المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى - مجموع رسائل ابن رجب - جـ ٢

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

- ‌البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى

- ‌فصل: [فيمن أراد بالنصيحة للعلماء النصح لله ورسوله ومن أراد التنقص والذم وإظهار العيب وكيفية معاملة كلٍّ منهما]

- ‌فصل: [في الفرق بين النصح بالعيوب للرجوع عنها والتوبيخ والتعيير بالذنب]

- ‌فصل: [في عقوبة من عير أخاه بالذنب]

- ‌فصل: [فيمن يظهر النصح ويبطن التعيير والأذى وأن ذلك من صفات المنافقين]

- ‌فصل: [فيمن أصابه أذى ومكر أن عليه أن يصبر وأن التمكين سيكون له بعد صبره]

- ‌القسم الأول:

- ‌القسم الثاني:

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌الباب الأولفي ذكر عبادتِهِ واجتهادِهِ وتهجُّدِهِ وبكائِهِ وإخفائِهِ لذلك

- ‌الباب الثالثفي ذكرِ زُهدِهِ في الدُّنْيَا وقناعتِهِ باليسيرِ وبُعدِهِ من الإسراف

- ‌الباب الرابعفي ذكر حلمه وكظمِهِ الغَيْظَ

- ‌الباب الخامسفي ذكر كلامه في قِصَر الأمَل والمبادرةِ قبل هجومِ الموتِ بالعملِ

- ‌الباب السادسفي ذكر صلابتِهِ في الدين وقوتِهِ في تنفيذ الحق واجتهادِهِ عَلَى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومواعظِهِ لأبيه في ذلك

- ‌الباب السابعفي ذكر هوان نفسه عليه في ذات الله ورضاه بكل ما يناله من الأذى في تنفيذ أوامر الله عز وجل

- ‌الباب الثامنفي ذكر شدةِ حذرهِ من الظلمِ وتنزهه من ذلك

- ‌الباب التاسعفي ذكر مرضِهِ ووفاتِهِ رضي الله عنه

- ‌الباب العاشرفي ذكر سنه ومقدار عمره

- ‌فصلوهذه نبذةٌ مختصرةٌ من سيرةِ والدِ عبد الملكِ أبي حفصٍ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ونَفَعَ بها

- ‌فائدة:

- ‌فصل: [في وصف حال المفقود الَّذِي يجوز أن تتزوج زوجته]

- ‌فصل: [متى يفرق بين الغائب وامرأته

- ‌إحداهما

- ‌الصورة الثانية

- ‌وفي ذلك قولان مشهوران للعلماء:

- ‌الزكاة للقرابة

- ‌فصل: [في أنواع الخاتم]

- ‌فصل: [في حكم اتخاذ خاتم الذهب والحديد والصفر النحاس]

- ‌[حكم خاتم العقيق]

- ‌ونحن نذكر أحاديث التختم بالعقيق ونبين حالها

- ‌فصل: [في فص الخاتم]

- ‌[نقوش خواتيم الأكابر والأعيان]

- ‌فصل [حكم نقش صورة الحيوان عَلَى الخاتم]

- ‌فصل [في جواز التختم في اليمين واليسار]

- ‌فصل: [في حكم التختم في السبابة والوسطى]

- ‌فصل [في جعل فص الخاتم مما يلي الكف]

- ‌فصل [في وزن خاتم الفضة المتخذ للتحلي]

- ‌فصل [في حكم دخول الخلاء بالخاتم المكتوب عليه ذكر الله]

- ‌فصل[هل يمس الخاتم الَّذِي عليه ذكر الله مع الحدث]

- ‌فصل[فيما يفعل المتوضئ أو المغتسل الَّذِي في يده خاتم]

- ‌فصل [فيما إذا أصاب الحاتم نجاسة]

- ‌فصل [في حكم الصلاة بالخاتم المحرَّم]

- ‌فصل [في عد الآي والركعات في الصلاة بالخاتم]

- ‌فصل [فيما إذا مات الرجل وفي يده خاتم هل ينزع]

- ‌فصل [في حكم زكاة الحلي]

- ‌فصل [في حكم رمي الجمرة بفص الخاتم]

- ‌فصل [في حكم بيع الخواتم]

- ‌فصل

- ‌فصل [في بيع الخواتم بالسَّلم]

- ‌فصل [استصناع الخواتم]

- ‌فصل [إذا ظهر في الخاتم عيب بعد شرائه]

- ‌فصل [في استئجار الخاتم للتحلي]

- ‌فصل [في وقف الحلي]

- ‌فصل [في إتلاف الخاتم]

- ‌ إحداهما:

- ‌الحالة الثانية:

- ‌فصل [الشفعة في شراء الخاتم]

- ‌فصل

- ‌فصل [حكم لُقطة الخاتم الذهب والفضة]

- ‌فصل [في سرقة الخاتم]

- ‌فصل [الهبة في الخاتم]

- ‌[شعر]

- ‌[شعر]

- ‌[شعر]

- ‌فصل في قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

- ‌فصل

- ‌فصل

الفصل: ‌البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى

‌البشارة العظمى للمؤمن بأن حظه من النار الحمى

ص: 367

بسم الله الرحمن الرحيم

رب يسر يا كريم، الحمد لله رب العالمين

وصل الله عَلَى سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

خرَّج الإمام أحمد (1) من حديث أبي الحصين الشامي عن أبي صالح الأشعري، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الْحُمَّى مِنْ كِيرٍ (2) مِنْ جَهَنَّمَ، فَمَا أَصَابَ الْمُؤْمِنَ مِنْهَا، كَانَ حَظَّهُ مِنَ النَّارِ".

وفي رواية له (3): "كَانَ حَظَّهُ مِنْ جَهَنَّمَ".

اختلف في إسناد هذا الحديث عَلَى أبي صالح الأشعري.

فَقَالَ أبو الحصين الفلسطيني: عن أبي أمامة، عن أبي صالح.

وخالفه إسماعيل بن عبيد الله فرواه عن أبي صالح الأشعري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاد مريضًا ومعه أبو هريرة من وعك كان به، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر فإن الله يقول: هي ناري، أسلطها عَلَى عبدي المؤمن في الدُّنْيَا، لتكون حظه من النار في الآخرة".

خرجه ابن ماجه (4) من طريق أبي أسامة، عن عبد الرحمن بت يزيد، عن إسماعيل به.

وعبد الرحمن بن يزيد بن تميم الدمشقي ضعيف.

ومن قال إنه ابن جاير فقد وهم.

وقد خرجه الطبراني من رواية أبي المغيرة عن أبي تميم به.

وخالفه سعيد بن عبد العزيز، فرواه عن إسماعيل بن عبد الله، عن أبي

(1)(5/ 252).

(2)

كير الحداد: الَّذِي ينفخ به النار. "النهاية "(4/ 217).

(3)

في "المسند"(5/ 264).

(4)

برقم (2370).

ص: 369

صالح، عن كعب الأحبار من قوله.

قال الدارقطنى: وهو الصواب.

قال: ورواه شبابة، عن أبي غسان، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: ظنه أبا حصين الأسدي الكوفي -بفتح الحاء وكسر الصاد- وظن أبا صالح هو السمان، وكل ذلك وهم! إِنَّمَا هو أبو حصين بضم الحاء وفتح الصاد- فلسطيني ليس بالمشهور، وأبو صالح هو الأشعري.

وقد روي هذا من حديث عائشة من رواية هشيم (1) ثنا مغيرة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"الْحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ".

خرجه ابن أبي حاتم من طريق عثمان بن مخلد التمار الواسطي عن هشيم به، وذكره الدارقطني وقال في التمار: لا بأس به.

قال: وخالفه مندل، فرواه عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عائشة موقوفًا، وهو المحفوظ.

قلت: قد توبع التمار عَلَى روايته عن هشيم، فرواه نصر بن زكريا، عن جعفر بن عبد الله البلخي، عن هشيم، كما رواه التمار.

وقد روي عن عائشة من وجه آخر، خرجه الطبراني (2) والبزار (3) من رواية عمر بن راشد- مولى عبد الرحمن بن أبان بن عثمان- عن محمد بن عجلان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وعمر بن راشد هذا، قال ابن عدي: هو مجهول.

وروي من حديث عثمان بن عفان، من رواية الفضل بن حماد الأزدي،

(1) أخرجه البزار برقم (765 - كشف).

(2)

في الأوسط برقم (3318) وفي الصغير (13/ 113 - 114) وقال: لم يروه عن هاشم بن عروة إلا محمد بن عجلان، ولا عن ابن عجلان إلا عمر بن راشد، تفرد به يعقوب بن سفيان. وعزاه الهيثمي في المجمع (2/ 306) للطبراني في الصغير والأوسط، قال: وفيه عمر بن راشد ضعفه أحمد وغيره ووثقه العجلي.

(3)

كما في مجمع الزوائد (2/ 306)، ولكنه من طريق آخر غير هذا الطريق.

ص: 370

عن عبد الله بن عمران القرشي، عن مالك بن دينار، عن معبد الجهني، عن عثمان بن عفان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الْحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ القَيَامَة» .

خرجه ابن أبي الدُّنْيَا (1)، والعقيلى (2).

وقال في ابن عمران: لا يتابع عَلَى حديثه.

قال: وإسناده غير محفوظ، والمتن معروف بغير هذا الإسناد.

وقال في موضع آخر: في إسناده نظر.

قال: وهذا مروي من غير هذا الوجه، بإسناد أصلح من هذا يثبت (3)، وهو صحيح، انتهى.

ومعبد الجهني هو القدري المبتدع.

