الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن كان من عقيق فوجهان:
أحدهما: يصح السلم فيه بالوصف، وهو قول القاضي؛ لأنّه يمكن ضبطه (ويقل)(*) تفاوته.
والثاني: لا. وهو قول ابن عقيل لمساواته للجواهر في المعنى الَّذِي لا يمكن ضبطه بالقول.
وإن كان من غير ذلك مما يمكن ضبطه بالصفة، ويصح السلم فيه مفردًا كالحديد والنحاس وغيرهما صح عَلَى الصحيح، ويضبطه بما يتميز به ويتخرج فيه وجه آخر: أنَّه لا يصح السلم فيه بناء عَلَى أحد الوجهين فيما له أخلاط مقصودة تتميز كالثوب المنسوج من كتان وقطن والنبل المريش فإن فيه وجهين.
فصل [استصناع الخواتم]
وأما استصناع الخواتم فله صور:
إحداهما: أن يأتيه بفضة ويستأجره عَلَى (صياغتها)(**) خاتمًا بأجرة ما معلومة.
فهذه إجارة محضة لا ريب في جوازها.
وكذلك إذا اشترى منه فضة معلومة وتقابضا في المجلس، ثم شرط عليه صياغتها بأجرة معلومة.
وكذلك إذا اشترى منه فضة معلومة وشرط عليه عملها خاتمًا وقبضها ثم تركها عنده، فإن هذا من جنس اشتراط نفع البائع، والمذهب. المنصوص صحته، وفيه وجه أنَّه لا يصح.
وربما رجح هاهنا بأنه اشترى فضة ومنفعة بفضة، فهو كما لو اشترى جنسًا ربويًا ومعه غيره بجنسه، ولكن المنصوص هاهنا صحته، ومنعه إسحاق ابن راهويه.
(*) ونقل: "نسخة".
(**) صناعتها: "نسخة".
ففي كتاب الخلَاّل عن إسحاق بن منصور قال:
قلت لأبي عبد الله: رجل ابتاع فضة من رجل واشترط عليه أن يصوغ خاتمًا، فَقَالَ:"هذا يكره. هذا يصيرُ نَسيئةً".
قال أحمد: جيد هذا مكروه في نفس البيع، ولكن لو سَمَّى له الكراء لم يكن به بأس، هو أيضاً شرط في صرف.
قال إسحاق: لا يجوز في هذا اشتراط، والصرف منتقض.
قلت: فقد فرق أبو عبد الله رضي الله عنه بين أن يسمى له الكراء أولاً، فإن سمى له الكراء جاز، وعلله بأنه شرط في صرف، ومعناه: أن غايته أن يكون كالشرط.
وإن لم يُسمَّ له الكراء فقد كرهه، ولعله كرهه لما فيه من الجمع بين بيع الفضة بفضة، فيكون بيع جنسين بأحدهما كـ "مد عجوة" وهي ها هنا محرمة؛ لأنّه ينقص بالأجرة قيمة الفضة فتصير متفاضلة، بخلاف ما إذا ابتاع منه الفضة بوزنها ثم استأجره عَلَى صياغتها بأجرة معلومة، فإن تلك المفسدة تزول بتفصيل الثمن والأجرة. ويحتمل -وهو الأظهر- أن يكون كره ذلك إذا لم يُسَمِّ له الكراء لعدم التقابض، ولهذا علله بأنه يصير نسيئة في البيع بخلاف ما إذا سمى له الكراء فإنَّه يصير مستأجرًا له عَلَى الصياغة، فتصير يده يد إجارة محضة بائنةٍ عن يد المشتري فكأنه قد وكَّله في قبضه له، ولو فعل ذلك جاز وصحَّ القبض.
فكذلك إذا استأجره عليه إجارة مستقلة بأجرة مسماة بخلاف ما إذا لم يسمَّ له الأجره وشَرَطَ عليه العمل؛ فإن الإجارة تكون في ضمن عقد البيع فتكون تابعة له وداخلةً في ضمنه ولم يحصل القبض فكرهه لذلك.
ولعله كرهه كراهة تنزيه؛ لأنّ يد البائع أيضاً يد أجير في مده الصياغة، وإن كانت داخلة في ضمن البيع، ولهذا لا بد أن يكون قد زاد في الثمن لأجل الصياغة ولا بد. وقوله: فيما إذا سمى الكراء هو أيضاً شرط في صرف يومئذ، ذلك فإن معناه أنَّه لا يخرج بالتسمية عن أن يكون شرطًا في عقد الصرف كما لو لم يسمَّ.
