الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
قد تقدم بيان دلالة الآية عَلَى أن من خشي الله وأطاعه، وامتثل أوامره، واجتنب نواهيه، فهو عالم؛ لأنّه لا يخشاه إلا عالم.
وعلى نفي الخشية عن غير العُلَمَاء، ونفي العِلْم عن غير أُولي الخشية أيضاً، وأن من لم يخش الله فليس بعالم، وبذلك فسرها السَّلف.
- فعن ابن عباس قال: يريد إِنَّمَا يخافني من خلقي مَن علم جبروتي وعزِّتي وجلالي وسلطاني".
وعن مجاهد والشعبي: "العالِم من خاف الله".
وعن ابن مسعود قال: "كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً"(1).
وذكر ابن أبي الدُّنْيَا، عن عطاء الخراساني في هذه الآية قال:"العُلَمَاء بالله الذين يخافونه".
وعن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: "من لم يخش الله فليس بعالم، ألا ترى أن داود قال: ذلك بأنك جعلت العِلْم خشيتك والحكمة الإيمان بك، وما عِلم مَن لم يخشك وما حكمة من لم يؤمن بك، وعن الربيع، عن أبي العالية {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} (2)، قال: "الحكمة" الخشية، فإن خشية الله رأس كل حكمة".
وروى الدارمي من طريق عكرمة، عن ابن عباس:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ، قال:"من خشي الله فهو عالمٌ"(3).
وعن يحيى بن جعدة، عن علي قال: "يا حملة العِلْم اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم فوافق علمه عمله، وسيكون أقوامٌ يحملون العِلْم،
(1) أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(46)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(14/ 343) برقم (34532)، والطبراني في "الكبير"(9/ 8927)، والبيهقي في "الشعب"(746) وغيرهم.
(2)
البقرة: 269.
(3)
في "السنن" برقم (333).
ولا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حِلَقًا فيباهي بعضهم بعضًا، حتى أن الرجل ليغضب عَلَى جليسه أن يجلس إِلَى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إِلَى الله عز وجل" (1).
وعن مسروق قال: "كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله عز وجل، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعمله".
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "لا يكون الرجل عالمًا حتى لا يحسد من فوقه، ولا يحقر من دونه، ولا يبتغي بعلمه ثمنًا"(2).
وعن أبي حازم نحوه.
ومنه قول الحسن: "إِنَّمَا الفقيه الزاهد في الدُّنْيَا الراغب في الآخرة، البصير بدينه المداوم عَلَى عبادة ربه".
وعن عبيد الله بن عمر، أن عمر بن الخطاب سأل عبد الله بن سلام: من أرباب العِلْم؟ قال: الذين يعملون بما يعلمون (3).
وقال رجل للشعبي: أفتني أيها العالم، فَقَالَ:"إِنَّمَا العالم من يخاف الله".
وعن الربيع بن أنس، عن بعض أصحابه قال:"علامة العِلْم خشية الله عز وجل".
وسئل سعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال: "أتقاهم لربه".
وسئل الإمام أحمد عن معروف، وقِيلَ لَهُ: هل كان معه علم؟ فَقَالَ: "كان معه أصل العِلْم، خشية الله عز وجل".
ويشهد لهذا قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (4).
وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ
(1) أخرجه الدارمي في "السنن"(382).
(2)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 306).
(3)
أخرجه الدارمي في "السنن"(575).
(4)
الزمر: 9.
يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} (1).
قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} (4)، فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب قبل الموت، فقد تاب من قريب.
وعن قتادة، قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى أن كل من عصى ربه، فهو جهالة عمدًا كان أو لم يكن، وكل من عصى الله فهو جاهل.
وقال مجاهد: من عمل ذنبًا من شيخ أو شاب فهو بجهالة.
وقال أيضاً: من عصى ربه فهو جاهل؛ حتى ينزع عن معصيته.
وقال أيضاً: من عمل سوءًا خطأ أو إثمًا عمدًا فهو جاهل حتى ينزع منه.
وقال أيضاً هو وعطاء: الجهالة العمد.
رواهنَّ ابن أبي حاتم وغيره.
قال: ورُوي عن قتادة وعمرو بن مرة والثوري نحو ذلك.
ورُوي عن مجاهد والضحاك قالا: ليس من جهالته ألا يعلم حلالاً ولا حرامًا، ولكن من جهالته حين دخل فمه.
وقال عكرمة: الدُّنْيَا كلها جهالة.
(1) النساء: 17.
(2)
الأنعام: 54.
(3)
النحل: 119.
(4)
النساء: 17.
وعن الحسن البصري أنَّه سئل عنها، فَقَالَ: هم قوم لم يعلموا ما لهم وما عليهم.
قِيلَ لَهُ: أرأيت لو كانوا علموا؟
قال: فليخرجوا منها فإنها جهالة.
ومما يُبين أن العِلْم يوجب الخشية، وأن فقده يستلزم فقد الخشية وجوه:
أحدها: أن العِلْم بالله تعالى وماله من الأسماء والصفات كالكبرياء والعظمة والجبروت والعزة وغير ذلك يوجب خشيته، وعدم ذلك يستلزم فقد هذه الخشية.
وبهذا فسر الآية ابن عباس فَقَالَ: يريد إِنَّمَا يخافني من علم جبروتي وعزتي وجلالي وسلطاني.
ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية"(1).
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا"(2).
