الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسبب هذا أن العباد مُقصرون عن القيام بحقوق الله كما ينبغي، وأدائها عَلَى الوجه اللائق بجلاله وعظمته، وإنما يؤدونها عَلَى قدر ما يطيقونه، فالعارف يعرف أن قدر الحق أعلى وأجلُّ من ذلك فهو يستحي من عمله ويستغفر من تقصيره فيه كما يستغفر غيره من ذنوبه وغفلاته، وكلما كان الشخصُ بالله أعرف كان له أخوف، وبرؤية تقصيره أبصر. ولهذا كان خاتم المرسلين وأعرفُهم برب العالمين صلى الله عليه وسلم يجتهد في الثناء عَلَى ربه، ثُمَّ يقول في آخر ثنائه:"لا أحصي ثناء عليك أنت، كما أثينت عَلَى نفسك"(1).
ومن هذا قول مالك بن دينار: لقد هممتُ أن أوصي إذا متُّ أن أقيد، ثُمَّ يُنطلقُ بي كما ينطلق بالعبد الآبق إِلَى سيده، فَإِذَا سألني قلت: يا رب، لم أرض لك نفسي طرفةَ عين.
وكان كهمس يصلي كل يوم ألف ركعة، فَإِذَا صلى أخذ بلحيته، ثُمّ يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء، فوالله ما رضيتُك لله طرفة عين.
فائدة:
الاستغفارُ يردُ مجردًا، ويردُ مقرونًا بالتوبة، فإن ورد مجردًا دخل فيه طلب وقاية شر الذنب الماضي بالدعاء، والندم عليه، وقاية الذنب المتوقع بالعزم عَلَى الإقلاع عنه.
وهذا الاستغفار الَّذِي يمنعُ الإصرار بقوله: «مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَلَوْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةٍ» (2). وبقوله: "لا صغيرةَ مع الإصرارِ، ولا كبيرةَ مع الاستغفار"(3) خرَّجهما ابن أبي الدُّنْيَا.
(1) أخرجه أبو داود (879)، والنسائي (169)، وابن ماجه (3841)، وأحمد (6/ 21).
(2)
أخرجه أبو داود (1514)، والترمذي (3559).
(3)
أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"(853).
وكذا في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1)، وفي "الصحيح" (2): "إذ أذنب عبدٌ ذنبًا
…
" الحديث.
وهو المانع من العقوبة في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (3)، وإن ورد مقرونًا بالتوبة اختص بالنوع الأول، فإن لم يصحبه الندم عَلَى الذنب الماضي، بل كان سؤالاً مجردًا فهو دعاء محض، أن صحبه ندمٌ فهو توبةٌ.
والعزمُ عَلَى الإقلاع من تمام التوبة، والتوبة إذا قُبلت فهل تقبل جزمًا أم ظاهرًا؛ فيه خلاف معروف.
فيقال: الاستغفار المجرد هو التوبة مع طلب المغفرة بالدعاء، والمقرون بالتوبة هو طلب المغفرة بالدعاء فقط.
وكذلك التوبة إِن أطلقت دخلَ فيها الانتهاء عن المحظور، وفعل المأمور؛ ولهذا علق الفلاح عليها، وجعل من لم يتب ظالمًا. فالتوبة حينئذٍ تشمل فعل كل مأمور، وترك كل محظور، ولهذا كانت بداية العبد ونهايته، وهي حقيقة دين الإسلام.
وتارة تُقرنُ بالتقوى، أو بالعمل فتختص حينئذ بترك المحظور، والله أعلم.
وفي فضائل الاستغفار أحاديث كثيرة منها:
حديث: "جلاء القلوب تلاوةُ القرآن والاستغفار"(4).
(1) آل عمران: 135.
(2)
أخرجه البخاري (7507)، ومسلم (2758).
(3)
الأنفال: 33.
(4)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 197)، والخطيب في "التاريخ" (11/ 85) عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ:"إِنَّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قالوا: يا رسول الله، فما جلاؤها؟ قال: قراءة "القرآن".
وأخرجه ابن عدي في "الكامل"(7/ 29) عن أنس مرفوعًا بلفظ: "إِنَّ للقلوب صدأ كصدأ الحديد وجلاؤها الاستغفار".
وحديث. "فإن تاب واستغفرَ ونَزَعَ صقلَ قلبُهُ"(1)
وحديث: "يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي"(2).
وحديث ابن عمر: "كُنَّا نَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فِي الْمَجْلِسِ الوَاحِدِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إنَّك أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ مِائَةَ مَرَّةٍ"(3).
وحديث أبي هريرة مرفوعًا: «إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ» خرَّجه البخاري (4).
ومن حديثه مرفوعًا: «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ» خرَّجه مسلم (5).
وفي "المسند"(6) من حديث عطية، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ؛ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غَفَرَ {اللَّهُ} (7) لَهُ ذُنُوبَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ رَمْلِ عَالِجٍ (8)، وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ وَرَقِ الشَّجَرِ".
وحديث: "مَنِ أكْثَرَ مِنَ الاسْتِغْفَارِ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا" خَرَّجَهُ
(1) أخرجه الترمذي (3334) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في "الكبرى"(6/ 110) وابن ماجه (4244)، وأحمد (2/ 297).
(2)
أخرجه الترمذي (3540). وقال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(3)
أخرجه أبو داود (1516)، والترمذي (3434)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
والنسائي في "الكبرى"(10251/ 5)، وابن ماجه (3814)، وأحمد (1/ 21).
(4)
برقم (6307).
(5)
برقم (2749).
(6)
أخرجه أحمد (3/ 10)، والترمذي (3397)، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الوصافي عبيد الله بن الوليد.
(7)
سقط لفظ الجلالة من "الأصل"، "أ". والمثبت من "المسند".
(8)
هو ما تراكم من الرمل ودخل بعضه في بعض. "لسان العرب" مادة: (علج).
أحمد (1) من حديث ابن عباس ويعضده قوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (2)، وقوله:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} (3).
قال رياح القيسي: لي نيفٌ وأربعون ذنبًا، قد استغفرتُ لكل ذنب مائة ألف مرة.
وقال الحسن: لا تملُّوا من الاستغفار.
وقال بكر المُزني: إِنَّ أعمال بني آدم ترفع فَإِذَا رُفعت صحيفةٌ فيها استغفار رُفعت بيضاء، وإذا رُفعت ليس فيها استغفار رفعت سوداء.
وعن الحسن قال: أكثروا من الاستغفار في بُيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طُرُقكم، وفي أسواقكم، فإنكم ما تدورن متى تنزل المغفرة.
قال لقمان لابنه: أيْ بُنيَّ عوّد لسانَكَ: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يردّ فيها سائلاً.
ورئي عمر بن عبد العزيز في النوم فقِيلَ لَهُ: ما وجدت أفضل؟ قال: الاستغفار.
…
(1)(1/ 248).
(2)
نوح: 10.
(3)
هود: 3.
تفسير سورة الإخلاص
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه وسلم.
قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "الكلام عَلَى سورة الإخلاص".
وفي موضع نزولها قولان: أحدهما أنها مكية.
والثاني: مدنية، وذلك في فصول في فضائلها وسبب نزولها وتفسيرها.
أمَّا فضائلها فكثيرة جدًّا؛ منها: أنها نسبة الله عز وجل.
خرَّج الطبراني (1) من طريق عثمان بن عبد الرحمن الطرَائفي، عن الوازع ابن نافع، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل شيء نسبة، ونسبة الله: {قل هو الله أحد * الله الصمد}، ليس بأجوف".
الوازع ضعيف جدًّا، وعثمان يروي المناكير، وسيأتي في سبب نزولها ما يشهد.
ومنها: أنَّها صفة الرحمن، وفي "صحيح البخاري ومسلم" (2) من حديث عَائِشَةَ:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، فَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِـ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؛ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ» .
ومنها: أن حبها يوجب محبة الله، لهذا الحديث المذكور آنفًا، ومنه قول ابن مسعود:"من كان يحبُّ القرآن فهو يحبُّ الله"(3).
ومنها: أن حبها يوجب دخول الجنة؛ ذكره البخاري في "صحيحه" تعليقًا (4) وقال: عبيد الله عن ثابت عن أنس قال: "كان رجل من الأنصار
(1) في "الأوسط"(732) وقال: لا يروى هنا الحديث عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد،
تفرد به عبد الرحمن بن نافع.
(2)
أخرجه البخاري (7375)، ومسلم (813).
(3)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(9) برقم (8656).
(4)
برقم (741).
يؤمهم في مسجد قباء، وكان كلما أفسح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بـ "قل هو الله أحد" حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة"، وذكر الحديث وفيه: "فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: يا فلان، ما حملك عَلَى لزوم هذه السورة في كل ركعة؛ فَقَالَ: إني أحبها.
فَقَالَ: حبك إياها أدخلك الجنة".
وخرّجه الترمذي في "جامعه"(1) عن البخاري، عن إسماعيل بن أبي أويس عن الدراوردي، عن عبيد الله بن عبد الرحمن، عن عبيد الله بن عمر، وغَرَّبهُ، وقال: روى مبارك بن فضالة، عن ثابت، عن أنس "أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أحبّ هذه السورة:"قل هو الله أحد" فَقَالَ: إِنَّ حبك إياها أدخلك الجنة".
وقد خرّجه أحمد في "المسند"(2) عن أبي النضر، عن مبارك بن فضالة به.
وروى مالك عن عبيد الله بن عبد الرحمن، عن عبيد بن حنين قال: سمعت أبا هريرة يقول: "أقبلت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فسمع رجلاً يقرأ: "قل هو الله أحد" فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجبت. قلت: وما وجبت؟ قال: الجنة".
وأخرجه النسائي والترمذي (3) وقال: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث مالك.
وروى أبو نعيم من طريق عمرو بن مرزوق، عن شعبة، عن مهاجر: سمعت رجلاً يقول: "صحبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فسمع رجلاً يقرأ: "قل يا أيها الكافرون"، فَقَالَ: قد برئ من الشرك. وسمع آخر يقول: "قل هو الله أحد" فَقَالَ: غفر له"(4).
(1) برقم (2901).
(2)
(3/ 141، 150).
(3)
أخرجه النسائي (2/ 171)، والترمذي (897).
(4)
وأخرجه الدارمي (2/ 458، 459)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (704) وغيرهما.
ومنها: أنها تعدل ثلث القرآن ففي "صحيح البخاري"(1)، من حديث أبي سعيد أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ:"قل هو الله أحد" يرددها، فلما أصبح جاء إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له -وكان الرجل يتقالها- فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن". وقد روي عن أبي سعيد عن أخي قتادة بن النعمان (2).
وفي "صحيح البخاري"(3) أيضاً من طريق الأعمش، عن إبراهيم النخعي والضحاك المشرقي، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يارسول الله؟ فَقَالَ: الله الواحد الصمد ثلث القرآن".
وفي "المسند"(4) من طريق ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد قال:"بات قتادة بن النعمان يقرأ الليل كله بـ "قل هو الله أحد" فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: والذي نفسي بيده لتعدل نصف القرآن أو ثلثه".
وفي "المسند"(5) أيضاً من طريق ابن لهيعة: حدثنا حيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو:"أن أبا أيوب الأنصاري كان في مجلس وهو يقول: ألا يستطيع أحدكم أن يقوم بثلث القرآن كل ليلة؟ فقالوا: وهل يستطيع ذلك أحد؟ قال: فإن "قل هو الله أحد" ثلث القرآن، قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسمع أبا أيوب، فَقَالَ: صدق أبو أيوب.
وروى يحيى بن سعيد عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم -قال الترمذي: اسمه سلمان- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن. فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم
(1) برقم (5013، 6643، 7374).
(2)
برقم (5014).
(3)
برقم (5015). قال البخاري: عن إبراهيم مرسل، وعن الضحاك المشرقي مسند.
(4)
(3/ 15).
(5)
(2/ 173).
فقرأ: "قل هو الله أحد"، ثم دخل. فَقَالَ بعضنا لبعض: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن، إني لأرى هذا خبرًا جاءه من السماء. ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن". أخرجه مسلم (1).
وروى الإمام أحمد (2) عن عبد الرحمن بن مهدي، عن زائدة بن قدامة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن الربيع بن خثيم، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن امرأة من الأنصار، عن أبي أيوب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ فإنه من قرأ: "قل هو الله أحد الله الصمد" في ليلة فقد قرأ ليلتئذ ثلث القرآن". ورواه النسائي والترمذي عن بندار (3).
وروى الترمذي (4) عن قتيبة أيضًا عن ابن مهدي فهو لهما عُشاري، ولأحمد تساعي، وفي رواية الترمذي عن امرأة أبي أيوب عن أبي أيوب به، وذكر اختلافًا في إسناده.
وروى أحمد (5) عن هشيم، عن حصين، عن هلال بن يساف، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب -أو رجل من الأنصار- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ قل هو الله أحد" فكأنما قرأ بثلث القرآن" ورواه النسائي في "اليوم والليلة" (6) من طريق هشيم، عن حصين، عن ابن أبي ليلى به من غير ذلك هلال بن يساف.
(1) برقم (812). وأخرجه الترمذي (2900) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
(2)
في "المسند"(5/ 418/419).
(3)
أخرجه النسائي (2/ 172)، والترمذي (2896).
(4)
برقم (2896). قال الترمذي: هذا حديث حسن، ولا نعرف أحدًا روى هذا الحديث أحسن من رواية زائدة، وتابعه عَلَى روايته إسرائيل والفضيل بن عياض. وقد روى شعبة وغير واحد من الثقات هذا الحديث عن منصور واضطربوا فيه.
(5)
في "المسند"(5/ 141).
(6)
برقم (686).
