الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يرمي إلا بمثل ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم "بمثل حصى الحذف"(1). قِيلَ لَهُ: فإن رمى من غير تلك الحجارة. فَقَالَ: يرمي بمثل ما أمر الحاج.
فلم يعلل المنع إلا بأنّ الفص ليس مثل حصى الخَذَف الَّذِي أمر بالرمي به، وهذا يقتضي أنَّه لو كان كبيرًا كحصى الخذف لأجزأ.
ونصُّه هذا يدل عَلَى أنَّه لا يجزئ ما دون حصى الخذف، وكذلك رُوي عنه في الحَجَر الكبير ما يقتضي أنَّه لا يجزئ أيضاً.
وللأصحاب وجهٌ آخر بإجزاء الصغير والكبير. وأما القاضي فإنَّه ذكر في "خلافه" قصة سُكينة بنت الحسين رضي الله عنهما وأنها رمَت بستة أحجارٍ فأعوَزَها سابعٌ فرمت بخاتمها. وأجاب عنها بجوابين.
أحدهما: أن الفرض يسقط بالست، فالسابع غير واجب بناءً عَلَى قولنا أن الست مجزئة.
والثاني: أنَّه قد قيل يحتمل أن يكون فَصُّهُ حجرًا فاعتدت بذلك، والخواتيم لا تخلو من فَصٍّ. هذا لفظه في الثاني.
فصل [في حكم بيع الخواتم]
ومن ذلك: بيع الخواتيم. ولها صورتان:
إحداهما: أن يكون الخاتم من فضة، وفصه غير فضة.
أو يكون الخاتم غير فضة، وهو مُحلى بفضة، ويباع بالدراهم.
فهذا من فروع المسألة الملقبة بـ "مد عجوة". وفيها طريقان للأصحاب:
أحدهما: وهو المشهور عن المتأخرين كالقاضي وأصحابه أن فيها روايتين أصحهما: البُطلان بكل حال، كقول الشافعي.
ولمالك تفصيلٌ بين الثُّلث وغيره، ولأحمد نصوصٌ في المنع لصورة الخاتم بفُصوصه حتى يُفصَلَ، في رواية ابن منصور، والحسن بن ثواب، وأحمد ابن القاسم، وحنبل، وأبي طالب، والأثرم.
(1) أخرجه مسلم (1218، 1282، 1299).
والثانية: الجواز بشرط أن تكون الدراهم المشترى بها أكثر من الفضة التي في الخاتم، ليكون بقية الثم مقابلاً لما فيه من غير الفضة.
وهو قول أبي حنيفة. والأولى هي المذهب عندهم لما في "صحيح مسلم"(1) عن فضالة بن عبيد قال:
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا حَتَّى يميز بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ» .
قال: "فرده حتى ميز بينهما". رواه أبو داود (2) وهذا لفظه. وأصل الحديث في صحيح مسلم، وكذا النسائي (3)، والترمذي (4) وصححه.
وأهلُ القول الثاني يجيبون عنه بأن مسلمًا رواه في "صحيحه"(5) مصرحًا ولفظه.
"اشتريت قلادةً يوم خيبر باثني عشر دينارًا فيها ذهب وخرز، فَفَصَّلتُها (6)، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "لا تباع حتى تُفَصَّلَ".
وفي لفظ له أيضاً (7): "فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الَّذِي في القلادة فَنُزِعَ وَحْدَهُ ، ثُمَّ قَالَ لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ» .
(1) برقم (1591) بنحوه.
(2)
برقم (3351).
(3)
برقم (4587).
(4)
برقم (1255) وقال: حسن صحيح.
(5)
برقم (1591/ 90).
(6)
أي: ميزت ذهبها وخرزها.
(*) لا يباع: "نسخة".
(7)
برقم (1591/ 89).
فهذا صريح بأنَّ الذهب الَّذِي في القلادة كان أكثر من الدنانير التي اشتريت به، ومثل هذا لا يجوز بلا ريب. ولو لم يكن الذهب مقصودًا؛ لأن قيام المقضي للمنع لا يزيله قصد غيره.
واستدل المجيزون أيضاً بقوله: "حتى يُفَصَّلَ" وما بعد الغاية مخالفٌ لما قبلها، فدلَّ عَلَى أنَّه يجوزُ بيعهُ بعد التفصيل، والعلم إذا اقتضى ذلك النقد بجنسه وزنًا بوزن، وهو الَّذِي جزم به أبو بكر في "التنبيه".
والثاني: الجواز، وهو الَّذِي ذكره التميمي في خصاله.
ومأخذ الخلاف هو الخلاف في بيع الجنس بغيره جزافًا.
وقال الشيرازي: الأظهر المنع، ويشهد لهذه الرواية من كلام أحمد ما روى عنه البرزاطي قال: قيل لأحمد: رجلٌ كانت معه مائة درهم فضة جياد، فأضاف إليها مائة درهم نحاس، وصاغها حلية لنفسه، ثم احتاج إِلَى بيع ذلك. هل يجوز أن يبيع ذلك بمائة درهم الفضة التي كانت فيه؟
قال: لا يجوز بيع ذلك كله بالفضة، ولا بالذهب، ولا بوزنه من الفضة والنحاس، ولا يجوز بيعه حتى يخلص الفضة من النحاس، ويبيع كل واحد منهما وحده.
والطريقة الثانية: وهي طريقة القدماء من الأصحاب كأبي بكر، وابن أبي موسى، ومن تابعهما أنَّه لا يجوز شراء المُحلَّى بجنس حليته قولاً واحدًا، وفي شرائه بنقد آخر روايتان، أصحُّهُما عندهم: المنع أيضًا،
وهو الَّذِي جَزَم به أبو بكر، وعللوه بأنه لو بان مستحقًا وقد استهلك لم يدر بما يرجع عَلَى صاحبه.
