، ثم قلنا:

ويحتمل أن الإيثار من بعض الصحابة عليهم الرضوان، والمبالغة في

الإنفاق التي لا تنطبق على الوجه الذي قلنا: إنه أصل الشرع - كان يقصد به

تهذيب النفوس لاتهامها بالبخل والشح، وربما يشعر بذلك قوله تعالى بعد

مدحهم بالإيثار: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) ولا

يلزم منه تفضيل مثل أويس على هؤلاء؛ لأنه من أحوال بدايتهم، وما تقدم عنه

هو حاله في نهايته. على أنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وهم

قد سبقوا بفضيلة الصحبة التي لا تُوزن بها فضيلة ولا تعادَل بها منقبة

لذاتها فضلاً عما يحتفّ بها من الفضائل والمزايا.

وخلاصة القول أن البخل مذموم والتبذير أو الإسراف مذموم والسخاء -

الذي هو وسط بينهما - هو المحمود والممدوح شرعًا وعقلاً.

بين تبذير وبخل رتبة

وكلا هذين إن زاد قتل

ومَن خرج عن مرتبة الاعتدال في خلق من الأخلاق فسبيل إرجاعه إليها

حمْله على المبالغة في الطرف المقابل، أعني أنه يؤمر بالإفراط إن كان في

جانب التفريط وبالعكس؛ ومن ثم ورد الشرع في ذم الإفراط والتفريط ومدح

الاعتدال والعدل، مع أنه جاء في سيرة الشارع وأصحابه وتابعيهم بإحسان -

حكايات كثيرة في المبالغة في السخاء والحِلم والتواضع وغيرها من السجايا الفاضلة،

بحيث تصل إلى حد الإفراط، والمراد بذلك الإرشاد والتهذيب لمن هو في طرف

التفريط؛ ليرجع إلى الاعتدال، ومن ذلك إيثار صاحب الضرورة أو الحاجة

غيرَه بما هو محتاج أو مضطر إليه مثله أو أزيد، والمرجع إلى محكم التنزيل القائل

بالقسط والاعتدال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ

قَوَاماً} (الفرقان: 67) ، {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ

فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} (الإسراء: 29) والله أعلم وأحكم وهو أقوم قيلاً.اهـ.

فعُلم من هذا أن الاقتصاد أصل من أصول الفضائل الإسلامية، ولكن

المسلمين أهملوا مراعاته، والأوربيون أعطوه من العناية ما ينبغي له. وألَّفوا

فيه الكتب، وأوجبوا تعليمه في جميع المدارس؛ لأنه من مقومات المدنية، فحتَّامَ

- يا قوم - لا نكاد نرى من أغنيائنا إلا سفيهًا مبذرًا، أو شحيحًا مُقترًا، بل

كاد يعم الإسراف والتبذير كل غني وفقير، يتلهى المستمسك منهم بدينه

بإلهيات شعرية، وجُمل خطابية، كقولهم: (أنفقْ ما في الجيب يأتيك ما في

الغيب) والمنحرف عن هدْي الدين لا تسلْ عن جنونه وفنونه، وسنعود إلى

مباحث الاقتصاد والبخل والسخاء في فرصة أخرى، إن شاء الله تعالى.

_________

(1)

فسرنا العجب أو الضحك في الطبعة الأولى بالرضا والقبول على طريقة الأشعرية ومذهب السلف أنه عجب أو ضحك يليق بكماله وتنزُّهه عن مشابهة.

(2)

حاشية للطبعة الثانية: الذي ترجح عندنا بعد كتابة هذا بسنين أن الحلاج كان دجالاً محتالاً.