وروي من حديث أبي ريحانة من رواية عصمة بن سالم الهُنائي، عن أشعث الحداني، عن شهر بن حوشب، عن أبي ريحانة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الْحُمَّى كِيرٍ مِنْ جَهَنَّمَ، وَهِيَ نَصِيبُ المُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ» .

خرجه ابن أبي الدُّنْيَا (4) وغيره (5).

وروي من حديث أنس: رواه الطبراني (6) من حديث الشاذكوني، ثنا [عبيس](7) بن ميمون، عن قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْحُمَّى

(1) في "المرض والكفارات"(157).

(2)

في "الضعفاء الكبير"(2/ 287) وقال العقيلي: إسناده غير محفوظ، والمتن معروف بغير هذا الإسناد، وقد روي في هذا أحاديث مختلفة في الألفاظ بأسانيد صالحة.

(3)

في "الضعفاء الكبير"(3/ 448) وقال العقيلي: هذا يروى من غير هذا الوجه بإسناد أصلح من هذا.

(4)

في "المرض والكفارات"(21).

(5)

وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(7/ 63) معلقًا، والطحاوي في "المشكل"(3/ 68)، والبيهقي في "الشعب"(9846).

(6)

في "الأوسط"(754).

(7)

في النسخ الثلاث (عيسى)، والصواب ما أثبته كما في "تهذيب الكمال"(19/ 276 - 277).

ص: 371

حَظُّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ». إسناده ضعيف.

وقد روي أيضاً من حديث ابن مسعود، ولا يصح.

وروي مرسلاً، خرجه محمد بن سعد في طبقاته (1): ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا إسماعيل بن مسلم العبدي، ثنا أبو المتوكل أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ذكر الحمي، فَقَالَ:"مَنْ كَانَتْ بِهِ، فَهِيَ حَظُّهُ مِنَ النَّارِ". فسألها سعد ابن معاذ ربه، فلزمته حتى فارق الدُّنْيَا.

وروي عن مجاهد قال: "الحمى". من قوله، خرجه ابن أبي الدُّنْيَا (2): من رواية عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: "الحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ" -ثم قرأ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (3) - والورود في الدُّنْيَا هو الورود في الآخرة.

اعلم أن الله تعالى خلق الجنة والنار، ثم خلق بني آدم، وجعل لكل واحد من الدارين أهلاً منهم.

ثم بعث الرسل مبشرين ومنذرين، يبشرون بالجنة من آمن وعمل صالحًا، وينذرون بالنار من كفر وعصى.

وأقام أدلة وبراهين دلت عَلَى صدق رسله فيما أخبروا به عن ربهم من ذلك.

وأشهد عباده في هذه الدار آثارًا من الجنة، وآثارًا من النار.

فأشد ما يجده الناس من الحر من فيح جهنم، وأشد ما يجدونه من البرد من زمهرير جهنم!

كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم (4).

وروي أن برد السحر الَّذِي يشهده الناس كل ليلة من برد الجنة حين تفتح

(1)(3/ 421).

(2)

في "المرض والكفارات"(20).

(3)

مريم: 71.

(4)

أخرجه البخاري (3260)، ومسلم (617).

ص: 372

سحرًا كل ليلة.

وروي عن عبد الله بن عمرو أن الجنة معلقة بقرون الشمس، تنشر كل عام مرة. يشير إِلَى زمن الربيع، وما يظهر فيه من الأزهار والثمار، وطيب الزمان واعتداله، في الحر والبرد، وأبلغ من هذا كله، أن الله تعالى أشهد عباده في نفوسهم، آثارًا محسوسة، يجدونها ويحسونها من آثار الجنة والنار.

فأما ما يجدونه من آثار الجنة، فما يتجلى لقلوب المؤمنين، من آثار أنوار الإيمان، وتجلي الغيب لقلوبهم، حتي يصير الغيب كالشهادة لقلوبهم في مقام الإحسان.

فربما تجلت الجنة أو بعض ما فيها لقلوبهم أحيانًا، حتي يرونها كالعيان، وربما استنشقوا من أراييحها، كما قال أنس بن النضر يوم أحد: واهًا لريح الجنة، والله إني لأجد ريح الجنة من قبل أحد (1)!!

وأما ما يجدونه من آثار النار، فما يجدونه من الحمى، فإنها من فيح جهنم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَاطْفِئُوهَا بِالمَاءِ" (2).

وهي نوعان: حارة وباردة.

فالحارة من آثار (سموم)(3) جهنم، والباردة من آثار (زمهرير)(4) جهنم.

وروى ابن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي السائب - مولى عبد الله بن زُهرَة- عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ النار استأذنت ربها في نفسين، فأذن لها، فأما أحدهما فهذه (الجذوة)(5) التي تصبيكم من السماء، وأما الآخر فهذه الحمى التي تصيبكم، فَإِذَا اشتدت عَلَى أحدكم،

(1) أخرجه مسلم (1903).

(2)

أخرجه البخاري (643، 5723)، ومسلم (2209) من حديث ابن عمر، وأخرجه البخاري (3263، 5725)، ومسلم (2210) من حديث عائشة، وأخرجه البخاري (3262، 5726)، ومسلم (2212) من حديث رافع بن خديج.

(3)

الريح الحارة تكون غالبًا بالنهار. القاموس: مادة: "سمم".

(4)

الزمهرير: شدة البرد، وهو الَّذِي أعده الله عذابًا للكفار في الدار الآخرة "النهاية"(2/ 314).

(5)

الجذوة: القبسة من النار. "ترتيب القاموس"(1/ 465).

ص: 373

فليطفئها عنه بالماء البارد".

خرجه أبو أحمد الحاكم، وإسناده جيد، وهو غريب جدًّا!

فَإِذَا كانت الحمى من النار، ففي هذه الأحاديث السابقة أنها حظ المؤمن من نار جهنم يوم القيامة.

والمعنى -والله أعلم- أن حرارة الحمى في الدُّنْيَا تكفر ذنوب المؤمن، ويطهر بها، حتى يلقى الله بغير ذنب، فيلقاه طاهرًا مطهرًا من الخبث، فيصلح لمجاورته في دار كرامته دار السلام، ولا يحتاج إِلَى تطهير في كير جهنم غدًا؛ حيث لم يكن فيه خبث يحتاج إِلَى تطهير، وهذا في حق المؤمن الَّذِي حقق الإيمان، ولم يكن له ذنوب، إلا ما تكفره الحمى وتطهره.

وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بتكفير الذنوب بالأسقام والأوصاب، وهي كثيرة جدًّا يطول ذكرها.

ونحن نذكر هاهنا من ذلك بعض النصوص المصرحة بتكفير الحمى.

ففي "صحيح مسلم"(1) عن جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عَلَى أم السائب- أو

أم المسيب- فَقَالَ: "فَقَالَ: مَا لَكِ تُزَفْزِفِينَ"(2).

قَالَتِ: الْحُمَّى، لا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا.

قَالَ: "لا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ الخَبَثَ».

وخرج ابن ماجه (3) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه.

وخرج الحاكم (4) من حديث عبد الرحمن بن أزهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ العَبْدُ الْمُؤْمِنُ حِينَ يُصِيبُهُ الْوَعْكُ أَوِ الْحُمَّى، كَمَثَلُ حَدِيدَةٍ تَدْخُلُ النَّارَ، فَيَذْهَبُ خَبَثُهَا، وَيَبْقَى طَيِّبُهَا» .

وقال: صحيح الإسناد.

(1) برقم (2575).

(2)

تزفزف: "ترتعد من البرد، ويروى بالراء""النهاية".

(3)

برقم (3469).

(4)

في "المستدرك"(1/ 348).

ص: 374

وقال غيره من الحفاظ: لا أعلم له علة.

وخرج الترمذي (1) من حديث عائشة "أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (2)، وعن قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (3)، فَقَالَ: هذه (معاتبة) (4) الله العبد بها يصيبه من الحمي، والنكبة، حتى البضاعة يضعها في جيب قميصه فيفقدها فيفزع لذلك، حتى إِنَّ العبد ليخرج من ذنوبه، كما يخرج التبر الأحمر من الكير".

وقال: حسن غريب.

وخرج ابن أبي الدُّنْيَا (5) من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الحمى و (المليلة) (6)، لا تزالان بالمؤمن، وإن ذنبه مثل أحد، فما تدعانه وعليه من ذنبه مثقال حبة من خردل".

وخرجه الإمام أحمد (7)، وعنده:"إِنَّ الصداع والمليلة".

وخرج الطبراني (8) من حديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ:"يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا جَزَاءُ الْحُمَّى؟ قَالَ: «تَجْرِي الْحَسَنَاتُ عَلَى صَاحِبِهَا، مَا (اخْتَلَجَ) (9) عَلَيْهِ قَدَمٌ، أَوْ ضَرَبَ عَلَيْهِ عِرْقٌ». فَقَالَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُمَّى لَا تَمْنَعُنِي خُرُوجًا فِي سَبِيلِكَ، وَلَا خُرُوجًا إِلَى بَيْتِكَ، وَلَا إِلَى مَسْجِدِ نَبِيِّكَ".

قال: فلم يمس قط إلا وبه الحمى!

(1) برقم (2991).

(2)

البقرة: 284.

(3)

النساء: 123.

(4)

في "الأصل": متابعة، والمثبت منا "سنن الترمذي".

(5)

في "المرض والكفارات"(223).

(6)

المليلة: حرارة الحمى ووهجها. "النهاية"(4/ 362).

(7)

(5/ 198).

(8)

في "المعجم الكبير"(540)، و"الأوسط" (445). قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 305): رواه الطبراني في الكبير والأوسط عن محمد بن معاذ بن أبي بن كعب عن أبيه وهما مجهولان كما قال ابن معين.