وفي "المسند"(3) وكتاب الترمذي (4) وابن ماجه (5) من حديث أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، إِن السَّمَاءُ أَطَّت وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، لَيسَ فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا لِلَّهِ عز وجل، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا،
(1) أخرجه البخاري (6101) ومسلم (2356) من حديث عائشة بلفظ، "فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية".
(2)
أخرجه البخاري (4621، 6486)، ومسلم (2359) من حديث أنس.
(3)
(5/ 173).
(4)
برقم (2312). وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذر قاله: لوددت أني شجرة تعضد. وقال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس وأنس.
(5)
برقم (4190).
وما تلذذتم بالنساء علي الفرش، ولخرجتم إِلَى الصُّعدات (1) تجأرون (2) إِلَى الله عز وجل".
وقال الترمذي: حسن غريب. قال: ويروى عن أبي ذر موقوفًا.
وذكر أبو نعيم وغيره بالإسناد عن ابن عباس أنَّه قال للنفر الذين كانوا يختصمون ويتمارون: "أوما علمتم أن لله عبادًا أصمتتهم خشية الله من غير بكم ولا عي، وإنهم لهم العُلَمَاء والفصحاء والطلقاء والنبلاء، العُلَمَاء بأيام الله، غير أنهم إذا تذكروا عظمة الله طاشت لذلك عقولهم، وانكسرت قلوبهم، وانقطعت ألسنتهم، حتى إذا استفاقوا من ذلك تسارعوا إِلَى الله عز وجل بالأعمال الزاكية يعدون أنفسهم مع المفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء مع الظالمين والخاطئين، وإنهم لأبرار برءاء إلا أنهم لا يستكثرون إلا الكثير، ولا يرضون له بالقليل، ولا يدلُّون عليه بالأعمال، هم حيث ما ليقتموهم مهتمون مشفقون وجلون خائفون".
وروى ابن أبي الدُّنْيَا أثرًا عن زياد بن {أبي} حبيب أنَّه بلغه أن من جملة العابدين من يسيل من عينه أمثال الأنهار من البكاء، فإذا رفع رأسه قال: سبحانك ما تُخشى حق خشيتك، قال -تعالى ذكره-:"لكن الذين يحلفون باسمي كاذبين لا يعلمون ذلك".
وعن يزيد الرقاشي قال: "إن لله تبارك وتعالى ملائكة حول العرش تجري أعينهم مثل الأنهار إِلَى يوم القيامة يميدون كأنهم تنفضهم الريح من خشية الله".
فيقول الرب عز وجل: ملائكتي! ما الَّذِي يخيفكم وأنتم عندي؟
فيَقُولُونَ: يا رب! لو أن أهل الأرض اطلعوا من عزتك وعظمتك عَلَى ما اطلعنا عليها ما أساغوا طعامًا ولا شرابًا ولا انبسطوا في فرشهم، ولخرجوا إِلَى الصحاري يخورون كما تخور البقر.
(1) الطرق.
(2)
ترفعون أصواتكم بالدعاء.
ومثل هذا كثير جداً، والمقصود: أن العِلْم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله من قدره، وخلقه، والتفكير في عجائب آياته المسموعة المتلوة وآياته المشاهدة المرئية مع عجائب مصنوعاته، وحكم مبتدعاته ونحو ذلك، مما يوجب خشية الله وإجلاله، ويمنع من ارتكاب نهيه، والتفريط في أوامره، وهو أصل العِلْم النافع.
ولهذا قال طائفة من السَّلف كعمر بن عبد العزيز، وسفيان بن عيينة: أعجب الأشياء قلب عرف ربه ثم عصاه.
وقال بشر بن الحارث: لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوا الله.
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
فواعجبًا كيف يعصى الإله
…
وكيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكة وتسكينة
…
أبدًا شاهد
وفي كل شيءٍ له آية
…
تدل عَلَى أنَّه واحد
الوجه الثاني: أن العِلْم بتفاصيل أمر الله ونهيه والتصديق الجازم بذلك، وبما يترتب عليه من الوعد والوعيد، والثواب والعقاب مع تيقن مراقبة الله واطلاعه ومشاهدته، ومقته لعاصيه، وحضور الكرام الكاتبين كل هذا يوجب الخشية، وفعل المأمور وترك المحظور، وإنَّما يمنع الخشية ويوجب الوقوع في المحظورات الغفلة عن استحضار هذه الأمور، والغفلة من أضداد العِلْم.
والغفلة والشهوة أصل الشر، قال تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (1).
والشهوة وحدها لا تستقل بفعل السيئات إلا مع الجهل، فإن صاحب الهوى لو استحضر هذه الأمور المذكورة، وكانت موجودة في ذكره، لأوجبت له الخشية القامعة لهواه، ولكن غفلته عنها مما يوجب نقص إيمانه الَّذِي أصله التصديق الجازم المترتب عَلَى التصور التام، ولهذا كان ذكر الله وتوحيده والثناء
(1) الكهف: 28.
عليه يُزيد الإيمان، والغفلة والإعراض عن ذلك يُضعفه ويُنقصه، كما كان يقول من يقول من الصحابة:"اجلسوا بنا نؤمن ساعة"(1).
وفي الأثر المشهور عن حماد بن سلمة (2)، عن أبي جعفر الخطمي، عن جده عمير بن حبيب، وكان من الصحابة قال:"الإيمان يزيد وينقص".
قيل: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله فحمدناه وسبحناه فتلك زيادته، وإذا أغفلنا ونسينا فذلك نقصانه.
وفي مسند الإمام أحمد (3)، والبزار من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"جددوا إيمانكم".
