الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب السادس
في ذكر صلابتِهِ في الدين وقوتِهِ في تنفيذ الحق واجتهادِهِ عَلَى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومواعظِهِ لأبيه في ذلك
روينا من حديث خير الجعفي، عن محمد بن أبان قال: جمع عمر بن عبد العزيز قُرآء أهل الشام وفيهم ابن أبي زكريا الخزاعي فَقَالَ: إِن قد جمعتكم لأمر، قد أهَمَّتني هذه المظالم التي في أيدي أهل بيتي، ما ترون فيها؟ قال: ما نرى وِزرها إلا عَلَى من غَصَبها. قال: فَقَالَ لعبد الملك ابنِهِ: ما ترى أي بني؟ قال: ما أرى من قَدَر عَلَى أن يردَّها فلم يردَّها والذي اغتصبها إلا سواء. فَقَالَ: صدقت أي بني. ثم قال: الحمدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ لي وزيرًا من أهلي عبد الملك ابني.
وروى الحافظ أبو نعيم بإسنادِهِ إِلَى ميمون بن مهران قال: بعث إليّ عمر بن عبد العزيز وإلى مكحولٍ، وإلى أبي قلابة، فَقَالَ: ما ترون في هذه الأموال التي أُخذت من الناس ظُلمًا؟ فَقَالَ مكحول يومئذ قولاً ضعيفًا، فكرهَهُ فَقَالَ: أرى أن تستأنفَ. فنظر إليّ عمر كالمستغيثِ بي، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، ابعثْ إلي عبد الملك فأحضره؛ فإنه ليس بدون من رأيت. فلما دخل عليه قال: يا عبد الملك، ما ترى في هذه الأموال التي قد أخذتْ من الناس ظلْمًا، وقد حضروا يطلبونها وقد عرفنا مواضعها؟ قال: أرى (أن تردَّها)(1) فإن لم تفعل كنت شريكًا لمن أخذها.
وروى يعقوب بن سفيان بإسناده عن جويرية بن أسماء، عن إسماعيل بن أبي حكيم قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز حين تفرق الناس ودخل للقائلة
(1) تكررت بالأصل.
فَإِذَا منادٍ ينادي: الصلاةُ جامعةٌ، ففزعنا فزعًا شديدًا مخافة أن يكون قد جاء فتقٌ من وجهِ من الوجوه أو حَدَث حَدَثٌ. قال جويرية: وإنما كان دعا مُزاحمًا -يعني مولاه- فَقَالَ: يا مزاحم، إِنَّ هؤلاء القوم -يعني بني عمِّه من الخلفاءِ (الذين)(1) كانوا قبلهُ -قد أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطونا إياها، وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك قد صار إليّ وليس علي فيه دون الله محاسب. قال له مزاحم: يا أمير المؤمنين، هل تدري كم ولدك؟ هم كذا وكذا. فذرفت عيناه، فجعل يستدمع ويقول: أكلُهم إِلَى الله عز وجل ثم انطلق مزاحمٌ من ساعتِهِ في وجهه ذلك، حتى استأذن عَلَى عبد الملك بن عمر فأذن له، وقد اضطجع للقائلة. فَقَالَ له عبد الملك: ما جاء بك يا مزاحم هذه الساعة؟ هل حَدَثَ من حَدَثٍ؟ قال: أشَدُّ الحدثِ عليك وعلى بني أبيكَ. قال: وما ذاك؟! قال: دعاني أمير المؤمنين، فذكر له ما قال عمر. فَقَالَ عبد الملك: فما قلت له؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، هل تدري كم؟ هم كذا وكذا، قال: فما قال لك؟ قال: جعل يستدمع، ويقول: أكلهم إِلَى الله عز وجل. فَقَالَ عبد الملك: بئس وزير الدين أنت يا مزاحم! ثم وثب وانطلق إِلَى باب عمر. فاستأذن عليه، فَقَالَ الآذن: إِنَّ أمير المؤمنين قد وضع رأسهُ للقائلة. فَقَالَ: استأذن لي، لا أمَّ لك. قال: فسمع عمر الكلام فَقَالَ: من هذا؟ قال: عبد الملك. قال: ائذن له، فدخل عليه وقد اضطجع للقائلة فَقَالَ: ما حاجتُك يا بني هذه الساعة؟ قال: حديثٌ حدثنيه مزاحم. قال: فأين وقع رأيك من ذلك؟ قال: وقع رأيي عَلَى إنفاذه. قال: فرفع عمر يديه وقال: الحمد لله الَّذِي جعل من ذُرِّيَّتي من يعينني عَلَى ديني، نعم يا بني، أُصلي الظُّهر، ثم أصعد المنبر فأردها علانيةً عَلَى رءوس الناس. قال عبد الملك: ومن لك بالظهرِ يا أميرَ المؤمنين؟ ومن لك إِنَّ بقيت إِلَى الظهر أن تسلم لك نيتك إِلَى الظهر؟ فَقَالَ عمر: قد تفرّق الناسُ ورجعوا للقائلة. فَقَالَ عبد الملك: تأمر مناديك ينادي:
(1) تكررت بالأصل.