(9)

أصل الاختلاج: الحركة والاضطراب "النهاية"(2/ 60).

ص: 375

ومعنى إجراء الحسنات عليه، كتابة ما كان يعمله في الصحة، مما منعته منه الحمى، كما ورد تفسيره في أحاديث آخر صريحًا.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عاد من به الحمى قال له: "طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ".

يعني أنها تطهير من الذنوب والخطايا.

ففي "صحيح البخاري"(1) عن ابن عباس "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ، قَالَ:«لَا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» . فَدخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ:«لَا بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» . فَقَالَ الأعرابي: قُلْتُ طَهُورٌ؟ بَلْ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ القُبُورَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«فَنَعَمْ إِذًا» .

يعني أنه لم يقبل الطهارة، بل ردها، وأخبر عن حُمَّاه بما أخبره به عن نفسه، فحصل له ما اختاره لنفسه، دونه ما رده.

وقد خرجه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان"(2) من حديث شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ: "جَاءَ شَيْخٌ أَعْرَابِيٍّ إِلَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، شَيْخٍ كَبِيرٍ، وَحُمَّى تَفُورُ، فِي عِظَامِ شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ الْقُبُورَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«بَلْ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ» فَقَالَهَا ثلَاثًا، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ:«بَلْ كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ» . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّالِثَةِ: «فَنَعَمْ إِذًا، إِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى عَلَى عَبْدٍ قَضَاءً، لَمْ يَكُنْ لِقَضَائِهِ مَرَدٌّ» .

وفي "مسند الإمام أحمد"(3) عن أنس "أَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَعْرَابِيٍّ يَعُودُهُ -وَهُوَ مَحْمُومٌ- فَقَالَ: "كَفَّارَةٌ وَطَهُورٌ"، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: بَلْ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، تُزِيرُهُ الْقُبُورَ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَرَكَهُ".

وقال هشام عن الحسن: كانوا يرجون في حُمَّى ليلة، كفارة لما مضى من الذنوب.

(1) برقم (3616).

(2)

(1/ 290).

(3)

(3/ 250).

ص: 376

وقال حوشب عن الحسن رفعه: "إِنَّ الله ليكفر عن المؤمن خطاياه بحمى ليلة".

وروي عن الحسن، عن أبي هريرة مرفوعًا بإسناد ضعيف.

وقال عبد الملك بن عمير: قال أبو الدرداء: حمى ليلة كفارة سنة!

وروى ذلك كله ابن أبي الدُّنْيَا (1).

وقد قيل في مناسبة تكفير حمّى ليلة لذنوب سنة، أن القوى كلها تضعف بالحمى، فلا تعود إِلَى ما كانت عليه إِلَى سنة تامة!

وفي مناسبة تكفيرها الذنوب كلها، أن الحمّى يأخذ منها كل أعضاء البدن ومفاصله قسطه من الألم والضعف، فيكفر ذلك ذنوب البدن كلها.

وإذا كانت الحمّى بهذه المثابة، وأنها كفارة للمؤمن وطهارة له من ذنوبه، فهى حظه من النار؛ باعتبار ما سبق ذكره.

فإنه لا يحتاج إِلَى الطهارة بالنار يوم القيامة، إلا من لقي الله وهو متلطخ يخبث الذنوب.

وفي الترمذي (2). عن أبي بكر الصديق: "أنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقراه هذه الآية حين أنزلت:{مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (3) قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنِّي وَجَدْتُ فِي ظَهْرِي انْْقِصَامًا، فَتَمَطَّأْتُ لَهَا وَقُلْتُ: يَا رَسولَ اللهِ، وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا؟! أوْ إِنَّا لَمَجْزِيُّونَ بِمَا عَمِلْنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ وَالمُؤْمِنُونَ فَتُجْزَوْنَ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى تَلْقَوْا اللَّهَ وَلَيْسَ لَكُمْ ذُنُوبٌ، وَأَمَّا الآخَرُونَ فَيُجْمَعُ ذَلِكَ لَهُمْ حَتَّى يُجْزَوْا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ» .

(1) في "المرض والكفارات" وأرقامها (29، 28، 83، 49).

(2)

برقم (3039) وقال أبو عيسي: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال.

(3)

النساء: 123.

ص: 377

وفي "مسند بقي بن مخلد" بإسناد جيد، عن عائشة:"أن رجلاً تلا هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (1) فَقَالَ: إنا لنجزى بكل عمل عملنا؟ هلكنا إذًا! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: نعم يجزى به المؤمن في الدُّنْيَا، في نفسه، في جسده فما دونه".

وأما ما روي عن مجاهد أن الحمى في الدُّنْيَا، هو ورود جهنم يوم القيامة -فإن صح عنه- فله معنى صحيح، وهو أن ورود النار في الآخرة قد اختلف فيه الصحابة عَلَى قولين:

أحدهما: أنه المرور عَلَى الصراط، كقول ابن مسعود.

والثاني: أنه الدخول فيها، كقول ابن عباس.

فمن قال هو المرور عَلَى الصراط، فإنه يقول: إِنَّ مرور المؤمنين عَلَى الصراط بحسب إيمانهم وأعمالهم -كما صحت النصوص النبوية- فمن كمل إيمانه نجي، ولم يتأذ بالنار، ولم يسمع حسيسها، ومن نقص إيمانه، فإنه قد تخدشه (الكلاليب)(2)، و (يتكردس)(3) في النار بحسب ما نقص من إيمانه، ثم ينجو.

ومن قال هو دخول النار، فإنه يقول إِنَّ المؤمنين الذين كمل إيمانهم، لا يحسون بحرها بالكلية.

وفي "المسند"(4) عن جابر مرفوعًا: "لا يبقى أحد إلا دخلها، فأما المؤمنون فتكون عليهم بردًا وسلامًا كما كانت عَلَى إبراهيم، حتى إِنَّ للنار لضجيجًا من بردهم".

وفي حديث آخر: "تقول النار للمؤمن: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي"(5).

(1) النساء: 123.

(2)

الكلوب بالتشديد: حديدة معوجة الرأس "النهاية"(4/ 195).

(3)

المكردس: الَّذِي جمعت يداه ورجلاه وألقي في موضع "النهاية"(4/ 162).

(4)

(3/ 328 - 329).

(5)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(22/ 668)، والبيهقي في "الشعب"(375)،=

ص: 378

وقال بعض التابعين: إذا قطع المؤمنون الصراط يقول بعضهم لبعض: ألم يعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيَقُولُونَ: نعم، ولكن وردتموها وهي خامدة.

فعلى كلا القولين: المؤمنون الذين كمل إيمانهم لا يحسون بحر جهنم، ولا يتأذون به عند الورود عليها، فيكون ما أصابهم في الدُّنْيَا من فيح جهنم بالحمّى، هو حظهم من النار، فلا يحصل لهم شعور وإحساس بحر النار، سوى إحساسهم بحر الحمّى في الدُّنْيَا.

فهذا هو معنى ما ورد أن الحمّى حظ المؤمن من النار، وأنها حظهم من ورود النار يوم القيامة، والله أعلم.

وقد كانت الحمى تشتد عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لعظم درجته عند الله، وكرامته عليه، وإرادته رفعة درجته عنده.

فروى ابن مسعود قال: «دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَمُّ، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: مَا أَشَدَّ حُمَّاكَ؟! وَإِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا. قَالَ: «أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ، إِمَّا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، وَلا أَمَةٍ مُؤْمِنَةٍ، يَمْرَضُ مَرَضًا إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يُحَطُّ عَنِ الشَّجَرَةِ وَرَقُهَا» .

=والخطيب في "تاريخ بغداد"(5/ 193) من حديث يعلى بن منية.

قال البيهقي: تفرد به سليم بن منصور وهو منكر.

وقال الخطيب: هكذا قال عن منصور بن عمار، عن خالد بن دريد. وروى هذا الحديث سليم بن منصور بن عمار، عن أبيه، واختلف عليه فَقَالَ: إسحاق بن الحسن الحربي، عن سليم، عن أبيه، عن بشير بن طلحة، عن خالد بن دريك، عن يعلى.

ورواه أحمد بن الحسين بن إسحاق الصوفي، عن سليم، عن أبيه، عن هقل ابن زياد، عن الأوزاعي، عن خالد بن دريك، عن بشير بن طلحة، عن يعلى بن منية، والله أعلم. أ. هـ.

وقال المصنف في "التخويف من النار"(ص 184) بعد ذكره الحديث: غريب وفيه نكارة. أهـ.

وقال الهيثمي في "المجمع"(10/ 360): رواه الطبراني، وفيه سليم بن منصور بن عمار، وهو "ضعيف". اهـ.

ص: 379

خرَّجه البخاري بمعناه (1)، وهذا لفظ ابن أبي الدُّنْيَا (2).

وفي رواية البخاري: قلت: ذلك أن لك أجرين. قال: "أجل".

وخرج ابن ماجه (3) من حديث أبي سعيد الخدري قال: دخلت عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم وهو (يوعك)(4) فوضعت يدي عليه، فوجدت حره بين يدي فوق "اللحاق، فقلت: يا رسول الله، ما أشدَّها عليك؟! قال: "إنا كذلك، يُضعف لنا البلاء، ويُضعف لنا الأجر".

وفي "المسند"(5) عن فاطمة بنت عتبة قَالَتْ: "أَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَعُودُهُ -فِي نِسَاءٍ- فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقٌ نَحْوَهُ، يَقْطُرُ مَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُهُ مِنْ حَرِّ الْحُمَّى، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ دَعَوْتَ اللهَ شَفَاكَ، فَقَالَ: "إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ".