قالوا: وكيف نجدد إيماننا يا رسول الله؟
قال: "قولوا: لا إله إلا الله".
(1) ذكره البخاري تعليقًا في كتاب الإيمان -باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام عَلَى خمس".
قال البخاري: وقال معاذ
…
فذكره. الفتح (1/ 60). وعزاه الحافظ إِلَى أحمد بن حنبل وأبي بكر بن أبي شيبة في "كتابي الإيمان" لهما، وذكر إسناديهما. وقال: هذا موقوف صحيح. تعليق التعليق (2/ 20 - 21).
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" برقم (10412، 414 - 1، 16547).
وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه" برقم (10415) عن زر قال: كان عمر مما يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول: "قم بنا نزدد إيمانًا".
(2)
أخرجه الحاكم في "شعار أصحاب الحديث"(8)، والآجرى في "الشريعة"(215) كلاهما من طريق حماد بن سلمة به.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(10376)، وعبد الله بن أحمد في "السنة"(634، 680)، والصابوني في "عقيدة أهل السنة"(105)، والحاكم في "شعار أصحاب الحديث"(7)، والبيهقي في "الشعب"(56)، والآجرى في "الشريعة"(216) وغيرهم من طريق حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي عن أبيه عن جده عمير بن حبيب بن خماشة به.
قال الحافظ في "الإصابة"(3/ 30): وقال ابن السكن: تفرد به حماد بن سلمة، وقال أبو نعيم: اسم أبي جعفر: عمير بن يزيد بن حبيب وأخرجه ابن شاهين من وجه آخر عن حماد بن سلمة قال: حدثنا أبو جعفر الخطمي قال: كان جدى عمير بن حبيب - وكانت له صحبة- يقول: "أي بني الإيمان يزيد وينقص".
(3)
أخرجه أحمد (35912) وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في الضعيفة (896).
ولهذا كان الصحيح المشهور عن الإمام أحمد، الذي عليه أكثر أصحابه، وأكثر علماء السنة من جميع الطوائف، أن ما في القلب من التصديق والمعرفة يقبل الزيادة والنقصان، فالمؤمن يحتاج دائمًا كل وقت إِلَى تجديد إيمانه وتقوية يقينه، وطلب الزيادة في معارفه، والحذر من أسباب الشك والريب والشبهة، ومن هنا يعلم معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"(1)، فإنَّه لو كان مستحضرًا في تلك الحال لاطلاع الله عليه ومقته له مع ما توعده الله به من العقاب المجمل والمفصل استحضارًا تامًّا لامتنع منه بعد ذلك وقوع هذا المحظور، وإنَّما وقع فيما وقع فيه لضعف إيمانه ونقصه.
الوجه الثالث: أن تصور حقيقة المخوف يوجب الهرب منه، وتصور حقيقة المحبوب يوجب طلبه، فإذا لم يهرب من هذا، ولم يطلب هذا، دل عَلَى أن تصوره لذلك ليس تامًّا، وإن كان قد تصور الخبر عنه، وتصور الخبر وتصديقه وحفظ حروفه غير تصور المخبر به، فَإِذَا أخبر بما هو محبوب أو مكروه له، ولم يكذب الخبر، بل عرف صدقه، لكن قلبه مشغول بأمور أخرى عن تصور ما أخبر به، فهذا لا يتحرك للهرب ولا للطلب.
وفي الأثر المعروف عن الحسن، ورُوي مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم:"العِلْم علمان، فعلم في القلب، فذاك العِلْم النافع، وعلم عَلَى اللسان فذاك حجة الله عَلَى ابن آدم"(2).
الوجه الرابع: أن كثيرًا من الذنوب قد يكون شب وقوعه جهل فاعله بحقيقة قبحه وبغض الله له، وتفاصيل الوعيد عليه، وإن كان عالمًا بأصل تحريمه وقبحه، لكنه يكون جاهلاً بما ورد فيه من التغليظ والتشديد ونهاية القبح، فجهله بذلك هو الَّذِي جرأه عليه وأوقعه فيه، ولو كان عالمًا بحقيقة قبحه لأوجب ذلك العِلْم تركه خشية من عقابه.
(1) أخرجه البخاري (2475) وفي مواضع أخر، ومسلم (57) من حديث أبي هريرة، وأخرجه البخاري (6782) وفي مواضع أخر من حديث ابن عباس.
(2)
أخرجه الخطيب في "تاريخه"(4/ 346)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1/ 82).
ولهذا فإن القول الصحيح الَّذِي عليه السَّلف وأئمة السنة أنَّه يصح التوبة عن بعض الذنوب دون بعض خلافًا لبعض المعتزلة، فإن أحد الذنبين قد يعلم قبحه فيتوب منه، ويستهين بالآخر لجهله بقبحه وحقيقة مرتبته فلا يقلع عنه، وكذلك قد يقهره هواه، ويغلبه في أحدهما دون الآخر، فيقلع عما لم يغلبه هواه فيه دون ما غلبه فيه هواه.
ولا يقال: لو كانت الخشية عنده موجودة لأقلع عن الجميع؛ لأنّ أصل الخشية عنده موجودة، ولكنها غير تامة، وسبب نقصها إما نقص علمه، وإما غلبة هواه، فنقص توبته نشأ من كون المقتضي للتوبة من أحد الذنبين أقوى من المقتضي للتوبة من الآخر، وكون المانع من التوبة من أحدهما أشد من المانع من الآخر.