وروى الإمام أحمد (1) أيضاً عن وكيع، عن سفيان، عن أبي قيس، عن عمرو بن ميمون، عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" ورواه ابن ماجه (2) والنسائي في "اليوم والليلة"(3) من طرق، وفي بعض طرقه وقفه.
ورواه أبو نعيم (4) من طريق مسعر، عن أبي قيس، عن عمرو بن ميمون، عن أبي مسعود الأنصاري كذا قال!
ومن طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن ابن مسعود.
وروى أبو نعيم من طريق علي بن عاصم، عن حصين، عن هلال بن يساف، عن ربيع بن خثيم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من قرأ: "قل هو الله أحد" في يوم وليلة ثلاث مرات كانت تعدل ثلث القرآن".
ورواه شعبة، عن علي بن مدرك، عن إبراهيم النخعي، عن الربيع بن خثيم، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو نعيم، حدثنا إبراهيم بن محمد بن يحيى، ثنا أحمد بن حمدون ابن رستم، ثنا علي بن إشكاب، ثنا شجاع بن الوليد، ثنا زياد بن خيثمة، عن محمد بن جحادة، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"قل هو الله أحد ثلث القرآن". قال إبراهيم: هكذا حدثني به وكتبه لي بخطه، وإنما يحفظ الإسناد قراءة يس.
وروى يوسف بن عطية الصغار، ثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ "قل هو الله أحد" فكأنما قرأ ثلث القرآن، وكتب له من الحسنات بعدد من أشرك بالله وآمن به".
(1) في المسند (4/ 122).
(2)
في "السنن"(3789).
(3)
برقم (693).
(4)
في "الحلية"(4/ 154) وفي إسناده اختلاف عَلَى عمرو بن ميمون ذكره أبو نعيم، فراجعه إِنَّ شئت.
وفي "صحيح مسلم"(1) من طريق قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أيعجز أحدكم أن يقرأ كل يوم ثلث القرآن؟ قالوا نعم. قال: إِنَّ الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فقل هو الله أحد ثلث القرآن".
وروى أمية بن خالد، عن ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن امه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل هو الله أحد ثلث القرآن". رواه أحمد (2) والنسائي في "اليوم والليلة"(3).
ورواه أيضاً من طريق مالك، عن الزهري، عن حميد من قوله. ورواه أيضاً (4) من طريق ابن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن الزهري، عن حميد أن نفرًا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حدثوه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن لمن صلى بها".
وروى الحافظ أبو يعلى (5) عن قطن بن نُسير، عن عبيس بن ميمون، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أما يستطيع أحدكم أن يقرأ: "قل هو الله أحد" ثلاث مرات في ليلة، فإنها تعدل ثلث القرآن" إسناده ضعيف.
ويستدل به عَلَى أنَّ المراد بكونها تعدل ثك القرآن أجره وثوابه، كما يستدل بحديث أبي الدرداء المتقدم عَلَى أنها جزء التوحيد من القرآن، وأئه ثلاثة أجزاء: توحيد، وتشريع، وقصص.
ومنها: أن قراءتها تكفي من الشر وتمنعه، وقد ثبت في "صحيح البخارى (6).
(1) برقم (811) من حديث أبي الدرداء. وفيه: "يقرأ في ليلة
…
".
(2)
في "المسند"(6/ 403 - 404).
(3)
برقم (695).
(4)
في "عمل اليوم والليلة"(696).
(5)
برقم (4118). وأخرجه أيضًا (1481، 4136). وقال الهيثمي في "المجمع"(7/ 147): وفيه عبيس بن ميمون، وهو متروك.
(6)
برقم (4729).
عن عائشة "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إِلَى فراشه قرأها مع المعوذتين ومسح ما استطاع من جسده".
وروى أبو داود والترمذي والنسائي (1) من طريق معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:"قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثًا تكفيك كل يوم" وصححه الترمذي.
ورواه النسائي (2) من طريق أخرى عن معاذ، عن عبد الله بن خبيب، عن أبيه، عن عقبة بن عامر مر فذكره ولفظه:"تكفك كل شيء".
وقال البزار في "مسنده"(3) حدثنا إبراهيم الجوهري، ثنا غسان بن عبيد، عن أبي عمران الجوني، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وضعت جنبك عَلَى الفراش، وقرأت فاتحة الكتاب، و"قل هو الله أحد" فقد أمنت من كل شيء إلا الموت".
ومنها: أنها أفضل سور القرآن، فروى الدارمي في "مسنده" (4) عن أبي المغيرة عن صفوان عن أيفع بن عبد الكلاعي قال:"قال رجل: يا رسول الله، أي سور القرآن أعظم؟ قال: قل هو الله أحد".
وفي "المسند"(5) من طريق معاذ بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن عقبة بن عامر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أُعَلِّمُكَ خَيْرَ ثَلَاثِ سُوَرٍ أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَأَقْرَأَنِي: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" "وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ" "وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ" ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عُقْبَةُ، لا تَنْسَهُنَّ وَلا تَبِتِ لَيْلَةً
(1) أخرجه أبو داود (5082)، والترمذي (3575)، والنسائي (8/ 250). قال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
(2)
(8/ 251).
(3)
كما في "كشف الأستار"(4/ 26).
(4)
(2/ 447). نقل الحافظ في "اللسان"(2/ 169) عن أيفع أنه أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: رويناه بعلو في مسند الدارمي. وقد غلط فيه بعضهم فعده في الصحابة، وقد بينته في كتابي الصحابة.
(5)
(4/ 148).
حَتَّى تَقْرَأَهُنَّ».
وروى الترمذي (1) بعض هذا الحديث وحسنّه، ورواه أحمد (2) أيضاً بطوله من طريق أُسيد بن عبد الرحمن الخثعمي، عن فروة بن مجاهد، عن عقبة بن عامر به.
ومنها: أن الدعاء بها مستجاب؛ ففي السنن الأربعة (3) عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه "أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يصلي يدعو يقول: اللهم إني أسالك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد. قال: والذي نفسي بيده، لقد سأله باسمه الأعظم، الَّذِي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعي به أجاب".
وقال الترمذي: حسن غريب.
وفي "المسند"(4) عن محجن بن الأدرع "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فَإِذَا هو برجل قد قضى صلاته وهو يتشهد وهو يقول: اللهم إني أسالك بأنك الواحد الأحد الصمد الَّذِي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، أن تغفر لي ذنوبي، إنك أنت الغفور الرحيم.
فَقَالَ نبي الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: قد غفر له، قد غفر له، قد غفر له".
وقد ورد في تكرير قراءتها خمسين مرة أو أكثر من ذلك، وعشرات المرات عقيب كل صلاة أحاديث كثيرة فيها ضعف، وكذلك حديث معاوية بن معاوية الليثي خرّجه الطبراني (5)، وأبو يعلى (6) من طرق كلها ضعيفة فلم يذكرها.
(1) برقم (2406).
(2)
(5/ 259).
(3)
أخرجه أبو داود (1493، 1494)، والترمذي (3475)، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(2/ 90)، وابن ماجه (3857).
(4)
(4/ 338).
(5)
في "المعجم الكبير"(19) برقم (1040، 1041).
(6)
قال الهيثمي في "المجمع"(3/ 38): رواه أبو يعلى والطبراني في "الكبير"، وفي إسناد أبي يعلى محمد بن إبراهيم بن العلاء وهو ضعيف جدًا.
وأما سبب نزولها: ففي "المسند"(1) والترمذي (2) عن أبي سعد الصاغاني محمد بن ميسر، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب "أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك يا محمد. فأنزل الله: "قل هو الله أحد". ورواه الترمذي (3) من طريق عبيد الله ابن موسى، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مرسلاً. وقال: هذا أصح من حديث أبي سعد.
ورواه أبو يعلى الموصلي والطبراني وابن جرير (4) من طريق شريح بن يونس، عن إسماعيل بن مجالد، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر:"أن أعرابيًا جاء إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: انسب لنا ربك فأنزل: "قل هو الله أحد" إِلَى آخرها". وروي مرسلاً.
وروى عبيد بن إسحاق العطار، عن قيس بن الربيع، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال:"قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك. فنزلت: "قل هو الله أحد" قال الطبراني: ورواه الفريابي وغيره، عن قيس، عن عاصم، عن أبي وائل مرسلاً.
وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" حدثنا أبو زرعة (5)، ثنا العباس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريع (*) ثنا علي بن الحسين، ثنا أبو عبد الله الحرشي، ثنا
(1)(5/ 133، 143).
(2)
برقم (3364).
(3)
برقم (3365).
(4)
أبو يعلى الموصلي (2044)، والطبراني في "الأوسط" كما في المجمع (7/ 146).
والطبري في "تفسيره"(30/ 343).
(5)
نقل هذه الرواية ابن تيمية في تفسير سورة الإخلاص ص55 طبعة الدار السلفية بالهند عن ابن أبي حاتم قال: حدثنا أبو زرعة، حدثنا العباس بن الوليد، حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد، عن قتادة "ولم يكن له كفوًا أحد" قال: إِنَّ الله لا يكافئه من خلقه أحد.
ثم نقل الرواية التي ذكرها ابن رجب حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو عبد الله الحرشي بإسناده إِلَى آخر الرواية فسقط من النساخ باقي سند رواية أبي زرعة، فادخلوا رواية في رواية أخرى، فجعلوا يزيد بن زريع يروي عن علي بن الحسين وهذا خطأ بلا شك؛ لأنّ يزيد من "الثامنة"، فلا يروي عن شيخ ابن أبي حاتم علي بن الحسن، وهو من الثانية عشرة لأنّ يزيد متقدم عنه، ولم يتنبه لذلك الشيخ/ محمد بن ناصر العجمي في تحقيقه لسورة الإخلاص ص86 طبعة الدار السلفية بالكويت، فلتصحح في طبعته، والله الموفق إِلَى الصواب والحمد لله رب العالمين.
(*) من هنا دخل إسناد في إسناد آخر فليتنبه.
أبو خلف عبد الله بن عيسى، ثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس "أن اليهود جاءت إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فقالوا: يا محمد، صف لضا الَّذِي بعثك. فأنزل الله:"قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد" فيخرج منه الولد، "ولم يولد" فيخرج من شيء".
وأما التفسير:
فقوله: {قل} هذا افتتاح للسورة بالأمر بالقول كما في المعوذتين وسورة الجن.
وقد "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعوذتن فَقَالَ: قيل لي فقلت"(1) وذلك إشارة منه إِلَى أنه مُبلغ محض لما يوحى إِلَيْهِ، ليس فيه تصرف لما أوحاه الله إِلَيْهِ بزيادة ولا نقص، وإنما هو مبلغ لكلام ربه كما أوحاه إِلَيْهِ، فَإِذَا قال:{قل هو الله أحد} كان امتثالاً للقول الَّذِي قِيلَ لَهُ بلفظه لا بمعناه، و"هو": اسم مضمر قيل: إنه ضمير الشأن، وقيل: لا.
و"الله أحد" إِنَّ قيل هو ضمير الشأن، فالجملة مبتدأ وخبر. وإن قيل: لا، ففيه وجهان:
أحدهما: أن "هو" مبتدأ، و"الله أحد" مبتدأ وخبر، وهما خبر للمبتدأ الأول، ولا حاجة فيه إِلَى رابط؛ لأنّ الخبر هو المبتدأ بعينه.
والثاني: أن "هو" مبتدأ، و"الله" خبره، و"أحد" بدل منه.
و"أحد": اسم من أسماء الله يُسمى الله به ولا يسمى غيره من الأعيان به.
فلا يسمى شيء من الأشياء أحدًا في الإثبات إلا في الأعداد المطلقة.
وإنما يسمى به في النفي، وما أشبهه من الاستفهام، والنهي، والشرط كقوله:{ولم يكن له كفوًا أحد} وقوله: {هل تُحسُّ مِنْهُم مِنْ أحدٍ} (2) وقوله: {فلا تدعوا مع الله أحدًا} (3) وقوله: {وإن أحد من المشركين استجارك} (4) ونحوه.
(1) أخرجه البخاري (4692).
(2)
مريم: 98.
(3)
الجن: 18.
(4)
التوبة: 6.
والأحد: هو الواحد في إلهيته وربوبيته، وفسره أهل الكلام بما لا يتجزأ ولا ينقسم، فإن أريد بذلك أنه ليس مؤلفًا مركبًا من أجزاء متفرقة فصحيح، أو أنه غير قابل للقسمة فصحيح، وإن أريد أنه لا يتميز منه شيء عن شيء وهو المراد بالمجسم عندهم فباطل.
قال ابن عقيل: الَّذِي يصح من قولنا مع إثبات الصفات أنه واحد في إلهيته لا غير.
والأحد هو الواحد. قال ابن الجوزي: قاله ابن عباس وأبو عبيدة، وفرق قوم بينهما.
قال الخطابي: الفرق بين الأحد والواحد: أن الواحد هو المنفرد بذاته، فلا يضاهيه أحد.
والأحد المنفرد بصفاته ونعوته، فلا يشاركه فيها أحدٌ.
وقيل: بينهما فرق آخر، وهو أن الأحد في النفي نص في العموم، بخلاف الواحد فإنه محتمل للعموم وغيره فتقول: ما في الدار أحد. ولا يقال: بل اثنان. ويجوز أن يقال: ما في الدار واحد، بل اثنان.
وفرق فقهاء الحنفية بينهما وقالوا: الأحدية لا تحتمل الجزئية والعددية بحال.
والواحد يحتملها؛ لأنّه يقال: مائة واحد وألف واحدة، ولا يقال: مائة أحد، ولا ألف أحد.