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم من لا تصيبه الحمى والصداع من أهل النار، فجعل ذلك من علامات أهل النار، وعكسه من علامات المؤمنين.

ففي "المسند"(6) والنسائي (7) عن أبي هريرة «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَعْرَابِيٍّ: هَلْ أَخَذَتْكَ أُمُّ مِلْدَمٍ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا أُمُّ مِلْدَمٍ؟ قَالَ: حَرٌّ يَكُونُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَالدَّمِ. قَالَ: مَا وَجَدْتُ هَذَا. قَالَ: يَا أَعْرَابِيُّ هَلْ أَخْذَكَ هَذَا الصُّدَاعُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الصُّدَاعُ؟ قَالَ: عُرُوقٌ تَضْرِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي رَأْسِهِ قَالَ: فَمَا وَجَدْتُ هَذَا. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» .

(1) برقم (5647)، وكذا مسلم (2571).

(2)

في "المرض والكفارات" رقمي (2، 229).

(3)

برقم (4024).

(4)

الوعك: الحمى. "النهاية"(5/ 207).

(5)

(6/ 369).

(6)

(2/ 332).

(7)

في "السنن الكبرى"(7491).

ص: 380

وخرج الطبراني (1) من حديث أَنَسٍ: "أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: مَتَى عَهْدُكَ بِأُمِّ مِلْدَمٍ؟ قَالَ: وَمَا أُمُّ مِلْدَمٍ؟ قَالَ: حَرٌّ يَكُونُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَالْعَظْمِ، يَمَصُّ الدَّمَ، وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ. قَالَ: مَا اشْتَكَيْتُ قَطُّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا. أَخْرِجُوهُ عَنِّي".

وفي "المسند"(2) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ:"مَتَى عَهْدُكَ بِأُمِّ مِلْدَمٍ؟ " وَهُوَ حَرٌّ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ. وَقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَوَجَعٌ مَا أَصَابَنِي قَطُّ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْخَامَةِ تَحْمَرُّ مَرَّةً، وَتَصْفَرُّ أُخْرَى".

وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحمى لأمته عموماً، ولأهل مدينته خصوصًا، وللأنصار من أهل قباء خصوصًا.

فأما الأول: ففي "المسند"(3) عن أبي قلابة قال: "نبئت أن النبي صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّي قَالَ فِي دُعَائِهِ: فَحُمَّى إِذًا أَوْ طَاعُونًا، قَالهاَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. فَلَمَّا أَصْبَحَ سَأَلَهُ إِنْسَانٌ مِنْ أَهْلِهِ عَنْ ذَلِكَ: فَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَسْتَبِيحَهُمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُلْبِسَهُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَأَبَى عَلَيَّ -أَوْ قَالَ: فَمنعت -فَقُلْتُ حُمَّى إِذًا أَوْ طَاعُونًا، حُمَّى إِذًا أَوْ طَاعُونًا

" يَعْنِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.

وأما الثاني: في "المسند"(4) أيضاً عن أبي عسيب -مولى النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَتَانِي جِبْرِيلُ بِالْحُمَّى وَالطَّاعُونِ، فَأَمْسَكْتُ الْحُمَّى بِالْمَدِينَةِ،

(1) في "المعجم الأوسط"(5905) قال الهيثمي في "المجمع"(2/ 294): وفيه الحسن بن أبي جعفر. قال عمرو بن علي: صدوق منكر الحديث. وقال ابن عدي: صدوق وهو ممن لم يتعمد الكذب، وله أحاديث صالحة.

(2)

(5/ 142).

(3)

(5/ 248).

(4)

(5/ 81).

ص: 381

وَأَرْسَلْتُ الطَّاعُونَ إِلَى الشَّامِ، فَالطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِأُمَّتِي، وَرَحْمَةٌ لَهُمْ، وَرِجْزٌ عَلَى الْكَافِرِين".

ولا ينافي هذا ما في "الصحيح"(1) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الحُمَّى يَقُولُ:

كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ

وَالمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

وَكَانَ بِلَالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ (2) يَقُولُ:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً

بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ

وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ

اللَّهُمَّ العَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الوَبَاءِ.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا المَدِينَةَ، كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الجُحْفَةِ» .

قَالَتْ: وَقَدِمْنَا المَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللَّهِ. قَالَتْ: فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا -تَعْنِي مَاءً آجِنًا (3).

فإن المراد بالحمى في هذا الحديث الوباء، وهو وخم الأرض وفسادها وفساد مائها وهوائها، المقتضي للمرض، وقد نقل ذلك من المدينة إِلَى الجحفة، كما في "صحيح البخاري"(4) عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ المَدِينَةِ حَتَّى قَامَتْ بِمَهْيَعَةٍ" -وَهِيَ الجُحْفَةُ- فَأَوَّلْتُهَا وَبَاءَ المَدِينَةِ يُنْقَلُ إِلَى الجُحْفَةِ» .

(1) أخرجه البخاري (1889)، ومسلم (1376).

(2)

أي صوته. قيل: أصله أن رجلاً قطعت رجله، فكان يرفع المقطوعة عَلَى الصحيحة ويصيح من شدة وجعها بأعلى صوته، فقيل لكل رافع صوته: رفع عقيرته. "النهاية". (3/ 275).

(3)

الماء الآجن: أي الماء المتغير الطعم واللون. "النهاية"(1/ 26).

(4)

برقم (7038). قال الحافظ في "الفتح"(12/ 444): وأظن قوله: "وهي الجحفة" مدرجًا من قول موسى بن عقبة.

ص: 382

وأما الحمى المعتادة فهي التي أمسكها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهي التي تكون بالأرض الطيبة، والبلاد الهنيئة الصحيحة هواؤها وماؤها.

وأما الثالث: -وهو تخصيص الأنصار بها- ففي "المسند"(1) أيضاً، و"صحيح ابن حبان"(2) عَنْ جَابِرٍ، قَالَ:«اسْتَأْذَنَتِ الْحُمَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: أُمُّ مِلْدَمٍ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهَا إِلَى أَهْلِ قُبَاءَ، فَلَقُوا مِنْهَا مَا يَعْلَمُ اللَّهُ، فَأَتَوْهُ فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا شِئْتُمْ: إِنْ شِئْتُمْ أَنْ أَدْعُوَ اللَّهَ لَكُمْ يَكْشِفَهَا عَنْكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَكُونَ لَكُمْ طَهُورًا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَتَفْعَلُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: فَدَعْهَا» .

وخرج الخلال في كتاب "العلل" من حديث سَلْمَان الفارسي قَالَ: «اسْتَأْذَنَتِ الْحُمَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: أَنَا الْحُمَّى أَبْرِي اللَّحْمَ، وأَمُصُّ الدَّمَ. قَالَ: اذْهَبِي إِلَى أَهْلِ قُبَاءَ. فَأَتَتْهُمْ. فَجَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدِ اصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَشَكَوُا الْحُمَّى إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا شِئْتُمْ، إِنْ شِئْتُمْ دَعَوْتُ اللهَ فَكَشَفَهَا عَنْكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُمُوهَا، فَأسْتَنْظَفَتْ بَقِيَّةَ ذُنُوبِكُمْ، قَالُوا: بَلْ دَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ» .

وقد كان كثير من السلف الصالح يختار الحمى لنفسه -كما سبق عن أبي بن كعب أنه دعا لنفسه بالحمى.

وروي من وجه آخر من حديث أبي سعيد البخاري قال: "قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ الَّتِي تُصِيبُنَا، مَا لَنَا بِهَا؟ قَالَ: كَفَّارَاتٌ. قَالَ: أُبَيٌّ: وَإِنْ قَلَّتْ؟ قَالَ: وَإِنْ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا. قَالَ: فَدَعَا اللهُ أُبَيٌّ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ الْوَعْكُ حَتَّى يَمُوتَ! فِي أَنْ لَا يَشْغَلَهُ عَنْ حَجٍّ، وَلَا عُمْرَةٍ، وَلَا جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَا صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي جَمَاعَةٍ. فَمَا مَسَّهُ إِنْسَانٌ إِلَّا وَجَدَ حَرَّهُ حَتَّى مَاتَ".

(1)(3/ 316).

(2)

كما في "الإحسان"(2935).

ص: 383

خرَّجه الإمام أحمد (1)، وابن حبان في "صحيحه"(2)، والحاكم (3) وقال: عَلَى شرطهما.

وخرَّج النسائي (4) أول الحديث فقط.

وقد سبق عن سعد بن معاذ نحو ذلك.

وروى ابن أبي الدُّنْيَا (5) بإسناده عن عطاء، عن أبي هريرة قال: ما من مرض أَحَبّ إليَّ من هذه الحمّى، إِنَّمَا تدخل في كل مفصل، وإن الله عز وجل يعطي كل مفصل قسطه من الأجر.

ووضع بعض ولد الإمام أحمد يده عليه، فَقَالَ له: كأنك محموم؟ فَقَالَ أحمد: وأنّى لي بالحمّى؟

ومع هذا كله فالمشروع سؤال الله العافية، لا سؤال البلاء.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بسؤال العافية، ويحثّ عليه، وقال لمن سأل البلاء وتعجيل العقوبة له في الدُّنْيَا:"إِنَّكَ لا تُطِيقُ ذَلِكَ، أَلَا قُلْتَ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"(6).

وسمع رجلاً يسأل الله الصبر، فَقَالَ:"سألت الله البلاء، فسل العافية"(7).

وفي دعائه بالطائف -وقد بلغ منه الجهد مما أصابه من أذي المشركين -: "إِنْ لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي"(8).

وقال: "لا تتمنوا لقاء العدو، ولكن سلوا الله العافية، فَإِذَا لقيتموهم فاصبروا"(9).

