الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولهذا قيل: إنه رقية الزنا. وقد افتتن بسماع الغناء خلق كثير فأخرجهم استماعه إِلَى العشق، وفتنوا في دينهم. فلو لم يرد نصٌّ صريحٌ في تحريم الغناء بالشعر الَّذِي توصف فيه الصور الجميلة لكان محرمًا بالقياس عَلَى النظر إِلَى الصور الجميله، التي يحرم النظر إليها بالشهوة بالكتاب والسنة وإجماع من يُعتد به من علماء الأمة.
فإن الفتنة كما تحصل بالنظر والمشاهدة، فكذلك تحصل بسماع الأوصاف، واجتلائها من الشعر الموزون المحرك للشهوات، ولهذا "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تصف المرأةُ المرأةَ لزوجها، كأنّه ينظر إليها"(1)؛ لما يخشى من ذلك من الفتنة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم زنا العينين النظر، وزنا الأذنين الاستماع (2).
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ثلاث فاتنات مُفتنات يُكببن في النار: رجلٌ ذو صورة حسنة، فاتن مفتون به يُكب في النار، ورجلٌ ذو شعر حسن، فاتن مفتون به يُكب في النار، ورجلٌ ذو صوت حسن، فاتن مفتون به يُكب في النار. خرجه حميد بن زنجويه في كتاب الأدب.
القسم الثاني:
أن يقع استماع الغناء بآلات اللهو، أو بدونها عَلَى وجه التقرب إِلَى الله عز وجل وتحريك القلوب إِلَى محبته، والأنس به والشوق إِلَى لقائه؛ وهذا هو الَّذِي يدعيه كثير من أهل السلوك ومن يتشبه بهم ممن ليس منهم، وإنما يتستر بهم، ويتوصل بذلك إِلَى بُلوغ غرض نفسه، من نيل لذته، فهذا المتشبه بهم، ومخادع مُلبِّسٌ.
وفسادُ حاله أشهر من أن يخفى عَلَى أحدٍ. وأما الصادقون في دعواهم ذلك -وقليلٌ ما هم- فنهم ملبوس عليهم، حيث تقربُوا إِلَى الله عز وجل بما لم يشرعه الله تعالى، واتخذوا دينًا لم يأذن الله فيه.
فلهم نصيبٌ ممن قال الله تعالى فيه: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا
(1) أخرجه البخاري (5240).
(2)
أخرجه البخاري (6243)، ومسلم (2657).
مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (1) والمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق باليد. كذلك قال غير واحد من السَّلف. وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ} (2) فإنه إِنَّمَا يتقرب إِلَى الله عز وجل بما يُشرع التقربُ به إِلَيْهِ عَلَى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فأما ما نهي عنه، فالتقرب به إِلَيْهِ مُضادةٌ لله عز وجل في أمره، قال القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله في كتابه في السماع: اعتقاد هذه الطائفة مخالفٌ لإجماع المسلمين؛ فإنه ليس فيهم من جعل السماع دينًا وطاعة، ولا رأى إعلانه في المساجد والجوامع، وحيث كان من البقاع الشريفة، والمشاهد الكريمة.
وكان مذهب هذه الطائفة مخالفًا لما اجتمعت عليه العُلَمَاء، ونعوذ بالله من سوء التوفيق. انتهى ما ذكره.
ولا ريب أن التقرب إِلَى الله تعالى بسماع الغناء المُلحن، لا سيما مع آلات اللهو مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام، بل ومن سائر شرائع المرسلين أنه ليس مما يُتقرب به إِلَى الله، ولا مما تُزكى به النفس وتُطهر به فإن الله - تعالى- شرع عَلَى ألسنة الرسل كل ما تزكو به النفوس وتطهر من أدناسها وأوضارها.
ولم يشرع عَلَى لسان أحد من الرسل في ملة من الملل شيئًا من ذلك.