وبني عَلَى ذلك مسألة محمد بن الحسن التي ذكرها في "الجامع الكبير": إذا كان لرجل أربع نسوة فَقَالَ: والله لا أقرب واحدة منكن صار موليًا منهن جميعًا، ولم يجز له أن يقرب واحدة منهم إلا بكفارة.
ولو قال: والله لا أقرب إحداكن لم يصر موليًا إلا من إحداهن، والبيان إِلَيْهِ.
وقال العسكري: أصل أحد أوحد مثل أكبر، وإحدى مثل كبرى، فلما وقعا اسمين، وكانا كثيري الاستعمال هربوا إِلَى الكسرة ليخف، وحذفوا الواو
ليفرقوا بين الاسم والصفة؛ وذلك أن أوحد اسم وأكبر مثله.
والواحد فاعل من وحد يحد، وهو واحدٌ مثل: وعد يعد فهو واعد.
سؤال: قوله: {الله أحد} ولم يقل الأحد كما قال: الصمد؟
جوابه: أن الصمد يسمى به غير الله كما يأتي ذكره، فأتى فيه بالألف واللام ليدل عَلَى أنه سبحانه هو المستحق لكمال الصمدية، فإن الألف واللام تأتي لاستغراق الجنس تارة، ولاستغراق خصائص أخرى كقوله: زيد هو الرجل: أي الكامل في صفات الرجولة، فكذلك قوله:{الله الصمد} أي الكامل في صفات الصمدية.
وأما الأحد فلم يتسم به غير الله، فلم يحتج شيه إِلَى الألف واللام.
قوله: {الله الصمد} أعاد الاسم المبتدأ تأكيدًا للجملة وخبره الصمد، وقيل: هو نعت والخبر ما بعده.
والصمد اختلفت عبارات السَّلف في معناه. وهي متقاربة أو متفقة، والمشهور منها قولان:
أحدهما: أن الصمد هو السيد الَّذِي تصمد إِلَيْهِ الخلق في حوائجهم ومطالبهم، وهو مروي عن ابن عباس وغيره من السَّلف.
قال ابن الأنباري: لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد: السيد الَّذِي ليس فوقه أحد، الَّذِي يصمد إِلَيْهِ الناس في حوائجهم وأمورهم.
وقال الزجاج: هو الَّذِي ينتهي إِلَيْهِ السُّؤدد، فقد صمد له كل شيء أي قصد قصده. وأنشدوا:
(لقد)(1) بكَّر الناعي (بخَيري)(2) بني أسد
…
بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وأنشدوا:
علوته بحسام ثم قلت له
…
خذها حذيف فأنت السيدُ الصمد
(1) في "لسان العرب"(4/ 2495): "ألا".
(2)
بخير: "نسخة".
وفي "تفسير ابن أبي حاتم"(1) بإسناده، عن عكرمة عن ابن عباس قال: الصمد: الَّذِي تصمد إِلَيْهِ الأشياء إذا نزل بهم كربة أو بلاء.
وعن إبراهيم قال: الَّذِي يصمد إِلَيْهِ العباد في حوائجهم.
وعن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس (2) قال: الصمد: السيد الَّذِي قد كَمُلَ في سؤدده، والشريف الَّذِي قد كمل في شرفه، والعظيم الَّذِي قد كمل في عظمته، والحليم الَّذِي قد كمل شي حلمه، والعليم الَّذِي قد كمل في علمه، والحكيم الَّذِي قد كمل في حكمته، وهو الَّذِي قد كَمُلَ في أنواع الشَّرفِ والسؤدد، وهو الله سبحانه، هذه صفته لا تنبغي لأحدٍ إلا له؛ ليس له كفء، وليس كمثله شيء، سبحان الله الواحد القهار.
والقول الثاني: أن الصمد الَّذِي لا جوف له، وأنه الَّذِي لا يأكل ولا يشرب، والذي لا حشو له، وأنه الَّذِي لا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء، ونحو هذه العبارات المتقاربة في المعنى، وروي ذلك عن ابن مسعود، وقد سبق في حديث أبي هريرة المذكور في أول تفسير السورة: والصمد الَّذِي ليس بأجوف.
وروى ابن جرير (3) وابن أبي حاتم (4) من طريق عبيد الله بن سعيد -قائد الأعمش- حدثني صالح بن حيان، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: لا أعلم إلا أنه قد رفعه: قال: "الصمد الَّذِي لا جوف له".
وعن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود قال: الصمد ليس له حشاء (5).
(1) كما في تفسير "سورة الإخلاص" لابن تيمية ص 49 - 50 طبعة الدار السلفية بالهند وتفسير ابن كثير (4/ 570) وفي إسناده محمد بن موسى بن نفيع الحرشي، لين الحديث، وعبد الله بن عيسى الخزاز، ضعيف.
(2)
أخرجه الطبري في "تفسيره"(30/ 346)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في تفسير سورة الإخلاص لابن تمية ص 51. والبيهقي في الأسماء والصفات (98).
(3)
أخرجه ابن جرير في "تفسيره"(30/ 645).
(4)
كما في تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية ص 52 - 53 وقال ابن كثير في تفسيره (4/ 570): وهذا غريب جدًّا، والصحيح أنه موقوف عَلَى عبد الله بن بريدة.
(5)
أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في تفسير سورة الإخلاص لابن تيمة ص 52 وفي إسناده مندل بن علي العنزي، ضعيف.
وروي عن ابن عباس أيضًا وعكرمة: الصمد الَّذِي لا يطعم (1).
وعنه: الصمد الَّذِي لم يخرج منه شيء (2).
وعن الشعبي: الصمد الَّذِي لا يأكل ولا يشرب (3).
وعن مجاهد: هو المصمت الَّذِي لا جوف له (4).
وقالت طائفة: الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد؛ كأنهم جعلوا ما بعده تفسيرًا له، وهو مما تقدم أنه الَّذِي لم ينفصل منه شيء، وروي ذلك عن أبي ابن كعب والربيع بن أنس.
وتوجيه ذلك: الولادة والتوليد، إِنَّمَا يكون من أصلين، وما كان عينًا قائمًا بنفسه من المتولدات، فلا بد له من مادة يخرج منها، وما كان عرضًا قائمًا بغيره، فلا بد له من محل يقوم به، فالأول نفاه بقوله أحد؛ فإن الأحد هو الَّذِي لا كفء له ولا نظير، فيمتنع أن يكون له صاحبة.
والتولد إِنَّمَا يكون بين شيئين، وكونه تعالى أحدًا، ليس أحد كفوًا له يستلزم أنه لم يلد ولم يولد؛ لأنّ الوالد والولد متماثلان متكافئان، وهو تعالى أحد لا كفء له.
وأيضًا فالتولد يحتاج إِلَى زوجة، وهي مكافئة لزوجها من وجه، وذلك أيضاً ممتنع.
ولهذا قال تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} (5). وقد فسر مجاهد الكفء ها هنا بالصاحبة.
وأما الثاني: وهو انفصال المادة فنفاه سبحانه بأنه الصمد، وهو المتولد من
(1) أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية ص 53 وفي إسناده حفص ابن عمر العدني، ضعيف.
(2)
أخرجه ابن جرير (30/ 345)، وابن أبي حاتم كما في تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية (52) عن عكرمة.
(3)
أخرجه ابن جرير (30/ 345).
(4)
أخرجه ابن جرير (30/ 344).
(5)
الأنعام: 101.
أصلين، ربما يتكون من جزئين ينفصلان من الأصلين، كتولد الحيوان من أبيه وأمه بالمني الَّذِي ينفصل منهما، وكالنار المتولدة من بين الزندين، سواء كانا خشبين أو حجرين أو حجرًا وحديدًا.
وهو سبحانه صمد، لا يخرج منه شيء منفصل عنه.
والحيوان نوعان: متوالد وهو ما ولده من جنسه، وهو الإنسان وما يخلق من أبوين من البهائم والطير وغيرهما.
ومتولد: وهو ما يخلق من غير جنسه كدود الفاكهة والخل، وكالقمل المتولد من الوسخ، والفأر والبراغيث وغير ذلك مما يخلق من التراب والماء، وإنما يتولد من أصلين أيضاً كما خلق آدم من تراب وماء.
وإلا فالتراب المحض الذي لم يختلط به ماء لا يخلق منه شيء لا حيوان ولا نبات، والنات جميعه إِنَّمَا يتولد من أصلين أيضًا.
والمسيح عليه السلام خلق من مريم ونفخة جبريل، وهي حملت به كما تحمل النساء وولدته، فلهذا يقال له: ابن مريم، بخلاف حواء، فإنها خُلقت من ضلع آدم فلا يقال إنه أبوها، ولا هي ولده. وكذلك سائر المتولدات من غيرهما.
كما أن آدم لا يقال إنه ولد التراب ولا الطين، والمتولد من جنسه أكمل من المتولد من غير جنسه، ولهذا كان خلق آدم أعجب من خلق أولاده.
فَإِذَا نزه الرب عن المادة العلق، وهي التولد من النظير، فتنزه به عن تولده من غير نظير أولى، كما أن تنزيهه عن الكفء تنزيه له عن أن يكون غيره أفضل منه بطريق الأولى.
فتبين أن ما يقال إنَّه متولد من غيره من الأعيان القائمة بنفسها، لا يكون إلا من مادة تخرج من ذلك الوالد، ولا تكون إلا من أصلين، والرب تعالى صمد؛ فيمتنع أن يخرج منه شيء، وهو سبحانه لم يكن له صاحبة، فيمتنع أن يكون له ولد.
وأما تولد الأعراض كتولد الشعاع، وتولد العِلْم عن الفكرة، والشبع عن الأكل، والحرارة عن الحركة ونحو ذلك.
فهذا ليس من تولد الأعيان، مع أن هذا لا بد له من محل، ولا بد له من أصلين كالشعاع، فإنه يحتاج إِلَى محاذاة جسم نوري لجسم آخر يقابله، فينعكس عليه شعاعه.
فقد تضمنت هذه السورة العظيمة نفي نوعين عن الله تعالى: أحدهما: المماثلة، ودل عَلَى نفيها قوله تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} مع دلالة قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} على ذلك؛ لأنّ أحديته تقتضي أنه متفرد بذاته، وصفاته؛ فلا يشاركه في ذلك أحد.
والثاني: نفي النقائص والعيوب، وقد نفى منها التولد من الطرفين.
وتضمنت إثبات جميع صفات الكمال بإثبات الأحدية؛ فالصمدية تثبت الكمال المنافي للنقائص، والأحدية تثبت الانفراد بذلك.
فإن الأحدية تقتضي انفراده بصفاته، وامتيازه عن خلقه بذاته وصفاته.
والصمدية إثبات جميع صفات الكمال ودوامها وقدمها؛ فإن السيد الَّذِي يصمد إِلَيْهِ لا يكون إلا متصفًا بجميع صفات الكمال، التي استحق لأجلها أن يكون صمدًا، وأنه لم يزل كذلك ولا يزال، فإن صمديته من لوازم ذاته لا تنفك عنه بحال.
ومن هنا فسر الصمد بالسيد الَّذِي قد انتهى سؤدده، وفسره عكرمة بالذي ليس فوقه أحد.
وروي عن علي وعن كعب: أنه الَّذِي لا يكافئه أحد في خلقه.
وعن أبي هريرة قال: هو المستغني عن كل أحد، المحتاج إِلَيْهِ كل أحد.
وعن سعيد بن جبير قال: هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله.
وعن الربيع قال: هو الَّذِي لا تعتريه الآفات.
وعن مقاتل بن حيان قال: هو الَّذِي لا عيب فيه.
وعن ابن كيسان: هو الَّذِي لا يوصف بصفته أحد.
وعن قتادة: الصمد الباقي بعد خلقه.
وعن مجاهد ومعمر: هو الدائم.
وعن مرة الهمداني: هو الَّذِي لا يبلى ولا يفنى.
وعنه أيضاً: هو الَّذِي يحكم ما يريد، ويفعل ما يشاء؛ لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه.
فقد تضمنت هذه السورة العظيمة إثبات صفات الكمال، ونفي النقائص، والعيوب من خصائص المخلوقين من التولد والمماثلة.
وإذا كان منزهًا عن أن يخرج منه مادة الولد التي هي أشرف المواد، فلأن ينزه عن خروج مادة غير الولد أولى.
وكذلك تنزيهه نفسه عن أن يولد فلا يكون من مثله، تنزيه له عن أن يكون من سائر المواد بطريق الأولى.
فمن أثبت لله ولدًا فقد شتمه، وقد ثبت في "صحيح البخاري" (1) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يقول الله عز وجل: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ".
(1) برقم (4974).
وفي "صحيح البخاري"(1) أيضاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«قَالَ اللَّهُ عز وجل: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ. فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي لَا أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ، فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا» .
وقد رد الله عَلَى من زعم أنه لا يعيد الخلق، وعلى من زعم أن له ولد كما تضمنه هذا الحديث في قوله:{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} ، إِلَى قوله:{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} (2).
وفي "صحيح البخاري"(3) أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ» .
فهذه السورة الكريمة تضمنت نفي ما هو من خصائص آلهة المشركين عن رب العالمين؛ حيث جاء في سبب النزول أنهم سالوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: من أي شيء هو؟ أمن كذا، أم من كذا، أو ممن ورث الدُّنْيَا، ولمن يورثها، حيث كانوا قد اعتادوا آلهة يلدون، ويولدون، ويرثون ويورثون، وآلهة من مواد مصنوعة منها، فأنزل الله هذه السورة.
وفي "المسند"(4) من حديث أبي بن كعب بعد ذكر نزولها: "لأنّه ليس أحد يولد لا يموت، ولا أحد يرث إلا يورث".