وكان بعض السلف يقول في دعائه في المرض: اللهم أنقص من الوجع، ولا تنقص من الأجر.

(1)(3/ 23).

(2)

كما في "الإحسان"(2928).

(3)

في "المستدرك"(4/ 308).

(4)

في "السنن الكبرى"(7489).

(5)

في "المرض والكفارات"(244).

(6)

أخرجه عبد بن حميد (1399)، وأبو يعلى (3837) عن أنس.

(7)

أخرجه الترمذي (3527) وقال: هذا حديث حسن، والبزار (2635 - البحر الزخار) وقال:

وهذا الحديث لا نعلم له طريقًا عن معاذ إلا هذا الطريق، ولا نعلم رواه عن اللجلاج إلا أبو الورد.

(8)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(13/ 181) في الجزء المطبوع وحده.

(9)

أخرجه البخاري (3026) معلقًا، ومسلم (1741).

ص: 384

{وروى ابن أبي الدُّنْيَا في "كتاب المرضى" (1) بسنده إِلى أبي هريرة رفعه قال: "من وعك ليلة فصبر ورضي بها عن الله عز وجل، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"} (2).

ومن هنا كُره تمني الموت، فإنه استعجال للبلاء قبل وقوعه، كما قال ابن عمر لمن سمعه يتمنى الموت: لا تتمنّ الموت فإنك ميت، ولكن سل الله العافية.

وفي "المسند"(3) عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ، فَإِنَّ هَوْلَ الْمَطْلَعِ شَدِيدٌ، وَإِنَّ مِنَ سَعَادَةِ المَرْء أَنْ يُطَولَ عُمْرَهُ، وَيَرْزُقَهُ اللهُ الْإِنَابَةَ» .

والحمى هي بريد الموت، ورائده، فتمنيها كتمني الموت، فيجوز حيث يجور تمني الموت.

وكان أبو الدرداء يقول: أَحَبّ الموت اشتياقًا إِلَى ربي، وأحب المرض تكفيرًا لذنبي، وأحب الفقر تواضعًا لربي.

وفي حديث عبد الرحمن بن المرقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا الحمى رائد الموت، وسجن الله في الأرض" خرجه أبو القاسم البغوي.

وقال حسان بن عطية: ذكرت الحمى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "تلك أم الدم، تلدم اللحم والدم".

وروي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً قال: «الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ، وَهِيَ سِجْنُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، يَحْبِسُ عَبْدَهُ إِذَا شَاءَ، ثُمَّ يُرْسِلُهُ إِذَا شَاءَ» .

وقال ابن شبرمة عن الحسن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ، وَهِيَ سِجْنُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ لِلْمُؤْمِنِينَ» .

وقال سعيد بن جبير: الحمى بريد الموت.

خرجه كله ابن أبي الدُّنْيَا (4).

وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إِلَى يوم الدين، ورضي عن أصحاب رسول الله أجمعين.

(1) برقم (83).

(2)

هذه الفقرة سقطت من الطبعة الأولى، واستدركتها من حاشية نسخة فاتح باستانبول.

(3)

(3/ 332).

(4)

في "المرض والكفارات"(92)، (73)، (74).

ص: 385

تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال

ص: 387

بسم الله الرحمن الرحيم

ربِّ يسِّر يا كريم

الحمد لله رب العالمين، وصلواته وسلامه عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد:

ففي "الصحيحين"(1) من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ:«قَالَ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: غَلَبَنَا عَلَيْكَ الرِّجَالُ، فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ. فَوَاعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ لَهُنَّ: مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهَا، إِلَّا {كَانَ} (2) لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ. فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ؟ فَقَالَ: وَاثْنَتَيْنِ» .

هذا يدل عَلَى أنَّ مجالس النبي صلى الله عليه وسلم للفقه في الدين والتذكير ونحو ذلك لم يكن النساء يحضرنها مع الرجال، وإنما كن يشهدن الصلوات في مؤخر المساجد ليلاً ثم ينصرفن عاجلاً، وكن يشهدن العيدين مع المسلمين منفردات عن الرجال من ورائهم، ولهذا لما خطب النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد رأى أنه لم يسمع النساء، فلما فرغ جاء ومعه بلال إِلَى النساء، فوعظهن، وذكرهن وأمرهن بالصدقة، وأجلس الرجال حتى يفرغ من موعظة النساء (3).

وأصلُ هذا أنَّ اختلاط النساء بالرجال في المجالس بدعةٌ، كما قال الحسن البصري؛ فلذلك قال له النساءُ: يا رسول الله، غَلَبنا عليك الرجال.

(1) أخرجه البخاري (101)، ومسلم (2633).

(2)

قال الحافظ في "الفتح"(1/ 236): وتعرب "كان" تامة، أي حصل لها حجاب. وللمصنف في الجنائز:"إلا كن لها" أي: الأنفس التي تقدم. وله في الاعتصام: "إذا كانوا" أي: الأولاد.

(3)

أخرجه البخاري (98)، ومسلم (884) من حديث ابن عباس. وأخرجه البخاري (978)، ومسلم (885) من حديث جابر.

ص: 389

وقد روي من حديث أبي هريرة "أن النساء قلن: يا رسول الله، إنا لا نقدر عَلَى أن نجالسك في مجلسك، قد غلبنا {عليك} (1) الرجال! فواعدنا موعدًا نأتيك، قال: موعدكن بيت فلانة. فأتاهن فحدثهن"(2).

وقد أمره الله تعالى أن يبلِّغ ما أُنزل إِلَيْهِ للرجال والنساء، وأن يعلم الجميع كما قال له:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (3) الآية.

وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (4) الآية.

فامتثل ما أمره الله تعالى، ووعدهن مجلسًا خالصًا لهن في بيت امرأة، ولعل تلك المرأة كانت من أزواجه أو محارمه، والله أعلم بحقيقة ذلك.

ثم وفى بموعده لهن فأتاهن في يوم موعدهن، فوعظهن وأمرهن ونهاهن، ورغبهن ورهبهن، فكان من جُملة ما بشَّرهن به أن قال لهن:«مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلَاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلَّا {كَانُو} (5) لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ. فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ؟ قَالَ: وَاثْنَتَيْنِ» (6).

وليس في هذا الحديث {أنهم} (7) لم يبلغوا الحنث.

وعمومُه يدخل فيه من بلغ الحنث ومن لم يبلغ؛ والمصيبة بمن بلغ أعظم وأشق عَلَى النفوس.

(1) في "الأصل": "عَلَى" والمثبت هو الصواب.

(2)

أخرجه مسلم (2633).

(3)

الأحزاب: 59.

(4)

النور: 31.

(5)

في "الأصل": كان، والمثبت من البخاري.

(6)

أخرجه البخاري (1249) من حديث أبي سعيد، ومسلم (2634) من حديث أبي هريرة.

(7)

طمس بالأصل، والمثبت لمراعاة السياق.

ص: 390

والمصيبة بمن لم يبلغ أهون وأخف، وقد جاء تقييده في حديث أنس بن مالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ، إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ» خرجاه في "الصحيحين"(1).

والمُراد بالحنث: الإثم. والمعنى: أنه لم يجر عليه الإثم ببلوغه العمر الَّذِي يكتب عليه الإثم فيه، وهو بلوغ الحُلم، وعلَّل بفضل رحمة الله إياهم، يعني: أن الله يرحم أطفال المسلمين رحمة تامة، حتى تفضُل عنهم، فيدخل آباؤهم في فضل تلك الرحمة، وهذا مما يستدل {به} (2) عَلَى أن أطفال المسلمين في الجنة.

وقد قال الإمامُ أحمد: ليس فيهم اختلاف أنَّهم في الجنة. وضعَّف ما رُوي مما يخالف ذلك أيضاً و {لا} (2) أحد يشك أنهم في الجنة. قال: وإنما اختلفوا في أطفال المشركين.

وقال أيضاً: هو يرجى لأبويه فكيف يُشك فيه؟! يعني أنه يُرجى لأبويه دخول الجنة بسببه، فكيف يشك فيه؟!

ولذلك نص الشافعي عَلَى أنَّ أطفال المؤمنين في الجنة، وروي ذلك عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وكعب.

وخرَّج ابنُ أبي حاتم، عن ابن مسعود قال:"أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير، تسرح في الجنة حيث شاءت، فتأوي إِلَى قناديل معلقة في العرش" وخرج البيهقي من رواية ابن عباس، عن كعب نحوه.

وفي "صحيح مسلم"(3) عن أبي هريرة "أن رجلاً قال له: مات لي ابنان، فما أنت مُحدِّثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث تُطيِّبُ به أنفسنا عن موتانا؟

(1) أخرجه البخاري (1248)، وليس عند مسلم.

(2)

ليست في الأصل، وأثبتها لحاجة السياق.

(3)

"صحيح مسلم"(2635).

ص: 391

فَقَالَ: "نعم، صغارُهم دَعَامِيص (1) الجنة، يتلقَّى أحدهم أباه- أو قال: أبويه -فيأخذ بثوبه- أو قال: بيده- كما آخُذ أنا بصَنِفَة (2) ثوبك، فلا يتناهى -أو قال: ينتهي- حتى يُدخله الله وأباه الجنة".

وخرَّج النسائي (3) من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَمُوتُ لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلَّا إِلَّا أَدْخَلَهُمَا اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ الجَنَّة. قَالَ تَعَالَى لَهُمْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ. فَيَقُولُونَ: حَتَّى يَدْخُلَ أَبَوَانَا. فَيُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَبَوَاكُمْ".

