الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الزكاة للقرابة
ولكن لأحمد نصوصٌ أُخر تدل {عَلَى} (1) كراهة إجرائها عليهم شيئًا فشيئًا قبل الحول. معللاً بأنّه يخص بزكاته {قرابته} (2) دون غيرهم ممن هو أحوج منهم وقال لا يُعجبني، فإن كانوا مع غيرهم سواء في الحاجة فلا بأس نقله عنه جعفرُ بن محمد.
وكذا نقل عنه أبو داود إذا كان غيرُهم أحوج، وإنَّما يريد أن يُغنيهم ويدع غيرهم، فلا فإن استووا في الحاجة فهم أولى.
ونقل عنه أيضًا إذا كان له قرابةٌ يجري عليهم، أيعطيهم من الزكاة؟ قال إِن كان {عدَّها} (3) من عياله، فلا قيل إنَّما يُجري عليها شيئًا معلومًا كلَّ شهر قال إذا كفاها ذلك قيل لا يكفيها فلم يُرخِّص له أن يُعطيها من الزكاة ثم قال لا يُوقى بالزكاة {مال} (4) قال ومعنى هذا إِن كان عوَّدها الإجراء عليها من غير الزكاة قال لا توقى بالزكاة فقد وقى به ماله ولم يذكر الخلال ولا أبو بكر آخر الرواية فأشكل فقهها من كلامها ومما يتفرَّع علي جواز تأخير أداء الزكاة أنَّه يجوز أن يُتحرَّى. بها شيء معين تُضاعف فيه الصدقة.
فمن قال: إنّه يجوز تأخيرها لمن لا يجد مثلهم في الحاجة لم يبعُد عَلَى قوله أن يجوز تأخيرُها لشهر يفضُل فيه الصدقة أيضًا وقد يتخرَّج عَلَى ذلك أنه يجوز نقل الزكاة إِلَى بلدٍ بعيد لقرابة فقراء حاجتُهم شديدة.
وقد توقف أحمدُ في هذه الصورة في رواية الأثرم وقال لا أدري ومسائل التوقف تُخرَّج عَلَى وجهين غالبًا.
(1) في الأصل "منع" ولعل المثبت هو الصواب.
(2)
في الأصل "قرابتهم".
(3)
في الأصل "يجدها"، وما نقلته من مسائل أبي داود لأحمد برقم (579).
(4)
زيادة من مسائل أبي داود. والسياق يقتضيها.
وأجازه النخعي لذي القرابة خاصة، وأجازه مالك في النقل إِلَى المدينة خاصة والنقلُ فيه تأخيرُ الإخراج؛ فكما يؤخّر الأداء إِلَى الوصول إِلَى مكانٍ فاضل، تفضل فيه أبوابُ النفقة؛ فكذلك تُوخِّر إِلَى زمان فاضل تفضل فيه الصدقة.
بل التأخير إِلَى الزمان أولى؛ لأنّه ليس فيه عدولٌ عن فُقراء بلد الصدقة، ولا نقلٌ لها عن غيرهم.
وقد استشكل أحمدُ قولَ عُثمان: هذا شهرُ زكاتكم.
قال إبراهيم بنُ الحارث: سُئل أحمد عن قول عثمان: هذا شهر زكاتكم.
قال: ما فُسِّر أي وجه هو. قيل: فليس يُعرف وجهه؟ قال: لا.
قال الأثرم: قلتُ لأبي عبد الله: حديثُ عثمان: هذا شهر زكاتكم. ما وجهه؟ قال: لا أدري.
وأما {حديثُ} (1) عثمان: فحدَّثنا به من قال: ثنا ابنُ المبارك، ثنا معمر، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: سمعتُ عثمان، يقول:"هذا شهرُ زكاتكم"(2). يعني: رمضان.
قال القاضي أبو يعلى: لقد نُقل عن السائب بن يزيد، أنَّه قال ذلك في شهر رمضان. ونُقل عنه أنّه قال ذلك في المحرَّم.
قلتُ: قوله: يعني رمضان. ليس هو من قول السائب، بل من قول من بعده من الرُّواة.
وحمل القاضي هذا الحديث: عَلَى أنَّ الإمام يبعثُ سُعَاته في أوَّل السنة، وهو أول المحرَّم. فمن كان حال حولُه أخذ منه زكاته، ومن تبرَّع بأداء زكاة لم تجب عليه قُبل منه، ومن قال: لم يحل حولي أخَّره.
(1) إضافة يقتضيها السياق.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 194) وتتمته: "فمن كان عليه دين فليقضه، وزكوا بقية أموالكم".
وقد نص أحمدُ وغيره عَلَى أن من خشي أن يرجع عليه الساعي بالزكاة، أنَّه عذرٌ له في تأخير إخراجها.
وقال مالك وغيرُه من العُلَمَاء: لا تجب الزكاةُ في الأموال الظاهرة إلا يوم مجيء السُّعاة. نقله عنه أبو عُبيد.
وقالت طائفة: معنى قول عُثمان: "هذا شهيرُ زكاتكم". يُستحب فيه تعجيل زكاتكم. نقل ذلك القاضي في "خلافه"، وردَّه عَلَى قائله.
وروى أبو عبيد في كتاب "الأموال"(1): ثنا إبراهيمُ بن سعد، عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد، قال: سمعتُ عُثمان بن عفان، يقول:"هذا شهرُ زكاتكم. فمن كان عليه دينٌ فليؤدِّه حتى تُخرجوا زكاة أموالكم، ومن لم يكن عنده لم يُطلب منه حتى يأتي بها تطوعًا، ومن أُخذ منه لم تُؤخذ منه حتى يأتي هذا الشهر من قابل" قال إبراهيم: أراه يعني شهر رمضان.
قال أبو عُبيد: وقد جاءنا في بعض الأثر، ولا أدري عمَّن هو: أنَّ هذا الشهر الَّذِي أراد عُثمان المحرَّم.
وقد قال بعضُ السَّلف: ذلك الشهر الَّذِي كان يُخرج فيه الزكاة نُسي، وأنَّ ذلك من المصائب عَلَى هذه الأمة. فروى أبو زرعة في تاريخه، قال: سألت أبا مُسهر، عن عبد العزيز بن الحُصين: هل يُؤخذ عنه؟ فَقَالَ: أمَّا أهلُ الحزم فلا يفعلون. قال: فسمعتُ أبا مُسهر يحتجّ بما أنكره عَلَى عبد العزيز بن الحُصين. ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن الزهري فَقَالَ: كان من البلاء عَلَى هذه الأمة أن نسوا ذلك الشهر. يعني: شهر الزكاة. قال أبو مُسهر: قال عبد العزيز: سمَّاه لنا الزُّهري.
وقد رُوي أنَّ الصحابة كانوا يُخرجون زكاتهم في شهر شعبان إعانة عَلَى الاستعداد لرمضان، لكن من وجهٍ لا يصح (2).
(1) ص 395.
(2)
وقال المؤلف في "لطائف المعارف" ص 174 وفي الإسناد ضعف.
وروى يحيى بن سعيد العطَّار الحمصي، ثنا سيفُ بن محمد، عن ضرار ابن عمرو، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، قال: "كان أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استهلَّ شهر شعبان أكبّوا عَلَى المصاحف فقرءوها وأخذوا في زكاة أموالهم فقووا بها الضعيف والمسكين عَلَى صيام شهر رمضان، ودعا المسلمون مملوكيهم فحطوا عنهم ضرائب شهر رمضان، ودعت الولاةُ أهل (السجون)(1) فمن كان عليه حدٌّ أقاموه عليه وإلا خلَّوا سبيله.
يحيى، ومن فوقه إِلَى يزيد: كلُّهم ضُعفاء.
وأمَّا مذاهب العُلَمَاء في هذه المسألة: قال ميمون بن مهران: إذا حال الحولُ أخرج زكاته، وله أن يشتغل بتفرقتها شهرًا لا يزيد عليه.
قال أبو عُبيد: ثنا علي بن ثابت، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران، قال: اجعلها صررًا ثم ضعها فيمن تعرف، ولا يأتي عليك الشهر حتى تفرقها.
وصرَّح أصحابُنا: بجواز تأخير إخراجها يسيرًا من غير تقدير.
وحكوا عن مالك، والشافعي، ومحمد بن الحسن أنه يجب إخراجُها علي الفور. وعن أبي يوسف: لا يجب ما لم يُطالبه الإمام.
وحكوا في كُتب الخلاف -منهم القاضي وابن عقيل- عن الحنفية أنهم قالوا: تسقط الزكاة بتلف المال قبل إمكانه وبعده. عَلَى أنَّه لا يجب إخراجها عَلَى الفور، وأنَّه لا يجب بدون مطالبة الساعي. وهذا يُشبه المحكي عن أبي يوسف، كما تقدَّم.
آخر ما وجدنا من خط المؤلف -رحمه الله تعالى- والحمد لله وحده وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، ورضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين. هذا آخر القاعدة في إخراج الزكاة عَلَى الفور، للشيخ الإمام العالم العلامة بقية الحفاظ زين الدين ابن رجب البغدادي الدمشقي، رحمه الله وأسكنه فسيح جنته بمنه وكرمه، وغفر لنا ولجميع المسلمين أجمعين. بلغ مقابلة وتصحيحًا عَلَى حسب الطاقة.
(1) في الأصل: "السنجوق"، وما أثبته هو الصواب.
الرد عَلَى من اتبع غير المذاهب الأربعة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمدُ لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويرضى، وصلَّى الله عَلَى محمد عبده ورسوله، النبي صلى الله عليه وسلم الأمي خاتم النبيين وإمام المتقين، المبعوث بالدِّين القيم، والشريعة الباقية المؤيَّدة المحفوظة، الَّذِي لا يزال من أمَّته طائفةٌ ظاهرين عَلَى الحق لا يضرُّهم من خذلهم حتى تقوم الساعة.