وقد حملها القاضي في خلافه عَلَى أن الشرط إِنَّمَا يؤثر إذا كان في نفس العقد دون ما قبله وبعده، وساق رواية ابن منصور، ولعلها في رجل ابتاع فضة من رجل واشترط عليه أن يصوغ صياغًا فهو مكروه في نفس العقد، ولكن لو سأله الكراء لم يكن له تأثير.
والصورة الثانية: قال له: صُغ لي خاتمًا حتى أعطيك بوزن الفضة وأجرة الصياغة.
فهذا لا يجوز، ذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما؛ لأنهما تبايعا فضة مجهولة بفضة مجهولة، وتفرقا قبل القبض، وأيضًا فالأجرة مجهولة.
الصورة الثالثة: قال له: صُغ لي خاتمًا حتى أعطيك درهمًا وأجرتك درهمًا.
فَقَالَ في المغني: ليس هذا ببيع درهم بدرهمين، بل قال أصحابنا: للصائغ أخذ الدرهمين أحدهما في مقابلة الخاتم، والثاني في مقابلة (أجره)(*) لعمله. انتهى.
وفيه نظر فإنَّ هذا ليس بيعًا لعدم التقابض في المجلسى ولا إجارة؛ لأنّ الإجارة إِنَّمَا تعقد عَلَى المنافع لا عَلَى الأعيان، وإنَّما تدخل فيها الأعيان تبعًا {كجر} (1) الناسخ أو تكون الأعيان فيها من جنس المنافع تستخلف شيئًا بعد شيء كلبن الظئر (2) وماء البئر. وهذا كله مفقود قيما نحن فيه. وأيضًا فهذا بعيد عن أصلنا في سد الذرائع وإبطال الحيل، فإن هذا حيلة عَلَى بيع درهم بدرهمين نساء.
ومعلوم أن أحمد يمنع من باع شيئًا نسيئة بثمن في الذمة أن يبتاع به عند حلوله ما يباع به نسيئة سليم لذريعة ربا النسيئة خاصة، فكيف بربا الفضل مع النساء مع أن الحيلة ثم بعيدة أو متتفية، وها هنا ظاهرة، بل لا معنى لهذا غير الحيلة عَلَى بيع درهم بدرهمين.
(*) أجرة: "نسخة".
(1)
كذا ولعلها: "كحبر".
(2)
الظئر هنا: المرضع المستأجرة.
وأيضًا فإن القاضي أبا يعلى في "الخلاف الكبير" ومن تابعه كابنه أبي الحسين، وأبي الخطاب، والشريف أبي جعفر ذكروا أن استصناع القمقم والطست والخف ونحو ذلك بمال معلوم لا يصح.
وهو قول الشافعي، واستدلوا عَلَى ذلك بأنه بيع ما ليس عنده عَلَى غير وجه السلم، فلم يجز كاستصناع الثياب فإنَّه لا يجوز بالاتفاق، وإن وصف طولها وعرضها وجنسها، وحكوا عن مالك جوازه إذا ضرب له أجلاً، وأنه جعله سلمًا. وعن أبي حنيفة جوازه استحسانًا لأجناسها في ذلك، ولم يزل في الإسلام ولم نعلم له (منكر)(1). وعن الرازي -من أصحابه- أنَّه يقع فاسدًا، لكن إذا جاء به الصانع ورضي به المستصنع كان ذلك بمنزلة عقد مبتدأ فيما بينهما. هذا مع أن هذه الأقوال كلها متوجهة عَلَى المذهب (توجيهًا)(*) ظاهرًا.
فإن السلم في هذه الأعيان لا يصح عَلَى أحد الوجهين إذا ذكر شروطها المعتبرة، والمستصنع لا بد أن يذكر صفاتها التي يختلف بها الثمن، فإذا ضرب مع ذلك أجلاً فهو السَّلم بعينه، وإلا فهو السَّلم الحال.
وفيه الخلاف المعروف، والتعليل بأن ذلك لم يزل في الإسلام، قد علل به أحمد نفسه في بيع التمر في جلاله.
وقد ذكر ابن المنذر أن الاستصناع جائز، وأنه إذا جاء عَلَى الوصف فلا خيار له فيه عن أبي ثور واختاره. وأما إذا تراضيا بذلك عند إحضاره، وسلَّم إِلَيْهِ الثمن قهذا بعينه بيع المعاطاة.
وقد قال أحمد في رواية "الأثرم" وقد سأله عن رجل أخذ من رجل رطلاً من كذا، ومنّا (2) من كذا، ولم يقاطعه عَلَى سعره ولم يعطه ثمنه، أيجوز هذا؟
(1) كذا في النسخ الثلاث، والصواب:"منكرًا".
(*) توجهًا: "نسخة".
(2)
المن: كيل معروف أو ميزان أو رطلان.