وخرَّج الإمام أحمد، وابن ماجه (4) من حديث معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده، إِنَّ السقط ليجُرُّ أمُّه بسرَرِه (5) إِلَى الجنة، إذا احتسبته".

وخرَّج الإمام أحمد، وابن ماجه (6) أيضاً من حديث عتبة بن عبدٍ السُّلمي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل" وفي رواية للإمام أحمد (7): "إِنَّ الله تعالى يقول للولدان يوم القيامة: ادخلوا الجنّة.

فيَقُولُونَ: يا رب، حتى يدخل آباؤنا وأمَّهاتنا. قال: فيأبون، فيقول الله عز وجل: ما لِي أراهم مُحبنطئين (8) ادخلوا الجنة. فيَقُولُونَ: يا رب، آباؤنا. فيقول: ادخلوا

(1) الدعموص: الدخال في الأمور: أي أنهم سياحون في الجنة، دخالون في منازلها لا يمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدُّنْيَا لا يمنعون من الدخول عَلَى الحرم، ولا يحتجب منهم أحدًا "اللسان"(7/ 36).

(2)

صنفة الإزار، بالكسر: طرته، ويقال: هي حاشية الثوب أي جانب كان -قال الليث: الصنفة: قطعة من الثوب. وقال شمر: الصنف: الطرف الزاوية من الثوب وغيره. "اللسان"(9/ 198 - 199).

(3)

برقم (1876).

(4)

أحمد (5/ 241)، وابن ماجه (1609).

(5)

كتب بالهامش: سرره جمع سرة.

(6)

أخرجه أحمد (4/ 183)، وابن ماجه (1604).

(7)

(4/ 105).

(8)

المحبنطئ: المتغضب المستبطئ للشيء. وقيل: هو الممتنع طلب، لا امتناع إباء. "اللسان"(7/ 272).

ص: 392

الجنة أنتم وآباؤكم" وروى الطبراني من حديث أنس نحوه، وزاد (1) فيه: يقال لهم في المرة الرابعة: "ادخلوا ووالديكم معكم، فيثب كلُّ طفل إِلَى أبويه فيأخذون بأيديهم، فيدخلونهم الجنة، فهم أعرف بآبائهم وأمهاتهم يومئذ من أولادكم الذين في بيوتكم".

وخرَّج الإمام أحمد (2)، والنسائي (3) من رواية {مُعَاوِيَةُ بْنُ} (4) قُرَّةَ، "أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَتُحِبُّهُ؟ قَالَ: أَحَبَّكَ اللَّهُ كَمَا أُحِبُّهُ. فَمَاتَ فَفَقَدَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقَالَ: أَمَا يَسُرُّكَ أَنْ لا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ عِنْدَهُ يَسْعَى يَفْتَحُ لَكَ؟» زاد الإمام أحمد: "فَقَالَ رجل: له خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم".

وخرَّج الطبراني، من حديث ابن عمر نحوه، ولكن قال فيه:(فَقَالَ له النبي صلى الله عليه وسلم: «أَوَمَا تَرْضَى أَنْ يَكُونَ ابْنُكَ مَعَ ابْنِي إِبْرَاهِيمَ يُلَاعِبُهُ تَحْتَ ظِلِّ العَرْشِ؟! قال: بَلى يا رسولَ الله». (5).

وفي المعنى أحاديثُ كثيرة جدًّا، وقد كان الصحابة يرجون ذلك عند موتهم، كما روي عن أبي ذر "أنه لما حضرته الوفاة بكت أمُّ ذر، فَقَالَ لَهَا: أَبْشِرِي وَلا تَبْكِي، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «لا يَمُوتُ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَلَدَانِ أَوْ ثَلَاثة، فَيَصْبِرَانِ وَيَحْتَسِبَانِ فَيَرَيَانِ النَّارَ أَبَدًا» (6) وقد مات لنا ثلاثة من الولد".

والحديث الَّذِي قبله يدل عَلَى أنَّ أطفال المسلمين الموتى يلعبون تحت ظل العرش، وفي حديث {أبي هريرة} (7):"أنهم دعاميص الجنة"

(1) تكررت بالأصل.

(2)

في "المسند"(3/ 436)، (5/ 34، 35).

(3)

في "السنن" برقم (1869).

(4)

سقط من الأصل، والمثبت من "المسند".

(5)

ذكره الهيثمي في "المجمع"(3/ 10) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" من حديث إبراهيم ابن عبيد في التابعين -وهو ضعيف- وبقية رجاله موثقون.

(6)

أخرجه ابن حبان (6671 - إحسان)، والحاكم (3/ 388) ولفظهما قريب من لفظ المصنف. وأخرجه أحمد (5/ 166) بنحوه. وليس عندهم جميعا: "وقد مات لنا ثلاثة من الولد.

(7)

طمس بالأصل وقد سبق من رواية مسلم.

ص: 393

والدُّعموص: دُويبة {صغيرة تكون} (1) في الماء، والمعنى أنهم يتربُّون في أنهار الجنة وينعمون فيها، وفي رواية:"ينغمسون في أنهار الجنة" يعني: يلعبون فيها.

وقد روي " أنه يكفلهم إبراهيمُ عليه السلام وزوجته سارة- عليها السلام". وخرَّج ابن حبان في "صحيحه" والحاكم من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ذراري المؤمنين يكفلهم إبراهيمُ في الجنة". وخرجه الإمام أحمد (2) مع نوع شك في رفعه ووقفه عَلَى أبي هريرة.

وروي من وجه آخر، عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفًا:«أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ فِي جَبَلٍ فِي الْجَنَّةِ، يَكْفُلُهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَسَارَةُ عليهما السلام فَإِذا كَانَ يَوْم القِيَامَة دُفِعُوا إِلَى آبَائِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» خرّجه البيهقي وغيره مرفوعًا.

ويشهد لذلك: ما في "صحيح البخاري"(3) عن سمُرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني الليلة آتيان

" فذكر حديثًا طويلاً وفيه: أن الملكين فسراه له، وأنهما جبريل وميكائيل، وأنه من جملة ما رأى: "رَجُلاً طَوِيلاً فِي رَوضَةٍ وَحَوْلَهُ وِلْدَان وقالا له: الرَّجُلُ الطَّوِيلُ فِي الرَّوْضَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَالْوِلْدَانُ حَوْلَهُ كُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، فقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ".

وقد روي أنهم يرتضعون من شجرة طُوبى؛ وروى ابنُ أبي حاتم بإسناده عن خالد بن معدان قال: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا: طُوبَى، ضروع كلها، ترضع أهل الجنة، وإن سقط المرأة يكون في أنهار يتقلب {فيها} "(4) حتى يوم القيامة، فيبعث ابن أربعين سنة" كذا قال.

(1) طمس بالأصل، والمثبت من "لسان العرب"(7/ 35 - 36).

(2)

أخرجه أحمد (2/ 326)، وابن حبان (7446 - الإحسان)، والحاكم (2/ 370).

(3)

برقم (7047).

(4)

في "الأصل": فيه. والمثبت أنسب للسياق.

ص: 394

وفي حديث المقدام بن معدي كرب المرفوع: "إِنَّ ما بين السقط والهرم، يبعثون أبناء ثلاثين سنة" وفي رواية: "أبناء ثلاثة وثلاثين".

وروى ابنُ أبي الدُّنْيَا بإسناده عن خالد بن معدان قال: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا: طُوبَى، كلها ضروع؛ فمن مات من الصبيان الذين يرضعون يرضع من طوبى، وحاضنهم إبراهيم عليه السلام". وروى الخلال بإسناده، عن عبيد ابن عمير:"إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ لَهَا ضروع البقر، يغذى به ولدان أهل الجنة، حتى إنهم يستنون كاستنان البكارة".

وبعضُ الأطفال له مرضع في الجنة، مثل إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما مات قبل أن يُفطم قال النبي صلى الله عليه وسلم:" «إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الجَنَّةِ تكمل رضاعه {في الجنة} (1)، (2). وفي رواية: "ظئرًا" وفي رواية: "إِنَّ له مرضعين يكملان رضاعه في الجنة".

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حضره وهو {يكيد} (3) بنفسه، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال:«تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى الرَّب، وَاللهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ» (4) وفي رواية: "ولولا أنه أمر حق ووعد صدق، وأنها سبيل مأتية، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك حزنًا هو أشد من هذا".

وروى ابنُ أبي الدُّنْيَا في "كتاب العزاء" من حديث زُرارة بن أوفى "أن النبي صلى الله عليه وسلم عزَّى رجلاً عَلَى ابنه، فَقَالَ الرجل: يا رسول {الله} (5) أنا شيخ كبير، وكان ابني قد أجزأ (6) عنا. فَقَالَ: أيسرك، قد نشر لك أو يتلقاك من أبواب الجنة

(1) طمس بالأصل والمثبت من "صحيح مسلم".

(2)

أخرجه البخاري (1382) من حديث البراء، ومسلم (2316) من حديث أنس.

(3)

في "الأصل": "يكبد" والمثبت من "صحيح مسلم"، ويكيد بنفسه كيدًا: يجود بها، يريد النزع. "اللسان"(3/ 383).

(4)

أخرجه البخاري (1303)، ومسلم (2315) من حديث أنس.

(5)

سقط لفظ الجلالة من "الأصل" والسياق يقضيه.

(6)

أجزأ عنه: أغنى عنه "اللسان"(1/ 46 - 47).

ص: 395

بالكأس؟ قال: من لي بذاك يا رسول الله؟ قال: الله لك به، ولكل مسلم مات له ولد في الإسلام".