وإنما يأمر بتزكية النفوس بذلك من لا يتقيد بمتابعة الرسل من أتباع الفلاسفة، كما يأمرون بعشق الصور، وذلك كله مما تحيا به النفوس الأمارة بالسوء، لما لها فيه من الحظ. ويقوى به الهوى، وتموت به القلوب المتصلة بعلام الغيوب، وتبعد به عنه.
فغلط هؤلاء واشتبه عليهم حظوظ النفوس وشهواتها بأقوات القلوب الطاهرة، والأرواح الزكية المعلقة بالمحل الأعلى، واشتبه الأمر في ذلك أيضًا عَلَى طوائف من المسلمين ممن ينتسب إِلَى السلوك، ولكن هذا مما حدث في الإسلام بعد انقراض القُرون الفاضلة، وكان قد حدث قبل ذلك
(1) الأنفال: 35.
(2)
الشورى: 21.
حدثان:
أحدهما: قراءة القرآن بالألحان، بأصوات الغناء وأوزانه وإيقاعاته؛ عَلَى طريقة أصحاب الموسيقى، فرخّص فيه بعض المتقدمين إذا قصد الاستعانة عَلَى إيصال معاني القرآن إِلَى القلوب؛ للتحزين والتشويق، والتخويف والترقيق.
وأنكر ذلك أكثر العُلَمَاء. ومنهم من حكاه إجماعًا ولم يثبت فيه نزاعًا، منهم أبو عُبيد وغيره من الأئمة.
وفي الحقيقة هذه الألحان المبتدعة المطربة، تهيج الطباع. وتُلهي عن تدبُّر ما يحصل له من الاستماع، حتى يصير الالتذاذ بمجرد سماع النغمات الموزونة والأصوات المطربة، وذلك يمنع المقصود من تدبر معاني القرآن، وإنما وردت السنة بتحسين الصوت بالقرآن، لا بقراءة الألحان، وبينهما بون بعيد. وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب "بيان الاستغناء بالقرآن في تحصيل العِلْم والإيمان".
والحدث الثاني:
سماع القصائد الرقيقة، المتضمنة للزهد والتخويف والتشويق، فكان كثيرًا من أهل السُّلوك والعبادة يستمعون ذلك، وربما أنشدوها بنوع من الألحان؛ استجلابًا لترقيق القلوب بها، ثم صار منهم من يضرب مع إنشادها، عَلَى جلد ونحوه بقضيب ونحوه، وكان يسمون ذلك، التغبير (1) وقد كرهه أكثر العُلَمَاء قال يزيد بن هارون: ما يُغبر إلا فاسق. ومتى كان التغبير؟
وصح عن الشافعي من رواية الحسن بن عبد العزيز الجروي ويونس بن عبد الأعلى أنه قال: تركتُ بالعراق شيئًا يسمونه التغبير، وضعته الزنادقة، يصدون به الناس عن القرآن. وكرهه الإمام أحمد، وقال: هو بدعة ومحدث. قِيلَ لَهُ: إنه (يرقق)(*) القلب! قال: بدعة.
(1) يغبرون: أي يهللون، ويرددون الصوت بالقراءة وغيرها، سمُّوا بها؛ لأنهم يرغبون الناس في الغابرة: أي الباقية. "ترتيب القاموس"(مادة: غبر).
(*) في نسخة: "يرق".
ومن أصحابنا من حكي عنه رواية أخرى في الرخصة في سماع القصائد المجردة، وهي اختيار أبي بكر الخلال وصاحبه أبي بكر عبد العزيز وجماعة من التميميين، وهؤلاء يحكى أيضاً عنهم الرخصة في الغناء، وإنما أرادوا سماع هذه القصائد الزهدية المرققة، لم يرخصوا في أكثر من ذلك.
وذكروا أن الإمام أحمد سمع في منزل ابنه صالح -من وراء الباب- منشدًا ينشد أبياتًا من هذه الزهديات، ولم ينكر ذلك، لكن لم يكن مع إنشادها تغبير، ولا ضرب بقضيب ولا غيره.
وفي تحريم الضرب بالقضيب وكراهته وجهان لأصحابنا، فإنه لا يُطربُ كما يطرب سماع آلات الملاهي.