يقول: كل من عبد من دون الله وقد ولد مثل المسيح والعزير وغيرهما من الصالحين، ومثل الفراعنة المدعين الإلهية، فهذا مولود يموت، وهو وإن كان قد ورث من غيره ما هو فيه، فَإِذَا مات ورثه غيره، والله سبحانه حيٌّ لا يموت، ولا يورث سبحانه وتعالى. والله أعلم.
(1) برقم (4482).
(2)
مريم: 66 - 89.
(3)
أخرجه البخاري (7378)، ومسلم (2804).
(4)
(5/ 133 - 134).
سؤال: نفي سبحانه الولادة قبل نفي التولد، والتولد أسبق وقوعًا عن الولادة في حق من هو متولد؟
وجوابه: أن الولادة لم يدعها أحد في حقه -سبحانه- وإنما ادعوا أنه ولد، فلذلك قدم نفيه؛ لأنّه المهم المحتاج إِلَى نفيه.
سؤال آخر: كيف نفى أن يكون مولودًا ولم يعتقده أحد؟
جوابه من وجهين: أحدهما: أنهم سألوا عمن ورث الدُّنْيَا ولمن يورثها، وهذا يشعر بأن منهم عن اعتقد ذلك.
والثاني: أنه نفى عن نفسه سبحانه خصائص آلهة المشركين، فإن منهم مَن عَبَدَ المسيح، ومنهم مَن عَبَدَ العزير وهما مولودان، ومنهم من عَبَدَ الملائكة والعجل وهي متولدات، وقد تقدم أن نفي الولادة تدل عَلَى نفي المتولد بطريق الأولى.
فائدة: قال ابن عطية: {كفوًا} خبر كان، واسمها "أحد"، والظرف ملغي، وسيبويه يستحسن أن يكون الظرف إذا تقدم خبرًا.
ولكن قد يجىء ملغي في أماكن يقتضيها المعنى كهذه الآية، وكقوله الشاعر أنشده سيبويه:
ما دامَ فيهنَّ فصيلٌ حيًّا
ويحتمل أن يكون: "كفوًا" حالاً لما قدم من كونه وصفًا للنكرة، كما قال كثير لعزة:
لَمَّية موحِشًا طَلَلُ
قال سيبويه: وهنا نقل في الكلام وبابه الشعر.
قهذ السوره تتضمن انفراده ووحدانيه، وأنه منقطع النظير، وأنه إنما نزه عن أن يكون من أجناس المخلوقات؛ لأنّ أفراد كل جنس من هذه الأجناس
متكافئة متماثلة، فالذهب يكافئ الذهب، والإنسان يكافئ الإنسان ويزاوجه، ولهذا قال تعالى:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (1)، فما من مخلوق إلا وله كفء هو زوجه ونظيره، وعدله ومثيله، فلو كان الحق من جنس شيء من هذه الأجناس لكان له كفء وعدل، وقد علم انتفاؤه بالشرع والعقل.
فهذه السورة هي نسب الرحمن وصفته، وهي التي أنزلها الله في نفي ما أضاف إِلَيْهِ المبطلون من تمثيل وتجسيم، وإثبات أصل وفرع، فدخل فيها ما يقوله من يقوله من المشركين والصائبة، وأهل الكتاب ومن دخل فيهم من منافقي هذه الأمة، من تولد الملائكة أو العقول أو النفوس أو بعض الأنبياء أو غير الأنبياء.
ودخل فيها ما يقول من يقوله من المشركين وأهل الكتاب من تولده عن غيره، كالذين قالوا في المسيح أنه الله، والذين يَقُولُونَ في الدجال أنه الله، والذين يَقُولُونَ ذلك في علي وغيره.
ودخل فيها ما يقوله من يقول من المشركين وأهل الكتاب من إثبات كفء له في شيء من الأشياء، مثل من يجعل له بتشبيهه أو بتجسيمه كفوًا له، أو يجعل له بعبادة غيره كفوًا، أو يجعل له بإضافة بعض خلقه إِلَى غيره كفوًا، فلا كفء له في شيء من صفاته، ولا في ربوبيته ولا في إلهيته.
فتضمنت هذه السورة تنزيهه وتقديسه عن الأصول والفروع، والنظراء والأمثال.
وليس في المخلوقات شيء إلا ولا بد أن ينسب إِلَى بعض هذه الأعيان والمعاني، فالحيوان من الآدمي وغيره لا بد أن يكون له إما والد وإما مولود، وإما نظير هو كفؤه، وكذلك الجن والملائكة، كما قال تعالى:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1).
(1) الذاريات: 49.
قال بعض السَّلف: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فتعلمون أن خالق الأزواج واحد.
قال تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} (1) قال مجاهد: كل شيء خلقه الله فهو شفع قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (2) الكفر والإيمان، والهدى والضلالة، والشقاوة والسعادة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والبر والبحر، والشمس والقمر، والجن والإنس، والوتر الله تبارك وتعالى.
وهو الَّذِي ذكره البخاري في "صحيحه" فإنه يعتمد قول مجاهد لأنّه أصح التفسير، قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. واختاره الشيخ مجد الدين ابن تيمية.
وحقيقة الكفء: هو المساوي والمقاوم؛ فلا كفء له تعالى في ذاته ولا في صفاته، ولا في أسمائه ولا في أفعاله، ولا في ربوبيته ولا في إلهيته، ولهذا كان الإيمان بالقدر نظام التوحيد كما قال ابن عباس؛ لأنّ القدرية جعلوا له كفوًا في الخلق.
وأما توحيد الإلهية، فالشرك فيه تارة يوجب الكفر والخروج من الملة والخلود في النار، ومنه ما هو أصغر كالحلف بغير الله والنذر له، وخشية غير الله ورجائه، والتوكل عليه والذلِّ له، وقول القائل: ما شاء الله وشئت.
ومنه ابتغاء الرزق من عند غير الله، وحمد غيره عَلَى ما أعطى، والغنية بذلك عن حمده، ومنه العمل لغير الله وهو الرياء، وهو أقسام.
ولهذا حرم التشبيه بأفعاله بالتصوير، وحرم التسمي بأسمائه المختصة به كـ"الله والرحمن والرب".
وإنما يجوز التسمية به مضافًا إِلَى غير من يعقل، وكذلك الجبار والمتكبر
(1) الفجر: 3.
(2)
الذاريات: 49.
والقهار ونحو ذلك، كالخلاق والرزاق والدائم، ومنه ملك الملوك، وقد جعل ابن عقيل التسمية بهذا مكروهة.
قال ابن عقيل: كل ما انفرد به الله كـ"الله ورحمن وخالق" لا يجوز التسمي به، كل ما وجد معناه في الآدمي: فإن كان يوجد تكبرًا، كالملك العظيم والأعظم، وملك الملوك والجبار فمكروه، والصواب الجزم بتحريمه.
فأما ما يتسمى به المخلوقون من أسمائه كالسميع والبصير والقدير والعليم والرحيم، فإن الإضافة قاطعة الشركة، وكذلك الوصفية، فقولنا: زيد سميع بصير لا يفيد إلا صفة المخلوق وقولنا: الله سميع بصير يفيد صفته اللائقة به، فانقطعت المشابهة بوجه من الوجوه. ولهذا قال تعالى:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (1).
وفيه قولان:
أحدهما: نفي التسمية.
والثاني: نفي المساواة، وقد نفى سبحانه عن نفسه المثلية بقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2)، ونفى عنه العدل والتسوية بقوله:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (3) وقوله: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) ونفى عنه الند بقوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) وقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا} (6).
(1) مريم: 65.
(2)
الشورى: 11.
(3)
الأنعام: 1.
(4)
الشعراء: 96 - 98.
(5)
البقرة: 22.
(6)
فصلت: 9.
وفي الحديث: «أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» (1)، وقال للذي قال له: ما شاء الله وشئت: "أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ "، وفي رواية:"أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ عَدْلًا؟ "(2).
وقال كعب: السماوات السبع، والأرضون السبع، أسست عَلَى هذه السورة:"قل هو الله أحد".
ومعنى هذا -والله أعلم- أن السماوات والأرض إِنَّمَا خلقت بالحق والعدل والتوحيد؛ كما قال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (3).
ومِنْ شعرِ أميةَ بنِ أبي الصلتِ:
وسبحانَ ربيِّ خالقِ النورِ لم يَلد. . . ولم يكُ مُولُودًا بذلكَ أشهَد
وسبحانَهُ مِنْ كُلِّ إفكٍ وباطلٍ. . . وكيفَ يلدْ ذو العرشِ أمْ كيفَ يُولَد
هو اللَّهُ بارِئُ الخلقِ والخلقُ كُلُّهم. . . إِمَاءٌ لَهُ طَوْعًا جميعًا وأَعْبَد
هو الصمدُ اللَهُ الذي لَمْ يكنْ لَهُ. . . مِنَ الخلقِ كفوٌ قَدْ يُضَاهِيه مخلد
وأنَّى يكونُ الخلقُ كالخالقِ الَّذي. . . يدومُ ويَبْقَى والخليقة تَنْفَد
وليسَ بمخلوق على الدَّهْرِ جده. . . ومَنْ ذا عَلَى مَرِّ الحوادثِ يَخْلُد
(1) أخرجه البخاري (4477)، ومسلم (86).
(2)
أخرجه أحمد (1/ 214، 224، 283، 347).
(3)
الدخان: 38 - 39.
وَتفْنَى ولا يبْقَى سِوى القاهرِ الَّذي. . . يُميتُ ويُحيي دائِبًا ليس يَمْهَد
آخرُه والحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ.
* * *
مقدمة تشتمل على أن جميع الرسل كان دينهم الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئًا.
ثم إِنَّ الله تعالى خلق الخلق لأجل معرفته، وليأمرهم بعبادته، ولا سعادة لأحد في الدُّنْيَا والآخرة إلا بمعرفة الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له، ولذلك أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب.
فإن العباد وإن كانوا مفطورين عَلَى معرفة الله ومحبته وتألهه فإن كل مولود يولد عَلَى الفطرة، وهي سلامة القلب، وقبوله وإرادته للحق الَّذِي هو الإسلام، وتهيؤه له، لكنهم محتاجون أشد الحاجة إِلَى ما يحمل به قوتهم العلمية والعملية، وهو العِلْم النافع والعمل الصالح، وبذلك يصيرون مسلمين بالفعل، بعد أن كانوا مسلمين بالقوة، فلذلك أرسل الله الرسل وأنزل معهم الكتب؛ ليرشدوا الخلق إِلَى ما فيه سعادتهم، وفلاحهم في دنياهم وآخرتهم، وضمن لهم أن من اتبع هداه الَّذِي أرسل به رسله فلا يضل ولا يشقى، وأنه عَلَى هدًى من ربه، وأنه من المفلحين، فالهدى ضد الضلال، والفلاح ضد حال أهل الشقاء، وكذلك الغي، كما نفى الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكون ضل أو غوى، فَإِذَا جمع بين الضلال والغي، فالضلال من الجهل
وعدم العِلْم، والغي من اتباع الهوى، ذاك فساد في القوة العلمية، وهذا فساد في القوة العملية.
ولن ينجو من ذلك إلا أهل الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
ثم إِنَّ الله تعالى كان يتعاهد الخلق بالأنبياء والرسل، كلما بعد عهد نبوة ورسالة أتبعها بأخرى.
وكان الَّذِي اتفقت عليه دعوة جميع الأنبياء والرسل هو دين الإسلام كما قال نوح أول الرسل: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1).
وقال الحواريون للمسيح وهو آخر أنبياء بني إسرائيل: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (2).
والإسلام هو الاستسلام والانقياد، وهو متضمن لعبادة الله وحده لا شريك له.
والعبادة تجمع كمال الحب، وكمال الخضوع والذل.
وعبادة الله هي الغاية التي لأجلها خلق الخلق، وبها سعد مَنْ سعد منهم في الدُّنْيَا والآخرة فأما في الآخرة فظاهر معروف، وأما في الدُّنْيَا فقد بسط في موضع آخر ذكر اختلاف الناس في المقصود بالتأله والعبادة وبين ما في تلك الأقوال من الباطل، وأن الصحيح من ذلك أن لا صلاح ولا فلاح، ولا سرور ولا نعيم ولا قرة عين، إلا بأن يكون كمال إرادتهم ومحبتهم، وخشيتهم وتعظيمهم وتألههم لله وحده لا شريك له، وأن ضد ذلك هو عين الفساد، ولا يتسع هذا المكان لبسط هذه الأمور.
(1) يونس: 72.
(2)
آل عمران: 52.
ولما كان النفع الحاصل بإرسال الرسل، وإنزال الكتب أمرًا لا نظير له، قرر الله تعالى الرسالة عَلَى المنكرين لها بهذه الطريقة، وهي شدة الحاجة إليها في غير موضع من القرآن كما في قوله:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} (1).
ولهذا نسب تعالى منكري إرسال الرسل وإنزال الكتب إِلَى القدح في كماله وعظمته وحكمته، وإلى الجهل به وبأسمائه وصفاته، وأنهم ما قدروه حق قدره.
والمقصود ها هنا أن جميع الرسل كان دينهم الإسلام، ولهذا ثبت في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد"(2) فإنهم كلهم متفقون عَلَى أصول التوحيد وتوابعه، وإنما تختلف شرائعهم في الأحكام العلمية التي يسميها كثير من الناس الفروع، وتنوع الشرائع في ذلك كتنوع الشريعة الواحدة التي فيها ناسخ ومنسوخ. كما كانت القبلة في أول الإسلام إِلَى صخرة بيت المقدس، ثم صارت إِلَى الكعبة.