الخامس: أن كل من علم علماً تامًّا جازمًا بأن فعل شيء يضره ضررًا راجحًا ولم يفعله فإن هذا خاصة العاقل، فإن نفسه تنصرف عما يعلم رجحان ضرره بالطبع.
فإن الله جعل في النفس حبًّا لما ينفعها، وبغضًا لما يضرها فلا يفعل ما يجزم بأنه يضرها ضررًا راجحًا، ولا يقع ذلك إلا مع ضعيف العقل؛ فإن السقوط من موضع عالٍ أو في نهرٍ مغرقٍ، والمرور تحت حائط يخشى سقوطه، ودخول نار متأججة، ورمي المال في البحر ونحو ذلك، لا يفعله من هو تام العقل؛ لعلمه بأن هذا ضررٌ لا منفعة فيه، وإنَّما يفعله من لم يعلم ضرره كالصبي والمجنون والساهي والغافل.
وأما العقل فلا يقدم عَلَى ما يضره مع علمه بما فيه من الضرر إلا لظنه أن منفعته راجحة إما بأن يجزم بأن ضرره مرجوح، أو يظن أن خيره راجح، كالذي يركب البحر، ويسافر الأسفار الخطرة للربح، فإنَّه لو جزم بأنه يغرق أو يخسر لما فعل ذلك، وإنَّما أقدم عليه لترجيح السلامة عنده والربح، وإن كان قد يكون مخطئًا في هذا الظن، وكذلك الزاني والسارق ونحوهما، لو حصل لهم جزم بإقامة الحدود عليهم من الرجم والقطع ونحو ذلك لم يقدموا
عَلَى ذلك، فإذا علم هذا فأصل ما يوقع الناس في السيئات الجهل وعدم العِلْم بأنها تضرهم ضررًا راجحًا، أو ظنّ أنها تنفعهم نفعًا راجحًا، وذلك كله جهلٌ إما بسيط وإما مركب، ولهذا يسمى حال فعل السيئات الجاهلية، فإن صاحبها في حال جاهلية، ولهذا كان الشيطان يزين السيئات ويأمر بها، ويذكر ما فيها من المحاسن التي يظن أنا منافع لا مضار، كما أخبر الله عنه في قصة آدم أنَّه قال:{يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} (1).
وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} (4).
وتزيين أعمالهم يكون بواسطة الملائكة والأنبياء والمؤمنين للخير، وتزيين شياطين الإنس والجن للشر.
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} (6).
ومثل هذا كثير.
فالفاعل للذنب لو جزم بأنه يحصل له به الضرر الراجح لم يفعله، لكنه
(1) طه: 120 - 121.
(2)
الأعراف: 20.
(3)
الزخرف: 36 - 37.
(4)
فاطر: 8.
(5)
الأنعام: 108.
(6)
الأنعام: 137.
يزين له ما فيه من اللذة التي يظن أنها مصلحة، ولا يجزم بوقوع عقوبته بل يرجو العفو بحسنات أو توبة أو بعفو الله ونحو ذلك.
وهذا كله من اتباع الظن وما تهوى الأنفس، ولو كان له علم كامل لعرف به رجحان ضرر السيئة، فأوجب له ذلك الخشية المانعة من مواقعتها ونبين هذا:
بالوجه السادس هو: أن لذات الذنوب لا نسبة لها إِلَى ما فيها من الآلام والمفاسد البتة، فإن لذاتها سريعة الانقضاء، وعقوباتها وآلامها أضعاف ذلك، ولهذا قيل:"إن الصبر عَلَى المعاصي أهون من الصبر عَلَى عذاب الله".
وقيل: رب شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلاً.
وما في الذنوب من اللذات كما في الطعام الطيب المسموم من اللذة، فهي مغمورة بما فيه المفسدة، ومُؤثر لذة الذنب كمؤثر لذة الطعام المسموم الَّذِي فيه من السمون ما يُمرض أو يقتل.
ومن هاهنا يعلم: أنَّه لا يؤثر لذات الذنوب إلا من هو جاهلٌ بحقيقة عواقبها، كما لا يؤثر أكل الطعام المسموم للذته إلا من هو جاهل بحاله، أو غير عاقل، ورجاؤه التخلص من شرها بتوية أو عفو، أو غير ذلك، كرجاء آكل الطعام المسموم الطيب الخلاص من شر سُمه بعلاجٍ أو بغير، وهو في غاية الحمق والجهل، فقد لا يتمكن من التخلص منه بالكلية فيقتله سمه، وقد لا يتخلص منه تخلصًا تامًا فيطول مرضه، وكذلك المذنب قد لا يتمكن من التوية، فإن من وقع في ذنب تجرأ عَلَى غيره، وهان عليه خوض الذنوب، وعسر عليه الخلاص منها، ولهذا قيل من عقوبة الذنب: الذنب بعده، وقد دل عَلَى ذلك القرآن في غير موضع، وإذا قُدِّر أنَّه تاب منه فقد لا يتمكن من التوية النصوح (الحاصلة)(*) التي تمحو أثره بالكلية، وإن قُدِّر أنَّه تمكن من ذلك، فلا يقاوم اللذة الحاصلة بالمعصية ما في التوبة النصوح المشتملة عَلَى الندم والحزن والخوف والبكاء وتجشم الأعمال الصالحة المشقة من الألم والمشقة.
(*) كتب فوقها: كذا وكتب في الهامش: لعلها الخالصة.
ولذا قال الحسن: ترك الذنب أيسر من طلب التوبة.