أما بعدُ:
فقد بلغني إنكارُ بعض الناس عَلَى إنكاري عَلَى بعض من ينتسبُ إِلَى مذهب الإمام أحمد وغيره من مذاهب الأئمة المشهورين في هذا الزمان: الخروج عن مذاهبهم في مسائل، وزعم أنَّ ذلك لا يُنكر عَلَى مَنْ فعله، وأنَّ من فعله قد يكون مُجتهدًا مُتبعًا للحق الَّذِي ظهر له، أو مقلدًا لمجتهد آخر. فلا يُنكر ذلك عليه.
فأقولُ وبالله التوفيق، وهو المُستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله:
لا ريب أنَّ الله تعالى حفظ لهذه الأمة دينها؛ حفظًا لم يحفظ مثله دينا غير دين هذه الأمة؛ وذلك أنَّ هذه الأمة ليس بعدها نبيٌّ يُجدد ما دثر من دينها، كما كان دينُ من قبلنا من الأنبياء، كلَّما دثر دينُ نبي جدَّده نبيُّ آخر يأتي بعده.
فتكفّل الله سبحانه بحفظ هذا الدين، وأقام له فى كلِّ عصر حملةٌ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين.
وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1). فتكفَّل الله
وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1). فتكفَّل الله سبحانه بحفظ كتابه، فلم يتمكّن أحدٌ من الزيادة في ألفاظه ولا من النقص منها.
وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُقرئ أمَّته القرآن في زمانه عَلَى أحرفٍ مُتعددة؛ تيسيرًا عَلَى الأمة لحفظه وتعلمه، حيث كان فيهم العجوزُ والشَّيخ الكبير، والغلام والجارية والرجلُ الَّذِي لم يقرأ كتابًا قط.
فطلب لهم الرخصة في حفظهم له أن يُقرئهم عَلَى سبعة أحرف؛ كما ورد ذلك في حديث أبي بن كعب وغيره (2).
ثم لما انتشرت كلمةُ الإسلام في الأقطار، وتفرَّق المسلمون في البُلدان المتباعدة صار كلُّ فريق منهم يقرأ القرآن عَلَى الحرف الَّذِي وصل إِلَيْهِ.
فاختلفوا حينئذٍ في حروف القرآن، فكانوا إذا اجتمعوا في الموسم أو غيره اختلفوا في القرآن اختلافًا كثيرًا.
فأجمع أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم في عهد عُثمان عَلَى جمع الأمَّةِ عَلَى حرفٍ واحد، خشية أن تختلف هذه الأمة في كتابها كما اختلف الأممُ قبلهم في كُتبهم، ورأوا أنَّ المصلحة تقتضي ذلك.
وحرَّقوا ما عدا هذا الحرف الواحد من المصاحف (3)، وكان هذا من محاسن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه التي حمده عليها عَليِّ وحُذيفة وأعيانُ الصحابة.
(1) الحجر:9.
(2)
أخرج ذلك من حديث أبي بن كعب: مسلم في "الصحيح" رقم (281)، وأحمد في "المسند"(5/ 127، 129) وعن ابن عباس: البخاري في "الصحيح" رقم (4991)، ومسلم في "الصحيح" رقم (819)، وأحمد في "المسند"(1/ 264. 299، 313).
(3)
أخرج ذلك البخاري في "الصحيح" رقم (4987) من حديث أنس.
وإذا كان عُمر قد أنكر عَلَى هشام بن حكيم بن حزام عَلَى عهد النبي صلى الله عليه وسلم في آيةٍ أشدُّ الإنكار، وأبيُّ بن كعب حصل له بسبب اختلاف القرآن ما أخبر به عن نفسه من الشك، وبعض من كان يكتبُ الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يرسخ الإيمانُ في قلبه ارتد، بسبب ذلك حتى مات مرتدًّا.
هذا كلُّه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف الظن بالأمّة بعده أنْ لو بقي الاختلافُ في ألفاظ القرآن بينهم.
فلهذا ترك جمهورُ علماء الأمة القراءة بما عدا هذا الحرف الَّذِي جمع عثمان عليه المسلمين، ونهوا عن ذلك. ورخَّص فيه نفرٌ منهم (1)، وحُكي رواية عن أحمد ومالك مع اختلاف عنهما عَلَى ذلك به في الصلاة وغيرها أم خارج الصلاة فقط.
وبكل حال: فلا تختلف الأمة أنه لو قرأ أحدٌ بقراءة ابن مسعود ونحوها مما يخالف هذا المُصحف المجتمع عليه، وادَّعى أنَّ ذلك الحرف الَّذِي قرأ به هو حرف زيد بن ثابت الَّذِي جمع عليه عثمانُ الأمَّة، أو أنَّه أولى بالقراءة من حرف زيد: لكان ظالمًا متعديًا مستحقًّا للعقوبة. وهذا لا يختلف فيه اثنان من المسلمين. إِنَّمَا محل الخلاف: إذا قرأ بحرف ابن مسعود ونحوه مع اعترافه أنَّه حرفُ ابن مسعود المخالف لمصحف عثمان رضي الله عنه.
وأما سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم: فإنَّها كانت في الأمة تُحفظ في الصدور كما يُحفظ القرآن، وكان من العُلَمَاء من يكتبها كالمصحف، ومنهم من ينهى عن كتابتها.
ولا ريب أنَّ الناس يتفاوتون في الحفظ والضبط تفاوتًا كبيرًا.
(1) منهم ابن مسعود رضي الله عنه (3103) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن أبي داود في "المصاحف" كما في "الفتح"(9/ 19) عن أنس.
ثم حدث بعد عصر الصحابة قومٌ من أهل البدع والضلال، أدخلوا في الدين ما ليس منه وتعمَّدوا الكذب عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم.
فأقام الله صلى الله عليه وسلم تعالى لحفظ السنَّة أقوامًا ميَّزوا ما دخل فيها من الكذب والوهم والغلط، وضبطوا ذلك غاية الضبط وحفظوه أشد الحفظ.
ثم صنَّف العلماءُ التصانيف في ذلك، وانتشرت الكتبُ المؤلفة في الحديث وعلومه، وصار اعتماد الناس في الحديث الصحيح عَلَى كتابي الإمامين أبي عبد الله البُخاري، وأبي الحسين مُسلم بن الحجاج القُشيري رضي الله عنهما.
واعتمادُهم بعد كتابيهما عَلَى بقيّة الكُتب الستة خصوصًا سُنن أبي داود وجامع أبي عيسى وكتاب النسائي ثم كتاب ابن ماجه.
وقد صُنّف في الصحيح مصنفات أخر بعد صحيحي الشيخين، لكن لا تبلغ مبلغ كتابي الشيخين.
ولهذا أنكر العُلَمَاءُ عَلَى من استدرك عليهما الكتاب الَّذِي سمَّاه المستدرك.
وبالغ بعضُ الحفَّاظ فزعم أنه ليس فيه حديث واحد عَلَى شرطهما.
وخالفه غيرهُ، وقال: يصفو منه حديثٌ كثير صحيح. والتحقيق: أنَّه يصفو منه صحيحٌ كثير عَلَى غير شرطهما؛ بل عَلَى شرط أبي عيسى ونحوه، وأما عَلَى شرطهما فلا.
فقلَّ حديثٌ تركاه إلا وله علةٌ خفية؛ لكن لعزة من يعرف العلل كمعرفتهما وينقده، وكونه لا يتهيأ الواحد منهم إلا في الأعصار المُتباعدة: صار الأمر في ذلك إِلَى الاعتماد عَلَى كتابيهما، والوثوق بهما والرجوع إليهما، ثم بعدهما إِلَى بقية الكتب المُشار إليها.
ولم يُقبل من أحد بعد ذلك الصحيحُ والضعيف إلا عمَّن اشتُهر حذقه ومعرفته بهذا الفن واطلاعُه عليه، وهم قليل جدًّا.
وأمَّا سائر الناس، فإنَّهم يعوَّلون عَلَى هذه الكتب المشار إليها، ويكتفون بالعزو إليها.
وأما الأحكام ومسائل الحلال والحرام؛ فلا ريب أنَّ الصحابة والتابعين ومن بعدهم اختلفوا في كثيرٍ من هذه المسائل اختلافًا كثيرًا، وكان في الأعصار (المتقدمة)(*) كلُّ من اشتُهر بالعلم والدين يفتي بما ظهر له أنَّه الحق في هذه المسائل، مع أنَّه لم يخل من كان يشذ منهم عن الجمهور عن إنكار العُلَمَاء عليه.
كما كان يُنكر عَلَى ابن عباس رضي الله عنه مسائل متعددة تفرَّد بها (1).
وأُنكر ذلك عَلَى أتباعه أشدُّ من الإنكار عليه، حتى كان ابنُ جُريج لما قدم البصرة، إذا رآه الناسُ دخل المسجد الجامع رفعوا أيديهم ودعوا الله عليه؛ لشذوذه بتلك المسائل التي تلقَّى عن أصحاب ابن عباس، حتى أنَّه رجع عن بعضها قبل أن يخرج من عندهم. وهذا مع أنَّ الناس حينئذٍ كان الغالبُ عليهم الدين والورع.
فكان ذلك يُريحهم عن أن يتكلَّم أحدُهم بغير علم، أو ينصب نفسه للكلام، وليس هو لذلك بأهل.
ثم قلَّ الدينُ والورع، وكثرُ من يتكلم في الدين بغير علم، ومن ينصب نفسه لذلك وليس هو له بأهل.
فلو استمر الحالُ في هذه الأزمان المتأخِّرة عَلَى ما كان عليه في الصدر الأول بحيث أنَّ كلَّ أحدٍ يُفتي بما يدَّعي أنَّه يظهر له أنَّه الحق؛ لاختل به نظامُ الدين لا محالة، ولصار الحلالُ حرامًا والحرام حلالاً.
ولقال كلُّ من شاء ما يشاء، ولصار دينُنا بسبب ذلك مثل دين أهل الكتابين من قبلنا.
(*) المتقادمة: "نسخة".
(1)
كقوله في الربا والمتعة.