وقد رُوي أيضًا سماع القصائد الزهدية عن يزيد بن هارون، وعن يحيى ابن معين وأبي خيثمة. وعلى مثل ذلك أيضًا يحمل ما نقله الربيع وابن عبد الحكم عن الشافعي في الرخصة في التغبير، وأنه أراد بذلك سماع الأبيات الزهدية المرققة للقلوب، المقتضية للتحزين والتشويق والترقيق إما مع ضرب بقضيب أو بدونه، ولعل الشافعي كره سماع القصائد مع الضرب بالقضيب، ورخص فيه بدونه، فلا يكون له في ذلك قولان مختلفان؛ بل يكونان منزلان عَلَى حالين، وكذلك يزيد بن هارون.
وعلى مثل ذلك أيضًا يُحمل عامة ما (رُوي)(*) عن المتقدمين من الصوفية وغيرهم، في الترخص في السماع والغناء، فإن غناءهم وسماعهم كان لا يزيد عَلَى سماع هذه القصائد، إلا الضرب بالقضيب معها أحيانًا، فَإِذَا كان الشافعي رحمه الله قد أنكر الضرب بالقضيب، وجعله من فعل الزنادقة الصادين عن القرآن، فكيف يكون قوله في آلات اللهو المطربة؟!
وإن كان قد وقع في سماع ذلك طائفة من الصالحين والصادقين بتأويل ضعيف، فلهم أسوة بكثير من العُلَمَاء الذين شذوا عن أهل العِلْم بأقاويل ضعيفة، ولم يقدح ذلك في منازلهم، ولم يُخرجهم عن دائرة العِلْم والدين.
(*) يروى: "نسخة".
فكذلك هؤلاء لا يخرجون بذلك عن دائرة الصلاح، (فإن الجميع)(*) لا يُتبعون في زلاتهم، ولا يُقتدى بهم فيها.
وقول الشافعي: إِنَّ الزنادقة وضعت التغبير تصد به الناس عن القرآن: يدل عَلَى أن الإصرار عَلَى سماع الشعر المُلحَّن -مع الضرب بقضيب ونحوه- يقتضي شغف النفوس بذلك وتعلقها به، ونفرتها عن سماع القرآن، أو عن استجلاب ثمرات القرآن وفوائده وإصلاح القلوب به، وهذا ظاهرٌ بينٌ.
فإن من كان وجده من سماع الأبيات، لا يكاد يجد (رقة ولا حلاوة)(**) عند سماع الآيات، فَإِذَا كان هذا حال من أدمن سماع الأبيات الزهدية بالتلحين، فكيف يكون حال من أدمن سماع أشعار الغزل المتضمن لوصف الخمور، والقدود، والخُدود، والثغور والشعور، مع ذكر الهوى ولواعج الأشواق، والمحبة والغرام والاشتياق، وذكر الهجر والوصال، والتجني والصدود والدلال. وكان هذا كله مع آلات الملاهي المطربة المزعجة للنفوس، المثيرة للوجد، المحركة للهوى، لاسيما إِن كان المغني ممن تميل النفوس إِلَى صُورته وصوته، ووجد السماع حلاوته وذوقه، وطرب قلبُه في ذلك. فإن هذا كما قال ابن مسعود: ينبت النفاق في القلب، ولا يكاد يبقى معه من الإيمان إلا القليل، وصاحبه في غاية من البعد عن الله والحجاب عنه، فإن ادعى من يسمع ذلك أن نفسه ماتت وهواه فني، وأنه إِنَّمَا يُشير بما يسمعه إِلَى معرفة الله، ومحبته وخشيته فهو بمنزلة من ينظر إِلَى الصور الجميلة المفتنة، ويدعي أن فتنته ماتت، وأنه إِنَّمَا ينظر إليها، يعتبر ويستدل بحسن الصنعة وكمالها عَلَى عظمة صانعها وكماله! وكل ذلك محرم بلا ريب، وأكثر من يدعى ذلك كاذبٌ في دعواهُ، ومنهم من هو ملبوس عليه، يشتبه عليه حظ نفسه وهواه بحظ روحه وقلبه، أو يختلط له الأمران فيجتمعان له جميعًا، وهو يظن أن حظ نفسه وهواه فني، وليس كذلك.