ص: 17

الكاتب: أبو حامد الغزالي

حقوق الأخوة

(الحق الثاني) في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال،

وتقديمها على الحاجات الخاصة. وهذه أيضًا لها درجات كما للمواساة بالمال، فأدناها

القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح

وقبول المنة. وقال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضِها فكبِّرْ عليه واقرأ

هذه الآية: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} (الأنعام: 36) وقضى ابن شبرمة حاجة

لبعض إخوانه كبيرة فجاءه بهدية فقال: ما هذا؟ ! قال: لما أسديتَه إليَّ. قال:

خذ مالك - عافاك الله - إذا سألت أخاك حاجة فلم يُجهد نفسه في قضائها فتوضأ

للصلاة وكبرْ عليه أربع تكبيرات وعُدّه في الموتى! قال جعفر بن محمد: إنى

لأتسارع إلى قضاء حوائج أعدائي مخافة أن أردهم فيستغنوا عني. هذا في الأعداء،

فكيف في الأصدقاء؟ !

وكان في السلف مَن يتفقَّد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم

بحاجتهم، ويتردد كل يوم إليهم ويموِّنهم من ماله، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا

عينه، بل كانوا يرون منه ما لم يَرَوْا من أبيهم في حياته. وكان الواحد منهم يتردد

إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول: هل لكم زيت، هل لكم مِلح، هل لكم حاجة؟

وكان يقوم بها من حيث لا يعرفه أخوه، وبهذا تظهر الشفقة والأخوة، فإذا لم تثمر

الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه فلا خير فيها. قال ميمون بن

مهران: (مَن لم تنتفع بصداقته لم تضرك عداوته) وقال صلى الله عليه وسلم:

(ألا وإن لله أواني في أرضه وهي القلوب، فأحبّ الأواني إلى الله تعالى

أصفاها وأصلبها وأرقها) أصفاها من الذنوب، وأصلبها في الدين، وأرقها

على الإخوان.

وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك وأهم من حاجتك، وأن

تكون متفقدًا لأوقات الحاجة، غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك،

وتغنيه عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة، بل تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك

قمت بها ولا ترى لنفسك حقًّا بسبب قيامك بها، تتقلد منه بقبول سعيك في حقه

وقيامك بأمره، ولا ينبغي أن تقتصر على قضاء الحاجة، بل تجتهد في البداية

بالإكرام في الزيادة والإيثار والتقديم على الأقارب والولد.

كان الحسن يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا. وقال عطاء: تفقدوا

إخوانكم بعد ثلاث؛ فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو كانوا

نسوا فذكِّروهم. روي أن ابن عمر كان يلتفت يمينًا وشمالاً بين يدي رسول الله

صلى الله عليه وسلم؛ فسأله عن ذلك فقال: أحببت رجلاً فأنا أطلبه ولا أراه. فقال:

(إذا أحببت أحدًا فسلْه عن اسمه واسم أبيه وعن منزله؛ فإن كان مريضًا عدته

وإن كان مشغولاً أعنته) وفي رواية: (وعن اسم جده وعشيرته [1] ) وقال الشعبي

- في الرجل يجالس الرجل، فيقول: أعرف وجهه ولا أعرف اسمه -: تلك

معرفة النوكي. وقيل لابن عباس: مَن أحب الناس إليك؟ قال: جليسي. وقال: ما

اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثًا من غير حاجة له إليَّ فعلمت ما مكافأته من الدنيا.

وقال سعيد بن العاص: لجليسي عليَّ ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حدث أقبلت

عليه، وإذا جلس أوسعت له. وقد قال تعالى {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) إشارة

إلى تمام الشفقة والإكرام. ومن تمام الشفقة أن لا ينفرد بطعام لذيذ أو بحضور في

مسرة دونه، بل يتنغَّص لفراقه ويستوحش بانفراده عن أخيه. اهـ. من (الإحياء)

فهكذا تكون الأخوة، وهكذا تكون آداب الأمم في طور الحياة، وكأنِّي بالذين في

قلوبهم مرض تنفر نفوسهم من هذه الآثار، ولو نقل مثلها عن الإفرنج لأُعجبوا بها

وتنافسوا فيها.

((يتبع بمقال تالٍ))

_________

(1)

رواه الترمذي عمن قال: إنه لا نعرف له رواية. والخرائطي والبيهقي بسند ضعيف.

ص: 22