ويكفي المذنب ما فاته في حال اشتغاله بالذنوب من الأعمال الصالحة التي كان يمكنه تحصيل الدرجات بها.
وقد اختلف الناس في التائب هل يمكن عَوْدُه إِلَى ما كان عليه قبل المعصية عَلَى قولين معروفين، والقول بأنه لا يمكن عوده إِلَى ما كان عليه قول أبي سليمان الداراني وغيره.
وكذلك اختلفوا في التوبة إذا استكملت شروطها هل يجزم بقبولها؟ عَلَى قولين:
فالقاضي أبو بكر وغيره من المتكلمين عَلَى أنَّه لا يجزم بذلك، ولكن كثير من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم عَلَى أنَّه يقطع بقبولها.
وإن قُدِّر أنَّه عُفي عنه من غير توبة، فإن كان ذلك بسبب أمر مكفرٍ عنه كالمصائب الدنيوية، وفتنة القبر، وأهوال البرزخ، وأهوال الموقف، ونحو ذلك، فلا يستريب عاقل أن ما في هذه الأمور من الآلام والشدائد أضعاف أضعاف ما حصل في المعصية من اللذة.
وإن عفي عنه بغير سبب من هذه الأسباب المفكرة ونحوها، فإنَّه لابد أن تلحقه عقوبات كثيرة منها ما فاته من ثواب المحسنين، فإن الله تعالى وإن عفى عن المذنب فلا يجعله كالذين آمنوا وعملوا الصالحات.
كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (1).
ولهذا قال بعض السَّلف: هب أن المسيء قد عفي عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين؟ ولولا أن الله تعالى رضَّى أهل الجنة كلهم بما حصل لهم من
(1) الجاثية: 21.
(2)
ص: 28.
المنازل، لتقطعت {قلوب} (*) أصحاب اليمين حسرات مما فاتهم من منازل المقربين مع إمكان مشاركتهم لهم في أعمالهم التي نالوا بها منازلهم العالية، وقد جاء في الأحاديث والآثار أنهم يَقُولُونَ: ألم نكن مع هؤلاء في الدُّنْيَا؟ فيقال: كنتم تفطرون وكانوا يصومون، وكنتم تنامون وكانوا يقومون وكنتم تبخلون، وكانوا ينفقون، ونحو ذلك.
وكذلك جاء "أن الرجل من أهل عليين ليخرج فيسير في ملكه فما تبقى خيمة من خيم الجنة إلا دخلها من ضوء وجهه فيستبشرون بريحه فيَقُولُونَ: واهًا لهذه الريح، هذا رجل من أهل عليين قد خرج يسير في ملكه".
هذا قد رُوي من حديث ابن مسعود مرفوعًا (1)، ورُوي من كلام كعب (2).
ومنها: ما يلحقه من الخجل والحياء من الله عز وجل عند عرضه عليه وتقريره بأعماله وربما كان ذلك أصعب عليه من دخول النار ابتداءً وقد أخبر بذلك بعض المحتضرين في زمان السَّلف عند احتضاره، وكان أغمي عليه حتى ظُن أنَّه مات، ثم أفاق فأخبر ذلك، وجاء تصديق ذلك في الأحاديث والآثار، كما روى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "الزهد" بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "يدني الله عز وجل العبد يوم القيامة فيضع عليه كنفه فيستره من الخلائق كلها، ويدفع إِلَيْهِ كتابه في ذلك الستر فيقول: اقرأ يا ابن آدم كتابك، قال: فيمر بالحسنة فيبيض لها وجهه ويسرُّ بها قلبه، قال: فيقول الله عز وجل: أتعرف يا عبدي؟ فيقول: نعم يا رب أعرف، فيقول إني قد قبلتها منك، قال: فيخر لله ساجدًا، قال: فيقول الله عز وجل ارفع رأسك يا ابن آدم وعدُ في كتابك، قال: فيمر بالسيئة فيسود لها وجهه ويَوجَل منها قلبه، وترتعد منه فرائصه، ويأخذه من الحياء من ربه ما لا يعلمه غيره قال: فيقول الله عز وجل: أتعرف يا عبدي؟ قال: فيقول: نعم يا رب أعرف، قال: فيقول: إني قد غفرتها لك، قال: فلا يزال حسنة تقبل فيسجد وسيئة تغفر فيسجد، فلا ترى الخلائق منه إلا السجود، قال:
(*) زياة يستقيم بها السياق.
(1)
أخرجه أبو داود برقم (3987).
(2)
أخرجه عبد الله بن أحمد في "السنة"(1203)، والطبراني في "الكبير"(9/ 9763)، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة"(278)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 590 - 593) وقال: صحيح الإسناد عَلَى شرط مسلم، ولم يخرجاه. والحديث=
حتى تنادي الخلائق بعضها بعضًا: طوبى لهذا العبد الَّذِي لم يعص الله قط، ولا يدرون ما قد لقي فيما بينه وبين الله عز وجل مما قد وقفه عليه".
ورُوي معنى ذلك عن أبي موسى، وعبد الله بن سلام وغيرهما، ويشهد لهذا حديث عبد الله بن عمر الثابت في الصحح حديث النجوى، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا كان يوم القيامة دعى الله بعبده، فيضع عليه كنفه، فيقول: ألم تعمل يوم كذا وكذا ذنب كذا وكذا، فيقول العبد: بلى يا رب، فيقول: فإني قد سترتها عليك في الدُّنْيَا، وغفرت ذلك لك اليوم"(1) وهذا كله في حق من يريد الله أن يعفو عنه، ويغفر له، فما الظن بغيره.