فاقتضت حكمةُ الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه: بأن نصب للناس أئمة مجتمعًا عَلَى علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العِلْم بالأحكام والفتوى، من أهل الرأي والحديث.
فصار الناس كلُّهم يعولون في الفتاوى عليهم، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم.
وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم، حتى ضُبط مذهبُ كل إمام منهم وأصوله، وقواعدُه وفصوله، حتى تُرد إِلَى ذلك الأحكام ويُضبط الكلامُ في مسائل الحلال والحرام.
وكان ذلك من لُطف الله بعباده المؤمنين، ومن جُملة عوائده الحسنة في حفظ هذا الدين.
ولولا ذلك: لرأي النَّاسُ العجبَ العُجاب، من كلِّ أحمق متكلِّف مُعجبٍ برأيه، جريء عَلَى الناس وثَّاب.
فيدَّعى هذا أنَّه إمامُ الأئمة، ويدَّعي هذا أنَّه هادي الأمة، وأنَّه هو الَّذِي ينبغي الرجوعُ دون الناس إِلَيْهِ، والتعويل دون الخلق عليه.
ولكن بحمد الله ومنته انسدَّ هذا الباب الَّذِي خطرُه عظيم وأمره جسيم، وانحسمت هذه المفاسدُ العظيمة وكان ذلك من لُطف الله تعالى لعباده وجميل عوائده وعواطفه (الحميمة)(*).
ومع هذا فلم يزل يظهر من يدَّعى بلوغَ درجة الاجتهاد، ويتكلّم في العِلْم من غير (تقليدٍ لأحد)(**) من هؤلاء الأئمة ولا انقياد.
فمنهم من يسوغ له ذلك؛ لظهور صدقه فيما ادّعاه، ومنهم من ردَّ عليه قوله وكُذِّب في دعواه.
وأمَّا سائرُ الناس ممن لم يصل إِلَى هذه الدرجة فلا يسعهُ إلا تقليدُ أولئك الأئمة، والدخول فيما دخل فيه سائرُ الأمة.
(*) الرحيمة " " نسخة".
(**) تقيد بأحد: "نسخة".
فإن قال أحمق متكلف: كيف يُحصر الناسُ في أقوال علماء (متعينين)(*) ويُمنع من الاجتهاد، أو من تقليد غير أولئك من أئمة الدين.
قِيلَ لَهُ: كما جمع الصحابةُ رضي الله عنهم الناسَ عَلَى حرفٍ واحد من حُروف القرآن، ومنعوا الناس من القراءة بغيره في سائر البُلدان؛ لما رأوا أنَّ المصلحةَ لا تتم إلا بذلك، وأنَّ الناس إذا تُركوا يقرءون عَلَى حروفٍ شتَّى وقعوا في أعظم المهالك.
فكذلك مسائلُ الأحكام وفتاوى الحلالِ والحرام، لو لم تُضبط الناسُ فيها بأقوال أئمة معدودين؛ لأدَّى ذلك إِلَى فساد الدين، وأن يُعد كلُّ أحمق متكلف طلبت الرياسة نفسُه من (زمرة)(**) المجتهدين، وأن يبتدع مقالةٌ ينسبها إلي بعض من سلف من المتقدمين؛ فربما كان بتحريف يُحرِّفه عليهم، كما وقع ذلك كثيرًا من بعض الظاهريين، وربما كانت تلك المقالة زلةٌ من بعض من سلف قد اجتمع عَلَى تركها جماعةٌ من المسلمين.
فلا تقتضي المصلحةُ غير ما قدَّره الله وقضاه من جمع الناس عَلَى مذاهب هؤلاء الأئمة المشهورين رضي الله عنهم أجمعين.
فإن قيل: الفرقُ بين جمع الناس عَلَى حرفٍ واحد من الحروف السبعة من أحرف القرآن وبين جمعهم عَلَى أقوال فقهاء أربعة، أنَّ تلك الحروف السبعة (كانت) (1) يُقال: معناها واحد أو متقارب، والمعنى حاص بهذا الحرف.
وهذا بخلاف قول الفقهاء الأربعة؛ فإنه يجوز أن يتفقوا عَلَى شيء ويكون الحق خارجًا عنهم.
قيل: هذا قد منعه طائفةٌ من العُلَمَاء وقالوا: إِنَّ الله لم يكن ليجمع هذه الأمة عَلَى ضلالة.
وفي ذلك أحاديثٌ تعضُد ذلك.
(*) معينين: "نسخة".
(**) جملة: "نسخة".
(1)
كذا!!.
وعلى تقدير تسليمه؛ فهذا إِنَّمَا يقع نادرًا، ولا يطلع عليه إلا مجتهد وصل إِلَى أكثر مما وصلوا إِلَيْهِ، وهذا أيضًا مفقود أو نادر.
وذلك المجتهدُ عَلَى تقدير وجوده: فرضُه اتباع ما ظهر له من الحق، وأما غيره ففرضُه التقليد.
وتقليد هؤلاء الأئمة سائغٌ بلا ريب، ولا إثم عليهم، ولا من قلّدهم ولا بعضهم.
{إِن قيل:} (1) فهذا يُفضي إِلَى اتباع الأئمة عَلَى الخطأ. {قيل:} (1) لا يقول القول الحق {جميع الخلق} (1) لابُد أن يكون مذمومًا به أحد من {المخالفين} (1).
فلم يتفق للأمة الخطأ، وأكثر ما يقع هذا إِن كان واقعًا فيما قل وقوعه.
فأمَّا المسائلُ التي يحتاج المسلمون إليها عموماً، فلا يجوز أن يعتقد أنَّ الأئمة المُقتدى بهم في الإسلام في هذه الأعصار المستطالة اجتمعوا فيها عَلَى الخطأ؛ فإنَّ هذا قدحٌ في هذه الأمة قد أعاذها الله منه.
فإن قيل: نحن نُسلم منعَ عُموم الناس من سلوك طريق الاجتهاد؛ لما يُفضي ذلك إِلَى أعظم الفساد.
لكن لا نسلم منعَ تقليد إمامٍ مُتبع من أئمة المجتهدين غير هؤلاء الأئمة المشهورين.
قيل: قد نبَّهنا عَلَى علة المنع من ذلك، وهو أنَّ مذاهب غير هؤلاء لم تشتهر ولم تنضبط، فربما نُسب إليهم ما لم يقولوه، أو فُهم عنهم ما لم يريدوه، وليس لمذاهبهم من يذبّ عنها، ويُنبّهُ عَلَى ما يقع من الخلل فيها بخلاف هذه المذاهب المشهورة.
فإن قيل: فما تقولون في مذهب إمامٍ غيرهم قد دُون مذهبه وضُبط وحفظ كما حُفظ مذاهب هؤلاء؟
(1) بياض بالأصل، والمثبت من المطبوع وانظر "مجموع الفتاوى"(19/ 92).
قيل: أولاً: هذا لا يُعلم وجودُه الآن، وإن فُرض وقوعه الآن وسُلّم جوازُ اتباعه والانتساب إِلَيْهِ، فإنَّه لا يجوز ذلك إلا لمن أظهر لانتساب إِلَيْهِ والفتيا بقوله والذبَّ عن مذهبه.
فأمَّا من أظهر الانتساب إِلَى بعض الأئمة المشهورين، وهو في الباطن منتسبٌ إِلَى غيرهم معتقدٌ لمذهب سواه، فهذا لا يسوغ له ذلك البتة، وهو من نوع النفاق والتقية، ولاسيما من أخذ الأموال المختصة بأصحاب ذلك الإمام المشهور من الأوقاف أو غيرها.
أو لبَّس عَلَى النَّاس، فأوهمهم أنَّ ما يُفتي به من مذهب من ينتسب إِلَيْهِ في الباطن هو مذهب ذلك الإمام المشهور.
فهذا غير سائغ قطعًا، وهو تلبيس عَلَى الأمة وكذبٌ عَلَى علماء الأمة.
ومن نسب إِلَى أئمة الإسلام ما لم يقولوه، أو ما عُلم أنَّهم يَقُولُونَ خلافه فإنه كاذبٌ يستحق العقوبة عَلَى ذلك.
وكذلك إِن صنَّف كتابًا عَلَى مذهب إمام معيَّن؛ وذكر فيه ما يعتقده من قول من ينتسب إِلَيْهِ في الباطن من غير نسبته إِلَى قائله.
وكذلك لو كان الكتاب المصنَّف لا يختص بمذهب معينٌ، إلا أن مصنَّفه في الظاهر ينتسب إِلَى مذهب إمام معين وفي الباطن إِلَى غيره. فيذكر فيه أقوال من ينتب إِلَيْهِ باطنًا، من غير بيان لمخالفتها لمذهب من ينتسب إِلَيْهِ ظاهرًا.
فكلُّ هذا إيهامٌ وتدليس غير جائز، وهو يقتضي خلط مذاهب العُلَمَاء واضطرابها.
فإن ادعى مع ذلك الاجتهاد كان أدهى وأمر، وأعظم فسادًا وأكثر عنادًا؛ فإنَّه لا يسوغ ذلك مطلقًا إلا لمن كمُلت فيه أدواتُ الاجتهاد: من معرفة الكتاب والسنة، وفتاوى الصحابة والتابعين، ومعرفة الإجماع والاختلاف، وبقية شرائط الاجتهاد المعروفة.
وهذا يدعي إطلاعًا كثيرًا عَلَى السنة، ومعرفة صحيحهما من سقيمها، ومعرفة مذاهب الصحابة والتابعن، والآثار المنقولة عنهم في ذلك.
ولهذا كان الإمام أحمد يُشدد أمر الفُتيا، ويمنع منها من يحفظ مائة ألف حديث ومائتي ألف حديث وأكثر من ذلك.
وعلامةُ صحة دعواه: أن يستقلّ بالكلام في المسائل كما استقل غيرُه من الأئمة، ولا يكون كلامُه مأخوذًا من كلام غيره.