والدين واحد، ثم ختم الله الشرائع والملل بالشريعة العامة الكاملة، الحنيفية المحمدية، المحتوية عَلَى جميع محاسن الشرائع، المتضمنة لجميع مصالح العباد في المعاش والمعاد، فأكمل الله بها دينه الذى ارتضاه لنفسه، وختم بها العِلْم الَّذِي أنزله من السماء عَلَى رسله، فلذلك تضمنت جميع محاسن الشرائع المتقدمة، وزادت عليها أمورًا عظيمة وأشياء كثيرة، من العلوم النافعة والأعمال الصالحة، التي خص بها هذه الأمة، وفضلهم بها عَلَى من قبلهم من الأمم.
ولذلك أوجب الله عَلَى جميع من بلغته هذه الدعوة من جميع الأمم الانقياد إليها ولم يقبل من أحد منهم دينا سواها.
(1) آل عمران: 179.
(2)
أخرجه البخاري (3443)، ومسلم (2365) بمعناه من حديث أبي هريرة.
ولما كانت هذه الشريعة خاتمة الشرائع، وعليها تقوم الساعة، ولم يكن بعدها شريعة ولا رسالة أخرى، تبين ما تبدل منها، وتجدد ما درس من آثارها، كما كانت الشرائع المتقدمة تجدد بعضها آثار بعض، وتبين بعضها ما تبدل من بعض، تكفل الله بحفظ هذه الشريعة، ولم يجمع أهلها عَلَى ضلالة، وجعل منهم طائفة قائمة بالحق لا تزال ظاهرة عَلَى من خالفها حتى تقوم الساعة، وأقام لها من يحملها ويذب عنها بالسيف واللسان والحجة والبيان، فلهذا أقام الله تعالى لهذه الأمة من خلفاء الرسل وحَمَلَةِ الحجة في كل زمان من يعتني بحفظ ألفاظ الشريعة وضبطها، وصيانتها عن الزيادة والنقصان، ومن يعتني بحفظ معانيها ومدلولات ألفاظها، وصيانتها عن التحريف والبهتان. والأولون أهل الرواية، وهؤلاء أهل الدارية والرعاية، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل الطائفتين. كما ثبت في "الصحيحين" (1) عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلُ غَيْثٍ أَصَابَ الْأَرْضَ، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةً قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهِ نَاسًا فَشَرِبُوا وَرَعُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلَأً، فَلِذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقَّهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ وَنَفَعَ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» .
فمثَّل النبي صلى الله عليه وسلم العِلْم والإيمان الَّذِي جاء به بالغيث يصيب الأرض.
وهذا المثل كقوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} (2).
فمثل تعالى ما أنزله من العلم والإيمان إلى القلوب بالماء الذي أنزله من
(1) أخرجه البخاري (79)، ومسلم (2282)، من حديث أبي موسى الأشعري.
(2)
الرعد: 17.
السماء إِلَى الأرض، وهو سبحانه وتعالى يمثل العِلْم والإيمان تارة بالماء كما في هذه الآية، وكما في المثل الثاني المذكور في أول سورة البقرة (1)، وتارة يمثله بالنور كما في المثل المذكور في سورة النور (2)، والمثل الأول المذكور في سورة البقرة (3)، وكذلك في هذه الآية التي في سورة الرعد (4)، ذكر مثلاً ثانيًا يتعلق بالنار وهو قوله:{وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} (5) فإن الماء والنور مادة حياة الأبدان، ولا يعيش حيوان إلا حيث هما موجودان، كما أن العِلْم والإيمان مادة حياة القلب، وهما للقلوب كالماء والنور، فَإِذَا فقدهما القلب فقد مات.
وقوله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (6) شبه القلوب الحاملة للعلم والإيمان بالأودية الحاملة للسيل، فقلب كبير يسع علمًا عظيمًا، كوادٍ كبير يسع ماء كثيرًا، وقلب صغير يسع علمًا قليلاً، كواد صغير يسع ماءً قليلاً، فحملت القلوب من هذا العِلْم بقدرها، كما سألت الأودية من الماء بقدرها.
فهذا تقسيم للقلوب بحسب ما تحمله من العِلْم والإيمان إِلَى متسع وضيق.
والذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى تقسيم لها بحسب ما يرد عليها من العِلْم والإيمان إِلَى قابل لإنبات الكلأ والعشب، وغير قابل لذلك وجعلها ثلاثة أقسام:
قسم قبل الماء، فأنبت الكلأ والعشب الكثير، وهؤلاء هم الذين لهم قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين، والبصر بالتأويل، واستنباط أنواع المعارف والعلوم من النصوص، وهؤلاء مثل:
(1) البقرة: 22.
(2)
النور: 35.
(3)
البقرة: 17.
(4)
الرعد: 16.
(5)
الرعد: 17.
(6)
الرعد: 17.
الخلفاء الأربعة، وأبيِّ بن كعب، وأبي الدرداء، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وابن عباس.
ثم كالحسن، وسعيد بن المسيب، وعطاء، ومجاهد.
ثم كمالك، والليث، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، ومحمد بن نصر المروزي.
وأمثالهم من أهلم العِلْم بالله وأحكامه، أوامره ونواهيه.
وكذلك مثل أويس، ومالك بن دينار، وإبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وأبي سليمان، وذي النون، ومعروف، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله، والحر بن أسد.
وأمثالهم من أهل العِلْم بالله وأسمائه وصفاته، وأيامه وأفعاله.
وقسم حفظ الماء، وأمسكه حتى ورد الناس فأخذوه فانتفعوا به، وهؤلاء هم الذين لهم قوة الحفظ والضبط، والإتقان، دون الاستنباط والاستخراج، وهؤلاء كسعيد بن أبي عروبة، والأعمش، ومحمد بن جعفر غندر، وعبد الرازق، وعمرو الناقد، ومحمد بن بشار بندار، ونحوهم.
وقسم ثالث وهم شر الخلق، ليس لهم قوة الحفظ، ولا قوة الفهم، لا دارية ولا رواية، وهؤلاء الذين لم يقبلوا هدى الله ولم يرفعوا به رأسًا.
والمقصود ها هنا أن الله تعالى حفظ هذه الشريعة بما جعل لها من الحملة: أهل الدارية، وأهل الرواية، فكان الطالب للعلم والإيمان يتلقى ذلك ممن يدركه من شيوخ العِلْم والإيمان، فيتعلم الضابط القرآن والحديث ممن يعلم ذلك، ويتعلم الفقه في الدين من شرائع الإسلام الظاهرة، وحقائق الإيمان الباطنة ممن يعلم ذلك.
وكان الأغلب عَلَى القرون الثلاثة المفضلة جمع ذلك كله، فإن الصحابة تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم جميع ذلك، وتلقاه عنهم التابعون، وتلقى عن التابعين تابعوهم، فكان الدين حيئذ مجتمعًا، ولم يكن قد ظهر الفرق بين
مسمى الفقهاء وأهل الحديث، ولا بين علماء الأصول والفروع، ولا بين الصوفي والفقير والزاهد، وإنما انتشرت هذه الفروق بعد القرون الثلاثة، وإنما كان السَّلف يسمون أهل العِلْم والدين القراء، ويَقُولُونَ: يقرأ الرجل إذا تنسك.
وكان العالم منهم يتكلم في جنس المسائل المأخوذة من الكتاب والسنة، وسواء كانت من المسائل الخبرية العلمية، كمسائل التوحيد والأسماء والصفات، والقدر والعرش والكرسي، والملائكة والجن وقصص الأنبياء، ومسائل الأسماء والأحكام، والوعد والوعيد، وأحوال البرزخ، وصفة البعث والمعاد، والجنة والنار ونحو ذلك.
أو من أعمال الجوارح، كالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج والجهاد، وأحكام المعاوضات والمناكحات والحدود والأقضية والشهادة ونحو ذلك.
أو من المسائل العملية، سواء كانت من أعمال القلوب كالمحبة والخوف والرجاء والتوكل والزهد والتوبة والشكر والصبر ونحو ذلك، وإن كان يكون لبعضهم في نوع من هذه الأنواع من مزيد العِلْم والمعرفة، والحال ما ليس له في غيره مثله.
كما كان يقال في أئمة التابعين الأربعة:
سعيد بن المسيب إمام أهل المدينة.
وعطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة.
وإبراهيم النخعي إمام أهل الكوفة.
والحسن البصري إمام أهل البصرة.
كان يقال: أعلمهم بالحلال والحرام سعيد بن المسيب، وأعلمهم بالمناسك عطاء، وأعلمهم بالصلاة إبراهيم، وأجمعهم الحسن.
وكان أهل الدراية والفهم من العُلَمَاء إذا اجتمع عند الواحد منهم من ألفاظ الكتاب والسنة ومعانيهما، وكلام الصحابة والتابعين ما يسره الله له، جعل ذلك أصولاً وقواعد يبني عليها ويستنبط منها، فإن الله تعالى أنزل الكتاب بالحق والميزان، والكتاب فيه كلمات كثيرة، هي قواعد كلية وقضايا عامة، تشتمل أنواعًا عديدة، وجزئيات كثيرة، ولا يهتدي كل أحد إِلَى دخولها تحت تلك الكلمات؛ بل ذلك من الفهم الَّذِي يؤتيه الله من يشاء في كتابه.
وأما الميزان فهو الاعتبار الصحيح، وهو من العدل والقسط الَّذِي أمر الله بالقيام به، كالجمع بين المتماثلين لاشتراكهما في الأوصاف الموجبة للجمع والتفريق بين المختلفين؛ لاختلافهما في الأوصاف الموجبة للفرق، وكثيرًا ما يخفى وجه الاجتماع والافتراق ويدق فهمه.
وأما أهل الرواية إذا اجتمع عندهم من ألفاظ الرسول، وكلام الصحابة والتابعين وغيرهم في التفسير والفقه وأنواع العلوم، لم يتصرفوا في ذلك؛ بل نقلوه كما سمعوه، وأدوه كما حفظوه، وربما كان لكثير منهم من التصرف والتميز في صحة الحديث وضعفه من جهة إسناده، وروايته ما ليس لغيرهم.
فصل: وكان العِلْم والدين يتلقاه التابع عن المتبوع سماعًا وتعلمًا، وتأدبًا واقتداء.
وكان الحديث يحفظ في القلوب حفظًا، فكان الشيخ يحدث أصحابه من حفظه، وربما حدث من حِفْظِه وكتابه، وأصحابه يسمعون ذلك ويحفظونه عنه وربما كتبوه، ولم تكن الكتب قد صنفت في زمن الصحابة والتابعين، وإنما صنفت بعد ذلك في زمان أتباع التابعين، فصنف ابن جريج في التفسير والحديث والفقه.
وصنف سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، وصنف مالك، وابن المبارك، ووكيع، وعبد الرحمن بن مهدي، وهشيم، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وابن وهب، وغيرهم.
وهؤلاء يجمعون في كتبهم ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين، ثم جرد طوائفه آخرون الحديث المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يخلطوه بشيء من الآثار كما فعل موسى بن قرة، والإمام أحمد، وإسحاق وبقي بن مخلد، وأبو يعلى الموصلي، وغيرهم.
ثم صنف قوم المسند الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأسقطوا ما عداه من الضعيف، كما فعل البخاري ومسلم.
وصنف أيضاً في الصحيح ابن حبان، وابن خزيمة، والحاكم، وابن السكن، وغيرهم، ولا يبلغ تصحيح هؤلاء تصحيح الشيخين.
وصنف أصحاب السنن والجوامع الكتب المرتبة عَلَى الأبواب، ولما انتشرت الكتب والتصانيف توسع الناس في الرواية، فصاروا يقرءون عَلَى الشيوخ قراءات ويسمى ذلك العرض. وصار الشيوخ يناولون أصحابهم كتبًا يعرفون ما فيها، ويأذنون لهم في روايتها عنهم، وكان هذا وهذا من عمل أهل الحجاز وغيرهم.
وقد كانوا قبل تصنيف الكتب يفعلون ذلك أيضاً أحيانًا في أحاديث يكتبونها في صحف.
وأنكر العرض والمناولة طائفة من علماء العراق، كما أنكروا الشهادة عَلَى مثل ذلك، فإنهم أنكروا الشهادة عَلَى الوصية المختومة، وعلى كتاب القاضي حين يقرءوه عليه، ويعلم ما فيه، ووافقهم طائفة من الفقهاء في الشهادة دون الرواية، فصارت الأقوال ثلاثة:
أحدها: المنع من الرواية بما قرأه عَلَى الشيخ أو ناوله إياه بخطه، وهؤلاء يمنعون الزيادة بما ناوله بخطه أيضاً.
وأما الشهادة بما قرئ عليه فأقر به، فلا يحفظ قولهم في ذلك، وهذا القول كان قديمًا مشهورًا عن أهل العراق، وكان مالك وغيره ينكره عليهم.
ومنهم طوائف يجيزون العرض دون المناولة.
والثاني: جواز الرواية بالعرض والمناولة، وأن ذلك بمنزلة السماع من لفظ الراوي، وجواز الشهادة عَلَى ما قرئ عليه فأقر به، وعلى الكتاب المختوم أيضاً، وهذا قول علماء أهل الحجاز وغيرهم.
وها هنا سببان يتعين الفرق بينهما:
أحدهما: صحة ما قرأه عَلَى الشيخ أو ناوله إياه أو وجده بخطه. وكذلك صحة ما وجد من الوصايا والأقارير بخط الرجل، وجواز العمل بذلك والحكم به.
والثاني: جواز الرواية والشهادة بذلك.