وبإسناده عن عبيد بن عمير، قال:"إذا كان يوم القيامة خرج ولدان المسلمين من الجنة بأيديهم الشراب، فيقول الناس: اسقونا اسقونا. فيَقُولُونَ: أبوينا أبوينا، حتى السقط محبنطئًا بباب الجنة يقول: لا أدخل حتى يدخل أبواي".

وفي المعنى حديث مرفوع من رواية ابن عمر، لكن إسناده لا يصح وهو باطل، قاله أبو حاتم الرازي.

وفي المعنى رُؤيا إبراهيم الحربي المشهورة صار يتمنَّى موتَ ابنه، ومات قبل البلوغ.

وروى البيهقي بإسناده، عن ابن شوذب:"أن رجلاً كان له ابن لم يبلغ الحُلم، فأرسل إِلَى قومه: إِنَّ لي إليكم حاجة؛ إني أريد أن أدعو عَلَى ابني هذا أن يقبضه الله، وتؤمنون. فسألوه عن ذلك، فأخبرهم أنه رأى في نومه كأن الناس جمعوا إِلَى القيامة، فأصاب الناس عطشٌ شديدٌ، فَإِذَا الوالدان قد خرجوا من الجنة معهم الأباريق، فأبصرت ابن أخ لي. فقلت: يا فلان، اسقني. فَقَالَ: يا عم، إنا لا نسقي إلا الآباء. قال: فأحببت أن يجعل الله ولدي هذا فرطًا لي. فدعا فأمنوا. فلم يلبث الغلام إلا يسيرًا حتى مات".

وفي أكثر الأحاديث ذكر الثلاثة والاثنين. وفي بعضها "وأظن لو قلنا: وواحدًا لقال: وواحدًا". خرَّجه أحمد (1) من حديث جابر.

وقد جاء ذكرُ الواحد في حديث؛ خرَّج الترمذي (2) وغيره من حديث ابن مسعود مرفوعًا: " «مَنْ قَدَّمَ ثَلَاثَةً لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ كَانُوا لَهُ حِصْنًا حَصِينًا. فَقَالَ

(1)(3/ 306).

(2)

برقم (1061) وقال: هذا حديث غريب، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. وابن ماجه (1606) وأحمد (1/ 375، 429، 451).

ص: 396

أَبُو ذَرٍّ: قَدَّمْتُ اثْنَيْنِ، فَقَالَ: وَاثْنَيْنِ. فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: قَدَّمْتُ وَاحِدًا.

قَالَ: وَوَاحِدًا، وَلَكِنْ إِنَّما ذَاكَ عِنْدَ الصَّدْمَةٍ الأُوْلَى» وفي الترمذي (1)، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَ لَهُ فَرَطَانِ مِنْ أُمَّتِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ {بِهِمَا} (2) الجَنَّةَ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ منْ أَمْتَلِك؟ قَالَ: وَمَنْ كَانَ لَهُ فَرَطٌ أُمَّتِي يَا مُوَفَّقَةُ. قَالَتْ: فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَرَطٌ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: فَأَنَا فَرَطُ أُمَّتِي، لَنْ يُصَابُوا بِمِثْلِي» .

ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم في آخر خطبة خطبها: "إني فرطكم على الحوض"(3) يشير إِلَى أنه يتقدمهم ويسبقهم إِلَى الحوض، وينتظرهم عنده.

وفي حديث مرسل خرجه ابن أبي الدُّنْيَا: "من مات ولم يقدم فرطًا لم يدخل الجنة إلا {تصْريدًا} (4). فقيل: يا رسول الله، وما الفرط؟ قال: الولد وولد الولد، والأخ يؤاخيه في الله عز وجل فمن لم يكن له فرط، فأنا له فرط" وفي حديث عبد الرحمن بن سمُرة، في ذكر المنام الطويل عن النّبي صلى الله عليه وسلم:"ورأيت رجلاً من أمتي {خف} (5) ميزانه، فجاءته أفراطه الصغار فثقلوا ميزانه".

وعن داود بن أبي هند قال: "رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس يدعون للحساب، فقدمت إِلَى الميزان فوضعت حسناتي في كفة وسيئاتي في كفة، فرجحت السيئات عَلَى الحسنات، فبينا أنا كذلك مغموم، إذ

(1) أخرجه أحمد (1/ 334)، والترمذي (1062). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد ربه بن فارق.

(2)

في "الأصل": "بهم" والمثبت من "سنن الترمذي".

(3)

أخرجه البخاري (1344)، ومسلم (2296) من حديث عقبة بن عامر. وأخرجه البخاري (6589)، ومسلم (2289) من حديث جندب بن سفيان. وأخرجه البخاري (6583)، ومسلم (2290) من حديث سهل بن سعد. وأخرجه البخاري (6575)، ومسلم (2297) من حديث ابن مسعود.

(4)

أي قليلاً: والتصريد في العطاء: تقليله. "اللسان"(3/ 249).

(5)

في الأصل: "خفت".

ص: 397

أتيت بشيء كالمنديل أو كالخرقة البيضاء، فوضعت في حسناتي فقيل لي: تدري ما هذا؟ قلت: لا. قال: سقط كان لك. قلت: إنه قد كانت لي صبية ابنة لي فقيل لي: تيك ليست لك؛ لأنك كنت تتمنى موتها".

وفي هذا إشارة إِلَى أن الميزان إِنَّمَا يثقل بما يثقل عَلَى النفوس من المصائب ويشق، فأما ما لا يثقل عليها ولا يشق -لمن يتمنى موته من أولاده- فلا يثقل به الميزان.

قال ابن أسلم: "مات ابن لداود عليه السلام فحزن عليه حزنًا شديدًا.

فأوحى الله: ماذا كنت مفتديه؟ قال: بطلاع الأرض ذهبًا. قال: فأوحى الله إِلَيْهِ: "إِنَّ لك عندي من الأجر بحساب ذلك" وفي رواية: "قال: يا داود، ما كان يعدل هذا الولد عندك؟ قال: كان يعدل عندي ملء الأرض ذهبًا، قال: فلك يوم القيامة عندي ملء الأرض ثوابًا".

سبحان من لا يحصي العبادُ نعمه، وربما كانت نعمه فيما يسوء أكثر من نعمه فيما يسر، كما قيل:

[شعر].

إذا مس بالسراء عم سرورها

وإن مس بالضراء أعقبها الأجرُ

وما فيهما إلا له فيه نعمة

تضيق بها الأوهام والبر والبحر

لمّا كان للمؤمن داران: دار يرتحل منها، ودار ينتقل إليها ويقيم بها، أمره أن ينقل من دار ارتحاله إِلَى دار إقامته؛ ليعمرها من بعض ما أعطاه في دار ارتحاله وربما أخذ منه كرها ما يعمر به دار إقامته، ويكمل له به عمارتها وإصلاحها، ويقدم له إليها ما يحب من أهل ومال وولد، يسبقونه إليها ليقدم عَلَى ما يحب من مال وأهل وولد، وإن كان المؤمن لا يشعر بذلك.

ص: 398

فما فرَّق إلا ليجمع، ولا أخذ إلا ليرد، ولا سلب إلا ليهب، ولا استرد العواري إلا ليردها تمليكًا ثابتًا لا استرجاع فيه بعد ذلك.

وفي مراسيل الحسن "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لأن أموت قبل أخي أَحَبّ إلي. فَقَالَ: لأنّ يكون لك أَحَبّ إليك من أن تكون له".

قال الحسن: علموا أنَّ ما لهم من أهاليهم إلا ما قدَّموا أمامهم.

وكذا قال عمر بن عبد العزيز وغيره، ويشهد له حديث:"الرَّقوب (1) من لم يقدم ولدًا".

سبحان من أنعم عَلَى عباده بما خولهم من المال والولد، ثم استرجع بعض ذلك منهم كُرهًا، وعوضهم الصلاة والرحمة والهدى، وذلك أفضل مما أخذ كما قيل:

[شعر]

عطِيَّتُهُ إذا أعطى سرورا

وإن أخذ الَّذِي أعطى أثابا

فأي النعمتين أجلُّ قدرًا

وأحمدُ في عواقبها مآبا

أرَحْمتُهُ التي جاءت بكرهِ

أم الأخرى التي جلبت ثوابا

بل الأخرى وإن نزلت بضرٍّ

أجلُّ لفقد من صبر احتسابا

آخرُه، والحمد لله وحده، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. تم.

(1) الرقوب: الرجل والمرأة لم يعش لهما ولد. "النهاية"(2/ 249).

ص: 399

الفرق بين النصيحة والتعيير

ص: 401

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمدُ لله رب العالمين، وصلاته وسلامه عَلَى إمام المتقين، وخاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إِلَى يوم الدين.

أما بعد:

فهذه كلماتٌ مختصرةٌ جامعةٌ في الفرق بين النصيحة والتعيير، فإنهما يشتركان في أنَّ كلاًّ منهما ذكر للإنسان بما يكره ذكرُه، وقد يشتبه الفرق بينهما عند كثير من الناس. والله الموفق للصواب.

اعلم أن ذكر الإنسان بما يكره مُحَرَّم، إذا كان المقصود منه مجردَ الذم والعيبِ والنقصِ، فأمَّا إِن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين، أو خاصة لبعضهم، وكان المقصودُ منه تحصيلَ تلك المصلحةِ، فليس بمحرم، بل مندوب إِلَيْهِ.

وقد قرَّر علماء الحديث هذا في كتبهم في "الجرح والتعديل"، وذكروا الفرق بين جرح الرواة وبين الغيبة، وردُّوا عَلَى من سوَّى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتَّسع علمه. ولا فرق بين الطعن في رواةِ ألفاظ الحديث والتمييز بين من تُقبل روايتُه منهم ومن لا تُقبل، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وتأوَّل شيئًا منها عَلَى غير تأويله، وتمسَّك بما لا يتمسَّك به؛ ليحذر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه، وقد أجمع العُلَمَاء عَلَى جواز ذلك أيضاً.