فأمَّا من اعتمد عَلَى مجرَّد نقل كلام غيره، إمَّا حكمًا، أو حكمًا ودليلاً: كان غاية جهده أن يفهمه، وربما لم يفهمه جيدًا أو حرّفه وغيره، فما أبعد هذا عن درجة الاجتهاد! كما قيل:
فدع عنك الكتابةَ لست منها
…
ولو سوَّدت وجهك بالمداد
فإن قيل: فما تقولون في نهي الإمام أحمد وغيره من الأئمة عن تقليدهم وكتابة كلامهم، وقول الإمام أحمد: لا تكتب كلامي ولا كلام فلان وفلان، وتعلم كما تعلمنا. وهذا كثيرٌ موجود في كلامهم.
قيل: لا ريب أنَّ الإمام أحمد رضي الله عنه كان ينهى عن آراء الفقهاء، والاشتغال بها حفظًا وكتابة، ويأمر بالاشتغال بالكتاب والسنة حفظًا وفهمًا، وكتابة ودراسة، وبكتابة آثار الصحابة والتابعين دون كلام من بعدهم، ومعرفة صحة ذلك من سقمه، والمأخوذ منه والقول الشاذ المطرح منه.
ولا ريب أن هذا مما يتعين الاهتمامُ به والاشتغال بتعلمه أولاً قبل غيره.
فمن عرف ذلك وبلغ النهاية من معرفته كما أشار إِلَيْهِ الإمام أحمد، فقد صار علمُه قريبًا من علم أحمد.
فهذا لا حجر عليه ولا يتوجه الكلام فيه، إنَّما الكلام في منع من لم يبلغ
هذه الغاية ولا ارتقى إِلَى هذه النهاية، ولا فهم من هذا إلا النزر اليسير، كما هو حال أهل هذا الزمان.
بل هو حالُ أكثر الناس منذ أزمان، مع دعوى كثير منهم الوصول إِلَى الغايات، والانتهاء إِلَى النهايات، وأكثرهم لم يرتقوا عن درجة البدايات.
وإذا أردت معرفة ذلك وتحقيقه، فانظر إِلَى علم الإمام أحمد رضي الله عنه بالكتاب والسنة.
أمَّا علمه بالكتاب: فإنه رضي الله عنه كان شديد العناية بالقرآن وفهمه وعلومه، وكان يقول لأصحابه: قد ترك الناسُ فهم القرآن، عَلَى وجه الذم لهم.
وقد جمع في القرْآن كثيرًا من الكتب، من ذلك: كتاب "الناسخ والمنسوخ"، و"المقدم والمؤخر"(3/ أ) وجمع "التفسير الكبير"، وهو محتوٍ عَلَى كلام الصحابة والتابعين في التفسير.
وتفسيرهُ من جنس التفاسير المنقولة عن السَّلف: من تفاسير شيوخه كعبد الرزاق، ووكيع، وآدم بن أبي إياس وغيرهم. ومن تفاسير أقرانه كإسحاق وغيره، وممن بعده ممن هو عَلَى منواله كالنسائى، وابن ماجه، وعبد ابن حُميد، وابن أبي حاتم، وغيرهم من أهل الحديث. وكلُّ هؤلاء جمعوا الآثار المروية عن السَّلف في التفسير من غير زيادة كلام من عندهم.
وأمَّا علمُه رضي الله عنه بالسنة: فهذا أمرٌ اشتهر وذاع، ووقع عليه الوفاق والإجماع، وأنَّه حامل لواء السنة والحديث، وأعلم الناس في زمانه بكلام النبي صلى الله عليه وسلم علبم وأصحابه. والتابعين.
واختص عن أقرانه من ذلك بأمور متعددة، منها: سعةُ الحفظ وكثرته، وقد قيل: إنه كان يحفظ ثلاثمائة ألف حديث.
ومنها: معرفةُ صحيحه من سقيمه: وذلك تارة بمعرفة الثقات من المجروحين، وإليه كانت نهاية المنتهى في علم الجرح والتعديل.
وتارة معرفة طُرق الحديث واختلافه، وهر معرفة علل الحديث.
وكان أيضاً نهايةٌ في ذلك.
وهذا وإن شاركه كثيرٌ من الحفاظ في معرفة علل الحديث المرفوعة، فلم يصل أحدٌ منهم إِلَى معرفته بعلل الآثار الموقوفة.
ومن تأمل كلامه في ذلك: رأى العجب، وجزم بأنه قل من وصل إِلَى فهمه في هذا العِلْم رضي الله عنه.
ومنها: معرفته فقه الحديث وفهمه، وحلاله وحرامه ومعانيه، وكان أعلم أقرانه بذلك كما شهد به الأئمة من أقرانه، كإسحاق وأبي عُبيد وغيرهما.
ومن تأمل كلامه في الفقه وفهم مأخذه ومداركه فيه، علم قوة فهمه واستنباطه.
ولدقة كلامه في ذلك، ربما صعُب فهمُه عَلَى كثير من أئمة أهل التصانيف ممن هو عَلَى مذهبه، فيعدلون عن مآخذه الدقيقة إِلَى مآخذ أُخر ضعيفة يتلقّونها عن غير أهل مذهبه، ويقع بسبب ذلك خللٌ كثير في فهم كلامه، وحمله عَلَى غير محامله.
ولا يحتاج الطالبُ لمذهبه إلا إِلَى إمعانٍ وفهم كلامه.
وقد رئي من فهمه وعلمه ما يقضي منه العجب، وكيف لا، ولم يكن مسألة سبق للصحابة والتابعين ومن بعدهم فيها كلامٌ؛ إلا وقد علمه وأحاط علمه به، وفهم مأخذ تلك المسألة وفقهها، وكذلك كلام عامة فقهاء الأمصار وأئمة البلدان -كما يُحيط به معرفته- كمالك، والاوزاعي، والثوري، وغيرهم.
وقد عُرض عليه عامةُ علم هؤلاء الأئمة وفتاويهم، فأجاب عنها تارة بالموافقة وتارةٌ بالمخالفة.
فإنَّ مُهنا بن يحيى الشامي عرض عليه عامةَ مسائل الأوزاعي وأصحابه، فأجاب عنها.
وجماعةٌ عرضوا عليه مسائل مالك وفتاويه من الموطأ وغيره، فأجاب عنها. وقد نقل ذلك عنه حنبلُ وغيره.
وإسحاقُ بن منصور عرض عليه عامةَ مسائل الثوري، فأجاب عنها.
وكان أولاً قد كتب كُتب أصحاب أبي حنيفة وفهمها، وفهم مآخذهم في الفقه ومداركهم، وكان قد ناظر الشافعي وجالسه مُدّة وأخذ عنه.
وشهد له الشافعيُّ رضي الله عنه تلك الشهادات العظيمة في الفقه والعلم، وأحمد مع هذا شاب لم يتكهل.
ومعلوم أنَّ من فهم علمَ هذه العلوم كلُّها وبرع فيها، فأسهلُ شيءٍ عنده معرفة الحوادث والجواب عنها، عَلَى قياس تلك الأصول المضبوطة والمآخذ المعروفة.
ومن هنا قال عنه أبو ثور: كأنَّ أحمد إذا سُئل عن مسألة كأنَّ علم الدُّنْيَا لوحٌ بين عينيه، أو كما قال.
ولا نعلم سُنَّة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد أحاط بها علمًا، وكان أشدُّ الناس اتباعًا للسنة إذا صحت، ولم يعارضها معارضٌ قوي.
وإنَّما ترك الأخذَ بما لم يصح، وبما عارضه معارضٌ قوي جدًا.
وكان السَّلف-رضي الله عنهم؛ لقُرب عهدهم بزمن النوة، وكثرة ممارستهم كلام الصحابة والتايعين ومن بعدهم؛ يعرفون الأحاديث الشاذة التي لم يعمل بها، ويطرحونها. ويكتفون بالعمل بما مضى عليه السَّلفُ.
ويعرفون من ذلك ما لم يعرفه من بعدهم، ممن لم تبلغه السننُ إلا من كُتب الحديث لطول العهد وبُعده.
إذا فهمت هذا وعلمته، فهذه نصيحةٌ لك أيها الطالب لمذهب هذا الإمام أؤديها إليك خالصةً لوجه الله تعالى؛ فإنَّه "لا يؤمن أحدُكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه"(1).
إياك ثم إياك أن تحدّث نفسك أنّك قد اطلعت عَلَى ما لم يطلع عليه هذا الإمام، ووصلت من الفهم إِلَى ما لم يصل إِلَيْهِ، هذا الَّذِي ظهر فضلُ فهمه عَلَى من بعده من أولي الأفهام.
ولتكن همتك كلُّها مجموعة عَلَى فهم ما أشار إِلَيْهِ، وتعلُّم ما أرشد إِلَيْهِ من الكتاب والسنّة، عَلَى الوجه الَّذِي سبق شرحُه.
ثم بعد ذلك: ليكن همك في فهم كلام هذا الإمام في جميع مسائل العِلْم، لا مسائل الإسلام. أعني: مسائل الحلال والحرام.
وفي علم الآفاق، أعني: مسائل الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر، وهو العِلْم المسمَّى في اصطلاح كثيرٍ من العُلَمَاء بعلم السُّنة.
فإن هذا الإمام كأنَّ غاية في هذا العِلْم، وقد امتحن بسبب مسائل منه، وصبر لله علي تلك المحنة، ورضي المسلمون كلهم بقوله الَّذِي قاله ومقامه الَّذِي قامه وشهدوا أنَّه إمام السنة، وأنه لولاه لكفر الناس.
فمن كانت هذه منزلته في علم السنة، كيف يحتاج إلي تلقي هذا العِلْم من كلام أحد من العُلَمَاء غيره، لاسيما لمن ينتسب إلي مذهبه.
فليتمسك بكلامه في عامة هذا الباب، ويعرض عما أحدث من فضول المسائل التي أحدثت. وليس للمسلمين فيما أحدث حاجة؛ بل تشغل عن
(1) أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45) من حديث أنس.