فأما الأول: فإن مالكًا وغيره من علماء الحجاز يرون أن ما عرض عَلَى الرجل فأقر به، وما كتبه بخطه بمنزلة ما قاله بلسانه في الصحة والثبوت وفي ذلك كله، فإنهم يرون صحة العرض والمناولة، ويرون قبول كتاب القاضي وغيره إذا علم أنه كتابه بالشهادة، وإن لم يشهدوا بما فيه، وهذا أيضاً هو الثابت عن الإمام أحمد، فإن مذهبه جواز العرض والمناولة، ومذهبه جواز الرواية من الكتاب إذا عرف الخط، وإن لم يكن بخطه، وكذلك مذهبه جواز العمل بالوصية من غير إشهاد عليها، وكذلك الخط وإن لم يكن بخطه.
وكذلك مذهبه جواز العمل بالوصية من غير إشهاد عليها، وكذلك الخط وإن لم يكن بخطه.
وكذلك مذهبه أن الحاكم والشاهد يعملان بما يجدان بخطهما، وإن لم يذكراه، وهذا أكثر الروايات عنه.
والرواية التي قال فيها لا يعمل بذلك -حتى يكون الكتاب تحت حرزه- هو من الاستظهار ليتيقن أنه خطه، وإلا فهو إِنَّمَا يعمل بخطه لا بحفظه.
وكذلك خرَّج أصحابه من كلامه جواز العمل بكتاب القاضي إذا شهد به
شاهدان، وإن لم يقرأ عليهم، كما هو مذهب مالك والزهري، وقول أبي يوسف، وأبي عبيد، ومحمد بن نصر المروزي، واختيار السرخسي من الشافعية.
وكانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، وسنة قضاة الإسلام بالحجاز والعراق قبول الكتاب، وإن لم يشهد عَلَى ما فيه.
وأول من طلب الشهود عَلَى الكتاب بعض القضاة في أوائل الدولة العباسية، كسوار بالبصرة، وابن أبي ليلى بالكوفة، وقد ذكر ذلك البخاري في "صحيحه" وغيره من العُلَمَاء؛ بل كانوا يقبلون الكتاب مع واحد ثقة إذا عرف الخط أيضًا.
وهذه الأقوال في مذهب مالك، وقد صرح أصحاب أحمد أن من قوله قبول الكتاب بمجرد معرفة الخط والختم، وهو قول محمد بن نصر وغيره من فقهاء أهل الحديث.
وأما الثاني: وحو جواز الرواية والشهادة بذلك، فها هنا ثلاثة أشياء: عرض، ومناولة، وشهادة.
فأما العرض: فَإِذَا قرئ عَلَى العالم فأقر به جاز أن يرويه عنه، وإن لم يأذن له في روايته عند الجمهور، وليس في ذلك إلا خلاف شاذ ولا يكاد يثبت، وإن لم يقر به بل سكت فهل له أن يرويه عنه؟ فيه قولان.
والجمهور عَلَى جواز روايته عنه، ويكون سكوته كإقراره.
وتنازعوا: هل يجوز له في روايته عنه أن يقول: حدثني، وأخبرني، أو لا يجوز ذلك؟
يقول: قرأت عَلَى فلان فلم ينكر عليَّ. قوله هذا حكاية عن الإمام أحمد.
وكذلك تنازعوا فيما إذا عرض عَلَى الشيخ فأقر له به، هل يقول في الرواية عنه: ثنا، وأخبرنا، أو لا يقول ذلك، بل يقول: قرأت عَلَى فلان فأقر به، أو يقول: أخبرنا، ولا يقول: حدثنا؟ عَلَى ثلاثة أقوال:
وكلام الإمام أحمد في ذلك مختلف، وطرق أصحابه مختلفة في حكاية الروايات عنه في ذلك.
وأما المناولة: إذا ناوله شيئًا معينًا يعلمه، وقال له: اروه عني، فالجمهور عَلَى جواز ووايه عنه.
وتنازعوا: هل يقول في الرواية بالمناولة: حدثنا، وأخبرنا، أو لا يجوز ذلك؟
بل يقول: قال فلان أو عن فلان، أو أعطانى فلان، أو ناولني ونحو ذلك، عَلَى قولين:
وقد قيل بجواز أن تقول: أخبرني، ولا يجوز أن تقول: حدثني، وهو ظاهر كلام أحمد.
وإن ناوله شيئًا، وقال: هو سماعي، ولم يأذن له في روايته عنه، ففي جواز روايته عنه قولان.
وأما الشهادة عَلَى الخط: فإن قرأه عليه وأقر به، فلا ريب في صحة الشهادة به.
وأما إِن لم يقرأه عليه، ولم يعلم ما فيه، فهل يجوز له أن يشهد به إذا أمره بذلك؟ كمن كتب كتابًا وختمه، وقال لرجل: اشهد بماء فيه، عَلَى قولين:
وكثير من الفقهاء يمنعون تحمل صحة هذه الشهادة، وهو منصوص الإمام أحمد في رواية إسحاق بن منصور، وذهب طائفة إِلَى صحة تحملها كالزهري وأبي يوسف وأبي عبيد، وهو قول أبي بكر الرازي وغيره.
وقد خرّج طائفة من أصحاب أحمد صحة هذه الشهادة من نصه، عَلَى جواز العمل بها، وليس ذلك بلازم، فإن جواز العمل بها يقتضي صحة الحكم بالخط المعروف، ولا يلزم من ذلك تحمل الشهادة عليه بما لم يسمعه منه، ألا ترى أنه إذا وجد حدثنا بخط من يعرفه، جاز له أن يعتمد عليه في العمل وتصحيحه، وليس له أن يروي عنه؛ لأنّه لم يتحمله عنه، ولم يسمعه منه، ولهذا منع طائفة من العُلَمَاء من الرواية بالمناولة، وجوزوا العمل
بها كما نُقِلَ ذلك عن الأوزاعي وغيره، وأيضًا فالحكم يعمل بالخط إِن يعرفه والشاهد في حال التحمل لم يعرف ما تحمله البتة، ولا سمعه من لفظه، ولا قرأه من خطه، فكيف يصح تحمله لما لم يعلمه بحال.
نعم، يجوز له أن يشهد أن هذا كتابه الَّذِي تبه وختمه، أو يشهد عَلَى الخط إذا فتحه وعرفه، ولعل مراد كثير ممن قال بقبول الختاب المختوم المشهود عليه وأن يقرأ عَلَى الشهود أن الشاهد يشهد أن هذا كتاب فلان، فيفيد ذلك أنه كتابه، ويكون العمل بالخط، وتخريج هذا عن أحمد في كتاب القاضي ونحوه، من نصوصه المستفيضة في العمل بالخطوط أولى من تخريج صحة الشهادة بما تضمنه الكتاب المختوم.
لكن يقال: تخرج صحة الشهادة عَلَى الكتاب المختوم من صحة الرواية بالمناولة، إِن ناوله كتابًا لا يعلم الطالب ما فيه، وأذن له في روايته، فإنه يجوز له أن يقول إذا قرأه: أجزت فلانًا بكذا كما تقدم، ولكن كثيرًا من العُلَمَاء يجعل باب الرواية أسهل من باب الشهادة، ويرى التوسع في الرواية بما لا يتسع بمثله في الشهادة، ولأجل هذا فرق أهل القول الثالث في أصل المسألة بين بابي الرواية والشهادة، فجوزوا الرواية بالعرض والمناولة، دون الحكم بالكتاب المختوم والشهادة به، وهذا قول الشافعي وغيره، وهو المشهور عند المتأخرين من أصحاب أحمد.
وفرقوا بينهما بأن الرواية مبناها عَلَى المسامحة، فإنه لا يشترط لها العدالة في الباطن، ويقبل فيها قول النساء والعبيد، وحديث العنعنة ونحو ذلك بخلاف الشهادة في كلام أحمد إيماء إِلَى فرق آخر وهو أن الشهادة قد يخفى تغيرها وزيادتها ونقصها، بخلاف الحديث، فإنه قد ضبط وحفظ، فلا يكاد يخفى تغيره، وهذا لأنّ الطعن في رواية ما في الكتاب والشهادة، تارة يعلل بعدم الوثوق بالكتاب لاحتمال تزويره، والزيادة فيه والنقص منه.
وبسبب هذا قال من قال: إِن الرواية من الكتاب كالمنقطعة؛ لأنها مأخوذة عن مجهول، وتارة يعلل بالطعن في صحة تحمل الرواية والشهادة لانتفاء السماع، والذين يجيزون ذلك يحتجون بكتابة النبي صلى الله عليه وسلم إِلَى الملوك وغيرهم، وبعمل خلفائه من بعده بالمكاتبات ونحو ذلك مما ليس هذا موضع بسطه.
وهذه المناولة التي ذكرناها هي أن يناوله شيئًا معينًا من رواياته قد عرفه، ويخبره أنه من رواياته، ويأذن له في روايته عنه، أو يكتب إِلَيْهِ بخطه الإذن في رواية شيء معين من رواياته.
فأما الإجازة المطلقة، وهو أن يقول: أجزت لك جميع ما يصح عندك من مروياتي، أو يكتب إِلَيْهِ بذلك، فهذا فيه نزاع بين من يرى صحة المناولة المعينة، والذي نقله أبو بكر الخطيب وغيره عن أهل المدينة العمل به، وقد أنكره جماعة ممن يرى صحة المناولة المعينة، كأحمد بن صالح المصري، ولذلك نقل حنبل عن الإمام أحمد ما يدل عَلَى كراهته، وممن أنكر ذلك البرقاني وأبو بكر الرازي، وطائفة من الفقهاء والمحدثين، وأكثر أصحاب الشافعي وأحمد عَلَى جوار ذلك، وتوسعوا في ذلك حتى جوزوا الإجازة المطلقة لكل أحد، وهي التي تسمى الإجازة العامة، وجوزوا الإجازة للمعدوم.
وهذا كما توسع المتأخرون في السماع، فإن المتقدمين كانوا لا يسمعون إلا من أهل المعرفة والحفظ، حتى تنازعوا في صحة الرواية عمن يحدث من كتابه، ولا يحفظ حديثه، فمنعه مالك ويحيى بن معين وغيرهما، ورخص فيه آخرون إذا كانت كتبه محفوظة، وأهل المغرب إِلَى الآن يشددون في ذلك، وبسبب ذلك صارت أسانيدهم نازلة.
وأما أكثر المتأخرين، فإنهم يسمعون عَلَى الشيوخ الذين لا يعرفون ما يقرأ
عليهم ويستجيزونهم، وهذا لأنّ مقصودهم من الإسناد حفظ السلسلة والعلو، وليس المقصود من الرواية عن هؤلاء تلقي العِلْم عنهم وضبطه كما كان السَّلف، فإن هذه الكتب والأجزاء التي تسند عن هؤلاء الشيوخ معروفة محفوظة، بل منقولة بالتواتر لا يُحتاج في نقلها إِلَى ذلك الشيخ، وصار هذا كالذي يحفظ القرآن، ويقرأه عَلَى شيخ عالي الإسناد، فإنه يستفيد بذلك علو الإسناد فقط، وإلا فنقل القرآن والقراءات كلاهما متواتر، لا يحتاج فيه إِلَى هذا الشيخ، فكذلك الحديث إِنَّمَا يعمد فيه عَلَى ما يعرفه الحفاظ، وما {يحققونه} (*) من الكتب المعتمد عليها، والخطوط الموثوق بها.
وتكون الرواية عن هؤلاء الشيوخ لأجل علو الإسناد، واتصال سلسلته؛ فإن الإسناد من خصائص هذه الأمة، مع أن في السماع فوائد جمة من نشر السنة النبوية وإظفارها، وبعث الهمم عَلَى الاشتغال بها دراية ورواية، وغير ذلك من المصالح.
فصل: وكان المقصود من ذكر هذه المقدمة، أنه وقع السؤال عن جماعة من شيوخ الرواية الذين أدركناهم بالسماع والإجازة بالشام ومصر، وعن شيء من (رواياتهم)(**) العالية، وكان السائل قدره أعلى من أن يسلك به المسلك المعتاد من الاقتصار عَلَى ذكر الإسناد، فإن ذلك يقع كثيرًا لمن يقنع بظواهر الرسوم دون حقائق الإيمان والعلوم، فذكرنا قبل ذلك هذه المقدمة لتكون الأشياء مبنية عَلَى أصولها، ويبين بذلك مقصود الرواية، وأنها وسيلة إِلَى الدراية والرعاية.
وقد قال الحسن البصري رضي الله عنه: همة السفهاء الرواية، وهمة الحكماء الرعاية.
والرعاية هي: القيام بحقوق الرواية من العمل والتعليم، فهي ثمرة الدراية.
(*) غير واضحة بالأصل وتشبه أن تكون ما أثبتناها، وفي نسخة:"وما يحتفون به".
(**) رواتهم: "نسخة".
والحكماء هم: أهل الحكمة، والحكمة هي معرفة الدين والعمل به كما قاله مالك والليث وغيرهما من السَّلف.
وكذلك ذكره ابن قتببة وغيره، فالحكماء هم خواص العُلَمَاء كما كان الفضيل بن عياض رضي الله عنه يقول: العُلَمَاء كثير، والحكماء قليل.
وقال له رجل: العُلَمَاء ورثة الأنبياء، فَقَالَ فضيل: الحكماء ورثة الأنبياء، وإنما قال هذا؛ لأنّه صار كثير من الناس يظن أن العُلَمَاء الممدوحين في الشريعة يدخل فيهم من له لسان علم، وإن لم يكن عنده من حقائق الإيمان ومن العمل بالعلم ما يوجب سعادته.
فبين الفضيل أنه لا يدخل في مدح الله ورسوله للعلماء إلا أهل الحكمة، وهم أهل الدراية والرعاية.
وقد كان السَّلف لا يطلقون اسم العالم إلا عَلَى من عنده علم يوجب له الخشية، كما قال بعضهم: إِنَّمَا العالم من يخشى الله، ولقي بخشية الله علمًا، وهذا مطابق لقوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (1). والله تعالى أعلم. انتهى. بلغ مقابلة عَلَى أصله.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
…
(1) فاطر: 28.