وقد يشكل فَهْمُ هذا وتوجيه هذه الطريقة عَلَى كثير من الناس.
ووجهُها: أنَّ بيعَ المُحلَّى بجنسه قبل التمييز والفصل بينه وبين جنسه يؤدي إِلَى الربا؛ لأنّه بيعٌ ربويٌّ بجنسه من غير تحقُّق مساواة؛ لأنّ بعض
الثمن مقابل العرض، فيبقى الباقي مقابلاً للربوي، ومع الجهل بمقداره لا يتحقق التساوي بينه وبين ما قابله من الثمن، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل.
وأما بيعُه بنقد آخر، فإن أجزناه فلأن بيع أحد النقدين بالآخر لا يعتبر فيهما التساوي، فلا يضُرُّ الجهل بهما أو بأحدهما، وإن منعناه فلأنه يؤدي إِلَى أن تستحق الحلية عَلَى المشتري وقد استهلكت عنده، فيضمنها لصاحبها ثم يريد أن يرجع عَلَى البائع بحصتها من الثمن، فلا يدري بم يرجع عليه؛ لأنّ الثمن (يتقسط)(*) هاهنا بالقيمة فيفضي إِلَى الربا؛ لأنّه قد يأخذ منه أقل من تلك الفضة أو أكثر. وهذا يشبه ما نص عليه أحمد في المنع من بيع أحد النقدين بالآخر جزافًا، وهو الَّذِي ذكره أبو بكر، وابن أبى موسى أيضاً، والقاضي في "خلافه" وعللوه بأنه لو استحقَّ أحدُهُما لم يدر بم يرجع عَلَى صاحبه فيؤدي إِلَى الربا من جهة العقد، وهو ضعيف، فإنَّه إذا بانَ مستحقًّا تبينا أنَّه لا عقد فيه البتة، وإنَّما دفع إِلَيْهِ نقدًا عَلَى وجه المعاوضة ولم يأخذ منه عوضهُ فيصالحُه عنه، كما لو أتلف له فضَّةَ أو ذهبًا لا يُعلمُ مقدارُه، ويشبه هذا اشتراط العِلْم برأس مال السَّلَم، وضبط صفاته، وأنه إذا أسلم في جنسين لم يجز حتى يبين قسط كل واحد منهما، فإنَّ ذلك سلم وهذا صرف، وأحكامها متشابهة في الجملة. فهذا الَّذِي ذكره ابن أبي موسى وغيره في بيع العرض المحلى بنقد، فأما مع تمييز الربوي ومعرفة مقداره، فإنما منع مما يظهر فيه وجه (الحلية)(**) كبيع عشرة دراهم مكسرة بثمانية صحاح، وفلسين أو ألف صحاحًا بألف مكسرة، وثوب أو ألفٍ صحاحًا ودينار بألف ومائة مكسرة.
والطريقة الأولى أشهر وأوجه.
ومتى كان الخاتم من غير النقدين وهو مموَّه بالفضة أو بالذهب تمويهًا يسيرًا تافهًا لا يتحصل منه شيءٌ، فهو كتزويق الدار، فيجوز بيعهُ بجنس حليته في
(*) يسقط: "نسخة".
(**) الحلية: "نسخة".
هذه الحال، ويباحُ لبسُ هذا المموَّه بالذهب عَلَى هذه الصفة وجهًا واحدًا. قاله بعض أصحابنا.
الصورة الثانية: أن يكون الخاتم غير فضة وهو محلى بفضة، فذهب بعض أهل العِلْم إِلَى أنَّه لا يجوز بيعهُ بنقد من جنسه أزيد منه إلا وزنًا. وهو مذهبُنا {
…
} (*) وأبي حنيفة وغيرهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ"(1).
قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبادة وغيره. ولهذا أنكر عبادةُ بيعَ الأواني من النقود بجنسها، واستدلَّ بهذا الحديث.
وقد ورد في "سنن أبي داود"(2) في حديث عبادة زيادة وهي: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا» .
وقد روى مالك في "الموطأ"(3) فيه حديثًا مرفوعًا عن ابن عمر أن صائغًا سأله عن ذلك فنهاه ابن عمر، وقال:"هذا عهد نبينا {إلينا، وعهدنا إليكم} "(**).
وقال الشافعي، والدارقطني: إِنَّمَا هو عهد صاحبنا يعني: عمر، وهو أصح. وحكى عن مالك جواز بيع المضروب بقيمته من جنسه، وأنكر أصحابه ذلك عن، وحكي أيضاً عن بعض السَّلف، واختاره الشيخ أبو العباس ابن تيمية؛ لأنَّ الصياغة فيها متقومة فلابد من مقابلتها بعوض، فإنَّ في إجبار الناس عَلَى بذلها مجانًا ظلم فلا يؤمر به، ولأنها قد خرجت بالصياغة عن حيز النقود إِلَى السلع المتقومة.
(*) بياض بالنسخ الثلاث، وكتب في هامش الأصل:"هذه البياضات الثلاثة أصلها مهربة لا يعرف ما هي في نسخة الأصل المنقولة منه هذه"، فليعلم.
(1)
أخرجه مسلم (1587/ 81).
(2)
برقم (3349).
(3)
باب بيع الذهب بالفضة تبرًا وعينًا من كتاب البيوع برقم (31).
(**) في الأصل: عن ذلك فنهانا، والتصويب منا "الموطأ"(ص 633) طبعة محمد فؤاد عبد الباقي.