العِلْم النافع، وتوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين، وتوجب كثرة الجدل والخصومات في الدُّنْيَا مما هو منهي عنه عند هذا الإمام وغيره من السَّلف الماضين.
وكذلك علم الإحسان: وهو علم المراقبة والخشية، كان هذا الإمام فيه غاية، كما كان في علم الإسلام والإيمان آية. ولكن كان الغالبُ عليه في هذا العِلْم تحقيق الأعمال دون تزويق الأحوال؛ فلذلك كان لا يطلق إلا المأثور عن السَّلف، دون ما (أخذته)(1) المتأخرون عن الخلف.
ولقد كان رضي الله عنه في جميع علومه مستندًا بالسنة، لا يرى إطلاقَ ما لم يُطلقه السَّلفُ الصالح من الأقوال، ولا سيما في علم الإيمان والإحسان.
وأمَّا علم الإسلام: فكان يُجيب فيه عن الحوادث الواقعة مما لم يسبق فيها كلامٌ؛ للحاجة إِلَى ذلك، مع نهيه لأصحابه أن يتكلموا في مسائل ليس لهم فيها إمام.
وإنَّما كان يُجيب غالبًا عما سبق الكلامُ فيه، وفيما يحتاج ولابد لوقوعه ومعرفة حُكمه.
فأمَّا ما يولِّده الفقهاءُ من المسائل التي لا تقع أو لا تكاد تقع إلا نادرًا، فكان ينهى كثيرًا عن الكلام فيها؛ لأنّه قليلُ الفائدة ويُشغل عمَّا هو أهم منه مما يحتاج إِلَى معرفته.
وكان رضي الله عنه لا يرى كثرة الخصام والجدال، ولا توسعة لقيل أو لقال في شيء من العلوم والمعارف والأحوال.
إِنَّمَا يرى الاكتفاء في ذلك بالسنة والآثار، ويحث عَلَى فهم معاني ذلك من غير إطالةٍ للقول والإكثار.
(1) كذا!!
ولم يترك توسعة الكلام بحمد الله عجزًا ولا جهلاً، ولكن ورعًا وفضلاً واكتفاءً بالسنة، فإن فيها كفاية، واقتداءً بالسلف الصالح من الصحابة والتابعين، فبالاقتداء بهم تحصل الهداية.
فإن أنت قبلت هذه النصيحة، وسلكت الطريقة الصحيحة، فلتكن همتك؛ حفظ ألفاظ الكتاب والسنة، ثم الوقوف عَلَى معانيها بما قال سلف الأمة وأئمتها، ثم حفظ كلام الصحابة والتابعين وفتاويهم وكلام أئمة الأمصار، ومعرفة كلام الإمام أحمد وضبطه بحروفه ومعانيه، والاجتهاد عَلَى فهمه ومعرفته.
وأنت إذا بلغت من هذه الغاية: فلا تظن في نفسك أنك بلغت النهاية، وإنما أنت طالبٌ متعلم من جملة الطلبة المتعلمين.
ولو كُنتَ بعد معرفتك ما عرفتَ موجودًا في زمن الإمام أحمد، ما كنت حينئذٍ معدودًا من جملة الطالبين. فإن حدثتك نفسُك بعد ذلك أنك قد انتهيت أو وصلت إِلَى ما وصل إِلَيْهِ السَّلفُ، فبئس ما رأيت.
وإيّاك ثم إيّاك أن تترك حفظ هذه العلوم المشار إليها، وضبط النصوص والآثار المعول عليها، ثم تشتغل بكثرةِ الخصام والجدال، وكثرة القيل والقال، وترجيح بعض الأقوال عَلَى بعض الأقوال مما استحسنه عقلُك، لا تعرف في الحقيقة من القائل لتلك الأقوال، وهل هو من السَّلف المُعتبر بأقوالهم، أو من غير أهل الاعتدال.
إيّاك أن تتكلم في كتاب الله أو في حديث رسول الله بغير ما قاله السَّلفُ، كما أشار إِلَيْهِ إمامك، فيفوتك العِلْمُ النافع، وتضيع أيامُك.
فإن العِلْم النافع: إِنَّمَا هو ما ضبُط في الصدور، وهو عن الرسول أو عن السَّلف الصالح مأثور.
وليس العِلْم النافع أرأيت وأريت؛ فقد نهى عن ذلك الصحابةُ ومن بعدهم
ممن إذا اقتديت بهم فقد اهتديت وكيف يصح لك دعوى الانتساب إِلَى إمام، وأنت عَلَى مخالفته مُصرّ، ومن علومه وأعماله وطريقته تفرّ.
واعلم -وفقك الله- أنك كلما اشتغلت بتلك الطريقة، وسلكت السُّبل الموصلة إِلَى الله عَلَى الحقيقة، واستعملت الخشية ونفسها المراقبة، ونظرتَ في أحوال من سلف من الأئمة بإدمان النظر في أحوالهم بحُسن العاقبة، ازددت بالله وبأمره علمًا، وازددت لنفسك احتقارًا وهضمًا، وكان لك من نفسك شغلٌ شاغلٌ عن أن تتفرغ لمخالفة المسلمين.
ولا تكن حاكمًا عَلَى جميع فرق المؤمنين، كأنك قد أوتيت علمًا لم يؤتوه، أو وصلت إِلَى مقامٍ لم يصلوه.
فرحم الله من أساء الظلم بنفسه علمًا وعملاً وحالاً، وأحسن الظن بمن سلف، وعرف من نفسه نقصًا ومن السَّلف كمالاً، ولم يهجم عَلَى أئمة الدين ولا سيما مثل الإمام أحمد، وخصوصًا إِن كان إِلَيْهِ من المُنتسبين.
وإن أنت أبيت النصيحة وسلكت طريقة الجدال والخصام، وارتكبت ما نُهيت عنه من التشدّق والتفيهق وشقشقة الكلام، وصار شغلك الرد عَلَى أئمة المسلمين، والتفتيش عن عيوب أئمة الدين: فإنك لا تزداد لنشك إلا عُجبًا، ولا لطلب العلو في الأرض إلا حُبًّا، ومن الحق إلا بُعدًا، وعن الباطل إلا قربًا، وحينئذٍ تقول: ولم لا أقول وأنا أولى من غيري بالقول والاختيار، ومن أعلم مني ومن أفقه مني؛ كما ورد في الحديث هذا يقوله مِن هذه الأمة مَن هو وقود النار.
أعاذنا الله وإياكم من هذه الفضائح، ووفقنا وإياكم لنتول النصائح بمنه وكرمه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
فإن أبيت إلا الإصرار عَلَى أنَّ العِلْم والتفقه هو نقلُ الأقوال، وكثرة البحث عليها، والجدال، وأنَّ من اتسع في ذلك ونقب عن عيوب الأئمة بالنظر
والاستدلال أعلم ممن لم يكن كذلك، وأن من قلّ كلامُه في هذا فليس هنالك.
فنقول لك من هنا اعتقد طوائفُ من أهل الضلال أنَّ الخلف أعلم من السَّلف؛ لما امتازوا به من كثرة القيل والقال.
ونحن براء إِلَى الله من هذه الأقوال، ولو كان الأمرُ عَلَى هذا لكان شيوخُ المعتزلة والرافضة أعلم من سلف الأمة وأئمتها.
وتأمل كلامَ شيوخ المعتزلة كعبد الجبار بن أحمد الهمداني وغيره، وكثرة بحوثه وجداله، واتساعه في كثرة مقاله، وكذلك من كان من أهل الكلام من سائر الطوائف.
وكذلك المصنفون في سائر الكلام، وفي الفقه من فقهاء الطوائف: يُطيلون الكلام في كل مسألةٍ إطالة مُفرطةً جدًّا، ولم يتكلم أئمتُهم في تلك المسائل بتقريرها وكلامهم فيها.
هل يجوز أن يُعتقد بذلك فضلُهم عَلَى أئمة الإسلام، مثل سعيد بن المسيب والحسن، وعطاء، والنخعي، والثوري، والليث، والأوزاعي، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عُبيد ونحوهم.
بل التابعون المتسعون في المقال أكثر من الصحابة بكثير، فهل يعتقد مسلم أنَّ التابعين أعلمُ من علماء الصحابة.
وتأمَّل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ» (1).
قاله في مدح أهل اليمن وفضلهم، فشهد لهم بالفقه والإيمان، ونسبها إليهم لبلوغهم الغاية في الفقة والإيمان والحكمة.
ولا نعلم طائفة من عُلماء المسلمين أقل كلامًا من أهل اليمن، ولا أقل جدلاً، منهم، سلفًا وخلفًا؛ فدلَّ عَلَى أنَّ العِلْم والفقه الممدوح في لسان
(1) أخرجه البخاري (4388، 4389، 439)، ومسلم (52) من حديث أبي هريرة.
الشارع: هو العِلْم بالته المؤدي إِلَى حُبّه ومحبته، وإجلاله وتعظيمه، وهما مع العِلْم بما يحتاج إِلَيْهِ من أوامره ونواهيه، كما كان عليه علماء أهل اليمن قديمًا، مثل: أبي موسى الأشعري، وأبي مُسلم الخولاني وأويس وغيرهم. دون ما زاد عَلَى ذلك، من ضرب أقوال الناس بعضها ببعض، وكثرة التفتيش عن عوراتهم وزلاتهم.
وهو أنَّ أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيرة، مما لا تقدح في إمامتهم وعلمهم، فكان ماذا؟! فلقد انغمر ذاك في محاسنهم وكثرة صوابهم، وحُسن مقاصدهم ونصرهم للدين.
والانتصابُ للتنقيب عن زلَاّتهم ليس محمودًا ولا مشكورًا، لاسيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ، ولا ينفع فيها كشفُ خطئهم وبيانُه.
وكذلك كثرة البحث عن فضول علوم لا تنفع في الدين وتشغل عن الله والاشتغال به، وتقسِّي القلب عن ذكره، وتوجب لأهلها حبَّ العلو والرئاسة عَلَى الخلق.
فكل هذا غيرُ محمود، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتعوَّذُ من علم لا ينفع (1)، وفي حديث عنه أنَّه قال:«سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ» (2).