(*) وإن كان الجميع: "نسخة".
(**) حلاوة ولا رقة: "نسخة".
وقد سُئل -أبو علي الرُّوذباري- وهو من أكابر مشايخ الصوفية وأهل العِلْم منهم -عمن يسمع الملاهي ويقول: هي لي حلالٌ؛ لأني وصلت إِلَى درجة لا يُؤثر فيَّ اختلاف الأحوال، فَقَالَ: نعم، قد وصل لعمري، ولكن إِلَى السفر.
وسُئل أيضًا عن السماع فَقَالَ: ليتنا خلصنا منه رأسًا برأس. قال القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله: قال بعضهم: إنا لا نسمع الغناء بالطبع الَّذِي يشترك فيه الخاص والعام.
قال: والجواب أن هذا تجاهلٌ منه عظيمٌ؛ لأمرين:
أحدهما: أنه يلزمه عَلَى قوله، أن يستبيح سماع العُود، والطنبور وسائر الملاهي، ويسمع ذلك كله بالطبع الَّذِي لا يشاركه فيه أحد، فإن لم يستبح ذلك فقد نقض قوله، من حيث ادعى أن بعض الملاهي يؤثر وبعضها لا يؤثر في هذا الطبع الَّذِي قد اختص به، وإن استباحهُ فقد فسق.
والثاني: أن هذا المدعي لا يخلو أن يدعي أنه فارق طبع البشر، وصار مطبوعًا عَلَى العقل والبصيرة، بمنزلة الملائكة. فإن قال ذلك فقد تخرّص عَلَى طبعه، وكذب عَلَى الله في تركيبه، وادعى بذلك العصمة مع مقارنة الفتنة، ووجب أن لا يكون مجاهدًا لنفسه، ولا مجانبًا لهواه وطبعه، ولا يكون له ثواب عَلَى ترك اللذات والشهوات، وهذا لا يقوله عاقل.
وإن قال: أنا عَلَى طبع البشر المجبول عَلَى محبة الهوى والشهوة. قلنا له: فكيف يصح أن تسمع الغناء المطرب بغير طبعك، أو تطربُ بسماعه بغير ما في جبلتك، إِلَى غير ما غُرز في نفسك؟! وذكر بقية الكلام، وقال في آخره: وبلغني أن هذه الطائفة تُضيف إِلَى السماع النظر في وجه الأمرد، ورُبما زينته بالحُلي والمُصبغات من الثياب، وتزعم أنها تقصد به الازدياد في الإيمان بالنظر والاعتبار، والاستدلال بالصنعة عَلَى الصانع! وهذه النهاية في متابعة الهوى، ومخادعة العقل ومخالفة العِلْم. ثم أطال الكلام في الرد عليهم ثم
قال: وإنما تفعل هذه الطائفة ما ذكرناهُ من سماع الغناء، والنظر إِلَى وجوه الملاح بعد تناول الألوان الطيبة، والمآكل الشهية.
فَإِذَا شبعت منها نفوسهم، طالبتهم بما يتبعها من السماع والرقص، والاستمتاع بالنظر إِلَى وجوه المُرد. ولو نظروا فيما ذكر من (التقليل)(**) من الغذاء، وما فيه من المجاهدة دُون الشهوات؛ لأخذوه بقدرٍ، ولم يحنوا إِلَى سماع ونظر. وذكر بقية الكلام.
وقد حكى الإمام أبو عمرو بن الصلاح وغيره من العُلَمَاء، الإجماع عَلَى تحريم السماع المعتاد في هذه الأزمان عَلَى وجهه المعتاد. قال: ومن نسب إباحته، إِلَى أحد من العُلَمَاء -يُجوز الاقتداء به في الدين- فقد أخطأ. وما جاء عن بعض المشايخ من استباحته، ففي غير هذا السماع، وبشروط شرطوها غير موجودة في هذا السماع.