ولهذا في مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله أن يستر عَلَى عبده يوم القيامة أراه ذنوبه فيما بينه وبينه، ثم غفرها له".
ولهذا كان أشهر القولين أن هذا الحكم عام في حق التائب وغيره، وقد ذكره أبو سليمان الدمشقي عن أكثر العُلَمَاء، واحتجوا بعموم هذه الأحاديث مع قوله تعالى:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (2).
وقد نُقل ذلك صريحًا عن غير واحد من السَّلف: كالحسن البصري وبلال ابن سعد حكيم أهل الشام كما روى ابن أبي الدُّنْيَا وابن المنادي وغيرهما عن الحسن أنَّه سئل عن الرجل يذنب ثم يتوب هل تمحى؟
قال: لا دون أن يوقفه عليه ثم يسأله عنه.
ثم في رواية ابن المنادي وغيره: "ثم بكى الحسن وقال لو لم نبك إلا حياء من ذلك المقام لكان يحق لنا أن نبكي فنطيل".
=عندهم مطولاً وأوله عن ابن مسعود مرفوعًا، ثم ذكروا كلام كعب رضي الله عنه وقال الذهبي في "التلخيص": ما أنكره حديثًا عَلَى جودة إسناده، وأبو خالد شيعي منحرف.
(1)
أخرجه البخاري برقم (2441).
(2)
الكهف: 49.
وذكر ابن أبي الدُّنْيَا عن بعض السَّلف أنَّه قال: "ما يمر علي أشد من الحياء من الله عز وجل".
وفي الأثر المعروف الَّذِي رواه أبو نعيم وغيره عن علقمة بن مرثد: أن الأسود بن يزيد لما احتضر بكى فقِيلَ لَهُ: ما هذا الجزع؟ قال: "ما لي لا أجزع ومن أحق بذلك مني والله لو أتيت بالمغفرة من الله عز وجل لهمني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحيًا منه".
ومن هذا قول الفضيل بن عياض بالموقف: "واسوأتاه منك وإن عفوت" والمقصود هنا أن آلام الذنوب ومشاقها وشداتها التي تزيد عَلَى لذاتها أضعافًا مضاعفة، لا تتخلف عن صاحبها لا مع توبة ولا عفو.
فكيف إذا لم يوجد واحد منهما؟! ويتضح هذا بما نذكره في:
الوجه السابع وهو: أن المقدم عَلَى موافقة المحظور إِنَّمَا أوجب إقدامه عليه ما فيه من اللذة الحاصلة له به فظن أنَّه تحصل له لذَّته العاجلة ورجى أن يتخلص من تبعته بسبب من الأسباب ولو بالعفو المجرد فينال به لذَّة ولا يلحقه به مضرة وهذا من أعظم الجهل، والأمر بعكس باطنه فإن الذنوب يتبعها ولابد من الهموم والآلام وضيق الصدر والنكد وظلمة القلب وقسوته أضعاف أضعاف ما فيها من اللذة، ويفوت بها من حلاوة الطاعات وأنوار الإيمان وسرور القلب ببهجة الحقائق والمعارف ما لا يوازي الذَّرة منه جميع لذات الدُّنْيَا، فيحصل لصاحب المعصية العيشة الضنك وتفوته الحياة الطيبة فينعكس قصده بارتكاب المعصية؛ فإن الله ضمن لأهل الطاعة الحياة الطيبة ولأهل المعصية العيشة الضنك قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (1) وقال: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ
(1) طه: 124.
ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (1) وقال: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2). وقال في أهل الطاعة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (3). قال الحسن وغيره من السَّلف "لنرزقنه عبادةً يجد حلاوتها في قلبه".
ومن فسرها بالقناعة فهو صحيح أيضًا من أنواع الحياة الطيبة الرضى بالمعيشة، فإن الرضى كما قال عبد الواحد بن زيد:"جنة الدُّنْيَا ومستراح العابدين".
وقال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (4).
وقال: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (5). كما قال عن إبراهيم عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (6) ومثل هذا كثير في القرآن فما في الطاعات من اللذة والسرور والابتهاج والطمأنينة وقرة العين أمر ثابت بالنصوص المستفيضة وهو مشهور محسوس يدركه بالذوق والوجد من حصل له، ولا يمكن التعبير بالكلام عن حقيقته، والآثار عن السَّلف والمشايخ العارفين في هذا الباب كثيرة موجودة، حتى كان بعض السَّلف يقول:"لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف".
وقال آخر: "لو علموا ما نحن فيه لقتلونا ودخلوا فيه".
وقال أبو سليمان: "أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم
(1) الطور: 47.
(2)
السجدة: 21.
(3)
النحل: 97.
(4)
هود: 3.
(5)
آل عمران: 148.
(6)
النحل: 122.
ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدُّنْيَا". وقال: "إنه ليمرُّ عَلَى القلب أوقات يضحك فيه ضحكًا".
وقال ابن المبارك وغيره: "مساكين أهل الدُّنْيَا خرجوا عنها ولم يذوقوا أطيب ما فيها". قيل: ما أطيب ما فيها؟ قال: "معرفة الله".
وقال آخر: "أوجدني الله قلبًا طيبًا حتى قلت: إن كان أهل الجنة في مثل هذا فإنهم في عيش طيب".
وقال مالك بن دينار: "ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله".
وهذا باب واسع جدًّا.