وفي حديث عنه: "إِنَّ من العِلْم جهلاً"(3). وكان صلى الله عليه وسلم يكره إطالة القول وكثرة تشقيق الكلام، ويُحب التجوز في القول؛ وفي ذلك عنه أحاديثُ كثيرة يطول ذكرها.
وكذلك التصدّي لرد كلام أهل البدع بجنس كلامهم، من الأقيسة الكلامية وأدلة العقول: يكرهه الإمامُ أحمد، وأئمة أهل الحديث كيحيى القطان، وابن مهدي، وغيرهم. وإنَّما يرون الردَّ عليهم بنصوص الكتاب والسنّة، وكلام سلف الأمة إِن كان موجودًا، وإلا رأوا السكوت أسلم.
(1) أخرجه مسلم (2722) من حديث زيد.
(2)
أخرجه ابن ماجه (3843).
(3)
أخرجه أبو داود في "السنن" رقم (5012).
وكان ابنُ المبارك، أو غيره من الأئمة يقول: ليس أهل السنة عندنا من رد عَلَى أهل الأهواء، بل من سكت عنهم.
ذكر هذا كراهية {لما يشغل} (1) عن العِلْم الَّذِي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن العمل بمقتضاه؛ فإن فيه كفاية، ومن لم يكفه ذلك فلا كفاه الله!
وكل ما ذكرته هاهنا، فانأ أعلم أنَّ أهل الجدال والخصومات يناقشون فيه أشد المناقشة، ويعترضون عليه أشد الاعتراض؛ ولكن إذا وضح الحق تعيَّن اتباعُه، وترك الالتفات إِلَى من نازع فيه وشغب، وخاصم وجادل وألب.
ومن هاهنا يُعلم أنَّ علم الإمام أحمد ومن سلك سبيله من الأئمة: أعلم علوم الأمة، وأجلها وأعلاها، وأنَّ فيه كفايةٌ لمن هداه الله إِلَى الحق.
ومن لم يجعل الله له نورًا فماله من نور.
تمت الرسالة المباركة الشافية لمن وقف عليها ونظر فيها وعمل بما فيها، فهي له كافية، والله الموفق لإصابة الصواب، وإليه المرجع والمآب.
…
(1) ليست بالأصل والسياق يقتضيها.
مختصر في معاملة الظالم السارق
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر يا كريم
وبعد. فهذا مختصر، فيما روي عن أهل المعرفة والحقائق في معاملة الظالم السارق.
قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه نهي عن سب السارق والدعاء عليه. خرَّج أبو داود (1) من حديث عائشة، "إنها سُرِقَتْ مِلْحَفَةٌ لَهَا، فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى مَنْ سَرَقَهَا، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ» . قَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَا تُسَبِّخِي: أَيْ لَا تُخَفِّفِي.
وخرَّجه الإمام {أحمد} (2) من وجه آخر، عن عائشة قالت:"سُرقت لحفتي، فدعوت الله عَلَى صاحبها، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم "لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ، دعيه بذنبه". والمراد، أن من ذهب له مال بسرقة، ونحوها فإن ذهابه، من جملة المصائب الدنيوية، والمصائب كلها كفارة للذنوب، والصبر عليها:(يحصل للصابر)(3) الأجر الجزيل.
وفي حصول الأجر له عَلَى مجرد المصيبة، خلاف مشهور بين العُلَمَاء.
فإذا كانت المصيبة من فعل آدمي ظالم: كالسارق والغاصب ونحوهما، فإن المظلوم يستحق أن يأخذ يوم القيامة من حسنات الظالم، فإن لم يكن له حسنات، طرحت من سيئات المظلوم عليه.
فإن دعا المظلوم علي ظالمه في الدُّنْيَا، فقد استوفي منه بدعائه بعض حقه، فخف وزر الظالم بذلك، فلهذا، أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة أن
(1) برقم (1497).
(2)
ما بين المعقوفتين بياض بالأصل، والسياق يقتضيه.
والحديث أخرجه أحمد (6/ 45، 136) عن عائشة قالت: "سرقها سارق فدعت عليه فَقَالَ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ» واللفظ الآخر أن الَّذِي سرقَ ثوبٌ لها.
(3)
في الأصل (يحصل للصابه للصابر) وهو خطأ من الناسخ، والصواب حذف "للصابه".
تصبر، فلا تدعو عليه، فإن ذلك يخفف عنه. وخرَّج الترمذي (1) من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَقَدْ انْتَصَرَ» .
وروي ليث، عن طلحة: أن رجلاً لطم رجلاً، فَقَالَ: اللهم إِن كان ظلمني فاكفنيه. فَقَالَ له مسروق: قد استوفيت.
وقال مجاهد: لا تسبن أحدًا، فإن ذلك يخفف عنه، ولكن أَحَبّ لله بقلبك وأبغض لله بقلبك. وقال سالم بن أبي الجعد: الدعاء قصاص.
وشكا رجل إلي عمر بن عبد العزيز رجلاً ظلمه، وجعل يقع فيه، فَقَالَ له عمر: إنك إِن تلقى الله ومظلمتك كما هي، خير لك من أن تلقاه، وقد استقضيتها.
وقال أيضاً: بلغني أن الرجل، ليظلم بمظلمة، فلا يزال المظلوم يشتم الظالم وينتقصه، حتي يستوفي حقه، ويكون للظالم الفضل عليه قال بعض السَّلف: لولا أن الناس يدعون علي ملوكهم، لعجل لملوكهم العقاب. ومعنى هذا: يشير إِلَى أن دعاء الناس عليهم استفاء منهم بحقوقهم من الظالم، أو لبعضها، فبذلك يدفع عنهم العقوبة.
وروي عن الإمام أحمد، قال: ليس بصابر من دعا عَلَى من ظلمه.
وفي مسند الإمام أحمد (2)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ، فَيُغْضِي عَنْهَا لِلَّهِ عز وجل، إِلَّا أَعَزَّ اللهُ بِهَا نَصْرَهُ". ويشهد له ما خرّجه مسلمٌ في "صحيحه"(3) من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما زاد الله عبدًا بعفوٍ، إلا عزًّا". فإن دعا عَلَى من ظلمه بالعدل جاز، وكان مستوفيًا لبعض حقه منه، وإن اعتدى عليه في دُعائه
(1) برقم (3552). وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي حمزة، وقد تكلم بعض أهل العِلْم في أبي حمزة، وهو: ميمون الأعور.
(2)
(2/ 436).
(3)
برقم (2588).
لم يجز.
وروي عن ابن عباس، في قوله تعالى:{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} (1) قال: لا يُحب الله أن يدعو أحدٌ عَلَى أحد، إلا أن يكون مظلومًا، فإنَّه قد رُخص له أن يدعو عَلَى من ظلمه؛ وذلك قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} ومن صبر فهو خير.
وقال الحسن: قد أرخص له أن يدعو عَلَى من ظلمه، وذلك قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} ومن صبر فهو خير. وقال الحسن: قد أرخص له أن يدعو عَلَى من ظلمه، من غير أن يعتدي عليه. وروي عنه، قال: لا تدع عليه، ولكن قل: اللهم أعني عليه، واستخرج حقي منه. ومن العارفين من كان يرحم ظالمه، فربَّما دعا له. سرق لبعضهم شيءٌ فقِيلَ لَهُ ادع الله عليه، فَقَالَ: اللهم إِن كان فقيرًا فأغنه، وإن كان غنيًّا فأقبل بقلبه.
وقال إبراهيم التيمي: إِنَّ الرجل ليظلمني، فارحمه. قِيلَ لَهُ: كيف ترحمه وهو يظلمك؟ قال: إنه لا يدري لسخط من تعرَّض. وآذى رجلٌ أيوب السَّختياني، وأصابه أذى شديدًا، فلما تفارقوا، قال أيوب: إني لأرحمه، إنا نُفارقه وخلقه معه!
وقال بعضهم: لا يكْبُرنَّ عليك ظُلم من ظلمك، فإنما سعى في مضرَّته، ونفعك.
وقيل لبعض السَّلف الصالح: إِنَّ فُلانًا يقع فيك، قال: لأغيظنَّ من أمرهُ. يغفر الله لي وله. قيل: من أمرُه؟! قال الشيطان.
وقال الحجاج بن الفرافِصة: بلغنا أنَّ في بعض الكُتب: من استغفر لظالمه، فقد هزم الشيطان.
وقال الفُضيل بن عياض: حسناتك من عدِّوك أكثر منها من صديقك؟! إِن عدوك يغتابك، فيدفع إليك حسناته الليل والنهار، فلا ترضى إذا ذُكر بين
(1) النساء: 148.
يديك تقول: اللهم أهلكه. لا، بل ادع الله له: اللهم أصلحه، اللهم راجع به، فيكون الله يُعطيك أجر ما دعوت؛ فإنَّ من قال لرجل: اللهم أهلكه فقد أعطى الشيطان سؤله؛ لأنّ الشيطان إِنَّمَا يدور منذ خلق الله آدم عَلَى هلاك الخلق.
وفي كتاب "الزُّهد" للإمام أحمد، أنَّ رجلاً من إخوان فُضيل بن عياض، من أهل خُراسان، قدم مكة، فجلس إِلَى الفُضيل في المسجد الحرام يُحدِّثه، ثم قام الخُراساني يطوف، فسرقت منه دنانير ستين أو سبعين، فخرج الخراساني يبكي. فَقَالَ له فُضيل: ما لك؟ قال سُرقت الدنانير، قال: عليها تبكي؟ قال: لا مَثَّلتُني وإياه بين يدي الله عز وجل، فأشرف عقلي عَلَى إدحاض حجته، فبكيت رحمة له.
وسُرق لبعض المتقدمين شيءٌ، فحزن عليه. فذكر ذلك لبعض العارفين، فَقَالَ له: إِن لم يكن حزنك عَلَى أنَّه قد صار في هذه الأمة من يعمل هذا العمل، أكثر من حزنك عَلَى ذهاب مالك، لم تؤدِّ النصيحة لله عز وجل في عباده إِلَيْهِ!! أو كما قال.