ومما ينبغي أن يُعلم أن الله تعالى أكمل لنا ديننا، وأتم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينًا. فما ترك شيئًا مما يقربُ منه ومن دار كرامته، إلا وأرشدنا إِلَيْهِ، ولا شيئًا يُباعد عنه وعن دار كرامته، إلا وزجرنا عنه.
ولما كان الآدمي مركبًا من جسد وروح، ولكل منهما غذاء يتغذي به، فكما أن الجسد يتغذي بالطعام والشراب، ويلتذ بالنكاح وتوابعه، وبما يشمه ويسمعه، فكذلك الروح لها غذاء تتغذي به، هو قوتها. فَإِذَا فقدته مرضت أعظم من مرض الجسد بفقد غذائه، ومتى كان الجسد سقيمًا. فإنه لا (يلتذ)(**) بما يتغذي به، ولا يميلُ إِلَى ما ينفعه؛ بل ربما مال إلي ما يضره.
فكذلك القلب والروح، إذا مرض فإنه لا يستلذ بغذائه، ولا يميل إِلَيْهِ، بل يميل إِلَى ما يضره. ولا قوت للقلب والروح، ولا غذاء لهما سوى معرفة الله تعالي، ومعرفة عظيمة وجلاله وكبريائه. فيترتب علي هذه المعرفة، خشيته
(*) التقلل: "نسخة".
(**) يستلذ: "نسخة".
وتعظيمه، وإجلاله والأنس به، والمحبة له والشوق إلي لقائه، والرضا بقضائه.
فمتي سكن ذلك في القلب كان القلب حيًّا سليما، وهذا هو القلب السليم، الَّذِي لا ينفع يوم لقاء الله غيره، ومتى فقد القلب ذلك بالكلية صار ميتا. فإن فقد بعضه كان سقيما بحسب ما فقده، لاسيما إِن اعتاض عما فقده من ذلك، بما يضاده ويخالفه.
وإذا علم هذا، فإن الله تعالي أمر عباده في كتابه، وعلي لسان رسوله، بجمع ما يصلح قلوب عباده ويقربها منه. ونهاهم عما ينافي ذلك ويضاده ولما كانت الروح تقوى بما تسمعه من الحكمة والموعظة الحسنة، وتحيي بذلك: شرع الله لعباده سماع ما تقوى به قلوبهم، وتتغذى وتزداد إيمانا. فتارة يكون ذلك فرضا عليهم، كسماع القرآن، والذكر والموعظة يوم الجمعة في الخطبة والصلاة، وكسماع القرآن في الصلوات الجهرية من المكتوبات.
وتارة يكون ذلك مندوبا إِلَيْهِ غير مفترض، كمجالس الذكر والمندوب إليها. فهذا السماع حاد يحدو قلب المؤمن إلي الوصول إلي ربه، وسائق يسوقه ويشوقه إلي قربه، وقد مدح الله المؤمنين بوجود مزيد أحوالهم بهذا السماع. وذم من لا يجد منه ما يجدونه، فَقَالَ تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (1) وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (2) وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} (3) قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين. خرجه مسلم (4).
(1) الأنفال: 2.
(2)
الزمر: 22 - 23.
(3)
الحديد: 16.
(4)
برقم (3027).
وفي رواية أخرى قال فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضًا
وعن ابن عباس قال: إِنَّ الله استبطأ قلوب المهاجرين، فعاتبهم، عَلَى رأس ثلاث عشرة من نُزول القرآن بهذه الآية.
فهذه الآية تتضمن توبيخًا وعتابًا لمن سمع هذا السماع، ولم يُحدث له في قلبه صلاحًا ورقة وخشوعًا، فإن هذا الكتاب المسموع يشتمل علي نهاية المطلوب، وغاية ما تصلح به القلوب، وتنجذب به الأرواح المغلقة بالمحل الأعلى، إلي حضرة المحبوب، فيحيى بذلك القلب بعد مماته، ويجتمع بعد شتاته، وتزول قسوته بتدبر خطابه وسماع آياته، فإن القلوب إذا أيقنت بعظمة ما سمعت، واستشعرت شرف نسبة هذا القول إِلَى قائله، أذعنت وخضعت فَإِذَا تدبرت ما احتوى عليه من المراد ووعت، اندكَّت من مهابة الله وإجلاله وخشعت.