ولهذا تجد كتبهم المصنَّفة في أنواع العلوم الشرعية من التفسير، وشرح الحديث، والفقه، واختلاف العُلَمَاء وغير ذلك ممتلئة من المناظرات، وردوا أقوال من تضعَّف أقواله من أئمة السلف والخلف، من الصحابة والتابعين

ص: 403

ومن بعدهم. ولم ينكر ذلك أحدٌ من أهل العِلْم، ولا ادَّعى فيه طعنًا عَلَى من ردَّ عليه قوله، ولا ذمًّا ولا نقصًا، اللهم إلا أن يكون المصنَّفُ يُفحش في الكلام، ويسيء الأدب في العبارة فيُنكرُ عليه فحاشتُه وإساءتُه دون أصل رده، ومخالفته إقامة الحجج الشرية، والأدلة المُعتبرة.

وسبب ذلك أن علماء الدين كلهم مُجمعون عَلَى قصد إظهار الحق الَّذِي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون الدينُ كلُّه لله، وأن تكون كلمته هي العليا.

وكلُّهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كلِّه -من غير شذوذ شيء منه- ليس هو مرتبةَ أحدٍ منهم، ولا ادَّعاه أحدٌ من المتقدمين ولا من المتأخرين، فلهذا كان أئمة السَّلف المجمع عَلَى علمهم وفضلهم يقبلون الحقَّ ممن أورده عليهم، وإن كان صغيرًا، ويوصون أصحابهم وأتباعَهُم بقَبول الحق إذا ظهر في غير قولهم.

كما قالَ عُمر في مهور النساء، وردَّت تلك المرأة عليه بقوله تعالى:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (1) فرجع عن قوله وقال: "أصابت امرأةٌ ورجلٌ أخطأ"، ورُوي عنه أنه قال:"كل أحد أفقه من عمر".

وكان بعضُ المشهورين إذا قال في رأيه بشيء يقول: "هذا رأينا، فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلناه".

وكان الشافعي يُبالغ في هذا المعنى ويوصي أصحابه باتِّباع الحق، وقبول السنة، إذا ظهرت لهم عَلَى خلاف قولهم، وأن يضرب بقوله حينئذ الحائط، وكان يقول في كتبه: لا بد أن يوجد فيها ما يخالف الكتاب والسنة؛ لأنّ الله تعالى يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (2).

وأبلغُ من هذا، أنه قال:"ما نَاظَرني أحدٌ فباليتُ، أظهرت الحجةُّ عَلَى لسانه أو عَلَى لساني". وهذا يدلُّ عَلَى أنه لم يكن له قصدٌ إلا في ظهور الحق ولو كان عَلَى لسان غيره ممَّن يناظرُه أو يخالفه.

(1) النساء: 20.

(2)

النساء: 82.

ص: 404

ومن كانت هذه حاله، فإنه لا يكره أن يُردَّ عليه قولُه ويتبين له مخالفتُه للسنة لا في حياته ولا في مماته.

وهذا هو الظنُّ بغيره من أئمة الإسلام، الذَّابين عنه، القائمين بنصره من السَّلف والخلف، ولم يكونوا يكرهون مُخالفة من خالفهم أيضًا بدليلٍ عَرَضَ له، ولو لم يكن ذلك الدليل قويًّا عندهم بحيثُ يتمسكون به ويتركون دليلهم له.

ولهذا كان الإمام أحمد يذكر إسحاق بن راهويه ويمدحه ويثني عليه ويقول: "وإن كان يخالفُ في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضًا"، أو كما قال.

وكان كثيرًا يُعرضُ عليه كلامُ إسحاق وغيره من الأئمة، ومأخذُهم في أقوالهم، فلا يوافقُهم في قولهم، ولا يُنكر عليهم أقوالهم ولا استدلالهم، وإن لم يكن هو موافقًا عَلَى ذلك كله.

وقد استحسن الإمام أحمدُ ما حُكي عن حاتم الأصَم، أنه قِيلَ لَهُ: أنت رجلٌ أعجمي لا تفصح، وما ناظرك أحدٌ إلا قطعته، فبأي شيء تغلبُ خصمَك؛ فَقَالَ: بثلاث، أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوءه، أو معنى هذا، فَقَالَ أحمد:"ما أعقَلَه من رجل".

فحينئذ، فرد المقالات الضعيفة، وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية ليس هو مما يكره العُلَمَاءُ، بل مما يحبونه ويمدحون فاعله، ويُثنون عليه. فلا يكون داخلاً في باب الغيبة بالكلية، فلو فُرض أنَّ أحدًا يكره إظهارَ خطئه المخالفِ للحقّ، فلا عبرةَ بكراهته لذلك، فإنَّ كراهة إظهار الحق إذا كان مخالفًا لقولِ الرجل ليس من الخصال المحمودة، بل الواجب عَلَى المسلم أن يُحبَّ ظهورَ الحق ومعرفة المسلمين به، سواء كان ذلك في موافقته أو

ص: 405

مخالفته. وهذا من النصيحة لله ولكتابه ورسوله ودينه وأئمّة المسلمين وعامتهم وذلك هو الدينُ كما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم (1).

وأما المبين لخطأ من أخطأ من العُلَمَاء قبله، إذا تأدَّب في الخطاب، وأحسن الرد والجواب فلا حَرَج عليه ولا لوم يتوجَّه عليه، وإن صدر منه من الاغترار بمقالته، فلا حرج عليه، وقد كان بعضُ السَّلف إذا بلغه قولٌ يُنكره عَلَى قائله يقول:"كَذَب فلان"، ومن هذا قولُ النبي صلى الله عليه وسلم:"كَذَبَ أبو السّنابل"(2) لما بلغه أنه أفتى أن المتوفى عنها زوجُها إذا كانت حاملاً لا تحل بوضع الحمل حتى يمضي عليها أربعة أشهر وعشر.

وقد بالغ الأئمة الورعون في إنكار مقالاتٍ ضعيفةٍ لبعض العُلَمَاء وردوها أبلغَ الرد كما كان الإمام أحمد ينكر عَلَى أبي ثور وغيره مقالاتٍ ضعيفة تفردوا بها، ويُبالغ في ردِّها عليهم، هذا كله حكمُ الظَّاهر.

وأما في باطن الأمر: فإن كان مقصودُه في ذلك مجردَ تبيين الحق، وأن لا يغترَّ الناسُ بمقالاتِ من أخطأ في مقالاته، فلا ريب أنهُ مُثابٌ عَلَى قصده، ودَخَلَ بفعله هذا بهذه النية في النُّصح لله ورسوله وأئمةِ المسلمين وعامَّتهم.

وسواء كان الَّذِي يبين خطؤه صغيرًا أو كبيرًا، وله أسوة بمن ردَّ من العُلَمَاء مقالات ابن عباس التي شذ بها، وأنكرت عليه من العُلَمَاء مثلَ المُتعة والصرف والعُمْرتين وغير ذلك.

ومَنْ رد عَلَى سعيد بن المسيِّب قوله في إباحته المُطلقة ثلاثًا بمجرَّد العقد، وغير ذلك مما يُخالف السنَّة الصريحة، وردَّ عَلَى الحسن قوله في ترك الإحداد عن المتوفى عنها زوجُها، وعلى عطاء قوله في إباحته إعارة الفُروج، وعلى

(1) أخرجه مسلم (55) من حديث تميم الداري.

(2)

أخرجه أحمد (1/ 447).

ص: 406

طاوس قوله في مسائل متعددة شذَّ بها عن العُلَمَاء، وعلى غير هؤلاء ممن أجمعَ المسلمونَ عَلَى هدايتهم ودرايتهم ومحبتهم والثناء عليهم.

ولم يعد أحدٌ منهم مخالفيه (1) في هذه المسائل ونحوها طعنًا في هؤلاء الأئمة ولا عيبًا لهم.

وقد امتلأت كتب أئمة المسلمين من السَّلف والخلف بتبيين خطأ هذه المقالات وما أشبهها مثل كتب الشافعي، وإسحاق وأبي عُبيد وأبي ثور ومن بعْدهم من أئمَّة الفقه والحديث وغيرهما ممَّن ادَّعوا هذه المقالاتِ وما كان بمثابتا شيءٌ كثير، ولو ذكرنا ذلك بحروفه لطال الأمرُ جدًّا.

وأما إِن كان مُرادُ الرادِّ بذلك إظهار عيب من ردَّ عليه وتنقُّصه، وتبيين جهله، وقصوره في العِلْم ونحو ذلك كان محرمًا، سواء كان ردُّه لذلك في وَجْهِ من ردَّ عليه أو في غيبته، وسواء كان في حياته أو بعد موته، وهذا داخلٌ فيما ذمَّه اللهُ تعالى في كتابه وتوعد عليه في الهمز واللمز، ودخل أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم:«يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُوْمِنُ بِقَلْبِهِ، لا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ يَتَّبِعُ عَوْرَاتِهِمْ، يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ» (2).

وهذا كلُّه في حقِّ العُلَمَاء المُقتدى بهم في الدِّين، فأمَّا أهلُ البدع والضلالة ومن تشبه بالعُلماء وليس منهم، فيجوزُ بيانُ جهلهم، وإظهارُ عيوبهم تحذيرًا من الاقتداء بهم. وليس كلامنا الآن في هذا القبيل، والله أعلم.

(1) في جمع النسخ المخطوطة: "مخالفوه".

(2)

أخرجه أحمد (4/ 420)، وأبو داود (4880) من حديث أبي برزة الأسلمي.

ص: 407