الصلاة جامعة فيجتمع الناس قال إسماعيل: فنادي المنادي: الصلاةُ جامعة، فخرجتُ فأتيتُ للمسجدِ، وجاء عمر وصعد المنبر، فحمد الله وأثني عليه ثم قال: أما بعد، فإن هؤلاء القوم قد كانوا أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطوناها، وما كان لنا أن نقبلها منهم، وإن ذلك قد صار إليّ، ليس عليَّ فيه دون الله -تعالى- مُحاسبٌ، ألا وإني قد ردَدْتُّها وبدأت بنفسي وأهل بيتي، اقرأ يا مزاحم.
قال: وقد جيء {بسفط قبل ذلك} (1) أو قال: جونة فيها تلك الكتب - يعني: كتب الإقطاعات- قال: فقرأ مزاحم كتابًا منها، فلما فرغ من قراءتِهِ ناوله عمر وهو قاعد عَلَى المنبر، فقصه بالجلم -يعني: المقراض- فاستأنف مزاحم كتابًا آخر فجعل يقرأ فلما فرغ منه دفعه إِلَى عمر فقصه، ثم استأنف كتابًا آخر، فما زال كذلك حتى نودي لصلاة الظهر.
والمرادُ من هذه الحكاية أن عمر رضي الله عنه رد الأراضي التي كانت في يده، مما أقطعه إياه بنو عمه الخلفاءُ قبله، فرد ذلك إِلَى بيتِ المال ولم يبق في يده شيء. وأن عبد الملك ابنه حثه عَلَى فعل ذلك وعلى المبادرة إِلَيْهِ، حين عزم عليه خشية أن تنفسخ عزيمته عن ذلك إِن أخره إِلَى صلاة الظهر أو يموت قبل فعله.
وروى الحافظ أبو نعيم بإسناد له أن عبد الملك دخل عَلَى أبيه فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، ماذا تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقًّا لم تُحيِهِ وباطلاً لم تُمتهُ؟
وبإسناد له أن عبد الملك بن عمر دخل عَلَى أبيه فَقَالَ: يا أمير المؤمنين إِنَّ لي عليك حاجةً فأدخلني -وعنده مسلمَة بن عبد الملك- فَقَالَ عمر: أسِرٌّ دون عمك؟ فَقَالَ: نعم. فقام مسلمةُ فخرج وجلس عبد الملك بين يديه فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، ماذا أنت قائل لربك غدًا إذا سألك فَقَالَ: رأيت بدعةً فلم تُمتها وسُنَّةً فلم تُحيها؛ فَقَالَ له: يا بني، أشيءٌ حمَّلكه
(1) طمس بالأصل، واستدركناه من "المعرفة والتاريخ" للفسوي (1/ 617).
الرعية إلي أم رأي رأيته من قبل نفسك" قال لا والله. ولكن رأيٌ رأيته من قبل نفسي، وعرفتُ أنك مسئول، فما أنت قائلٌ؟
فَقَالَ له أبوه رحمك الله وجزاك عن والدك خيرًا، فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان عَلَى الخير؛ يا بني، إِنَّ قومك قد شدوا هذا الأمر عقدةً عقدةً، وعُروةً عروةً، ومتى أريد مكابرتهم (1) عَلَى ما في أيدهم، لم آمَنْ أن يفتقوا علي فتقًا تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدُّنْيَا أهون من أن يُهراق في نصبتي (1) محجمةٌ (2) من دم، أوما ترى أن يأتي عَلَى أبيك يوم من أيام الدُّنْيَا، إلا وهو يميت فيه بدعة، ويحي فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحقِ وهو خير الحاكمين.
وروى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "الزهد" بإسناده عن ابن شوذب قال: جاءت امرأةُ عبد الملك بن عمر إِلَيْهِ وقد تَرَجَّلت، ولبست إزارًا ورداءً ونعلين؛ فلما رآها قال: اعتدّي اعتدّي. وقوله اعتدّي كناية عن الطلاق.
وإنما طلَّقها لما رآها قد تشبهت بالرجال في اللباس، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تشبه من النساء بالرجالِ، كما لعن من تشبه من الرجال بالنساء.
…
(1) أي: ببيعتي، أي: مدة حكمي.
(2)
محجمة: القارورة التي يجمع فيها دم الحجامة انظر "لسان العرب" مادة: (حجم).