فَإِذَا هطل عليها وابل الإيمان من سُحب القرآن أخذت ما وسعت، فَإِذَا بذر في القرآن حقائق العرفان، وسقاهُ ماء الإيمان أنبتت ما زرعت {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (1){فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (2).
ومتى فقدت القلوب غذاءها، وكانت جاهلة به طلبت العوض من غيره، فتغذت به، فازداد سقمُها بفقدها ما ينفعها، والتعوض بما يضرها.
فَإِذَا سقمت مالت إِلَى ما فيه ضررها، ولم تجد طعم غذالها الَّذِي فيه نفعها، فتعوضت عن سماع الآيات بسماع الأبيات، وعن تدبُّر معاني التنزيل، بسماع الأصوات.
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: لو طهُرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم (3).
(1) الحج: 5.
(2)
الروم: 50.
(3)
أخرجه أحمد في "الزهد"(ص: 128) وفي "فضائل الصحابة"(775). وفي إسناده انقطاع بين سفيان وعثمان رضي الله عنه.
وفي حديث مرسل: "إِنَّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قيل: فما جلاؤها؟ قال: تلاوة كتاب الله"(1). وفي حديث آخر مرسل: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بعدما قدم المدينة فَقَالَ: إِنَّ أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر؛ واختاره عَلَى ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغُه، أحبوا ما أَحَبّ الله، أحبوا الله من كل قلوبكم".
وقال ميمون بن مهران: إِنَّ هذا القرآن قد خَلِقَ في صدور كثير من الناس، والتمسوا حديثًا غيره، وهو ربيع قلوب المؤمنين، وهو غض جديد في قلوبهم. وقال محمد بن واسع: القرآن بستان العارفين حيث ما حلوا منه، حلوا في نزهة. وقال مالك بن دينار: يا حملة القرآن، ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟! فإن القرآن ربيع المؤمن، كما أن الغيث ربيع الأرض، فقد ينزل الغيثُ من السماء إِلَى الأرض، فيصيب الحش فتكون فيه الحبة، فلا يمنعها نتن موضعها أن تهتز وتخضر وتحسن، في "حملة القرآن، ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟! أين أصحاب سورة؟ أين أصحاب سورتين؟! ماذا عملتم فيهما.
وقال الحسن: تفقدوا الحلاوة في الصلاة، وفي القرآن، وفي الذكر، فإن وجدتموها فامضوا وأبشروا، وإن لم تجدوها باعلموا أن الباب مغلق.
اسمع يا من لا يجد الحلاوة في سماع الآيات، ويجدها في سماع الأبيات، في حديث مرفوع:"من اشتاق إِلَى الجنة فليسمع كلام الله".
كان داود الطائي يترنم بالآية في الليل، فيرى من سمعه أن جميع نعيم الدُّنْيَا جُمِعَ في ترنمه.
قال أحمد بن أبي الحواري: إني لأقرأ القرآن، فانظر في اية منه، فيحارُ فيها عقلي، وأعجبُ من حفاظ القرآن، كيف يهنيهم النوم ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدُّنْيَا، وهم يتلون كلام الله؟! أما لو فهموا ما يتلون، وعرفوا حقه، وتلذذوا به، واستحلوا المناجاة به، لذهب عنهم النوم، فرحًا بما قد رزقوا.
(1) أخرجه ابن عدي عن ابن عمر مرفوعًا (1/ 259) وفيه إبراهيم بن عبد السلام المخزومي اتهمه ابن عدي بالسرقة وقال: ليس حدث بمعروف بالمناكير.