القول الصواب في تزويج أمهات أولاد الغياب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله نحمده ونستعينه ونستهديه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
هذه حادثة حدثت في الفتاوى وهي: أم ولد لرجل غاب عنها من نحو ثمان سنين أو أكثر، ولم يوقف له عَلَى خبر، وكان سفره من الشام إِلَى العراق في قافلة نهبت، وأُخذ أكثر أموال أهلها، وقتل منهم عدد كثير، فهل يجوز أن تتزوج أم ولده والحالة هذه أم لا؟
فالجواب عن هذه المسألة مبني عَلَى أصلين:
أحدهما: تزويج امرأة المفقود، وفيها قولان مشهوران:
أحدهما: أنها تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل، ثم تعتد للوفاة، ثم تتزوج، وهذا مروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن وقتادة والزبير والأوزاعي، ومالك، وابن الماجشون، وأهل المدينة، وأحمد، وإسحاق. وأبي عبيد والشافعي في القديم، وأبي خيثمة، وسليمان بن داود الهاشمي، وعلي بن المديني، وفقهاء الحديث.
والقول الثاني: تنتظر أبدًا حتى يتبين خبره، وروي عن علي رضي الله عنه، وأنكر الإمام أحمد صحته عنه، وهو قول الكوفيين كالنخعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبي حنيفة وأصحابه والثوري، إليه ذهب الشافعي في الجديد، وروي {عن} (1) أبي قلابة، وحكي رواية عن أحمد، ومن أصحابه من لم يثبتها عنه؛ فإن المشهور عنه القول الأول، وقد أنكر قول من حكى عن خلافه.
(1) سقطت من "الأصل"، والصواب إثباتها.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: إِنَّ إنسانًا قال: إِنَّ أبا عبد الله ترك قوله في المفقود، فضحك وقال: ومن ترك هذا القول فبأي شيء يقول؟ !
قال: وقال لي أبو عبد الله: ما أعجب من لا يفتي هنا! يذهبون بأقوال الناس ويحبسون المرأة المسيكينة أبدًا لا تتزوج؟ ! قيل: يَقُولُونَ: يطمع. قال: من يطمع بعد هذا الأجل؟ قال: وقال خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفتون يَقُولُونَ: تزوج امرأة المفقود. قال: وهو مروي من عمر رضي الله عنه من ثمانية أوجه.
قِيلَ لَهُ فروي عن عمر خلاف هذا؟ قال: لا، إلا أن يكون إنسان يكذب.
وقال أبو داود في "مسائله": سمعت أحمد قِيلَ لَهُ: في نفسك من المفقود شيء، فإن فلانًا وفلانًا لا يفتيان به؟
فَقَالَ: ما في نفسي منه شيء، هذا خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أمروها بالتربص، قال أحمد: هذا من ضيق العِلْم.
قال أبو داود: يعني ضيق علم الرجل أن لا يتكلم في المفقود. قال: وسمعته يقول: هذا عندي من ضيق العِلْم أن لا يتكلم في المفقود، وفيمن ليست عنده نفقة -يعني: في الفسخ.
والكلام في أدلة هذه المسأله من الجانيين واستيعاب تفاريع القولين يطول جدًّا، وليس غرضنا الآن تقرير ذلك، لكن القائلون بتزويج امرأة المفقود منهم من يقول: صرنا إِلَى ذلك متابعة لقضاه الخلفاء الراشدين، وإن كان عَلَى خلاف القياس.
ومنهم من يقول: بل هو عَلَى وفق القياس.
ثم منهم من يقول: لما ظهرت أمارات موته حكم عليه بحكم الميت واكتفي بذلك، كما يكتفى باشتهار موته بالاستفاضة وشهادة عدلين، ونحو ذلك مما لا يوقف معه عَلَى القطع، وهذا قول كثير من أصحابنا وغيرهم.
ومنهم من يقول: إِنَّمَا فسخ لرفع الضرر الحاصل بحبس الزوجة أبدًا، وهو قول مالك وبعض أصحابنا.
ومنهم من يقول: بل لما جهل بقاؤه جاز التصرف في أهله، وماله موقوف عَلَى إجازته عند ظهوره، كما لو جهل عين رب المال ابتداء كاللقطة ونحوها.
{الأصل الثاني} (1): أن مال المفقود هل يقسم إذا حكم بجواز تزوج زوجته أم لا؟ وفيه قولان:
أحدهما: أنه يقسم بين مستحقيه من الورثة وغيرهم -وهو قول الحسن وقتادة، والزهري وأحمد وإسحاق- لحكمهم بموته ظاهرًا.
والثاني: لا يقسم ماله؛ بل يوقف، وهو قول من يقف الزوجة كما سبق، وقول من يبيح المزوجة النكاح لتضررها بانتظار زوجها أبدًا، كمالك والشافعي في القديم.
والأوّل {هو} (2) المأثور عن الصحابة رضي الله عنه أيضاً.
وروى الإمام أحمد -فيما نقله عنه ابنه صالح- في "مسائله"(3) ثنا عبد الرزاق، قال: أخبرني ابن جريج، قال: أخبرني عطاء الخراساني، عن الزهري:"أن عمر وعثمان قالا في امرأة المفقود: تتربص أربع سنين ثم تعتد أربعة أشهر وعشرًا، ويقسم ميراثه".
وخرَّج الجوزجاني، من طريق عمر بن هبيرة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال:"إِنَّ امرأة المفقود تستقرض وتنفق؛ فإن جاء زوجها قضى ذلك، وإن لم يأت فهو من نصيبها".
(1) بياض بالأصل والمثبت يناسب السياق.
(2)
في "الأصل": و.
(3)
(3/ 120).
وهذا يدل عَلَى أنه يرى قسمة ماله بين الورثة.
إذا تقرر هذان الأصلان فلنرجع إِلَى الكلام عَلَى أم ولد المفقود فنقول: من قال بوقف مال المفقود وأزواجه؛ فلا شك في أنه يوقف أم ولده أيضاً.
وأما من أباح التزويج لأزواجه ولم يقسم ماله كمالك؛ فإنه يحتمل عَلَى أصله أن يقف أم ولده؛ لأنها مال، ويحتمل أن لا يقفها؛ لأنّ في إيقافها عن النكاح من الضرر كالزوجة، ولهذا يغلب عنده عَلَى أم الولد حكم الحرة، فلا تضمن عنده بغصب، ولا بالعقد الفاسد.
وأما من أباح نكاح زوجاته وقسمة ماله كأحمد، فلا وجه عنده للتوقف في نكاح أم ولده، وذلك لأنّ المغلب عند أصحابنا فيهم حكم المال، ولهذا يضمن عندهم بالغصب، ومن متأخريهم من قال: وبالعقد الفاسد أيضًا.
وعلى تقدير تغليب حكم الأحرار عليها فليلحق بالزوجة لما في انتظارها لسيدها أبدًا من الضرر.
وقد ذكر أبو داود في "مسائله" باب المفقود، ثم ذكر عن أحمد في زوجة المفقود أنها تتربص أربع سنين ثُم تعتد وتتزوج، ثم قال: سمعت أحمد سئل عن المفقود يقدم وقد تزوج أمهات ولده قال: يردون إِلَيْهِ، ثم ذكر كلام أحمد في قسمة مال المفقود بعد هذا.
فانظر إِلَى ترتيب أبي داود، كيف أدخل حكم أمهات {أولاده} (1) بين الزوجات والمال لترددها بينهما، ولو كان أحمد لا يرى جواز تزويج أمهات أولاده لأنكر تزويجهن، وقال: لم يكن يجوز ذلك، أو ما يدل عَلَى هذا المعنى.
وأيضًا فأبو داود لما ساق من كلام أحمد جواز تزويج زوجة المفقود كان تقريرًا منه لجواز تزويج أمهات أولاده، فلم يحتج إِلَى التصريح بجوازه، وإنما ساق أحكامه التي يحتاج إِلَى معرفتها لمخالفتها حكم تزويج الزوجة.
(1) في "الأصل": "أوده" وهو تصحيف.
وممن روي عنه جواز تزويج أم ولد المفقود صريحًا: الحسن البصري.
قال حرب: ثنا عبد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا أشعث بن عبد الملك، عن الحسن قال: إِن تزوجت أم ولد المفقود فهو أحق بها، وولدها بمنزلتها، ولا تتزوج هي حتى يمضي لها أربع سنين.
وقد روي عن عثمان وعلي أنهما قضيا في أم الولد إذا تزوجت لفقد سيدها ثم جاء سيدها أن الزوج يفدي ولده.
فروى الجوزجاني، ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن أبي المليح، عن، سهيمة ابنة عميرة "أن زوجها صيفي بن قتيل أسر في خلافة عثمان، فتزوجت هي وأمهات أولاده، فجاءوا عثمان وهو محصور، فسألوه، فَقَالَ: ألا ترون عَلَى أي حال أنا؟ ! فقلنا: بلى يا أمير المؤمنين، فَقَالَ: أرى أن يخير بين الصداق وبين امرأته، وترد عليه أمهات أولاده، وعلى الآباء أن يفادوا أولاده، فلما قتل عثمان رضي الله عنه وقام علي أتيناه فسألناه، فَقَالَ مثل ذلك، فأعطيته ألفين وأعطاه زوجي ألفين".
وروى هذا الحديث سعيد عن قتادة، عن أبي المليح "أن الحكم بن أيوب بعثه إِلَى سهيمة فسألها، فحدثت أن زوجها صيفيًّا قُتل، فتزوجت بعده العباس بن طريف القيسي، ثم إِنَّ الزوج الأول قدم، فأتينا عثمان بن عفان وهو محصور فأشرف علينا ثم قال: كيف أقضي بينكم وأنا عَلَى هذه الحال؟ ! فقلنا: قد رضينا بقولك، فقضى أن يخير الزوج الأول بين المرأة وبين الصداق فرجعنا، فلما قتل عثمان أتينا عليًّا فخير الزوج الأول بين الصداق وبين المرأة فاختار الصداق، وكانت له أم ولد فتزوجت بعده وولد لها أولاد من زوجها الآخر، فردها عليه وأولادها، وجعل لأبيهم أن يَفْتكّهُم (1) إِنَّ شاء".
وقال أيوب: "جعل أولادها لأبيهم".
خرجه الأثرم ومحمد بن سعد في "الطبقات"(2)، وخرّجه الخلال في
(1) أي: يعتقهم، من الفكاك وهو العتق.
(2)
(8/ 471).
"العلل" وذكر عن الميمونى، عن أحمد أنه قال: حماد بن زيد يجوده ويفسره.
وهذا يدل عَلَى ترجيح أحمد رواية حماد بن زيد، عن أيوب عَلَى رواية قتادة هذه.
وقد عد أحمد في رواية الأثرم هذا الحديث من جملة أحاديث امرأة المفقود، فدل عَلَى أنه رأى أن نعي هذه المرأة (لها هو أثرها وانقطاع خبره)(1) الَّذِي فسره حماد بن زيد في روايته، وهذه بلغها مع ذلك موته من وجه لا يثبت مجرده فانضم ذلك إِلَى انقطاع خبره، وهذا القضاء من عثمان وعلي رضي الله عنهما يدل عَلَى أنهما رأيا الحكم بحرية ام الولد عند فقد سيدها ظاهرًا، فلذلك قضيا بفداء الزوج ولده منها، كما يفدي المغرور بحرية أمته ولده منها عند ظهور سيدها، فإن من تزوج أمة يعلم رقها كان ولده منها رقيقًا لا يفدون إلا باختيار سيد الأمة بخلاف المغرور، وهذا الاستدلال ظاهر عَلَى رواية حماد عن أيوب أن عليًّا وعثمان قضيا بفداء الأولاد حتمًا.
وأما سعيد عن قتادة؛ فإنه جعل عليًّا وحده هو القاضي في ذلك، وأنه رد الأولاد عَلَى سيد أم الولد، وجعل لأبيهم أن يَفْتَكَّهم إِنَّ شاءوا، وهذا عَلَى تقدير أن يكون محفوظًا؛ فإنه قد يحمل عَلَى أن المغرور لا يحكم بحرية ولده إلا فكاكهم، وهو رواية عن أحمد.
قال أحمد في رواية حنبل في أمة قالت: إني حرة، فتزوجها فولدت منه أولادًا قيل للأب: أفتكَّ ولدك هؤلاء وإلا هم يتبعون الأم.
فظاهر هذه الرواية أن ولد المغرور بالحرية ينعقدون أرقاء، وإنما الأب يفتكهم بالفداء فيعتقون عليه، وظاهر ما روي عن علي يدل عَلَى أن الأب لا يجب عليه الافتداء، كما لا يجب عليه شراء ولده إذا رآه يباع، وقد يحمل عَلَى وجه آخر وهو أن من تزوج أم ولد فقد ( .... )(2) سيدها؛ فإنه أقدم عَلَى نكاح أمة حكم بعتقها بسبب ظاهر، مع جواز ظهور بقاء رقها
(1) كذا! !
(2)
بياض بالأصل.
بظهور سيدها. فلم يدخل عَلَى نكاح حرة في نفس الأمر، فلهذا كان ولدها منه تبعًا لها في حريتها الظاهرة ورجوعهم إلي الرق بظهور السيد، وهذا بخلاف الغرور الَّذِي لم يشعر برق المرأة المغرور بحريتها بالكلية، وبخلاف من شهد بموته اثنان، فحكم بعتق أم ولده ثم ظهر حيًّا؛ لأنّ العتق هنا استند إِلَى بينة شرعية، يجب العمل بها، بخلاف الحكم بعتق أمهات أولاد المفقود، فإنه إِنَّمَا استند عليه ظن مجرد.