وخرَّج الإمام أحمد (1)، وأبو داود (2)، والنسائي (3)، وابن ماجه (4)، من حديث أبي أمية المخزومي عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ أُتِيَ بِلِصٍّ قَدِ اعْتَرَفَ، وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا أخَالُكَ سَرَقْتَ؟» قَالَ: بَلَى، فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا!! فَأَمَرَ بِهِ، فَقُطِعَ. وَجِيءَ بِهِ، فَقَالَ:«اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ» ، فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ {اللَّهَ} (5) وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ» ثَلَاثًا. ولفظُه لأبي داود. وفي صحيح البُخاري (6) عن
(1)(5/ 293).
(2)
برقم (4380).
(3)
(8/ 67).
(4)
برقم (2597).
(5)
ما بين معقوفتين سقط من الأصل، واستدركته من سنن أبي داود.
(6)
برقم (6777).
أبي هُريرة، «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ، فَقَالَ: «اضْرِبُوهُ» ، فَضَرَبُوهُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعْضُ القَوْمِ: أَخْزَاكَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا تَقُولُوا هَكَذَا، لَا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ» . وفي رواية له أيضاً (1)«لَا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ» وخرّجه النسائي (2) بمعناه. وزاد "ولكن قولوا: رحمك الله" وخرَّجه أبو داود (3)، وعنده:"ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه".
وخرَّج البخاري أيضاً (4)، من حديث عُمر بن الخطاب، أنَّ رجلاً كان عَلَى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك منه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد جلده في الشراب فأُتي به يومًا، فأمر به فجلد، فَقَالَ رجلٌ من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يُوتي به، فقام النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال:«لَا تَلْعَنُوهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» .
تم، وصلى الله علي سيدنا محمد.
(1) برقم (6781).
(2)
في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف (10/ 474).
(3)
برقم (4478).
(4)
برقم (6780).
أحكام الخواتيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إِلَى يوم الدين.
وبعد فهذه فصول في بيان الخاتم وما جاء فيه.
اعلم أن الخاتم يجوز بكسر التاء وفتحها، والفتح أفصح وأشهر؛ لأنّه آلة الختم، وهي ما (يختم)(*) به، وهي بناء الآلات كذلك كالقالب والطابع.
وحكي في طائفة من المتأخرين لغتين أخرتين وهما:
خَاتَام وخَيتَام. ذكره ابن السرَّاج والنووي.
وقد اختلف أهل العِلْم في لبسه في الجملة، فأباحه في من أهل العِلْم ولم يكرهوه، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، وهو اختيار أكثر أصحابه. قال في رواية أبي داود وصالح وعلي بن سعيد: ليس به بأس.
واستدلوا عَلَى ذلك بما في الصحيحين عن ابن عمر (1) قال: «اتَّخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ فَكَانَ فِي يَدِهِ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُمَرَ، ثُمَّ كَانَ فِي يَدِ عُثْمَانَ حَتَّى وَقَعَ مِنْهُ فِي بِئْرِ أَرِيسٍ» .
وفيهما أيضاً عن أنس بن مالك (2): «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَبِسَ خَاتَمَ فِضَّةٍ، فِيهِ فَصٌّ حَبَشِيٌّ، كَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي كَفَّهُ» .
فحديث أنس رواه عنه: قتادة والزهري وحميد وعبد العزيز بن صهيب وثابت والحسن وثمامة.
(*) تختم: "نسخة".
(1)
أخرجه البخاري (5873)، ومسلم (2091/ 54).
(2)
أخرجه البخاري (5868) بنحوه دون ذكر الفص وما بعده، ومسلم (2094) من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن أنس.
فحديث قتادة أخرجاه في الصحيحين من طرق (1)، عن قتادة، وكذلك حديث الزهري (2).
وحديث حميد (3) رواه البخاري من طرق أيضًا عنه.
وحديث ابن صهيب أخرجاه من طرق (4) أيضًا عنه.
وحديث ثابت رواه مسلم (5) من حديث حماد بن سلمة عنه.
وحديث الحسن تفرد به البخاري من رواية قرة بن خالد (6) عنه.
وحديث ثمامة رواه البخاري من حديث الأنصاري (7) عن أبيه عن ثمامة.
قال: وزاد فيه أحمد بن حنبل (8).
(1) أخرجه البخاري (5875)، ومسلم (2092/ 56) من طريق شعبة عنه.
وأخرجه البخاري (5872) من طريق سعيد بن أبي عروبة عنه.
وأخرجه مسلم (2092/ 57) من طريق هشام الدستوائي عنه.
وأخرجه مسلم (2092/ 58) من طريق خالد بن قيس عنه.
(2)
أخرجه البخاري (5868)، ومسلم (2094) من طريق يونس بن يزيد عنه.
وأخرجه مسلم (2093/ 59) من طريق إبراهيم بن سعيد عنه.
وأخرجه مسلم (2093/ 60) من طريق زياد عنه.
(3)
أخرجه البخاري (5869) من طريق يزيد بن زريع عنه، و (5870) من طريق معتمر عنه.
(4)
أخرجه البخاري (5877)، ومسلم (2092) من طريق حماد بن زيد عنه.
وأخرجه البخاري (5874) من طريق عبد الوارث عنه.
وأخرجه مسلم (2092) من طريق إسماعيل ابن علية عنه.
(5)
برقم (2095).
(6)
برقم (600)، وقد علق الحافظ عَلَى هذا الحديث تعليقًا نافعًا (2/ 89 سلفية) فانظره فإنَّه مهم.
(7)
برقم (5878).
(8)
برقم (5879) قال البخاري: وزادني أحمد: حدثنا الأنصاري .. إلخ. وقال الحافظ في التعليق عَلَى هذه الرواية (10/ 341 سلفية): قوله: "وزادني أحمد حدثنا الأنصاري إِلَى آخره" هذه الزيادة موصولة، وأحمد المذكور جزم المزي في "الأطراف"=
وسنذكر إِن شاء الله تعالى نهيه عن خاتم الذهب ونهيه عن التختم به في السبابة والوسطى، وهو يدل بمفهومه عَلَى إباحته عَلَى غير تلك الصفة.
وقد ثبت لبس الخاتم عن جماعة من الصحابة منهم: طلحة وسعد وابن عمر وخباب بن الأرت والبراء بن عازب والمغيرة بن شعبة وغيرهم.
ولم ينقل عن أحد منهم إنكار لبسه لكونه خاتمًا، ثم إِن طائفة من الأصحاب قالوا: متى كان لبسه لغرض التَّزين به لا غير، كره.
ومنهم من قال: تركه حينئذٍ أولى.
وهذا يفيد أن الإباحة إِنَّمَا هي مع إطلاق القصد، ولا يقال مع قصد الاتباع أيضًا، لأن هؤلاء لا يرونه مستحبًّا، ولا يجعلون لبس الشارع له تشريعًا فلا يمكن قصد الاتباع حينئذٍ، اللهم إلا في التشبه بصورة الفعل، وإن كان مباحًا، كما كان ابن عمر يفعله، وهذا ينبغي اختصاصه بالرجال، فإن النساء لا يكره لهن لبس الخاتم للزينة بلا ريب لأنّه من جملة الحلي، "وقد كُنَّ النساء يلبسن الخواتم عَلَى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تصدقن بها يوم العيد بحضرته لما حثهن عَلَى الصدقة"(1).
وذهبت طائفة إِلَى استحباب لبس الخاتم للرجال أيضاً وهذا وجه لأصحابنا.
وروى مالك عن صدقة بت يسار قال (سألت)(*) سعيد بن المسيب عن لبس الخاتم فَقَالَ: "البسه وأخبر الناس أني قد أفتيتك بذلك". واحتج لهذا
=أنَّه أحمد بن حنبل، لكن لم أر هذا الحديث في "مسند أحمد" من هذا الوجه أصلاً.
(1)
أخرجه البخاري (964)، ومسلم (884) من حديث ابن عباس ولفظ البخاري:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ الفِطْرِ رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ وَمَعَهُ بِلَالٌ، فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ، تُلْقِي المَرْأَةُ خُرْصَهَا وَسِخَابَهَا» وفي أحد ألفاظ الحديث: "فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الفَتَخَ وَالخَوَاتِم فِي ثَوبِ بِلال".
(*) ليس في "النسخ الثلاث المخطوطة"، والسياق يقتضيها، وهي في الموطأ.
بأن الخاتم لم يزل في يد النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، وفي يد أبي بكر وعمر حتى ماتا، وفي يد عثمان حتى وقع منه في بئر أريس، وهذه المداومة تدل عَلَى مشروعيته، وبما في حديث بريدة "أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَأَى فِي يَدِ ذَلِكَ الرَّجُلَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ:«مَا لِي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الأَصْنَامِ» .
ثم قال له: «اتَّخِذْهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى مِثْقَالٍ» .
أخرجه أحمد (1) والنسائي (2) والترمذي (3) والبزار في "مسنده". وهذا أمرٌ أقل أحواله الندب.
ويروى من طريق عمر بن هارون، عن يونس، عن الزهري عن أنس أن النيي صلى الله عليه وسلم قال:«أُمِرْتُ بِالنَّعْلَيْنِ وَالْخَاتَمِ» .
أخرجه الطبراني في "المعجم الصغير"(4).
وروينا من طريق نعيم بن سالم بن قيس قال: سمعت أنسًا يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (5) قال: "النعل والخاتم"(6).
وذهبت طائفة إِلَى كراهة الخاتم إلا لذي سلطان، واحتجوا بالحديث الَّذِي
(1)(5/ 359).
(2)
(8/ 172).
(3)
برقم (1785) وقال: هذا حديث غريب. وأخرجه أبو داود أيضاً (4223).
(4)
(1/ 166) وقال: لم يروه عن الزهري إلا يونس. ولا عن يونس إلا عمر بن هارون، تفرد به أبو حبيب عن سعيد بن يعقوب.
وأخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 203) وقال: عمر متروك، تركه ابن مهدي وأحمد، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المعضلات ويدعي شيوخًا لم يرهم.
(5)
الأعراف: 31.
(6)
أورد نحوه السيوطي في "الإتقان"(2/ 510) وقال: أخرج ابن مردويه وغيره بسند ضعيف عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال: صلوا في نعالكم.
رواه الإمام أحمد في "المسند"(1) وأبو داود (2) والنسائي (3) من حديث الهيثم ابن شفي عن صاحب له عن أبي ريحانة "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن (لُبُوسِ) (*) الْخَاتَمِ إِلَّا لِذِي سُلْطَانٍ".
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلبس الخاتم لُبس تجمل وتزين به كالرداء والعمامة والنعل، وإنَّما اتخذه لحاجة ختم الكتب التي يبعثها إِلَى الملوك، كما في حديث أنس «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَالنَّجَاشِيِّ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ كِتَابًا إِلَّا بِخَاتَمٌ: فَصَاغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا حَلْقَتُهُ فِضَّةً، وَنَقَشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ» (4).
وأبو بكر إِنَّمَا لبسه بعده لأجل ولايته، فإنَّه كان يحتاج إِلَيْهِ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إِلَيْهِ، وكذلك عمر إِنَّمَا لبسه بعد أبي بكر لهذه المصلحة، وكذلك عثمان رضي الله عنهم.
وحكى ابن عبد البر عن طائفة من العُلَمَاء أنهم كرهوا لبسه مطلقًا، احتجاجًا بحديث أنس "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نبذه ولم يلبسه".
وقد رُوي "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَخْتِمُ بِهِ وَلَا يَلْبَسُهُ". كما رواه الترمذي في "الشمائل"(5) ثنا قتيبة، ثنا أبو عوانة عن أبي بشر، ثنا نافع عن ابن عمر "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَكَانَ يَخْتِمُ بِهِ وَلَا يَلْبَسُهُ".
(رواه)(**) النسائي أيضًا (6)، ويؤيد هذا ما في الصحيحين (7) عن الزهري عن أنس «أَنَّهُ رَأَى فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ يَوْمًا وَاحِدًا، ثُمَّ إِنَّ
(1)(4/ 134).
(2)
برقم (4049) وقال أبو داود: الذي تفرد به من هذا الحديث ذكر الخاتم.
(3)
برقم (5106).
(*) لبس: "نسخة". والمثبت من المصادر الثلاثة الذين أخرجوا الحديث.
(4)
أخرجه البخاري (5873، 5875)، ومسلم (2092).
(5)
برقم (83).
(6)
(8/ 195).
(7)
أخرجه البخاري (5868)، ومسلم (2093).
(**) فرواه: "نسخة".
النَّاسَ اصْطَنَعُوا الخَوَاتِيمَ مِنْ وَرِقٍ وَلَبِسُوهَا، فَطَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ».
والصواب: القول الأول، فإن لبس النبي صلى الله عليه وسلم للخاتم إِنَّمَا كان في الأصل لأجل مصلحة ختم الكتب التي يرسلها إِلَى الملوك، ثم استدام لبسه، ولبسهُ أصحابه معه، ولم ينكره عليهم، بل أقرهم عليه، فدل ذلك عَلَى إباحته المجردة.
فأما ما جاء في حديث الزهري عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم لَبِسَهُ يَوْمًا وَاحِدًا ثُمَّ أَلْقَاهُ". فقد أجيب عنه بثلاثة أجوبة:
أحدها: أنَّه وهم من الزهري وسهو جرى عَلَى لسانه بلفظ الوَرِق، وإنَّما الَّذِي لبسه يومًا ثم ألقاه كان من ذهب، كما ثبت ذلك من غير وجه من حديث ابن عمر وأنس أيضًا، وسنذكره إِنَّ شاء الله تعالى. ويدل عَلَى هذا إخبار ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لبسه وكان في يده، وكذلك أنس، وإنَّما نُسبَ السهو إِلَى الزهري هاهنا؛ لأنّه رواه عنه كذلك يونس بن يزيد، وإبراهيم بن سعد، وزياد بن سعد، وشعيب، وابن هشام، وكلهم قالوا: من وَرِق.
قلت: رُوي عن زياد بن سعد وعبد الرحمن بن خالد بلفظة: "من ذهب"، وسنذكره.
الثاني: أن الخاتم الَّذِي رمى به النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كله من فضة، وإنَّما كان (من حديد)(*) عليه فضة، وهذا الجواب ظاهر ما ذكره أحمد في رواية أبي طالب "كان للنبي صلى الله عليه وسلم خاتم من حديد عليه فضة فرمى به، فلا يصلى في الحديد والصُّفر". وهذا الَّذِي قاله أحمد من خاتم الحديد. قد رواه أبو داود (1) والنسائي (2) من حديث إياس بن الحارث بن
(*) حديدًا: "نسخة".
(1)
برقم (4224).
(2)
برقم (5220).
معيقيب {عن جده} (1) وكان عَلَى خاتم النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَ خَتمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيدٍ مَلْوِيٌّ عَلَيْهِ بِفِضَّةٌ» .
إياس لم يرو عنه إلا نوح بن ربيعة، فلعل هذا هو الَّذِي لبسه يومًا واحدًا ثم طرحه كما قال أحمد، ولعله هو الَّذِي كان يختم به ولا يلبسه، كما جاء في حديث ابن عمر الَّذِي رواه الترمذي في "شمائله" إِن ثبت.
وروى أبو جعفر بن جرير فى "أسماء من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل" حدثنا عمر بن شبة، ثنا أحمد ثنا إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد القرشي عن أبيه سعيد بن عمرو، عن خالد بن سعيد أنَّه "أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ فَقَالَ: مَا هَذَا الْخَاتَمُ في يدك يا خالد؟ قال: خاتم من حديد.
قال: اطرحه إليَّ فإذا بخاتم من حديد قد لوي عليه فضة. فقال: ما نقشه؟ قال: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم، فتختم حتى مات" (2).
الثالث: إِن طرحه إِنَّمَا كان لئلا يظن أنَّه سنة مسنونة، فإنهم اتخذوا الخواتيم لما رأوه قد لبسه، فتبين بطرحه أنَّه ليس بمشروع ولا سنة، وبقي أصل الجواز بلبسه.
وقد أجيب أيضاً عنه بأن طرحه كان زجرًا للناس عند اصطناعهم الخواتيم، لئلا يتشبه المفضول بالفاضل والرعية بالإمام، ولكن هذا يعود إِلَى كراهة لبسه لغير الإمام ..
وأجيب أيضاً بأن طرحه كان بسبب نقش الناس عَلَى نقشه، لنهيه عن ذلك. وعلى هذا فلا يلزم من طرحه ذلك اليوم استدامة طرحه، فإن هذا مخالف للأحاديث المستفيضة.
وروى ثمامة عن أنس قال: كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم من فضة وفصه منه
(1) سقط من الناسخ فالحديث من رواية الحارت بن معيقيب عن جده معيقيب.
(2)
وأخرجه الطبراني في الكبير (4/ 4118)، والحاكم (3/ 279) من طريق إسحاق بن سعيد به وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وذكره الهيثمي في المجمع (5/ 152) وقال: رواه الطبراني وفيه: يحيى بن عبد أحمد الحماني وهو ضعيف.
نقشه ثلاثة أسطر: سطر محمد، وسطر رسول، وسطر الله، وكان في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض وفي يد أبي بكر وفي يد عمر، وفي يد عثمان، فبينا هو قاعد عَلَى بئر أريس إذ سقط منه في البئر، فنزح ماه البئر فلم يقدر عليه. وفي رواية (1):"وفي يد عثمان ست سنين". وأصله في البخاري (2).
وقد جاء حديث مبين فيه سبب طرحه.
قال المروذي في كتاب "الورع"(3): قرأت عَلَى أبي عبد الله ثنا عثمان بن عمر، ثنا مالك بن مغول، عن سليمان الشيباني، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:"اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا فلبسه فَقَالَ: شغلني هذا عنكم منذ اليوم، إِلَيْهِ نظرة وإليكم نظرة، ثم رمى به".
ورواه ابن عدي (4) من جهة عن عبد الله بن محمد بن المغيرة عن مالك بن مغول في جملة أحاديث، وقال: هذه الأحاديث عن مالك عامتها مما لا يتابع عليه، {وعبد الله محمد بن المغيرة} (5) مع ضعفه يكتب حديثه.
قلت: هذا قد توبع عليه إلا أن ابن المغيرة خالف في إسناده.
وأما حديث بريدة الَّذِي فيه: "اتخذه من فضة". فسنذكره إِن شاء الله تعالى، ونبين ضعفه، وأن أحمد استنكره، ولو ثبت لم يكن حجة، فإنَّه لما نهاه عن خاتم الذهب والحديد سأله مما أتخذه؟ قال: اتخذ من فضة. فلم يأمره أمر ندب، وإنَّما هو أمر إرشاد إِلَى ما يتخذ منه خاتمه. وأيضًا فهو من جنس الأمر بعد الحظر، فإنَّه لما نهاه عن الخاتم من نوعين فرآه عليه منهما، فنهاه عنهما، وامره به من نوع ثالث.
وأما حديث "أمرت بالخاتم والنعلين" فلا يثبت فإن عمر بن هارون
(1) أخرجها ابن أبي عاصم في "السنة"(1144).
(2)
برقم (5878 - 5879).
(3)
برقم (285)، وأخرجه النسائي (8/ 194)، وفي "الكبرى"(9543)، وأحمد (1/ 322).
(4)
في الكامل (4/ 219) من حديث ابن عمر.
(5)
في الثلاث نسخ الخطية: "محمد بن المغيرة" والصواب ما أثبته. وقد ذكره ابن رجب في إسناد ابن عدي عَلَى الصواب وانظر الكامل لابن عدي (4/ 217 - 220).