قال ابن مسعود لا يسأل أحدٌ عن نفسه غير القرآن، فمن كان يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله
قال شهل التستري علامةُ حب الله حب القرآن. وقال أبو سعيد الخزار من أَحَبّ الله أَحَبّ (كلام الله)(*)، ولم يشبع من تلاوته.
ويروى عن معاذ قال: سَيَبْلى القرآن في صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت، فيقرءونه لا يجدون له شهوة.
وعن حذيفة قال: يوشك أن يدرس الإسلام، كما يدرس وشي الثوب؛ ويقرأ الناس القرآن لا يجدو له حلاوة.
وعن أبي العالية قال سيأتي عَلَى الناس زمان، تخربُ فيه صدورهم من القرآن، وتبلى كما تبلى ثيابهم، وتُهافت فلا يجدون له حلاوة ولا لذاذة.
قال أبو محمد الجريري -وهو من أكابر مشايخ الصوفية-: من استولت عليه النفس، صار أسيرًا في حكم الشهوات، محصُورًا في سجن الهوى، فحرم الله عَلَى قلبه القوائد، فلا يستلذه بكلامه، ولا يستحليه، وإن كثر ترداده عَلَى لسانه. وذُكر عند بعض العارفين أصحاب القصائد، فَقَالَ: هؤلاء الفرارُون من الله عز وجل لو ناصحُوا الله عز وجل وصدقوه، لأفادهم في سرائرهم، ما يشغلهم عن كثرة التلاقي.
واعلم أن سماع الأغاني يضاد سماع القرآن من كل وجه، فإن القرآن كلام الله، ووحيه ونُوره الَّذِي أحيا الله به القُلوب الميتة، وأخرج العباد به من الظلمات إِلَى النور.
والأغاني وآلاتها مزامير الشيطان؛ فإن الشيطان قرآنه الشعر، ومؤذنه المزمار ومصائده النساء كذا قال قتادة وغيره من السَّلف، وقد روي ذلك
(*) كلامه "نسخة".
مرفوعًا من رواية عبيد الله بن زَحْر، عن علي بن يزيد عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق ذكر هذا الإسناد.
والقرآن تُذكر فيه أسماء الله وصفاته وأفعاله، وقدرته وعظمته، وكبرياؤه وجلاله، ووعده ووعيده.
والأغاني إِنَّمَا يذكر فيها صفات الخمر والصور المحرمة، الجميلة ظاهرها؛ المستقذر باطنها، التي كانت تُرابًا، وتعُود ترابًا.
فمن نزل صفاتها عَلَى صفات من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فقد شبَّه، ومرق من الإسلام كما يمرُق السهمُ من الرمية.
وقد رُئي بعض مشايخ القوم في النوم بعد موته، فسُئل عن حاله فَقَالَ: أوقفني بين يديه، ووبخني وقال: كنت تسمع وتقيسُني بسُعدى ولُبنى. وقد ذكر هذا المنام أبو طالب المكي في كتاب "قوت القلوب".
وإن ذُكر في شيء من الأغاني التوحيد، فغالبه من يسوق ظاهره إلي الإلحاد: من الحلول والاتحاد، وإن ذُكر شيء من الإيمان والمحبة أو توابع ذلك، فإنما يعبر عنه بأسماء قبيحة، كالخمر وأوعيته ومواطنه وآثاره، ويذكر فيه الوصل والهجر، والصدود والتجنِّي، فيطرب بذلك السامعون، وكأنهم يشيرون إِلَى أن الله تعالى يفعل مع عباده المحبين له المتقربين إِلَيْهِ كما يذكرونه، فيبعد ممن يتقرب إِلَيْهِ، ويصد عمن يحبه ويطيعه ويعرض عمن يُقبل عليه.
وهذا جهل عظيم، فإن الله تعالى يقول عَلَى لسان رسُوله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم:«مَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» (1).
وغاية ما تحرك هذه الأغاني ما سكن في النفوس من المحبة، فتتحرك القلوب إِلَى محبوباتها -كائنة ما كانت- من مباح ومحرم، وحق وباطل.