وعلى هذين المحملين يحمل كلام الحسن البصري في قوله: ولدها بمنزلتها.
ونقل مهنا عن أحمد في أم ولد غاب عنها، فمكثت سنتين، ثم جاءها الخبر أنه قد مات. فزوجها، أخوها، فدخل بها وولدت منه، ثم جاء سيدها، لمن يكون الولد؟ قال: للآخر، {وعلى} (1) الَّذِي زوجها قيمة الولد، يدفعه إِلَى السيد. فقلت له: وترجع إِلَى سيدها؟ قال: نعم".
فهذه المسألة إِن حملت عَلَى أنها زوجت بخبر ثبت به الموت شرعًا كانت مما نحن فيه.
وإن حملت عَلَى أعم من ذلك دخلت فيه أم ولد المفقود، وأيضًا فقصة عثمان وعلي رضي الله عنهما تدل عَلَى جواز نكاح أم ولد المفقود عند إباحة نكاح نسائه {لأنّ} (2) وقوع ذلك في كلام عثمان إِنَّمَا يكون بعلمه وإذنه غالبًا، فإن مثل هذه القضايا المشكلة لا يفتات فيها عَلَى الإمام، وقد تنازع العُلَمَاء في توقيفها عَلَى إذن الإمام عَلَى قولين مشهورين، هما روايتان عن أحمد.
ولو قدر أنها لم تكن بإذن عثمان فالظاهر أنها كانت عن فتاوى أعيان علماء الصحابة. وأسوأ ما تقدر أن ذلك وقع عن غير فتيا ولا حكم، لكنه لم ينكر مع ظهوره واشتهاره.
(1) في "الأصل": "وعن" والمثبت أنسب للسياق.
(2)
في "الأصل": "لا" والمثبت أنسب للسياق.
والمعنى في جواز نكاح أمهات أولاد المفقود أنه إما أن يشبهن بالزوجات فلا يحبسن عَلَى مولاهن؛ لما فيه من الضرر كضرر الزوجات، فيتعين أنه يجوز لهن النكاح؛ دفعًا عن الضرر، ويوضح هذا أن الإماء يجب عَلَى سيدهن إعفافهن، إما بالوطء إِن أمكن، وإما بالتزويج، وإما أن يبيعهن لمن يقوم مقامه في ذلك إِن أمكن البيع.
وأمهات الأولاد لا يمكن فيهن البيع فيتعين إعفافهن بأحد الأمرين الأولين، والغائب قد يتعذر الإعفاف منه بالوطء فيتعين وجوب إعفافهن بالنكاح إِن طلبنه، وهذا ينقضي جواز إنكاح الحاكم لهن مع الغيبة المطلقة.
وإن لم يكن السيد مفقودًا؛ بل حصل لهن الضرر بترك الوطء، فقد صرح بذلك القاضي أبو يعلى في "الجامع الكبير" وإن الحاكم يزوج إماء الغائب إذا طلبن ذلك، وكانت غيبته منقطعة بحيث يجوز للولي الأبعد تزويج الحرة مع غيبة الولي الأقرب، فَإِذَا كان هذا في الغائب دون المفقود، فالمفقود أولى وأحرى أن يزوج أمهات أولاده.
وأما إِن تشبهت -أعني أمهات الأولاد- بالإماء القن (1) تغليبًا للمالية فيهن وهو مقتضى كلام أصحابنا في تضمينهن بالغصب {والعقد} (2) كما سبق ذكره، فيجب حينئذ أن يحكم فيهن بحكم المال، ومعلوم أن ماله يقسم عند الإمام أحمد إذا مضت مدة انتظاره كما سبق ذكره.
وإذا وجب قسمته فإنه يجب قسمته عَلَى مقتضى قسمة سائر التركات، فيبدأ بإخراج ما يخرج من رأس المال من ديون ونحوها، ثم بما يخرج من الثلث من الوصايا ونحوها، ثم يقسم الباقي بين الورثة عَلَى حكم الميراث.
(1) العبد القنّ: الَّذِي وُلد عندك، ولا يستطيع أن يخرج عنك. والأنثى: قنّ بغير هاء. قال الأصمعي: القن: الَّذِي كان أبوه مملوكًا لمواليه، وكأن القن مأخوذ من القنية. "اللسان" مادة:(قنن).
(2)
في "الأصل": "اليد".
وقول الأصحاب: يقسم ماله بين ورثته مرادهم به أنه يقسم عَلَى حكم سائر المواريث، لم يريدوا أنه يقسم جميعه عَلَى الورثة، ولا يخرج منه ما يخرج من رءوس الأموال، فإن هذا لا يقوله عاقل، وبعضهم صرح به يقسم بين الغرماء والورثة، منهم ابن عقيل وغيره، وهذا واضح لا خفاء به، ومعلوم أن عتق أمهات الأولاد يتعين إخراجه من رأس المال قبل الديون وغيرها، ولهذا لو مات المفلس وعليه ديون، ولم يخلف غير أم ولده لعتقت ولم يتخلص فيها الغرماء، فكيف يتوهم متوهم أن مال المفقود يوفى منه ديونه، ويترك أمهات أولاده يعتقن، وعتقهن يقدم عَلَى الديون؟ أم كيف يتوهم متوهم أن ماله يقسم بين ورثته ولا تخرج منه ديونه ولا تنفذ منه وصاياه؟
فإن قيل: ما الفرق بين توريث المال والحكم بالعتق؟
أما توريث المال لم يشترط له تعين حياة الوارث ولا الموروث عند أحمد بدليل أنه يورث الغرقاء والهدماء بعضهم من بعض، ويورث المفقود من مال مورثه الَّذِي مات في مدة انتظاره في أحد الوجهين لأصحابه وقد قيل: إِنَّ في كلامه إيماء إِلَيْهِ، فلذلك لا يعتبر له تعين وفاة الموروث.
وأما العتق فلا يحكم به مع الشك في وقوعه، كما لا يحكم بالطلاق مع الشك فيه.
قيل: قسمة مال المفقود عند الإياس من قدومه مشبه بملك اللقطة بعد حول التعريف للإياس من الاطلاع عَلَى مالكها، وكلاهما جائز لما في قسمة المال والتصرف فيه من المصلحة، ولما في {إمساكه} (1) وحبسه من الفساد وتعرضه لاستيلاء الظلمة عليه، وذلك هو الواقع في هذه الأزمان لا محالة، وكلاهما يجوز من غير استئذان حاكم، وقد نص عليه أحمد في رواية أبي داود في مال المفقود، مع تردده في رفع أمر زوجته إِلَى الحاكم، وكلاهما
(1) في "الأصل": "إنفاقه" والمثبت أنسب للسياق.
يتصرف فيه تصرفًا مراعًى بظهور صاحبه؛ فإن لم يظهر استمر التصرف في المالين عَلَى ما كان عليه من الصحة، وإن ظهر صاحبه؛ فإن كان عين المال موجودًا وجب رده عَلَى صاحبه، وإن كان مستهلكًا فهل يضمن له أم لا؟ عَلَى قولين مشهورين، وقد حكاهما الأصحاب روايتين عن أحمد في مال المفقود، وإن كان المنصوص عنه في أكثر الروايات عدم الضمان.
وكذلك عنه في اللقطة روايتان أيضاً حكاهما ابن أبي موسى، ومن هنا حكم الصحابة رضي الله عنهم بأن أم ولد المفقود إذا جاء وقد تزوجت فإنهم خيروه بينها وبين الصداق الَّذِي دفعه إليها؛ لأنّ الزوجة ليست ملكًا له، وإنما كان يملك الانتفاع ببعضها، وفي مقابلة ذلك بذل لها الصداق، فلذلك خير بين المال الَّذِي لزمه مقابلة البضع وبين عوضه وهو البضع، وحينئذ فلا فرق بين قسمة ماله بين ورثته وبين عتق أمهات أولاده، وليس هذا من قبيل الحكم بالعتق مع الشك في شروطه، وإنما هو من قبيل التصرف في مال من أيس من وجوده لفقده، وأيضًا فما ذكر من الفرق غير صحيح عَلَى مقتضى سواعد مذهب أحمد؛ فإن {العتق} (1) عنده يحكم به مع الشك في عين من وقع عليه، كما يحكم إخراج المعتقة المسببة عنده بالقرعة، ويكون ذلك مراعاة بدوام النسيان عَلَى أحد الوجهين؛ بل وفي الطلاق أيضاً كذلك عَلَى الصحيح المنصوص عنه وعليه أكثر الأصحاب؛ فإن قيل فأحمد يحتاط للأبضاع ويفرق بينها وبين المال، ولهذا قال فيمن مات بأرض غربة ولا وارث له: إنه يجوز لمن معه أن يجمع ماله ويبيعه إلا الجواري؛ فإنه لا يبيعهن إلا الحاكم، وعلل بأن البضع يحتاط له، فلا يجوز أن يباع إلا بإذن الملك أو الحاكم، وكذلك فرق بين بيع المدبرة والمدبر في رواية عنه لهذا المعنى، وهذا يقتضي أن يفرق هاهنا بين مال المفقود وأمهات أولاده وهذا التفريق لم يقل به أحد في مال
(1) في "الأصل": "المعتق" والمثبت أنسب للسياق.
المفقود، وذلك أنه سوى بين حكم ماله وزوجاته عَلَى ما سبق، وبضع الزوجة آكد حرمة من بضع الأمة، وأيضًا فإنه لم يفرق في مال المفقود بين الإماء وغيرهن، ولا أحد من {الصحابة} (1)، فلو كان في ماله أمة جاز بيعها وقسمة ثمنها، وجاز لبعض الورثة أن يأخذها من نصيبه برضاء الباقين، ولو كان الوارث واحدًا واختص بها {جاز} (2) له وطؤها.
فعلم أن أحمد لم يراع هذا الفرق في مال الفقود بالكلية، وحينئذ فتجب التسوية بين أمهات أولاده وسائر رقيقه وأمواله في حكم القسمة، إلا أن قسمة أم الولد بين الورثة والغرماء والوصايا متعذر، وإنما قسمتها إرسالها وتمكينها عَلَى حكم العتق لها ظاهرًا.
ومما يدل عَلَى هذا أن أحمد يرى أن المفقود إذا مضت هذه المدة في انتظاره بحكم له بأحكام الموتى مطلقًا، وأنه نص عَلَى أن نفقة زوجته تسقط من ماله بعد مدة انتظاره، ولو حبست نفسها عليه بعد ذلك منتظرة له.
قال في رواية الأثرم: مال المفقود إذا أمرت به امرأته أن تزوج قسمت ماله بين ورثته، قال: فقلت له: ففي هذه الأريع سنين والأربعة أشهر أليس ينفق عليها من ماله؟ قال لي: فبد لها من نفقة، قلت: فإن أحبت أن تقيم عليه بعد الأربع سنين والأربعة أشهر أليس لها ذاك؟ فمن أين ينفق عليها بعد؟ قال: أنا أرى إذا مضى هذا الأجل أن يقسم المال، قلت: فَإِذَا قسم المال فمن أين ينفق عليها؟ أليس لها بعد الأجل نفقة؟
وهذا نص في أن نفقتها تسقط بانقضاء أربع سنين وأربعة أشهر وعشر عنه بموته بعد انقضاء هذه المدة، وإنما وجب لها النفقة هاهنا في مدة العدة، وإن كان عنده لا يجب {للمتوفى} (3) عنها نفقة في مدة عدتها؛ لأنّ الوفاة هاهنا غير متيقنة فيها بخلاف من علمت وفاة زوجها، وقد أشار إِلَى هذا المعنى في
(1) في الأصل: أصحابه.
(2)
في الأصل: وجاز.
(3)
في الأصل: المتوفى.
رواية صالح فَقَالَ في نفقة الحامل، يموت عنها زوجها أو يطلقها: إِن قامت البينة فمن نصيبها، وإن لم يصح الخبر ولم تقم البينة فمن جميع المال؛ لأنها حبست نفسها عليه، وهذا النص يخالف ما قاله كثير من الأصحاب: أن لها النفقة من مال الغائب ما لم تتزوج أو يفسخ الحاكم نكاحها، ولما قاله بعضهم كابن الزاغوني أنه لا نفقة لها في مدة الأربعة أشهر لا كما في عدة وفاته، وذكر أبو البركات في "شرح الهداية" أنه قياس المذهب عنده، والمنصوص عن أحمد هو منقول عن عمر وابن عباس، لكنهما اختلفا في نفقة الأربع سنين، فَقَالَ ابن عمر: هي من مال المفقود. وقال ابن عباس: إذًا يجحف بالوارث، ولكن يستقرض وينفق؛ فإن جاء زوجها قضى ذلك، وإن لم يأت فهو من نصيبها. وكذلك نص أحمد عَلَى أن مال المفقود بعد مضي المدة المعتبرة لانتظاره يُزكى لما مضى من السنين معللاً بأن صاحبه مات وعليه زكاته، والزكاة تخرج من رأس المال، وهذا يدل عَلَى أنه يحكم بوفاته ظاهرًا بعد هذه المدة، وعلى هذا فتخرج الزكاة من أصل مال المفقود، فإن كان عليه دين تحاصا عَلَى المنصوص عليه في اجتماع الزكاة والدين عَلَى الميت.
وهذا نص منه بإخراج جميع الواجبات عن الميت من ماله بعد مدة انتظاره، سواء كانت لآدمي أو لله، وعتق أم ولد المفقود من قبيل إخراج الزكاة من ماله؛ لأنّه حق واجب لله تعالى، وإن كان مستحقه آدميًّا معينًا بخلاف الزكاة؛ فإن مستحقها آدمي غير معين، وطرد هذا أن تنفذ منه وصاياه ويعتق المدبرون.
***