والمعاصي تقطع هذه المواد وتغلق أبواب هذه الجنة المعجلة وتفتح أبواب الجحيم العاجلة من الهم والغم والضيق والحزن والتكدر وقسوة القلب وظلمته وبعده عن الرب عز وجل وعن مواهبه السنية الخاصة بأهل التقوى، كما ذكر ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن علي رضي الله عنه قال:"جزاء المعصية الوهن في العبادة والضيق في المعيشة والتعس في اللذة قيل: وما التعس في اللذة؟ قال: "لا ينال شهوةً حلالاً إلا جاء ما يُبَغِّضُهُ إياها".
وعن الحسن قال: "العمل بالحسنة نور في القلب وقوة في البدن والعمل بالسيئة ظلمة في القلب ووهن في البدن".
وروى ابن المنادي وغيره عن الحسن قال: "إن للحسنة ثوابًا في الدُّنْيَا وثوابًا في الآخرة، وإن للسيئة ثوابًا في الدُّنْيَا وثوابًا في الآخرة؛ فثواب الحسنة في الدُّنْيَا: البصر في الدين، والنور في القلب، والقوة في البدن مع صحبة حسنة جميلة؛ وثوابها في الآخرة: رضوان الله عز وجل، وثواب السيئة في الدنيا: العمى في الدين، والظلمة في القلب، والوهن في البدن مع عقوبات ونقمات، وثوابها في الآخرة: سخط الله عز وجل والنار.
وروى ابن أبي الدُّنْيَا بإسناده عن مالك بن دينار قال: "إن لله عقوبات فتعاهدوهن من أنفسكم في القلوب والأبدان وضنك في المعيشة ووهن في العبادة وسخط في الرزق".
وعنه أنَّه قال: "ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب". ومثل هذا كثير جدًا.
وحاصل الأمر ما قاله قتادة وغيره من السَّلف: "إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إِلَيْهِ، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا به، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم".
وهذا هو الَّذِي عليه المحققون من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم كالقاضي أبي يعلي وغيره وإن كان بينهم في جواز وقوع خلاف ذلك عقلاً نزاع مبني عَلَى أن العقل هل له مداخل في التحسين والتقبيح أم لا؟ وكثير منهم كأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب عَلَى أن ذلك لا يجوز عقلاً أيضاً، وأما من قال بوقوع مثل ذلك شرعًا فقوله شاذ مردود.
والصواب: أن ما أمر الله به عباده فهو من عين صلاحهم وفلاحهم في دنياهم وآخرتهم؛ فإن نفس الإيمان بالله ومعرفته وتوحيده وعبادته ومحبته وإجلاله وخشيته وذكره وشكره هو غذاء القلوب وقوتها وصلاحها وقوامها فلا صلاح للنفوس ولا قرة للعيون ولا طمأنينة ولا نعيم للأرواح ولا لذة لها في الدُّنْيَا عَلَى الحقيقة إلا بذلك فحاجتها إِلَى ذلك أعظم من حاجة الأبدان إِلَى الطعام والشراب والنفس بكثير، فإنَّه حقيقة العبد وخاصيته هي قلبه وروحه ولا صلاح له إلا بتألهه لإلهه الحق الَّذِي لا إله إلا هو ومتى فقد ذلك هلك وفسد ولم يصلحه بعد ذلك شيء البتة، وكذلك ما حرمه الله عَلَى عباده هو عين فسادهم وضررهم في دينهم ودنياهم ولهذا حرَّم عليهم ما يصدهم عن ذكره وعبادته كما حرم الخمر والميسر وبين أنَّه يصد عن ذكره وعن الصلاة مع مفاسد أخر ذكرها فيهما وكذلك سائر ما حرَّمه الله فإنَّه مضرة لعبادة في دينهم ودنياهم وآخرتهم كما ذكر ذلك السَّلف، وإذا تبين هذا وعُلم أن
صلاح العباد ومنافعهم ولذَّاتهم في امتثال ما أمرهم الله به واجتناب ما نهاهم الله عنه تبين أن من طلب حصول اللذة والراحة من فعل المحظور أو ترك المأمور فهو غاية الجهل والحمق، تبين أن كل من عصى الله فهو جاهل كما قاله السَّلف ودل عليه القرآن كما تقدم ولهذا قال:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1). وقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (2).
فأخبر أنهم علموا أن من اشتراه أي تعوَّض به في الدُّنْيَا فلا خلاق له في الآخرة ثم قال {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} فيدل هذا عَلَى أنهم لم يعلموا سوء ما شروا به أنفسهم. وقد اختلفه المفسرون في الجمع بين إثبات العِلْم ونفيه هاهنا فقالت طائفة منهم: الذين {عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} هم الشياطين الذين يعلمون الناس السحر والذين قيل فيهم: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} هم الناس الذين يتعلمون.
(1) البقرة: 216.
(2)
النساء: 66 - 68.
(3)
البقره: 102 - 103.
قال ابن جرير: وهذا القول خطأ مخالف لإجماع أهل التأويل عَلَى أن قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا} أنَّه عائد إِلَى اليهود الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين عَلَى ملك سليمان، ثم اختار ابن جرير أن الذين علموا أنَّه لا خلاق لمن اشتراه هم اليهود والذين قيل عنهم:{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} هم الذين يتعلمون من الملكين، وكثيرًا ما يكون فيهم الجهَّال بأمر الله ووعده ووعيده، وهذا أيضاً ضعيف فإن الضمير فيهما عائد إِلَى واحد، وأيضًا فإن الملكلين يقولان لمن يعلمانه:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ، فقد أعلماه تحريمه وسوء عاقبته.
وقالت طائفة: إِنَّمَا نفى عنهم العِلْم بعدما أثبته لانتفاء ثمرته وفائدته وهو العمل بموجبه ومقتضاه، فلما انتفى عنهم العمل بعلمهم جعلهم جهَّالاً لا يعلمون كما يقال: لا علم إلا ما نفع.
وهذا حكاه ابن جرير وغيره.
وحكى الماوردي قولاً بمعناه، لكنه جعل العمل مضمرًا وتقدوره "لو كانوا يعملون بما يعلمون".
وقيل: أنهم علموا أن من اشتراه فلا خلاق له أي لا نصيب له في الآخرة من الثواب لكنهم لم يعلموا أنَّه يستحق عليه العقاب مع حرمانه الثواب. وهذا حكاه الماوردي وغيره هو ضعيف أيضاً، فإن الضميران عادا إِلَى اليهود، فاليهود لا يخفى عليهم تحريم السحر واستحقاق صاحبه العقوبة وإن عاد إِلَى الذين يتعلمون من الملكين فالملكان يقولان لهم: إِنَّمَا نحن فتنة فلا تكفر، والكفر لا يخفى عَلَى أحد أن صاحبه يستحق العقوبة، وإن عاد إليهما وهو الظاهر فواضح.
وأيضًا فإذا علموا أن من اشتراه ما له في الآخرة من خلاق فقد علموا أنَّه يستحق العقوبة؛ لأنّ الخلاق: النصيب من الخير فإذا علم أنَّه ليس له نصيب في الخير بالكلية فقد علم أن له نصيبًا من الشر؛ لأنّ أهل التكليف في الآخرة لا يخلو واحد منهم عن أن يحصل له إما خيرٌ أو شرٌّ لا يمكن انفكاكه عنهما جميعًا البتة.
وقالت طائفة: علموا أن من اشتراه فلا خلاق له في الآخرة لكنهم ظنوا أنهم ينتفعون به في الدُّنْيَا، ولهذا اختاروه وتعوضوا به عن ثواب الآخرة وشروا به أنفسهم وجهلوا أنَّه في الدُّنْيَا يضرهم أيضاً ولا ينفعهم فبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون.
ذلك وأنهم إِنَّمَا باعوا أنفسهم وحظهم من الآخرة بما يضرهم في الدُّنْيَا أيضاً ولا ينفعهم. وهذا القول حكاه الماوردي وغيره وهو الصحيح، فإن الله تعالى قال:{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} (1) أي: هو في نفس الأمر يضرهم ولا ينفعهم بحال في الدُّنْيَا وفي الآخرة، ولكنهم لم يعلموا ذلك لأنهم لم يقدموا عليه إلا لظنهم أن ينفعهم في الدُّنْيَا، ثم قال:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (1) أي: قد تيقنوا أن صاحب السحر لا حظ له في الآخرة، وإنَّما يختاره لما يرجو من نفعه في الدُّنْيَا، وقد يسمون ذلك "العقل المعيشي" أي: العقل الَّذِي يعيش به الإنسان في الدُّنْيَا عيشة طيبة.
قال الله تعالى: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1) أي: أن هذا الَّذِي تعوضوا به عن ثواب الآخرة في الدُّنْيَا أمرٌ مذمومٌ مضرٌّ لا ينفع لو كانوا يعلمون ذلك ثم قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (2) يعني: أنهم لو اختاروا الإيمان والتقوى بدل السحر لكان الله يثيبهم عَلَى ذلك ما هو خير لهم مما طلبوه في الدُّنْيَا لو كانوا يعلمون، فيحصل لهم في الدُّنْيَا من ثواب الإيمان والتقوى من الخير الَّذِي هو جلب المنفعة ودفع المضرة ما هو أعظم مما يحصلونه بالسحر من خير الدُّنْيَا مع ما يُدَّخر لهم من الثواب في الآخرة.
والمقصود هنا أن كل من آثر معصية الله عَلَى طاعته ظانًّا أنَّه ينتفع بإيثار المعصية في الدنيا فهو من جنس من آثر السحرَ الَّذِي ظن أنَّه ينفعه في الدُّنْيَا عَلَى التقوى والإيمان، ولو اتقى وآمن لكان خيرًا له وأرجى لحصول مقاصده
(1) البقرة: 102.
(2)
البقره: 103.
ومطالبه ودفع مضاره ومكروهاته ويشهد لذلك أيضاً ما في مسند البزار (1) من حديث {حُذَيْفَةَ قال: قَامَ النَّبِيُّ} (2) صلى الله عليه وسلم فَدَعَا النَّاسَ، فَقَالَ:«هَلُمُّوا» ، فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَجَلَسُوا فَقَالَ:«هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ جِبْرِيلُ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّهُ لَا تَمُوتُ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَلَيْهَا، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَأْخُذُوهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ» .
…
(1) أخرجه البزار في "البحر الزخار"(2914) من طريق قدمة بن زائدة بن قدامة قال: حدثني أبي عن عاصم عن زر عن حذيفة
…
فذكره. والحديث في "كشف الأستار" برقم (1253)، وفي مختصر "زوائد البزار" لابن حجر برقم (874).
قال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن حذيفة إلا من هذا الوجه.
وأورده الهيثمي في المجمع (4/ 71) وقال: رواه البزار، وفيه قدامة بن زائدة بن قدامة، ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات.
(2)
غير واضحة بالأصل، واستدركتها من مصادر التخريج.