(1) أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675).
والصادق من السامعين قد يكون في قلبه محبة الله، مع ما ركز في الطباع من الهوى، فيكون الهوى كامنًا، لظهور سُلطان الإيمان، فتحركه الأغاني مع المحبة الصحيحة، فيقوى الوجد، ويظن السامع أن ذلك كله محبة الله، وليس كذلك، بل هي محبة ممزوجة ممتزجة حقها بباطل (*)، وليس كل ما حرك الكامن في النفوس، يكون مُباحًا في حكم الله ورسوله.
فإن الخمر تحرك الكامن في النفوس، وهي محرمةٌ في حكم الله ورسوله كما قيل:
والرَّاح كالريح إِنَّ هبت عَلَى عطر
…
طابت وتخبث إِن مرت عَلَى الجيف
وهذا السماع المحظور يُسكر النفوس، كما يسكر الخمر أو أشد، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة كالخمر والميسر، فإن فُرض وجُود رجل يسمعه، وهو ممتلئ قلبُه بمحبة الله، لا يؤثر فيه شيءٌ من دواعي الهوى بالكلية، لم يُوجب ذلك له خصوصًا، ولا للناس عموماً؛ لأنّ أحكام الشريعة تناط بالأعم الأغلب، والنادر ينسحب عليه حكم الغالب، كما لو فُرض رجلٌ تام العقل، بحيث لو شرب الخمر، لم يؤثر فيه ولم يقع فيه فسادٌ فإن ذلك لا يوجب إباحة الخمر له ولا لغيره. عَلَى أن وجود هذا المفروض في الخارج في الصورتين: إما نادرٌ جدًّا أو ممتنعٌ متعذر.
وإنما يظهر هذا السماع، عَلَى هذا الوجه، حيث جرد كثيرٌ من أهل السلوك الكلام في المحبة ولهجوا بها، وأعرضوا عن الخشية. وقد كان السَّلف الصالح يُحذرون منهم، ويفسقون من جرد وأعرض عن الخشية إِلَى الزندقة.
فإن أكثر ما جاءت به الرسُل وذكر في الكتاب والسنة: هو خشية الله وإجلاله وتعظيمه، وتعظيم حرماته وشعائره وطاعته.
(*) بباطلها: "نسخة".
والأغاني لا تحرك شيئًا من ذلك؛ بل تحدث ضده من الرعونة (1) والانبساط والشطح، ودعوى الوصول والقرب، ودعوى الاختصاص بولاية الله التي نسب الله في كتابه دعواها إِلَى اليهود. فأما أهل الإيمان، فقد وصفهم بأنهم {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (2) وفسر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يصومون ويتصدقون، ويصلون ويخشون أن لا يُتقل منهم. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يخافون النفاق عَلَى نفوسهم، حتى قال الحسن: ما أمن النفاق إلا منافق، ولا خشيه إلا مؤمن.
ويوجب أيضاً سماع الملاهي النفرة عن سماع القرآن، كما أشار إِلَيْهِ الشافعي رحمه الله، وعدم حضور القلب عن سماعه، وقلة الانتفاع بسماعه، ويوجب أيضاً قلة التعظيم لحرمات الله، فلا يكاد المدمن لسماع الملاهي، يشتد غضبه لمحارم الله تعالى إذا انتهكت، كما وصف الله تعالى المحبين له بأنهم {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} (3). ومفاسد الغناء كثيرة جدًّا.
وفي الجملة، فسماع القرآن بنيت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقل، وسماع الغناء ينبت النفاق، كما ينبت الماء (البقل)(4) ولا يستويان حتى يستوي الحق والبطلان {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (5).
والله تعالى المسئول أن يهدينا وسائر إخواننا المؤمنين إِلَى صراط مستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، آمين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
(1) الأرعن: الأهوج الأحمق. "ترتيب القاموس"(2/ 358).
(2)
المؤمنون: 60.
(3)
المائدة: 54.
(4)
البصل: "نسخة".
(5)
فاطر: 19 - 22.
سيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز